المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
مجموعة من البحوث التفسيريّة، والفلسفيّة، والروائيّة، والتأريخيّة والاجتماعيّة في الإمامة والولاية بشكل عامّ، وفي إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين بشكل خاصّ ؛ وذلك في هيئة دروس استدلاليّة علميّة متّخذة من القرآن الكريم والروايات الواردة عن الخاصّة والعامّة، وأبحاث حليّة ونقديّة عن الولاية .
وتضمّ هذه المجموعة 270 درساً في ثمانية عشر مجلداً. وقد جري فيها مناقشة وبحث مطالب من قبيل: العصمة، الولاية التكوينيّة، لزوم الإمام الحيّ، لزوم متابعة الأعلم، ضرورة وجود الإمام للمجتمع، معنى الولاية، شرح حجّة الوداع، شرح واقعة غدير خمّ، حديث الولاية، حديث المنزلة، شرائط القيادة، علم الغيب و...
مُقدَّمة المؤلِّف
بسم الله الرّحمن الرّحيم
حمداً أزلياً و ثناءً لا ينفد و لا يتناهى مختصّاً بالله عزّ و جلّ، الذي أوجد بحكمته البالغة عالم الخلقة من كَتم العدم، و خلع عليه رداء الوجود، و اختار بني آدم من بين تلك العوالم بجامعيّة منطق العقل و الإحساس، فشرّفهم لذلك بشرف التكليف و المسئولية و الإلتزام.
{وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا}.
و سلاماً لا حدَّ له، و تحيّةً و إكراماً لا حصر له، لقادة تربية البشريّة الذين جعلوا- بنشرهم لواء الحمد الإلهيّ- النورَ الساطع للإيمان و الإيقان متجلياً في قلوب أفراد البشر، و الذين أشعلوا في كيان الأرواح مشعل التوحيد و الولاية، ليمكّنوا البشرَ أصحاب النفس الهيولانية و القوة و القابلية غير المحدودة في طريق التمكين بالحق. و خاصّةً خاتم النبيّين محمّد بن عبد الله و وصيّه الكريم سيّد الوصيين عَلي بن أبي طالب صلوات الله عليهما، حاملا لواء الحمد و حائزا مقام الشفاعة الكبرى، و الائمّة المعصومين، لا سيما بقيّة الله في الأرضين الحُجّة بن الحسن العسكري عجّل الله تعالى فرجه الشريف، الذين كانوا المظهر التام للأسماء الالهيّة: الجمالية و الجلالية، و الآيات الكاملة لأنوار الأحديّة و الواحديّة، و المرايا الكبرى للحقّ، و الخلفاء العينيين للباري تعالى شأنُه العزيز، و واسطة الفيض و إشراق النور الأزلي على هياكل الوجود و ماهيّات
الإمكانية.
اولئك الذين كانوا في الولاية التكوينية مرآةً تامّة للجمال الالهي و الجلال الأزلي، و اللؤلؤ المنير المفيض لنور الأحدية على عالم ما سواهم؛ و في الولاية التشريعيّة باب الشريعة و منهلَ الإلهام، و الأخذَ للأحكام من مصدر التشريع و الحقائق.
و باعتبار انّ مسألة الإمامة و الولاية من أهمّ المسائل الحياتيّة؛ و باعتبار ان جميع جهات القابليات الإنسانية ستقوى و تنمو- بمعرفة هذه الحقيقة- في مدارج الكمال و معارجه، بينما سيسبّب الجهل بهذه الحقائق و عدم اتّباعها حرفَ القابليات و الإمكانات و جعلها تنصبّ في مسير الإنحراف، و في اضمحلالها في المستنقعات العفنة للماديّات و الشهوات.
لذا فقد منّ الله تبارك و تعالى على هذا الحقير، ليقوم في ايّام شهر رمضان المبارك لسنة ألف و ثلاثمائة و واحد و تسعين هجريّة قمريّة ببحث و مناقشة مسألة الإمامة و الولاية مع جمع من الأخلّاء الروحيّين و الإخوة الإيمانيين.
و قد تقرّر ان يكون أساس البحث قائماً على الآيات القرآنية. و لأهميّة الموضوع بالنسبة للاخوة من أهل السنّة، فقد تقرّر الاستفادة من فنّ الجدل، و النقل من روايات و تواريخ العامّة، مع الاستفادة إجمالًا من روايات الخاصّة كذلك.
و كان متصوّراً انّنا سنستطيع انهاء دورة كاملة من هذا البحث في شهر رمضان المبارك، الّا انّ الشهر قد تصرّم، و لم يجرِ بيان أكثر من سُدس ممّا كان في النية بيانه، بالرغم من انّه قد جرى كلّ يوم الكلام و البحث الوافي في الأمر.
و كان من الألطاف السنية للخالق اللطيف انّ التوفيق قد شملني في
نفس شهر رمضان، لأقوم في المنزل بكتابة و جمع مذاكرات البحث.
ثم انقضت سنواتٌ أربع على هذا الأمر حُرمتُ خلالها من جمع مسائل الإمامة- بشكل منظم و مرتّب طبعاً- حتّى شملتني من جديد الألطاف الخفيّة لله عزّ و جل في شهر رمضان المبارك لسنة ألف و ثلاثمائة و خمس و تسعين، فاستأنفنا البحث السابق في أيام الشهر مع الأعزاء الإيمانيين و الإخوة الروحانيين، فتم إلى نهاية الشهر مناقشة و تدوين سُدس آخر من البحوث، فصار مجموع ما جرى بحثه و كتابته في شهري رمضان هذين ثُلث ما في نظرنا.
و ها نحن نقدّم مجموع هذه الكتابات التي جُمعت في مجلدّات أربعة لمطالعة أصحاب النظر و البصيرة.
و الأمل أن يوفّقنا الله جلّت أسماؤه لبحث و تحرير باقي الأبحاث، بمحمّد و آله الطّاهرين. و سيكون تمام هذه الأبحاث في حدود اثني عشر مجلّداً تشكل قسم «معرفة الإمام» من دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة، حيث سيتم تدوينها و تحريرها في هيئة دروس سيكون مجموعها في حدود مائة و ثمانين درساً.
و باعتبار أنّ هذه الدروس ستكون في خصائص الإمام و شروط القيادة و الزعامة و الحكومة، و في لزوم العصمة للأئمة الطاهرين سلام الله عليهم أجْمَعِينَ؛ فانّه سيجزي البحث و المناقشة- ضمناً- في شرائط النبوّة و لزوم العصمة و آثار و خواصّ الأنبياء أيضاً. و في الحقيقة فانّ هذا البحث بحث كامل و شامل يشمل أيضاً البحث في النبوّة العامّة و يُغنينا عن ايراد بحث مستقلّ لها.
نشكر الله سبحانه الذي منّ علينا بهذه الموهبة لنسعى في هذه البحوث قدر الوسع، و في حدود ظرفيّة الحقير البسيطة، و لنقدّم مجّاناً
ما جاء في الأبحاث و المطالعات و الدراسات و المذاكرات في طبق اخلاص، فنضعه في مرأى و منظر من اخوتي و نظرائي في الإنسانية.
فَلِله الحمد وَ لَهُ الشُّكرُ و آخِرُ دَعْوَانَا أن الحمد لله رَبِّ الْعَالمين؛
وَ صَلى اللهُ على محمّد وَ آله الطَّاهِرين.
السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني
الدَّرْسُ الأوّل: عِصْمَةُ الأَنبْيِاءِ وَ الأَئِمَّةِ عَليهِمُ السَّلامْ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العلي العظيم
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.۱
الإختلاف الأساسي بين الشيعة و السنّة
انّ أساس الاختلاف بين الشيعة و السنّة ينحصر في مسألة الولاية، فالشيعة يقولون انّ الامام يجب أن يكون معصوماً و مُنصّباً من قبل الله سبحانه و تعالى، بينما يقول السنّة انّ العصمة ليست من شرائط الإمام، و أنّ الناس بإمكانهم أن يختاروا إماماً لهم فيتّبعوه.
أمّا بقيّة المسائل المختلف عليها بين هذين الفريقين فمتفرّعة بأجمعها عن ذلك الأصل و تابعة له؛ لأنّ أرضيّة الاختلاف في الأساس
و الاصل لا بدّ و أن تؤدّي إلى اختلافات كثيرة في الفروع، امّا لو انتفى الاختلاف في الأساس، فاتّحد هذان الفريقان في المرام و المذهب، فانّ الاختلافات في الفروع ستنتفي بدورها و تتبع الأصل في الوحدة.
و سنناقش هذه الأيّام بعون الله و بالاستعانة بأرواح الطيّبين و أولياء الله أساس هذه المسألة، و سنبين شرائط الإمام من خلال كتاب الله و النصّوص الصريحة التي و ردت عن رسول الله صلى الله عليه و آله، بِحَوْلِ اللهِ وَ قُوّتِهِ وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوّةَ إلّا بِاللهِ الْعلي الْعظِيم. و سنذكر شاهداً و مثالًا كمقدّمة من أجل توضيح هذا المعنى قبل الاستدلال بالأية التي وردت في مطلع البحث.
الإمام بمنزلة القلب في جسم الإنسان:
هناك في جسم الإنسان أجهزة متنوّعة و مختلفة يؤدّي كلُّ منها وظيفةً خاصّة، فالعين وظيفتها النظر، و الأذن وظيفتها السّمع، و الأنف للتنفّس و الشمّ، و اللسان للتذوّق و الكلام، و اليد للأخذ و العطاء، و الرجل للمشي؛ و كلّ هذه الأعضاء تسعى دائبةً لتنفيذ وظيفتها، الّا انّها- من وجهة نظر الحياة الماديّة- تستمدّ قوّتها من القلب.
ثم انّ القلب يضخّ الدم إلى جميع أعضاء الجسم و جوارحه، فيمدّها في كلّ لحظة بحياةٍ جديدة، و يبقيها- بهذا العمل- في نشاط مستمرّ و حياة دائمة. و لو حدث أن توقّف القلب للحظة واحدة و تخلي عن مسؤوليته، لُاصيبت تلك الأعضاء و الجوارح الحيّة و النشيطة بالموت و الفناء و لتعطّل دورها، فتفقد العين رؤيتها، و الأذنُ سمعَها، و اليدُ حركتها، كما تُشلّ الرّجلُ و تفقد الإحساس.
و بناءً على هذا فانّ فائدة القلب هي الإشراف و الزعامة و إيصال الحياة إلى كافّة أعضاء الجسم التي تخضع لإشرافه، و لا يمكن لأحد ان
يُنكرحاجتنا للقلب بحجّة انّ القلب لا يعمل شيئاً لأنّه لا يرى و لا يسمع و لا يتكلم و لا يكتب و لا ... و لا.
و بحجّة انّ لنا عيناً نرى بها، و أذناً نسمع بها، و لساناً نتكلم به، و يداً نكتب بها. فهذا الكلام خاطئ و لا محلّ له، لأن العين و الأذن و اللسان ميّتة بدون القلب لا دور لها و لا عمل، و انّما وجد ذلك الإبصار في العين، و السمع في الأذن بسبب قوّة القلب.
انّ العين تتعرّض في كلّ لحظة لألاف الآفات و حالات الفساد الخارجيّة، و الأمر كذلك بالنسبة للأذن و لسائر الأعضاء الأخرى، لكنّ القلب لا يَفتُر لحظة عن المراقبة و الدفاع و إيصال الدم كطعام و دواء من أجل دفع الاعتداءات الخارجيّة و موجبات الفساد الأخرى و الميكروبات المهلكة. لذا فانّ العين و الأذن تعيشان تحت ولاية و سلطان القلب الذي يمثّل الجهاز المنظّم لعمل تلك القوى، و الذي يمدّ سائر أعضاء الجسم بالحياة.
امّا من الناحية المعنوية، فانّ المخّ هو الذي ينظّم عمل هذه القوى و الأعضاء، فالعين ترى فقط، أي انّه اثر انعكاس النور فانّ صورةً للشئ المرئي ستنعكس في شبكيّتها، امّا ماهيّة هذا الصورة و ما الذي سنفعله بها؟ فانّ ذلك ليس من وظيفة العين، بل من وظيفة المخّ الذي يأخذ هذه الصورة و يدقّق فيها و يهيّؤها لإستفادة الانسان.
لذا فانّ الذين يتعاطون الخمور فيثملون، او الذين يُصيبهم الإغماء او الجنون، لم يحصل في أعينهم نقصٌ ما، بل انّ عيونهم سليمة تعمل بوظيفتها جيداً في عكس الأشعة و إظهار الصورة المرئيّة، لكنّ جهاز المخّ و الفكر صارا لا يعملان بوظيفتهما المعتادة، لأنّ مجموعة الأعصاب التي تنقل الصورة إلى المخّ قد تعطّلت عن عملها بوظيفتها، فصارت سلسلة
الأعصاب توصل هذه الصورة إلى المخّ فلا يستطيع تمييزها و الإفادة منها في محلها.
لذا نشاهد انّ الشخص الثمل لا يميّز بين أخته و أمّه و زوجته، فيحاول الإعتداء عليهنّ، أو أنّه يتحرك في معبرٍ عامّ عارياً، فلا يمكنه ان يشخصّ انّ صورة المعبر التي كانت محفوظةً في قواه الذهنية سابقاً مُطابقة لصورة هذا المعبر أم لا كي يحكم بعدم جواز الحركة في هذا المعبر عارياً.
و هذا الثمل السكران يهذي و يصيح بصوت عال، و يعمل اعمالًا مُستهجنة أمام الأخرين، و لا يأبى أكل الخبائث، و لا يُبالى بارتكاب الجنايات، بالرغم من أنّ قواه السمعيّة و الذوقيّة و الشميّة تعمل بوظيفتها. و ذلك لأنّ جهاز المخّ المنظّم و المراقب لا يعمل بوظيفته في هذه الحالة لأنه قد تعطّل. لذا فانّه لن يعجز فقط عن الرؤية و تمييز الأشياء، أو أن يسمع بأذنه و يعمل بيده، بل انّه سيصرف هذه القوى في إهلاك نفسه و إفسادها، و سيقطع بيده أغصان حياته و يستأصل جذورها.
و بناءً على هذا فانّ وجود جهاز المخّ في الجسم أمر حيويّ من أجل استخدام هذه الأعضاء و الجوارح و إعمال كلّ منها في مواقع الحاجة، و لتطبيق الصور الحاصلة مع الصور المحفوظة سابقاً في الذاكرة و الأحكام الصحيحة المترتّبة عليها، و لذلك نرى أنّ المجنون الذي فقد قواه العقلية لا يترتّب على رؤيته و قوله و فعله أي نتيجة صحيحة.
و لو تركنا الإنسان جانباً فاننا سنجد في الحيوان كذلك قلباً و مخّاً لا يستطيع أي حيوان بدونهما الاستمرار في الحياة و في أداء وظائفه و لو كان ذا خليةٍ واحدة.
و الأمر كذلك في الجمادات أيضاً، فإنّ الشيء الذي يرسم لها وحدتها و يجعلها تحت خاصيّة و كيفيّة واحدة هو الروح و النفس الواحدة التي
كانت جارية فيها قبلًا. و لذا فانّها تمتلك خاصيّة واحدة و يُشاهد عنها آثار واحدة. و قد جرت الاستفادة من هذا الأمر في التقنية و صناعة السيارات، فاستطاعوا- بإيجاد آلات منظّمة و معدّلة- تنظيم حركة العجلات و المحرّكات.
اننا حين نريد ملء الساعة و نصبها، فانّ ضغط النابض سيكون قويّاً في البدء، و سيحاول تحريك العجلات المسنّنة بسرعة، امّا حين يرتخي النابض و يقلّ ضغطه، فانّه سيحاول تحريك تلك العجلات ببطء. و لهذا السبب فقد وضعوا في الساعة جهازاً بإسم (البندول أو الرقّاص) ليقوم بتنظيم الحركة، بحيث تتحرك الساعة في كلّ الأحوال على منوال واحد، سواءً كان ضغط النابض قويّاً أو ضعيفاً، فتنظّم الوقت بشكل صحيح.
كما انّ الماكنات البخارية المستعملة في المعامل الكبيرة اذا خلت من المنظّم فانّها ستتحطّم بأجمعها، لأنّ قِدر البخار سيولّد عند غليانه كميّات ضخمة من البخار اذا ما اندفعت خلف المكابس فانّ الآلات ستدور آنذاك بسرعة هائلة فتؤدّي إلى تحطّم الماكنة. امّا حين تنخفض الحرارة في قِدر البُخار فانّ من الممكن ان تنخفض السرعة تبعاً لذلك. و لذلك يوضع في هذه الآلات منظّم للضغط (ضابط للضغط) لينظّم وصول كميّات البخار إلى المكابس، و لا يسمح بوصول الفائض من البخار إلى المحرّكات، بل يقوم بخزنه في مخزن الذخيرة ليفيد منه عند انخفاض ضغط البخار، فيرسله آنذاك مع البخار المولّد، و بذلك تتحرك المحرّكات بشكل منظّم و هادئ دائماً في السرعة الخاصة المطلوبة.
و يحتاج المجتمع البشري من أجل تبديل القوى و تنظيم الأمور و رفع الإختلافات بين الناس و منع التعدّيات على حقوق الفرد و المجتمع، و لهداية جميع الأفراد إلى مقصد الكمال و الهدف من الخلقة و نيل المُنى
من جميع القوى و الكنوز الالهيّة، إلى منظّم صحيح، و إلّا لهلك المجتمع و لما استطاع أن يستفيد من كنوز الحياة.
ضرورة وجود الإمام المعصوم في المجتمع:
انّ الإمام هو المنظّم لعالم الإنسانية و المجتمع، لذا يتحتم أن يكون ذا قوى متينة و أفكار صائبة و آراء قادرة، ليكون مشرفاً على أعمال الأمة و أفعالها، و ليسوسها بالتنظيم و العدل.
و تسأل هنا: أ يستطيع الإمام- ترى- أن يُصلح المجتمع اذا كان نفسه يُخطيء و يُبتلي بالمعصية و الإثم شأنه شأن أفراد المجتمع الأخرين، أو إذا كان مثلهم مُصاباً بالهوس و الشهوة؟
أ وَ يمكنه آنذاك أن يرفع الإختلاف فيما بينهم، فيُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقّه، و يقف في وجه الإعتداءات، و يمنح العيش لجميع أفراد المجتمع، و يعلّمهم المعارف و الحقائق حسب استعدادهم و حاجتهم، و يُبين لهم موارد الخطأ و الزلل في سلوكهم إلى الله و وصولهم إلى مقصد الكمال؟!
كلّا و حاشا!
و على هذا فانّ قائد المجتمع و زعيم الناس و إمامهم يجب أن يكون معصوماً عن الإثم و عارياً عن أي خطأ و زلل، كما ينبغي أن يكون ناظراً إلى الأحوال و الأفعال و الخواطر القلبيّة لكلّ واحد من أفراد الأمّة بفكرٍ عميق متّسع، و صدرٍ منشرح بنور الله، و قلبٍ مُنّور بالتأييدات الغيبيّة.
على انّ بعض العامّة يقول بعصمة الأنبياء، و بعضهم يقول بمرتبة ضعيفة من عصمتهم، بينما ينكر البعض الأخر العصمة فيهم، فلا يعتبرهم مصونين بأيّ وجه عن الأخطاء و المعاصي. الّا انّ الشيعة عموماً يشترطون العصمة للأنبياء بجميع معانيها، كما يقولون بالعصمة للأئمّة صلوات الله و سلامه عليهم أجْمَعِينَ.
عصمة الأنبياء على ثلاث مراحل:
و سنتحدّث في اثباتنا لهذا الموضوع عن عصمة الأنبياء، فنثبتها من القرآن الكريم، ثم نتحدث عن الأئمّة عليهم السلام.
امّا بشأن الأنبياء فنقول: انّ العصمة مورد البحث في ثلاث موضوعات:
۱-.في موضوع تَلَقِّي الوحي، أي انّ قلب النبيّ يجب ان يكون منزّهاً عن الخطأ عند نزول الوحي، فيتلقّى ذلك الوحي كما نزل، لا يزيد في التلقّي عليه و لا يُنقِص، و لا يجلى في نفسه ذلك الوحي الّا في حقيقته الواقعة.
٢-.في موضوع تبليغ الوحي: أي انّ على النبيّ أن يبلّغ الوحي كما أخذه، دون أن يُخطئ أو ينسى فيما اوحي اليه، و دون أن يزيد أو ينقص في أدائه للوحي شيئاً على صورته الحقيقية.
٣-.المعصية و الذنب: فالنبيّ لا يرتكب أي عمل يُخالف مقام العبوديّة للَه أو يتنافى مع الاحترام أو يهتك حرمة مقام المولى، سواءً في أقواله أو في أفعاله. و إجمالًا فانّ هذه المراحل الثلاث يمكن تلخيصها في جملةٍ واحدة: أي وجودُ أمرٍ من جانب الله لدى الإنسان المعصوم يصونه عن الخطأ و المعصية.
امّا الخطأ في غير هذه المواضع، مثل الخطأ في الأمور الخارجيّة نظير الالتباسات التي تحصل في حواسّ الإنسان، أو في إدراكات الأمور الإعتباريّة، و نظير الخطأ في الأمور التكوينية من النفع و الضرر و الصلاح و الفساد، فهي خارجةٌ بأجمعها عن محل النزاع و الكلام بين الشيعة و السنّة.
آيات القرآن تدلّ على ثلاث مراحل من عصمة الأنبياء
امّا تلك المراحل الثلاث من العصمة فتدلّ عليها الآيات القرآنية،
كقوله تعالى:
{كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.۱
و تبين هذه الآية أنّ الغرض من إرسال الأنبياء و إنزال الوحي و الكتاب انّما هو دعوة الناس إلى الحق، و هديهم إلى طريق الحق و الصواب في جميع موارد الاختلاف قولًا و فعلًا و اعتقاداً.
و هذا هو هدف الخلقة من بعث الأنبياء؛ لأنّ الله تعالى لا يضلّ في هذا القصد بمفاد الآية:
{لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى}.٢
و هو بالغٌ أمره و هدفه، لا يصدّه عنه رادع و لا يمنعه مانع، بمفاد الآية الشريفة:
{إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.٣
و مفاد الآية الكريمة:
{وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ}.٤
و ينبغي- بناءً على هذا- لحفظ الوحي عند إنزاله و إبلاغه و أدائه أن يُصان الأنبياء من أي خطأ و زلل، لأنّ قلب النبيّ اذا أخطأ عند تلقّي الوحي
أو تبليغه، فانّ الهدف من رسالته سيكون غير متحقّق، لأنّ المفهوم من الرسالة هو الدعوة إلى الحق:
{وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}.
و سيتردّد الأمر في حالة الخطأ بين أن يكون الله تعالى قد أخطأ و نسي في انتخاب الرسول و طريقة إنزال الوحي على قلبه، أو أن غرضه كان الدعوة إلى الحق لكنّه أخطأ في طريقة انزال الوحي على قلب النبيّ على نحو لا يكون معه عُرضة للتغيير و التبديل؛ و هذا ليس صحيحاً بمقتضى قوله تعالى:
{لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى}.
أو انّ غرضه كان الدعوة إلى الحق، و لم يحصل في إجراء هذه الدعوة أي خطأ و التباس، و لكن ظهرت عوائق خارجيّة حالت دون تحقيق أمر الله، و هذا أيضاً مستحيل بمفاد الآية الكريمة:
{إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ}. و الآية:
{وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ}.
و بناءً على هذه المقدّمات، فانّ الله سبحانه و تعالى يحفظ الأنبياء حتماً من الخطأ و الالتباس في كيفيّة تلقّي الوحى و إبلاغه، و يطهرّ قلوبهم و يُصفّيها بحيث ينعدم فيها اثر إنزال الوحي أي موج أو ارتعاش أو تزلزل يكون باعثاً على قلب و تغيير كيفيّة و واقعيّة الوحي، و بحيث لا يبقى فيها أي أثر للإضطراب أو الإبهام الباعث على تأويل و تفسير الإدراكات الواقعيّة على غير حقيقتها و واقعيّتها. و هذا هو معنى حقيقة العصمة في مرحلتي تلقّي الوحي و إبلاغه. و امّا في المرحلة الثالثة و هي صونهم و عصمتهم عن المعاصي، فمن الممكن- ببيان مقدّمةٍ أخرى- أن نعتبر دلالة الآية السابقة عليها دلالةً تامّة. و هي انّه لو عصى نبيّ او ارتكب إثماً
فانّه سيكون بفعله هذا قد أجاز هذا العمل و أباحه لأمّته، لأنّ العاقل لا يفعل شيئاً الّا اذا كان حسناً؛ فاذا ارتكب المعصية في حالٍ يأمرُ قولًا بخلافها، فانّ ذلك سيبعث على السقوط و التناقض، و سيكون قد دعا بفعله و قوله إلى أمرين متناقضين، فهو يمنع الناس بقوله و كلامه من ذلك العمل، ثم يُثبت بفعله له إباحة ذلك العمل و يرخّص لأمّته فيه.
و من المعلوم انّ الدعوة إلى المتناقضين ليست دعوةً للحقّ، لأن ذينك المتناقضين سيبطل أحدهما الأخر؛ و الله سبحانه الذي يبعث الأنبياء للدعوة إلى الحق لا يجعلهم دعاةً إلى الأمور المتناقضة، بل يصونهم عن فعل غير الحق و عن أي معصية، لأنّ عصمة الأنبياء في إبلاغ الرسالات و أداء وحيهم كما ينبغي سوف لن تكون تامّة بدون العصمة عن مقام المعصية؛ و قد اتّضح بهذا البيان أنّ الآية السابقة تدلّ على عصمة الأنبياء في ثلاث مراحل: التلقّي، و ابلاغ الوحي، و في مقام الخطأ و المعصية.
كما ان الإمام- و هو الحافظ للشريعة و المبين للأحكام و الحارس للقانون بالنسبة للأمّة- حائز على مقام قلب النبيّ و إدراكه، و لا فرق بينه و بين النبيّ من وجهة النظر هذه، الّا انّ النبيّ هو الذي يأتي بالشريعة و الكتاب، و الإمام هو الذي يقوم بإبلاغها و المحافظة عليها.
و الأدلّة التي تفيد في اثبات عصمة الأنبياء واردة بعينها في اثبات عصمة الإمام.
مناظرة هِشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد في لزوم وجود الإمام في المجتمع
روى الحجّة الكليني في كتاب (الكافي)۱، عن علي بن ابراهيم، عن والده، عن حسن بن ابراهيم، عن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي
عبد الله (الصادق) عليه السلام جماعةٌ من أصحابه منهم حُمران بن أعين و محمّد بن النّعمان و هِشام بن سالم و الطّيار و جماعةٌ فيهم هِشام بن الحَكَم۱ و هو شابّ، فقال أبو عبد الله عليه السّلام: يا هشام! أ لا تخبرني كيفَ صنعتَ بعمرو بن عبيدٍ؟
فقال هِشام: يا ابن رسول الله إني اجِلّك و أستحييك و لا يعمل لساني بين يديك. فقال أبو عبد الله: إذا أمرتُكم بشيءٍ فافعلوا.
قال هشام: بَلَغني ما كان فيه عمرو بن عبيدٍ و جلوسُه في مسجد البصرة، فَعَظُمَ ذلك على، فخرجتُ اليه و دخلتُ البصرةَ يومَ الجمعة فأتيتُ مسجدَ البصرة، فاذا أنا بحَلْقَة كبيرة فيها عمرو بن عبيد و عليه شَمْلَةٌ سوداء مُتّزراً بها من صوف، و شملةٌ مُرتدياً بها، و الناسُ يسألونه، فاستفرجتُ الناسَ فأفرجوا لي، ثم قعدتُ في آخر القوم على ركبتيّ ثم قلتُ: أيهّا العالم! إني رجلٌ غريبٌ تأذنُ لي في مسألة! فقال لي: نعم!
فقلتُ: أ لَكَ عَيْنٌ؟
فقال: يا بُني أي شيء هذا من السؤال، و شيء تراه كيف تسألُ عنه؟
فقلتُ: هكذا مسالتي.
فقال: يا بُني سَل و إن كانتْ مسألتُك حمقاء.
قلتُ: أجِبني فيها.
قال لي: سَل!
قلتُ: أ لَكَ عَيْنٌ؟
قال: نعم.
قلتُ فما تصنعُ بها؟
قال: أرى بها الألوان و الأشخاص.
قلتُ: فَلَكَ أنْفٌ؟
قال: نعم.
قُلتُ: فما تصنعُ به؟
قال: أشمّ به الرّائحة.
قلتُ: أ لَكَ فمٌ؟
قال: نعم.
قلتُ: فما تصنعُ به؟
قال: أذوقُ به الطّعْمَ.
قُلْتُ: فَلَكَ اذُنٌ؟
قال: نعم.
قلتُ: فما تصنعُ بها؟
قال: أسمعُ بها الصّوتَ.
قلتُ: أ لَكَ قَلْبٌ؟
قال: نعم.
قلتُ: فما تصنعُ به؟
قال: اميّزُ به كُلما وَرَدَ على هذه الجوارح و الحواسّ.
قلتُ: أ وَ ليسَ في هذه الجوارح غنى عن القلب؟
فقال: لا.
قلتُ: و كيف ذلك و هي صحيحة سليمةٌ؟
قال: يا بُني! إنّ الجوارح إذا شكّت في شيءٍ شَمّتْهُ أو رأته أو ذاقته أو سمعته رَدّتْهُ إلى القلب فَيَسْتَيْقِنُ اليقين و يُبْطِلُ الشَكّ.
قال هشام: فقلتُ له: فإنّما أقامَ الله القلبَ لشكّ الجوارح؟
قال: نعم.
قلتُ: لا بُدّ من القلب و إلّا لم تستيقن الجوارحُ؟
قال: نعم.
فقلتُ له: يا أبا مروان۱، فالله تبارك و تعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يُصحّح لها الصحيحَ و يتيقّنُ به ما شُكّ فيه و يَتْرُكُ هذا الخلقَ كلّهم في حَيْرتهم و شكّهم و إختلافهم، لا يُقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم و حيرتهم و يُقيم لك إماماً لجوارحك تردّ اليه حيرتَك و شكّك؟!
قال: فسكتَ و لم يقل لي شيئاً، ثم التفتَ إلى فقال لي: أنت هشامُ بن الحكم؟ فقلتُ: لا.
قال: أ مِن جُلسائِهِ؟
قلتُ: لا.
قال: فمن أين أنتَ؟
قال: قُلتُ: من أهل الكوفة.
قال: فأنتَ إذاً هو. ثم ضمّني اليه و أقعدني في مجلسه و زال عن مجلسه و ما نطق حتّى قمتُ.
قال: فضحك أبو عبد الله عليه السلام و قال: يا هشام. مَن علمك
هذا؟
قال: شيءٌ أخذتُه منك و ألّفتُهُ.
فقال: هذا و الله مكتوبٌ في صُحُف إبراهيم و موسى.۱
و باعتبار انّ الإمام بمنزلة قلب العالم و مخّه، فانّ سروره و حُزنه سيؤثرّ في جوارحه و أعضائه أي في جميع مخلوقات الله واحداً فواحداً.
يقول السيوطي في (الخصائص الكبرى): و أخرج الحاكمُ و البيهقيّ و أبو نعيم عن الزُّهري قال: لما كَانَ صباحُ قُتِلَ عَلي بنُ أبي طَالِبٍ، لم يُرْفَعْ حَجَرٌ في بَيْتِ المقْدِسِ إلَّا وُجِدَ تحتهُ دَمٌ.
و أخرج أبو نعيم من طريق الزُّهري عن سعيد بن المسيّب قال: صَبِيحة يَوم قُتِلَ عَلي بْنُ أبي طَالِبٍ، لم تُرفَعُ حَصَاةٌ مِنَ الأرضِ إلَّا وَ تحتها دَمٌ عَبِيطٌ.٢
بكاء جميع الموجودات في عزاء شهادة سيّد الشّهداء عليه السّلام
و يروي الشيخ الصدوق في كتابيْ (علل الشرايع) و (الأمالي) بسند واحد عن جبلّة المكيّة قالت: سمعتُ ميثم التمار (قدّس الله روحه) يقول: و الله لتقتل هذه الامّةُ ابنَ نبيّها في المحرّم لعشرٍ يمضين منه، و ليتخّذنّ أعداءُ الله ذلك اليوم يومَ بركة، و إنّ ذلك لكائن قد سبق في علم الله تعالي
ذكره، أعلم ذلك بعهدٍ عهده إلى مولاي أمير المؤمنين عليه السلام، و لقد أخبرني أنّه يبكي عليه كلّ شيء، حتّى الوحوش في الفلوات و الحيتان في البحر و الطير في السماء، و يبكي عليه الشمسُ و القمر و النجومُ و السماء و الأرض و مؤمنو الإنس و الجنّ و جميع ملائكة السماوات و الأرضين و رضوانُ و مالكُ و حملةُ العرش، و تمطرُ السّماءُ دماً و رماداً.
ثم قال: وجبت لعنةُ الله على قتلة الحسين عليه السّلام كما وجبت على المشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر، و كما وجبت على اليهود و النّصارى و المجوس.
قالت جبلّة: فقلتُ له: يا ميثم! فكيف يتّخذ الناسُ ذلك اليوم الذي قُتِلَ فيه الحسين عليه السلام يومَ بركةٍ؟ فبكى ميثم رضي الله عنه ثم قال: يزعمون لحديثٍ يضعونه أنّه اليوم الذي تابَ الله فيه على آدم، و انّما تاب الله على آدم في ذي الحجّة؛ و يزعمون أنّه اليوم الذي قبل اللهُ فيه توبةَ داود، و انما قبلَ اللهُ عزّ و جل توبتَهُ في ذي الحجّة، و يزعمون انّه اليوم الذي أخرج اللهُ فيه يُونسَ من بطن الحوت، و انّما أخرج اللهُ عزّ و جل يونس من بطن الحوت في ذي الحجّة؛ و يزعمون أنّه اليوم الذي استوت فيه سفينةُ نوحٍ على الجودي، و انّما استوت على الجودي يوم الثامن عشر من ذي الحجّة؛ و يزعمون أنّه اليوم الذي فلقَ اللهَ تعالى فيه البحر لبني إسرائيل و انّما كان ذلك في ربيع الأوّل.
ثم قال ميثم: يا جبلّة! إعلمي أنّ الحسين بن علي عليه السلام سيّد الشهداء يوم القيامة، و لأصحابه على سائر الشهداء درجة. يا جبلّة اذا نظرتِ السماء حمراء كأنّها دمٌ عبيط فاعلمي أنّ سيّد الشهداء الحسين قد قُتِل.
قالت جبلّة: فخرجتُ ذاتَ يومٍ فرأيتُ الشمسَ على الحيطان كأنّها
الملاحف الموشَّحة، فصحتُ حينئذٍ و بكيتُ و قلتُ: قد و اللهِ قُتِلَ سيّدنا الحسين عليه السلام.۱
الدَّرْسُ الثَّاني: بَيَانُ أصْلِ الْوَرَاثَةِ في الْعِصْمَةِ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة الّا بالله العلي العظيم
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}.۱
اصل الوراثة من السنن الإلهيّة غير القابلة للتغيير
قانون الوراثة أصلٌ مهم جرت مطالعته بدقّة في جميع شئون الموجودات، من الإنسان و الحيوان و النبات، حيث استُحصلت منه آثار و نتائج هامّة؛ و يمكن القول أنّه أحد السُّنن الالهيّة التي لا تتبدّل و لا تتغير. إنّ التمعّن في أفراد البشر و ملاحظة إنتقال الخصوصيّات و الكيفيّات من نطفة الأب و الأمّ و لقاحها و ظهورها على هيئة جنين ثم ظهورها في الطفل، سيُثبت هذا الأساس بصورة كلية لدى الإنسان.
انّ نطفة الانسان هي ذرّة من نظامه الوجودي تتراكم فيها و تندمج
جميع الآثار و الخصائص الإنسانية و توجد في صورة القوّة و الاستعداد. و عند ما تستقرّ النطفة في رحم الأمّ في وعائها الخاصّ و شرائطها الخاصّة، فانّها تصل إلى مرحلة الفعلية و تظهر بصورة النشر مُشيرةً إلى جميع الخصائص المادّية و الأخلاقيّة و الروحيّة التي حصل عليها الجنين من والديه.
فالولد لا يرث من أبيه لون الجلد و شكل الأعضاء و الجوارح و تركيب العظام فقط، بل انّه يرث كذلك التشابه في كلّ ذرّة من الدّم و في كلّ خلية لا تُرى؛ بحيث انّه لو حصل هناك شكّ في الطفل، فانّه يمكن تعيين أبيه الحقيقي عن طريق فحص الدم.
و ليس ذلك الّا لأنّ الطفل في الحقيقة فرعٌ أو غصن تفرّع من شجرة وجود أبيه و أصله الماديّ و المعنويّ، فصار يُحاكي ذلك الاصل في جميع خواصّه. و بغضّ النظر عن العين و الدماغ و الأذن و القلب و المعدة و الكلية و العظام و الهيكل، فانّ الطفل يكتسب من أبويه بعنوان الوراثة خواصّ الوجود و آثاره، حتّى في الأجزاء البسيطة المجهريّة. حتّى انّ بعض الأمراض تنتقل اليه من أجداده عن طريق الوراثة، فإن لم تظهر هذه الأمراض في النسل الأوّل أو الثاني، فانّ تلك الامراض ستحفظ في مرحلة التطور و التغير في عدّة أجيال حتى تنهي مرحلة كمونها فتظهر في أجيال أخرى حين تتحقّق شرائط وجودها.
و هذه الخصائص و الآثار لا تنتقل من الوالد إلى نطفته فحسب، بل انّ آثارها الوجوديّة ستكون مشهودةً واحدة في جميع خلايا الإنسان. و يمكن القول بأنّ هناك في كلّ ذرّة من جسم الإنسان إنساناً كاملًا على نحو الاستعداد و القوّة الوجوديّة، بحيث اذا توفّرت له شرائط التربية و التكامل فانّه سيظهر في هيئة إنسان كامل.
و بعبارة اخرى فليس هناك في النطفة وحدها إنسان كامل يظهر في الرحم و الظرف المستعدّ، بل انّ هناك في كلّ خلية إنساناً كاملًا موجوداً على نحو الوراثة و انتقال مراتب الوجود.
و على الرغم من انهم لم يتمكّنوا عملًا من تلقيح خلية رجل مع خلية امرأة في وعاء معدّ خاص لإيجاد طفل خارج وعاء الرحم، لكنّ ذلك ليس دليلًا قاطعاً على إمتناع هذا الأمر، بل انّ هناك أدلّة قد أقيمت على إمكانه. و لربّما سيرى البشر يوماً من خلال تقدّم مسيرة العلم، نشوءَ طفل من تلقيح خلايا المرأة و الرجل في أوعية معدّة و مناسبة خارج بدن الأم، فيظهر في زمن قصير مليارات الأطفال من امرأة و رجل واحد.
و هذا الموضوع على اثر ذلك الاصل في الوراثة الذي يجعل جميع خصائص الفرد مؤثّرة في كلّ ذرّة من ذرّات بدنه، فتحكي تلك الذرّة جميع الآثار الوجوديّة لذلك الشخص.
كما انّه يُشاهد في النباتات انّ أصل الوراثة قد فعل فعله ليس فقط عن طريق زرع البذور في الأرض، بل و عن طرق شتّى أخرى كالتكثير بالأقلام، و عن طريق التطعيم، حيث تنشأ بذلك شجرة تُناظر أصلها الذي اخذت منه، و سيحمل ذلك الغُصن المقتطع جميع خصائص الشجرة من الجذر و الساق و الأوراق و الثمار نظير جذر و ساق و أوراق و ثمار أصله الذي اقتُطع منه.
و كذلك الحال في عملية التكثير بالبراعم، فانّ البراعم المطعّمة ستجعل ساق الشجرة الأخرى رحماً لتربيتها، فتنمو هناك و تنشأ و تظهر فيها جميع آثار أصلها بدون أي تخّطٍ أو أدنى تجاوز.
{ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.۱
شمول قانون الوراثة للمعنويات و الأسرار الإلهيّة
و اذا ما تجاوزنا الماديّات و مراتب الظهور الطبيعي في الإنسان إلى الأفكار و الأخلاق و الروحيّات، فانّنا سنرى أنّ الطفل يتأثّر و راثياً أيضاً بأصله، فتظهر فيه عن طريق النطفة غرائز و أخلاق و الدية، و من تركيب تلك النطفتين فانّ مجموعاً مركّباً منهما سيُظهر الطفل بأخلاق خاصة هي نتاج غرائز الوالدين معاً.
فالولد الذي له والدان يتصّفان بالشجاعة سيكون شجاعاً بالتأكيد، أمّا إذا كان والداه يتصّفان بالجبن و الخوف فانّه سيصبح جباناً، و اذا كانا سخيّين فانّه سيكون سخيّاً، أو كانا لئيمين أو مُضحيّين فانّه سيماثلهما في ذلك. كما انّ الوالدين العاقلين سينجبان ولداً عاقلًا، فإن كانا أبلهين صار طفلهما أبلها. و على أي حال فانّ جميع الأخلاقيّات و الغرائز الروحيّة للولد لن تخرج عن أصل الوالديين، بل هي تابعة إلى صفاتهما، و ناتجة عن اللقاح و الفعل و الانفعال لقواهما الروحيّة و الأخلاقية.
و قد يحصل أحياناً أنّ شخصاً عاقلًا يخرج من صلبه ولدٌ جاهل، و العكس صحيح، و بالطبع فانّ ذلك سيكون ناجما من شرائط و ظروف التربية في الرحم، أو من انتقال نطفة أحد أجداده الذين كانوا كذلك، فظهرت هذه الصفة في هذا النسل، و هذا بالطبع ينطبق على أصل الوراثة.
و كما انطبق أصل الوراثة في الإنسان، فانّه ينطبق كذلك على النباتات و الحيوانات، فولد الذئب سيكون ذئباً، و ولد الخروف خروفاً و ولد الأسد أسداً، ثم انّ آثار اولئك و كيفيّتهم ستنتقل إلى الأجيال و الطبقات التالية نسلًا بعد نسل من وجهة نظر كيفيّة تشكيل الجسم و الخلايا الجسميّة و الصفات الروحيّة. و الأمر في النباتات كذلك، فورد الياسمين ينتج ياسميناً، و الورد المحمّدي ينتج ورداً محمّدياً يتبع أصله في شكله و لونه و رائحته، كما انّه لن يخرج من شجرةِ التفّاح إجاص و لو مضى عليها
ألف عام، و لو تعاقبت الأجيال.
بلى، لقد كان أصل الوراثة أساس عالم الوجود، و هذه الظهورات ستستمرّ و تتقدّم طبقاً لهذه السُّنن.
{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}.۱
و لقد حفظ أصل الوراثة ثباته و بقاءه في جميع الشؤون المذكورة، و الأهمّ و الأعلى من ذلك بقاؤه و ثباته في المعنويّات و الأسرار الالهيّة.
إنّ الله سبحانه و تعالى خلق آدم أبا البشر و جعله خليفته في الأرض، و جعل قلبه مركز تجليات أنوار جماله، و جعل عقله قويّاً و صدره منشرحاً و قلبه متّسعاً، بحيث يمكنه الاطّلاع على جميع أسرار عالم الكون، و العلم بحقائق الموجودات، و تمزيق حجب الأوهام، و الاستقرار في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ٢. و الوصول إلى مقام الاطمئنان، و الاطّلاع على أسرار الغيب، و محادثة الملائكة، و السكنى في حرم الأمن و الأمان الالهيّ، فيصبح قلبه مركز تجليات أسماء و صفات المعبود جلّ شأنُه.
و هكذا فانّه سيُشاهد رأي العين إحاطة قدرة و علم و حياة الله في جميع مراحل الوجود، و سُيناجي ربّه و يتكلم معه من السرّ و الباطن، و سيفوز بمقام: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ، وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى}٣.
و البقاء ببقاء الله بعد فناء النفس، و طيّ أسفاره الأربعة ليكون مرآةً
تامّة و مظهراً تامّاً كاملًا للحضرة الأحديّة.
و قد أودع هذا النور في آدم عليه السلام منذ بدء الخلقة؛ و بمقتضى: {وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها}۱.
و كذلك بمفاد قوله:
{وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}٢.
فانّ آدم وحده جوهر عالم الوجود، و هو وحده اللؤلؤة الثمنية في صدف عالم الكون، و خزينة أسرار الحضرة الربوبيّة التي طلعتْ و ظهرت فيه إلى حدّ ما. و بموجب أصل الوراثة فقد انتقل ذلك السرّ إلى أبناء آدم، فظهر و برز في الأنبياء واحداً بعد الأخر كلًّا بدوره، و بمراتب الاختلاف التي تُشاهد فيهم، فأصبح كلّ واحد منهم مركزاً لتجلى ذلك النور بقدر استعداده و ظرفيّته.
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}٣.
إلى أن وصل الدور إلى خاتم الأنبياء و سيّد المرسلين محمّد بن عبد الله صلى الله عليه و آله، فأشرق ذلك النور فيه على أتم نحو و أكمله، و بمقتضى أصل الوراثة فقد مرّ في دور الكمون في أصلاب الآباء، و ها قد وصل إلى مرحلة الظهور و البروز، و أشرق كما ينبغي له بلا زيادة و لا نقصان لذا فانّ شريعته صلوات الله و سلامه عليه ناسخة لجميع الأديان، و دينه متمم و مكمّل لجميع الأديان، و باقٍ و خالد إلى يوم القيامة.
انتقال النور الإلهي و الحقيقة المحمديّة بعد النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى أمير المؤمنين عليه السّلام
و قد حصلت هذه الآثار بواسطة سعة روح النبيّ و سعة قلبه المبارك، و ليست أمراً اعتباريّاً تشريفيّاً، ثم انّها انتقلت في ذرّيّته، أي انّ ذلك النور انقسم إلى قسمين، أحدهما في نفسه المباركة و الأخر في نفس أمير المؤمنين عليه السلام، و انتقل من لقاح نور أمير المؤمنين عليه السلام و الصدّيقة الطاهرة سلام الله عليها إلى ذرّيّتهما، حيث قال صلوات الله و سلامه عليه:
"إنَّ اللهَ جَعَل ذُرِّيَّةَ كُلِّ نَبِيّ في صُلْبِهِ و جَعَلَ ذُرِّيَّتِي في صُلْبِ عَلي بْنِ أبي طَالِبٍ"۱.
و روى أحمد بن حنبل، و هو أحد كبار أئمّة أهل السنّة، عن سلمان الفارسي، تبعاً لرواية كتاب (الرياض النضرة) انّه قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهُ صلى اللهُ عليه [و آله] و سَلم يقولُ: "كُنْتُ أنَا وَ عليّ نُوراً بين يَدِي اللهِ تَعَالى قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأرْبَعَةِ عَشَرَ ألْفَ عَامٍ، فَلمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ قَسَّمَ ذَلِكَ النُّورِ جُزْئَيْنِ جُزْءٌ أنَا وَ جُزْءٌ عَلي". خرّجه أحمد في المناقب٢.
و يحدّث أيضاً في (ينابيع المودّة) نقلًا عن كتاب (مودّة القربى)، عن عثمان انّه روى عن رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم:
"خُلِقْتُ أنَا وَ عليّ مِنْ نُورٍ وَاحِدٍ قَبْلَ أن يَخْلُقَ اللهُ آدَمَ بِأرْبَعَةِ آلَافِ عَامٍ، فَلمّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ رَكِبَ ذَلِكَ النُّور في صُلْبِهِ فَلم يَزَل شَيئاً وَاحِداً حَتَّى افتَرَقْنَا في صُلْبِ عَبْدِ المطَّلِب، فَفِي النُّبُوَّةُ وَ في عَلى الْوَصِيَّةُ"٣.
كلام الهاتف لآدم في انتقال النور الإلهيّ منه إلى الأئمّة عليهم السّلام
و ينقل المؤرّخ الأمين الحسين بن علي المسعودي في (مروج الذهب) روايةً جامعة عن أمير المؤمنين عليه السلام حول ابتداء الخلقة و كيفيّة خلق نور محمّد و آل محمّد عليهم السلام، و عن كيفيّة انتقال ذلك النور في النشئآت المختلفة إلى أن يصل إلى خلقة الملائكة و خلقة آدم، ثم يقول:
"ثم نَبّه آدَمَ على مُستُودِعِه، وَ كَشَفَ لَهُ [عَنْ] خَطَرِ مَا ائْتمنَهُ عَليهِ، بَعْدَ ما سَمَّاهُ إماماً عِنْدَ الملَائِكَةِ.
فَكَانَ حَظُّ آدَمَ مِنَ الْخير مَا أواهُ مِنْ مُسْتَودَعِ نُورِنا، وَ لم يَزَل اللهُ تَعالى يخبأ النُّورَ تحت الزّمانِ إلى أنَ فَضَّلَ محمّداً صَلى اللهُ عليه [و آله] و سَلم في ظَاهِرِ الفَتَراتِ.
فَدَعَى النّاسَ ظَاهِرًا وَ بَاطِنًا، وَ نَدَبهم سِرًّا و عَلَانيّةً، و اسْتَدْعى عليه السّلامُ التَّنْبيهَ على العَهْدِ الذي قدّمه إلى الذّرِ قبلَ النسلِ.
فَمَنْ وَافَقَهُ و قَبَسَ مِنْ مِصباحِ النّورِ المقْدِمِ، اهْتدى إلى سِرّهِ و استَبانَ وَاضِحَ أمرِهِ؛ و مَنْ أبلسته الغَفلةُ، استحقّ السّخطَ.
ثم انتقل النّورُ إلى غَرائزِنا، و لَمَعَ في أئمتِنَا، فَنحن أنوارُ السّماءِ و أنوارُ الأرضِ فَبِنَا النَّجاةُ، و مِنّا مَكنونُ العِلم، و إلينا مَصيرُ الامُورِ، و بمهديِّنا تنقطعُ الحُججُ، خَاتمةُ الأئمّةِ و مُنقذِ الأمَّةِ، وَ غَايَةِ النّورِ، وَ مصدر الامور.
فَنحن أفْضَلُ المخْلوقين، و أشْرَفُ الموَحِّدينَ، وَ حُجَجُ رَبِّ الْعالَمِين.
فَلْيَهْنأ بالنّعمةِ مَنْ تَمَسّكَ بِوِلايَتِنا، وَ قَبَضَ على عُرْوَتِنَا".
ثم يقول المسعودي: فهذا ما نروي عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن
علي، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه۱.
و يقول المسعودي أيضاً: و قد رأيت في كثير من كتب التواريخ و السيرة و الأنساب انّ آدم أبا البشر حين سمع هاتفاً يُخبره عن مقتل ولده هابيل زاد حزنه و غمّه لما جرى و ما سيأتى.
"فَأوْحَى اللهُ إليهِ: إني مُخْرِجٌ نُوري الذي بِهِ السُّلوكُ في الْقَنَواتِ الطَّاهِرةِ، و الاروماتِ الشَّريفَةِ، و اباهِي بِهِ الأنْوارَ، و أجْعَلُهُ خَاتم الأنْبياءِ، وَ أجْعَلُ ءَالَهُ خِيارَ الأئِمَّةِ الخلفاء.
و أخْتم الزَّمانَ بِمُدَّتِهِمْ، و أغُصّ الأرْضَ بِدَعْوَتِهِمْ، و أنْشُرُها بِشيعَتِهِمْ.
فَشَمِّرْ و تَطَهَّرْ، و قدِّسْ، و سَبِّحْ، وَ اغْشَ زَوْجَتَكَ على طَهَارَةٍ مِنْهَا، فانَّ وَدِيعَتي تَنْتَقِلُ مِنْكُما إلى الْوَلَدِ الْكائِنِ مِنْكُمَا"٢.
تفسير آية {ثُمَّ أوْرَثْنَا الْكِتَابِ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبَادِنَا}
امّا الآن و قد اتّضح الموضوع، فاننا نرجع إلى تفسير الآية التي ذكرناها في مطلع كلامنا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}.
و علينا أن نرى ما هو هذا الميراث؟ و هذا البحث يتناول موضوعين:
۱-.الموضوع الأوّل: ما هو المقصود من الكتاب؟
٢-.الموضوع الثاني: من هم العباد المصطفون الذين أورثهم الله الكتاب؟
امّا الموضوع الأوّل، فليس هناك من شكّ في انّ المقصود بالكتاب هو القرآن الكريم، لأنّه يقول في الآية التي سبقتها:
{وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}۱.
و هذا الخطاب موجّه إلى رسول الله صلى الله عليه و آله؛ كما انّ الكتاب الذي أوحى اليه هو القرآن الكريم.
و باعتبار انّه يقول بعد هذه الآية مباشرة:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}.
فقد اتّضح بأن المراد بهذا القرآن المورث ليس القرآن المكتوب، بل انّ المراد بذلك هو حقيقة القرآن الذي نزل على قلوبهم. فقد تلقّى رسول الله- وفق نهجٍ معيّن- تلك الحقائق من جبرئيل الأمين، و بنفس ذلك النهج تلقّى هؤلاء العباد المصطفون القرآن من رسول الله صّلى الله عليه و آله و تلك الحقائق و الأسرار و اللطائف التي: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}٢. و {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}٣؛ حيث وردت على قلوبهم بمستوى رفيع مختصّ بهم.
من هم المعنيّون بـ(عباد الله المصطفين الذين ورثوا الكتاب)
امّا فيما يخصّ الموضوع الثاني، فحسب الروايات المستفيضة و المتظافرة التي وردت عن الامام محمّد الباقر و الإمام جعفر الصادق عليهما السلام، فانّ المراد بهؤلاء العباد المصطفين، ذريّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله من أولاد فاطمة الزهراء سلام الله عليها؛ الذين يقعون
في ذريّة: (و آلَ إبراهيم) بمقتضى الآية المباركة: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ}۱.
و علاوةً على ذلك، فلم يدّعِ أحد منذ صدر الإسلام حتّى الآن أنّ هناك شخصاً أعلم بكتاب الله من أمير المؤمنين و الأئمّة الطاهرين عليهم السلام؛ بل انّ أمير المؤمنين- حسب الروايات المتواترة الواردة عن كبار أهل السنّة- أعرف الأمّة و أعلمها بكتاب الله. و بناءً على هذا فانّ من المسَلَّم انّ المراد بالعباد المصطفين الذين أورثهم اللهُ القرآن هؤلاء الأئمّة الطاهرين.
و بغضّ النظر عن ذلك فانّه وفقاً للحديث المتواتر بين السّنّة و الشيعة الذي جعل فيه النبيّ عترته ملازمةً للقرآن و قرينةً له، فانّه يتّضح أنّ المراد من العباد المصطفين عترة رسول الله:
"إني تَاركٌ فِيكُمُ الثَّقلينِ كِتابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عليّ الحَوضَ"٢.
علاوة على الروايات الكثيرة الواردة في علم أمير المؤمنين عليه السّلام، كالحديث الوارد عن أمّ سلمة حيث قالت: قال النبيّ:
"عَليّ مَعَ الْقُرْآنِ و الْقُرْآنُ مَعَ عَليٍ"۱.
و حديث:
"أنَا مَدِيَنَةُ الْعِلم وَ عليّ بَابها"٢.
و نظائرها من الروايات الواردة في علم أمير المؤمنين، و التي تفيد انّه كان من وارثي كتاب الله من رسول الله صلى الله عليه و آله.
امّا بشأن قوله تعالى:
{فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}.
فمن الجلي انّ المقصودَ بهم أصحاب الشمال و أصحاب اليمين و المقربّون، و مسلماً فانّ المراد بالعباد المصطفين هم الفئة الثالثة الذين سبقوا إلى الخيرات.
و بناءً على هذا فانّ الضمير في (منهم) امّا ان يكون عائداً إلى (عبادنا) بدون قيد الاصطفاء، أي انّ مطلق عبادنا ينقسمون إلى ثلاث مجاميع، لكنّ من بينهم السابقون إلى الخيرات الذين كانوا هم المصطفين و ورثة الكتاب.
و امّا أن يعود الضمير في (منهم) إلى {الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}، أي انّ الطوائف الثلاث شركاء في وراثة الكتاب، على الرغم من انّ الفئة الثالثة ستكون العالمة بالكتاب و المحافظة عليه و الوارث الحقيقي له.
و لا مانع هناك أن يكون القائمون بكتاب الله و المحافظون عليه فئةً
خاصّة بينما تُنسب الوراثة إلى الجميع، كما في الآية الكريمة الشريفة:
{وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ}۱، التي تنسب الوراثة إلى بني إسرائيل مع انّ نزول التوراة كان على موسى (عليه السلام) لا عليهم جميعاً، و لكن باعتبار انّ موسى كان يعيش في بني اسرائيل، فانّ نسبة إعطاء التوراة لبني اسرائيل صحيحة تجوّزاً. و بناءً على هذا الاحتمال، فسيكون المراد بعبارة (ظالمٌ لنفسه) أفراد المسلمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب السيّئات و المعاصي، و ذلك لأنّه تبعاً لهذا الاحتمال فانّ فئة (ظالم لنفسه) سيكونون من المصطفين، لذا لا يمكن جعلهم من أصحاب الشمال، بل هم من أصحاب اليمين، غاية الأمر انّ فيهم بعض النقائص.
و على كلّ حال فلنعد إلى أصل البحث، و هو ان اميرالمؤمنين و الأئمة الأطهار باعتبارهم عباد الله المصطفين- طبقاً للنصوص الصريحة التي نقلها أهل السنّة بأنفسهم عن كبار المحدّثين- فانهم حارسو و حافظو كتاب الله. فالحافظ للقرآن و الوارث له هو الذي يمتلك مقامَ و منزلة رسول الله، و يمتلك قلباً كقلب رسول الله في تحمّل تلك الحقائق و استيعابها.
روايات علماء أهل السنّة المشهورين في مقام أمير المؤمنين عليه السّلام
و سنذكر هنا بعض الروايات التي أوردها علماء العامّة المعروفون
في كتبهم ليتضّح مقام أمير المؤمنين عليه السلام و منزلته في نظرهم.
فقد روى في (ينابيع المودّة) عن جابر بن عبد الله الأنصاري انّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قال: "كَفُّ عليّ كَفِّي"٢.
و من البيّن انّ المراد باليد الآثار المترتّبة على اليد من الأخذ و العطاء
و الكتابة و الحرب و غير ذلك، و اجمالًا فانّ المراد به كلّ ما تفعله اليد. و لأنّ هذه الأفعال مترتّبة على إرادة النفس و اختيارها، فانّ تساوى الكفّين سيلازم المساواة في جميع المبادئ و المراحل الفعلية من الحالات النفسيّة و مكارم الأخلاق و الصفات الحسنة. و ورد أيضاً عن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه و آله قال:
"يَا أبا بَكر كِفّي وَ كَفُّ عليّ في الْعددِ سَواءٌ"۱. و في رواية أخرى: يا "أبا بَكْر كَفِي و كَفٌّ عليّ في العدلِ سَواءٌ"٢.
و بالطبع فانّ التساوي في العدل كما بينا يتلازم مع تساوي الصفات النفسيّة و مكارم الأخلاق و الإطّلاع على السرائر، الذي سينجم عنه في مرحلة الفعل أن تكون أفعاله و سيرته كأفعال و سيرة النبيّ الأكرم.
و امّا التساوي في العدد فهو كناية عن التساوي في جميع مراتب القدرة و مراحلها، فكلّ شيء يستطيع الرسول صلى الله عليه و آله فعلَه فانّ أمير المؤمنين هو الأخر يستطيع فعله، لأنّ اليد في هذا التعبير الذي افتُرض لها عدد فيه معلولٌ للقدرة و آلة لإجراء النوايا النفسانية و الإرادات الروحيّة.
و بناءً على هذا فانّ هذا التعبير يبيّن تساوي قدرة رسول الله مع قدرة علي عليه السلام، و هكذا فانّ المعجزات العجيبة التي ظهرت على يد الرسول الأكرم موجودة كلها في مركز إرادة و قدرة علي عليه السلام.
يروي محبّ الدين الطبري في (الرياض النّضرة)، عن أنس بن
مالك قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم: مَا مِنْ نَبِيّ إلّا و لَهُ نظير في امَّته، و على نظيري"۱.
و هذه الرواية تبين بأنّه لا يوجد أحدٌ في جميع أمّة رسول الله يماثله في الصفات الروحيّة و الكمالات النفسيّة كعلي بن أبي طالب، فقد كان مولى الموحدين وحده نظيراً لرسول الله صلى الله عليه و آله.
و جاء نظير هذه الرواية في (ينابيع المودّة) عن أنس بن مالك برواية صاحب (الفردوس): "قالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه [و آلهِ] و سلم: مَا مِنْ نَبِيّ إلَّا وَ لَهُ نظير من أمَّتي ... إلى أن قال وَ عَلي بنُ أبي طَالِبٍ نظيري".٢ و يقول (في صحيح البخاري) في باب مناقب علي:
"قَال النبيّ صلى اللهُ عليه [و آلِه] و سَلم لِعلي: أنْتَ مِني وَ أنَا مِنْكَ"٣.
و هذا التعبير يبيّن غاية الإتحاد و التلاحم مع عليّ عليه السلام، كأنّ وجودهما كان وجوداً واحداً تجلّى في جسمين.
كما نقل ابن حجر الهيتمي المكيّ في (الصواعق المحرقة٤، عن البراء بن عازب؛ و نقل محبّ الدين الطبري في (الرياض النضرة) انّ رسول الله صلى اللهُ عليه [و آلِه] و سَلم قال: "عَليٌ مِني بمنزلَةِ رَأسِي مِنْ بَدَني"٥.
و هذا التعبير يدلّل على غاية الاتّحاد و التكاتف و التلاحم، فرسول الله صلى الله عليه و آله يقول: كما انّ الجسم لا حياة له بدون الرأس، فانّ حياتي مرتبطة و منوطة بحياة علي. و يروي في (ينابيع المودّة) عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال:
"عَليّ مِني مثلُ رَأسِي مِنْ بَدَني"۱.
و يروي في (ينابيع المودّة) عن أبي هُريرة أنّه قال:
كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه [و ءَالِهِ] و سَلّم بَعَثَ بَعْثَيْنِ، و بَعَثَ على أحَدِهِما عَليّاً وَ على الآخَرِ خالِدَ بْنَ الْوَليدِ،
و قالَ: "إذَا الْتَقَيْتم فَعَلى على النَّاس، و إذا افْتَرَقْتم فَكُلُّ على جُنْدِهِ"، فَلَقينا بَني زُبيدة، فاقْتَتَلْنا و ظَفَرْنا عَليهم، و سَبيناهُم، فَاصْطَفَى عليّ مِنَ السَّبْي واحِداً لِنَفْسِهِ.
فَبَعَثَني خالِدٌ إلى النَّبيّ صلى اللهُ عليه [و آله] و سلّم حتى اخْبِره ذلكَ، فَلمّا أتَيْتُ و أخْبَرْتُهُ فَقُلْتُ: يا رَسولَ الله بَلَّغتُ ما ارْسِلْتُ بِهِ؟
فقالَ: "لَا تَقَعُوا في عليّ، فَإنَّهُ مِنّي و أنَا مِنْهُ، و هُوَ وَليّي وَ وَصِيّي مِنْ بَعْدِي"٢. رواه الإمام أحمد في مسنده.
و روى ابن الأثير في (أسد الغابة)٣، بسنده المتّصل عن عمران بن الحصين؛ و القندوزي في (ينابيع المودّة)٤ عن (سنن الترمذي) عن عمران بن الحصين؛ كما روى محبّ الدين الطبري عن عمران بن الحصين٥ قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم جيشاً، و استعمل عليهم علي بن أبي طالب، فمضى في السريّة فأصاب جارية، فأنكروا عليه، و تعاهد أربعة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم فقالوا: اذا لقينا رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم أخبرناه بما صنع علي. و كان المسلمون اذا رجعوا من السفر بدءوا برسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم، فلما قدمت السريّة فسلموا على رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم أ لم تَرَ إلى علي بن أبي طالب صنع كذا و كذا؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم، ثم قام الثاني فقال مثل مقالته، فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال مثل مقالته، فأعرض عنه، ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا: فَأقبَلَ إليهِم رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه [و آلِه] و سَلم و الْغَضَبُ يُعْرَفُ في وَجْهِهِ، فقالَ: "ما تُريدُونَ مِنْ عليّ؟ مَا تُريدُونَ مِنْ عليّ؟ ما تُرِيدُونَ مِنْ عليّ؟ إنّ عَليًّا مِني و أنَا مِنْ عليّ، وَ هُوَ وَليّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي"۱.
بلى، أني لأولئك الذين لم يتحمّلوا رؤية عليّ و هو يأخذ تلك الأمَة بينما كان قوام الإسلام مرهوناً بتضحياته الفريدة، أن يتحمّلوا رؤيته عليه السلام و هو يتزعّم جميع المسلمين في العالم و يمسك بيده زمام أمور المسلمين؟!
لذا فقد فعلوا معه ما فعلوا، فقضى ثلاثين عاماً مُمتحناً يتجرّع الغصص، إلى أن انهالوا بالسيف على مفرقه الشريف و هو في محرابه، و دفنوا تلك الروح الكليّة و الحياة السرمديّة تحت الأرض، فبكى في عزائه
قلوب الجنّ و الإنس و وحوشُ الفلوات و طيور السماء.
يكتب ابن الأثير: وَ أنْبَأنا جَدّي، حَدَّثَنا زَيْدُ بْنُ عَلي عن عُبيدِ اللهِ بنِ موسى، حَدَّثَنا الحَسنُ بنُ كثير عَنْ أبيه قالَ: خَرَج على لِصَلاةِ الفَجْرِ فَاسْتَقْبَلَهُ الأوزُ يَصِحْنَ في وَجهِهِ؛ قالَ: فجَعَلْنا نَطْرُدهنَّ عنْهُ.
فقالَ: "دَعوهُنَّ فإنَّهُنَ نَوائحٌ؛ وَ خَرَجَ فَاصِيبَ"۱.
بلى لقد بكت طيور السماء و وحوش الفلوات في عزاء ابنه أيضاً؛ يقول ابن شهر آشوب: و دفن جثثهم بالطفّ أهلُ الغاضريّة من بني أسد بعد ما قتلوه بيوم، و كانوا يجدون لأكثرهم قبوراً، و يرون طيوراً بيضاً٢.
يروي المجلسي رضوان الله عليه عن بعض مؤلّفات الأصحاب انّه روى عن طريق أهل البيت:
"أنَّهُ لمَّا استُشهِدَ الحُسَينُ عليه السّلامُ بَقِيَ في كَربَلا صَرِيعاً، وَ دَمُهُ على الأرضِ مَسْفوحًا، وَ إذا بِطايِرٍ أبْيَض قَد أتَى وَ تمسَّحَ بِدَمِهِ؛ وَ جَاءَ وَ الدَّمُ يَقْطُرُ مِنهُ فَرَأى طُيُورًا تحت الظِّلَالِ على الغُصُونِ وَ الأشْجارِ، وَ كُلٌّ مِنهم يَذْكُرُ الْحَبَّ و الْعَلَفَ و الماءَ.
فَقَالَ لهم ذَلِكَ الطَّيرُ المُلَطّخُ بالدَّمِ: يَا وَيْلَكُمْ! أ تشتغِلُونَ بِالملَاهي، وَ ذِكْرِ الدُّنيا و المناهي، وَ الحسين في أرْضِ كَرْبَلَا في هذَا الحرِّ مُلقَى على الرَّمضاءِ ظَامِئٌ مَذبُوحٌ وَ دَمُهُ مَسْفُوحٌ.
فَعَادَتِ الطُّيورُ، كُلٌّ مِنهم قَاصِدًا كَرْبلَا؛ فَرَأوا سَيِّدَنَا الحسين عَليه السَّلامُ مُلْقَى في الأرضِ جُثَّةً بِلا رَأسٍ وَ لَا غُسلٍ وَ لَا كَفَنٍ، قَد سَفَّتْ عَليهِ السَّوافي، وَ بَدَنُهُ مَرْضُوضٌ، قَدْ هَشَمَتْهُ الْخَيلُ بِحَوَافِرِهَا؛ زُوَّارُهُ وُحُوشُ
الْقِفَارِ، وَ نَدَبَتْهُ جِنُّ السُّهُولِ و الأوعار، قَدْ أضَاءَ التُّرابُ مِن أنوارِهِ، وَ أزْهَر الجوُّ مِن أزهَارِه.
فَلمّا رَأتهُ الطُّيورُ تَصَأيَحْنَ، وَ أعْلَنَّ بالْبُكاءِ و الثُّبورِ وَ تَوَاقَعْنَ على دَمِهِ يَتمرَّغْنَ فِيهِ، وَ طارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهم إلى نَاحِيَةٍ يُعْلِمُ أهْلها عَنْ قَتْلِ أبي عبد الله عليه السّلامُ"۱.
مضامين زيارة سيّد الشّهداء عليه السّلام في الأول من رجب
و نقرأ في زيارته عليه السّلام في أوّل رجب:
يَا أبَا عبد الله، أشْهَدُ لَقَدِ اقْشَعَرَّتْ لِدِمَائِكُمْ أظِلَّةُ العَرْشِ مَعَ أظِلَّةِ الخلائِقِ، وَ بَكَتْكُمُ السَّمَاءُ و الأرضُ و سُكَّانُ الجِنَانِ وَ البَرِّ وَ البحر.
صَلى اللهُ عَليكَ عَدَدَ مَا في عِلم اللهِ، لَبَّيْكَ دَاعِيَ اللهِ، إنْ كَانَ لم يُجِبْكَ بَدَني عِندَ اسْتِغاثَتِكَ، وَ لِسَاني عِنْدَ اسْتِنْصَارِكَ، فَقَد أجَابَكَ قَلْبِي وَ سَمْعِي وَ بَصَرِي، سُبحانَ رَبِّنَا، إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لمفْعُولًا٢.
(بدين وعده گر جان فشانم رواست.)٣
فَبَشِيرِي لَوْ جَاءَ مِنكَ بِعَطْفٍ | *** | وَ وُجُودِي في قَبْضَتِي قُلْتُ هَاكَا |
بشكر آنكه شكفتى به كام بخت أي گل | *** | نسيم وصل ز مرغ سَحَر دريغ مَدار٤ |
الدَّرْسُ الثَّالِث: في امْتِيَازَاتِ الْعِبَادِ المُصْطَفِينَ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة الّا بالله العلي العظيم
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}۱.
يمتلك الإنسان أعضاء و جوارح مختلفة، كما يمتلك غرائز و صفات متفاوتة، كالغضب و كالرغبة في الطعام، و الدفاع عن النفس، و حبّ الجاه و سائر اللذائذ، و غريزة الإنتقام و العبوديّة و الإيثار و غير ذلك.
و من البين انّه يجب ان يستخدم كلّ واحد منها في محله المناسب، و يصرفه بقدرٍ معيّن، و الّا أصبح ذلك باعثاً على ضرره و هلاكه، و السبب في ذلك عدم استخدامه لقوى العقل و الإدراك.
فلو أحبّ شخصٌ ما- مثلًا- عند تناول طعامه أن يتمتّع بشكل كامل و بلا حدّ معيّن بلذائذ الأطعمة، فانّه سيموت نتيجة الإفراط في الأكل و الشرب؛ و لو انّ شخصاً لم يتبع عقله في إعمال غريزته الجنسيّة، فانّه
سيتهاوى في أحضان الموت بسبب الإفراط فيهلك.
انّ احدى الغرائز في الانسان هي حبّ الله و الوصول إلى كمال الاطمئنان، و الفوز بلقاء الله و الوصول إلى مقام عزّه؛ و ما لم يصل الإنسان إلى هذه الغاية فانّه لن يهدأ و لن يستقرّ.
و يحتاج الانسان من أجل الوصول إلى هذا المقام إلى مجاهدة النفس الأمّارة، أي إلى أن يكون مراقباً لنفسه كلّ لحظة لئلّا يرتكب أي عمل مخالف لرضا الله تعالى، و لكي يكون عمله صالحا حسناً؛ فالإخلاص في العمل الصالح هو الوسيلة الوحيدة لإدراك المقصود؛
{فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}۱.
فيُعرض في كلّ خطوةٍ يخطوها عن نزوات النفس و تزيين إبليس، و يتوكّل على الله و يُوكل قلبه اليه، و يبعد الخواطر الشيطانية عن ضميره، و يُسكّن نفسه المضطربة الجيّاشة بذكر الله تعالى.
و يحتاج هذا العمل إلى مجاهدة النفس، و الوصول إلى منزل الإخلاص ليصبح من المخلصين، فلا يحسب له هدفاً في جميع الامور من العبادات و غيرها الّا الله تعالى، و يكون عمله خالصاً لوجهه الكريم.
و ذلك لأنّ قلب الإنسان لا يخلو من هجوم الأفكار و الخيالات الواردة على القلب، حتى حال السكون و الإستراحة، إذ يهجم سيل الخواطر على قلب الإنسان بدون اختياره، و لا تكفّ هذه الخواطر عنه حتى حال نومه.
و لذلك ينبغي على الانسان من أجل تسكين القلب و تهدئته، أن
يقاوم هجوم الخواطر بذكر الله و المجاهدة القويّة للنفس، و أن يحفظ قلبه عن أن تتصرّف فيه، و أن يكفّ نفسه عن نواياه الشخصيّة كلّ لحظة، فيرجّح اختيار الباري و رضاه على اختياره و رضاه.
عباد الله المخلصون مصانون عن المعصية
و اذا ما تمكّن الانسان- بعون الله و توفيقه- من الصمود في هذه المرحلة، و في الاستمرار في مجاهدته، فانّ جميع مراتب عبادة الأنا و الإستكبار و النزعة الإستقلالية فيه ستودّع و تنصرف، فيحلّ محلها ذلُّ العبوديّة نسبةً لساحة المعبود، و روح طلب الله و الفاقة اليه سبحانه، و سيخرج من عبادة نفسه إلى عبادة الله و يشاهد في نفسه حقيقة العبوديّة، فيسكن قلبه و يكفّ عن التقلّب و الجيشان، و يُهدي من الإضطراب و الحيرة إلى الاطمئنان و السكينة، و يصبح وجوده و سرّه منزّهاً و طاهراً، لا تعرف الخواطر الشيطانية طريقها اليه، و لا ترده سائر الخواطر الّا بإذنه، و لا تنفذ فيه الّا بإجازته.
و ذلك لأنّ القلب سيصبح آنذاك منزّهاً مصقولًا بصقل المحبّة و العبوديّة، لذا فانّ الجمال و النور الالهي سيكونان مشهوديْن فيه، و سيصبح مرآةً يعكس ذات و أسماء و صفات المعبود، و هذا هو مقام المخلصين الذي هو أعلى و أسمى المقامات.
و تبعاً للأيات القرآنية فانّ هذه الفئة تمتلك خصائص معيّنة هي:
أولًا: انّ الشَّيطان و النفس الأمّارة لا سلطان لهما عليهم، فقد يئسا منهم يأساً تامّاً، فلا يستطيعان النفوذ أو التأثير في نفوسهم و لو بأدنى قدر.
{وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}۱.
{قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}٢.
انّ الشيطان يعترف هنا بعجزه عن حرفهم عن طريقهم، لأنّ قلوبهم صارت محلًا لله، و جليّ أنّ مثل هذا المكان لا قدرة للشيطان على الاستيلاء عليه أو التصرّف فيه. و سيكون هؤلاء الافراد مصونين محفوظين دائماً في حرم الله من كلّ ذنب فعليّاً كان أو قوليّاً أو فكريّاً أو قلبيّاً أو سرّيّاً. كما انهم سيخلون من كلّ خطأ و ذنب، و سيكون فعلهم فعل الحق، و لسانهم لسان الحق، و أعينهم أعين الحق، و آذانهم آذان الحق؛ و في النهاية فانّ مركز وجودهم متعلّق بحضرة الحق، و ستكون بيوت قلوبهم و أسرارهم كلّها مسلّمة خالصة للّه المنّان.
و جليّ أنّ وارداتهم القلبيّة بإذن الحق و أمره، و كلّ ما يتلقّاه ضميرهم من العوالم العلويّة، سواءً في هيئة الوحي و تشريع الشريعة، أو بعنوان إدراك المطالب الكلية و العلوم الحقيقية و الاطّلاع على الأسرار و المغيّبات، و ذلك من شأن الإمام و أولياء الله؛ و على كلّ حال فانّ قلوبهم ستكون معصومة و عارية عن كلّ خطأ أو ذنب.
عباد الله المخلصون يمكنهم حمد الله كما يليق بشأنه
و ثانياً: باعتبار انّ أفكارهم و أسرارهم قد اتّسعت، و انهم قد اجتازوا جميع مراحل الوجود و تحقّقوا بذات الحق، فانهم- لذلك- يستطيعون أن يحمدوا الله و يُثنوا عليه كما يليق بذاته المقدّسة.
{سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}۱.
ذلك لأنّ كلّ موجود يريد حمد الله فانّه يحمده حسب استعداده و ظرفيّته، و بقدر فكره و علمه، و حضرة الحق أعلى من مقدار و مدى علمه و ظرفيّة وجوده، لذلك فانّ أي موجود لن يستطيع أن يحمده كما يليق به و كما هو شأنه؛ و عليه فانّ التسبيح ينبغي ان يقترن دوماً بالحمد،
أي اننّا في نفس اللحظة التي نحمدك فيها و نُثني عليك بجميع مراتب الجمال و الكمال، فانّنا نُنزّهك و نقدّسك عن أن يكون حمدنا لائقاً بمقام عزّك و جلالك و عظمتك:
سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلى وَ بِحَمْدِهِ- سُبحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيم وَ بِحَمْدِهِ- {وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ}۱.
فرعد السّماء و الملائكة يُسبّحون الله مع حمدهم له على الدوام، و ذلك خوفاً منه و إحساساً بحقارتهم أمام عظمته:
{وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}٢.
إنّ جميع الموجودات بلا استثناء تعترف بتحميدها و تمجيدها بعدم وصول الحمد و الشكر إلى ساحة قُدسه، و لذا فانّها تقوم- مع حمدها- بالتنزيه و التقديس و تعتبر ذات الباري المقدّسة أعلى و أنزه من أمثال هذا الحمد. أمّا عباد الله المخلصين الذين لا يُشاهد فيهم أي جانب مستقلّ للوجود، فقد صار وجودهم وجوداً للحقّ، و قلوبهم عرشاً لذاته؛ فانهم يستطيعون أن يحمدوا الله كما يليق به. و في الحقيقة فانّ الله يحمد نفسه بنفسه.
عدم منافات هذا المقام مع جملة (مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ)
و هذا التقريب لا يُنافي جملة (مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ)، لأنّ مفاد هذه الجملة عرض الذلّ و الفقر في عالم الإمكان و الكثرة، كما انّ مفاد:
{سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}٣.
هو تحقّق الفناء الحقيقي في جميع مراتب الأسماء و الصّفات و ذات
الحضرة الأحديّة، و في ذلك المقام للفناء المطلق، فانّ أدنى شائبة للوجود و لإظهار الأنانية هي الكفر و الشرك، و ما أبعد ذلك عن ساحة إخلاص المخلصين!
و ثالثاً: فليس هناك مؤاخذة أو محاسبة و لا استجواب لهؤلاء، و ليس هناك سؤال في القبر و لا منكر و نكير، و لا حشر و لا عرض، و لا كتاب و لا ميزان و لا صراط:
{فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}۱.
فكلّ بني الإنسان يحضرون امام عدل الله و يُسئلون و يُعرضون الّا عباد الله المخلصين الذين لا سؤال لهم و لا عرض، لأنهم تخطّوا محلّ المؤاخذة و السؤال بمجاهداتهم النفسانية و إخلاصهم في العمل و القول و الفكر و السرّ، و وردوا في حرم الله في المحلّ الرفيع المعدّ للمخلَصين، و استقرّوا هناك.
و في الحقيقة فانّ الإنسان الذي سلّم وجوده لله، فلم يبقَ له شيء ليسئل عنه، بل انّ السؤال و الكتاب للذين فيهم شوائب من الربوبيّة، و الذين بدرت منهم أعمال تبعاً لتلك الشوائب؛ امّا الذي لم يبق فيه غير حقيقة العبوديّة المحضة، و الذي تضجّ جميع مراتب وجود بالنداء بفقره و حاجته و فاقته و ذلّ عبوديّته، فكيف يُتصوّر له الحضور و السؤال؟!
هؤلاء العباد لا يموتون، بل هم أحياء دوماً بحياة الحق، لأنهم أصبحوا وجه الله و صاروا خلفاءه و مُظهري ذاته. و من الجلي انّ الهلاك و البوار في المراحل التي يكون فيها الوجود غير وجود الحق و غير وجهه.
{وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
مَنْ شاءَ اللَّهُ}۱.
{وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ}٢.
و يُلاحظ في هاتين الآيتين أنّ الله سبحانه و تعالى قد استثنى فئةً، و هم الذين تعلّقت بهم مشيئة الله فلا يريد لهم الهلاك، فلا خوف و لا هلاك لهم.
و نشاهد من جانب آخر أنّ الله سبحانه و تعالى يقول انّ جميع الموجودات ستهلك بلا استثناء الّا وجه الله.
{كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}٣.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ}٤.
و نستنتج من هاتين الآيتين و اللتين قبلهما بأنّ نفس الأفراد الذين أخلصهم الله و الذين لا يموتون بواسطة النفخ في الصور، هم الذين أصبحوا- بكلّ معنى الكلمة- وجه الله و مُظهري أمره، أي أولياء الله و المقرّبين اليه.
و بضمّ هذه النتيجة إلى الآية السابقة القائلة:
{فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.
فاننا نستفيد بأنّ عباد الله المخلصين ليس عليهم سؤال و لا استجواب و لا موت و لا إنعدام، بل هم أحياء دوماً بحياة الحق، حياةً سرمديّة دائمة.
رابعاً: انّ الله العلي الأعلى لم يجعل لعباده المخلَصين جزاءً محدوداً
أو معيّناً، لأن كلّ ما سيُعطيهم من الجنّة و نعيمها أقلّ من مقامهم و منزلتهم، بل انّ جزاءهم نفس الذات الأحديّة و مشاهدة أنوار جمالها فقط.
{وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}۱.
جزاؤهم لا يعدّ و لا يُحصى، لأنهم اجتازوا النفس و عالم المقدار و وصلوا إلى بحر العظمة و الجلال، لذا فانّ نفس التحقّق في ذلك المقام هو جزاؤهم اللامتناهي الذي لا حدّ له.
و الخلاصة فانّه يُستفاد من هذه الآيات التي وردت في شأن المخلصين و مقامهم و منزلتهم، أنّ المخلصين من عباد الله هم غير سائر العباد من جميع الوجوه، لأنهم مصونون بصيانة الربّ ذي الجلال، فليس فيهم أي آفة من الذنب و المعصية التي تنجم عن سيطرة الشيطان و النفس الأمّارة. و هذا هو معنى العصمة من الذنوب التي يبيّنها الله تعالى في القرآن الكريم.
{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ}٢.
اي انّنا حفظنا يوسف عليه السلام من الابتلاء بالذنب مع زليخا، لأنّه كان من عبادنا المخلصين؛ فكلّ من ينال مرتبة و مقام المخلصين إذن سيكون محفوظاً و مصوناً من قبل الله تعالى من كلّ مُنكر و قبيح. يُضاف إلى ذلك أنّ حياتهم باعتبارها قد أصبحت حياة الحق، و انهم قد اجتازوا عالم المقدار، فليس فيهم بَعْدُ وجودٌ للخواطر المغيرة و المبدّلة للنفس، فانهم سيمتلكون مقام العصمة في تلقّي المعارف الالهيّة و العلوم الكلّيّة و حفظها و إبلاغها، و سيكونون مصونين بصيانة الحضرة الأحدية.
المراحل الثلاث لعصمة الأنبياء
و يمكن الاستفادة من الآية الشريفة التي ذكرناها في مطلع الدرس في اثبات جميع المراتب الثلاثية للعصمة في الذين بُعثوا لهداية الناس و إرشادهم.
{عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ}.
اي اولئك الذين يصبحون من جميع الجهات، و من زاوية العقائد، و من زاوية الصفات النفسيّة و الروحيّة مورد رضا الله سبحانه، و اولئك الذين نالوا مرحلة العبوديّة المحضة، و خرجوا عن الغرور و العُجب و الأنانية في جميع المراحل، فأصبحوا مرضيّين من قبل الله.
و معلومٌ انّ الإنسان ما لم يصل إلى هذه المنزلة، فانّه لن يصبح مورداً للإرتضاء المطلق من ربّه۱، و هذه هي مرتبة المخلصين. و في هذه الحالة
فانّ الله سيكشف له الستار و الحُجب القلبيّة و يُطلعه على علم غيبه و على كلّ ما هو خارج عن متناول يد جميع أفراد الجنّ و الإنس و الملائكة.
و بالطبع فلأنّ الله يُفهم الإنسان علمه الغيبيّ دون أي تغيير أو تبديل، و دون أي نقص أو خلل، فإن قلبه ينبغي أن يقع في مقام عصمة الله و صيانته، و الّا لتصرّف بنفسه في تلقّي ذلك العلم و لأنحرف و بدّل في أخذه، و هذه هي مرحلة العصمة في تلقّي المعارف الحقة: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}۱.
و لأنّ قلبه صافٍ و بعيد عن متناول يد الشيطان، فانّه- بعد التلقّي الصحيح- سيحفظ كلّ تلك المعارف و العلوم الكلّيّة و يحوّلها و ينقلها كما أخذها، و هذه هي مرحلة في تبليغ و إيصال الأحكام و المعارف.
فالله سبحانه و تعالى يجعل رصداً و حرّاساً في أطراف قلبه و جوانبه و بين يديه و من خلفه لكي لا تؤثرّ فيه إلقاءات الجنّ و الإنس، و لا تجد وساوس النفس و ابليس سبيلًا إلى قلبه، و هذه هي المصونيّة الالهيّة، لأن الله اذا وكلَ الإنسان إلى نفسه و رفع يده عن حمايته و حفظه، فانّه سيواجه آلاف الآفات، فذلك القلب محفوظ عن جميع الشرور، من شر {الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}، و من شرّ جميع ما خلق، {وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ} و {حاسِدٍ إِذا حَسَدَ}؛
لا يؤثّر عليه سحرٌ و لا طلسمة، و لا قدرة النفس الأمّارة بالسوء أبداً.
و لو اجتمعت المخلوقات و اتّحدت لحرفه عن مقصده و مسيره، او لتتصرّف فيه خلافاً للعلوم الكلّيّة و المعارف الحقة، او لتغيّر معلوماته و إدراكاته، فانّها لن تفلح و لن تستطيع، و ذلك لأنّ قلب المؤمن تحت مصونيّة الله و رصده، فقد عين الله موكّلين لحراسته و لحفظه من بين يديه و من خلفه، و ذلك من أجل ان يقوم بتبليغ رسالات الله و أحكامه بصورة صحيحة و كاملة، لكي لا يتخطّى هؤلاء المؤمنون وظيفتهم؛ و الله سبحانه محيطٌ بجميع أمورهم و مطّلع على جزئيّات و كليّات إنجازاتهم و أمورهم؛ و هذه هي مرحلة العصمة في التبليغ و التحويل.
و امّا مرحلة العصمة من المعصية، فهي أيضاً غير خارجة عن مدلول الآية بالتقريب السّابق، و ذلك لأنّه اذا ما ارتكب رسولٌ ذنباً فانّه سيكون بفعله قد أعلن ترخيصه له؛ و لأنّه قد أعلن حُرمة ذلك الذنب قبلًا بقوله و كلامه، فانّه سيكون قد دعا إلى متناقضين؛ و المتناقضان ليسا حقّاً، بل انّ من المسلم انّ أحدهما باطل، في حين انّ قلب رسول الله مُصان عن تلاعب الشيطان، فقد كان و سيبقى متحقّقاً بالحق.
و تبين ملائكة الوحي هذه الحقيقة للرسول في سورة مريم:
{وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}۱.
و هكذا فانّ المطالب التي ذكرت تُثبت عصمة الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام في جميع المراحل، بل و تثبتها كذلك للخاصّين و المقرّبين من أولياء الله تعالى.
مقام أمير المؤمنين عليه السّلام
أمّا بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فهو قائد للمعارف الحقة
و صاحب لواء الحمد، و السابق في مراحل التوحيد؛ فقد جاء به الله سبحانه في بيته و حرمه (الكعبة) بعد أن حفظ نوره المقدّس في الأصلاب نسلًا بعد نسل، من آدم إلى أبي طالب.
اسمه المبارك: علي؛ و كُنيته: أبو الحسن؛ و والده: أبو طالب بن عبد المطلّب بن هاشم بن عبد مناف؛ و أبو طالب أخو عبد الله والد الرسول، و على هذا فانّه ابن عمّ رسول الله، تجتمع نسبتهما في جدّهما عبد المطلب.
و كان أبو طالب من أكابر أهل مكّة و ممّن خدموا رسول الله، فقد كان يحامي عنه بحيث أنّ أحداً من مشركي قريش لم يستطع أن ينال الرسول بأذى في حياة أبي طالب و كان أبو طالب يحفظ النبيّ و يحرسه و سائر بني هاشم لمدّة ثلاث سنوات في الشعب المعروف بشعب أبي طالب، و كان يفدي رسول الله بنفسه و يحميه حتى رحل عن هذه الدنيا، و عندها تطاولت الأيادي المتجاوزة و المتجاسرة على رسول الله من قبل المشركين، فاجبر النبيّ الأكرم على الهجرة إلى المدينة.
و كان أبو طالب من المؤمنين الواقعيين و المسلمين الحقيقيين برسول الله۱، و أشعاره التي نظمها في مدح رسول الله كثيرة و مثبتة في كتب الأحاديث و التاريخ، لكنّه كان يكتم إيمانه عن قريش لأسباب، من أهمها المحافظة على رسول الله و حراسته، و كان الرسول كثير المحبّة له و كان يخاطبه بـ (أبي).
اسم والدته: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف؛ و لأنّ أسد كان أخاً لعبد المطلّب، لذا فانّ أبا طالب و فاطمة كانا ابني عمّ بعضهما. و كانت فاطمة بنت أسد والدة أمير المومنين من أعلام النساء المسلمات، و هي أوّل امرأة آمنت برسول الله بعد خديجة؛ و كانت تحبّ رسول الله كثيراً، و كان الرسول يخاطبها ب (أمّي).
فاطمة بنت أسد أمُ أمير المؤمنين عليه السّلام
فاطمة بنت أسد أول امرأة هاجرت من مكّة إلى المدينة:
يقول ابن الجوزي: وَ هِيَ أولَ امْرَأةٍ هَاجَرَتْ مِن مَكَّةَ إلى المدِينَةِ مَاشِيَةً حَافِيةً، وَ هِيَ أولُ امْرَأةٍ بَايَعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه [و ءَالِه] وَ سَلم بِمَكَّةَ بَعْدَ خَدِيجَةَ۱.
و يقول ابن الصبّاغ المالكي: فاطمة بنت أسد، أسلمت و هاجرت مع النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم، و كانت من السابقات إلى الإيمان بمنزلة الأم من النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم ... فلما ماتت كفّنها النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم بقميصه، و أمر أسامة بن زيد و أبا أيّوب الأنصاري فحفرا قبرها، فلما بلغا لحدها حفره رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم بيديه و أخرج ترابه، فلما فرغ اضطجع فيه و قال:
"اللهُ الذي يُحْيِي و يميتُ وَ هُوَ حَيّ لَا يموتُ اللَّهُمَ اغْفِرْ لُامِيّ فَاطِمَةَ بِنْتِ أسَدٍ وَ لَقِّنْهَا حُجَّتها وَ وَسِّعْ عَليهَا مُدْخَلها بِحَقِّ نِبِيِّكَ محمّدٍ و الانبياءِ الَّذِينَ مِن قَبْلي فَإنَّكَ أرْحَمُ الراحِمين"٢.
فقيل٣: يا رسول الله! رأيناك وضعت شيئاً لم تكن وضعته بأحد
قبلها؟!
فقال صلى الله عليه [و آله] و سلم: ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنّة، و اضطجعتُ في قبرها ليخفّ عنها من ضغطة القبر، انّها كانت من أحسن خلق الله صُنعاً إلى بعد أبي طالب رضي الله عنهما و رحمهما۱.
يقول سبط ابن الجوزي: و كانت وفاة فاطمة بنت أسد في السنة الرابعة للهجرة٢.
و قد أنجب أبو طالب و فاطمة بنت أسد أربعة أولاد هم بالترتيب: طالب، و عقيل، و جعفر، و على، و كان كلّ واحد منهم أسنّ من الأخر الذي يسبقه بعشر سنين، كما انجبا بنتاً واحدة تسمّى فاختة و تكنى بـ(امّ هاني)٣.
و ليس هناك من شكّ في أنّ عليّاً عليه السلام ولد في جوف الكعبة بيت الله، و في ذلك يقول السيّد الحميري:
وَلَدتُهُ في حَرَمِ الإلَهِ وَ أمْنِهِ | *** | وَ الْبَيتِ حَيثُ فِنَائُهُ و الْمسْجِدُ |
بِيضَاءُ طَاهِرَةُ الثِّيابِ كَرِيمةٌ | *** | طَابَت وَ طَابَ وَليدُهَا وَ المولِدُ |
في ليلَةٍ غَابَت نحوسُ نُجُومِهَا | *** | وَ بَدَت مَعَ الْقَمَرِ المنيرِ الأسْعَدُ |
مَا لُفَّ في خِرَقِ الْقَوابِلِ مِثلُهُ | *** | إلَّا ابنُ آمِنَةَ النَّبِيّ مُحَمّدُ٤ |
يقول المستشار عبد الحليم الجُندي، أحد أركان المجلس الاعلى للشؤون الاسلامية في مصر في كتابه القيم (الإمام جعفر الصادق) ص ٣۱:
و على في كثير من الأمور هو الأوحد، فالنبيّ هو الذي ربّاه، و آخاه، و أعدّه للعظائم فصنعها، و عَهِد اليه في تبليغ آي القرآن ... و هي جميعها خصوصيّات لا يرقى رقيّه فيها أحد؛ أما ما لم يشركه فيه بشر فهو ما أجمعت عليه كتب الشيعة و شاركها فيه كثيرون من علماء اهل السنّة منذ القرون الاولى- كالمسعودي و الحاكم و الكنجي- حتى القرون الحديثة- كالآلوسي- و هو أنَّ عَليا وُلِدَ بِالْكَعْبَةِ.
كما يقول عبد الباقي عمر في هذا الشأن:
أنَتَ العَليّ الذي فَوقَ العُلى رُفِعَا | *** | بِبَطنِ مَكّةَ وَسط الْبَيتِ إذ وُضِعا۱ |
و يقول الحاكم النيسابوري: لَم يُولَدْ في جَوْفِ الْكَعْبَةِ قَبْلَ عليّ وَ لَا بَعدَهُ مَوْلُودٌ إكرامًا لَهُ وَ إجلألًا لِمَحلِّهِ
كما يقول ابن الصبّاغ المالكي: وُلِدُ عليّ عَليه السلام بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ بِدَاخِلِ الْبَيتِ الْحَرَامِ في يَومِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِن شَهْرِ اللهِ الأصمِّ، رَجَبِ الْفَردِ سَنَةَ ثَلاثِينَ مِن عَامِ الْفِيلِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثلاثٍ و عِشرِينَ سَنَةً، وَ قِيلَ بِخَمْسٍ وَ عِشرِينَ، وَ قَبْلَ الْبَعثِ بِاثنَتَي عَشَرة سَنَةً، وَ قِيلَ بِعَشرِ سِنين، وَ لم يُولَد في الْبَيتِ الحرامِ قَبْلَهُ أحَدٌ سِوَاهُ، وَ هِيَ فَضِيلَةٌ خَصَّهُ اللهُ تعالى بها إجْلالًا لَهُ وَ إعْلَانَاً لِمَرتَبَتِهِ وَ إظْهَارًا لِتَكْرمَتِهِ، وَ كَانَ عليّ هَاشِمِيّاً مِن هَاشِمِيّينِ وَ أوَّل مِن وَلدَهُ هَاشِمُ مَرَّتَينِ٢ و٣ و٤
كيفيّة ولادة أمير المؤمنين عليه السّلام في الكعبة
أمّا في كيفيّة ولادته فقد ورد أنّه:
أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أمّ أمير المؤمنين عليه السّلام، و كانت حاملة بأمير المؤمنين عليه السلام لتسعة أشهر، و كان يوم التمام، قال: فوقفت بإزاء البيت الحرام و قد أخذها الطلق، فرمت بطرفها إلى السماء و قالت: أي ربّ، إني مؤمنة بك و بما جاء من عندك الرسولُ، و بكلّ نبيّ من أنبيائك، و بكلّ كتابٍ أنزلتَه، و اني مصدّقة بكلام جدّي ابراهيم الخليل و انّه بني بيتك العتيق. فأسألك بحقّ هذا البيت و مَن بناه، و بهذا المولود الذي في أحشائي الذي يكلمني و يؤنسني بحديثه، و أنا موقنةٌ أنّه إحدى آياتك و دلائلك لما يسّرتَ على ولادتي.
قال العبّاس بن عبد المطّلب و يزيد بن قعنب (و كانا يشهدان ذلك): لما تكلمت فاطمة بنت أسد ودعت بهذا الدعاء، رأينا البيت قد انفتح من ظهره (في موضع المستجار) و دخلت فاطمة فيه و غابت عن أبصارنا، ثم عادت الفتحة و التزقت بإذن الله (تعالى)، فرُمنا أن نفتح الباب ليصل اليها بعضُ نسائنا فلم ينفتح الباب، فعلمنا أنّ ذلك أمر من أمر الله (تعالى).
و بقيت فاطمة في البيت ثلاثة أيّام. قال: و أهلُ مكّة يتحدّثون بذلك في أفواه السكك و تتحدّث المخدّرات في خدورهنّ.
قال: فلما كان بعد ثلاثة أيّام انفتح الباب من الموضع الذي كانت
دخلت فيه، فخرجت فاطمة و عليّ على يديها [و هي تقول: مَن مثلي يلد ولداً كهذا في جوف الكعبة؟!]۱.
و امّا ما نقله ابن الصبّاغ المالكي عن كتاب المناقب لأبي العالي الفقيه المكّي فهو:
روى خبراً يرفعه إلى عليّ بن الحسين [عليهما السلام] انّه قال: كنّا عند الحسين (رض) في بعض الأيّام و اذا بنسوة مجتمعين فأقبلت امرأة منهنّ علينا، فقلتُ لها: مَنْ أنتِ يرحمك الله؟ قالت: أنا زيدة ابنة العجلان من بني ساعدة.
فقلتُ لها: هل عندك من شيء تحدّثينا به؟! قالت: أي و الله، حدّثتني أم عمارة بنت عبادة بن فضلة بن هالك بن عجلان الساعدي انّها كانت ذات يوم في نساء من العرب، إذ أقبل أبو طالب كئيباً حزيناً، فقلتُ له: ما شأنُك؟ قال: إنّ فاطمة بنت أسد في شدّة من الطلق. ثم انّه أخذ بيدها و جاء بها إلى الكعبة فدخل بها و قال: اجلسي على إسم الله، فطلقت طلقةً واحدة فولدت غلاماً نظيفاً منظّفاً لم أرَ أحسن وجهاً منه، فسمّاه أبو طالب علياً، و قال شعراً:
تسمية أمير المؤمنين عليه السّلام
سُمَّيْتُهُ بِعَليّ كَيْ يَدُومَ لَهُ | *** | عِزُّ الْعُلُوِّ وَ فَخْرُ الْعِزِّ أدْوَمُهُ |
و جاء النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم فحمله معه إلى منزل أمّه. قال علي بن الحسين: فوالله ما سمعتُ بشيء حسن قطّ الّا و هذا من أحسنه٢.
و يروي الشيخ سليمان القندوزي عن كتاب (مودّة القربى) عن العبّاس بن عبد المطّلب قال: لما ولدت فاطمة بنت أسد علياً سمّته بإسم أبيه أسد و لم يرضَ أبو طالب بهذا الإسم فقال: هلمّ حتى نعلو أبا قبيس ليلًا وندعو خالق الخضراء، فلعلّه أن ينبئنا في إسمه، فلما أمسيا خرجا و صعدا أبا قبيس و دعيا الله تعالى، فأنشأ أبو طالب شعراً:
يَا رَبِّ يَا ذَا الْغَسَقِ الدُّجِيّ | *** | وَ الْفَلَقِ المبتَلِجِ المضِيّ |
بين لَنَا عَن أمْرِكَ المقضِيّ | *** | بِمَا نُسَمِّي ذَلِكَ الصّبِيّ |
فإذا خشخشة من السماء، فرفع أبو طالب طرفه فإذا لوح مثل زبرجد أخضر فيه أربعة أسطر، فأخذه بكلتا يديه و ضمّه إلى صدره ضمّاً شديداً، فاذا مكتوب:
خُصِصْتُمَا بِالْوَلَدِ الزَّكِيّ | *** | وَ الطَّاهِرِ المنَتَجَبِ الرَّضِيّ |
وَ إسْمُهُ مِن قَاهِرِ العَليّ | *** | عليّ اشتُقَّ مِنَ الْعَلِيّ |
فسُرّ أبو طالب سروراً عظيماً و خرّ ساجداً للّه تبارك و تعالى، و عقّ بعشرة من الإبل، و كان اللوح معلّقاً في بيت الحرام يفتخر به بنو هاشم علي قريش حتى غاب زمان قتال الحجّاجِ ابنَ الزبير۱.
الدَّرْسُ الرَّابِع: لُزُومُ عِصْمَة الأنْبِيَاءِ وَ الأئِمَّةِ عَلَيْهِمُ السَّلامْ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدّين
و لا حول و لا قوّة الّا بالله العلي العظيم
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا}۱.
الصفات المعتدلة للإنسان
الصفات المعتدلة في الإنسان:
يوجد في الإنسان صفات حسنة مثل الشجاعة و السخاء و العفّة و غيرها، إذا ما أعمل كلّا منها في موقعه المناسب و بالمقدار المعيّن الضروري، فانّ هذه الصفات ستكون صحيحة و مُفيدة، امّا إذا جاوزت حدودها و عَمِل بخلافها فانّها ستكون خطأ و باعثاً على الضرر.
و يُقال لعكس هذه الصفات صفات الرذيلة، و هي الإفراط و التفريط في حدود هذه الصفات؛ فالشجاعة مثلًا، و هي ملكة حسنة، تمثّل الحدّ المتوسّط و المعتدل و الممدوح بين الطرفين المذمومين، ففي ناحية التفريط و النقص في تلك الملَكة عنوان الجُبن و الخوف و هو من الصفات الرذيلة، بينما هناك في ناحية الإفراط و التطرّف عنوان التهوّر و اللامبالاة
و هو أيضاً أمر خاطيء و غير حسن. و على الإنسان أن يحافظ في نفسه دائماً على هذه الصفة في حدّ الإعتدال، و لا يسمح لها أن تنزل عن حدّها فتسقط إلى مرحلة الجُبن، و لا أن تصعد حتى بلغ مرحلة التهوّر و اللامبالاة.
و الأمر كذلك في العفّة و هي من الصفات الحسنة جداً، لكنّها اذا تنزّلت عن حدّها فانّها ستنجرّ إلى مرحلة الخمود، أي عدم الإحساس و الكسل، و حينذاك تصبح قبيحة غير مقبولة، و اذا صارت أقوى من حدّها فانّها ستنجرّ إلى مرحلة الهتك و الشَرَه، و هي أيضاً من القبائح و الذمائم.
و ينبغي على الإنسان أن يكون دوماً مواظباً و مراقباً لتحيى فيه الملكة المعتدلة بإسم العفّة، فلا تسقط- لا سامح الله- إلى مرحلة الخمود أو تصل إلى مرحلة الهتك و الشَرَه، حيث ان تلك الملكة الحسنة ستموت في تلك الحالتين، فتحيا في الإنسان بدلها إحدى هاتين الحالتين غير الممدوحتين، فتصبح حياته حياة النفس الأمّارة.
و السّخاء أيضاً هو الحدّ الأوسط و الدرجة الحسنة، و ما لم يُصرف في موقعه أو مكانه لترتّب عليه عنوان البُخل، امّا اذا جاوز حدّه لترتّب عليه عنوان التبذير و الإسراف، و من المعلوم انّ كلّا من هاتين الحالتين فاسد و غير حسن. و يجب على الإنسان ان يسعى لتوجد عنده حالة التعادل بإسم ملكة السخاء، و أن يمتنع عن الإفراط و التفريط اللذين هما مرتبة التبذير و البخل. و سيكون الإنسان في هذه الحال إنساناً صحيحاً و متعادلًا.
انّ تلك القوّة الموجودة في الإنسان، و التي يحافظ بواسطتها على هذه الصفات متعادلة هي العقل؛ و بسبب دراية العقل بالمصالح و المفاسد و تمييزه منافع الأشياء و مضارّها، فانّه سيكون مقيّداً لتلك الصفات المذمومة كالسلسلة و مانعاً من حركتها و بروزها؛ و ما دامت القوة العقلية
تعمل بوظيفتها في انتظام هذه القوى، فانّ أيّاً منها لن يستطيع التجاوز عن حدّه و الظهور، و لكن لأنّ أصل هذه الصفات و جذورها موجود في جميع أفراد الإنسان بلا استثناء، حتى في الأخيار و الرجال المتّقين و أصحاب الفضيلة و العلم، و لأنّ بذورها موجودة في القلب في انتظار الفرصة، فانّها لن تتوانى- عند ما تتهيّأ لها هذه الأرضيّة المناسبة و عند ما تسمح لها الفرصة- عن الهجوم لتسحق ملكة التقوى و العلم و الفضيلة و البصيرة، لتطلع في الإنسان و تبرز من جديد.
و يحصل كثيراً انّ المريض الذي يمنعه الطبيب من أكل الطعام سيمتنع عن تناول ذلك الطعام، بسبب عقله و إدراكه لمنافع الإحتراز عن الأكل؛ و لكن اذا ما توفّرت الأرضيّة المناسبة أحياناً كالجوع و اشتهاء الطعام، و كان هناك طعامٌ لذيذ يجري طبخه في البيت تحرّك رائحته المتصاعدة من بعيد قوّة الاشتهاء لدى المريض، و اذا اتّفق عدم وجود أحد في البيت ليستحيي المريض منه و يتمالك نفسه، فانّه كثيراً ما يحصل ان تتصاعد رغبة اشتهاء الطعام في وجوده إلى حدّها الأقصى فينهض فجأةً و يأكل من ذلك الطعام حتى يشبع.
و عند ما يشبع و يسقط في سريره فانّه سيعضّ على اصبعه ندماً أن: أي عملٍ ارتكبتُ مع وجود عملية جراحية في المعدة او الأمعاء؟!! من المسلم أنّ على الإستعداد لاستقبال المقبرة بعد ساعات.
و كذلك الأمر اذا عملت التقوى بوظيفتها و أمسكت زمام الشهوة بيدها و أسرتها تحت سيطرتها، فانّ من المستحيل على الشخص أن يرتكب الزنا أو أن يعمل عملًا منافياً للعفّة؛ و لكن و بسبب وجود الشهوة الجنسيّة في كيان الإنسان، فانّها كثيراً ما تكسر هذا الطوق عند وجود الأرضيّة المناسبة، فحين تشتدّ هذه القوّة في محل الخلوة و عند انعدام أيّ
رادعٍ و مانع خارجي، و عند عدم وجود المؤاخذة، و خاصّة اذا اقترن ذلك برغبة الطرف الأخر أو دعوته و طلبه لذلك؛ فانّ هذه القوّة ستطلع فجأة و سيرتكب هذا الشخص مثل هذا العمل القبيح.
و من المؤكّد أنّه في حال طلوع الشهوة و بروزها، فانّها ستسبّب النكبة للعقل و المعرفة و التقوى و العلم بمفاسد هذا العمل و أضراره، بحيث انّها ستعجز عن الوقوف بوجهها. و من المسلم ان لا وجود للتقوى و العقل في تلك الحال، و لا للعلم و المعرفة؛ و الّا فكيف سيمكن لهذه الغريزة- مع وجود هذه الأمور- أن تتخطّى حدودها؟!
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه و آله: "لَا يَزني الزَّاني حين يَزْني وَ هُوَ مُؤمِنٌ وَ لَا يَشْرَبُ الشَّارِبُ حين يَشْرَبُ وَ هُوَ مُؤمِنٌ"۱.
كما انّه كثيراً ما تبدر من العلماء و أهل البصيرة كلمة قبيحة في مواقع معيّنة أثناء مباحثاتهم و حينما يُغلبون، أو من أجل التنكيل بخصمهم و الغلبة عليه في مقام المناظرة و المجادلة؛ إذ يتفوّهون بعبارة غير لائقة يندمون بعدها و يقولون مع أنفسهم: لقد كنّا أصحاب ملكة العفّة، و لقد قرّرنا مع أنفسنا ألّا نكذب و لا نغتاب و لا نَسُبّ و لا نشتم و لا تصدر منا كلمة تدلّ على عيب خصمنا أو نقصه، فما بالنا نتفوّه بمثل هذه الكلمة بلا تأمّل أو تفكير بعاقبة الأمر؟ ما بالنا هتكنا ستار عفّة لساننا؟
انّ هذه و أشباهها جميعاً مسبّبة عن وجود صفة الرذيلة في القلب و تقييدها بقيد العقل و حفظ المصالح الخارجيّة، فتبقى دائماً بالمرصاد لتقتنص صيدها في الوقت المناسب و تحقّق رغبتها.
و كما قد ذُكر، فاننا نشاهد أحياناً مثل هذه البروزات و الظهورات في
جميع أفراد البشر بلا استثناء. يقول العالم الشهير فيلسوف الشرق أبو علي بن سينا: الَخّصُ لك الطبّ في جملتين:
إسْمَعْ جميع وَصِيَّتِي فَاعْمَلْ بها | *** | فَالطِّبُّ مجموعٌ بِنَظْمِ كَلامِي |
أقْلِلْ جماعَكَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإنَّهُ | *** | مَاءُ الحياةِ تَصُبُّ في الأرْحَامِ |
إجْعَلْ غِذَاءَكَ كُلَّ يَومٍ مَرَّةً | *** | وَ احْذَرْ طَعَاماً قَبْلَ هَضْمِ طَعَامِ۱ |
قيل انّه سُئل: ما دمت تعرف مضارّ الإفراط في الجماع، فلما ذا صرت تفرط فيه؟ فأجاب: أحبّ أن استفيد من كيفيّة عمري لا من كميّته.
احْفَظْ بُنَي وَصِيَّتِي وَ اعْمَلْ بِهَا | *** | فَالطِّبُّ مَجْمُوعٌ بِنَصِّ كَلَامِي |
قَدِّمْ عَلَي طِبِّ المريضِ عِنَايَةً | *** | في حِفْظِ قُوَّتِهِ مَعَ الأيّامِ |
بِالشِّبْهِ يُحْفَظُ صِحَّةٌ | *** | وَ الضِّدُّ فيهِ شِفاءُ كُلِّ سِقَامِ |
قَلِّلْ نِكَاحَكَ مَا اسْتَطَعْتَ | *** | مَاءُ الْحَيَاةِ يُرَاقُ في الأرْحَامِ |
وَ اجْعَلْ طَعَامَكَ كُلَّ يَوْمٍ مَرّةً | *** | وَ احْذَرْ طَعَامَكَ قَبْلَ هَضْمِ طَعَامِ |
لَا تُحْقِرَ المرضَ الْيَسِيرَ فَإِنَّهُ | *** | كَالنَّارِ تُصْبِحُ وَ هِي ذَاتِ ضَرامِ |
لَا تَهْجُرَنّ الْقَيءَ شَهْرَكَ إِنَّمَا | *** | كَيْمُوسُهُ سَبَبٌ إلى الأسْقَامِ |
إنَّ الحِمَى عَوْنُ الطَّبِيعَةِ مُسْعِدَاً | *** | شَافٍ مِنَ الأسْقَامِ وَ الآلَامِ |
لَا تَشْرَبَنْ بِعَقِيبِ أكْلٍ | *** | لَا تَأكُلَنْ بِعَقِيبِ شُرْبِ مُدامِ |
وَ خُذِ الدّوَاءَ إذَا الطَّبِيعَةُ كدرَتْ | *** | بِالاحْتِلَامِ وَ كَثْرَة الأحْلَامِ |
و الطِّبُّ جُمْلَتُهُ إذَا حَقَّقْتَهُ | *** | حَلُّ وَ عَقْدُ طَبِيعَةِ الأجْسَامِ |
كما انّ أكثر الأطبّاء يعلمون جيّداً أضرار المشروبات الكحوليّة، و كانت لهم مؤتمراتهم و خطاباتهم في هذا المجال، أو مقالاتهم التي كتبوها و ألّفوها، لكنهم ابتلوا في نفس الوقت بهذا العمل الشيطاني.
بلى، لو اقتنع الإنسان بهذا الحدّ من العلم و التقوى بحيث صار يمتنع عن الجناية و الجريمة بسبب ملاحظة المصالح الخارجيّة فقط، و ما لم يستطع القضاء على أصل مادّة الفساد في نفسه، أو قطع جذور و ميكروبات الصفات الرذيلة كالشره و الخمود و الجُبن و التهوّر و البُخل و التبذير و نظائرها عن سويداء ضميره، فانّه لن يكون قد أدرك مقام الإنسان الواقعي، و سيكون مثل الحيوان المقيّد بسلسلة مستسلماً مُطيعاً، و لكن حالما يكسر هذه السلسلة فانّه سيجترح الأفاعيل.
و اذا ما اجتنب من الكذب و البَخس في البيع و الظلم و الزنا و أشباه ذلك حال اليقظة، فانّ هذه الصفات ستظهر حال النوم الذي ليس فيه وجود للمصالح الخارجيّة، فتوجِد المشاهد المفجعة.
سيرى في النوم انّه يزني، و يربح، و يعزّز شخصيّته، و يظلم و يجني؛ و حين يستفيق هذا المسكين سيعجب من هذه الأحلام و يستبعد أن يناسبه مثل هذه الأمور، غافلًا عن انّ أصل و جذور هذه المفاسد لا يزال في قلبه لم يغادره بعدُ، بل موجود فيه كامنٌ في زواياه و خرائبه ينتظر الجو المساعد ليبرز و يحقّق هدفه.
الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام و الأولياء المقرّبون عند الله هم الذين أخرجوا هذه الصفات الرذيلة و جراثيم الفساد من قلوبهم، و الذين قضوا على بذور هذه الصفات في مزرعة قلوبهم، فقد أعطاهم الله سبحانه و تعالى بعنايته نوعاً من العلم و المعرفة بحيث لا مجال معه لمثل هذه الرذائل.
ذلك العلم و المعرفة الذي يُحرق ببريقه جميع الصفات الرذيلة
و يمحيها و يهدمها، و يقطع أصول و جذور البخل و الشره و التهوّر كي لا تبدر منهم أبداً أمثال هذه الرذائل في أي لحظة من العمر، و مع أكثر الظروف ملائمةً، و لو لمرّةٍ واحدة. فيوسف الصدّيق مع توفّر جميع الشرائط و الإمكانات، و مع وجود جميع المقتضيات و مع مواجهته للمخاطر العظيمة بسبب هجره للذنب، فانّ قلبه- مع ذلك كلّه- لم يسمح له بارتكاب الذنب؛ و هذه خاصّة و جوهرة القلب في مثل هؤلاء الأشخاص التي لا تسمح لهم حتى بأن يحلموا في النوم بارتكاب الذنب، و لا أن يتخيّلوا ارتكابه في اليقظة. فليس هناك للمقرّبين و أولياء الله طوال عمرهم لحظة واحدة يفكّرون فيها بالذنب، حتى لو عاشوا سنوات كثيرة دون زوجة، و مهما توفّرت لهم جميع الإمكانات بأعلى درجاتها، حتى لو تهيّئت وسائل الذنب بعيداً عن انظار الناس و اطّلاعهم، فانهم لن تخطر على قلوبهم فكرة الذنب أبداً.
و هؤلاء الأفراد قد استثنوا لوحدهم من كلية بروز غرائزهم، كما انّ ذلك العلم الذي أعطاهم الله تعالى اثر مجاهداتهم النفسيّة و استقامتهم في طريق عبوديّته الحقة، فوصلوا بنور القلب إلى هذا المقام؛ ليس من العلوم البسيطة، بل هو علم خاصّ و كيفيّة مخصوصة يعبّر عنها لسان القرآن الكريم بـ(روح الله) أو (روح القدس):
{وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا}۱.
لقد جعلنا هذا الروح نوراً لكي نهدي به من نشاء من عبادنا؛ و هذا النور هو روح الله أو روح القدس الذي دخل في قلب الإنسان و حوّل حالة
القلب و صَرَفَه عن غير الله تماماً، و جعله يرتبط كليّاً بالله تعالى، و هذا هو مقام عصمة الأنبياء و الأئمة الأطهار.
و يجب أن نعلم في هذا المقام أنّ النفس لن تضمحل كلياً، بل انّها ستكون مُنقادة و مُطيعة بصورةٍ محضة، فلا مجال لها للتخطّي و التجاوز قيد شعرة.
و قد قال رسول الله صلى الله عليه و آله يوماً: ما منكم من أحد الّا و قد وكّل به قرينه من الشياطين. قالوا: و أنت يا رسول الله؟! قال: نَعَمْ، وَ لَكِن اللهَ أعَانَني عَليهِ فَأسْلم۱.
و في هذه الحالة فانّ هذه النفس هي أحسن نعمة و أغلى موهبة الهيّة لأولياء الله، لأنّها استحالت نفساً مطمئنّة و وجدت لياقة خطاب الرجوع إلى حرم الله تعالى.
انّ الله تعالى يذكر في سورة الأنعام سبعة عشر نبيّاً من الأنبياء في عدّة آيات متعاقبة، من نوح و ابراهيم و لوط و اسحق و يعقوب و اسماعيل و اليسع و موسى و هارون و عيسى و يحيى و داود و سليمان و زكريّا و أيّوب و يونس و الياس؛ فيمجّدهم، حتى انّه أثنى على بعض آبائهم و إخوانهم و ذريّاتهم فدعاهم بالعباد الصالحين و المهتدين، ثم يقول:
{ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ}٢.
اثبات عصمة المقرّبين من الله من القرآن الكريم
استفادة عصمة المقرّبين من الله من مجموع ثلاث آيات قرآنية: انّ هداية الله التي وصلت اليهم، نوع من الهداية التي يهدي بها الله
مَن يشاء من عباده الخاصّين؛ ثم يقول بعد الآية التي ذكرناها سابقاً:
{أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ}۱.
و نستفيد من هاتين الآيتين انّ هداية الله قد وصلت إلى الأنبياء. ثم أنّه من جانب آخر يقول:
{وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ، وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ}٢. و يقول أيضاً:
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ}٣.
و نستفيد من هاتين الآيتين أيضاً انّ الذين يهديهم الله هم الذين اهتدوا إلى الطريق، فلن تؤثّر أي وسوسة شيطانية من تسويلات الجنّ و الإنس، و لو اجتمع الناس على أن يُضلّوهم فانهم لن يستطيعوا التصرّف في إرادتهم و علومهم و اختيارهم و لا على زعزعتهم أو زلزلتهم.
و من جانب آخر يقول تعالى:
{أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}.
و في هذه الآية يعتبر الله سبحانه أنّ اتّباع الشيطان هو الضلالة بعينها؛ و بمقتضى الآيات التي مرّ ذكرها فانّ الله هو الذي يهدي الأنبياء، و انّ مَن يهدي الله فما له من مُضِلّ.
و الضلالة حسب مفاد هذه الآية هي اتّباع الشيطان و المعصية
و الذنب و الإثم و الالتفات إلى غير الحق، و هي التأثّر بإلقاءات النفس الأمّارة.
و لأنّ الأنبياء ليس لهم مُضِلّ- كما مرّ- فليس إذن من إلقاءات شيطانية و لا تسويلات نفسيّة و لا إثم لهم، و هذا هو معنى العصمة.
و بجمع هذه المجاميع الثلاث من الآيات القرآنية، فقد اثبتت العصمة للمهتدين و بُرهن عليه بشكل جلي و الحمد للّه.
عصمة أمير المؤمنين عليه السّلام
و هذا الإستدلال راجع لعموم المقرّبين من الله سبحانه، لكنّه بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام و هو يعسوب الدين و وليّ المؤمنين و قائد الغرّ المحجّلين- له دلالة أوفى و أتمّ على عصمته عليه السّلام.
فلقد تربّى ذلك الإمام في احضان رسول الله منذ الطفولة، و كان تحت تربيته و تعليمه؛ يقول محمّد بن طلحة و هو شافعيّ المذهب توفّي سنة ٦٥٤ هـ۱، و ابن الصبّاغ المالكي المذهب المتوفّى سنة ۸٥٥ هـ:٢ و٣ و لما نشأ علي بن أبي طالب [عليه السلام] و بلغ سن التمييز، أصاب أهل مكّة جدبٌ شديد و قحطٌ أجحف بذوي المروة و أضرّ بذوي العيال إلى الغاية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم لعمّه العبّاس- و كان من أيسر بني هاشم- يا عمّ إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال و قد أصاب الناس ما ترى، فانطلق بنا إلى بيته لنخفّف من عياله فتأخذ أنت رجلًا واحداً و آخذ أنا رجلًا فنكفلهما عنه.
قال العبّاس: أفعلُ. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا: إنّا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه. فقال لهما أبو طالب: اذا تركتما لي عقيلًا و طالباً فاصنعا ما شئتما. فأخذ رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم عليّاً و ضمّه اليه و أخذ العبّاسُ جعفراً فضمّه اليه؛ فلم يزل عليّ مع رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم حتى بعث الله عزّ و جل محمّداً نبيّاً فاتّبعه علي عليه السلام و آمن به و صدّقه و كان إذ ذاك في السنة الثالثة عشر۱ من عمره لم يبلغ الحلم و قيل غير ذلك. و أكثر الأقوال و أشهرها انّه لم يبلغ الحلم، و أنّه أول من أسلم و آمن برسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم من الذكور٢، ... .
قاله الثعالبي٣ في تفسير قوله تعالى: {السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ}٤، و هو قول ابن عبّاس و جابر بن عبد الله الأنصاري و زيد بن أرقم و محمّد بن المنكدر و ربيعة المرائي؛ و قد أشار علي بن أبي
طالب [عليه السلام] إلى شيء من ذلك في أبيات قالها رواها عنه الثقات الأثبات، و هي هذه الأبيات:
محمّد النَّبِيُّ أخِي وَ صِنْوِي | *** | وَ حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَداءِ عَمِّي |
وَ جَعْفَرٌ الذي يُضْحِي وَ يُمسِي | *** | يَطِيرُ مَعَ الملَائِكَةِ ابْنُ امِّي |
وَ بِنْتُ محمّد سَكَني وَ عِرْسِي | *** | مَنُوطٌ لَحْمُهَا بِدَمِي وَ لَحْمِي |
وَ سِبْطَا أحْمَدٍ وَلَدَايَ مِنْهَا | *** | فَأيُّكُمُ لَهُ سَهْمٌ كَسَهْمِي |
سَبَقْتُكُمُ إلى الإسْلامِ طُرَّاً | *** | غُلَاماً مَا بَلَغْتُ أوَانَ حُلمي |
وَ أوْجَبَ لي وِلَايَتَهُ عَليكُمْ | *** | رَسُولُ اللهُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمِ |
فَوَيْلٌ ثم وَيْلٌ ثم وَيْلٌ | *** | لمن يَلْقَى الإلَهَ غَدَاً بِظُلمي۱ |
(و العجب من هذين العالمين السنيين كيف يعدّان هذه الأشعار لأمير المؤمنين عليه السلام يقيناً و كيف سيعترفان و يقرّان بدخول ظالميه إلى جهنّم تبعاً لقوله عليه السلام!!)
و قد نُقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري انه قال: سمعتُ علي بن أبي طالب عليه السلام يُنشِد و رسول الله يسمع:
أنَا أخُو المصطَفَى لَا شَكَّ في نَسَبِي | *** | بِهِ رُبِّيتُ وَ سِبْطَاهُ هُمَا وُلْدِي |
جَدِّي وَ جَدُّ رَسُولِ اللهِ مُنْفَرِدٌ | *** | وَ فَاطِمٌ زَوْجَتِي لَا قَوْلَ ذِي فَنَذِ |
صَدَّقْتُهُ وَ جميع النَّاسِ في بهم | *** | مِنَ الضَّلالَةِ وَ الإشْرَاكِ وَ النَّكَدِ٢ |
قال: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهُ وَ قَالَ: "صَدَقْتَ يَا عَلي!"
و يشرح أمير المؤمنين عليه السلام في (نهج البلاغة) ضمن خطبته (القاصعة) فترة صباه في صُحبته لرسول الله:
"وَ قَدْ عَلمْتم مَوْضِعِي مِنْ رَسوُلِ اللهِ صلى اللهُ عليه و آله بِالقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ المنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَني في حِجْرِهِ وَ أنَا وَلَدٌ وَ يَضُمُّني إلى صَدْرِهِ، وَ يَكْنُفُني إلى فِرَاشِهِ وَ يمُسُّنِي جَسَدَهُ، وَ يَشُمُّنِي عُرْفَهُ، وَ كَانَ يمضَغُ الطَّعَامَ ثم يُلَقِّمنيهِ، وَ مَا وَجَدَ لي كِذْبَةً في قَوْلٍ، وَ لَا خَطْلَةً في فِعْلٍ.
وَ لَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلى اللهُ عَليه و آله مِن لَدُنْ أنْ كَانَ فَطِيما أعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَتِهِ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المكَارِمِ وَ مَحَاسِنِ أخْلاقِ الْعَالم ليلَهُ وَ نَهَارَهُ، وَ لَقَدْ كُنْتُ أتَّبِعُهُ اتّبَاعَ الْفَصِيلِ أثَرَ أمّهِ، يَرْفَعُ لي في كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أخْلاقِهِ عِلما وَ يَأمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ.
وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بحراءَ، فَأرَاهُ وَ لا يَرَاهُ غيري، وَ لم يَجْتمعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ في الإسْلَامِ، غير رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه و آله وَ خَدِيجَةَ، وَ أنَا ثَالِثُهمَا، أرَى نُورَ الْوَحيِ وَ الرِّسَالَةِ، وَ أشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حين نَزَلَ الْوَحي عَليهِ صلى اللهُ عليه و آله، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هَذَا الشَّيطَانُ أيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إنَّكَ تَسْمَعُ مَا أسْمَعُ وَ تَرَى مَا أرَى، إلَّا أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ و لَكِنَّكَ وَزِيرٌ وَ إنَّكَ لَعَلَى خَيرٍ"۱.
و العجب انّه مع هذا المقام و المنزلة و الوصايا التي أكّد عليها الرسول
و جعلِهِ عليّاً وصيّاً و وزيراً و وليّاً للمؤمنين و خليفته من بعده، فانّهم اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة قبل أن يُدفن جسد الرسول المطهّر، ففعلوا ما فعلوا، و لم يكتفوا بسلب الخلافة، بل عمدوا إلى مصادرة بُستان الصدّيقة الطاهرة فاطمة بنت رسول الله، فسلبوا نِحلة رسول الله و كسروا فؤاد بنت رسول الله.
ردّ أمير المؤمنين عليه السّلام على اعتراض فاطمة عليها السلام
ثم انّ فاطمة ذهبت بعد ذلك إلى المسجد لإثبات حقّها، فتحاججت مع أبي بكر؛ يقول ابن شهر آشوب: و لمّا انصرفت من عند أبي بكر أقبلت على أمير المؤمنين عليه السلام فقالت له:
"يَا بْنَ أبي طَالِبٍ! إشتملْتَ شَمْلَةَ الْجَنين، وَ قَعَدتَ حُجْرَةَ الظَّنين، نَقَضْتَ قَادِمَةَ الأجْدَلِ فَخَانَكَ رِيشُ الأعْزَلِ.
هَذَا ابْنُ أبي قُحَافَةَ، قَد ابْتَزَّني نُحَيْلَةَ أبي، وَ بُليغَةَ إبْني.
وَ اللهِ لَقَد أجَدَّ في ظُلَامَتِي، وَ ألَدَّ في خِصَامِي، حتى مَنَعَتنِي الْقَيْلَةُ نَصْرَهَا، وَ المهَاجِرَةُ وَصْلها، وَ غَضَّتِ الجمَاعَةُ دُوني طَرْفَهَا؛ فَلَا مَانِعَ وَ لَا دَافِعَ.
خَرَجْتُ وَ اللهِ كَاظِمَةً، وَ عُدْتُ رَاغِمَةً.
أضْرَعْتَ خَدَّكَ يَوْمَأضَعْتَ حَدَّكَ، افتَرَسْتَ الذِّئَابَ وَ افْتَرَسَكَ الذُّبَابُ، مَا كَفَفْتَ قَائلًا، وَ لا أغْنَيْتَ بَاطِلًا، وَ لَا خِيَارَ لي ليتَني مِتُّ قَبْلَ ذُلَّتِي، وَ تُوِفِّيتُ دُونَ مُنيتِي۱.
عَذِيرِي وَ اللهِ فِيكَ حَامِيَاً، وَ مِنْكَ دَاعِيَاً، وَيْلَاي في كَلِّ شَارقٍ، مَاتَ الْعَمَدُ وَ وَهَنَ الْعَضُدُ.
شَكْوَايَ إلى رَبِّي وَ عُدْوَايَ إلى أبي.
اللهُمَّ أنْتَ أشدُّ قُوَّةً وَ أحَدُّ بَأسَاً وَ تَنْكِيلًا.
فَأجابها عليه السّلام:
لَا وَيْلَ لَكِ! بَلِ الْوَيْلُ لِشَانِئِكِ، نَهنِهِي عَنْ عِربِكِ يَا بِنْتَ الصَّفْوَةِ وَ بَقِيّةَ النُّبوَّةِ.
فَوَ اللهِ مَا وَنيتُ في دِيني، وَ لَا أخْطَأتُ مَقْدُورِي، فَإن كُنْتِ تُرِيدِينَ الْبُلْغَةَ فَرِزْقُكِ مِضَمُونٌ وَ كَفِيلُكِ مَأمُونٌ، وَ مَا اعِدَّ لَكِ خير ممّا قُطِعَ عَنْكِ، فَاحْتَسِبِي!
فَقَالَت: حَسْبِيَ اللهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ!"۱
يقول ابن أبي الحديد: وَ قَدْ رُوِى عَنْهُ عليه السَّلام إنَّ فَاطِمَةَ عَليهَا السَّلامُ حَرَّضَتْهُ يَوْمَاً على النُّهُوضِ وَ الْوُثُوبِ، فَسَمِعَ صَوْتَ المؤَذِّنِ: أشْهَدُ أنَّ محمّداً رَسُولُ اللهُ.
فَقَالَ لها: أ يَسُرُّكِ زَوَالَ هَذَا النّدَاءِ مِنَ الأرضِ؟
قَالَت: لَا.
قَالَ: فإنَّهُ مَا أقُولُ لَكِ!٢.
الدَّرْسُ الْخَامِسُ: الْعِصْمَةُ أمْرٌ مُوْهِبِي
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة الّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}۱.
عصمة الأنبياء حتميّة:
قوّة العصمة في الأنبياء حاكمة على وجودهم في جميع الأحوال
انّ قوّة العصمة في الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام موهبةٌ إلهيّة، و هى نوعٌ من المعرفة و الحالة القلبيّة لديهم لا تماثل سائر العلوم البشريّة، كما انّها لا تغلبها و لا تقهرها الواردات الطبيعيّة و لا الخيالات الخسيسة الماديّة في النوم أو اليقظة، في اليسر أو العُسر، في الرخاء أو الشدّة، بل تشرق في القلب دائماً كالشمس المنيرة فتخرج النقاط السوداء المظلمة من زواياه. و هذا النوع من العلم ليس فقط قويّاً بحيث لا تغلبه القوي الشعوريّة و لا ينكبه طغيانُ الإحساسات، بل انّه يُصيّرها جميعاً تحت سيطرته، و يستخدمها في مصالحه، و يأمرها بأمره و نهيه، فلا قدرة لها على التخطّي
و التجاوز.
و بناءً على هذا فانّ قوّة العلم و النور المضيء تصون صاحبها عن الضلالة و المعصية و الخطأ دائماً.
و قد ورد في الروايات انّ هناك روحاً لدى الأنبياء و الأئمة تسمّى بـ(روح القدس) تحفظهم في مقام الإنسانية الرفيع، و تصونهم عن الإنزلاق و الإثم و الخطأ.
و قد وردت في الآية المباركة التي ذُكرت سابقاً في مطلع الحديث كلمةُ الكتاب، و المقصود بها الوحي الذي نزل على قلب النبيّ بواسطة جبرئيل، و المتعلّق بقوانين الشريعة؛ كما ان المراد بالحكمة العلم بالمعارف الكلية و الأسرار الالهيّة، و المراد من العلوم التي تعلمها سائر العلوم من الإدراكات الجزئية و تشخيص المطالب الحقة.
و لأنّ جملة {وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ} امّا ان تكون حالية، و امّا بمنزلة تعليل للجملة السابقة؛ لذا نستفيد انّ العلّة لعدم تأثير كلام المنافقين في الرسول يعود إلى تلك الملكة القلبيّة التي يكون قادراً بها على تلقّي الوحي بواسطة الأمين جبرئيل بالنسبة إلى أحكام الشريعة و قوانينها، و بالنسبة إلى المعارف الالهيّة، و يكون قادراً أيضاً على تلقّي الإلهامات نسبةً إلى الاطّلاع على الأسرار و المغيّبات، و تبين واقعيّة الأمور و التفريق بين الحق و الباطل.
و بناء على هذا فاننا نستفيد من الآية بأنّ العلّة لعدم انحراف النبيّ أو ضلاله حتى في بعض الامور الجزئيّة تستند إلى ذلك العلم الخاصّ الذي وهبه الله سبحانه له بعنايته، فهو يتلقّى الوحي بواسطته، و هو ذلك العلم الخاصّ الذي يُعبّر عنه في الروايات بـ(روح القُدس) الذي يحفظ الأنبياء و يصونهم عن الإثم و الخطأ في كلّ مرحلة من مراحل التشخيص.
استدلال آخر من القرآن على عصمة الأنبياء:
و من الاستدلالات۱ الأخرى على عصمة الأنبياء ضمّ آيتين من آيات القرآن الكريم، الاولى قوله تعالى:
{وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً}٢.
و الثانية قوله تعالى:
{اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ}٣.
و نستفيد من الآية الاولى انّ الله قد أنعم على الأنبياء و الشّهداء و الصّديقين و الصّالحين، و من الآية الثانية انّ الذين أنعم الله عليهم لن يضلّوا و لن ينحرفوا. و بناءً على هذا فانّ الأنبياء و الشهداء و الصدّيقين و الصالحين لن يضلّوا. و لأنّ كلّ معصيةٍ و ذنب ضلالة، لذا فان المعصية و الذنب لا يصدران منهم، أي انّ شأنهم و مقامهم في أنهم يمتلكون مَلَكةً حافظة عن المعصية و الإثم، و هذا هو معنى العصمة من الذنب.
و كذلك لأنّ الخطأ في تلقّي الأحكام و الوحي الالهي، و في المعارف الالهيّة الكلية، و في تشخيص الأمور الجزئية، و الخطأ في التبليغ هو ضلالٌ أيضاً، فانهم لا يُخطئون و لا يزلّون في أي مرحلة من هذه المراحل، و بهذا البيان فانّ عصمتهم ستكون أيضاً في مرحلتين: مرحلة تلقّي الوحي و المعارف الالهيّة، و مرحلة التبليغ و الترويج.
حيازة أمير المؤمنين لمقام العصمة:
لقد حاز أمير المؤمنين عليه السلام من الله سبحانه مقامَ العصمة و كونه وصيّ رسول الله و وارثه و خليفته، و أوّل من آمن برسول الله و صلى معه.
يروي الطبري بسنده عن ابن عباس قال: أوَّلُ مَن صلى عليّ۱.
و يحدّث ايضاً عن زيد بن أرقم قال: أوَّلُ مَنْ أسْلم مَعَ رَسُولِ اللهُ صلى اللهُ عليه [و آله] و سلم عليّ [عليه السلام]٢.
و يروي عنه أيضاً قال: أوَّلُ رَجُلٍ صلى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه [و آله] و سلم عليّ ابنُ أبي طَالِبٍ٣.
و يروي أيضاً بسنده عن عبّاد بن عبد الله قال: سَمِعْتُ عَلياً يَقُولُ: "أنَا عَبْدُ اللهِ وَ أخو رَسُولِهِ وَ أنَا الصِّدِّيقُ الأكبر لَا يَقُولها بَعْدِي إلَّا كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، صَلَّيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنين"٤.
و يقول ابن الصبّاغ المالكي و محمّد بن طلحة الشافعي:
وَ كَانَ رَسُولُ اللهُ صلى اللهُ عليه [و آله] و سلّم قَبلَ بَدْوِ أمْرِهِ إذَا أرَادَ الصَّلَاةَ خَرَجَ إلى شِعَابِ مَكَّةَ مُسْتَخِفياً وَ أخْرَجَ عَليّاً مَعَهُ، فَيُصَلِّيانِ مَا شَاءَ اللهُ فَإذَا قَضَيَا رَجَعَا إلى مَكَانهما٥.
و يروي الطبري بسنده عن يحيي بن عفيف الكندي (عفيف الكندي هو أخ الأشعث بن قيس، و كان رفيقاً للعباس بن عبد المطّلب، و كان يأتي إلى مكّة للتجارة فيسكن في بيت العبّاس)؛ يقول: حدّثني أبي قال: كنتُ جالساً مع العبّاس بن عبد المطّلب بمكّة بالمسجد قبل أن يظهر أمر رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم، فجاء شابٌّ فنظر إلى السماء حين حلقت الشمس ثم استقبل الكعبة فقام يصلّي، فجاء غلامٌ فقام عن يمينه، ثم جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام و المرأة، ثم رفع فرفعا، ثم سجد فسجدا؛ فقلتُ: يا عبّاس أمرٌ عظيم! فقال العبّاس: أ تعرف هذا الشابّ؟
فقلتُ: لا. فقال: هذا محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب ابن أخي؛ أ تدري من هذا الغلام؟ هو علي أبي طالب بن عبد المطّلب ابن أخي؛ أ تدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. انّ ابن أخي هذا حدَّثني أنّ ربّه ربّ السماوات و الأرض أمره بهذا الدين و هو عليه، و لا و الله [ما أعرفُ] على ظهر الأرض اليوم على هذا الدين غير هؤلاء۱.
بلى، لقد انشغل النبيّ و أمير المؤمنين و خديجة بالصلاة و عبادة الله سنوات عديدة، بينما لم يكن أحد من أهل مكّة مؤمناً آنذاك أو عالماً برسالته صلى الله عليه و آله، حتى نزلت عليه آية الإنذار من قبل الله تعالى.
آية الإنذار و حديث العشيرة
{وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ ، وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}۱.
فدعى رسول الله أقرباءه و عشيرته و أعلن لهم نبوّته كما هو معروف في حديث العشيرة الذي ورد عن طائفة كبيرة من أعلام المحدّثين و المورّخين المسلمين.
يقول العلّامة الأميني: أخرجه (أي حديث العشيرة) غير واحد من الأئمّة و حفّاظ الحديث من الفريقين في الصحاح و المسانيد، و مرّ عليه آخرون ممّن يُعتدّ بقوله و تفكيره مخبتين به من دون أي غمز في الإسناد أو توقّف في متنه. و تلقّاه المورّخون من الأمّة الإسلامية و غيرها بالقبول، و ارسل في صحيفة التأريخ إرسال المسلّم، و جاء منظوماً في أسلاك الشعر و القريض، و سيوافيك في شعر الناشيء الصّغير المتوفّى ٣٦٥ هـ و غيره٢.
و سننقل أوّلًا نصّ الحديث عن تاريخ الطبري ثم نناقش جوانبه المختلفة؛ فقد أخرج الطبري عن ابن حميد، عن سلمة، عن محمّد بن اسحق، عن عبد الغفّار بن قاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، عن عبد الله بن العبّاس، عن عليّ بن أبي طالب قال: لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم: {وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}؛ دعاني رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم فقال: يا علي! انّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقتُ بذلك ذرعاً و عرفتُ أني متى أبادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره،
فصمتُّ عليه، حتى جاء جبريل فقال: يا محمّد! إنّك إلّا تفعل ما تؤمر به يُعذّبك ربّك. فاصنع لنا صاعاً من طعام و اجعل عليه رِجل شاة و املأ لنا عسّاً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطّلب حتى أكلّمهم و ابلّغهم ما امرتُ به. ففعلتُ ما أمرني به، ثم دعوتهم له و هم يومئذٍ أربعون رجلًا يزيدون رجلًا أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب و حمزة و العبّاس و أبو لهب، فلما اجتمعوا اليه دعاني بالطّعام الذي صنعتُ لهم فجئتُ به، فلما وضعتُه تناول رسولُ الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم حذية من اللحم فشقّها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال: خذوا بسم الله. فأكل القوم حتى ما لهم بشيءٍ حاجة و ما أرى الّا موضع أيديهم، و أيم الله الذي نفس علي بيده و إن كان الرجلُ الواحدُ منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم. ثم قال: إسقِ القوم. فجئتهم بذلك العُسّ فشربوا حتى رووا منه جميعاً، و أيم ألله إن كان الرجلُ الواحد منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم أن يكلّمهم بَدَره أبو لهب إلى الكلام فقال: لَعلماً سحركم صاحبُكم. فتفرّق القوم و لم يكلّمهم رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم، فقال الغد: يا عليّ! انّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعتَ من القول فتفرّق القوم قبل أن أكلمهم، فعُد لنا من الطعام بمثل ما صنعتَ ثم اجمعهم إلى. قال: ففعلتُ ثمّ جمعتُهم، ثمّ دعاني بالطعام فقرّبتُه لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيءٍ حاجة، ثمّ قال: إسقهم، فجئتُهم بذلك العُسّ، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثمّ تكلّم رسولُ الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم فقال: يا بني عبد المطّلب! إنّي و الله ما أعلم شابّاً في العرب جاءَ قومَه بأفضل ممّا جئتُكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الأخرة، و قد أمرني الله تعالى أن أدعوكم اليه، فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً و قلتُ و إني لأحدثهم سنّاً،
و أرمصهم عيناً، و أعظمهم بطناً، و أحمشهم ساقاً؛ أنا يا نبيّ الله! أكون وزيرك عليه۱.
فأخذ برقبتي ثم قال: "إنَّ هذَا أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَليفَتِي فِيكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أطِيعُوا"، قال: فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك و تُطيع٢.
صحّة سند حديث العشيرة
يقول العلّامة الأميني: و بهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي المتوفّى ٢٤۰ هـ في كتابه (نقض العثمانية)٣، و قال: إنّه روى في الخبر الصحيح. و رواه الفقيه برهان الدين في (أنباء نجباء الأبناء)، ص ٤٦- ٤۸؛ و ابن الأثير في (الكامل) ج ٢، ص ٢٤؛ و أبو الفداء عماد الدين الدمشقي في تاريخه، ج ۱، ص ۱۱٦؛ و شهاب الدين
أبو حسن غلام من قريش | *** | أبرّهم و أكرمهم نصابا |
دعاهم أحمد لمّا أتتهُ | *** | من الله النبوةُ فاستجابا |
فأدّبه و علّمه و أملي | *** | عليه الوحي يكتبه كتابا |
فأحصي كلّما أملي عليه | *** | و بيّنه له باباً فبابا |
الخفاجي في (شرح الشفا) للقاضي عياض، ج ٣، ص ٣۷ (و بتر آخره) و قال: ذكر في دلايل البيهقي و غيره بسند صحيح؛ و الخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره، ص ٣٩۰؛ و الحافظ السيوطي في (جمع الجوامع) كما في ترتيبه، ج ٦، ص ٣٩٢ نقلًا عن الطبري، و في ص ٣٩۷ عن الحفّاظ الستّة: ابن اسحق، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه، و أبي نعيم، و البيهقي؛ و ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ٣، ص ٢٥٤. و ذكره المورّخ جرجي زيدان في (تاريخ التمدن الحديث) ج ۱، ص ٣۱؛ و الاستاذ محمّد حسين هيكل في (حياة محمّد) ص ۱۰٤ من الطبعة الاولى.
و رجال السند كلّهم ثقات الّا أبو مريم عبد الغفّار بن القاسم، فقد ضعّفه القوم و ليس ذلك الّا لتشيّعه، فقد أثنى عليه ابن عقدة و أطراه و بالغ في مدحه كما في (لسان الميزان) ج ٤، ص ٤٣، و أسند اليه و روى عنه الحفّاظ المذكورون و هم أساتذة الحديث، و أئمّة الأثر، و المراجع في الجرح و التعديل، و الرفض و الإحتجاج، و لم يقذف أحدٌ منهم الحديث بضعف أو غمز لمكان أبي مريم في إسناده، و احتجّوا به في دلايل النبوّة و الخصائص النبويّة. و صحّحه أبو جعفر الإسكافي و شهاب الدين الخفاجي كما سمعت، و حكى السيوطي في (جمع الجوامع) كما في ترتيبه (ج ٢، ص ٣٩٦) تصحيح ابن جرير الطبري له. على انّ الحديث ورد بسند آخر رجاله كلّهم ثقاتٌ كما يأتي، أخرجه أحمد في مسنده (ج ۱، ص ۱۱۱) بسندٍ، رجاله كلّهم من رجال الصحاح بلا كلام، و هم: شريك، الأعمش، المنهال، عبّاد۱.
بلى، نقل حديث العشيرة الكثير من الأعلام أمثال ابن مردويه
و السيوطي و ابن أبي حاتم و البغوي و الحلبي في (السيرة النبويّة)، و نقله غيرهم بألفاظ أخرى، مثل: "أيُّكُمْ يُبَايِعُني على أنْ يكونَ أخِي وَ صَاحِبي وَ وَارِثِي؟ فَلم يَقُمْ إليه أحَدٌ، فَقُمْتُ إليهِ وَ كُنْتُ أصْغَرَ الْقَوْمِ ... إلى أن قال: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ بِيَدِهِ على يَدِهِ. و مثل: مَن بَايَعَني على أنْ يَكُونَ أخِي وَ صَاحِبِي وَ وَليّكُمْ مِنْ بَعْدِي؟ فَمَدَدْتُ يَدِي وَ قُلْتُ: أنَا أُبَايعكَ! و مثل: أنَا أدْعُوكُمْ إلى كَلِمَتينِ خَفِيفَتَيْنِ على اللِّسَانِ ثَقِيلَتَيْنِ في الميزانِ: شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللهُ وَ أنِّي رَسُولُ اللهِ، فَمَنْ يُجِيبُني إلى هَذا الأمْرِ وَ يُوَازِرُني يُكُنْ أخِي وَ وَزِيرِي وَ وَصِيّي وَ وَارِثِي وَ خَليفَتِي مِنْ بَعْدِي؟ فَلم يجبهُ أحَدٌ مِنهُم، فَقَامَ عليّ وَ قالَ: أنَا يَا رَسُولُ اللهِ! قالَ: إجلِس! ثمّ أعادَ القولَ على القومِ ثَانياً فَصَمَتُوا، فَقَامَ عليّ و قال: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: إجلِس! ثم أعَادَ القولَ على القومِ ثَالِثاً، فَلم يجبهُ أحَدٌ مِنهم، فَقَامَ عليّ وَ قَالَ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: إجلِسْ فَأنْتَ أخِي وَ وَزِيرِي وَ وَصِيِّي وَ وَارِثِي وَ خَليفَتِي مِنْ بَعْدِي.
و مثل: أيُّكُمْ يَنْتَدِبُ أنْ يَكُونَ أخِي وَ وَزِيرِي وَ وَصِيِّي وَ خَليفَتِي في أمَّتِي وَ وَليّ كُلُّ مُؤمِنٍ بَعْدِي؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، حتى أعَادَهَا ثَلاثاً، فَقَالَ عليّ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ!
فَوَضَعَ رَأسَهُ في حِجِرِهِ وَ تَفَلَ في فِيهِ، وَ قَالَ: اللهُمَّ امْلأ جَوْفَهُ عِلماً وَ فَهْمَاً وَ حُكْمَاً، ثم قَالَ لأبِي طَالِبٍ: يَا أبَا طَالِبٍ اسْمَعِ الأنُ لِابنِكَ وَ أطِعْ فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مِنْ نَبِيِّهِ بمنزلَةِ هَارونَ مِن موسى.
و مثل: مَنْ يُؤَاخِيني وَ يُوَازِرُني وَ يَكُونَ وَليي وَ وَصِيِّي بَعْدِي وَ خَليفَتِي في أهْلي يَقْضِي دَيْني؟ إلى أن قال رسول الله لِعَليّ: أنْتَ، فَقَامَ الْقَومُ وَ هُمْ يَقُولُونَ لأبِي طَالِبٍ: أطِعْ ابْنَكَ فَقِدْ امِّرَ عَليكَ.
و مثل: فَأيُّكُمْ يَقُومُ فَيُبَايِعُنِي على أنَّهُ أخِي وَ وَزِيرِي وَ وَصِيِّي وَ يَكُونُ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هَارِونَ مِنْ موسى، إلّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي، إلى أن قَالَ: فَقَامَ عليّ فَبَايَعَهُ وَ أجَابَهُ، ثم قَالَ: ادْنُ مِنّي، فَدَنَا مِنْهُ، فَفَتَحَ فَاهُ وَ مَجَّ في فِيهِ مِنْ رِيِقِهِ وَ تَفَلَ بَينَ كِتْفَيهِ وَ ثَدْيَيْهِ، فَقَالَ أبُو لَهَبٍ: بِئسَ مَا حَبَوتَ بِهِ ابنَ عَمِّكَ أن أجَابَكَ فَمَلَاتَ فَاهُ وَ وَجْهَهُ بُزَاقَاً.
فَقَالَ صلى اللهُ عليه [و آله] و سلم: مَلأتُهُ حِكْمَةً وَ عِلما".
و قد نقل مؤخّراً الاستاذ حسن أحمد لطفي في كتابه (الشهيد الخالد الحسين بن علي) ذيل الحديث وفق رواية الطبري، كما أورده أيضاً توفيق الحكيم ذيل كتاب (محمّد) وفقاً للطبري، و أورده المحرّر القدير [شاعر الغدير] عبد المسيح الأنطاكي المصري و أنشد فيه قصيدةً غرّاء۱.
يقول أبو جعفر الإسكافي (بعد ذكر الحديث مفصّلًا): فهل يُكلّف عمل الطعام و دعاء القوم صغير غير مميّز؟! و غرُّ غير عاقل؟! و هل يؤتمن على سرّ النبوّة طفلٌ ابن خمس سنين أو ابن سبع سنين؟! و هل يُدعى في جملة الشيوخ و الكهول الّا عاقلٌ لبيبٌ؟! و هل يضع رسولُ الله صلى عليه و آله يده في يده و يُعطيه صفقةَ يمينه بالاخوّة و الوصيّة و الخلافة الّا و هو أهلٌ لذلك؟! بالغٌ حدّ التكليف، محتملٌ لولاية الله و عداوة أعدائه، و ما بالُ هذا الطفل لم يأنس بأقرانه؟! و لم يلصق بأشكاله؟! و لم يُرَ مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه؟! و هو كأحدهم في طبقته، كبعضهم في معرفته، و كيف لم ينزع إليهم في ساعةٍ من ساعاته؟! فيُقال: وعاه بعضُ الصبا، و خاطرٌ من خواطر الدنيا، و عملته الغرّة و الحدثة على حضور لهوهم، و الدخول في حالهم، بل ما رأيناه إلّا ماضياً علي
إسلامه، مصمّماً على أمره، محقّقاً لقوله بفعله، قد صدّق إسلامه بعفافه و زهده، و لصق برسول الله صلى الله عليه و آله من بين جميع مَن بحضرته، فهو أمينه و أليفه في دنياه و آخرته، و قد قهر شهوتَه، و جاذب خواطره، صابراً على ذلك نفسَه، لما يرجو من فوز العاقبة و ثواب الأخرة۱.
حديث العشيرة عند المستشرقين
بلى، لقد كان حديث العشيرة و تنصيب أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك اليوم في منصب الخلافة واضحاً و مسلّماً بحيث نقله بعض المستشرقين، و منهم: جورج سيلJEORGE SALE في كتابه (قرآن محمّد)ALCORAN OF MOHAMMAD يقول فيه: لقد أظهر محمّد آنذاك محبّة و مودّة كبيرة لعلي، فقد ضمّه إلى صدره و أمر الحاضرين في المجلسي أن يسمعوا له و يعتبروه خليفته و أن يطيعوا أمره، فتفرّق اولئك القوم عن المجلس و هم يقولون لأبي طالب: صار عليك الآن أن تُطيع ابنك!
و يقول جون داقن بُرتJOHN DAVEN PORT في كتاب (محمّد و القرآن) MOHAMMAD AND CORAN ص ٢۱ ضمن هذه القصّة: فنهض النبيّ و أظهر أخلاقه الحميدة و شمائله الكريمة، و وهب لمن يتبعه كنزاً أبديّاً (كناية عن السعادة الأبديّة)، و أورد في الختام خطبةً اشتهرت ببلاغتها و فصاحتها ضمّنها الأسئلة التالية: أيّكم يوازرني على هذا الأمر؟ أيّكم يكون وصيّي و وزيري كما كان هارون وصيّ موسى و وزيره؟ فكان السكوت مخيّماً على جماعة الحاضرين، فلم يجرؤ أحد منهم على قبول تلك المهمّة الخطرة التي عرضها عليهم، إلى أن قام ابن عمّ الرسول على، ذلك الشاب الشجاع فصاح: أنا اؤازرك يا ايّها النبيّ!- إلى أن
يقول- فطوّق محمّدٌ بيديه ذلك الفتى الكريم و ضمّه اليه و صاح: هاكم فانظروا إلى أخي و وزيري!
و قد كتب و اشنجتن ارونيك الامريكي هذه القصّة في («الكتاب المقدّس» ترجمة الميرزا ابراهيم خان الشيرازي من الانجليزية إلى الفارسيّة، ص ٦) ضمن شرحه أحوال النبيّ إلى أن يقول:
قال النبيّ: من يتقدّم منكم فيؤاخيني؟ من منكم يكون وزيري و وصيّي و خليفيتي؟ فصمت اهل المجلس مدّةً و لم يجبه أحد، و ظلّوا ينظرون إلى بعضهم و يتبسّمون في وجوه بعضهم تعجباً او سخرية، إلى أن قام علي أبي طالب بجرأة الشباب و قوّته غير مُبالٍ بأحد، فتقدّم بقدم صادقة و قال: أنا غلامك و خادمك يا رسول الله، و لو انني لا زلت طفلًا لا أصلح للخدمة.
فألقى النبيّ يده إلى عنق ذلك الشاب الصادق و جذبه اليه فاحتضنه و هو يقول بصوتٍ عال: هاكم فانظروا إلى أخي و وزيري و وصيّي و خليفتي!
و لقد أضحكت جرأة و جسارة و تفاخر طفل كمثل على في محفلٍ كهذا قريشاً و أثارت استهزاءهم، فالتفتوا إلى أبي طالب و هم يقولون في سخرية: و أنتَ بالطبع تنتظرُ منّا ان نركع في حضور ولدك و نقوم بتعظيمه۱.
و اجمالًا فانّ علينا ان نتحدّث عن هذا الحديث من جهتين: الاولى في السند، و الثانية في الدلالة.
فأمّا من جهة السند، فانّه- و كما ذكر- لا توجد أي شبهة أو شك
تعتريه، لأن سنده في نظر أهل السنّة في غاية القوّة و الإتقان، لم يضعّفه منهم أحد الّا ابن تيمية حيث قال بأن هذه الحديث موضوع و مفتعل. و ليس لكلام ابن تيمية أي اعتبار، لأن الكلّ يعلم انّه كان رجلًا متعصّباً معانداً و معادياً لأهل البيت، و كان يُنكر الأحاديث المسلّمة لمجرّد تضمّنها لفضيلةٍ من فضائل أهل بيت رسول الله. بل انّ من المسلم عند أهل الفنّ ان ميزان ابن تيمية في ردّ و قبول الروايات هو تضمّنها لفضائل أهل البيت أم عدم ذلك.
يقول اليافعي في (مرآة الجنان): و لابن تيمية فتاوى عجيبة و غريبة عُدّ بسببها مُبعداً عند أهل السنّة، حيث قاموا بسجنه لهذه العلّة، و من أقبح نظريّاته الحكم بحرمة زيارة قبر الرسول محمّد صلى الله عليه [و آله] و سلّم. و العجب من الحلبي الذي نقل رواية العشرة عن ابن تيمية، إلى قوله: فقال رسول الله: فَمَنْ يُجِيبُني إلى هذَا الأمْرِ وَ يُوَازِرُني، أي يُعَاوِنُني عَلى الْقِيَامِ بِهِ.
قَالَ عَلي: "أنَا يَا رَسُولِ اللهِ وَ أنَا أحْدَثُهُمْ سِنّاً، وَ سَكَتَ الْقَومُ".
ثمّ يختم الحديث إلى هذا الحدّ و لا يتطرّق إلى شيء من مقامات أمير المؤمنين في سؤال النبي و جوابه عليه السلام، فيُسقط كلمة (عَلَي أن يَكونَ أخِي وَ وَصِيّي وَ خَليفَتِي مِنْ بَعْدِي) و جواب النبيّ: (فَأنْتَ أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَليفَتِي مِنْ بَعْدِي). الأعجب من ذلك قوله: و أضاف البعض كلمة (أخِي وَ وَصِيّي وَ وَارِثِي وَ وَزِيرِي وَ خَليفَتِي مِنْ بَعْدِي)۱.
جنايات الطبري في نقل حديث العشيرة
جنايات الطبري في حديث العشيرة:
يقول العلّامة الأميني تحت عنوان (جنايات على الحديث): منها ما
ارتكبه الطبري في تفسيره (ج ۱٩، ص ۷٤)، فإنّه بعد روايته له في تاريخه كما سمعت، قلّب عليه ظهر المجنّ في تفسيره فأثبته برمّته حرفيّاً متناً و سنداً، غير أنّه أجملَ القول فيما لهج به رسول الله صلى الله عليه و آله في فضل من يُبادر إلى تلقّي الدعوة بالقبول، قال: فَقَال: فَأيُّكُمْ يُوَازِرُني عَلَى هَذَا الأمْرِ عَلى أن يَكُونَ أخِي وَ كَذَا وَ كَذَا؟
و قال في كلمته صلى الله عليه و آله الأخيرة: ثم قَالَ: إنَّ هَذَا أخِي وَ كَذَا وَ كَذَا. (و يلاحظ مدى الجناية الفاضحة التي ارتكبها حين عمد، من أجل اخفاء الحق و طمسه و من اجل اخفاء مقامات و فضائل أمير المؤمنين، إلى إجمال لفظ (وَصِيّي وَ خَليفَتِي فِيكُم) و إيراده على نحو الإبهام!)
جناية ابن كثير في نقل حديث العشيرة: و تبعه على هذا التقلّب ابن كثير الشامي في البداية و النهاية (ج ٣، ص ٤۰) و في تفسيره (ج ٣، ص ٣٥۱). فعل ابن كثير هذا و ثَقُل عليه ذكرُ الكلمتين (وصيّي و خليفتي فيكم) و بين يديه تاريخ الطبري و هو مصدره الوحيد في تأريخه و قد فصّل فيه الحديث تفصيلًا، لأنّه لا يروق اثبات النصّ لأمير المؤمنين بالوصيّة و الخلافة الدينية، و الدلالة عليه و الإرشارة اليه. و هل هذه الغاية مقصد الطبري حينما حرّف الكلم عن مواضعه في التفسير بعد ما جاء به صحيحاً في التأريخ على حين غفلة عنها؟! أنا لا ادري، لكنّ الطبري يدري، و أحسبك أيّها القارئ جِدّ عليم بذلك.
جناية هيكل في نقل حديث العشيرة:
و منها خزاية فاضحة تحمّلها محمّد حسنين هيكل۱، حيث أثبت
الحديث كما أوعزنا اليه في الطبعة الاولى من كتاب (حياة محمّد) ص ۱۰٤ بهذا اللفظ (يذكر الحديث كما ورد ثم يختمه بهذه الكيفيّة):
فَأيُّكُمْ يُوَازِرُني هَذَا الأمْرَ وَ أن يَكُونَ أخِي وَ وَصِيّي وَ خَليفَتِي فِيكُمْ؟ فَأعْرَضوا عَنْهُ وَ هَمُّوا بِتَركِهِ، لَكِنَّ عَلياً نَهَضَ وَ مَا يَزَالُ صَبِيّاً دُونَ الْحُلُم وَ قَالَ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ عَوْنُكَ، أنَا حَربٌ عَلى مَنْ حَارَبْتَ. فَابْتَسَمَ بَنُو هَاشِمٍ وَ قَهْقَهَ بِعضُهُمْ وَ جَعَلَ نَظَرُهُمْ يَنْتَقِلُ مِنْ أبي طَالِبٍ إلى ابنِهِ ثُمَّ انْصَرَفُوا مُسْتَهزِئِينَ۱.
فانّه أسقط من الحديث اوّلًا ما فرّع به رسولُ الله صلى الله عليه و آله كلامَه من قوله لعلي: فَأنْتَ أخِي وَ وَصِيَّي وَ وَارِثِي.
ثم نسب إلى أمير المؤمنين ثانياً انّه قال: (أنَا يا رسول الله عَوْنُكَ، أنا حَربٌ عَلي مَن حَارَبْتَ) ليته دلّنا على مصدر هذه النسبة في لفظ أي محدّث أو مؤرّخ من السلف؟ و راقه أن يحكم في الحضور في تلك الحفلة بتبسّم بني هاشم و قهقة بعضهم، و لم نجد لهذا التفصيل مصدراً يُعوّل عليه. و بما أنه لم يجد (هيكل) وراءه ممّن يأخذه بمقاله، و لم يَرَ هناك من يُناقشه الحساب في تقوّلاته و تصرّفاته، أسقط منه ما يرجع إلى أمير المؤمنين عليه
السلام في الطبعة الثانية۱ سنة ۱٣٥٤، ص ۱٣٩. و لعلّ السرّ فيه لفتةٌ منه إلى غاية ابن كثير و أمثاله بعد النشر، أو انّ اللغط و الصخب حول القول قد كثرا عليه هناك من مناوئي العترة الطاهرة، فأخذته أمواج اللوم و العتب حتى اضطرّته إلى الحذف و التحريف، أو انّ العادة المطّردة في جملة من المطابع عاثت في الكتاب فغضّ عنها الطرف صاحبه لاشتراكه معها في المبدأ أو عجزه عن دفعها. و على أي فحيّ الله الشعور الحيّ، و الأمانة الموصوفة، و الحق المضاع المأسوف عليه٢.
و أمّا الجهة الثانية من البحث التي تتناول مفهوم و دلالة الحديث، فقد جاء في هذا الحديث باختلاف المضامين التي نُقل بها جملة: "أنْتَ أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَليفَتِي فِيكُمْ، و اسْمَعُوا لَهُ وَ أطِيعُوا" و هو نصّ من رسول الله، بل هو نصّ جليّ و مُبين على خلافته بلا فصل و على وصايته عليه السلام، مثل حديث غدير خم، غاية الأمر انّ هذا التنصيص كان في بدء النبوّة و الدعوة، و حديث الغدير في نهايتها، حيث وقع عند نزول جبرئيل
و اخباره النبيّ بقرب حلول أجله، هذا اذا ما أعرضنا عن بعض الروايات المذكورة آنفاً، و التي ورد فيها أيضاً عنوان: "وَارِثِي وَ وَزِيري، وَ وَليّ كُلِّ مُؤمِنٍ بَعْدِي، وَ هُوَ بمنزلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، وَ يَقْضِي دَيني"، و لفظ ("اسمَعُوا لَهُ وَ أطِيعُوا")، التي يدلّ كلُّ منها على ولايته و خلافته صراحةً.
و لو فرضنا انّه لا يوجد في مجموع هذه الأحاديث غير جملة (أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَليفَتي فِيكُم)، فانّ هذه الجملة- مع ذلك- ستدلّ بوضوح و صراحة على تنصيبه عليه السلام في مقام الخلافة و الوصاية.
اقتران الولاية مع التوحيى و الرسالة
ولاية أمير المؤمنين كانت توأماً مع توحيد الله و نبوّة رسول الله منذ اليوم الأوّل.
يمكن القول يقيناً بأنّ ولاية أمير المؤمنين قد بدأت منذ اليوم الأوّل مع شهادة (لا إلهَ إلّا اللهُ وَ محمّدٌ رَسُولُ اللهِ)، و بأنّ جملة (عليّ وَليّ اللهِ) هي جملة متّصلة و غير قابلة للإنفكاك عن الشهادتين؛ لأنه و منذ اليوم الأوّل الذي دعا فيه رسول الله قومه إلى الاسلام و أمرهم بإقرار الشهادتين، فانّه أمرهم في نفس اليوم و في نفس المجلس بإطاعة مولى الموالي أمير المؤمنين و اتّباعه۱، و أعلنَ ولايتَه و خلافته.
و بناءً على ذلك فانّ الاسلام قد طلع منذ اليوم الأوّل بهذه الجمل
الثلاث:
الشهادةُ بالله، و الشهادة بنبوّة رسول الله، و الشهادة بولاية عليّ وليّ الله، و ما تقوله الشيعة من وجوب اتّباع أمير المؤمنين هو واحد من المسائل القطعيّة في الإسلام، فحقيقة التشيّع هي حقيقة الاسلام. و اولئك الذين اكتفوا بالشهادتين و رفضوا ولاية و خلافة أمير المؤمنين قد رفضوا بذلك جزءاً من الاسلام، و في الحقيقة فانهم قد رفضوا الاسلام.
كما انّ الذين يشهدون بالتوحيد و لا يشهدون بالنبوّة قد أقرّوا بجزءٍ من الحقيقة و أنكروا الجزء الأخر، بل قد أنكروا الحقيقة بأجمعها.
لقد اسّس التشيّع و التبعيّة لأهل البيت و أوصياء رسول الله منذ اليوم الأوّل للإسلام، و على هذا الأساس فقد أضيفت للولاية تدريجاً النصوصُ الصريحة للآيات القرآنية و لكلام رسول الله صلى الله عليه و آله، كما أضيف للتوحيد و النبوّة تدريجاً نصوص صرحية من الآيات القرآنية و كلام حضرة الرسول.
أمير المؤمنين عليه السّلام هو الناصر و المعين للنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم في جميع مراحل الرسالة
و إضافة إلى ذلك فانّه يُستفاد من هذا الحديث انّ أمير المؤمنين كان شريكاً و مساهماً في تحمّل أعباء النبوّة و القيام بوظيفة التبليغ الخطيرة و إبلاغ الأحكام و الجهاد، و إيصال البشرية إلى المقصود الذي هو واجب الرسالة، لأنّ مضمون الرواية ليس (كلّ من آمن بي هو وصيّي و خليفتي) بل مضمونها (كلّ من يعاونني و يعاضدني يكون خليفتي)، لأن جمل الرسول التي رُويت عنه كانت: "أيُّكُمْ يُوازِرُني على هَذا الأمرِ؟ و أيُّكُمْ يُبَايِعُني عَلى أنْ يَكُونَ أخِي وَ صَاحِبي وَ وَارِثِي؟"
من منكم يُبايعني، أي من منكم يوطّن نفسه على الموت، و من يشري نفسه فيضع اختياره جانباً فيؤاخيني و يلازمني و يصاحبي و يكون وارثي في كلّ مراحل النبوّة و في مواجهة آلاف المشاكل و تحمّل مشاقّ
رسالتي الخطيرة، بحيث يتحمّل بعدي لوحده هذه المسئولية، و يقف وحيداً في مواجهة دنيا الكفر ليبلّغ رسالتي، فيقوم بذلك على خير وجه.
"و أيُّكُم يُؤاخيني و يُوازِرُني وَ يَكُونَ وَليي وَ وَصِيِّي بَعْدِي وَ خَليفَتِي في أهْلي يَقْضِي دَيْني؟
وَ أيُّكُمْ يَنْتَدِبُ أن يَكُونَ أخِي وَ وَزِيرِي وَ وَصِيِّي وَ خَليفَتِي في امَّتِي وَ وَلي كُلِّ مُؤمِنٍ بَعْدِي؟"
و يُستفاد من كلّ هذه الأحاديث انّ الرسول صلى الله عليه و آله كان يبحث عن الصاحب و المعين و الناصر الذي يُعاضده. و هذه الجملات صريحة في التساؤل: مَن منكم يأتي في وضعي هذا و حالتي هذه، فلا يدعني وحدي، و يقوم بنُصرة دين الله، و يُعينني في حياتي و بعد مماتي في تحمّل هذه المسئولية، و يصاحبني في حياتي، و يقوم بوظائف الرسالة خير قيام بعد مماتي، و يؤدّي عني دَيني و عهدي تجاه ربّي؟
و بناءً على هذا فانّ أمير المؤمنين بقبوله لمثل هذا الأمر كان سهيماً مع الوجود المقدّس لرسول الله في جميع مراحل أداء الرسالة و إيصال الناس إلى منزل السعادة، و في الالتزام بالقيام بأعباء الخلافة و مشكلاتها.
صَلى اللهُ عليكَ يَا أبَا الْحَسَن، و يجب ان لا يُتصوّر انّ المقام الذي منحه رسول الله لذلك الوجود العزيز بعنوان الأخ و الوزير و الخليفة و الوارث كان أمراً تشريفيّاً، او نتيجةً و استفادةً حصل عليها مقابل موافقته، و كأنه كان يريد أن يجزيه بإعطائه مثل هذه المناصب، بل انّه قد طلبه بهذه الجملات و ندبه لتحمّل المشاق في جميع الأمور.
مَن يتحمّل هذا الجبل العظيم الذي ينوء به الظهر؟ من يقف معي كتفاً إلى كتف في مواجهة المشركين و دنيا الكفر و الشرك، فلا يدعني أتحمّل لوحدي كلّ تلك الضغوط؟
مَن ينهض معي و يقف إلى جانبي بروحه و قلبه بكلّ معنى الكلمة في جميع الحروب و الغزوات لإعلاء كلمة الحق؟
من يهيّيء نفسه للوقوف بشجاعة امام المخالفات الشديدة لقريش و لكلّ طوائف الكفر؟ من يستعدّ للهجرة و التشرّد في الجبال و القفار؟
من يرضى بالنوم في فراشي ليلة المبيت، فيرى جسده تحت سيوف شجعان العرب مقطّعاً إرباً إرباً؟
مَن و من لا يهاب مواجهة منافقي أمّتي حتى بعد موتي، و لا يسمح لذرّةٍ من الهوى بالدخول إلى قلبه، و يتحمّل آلاف المشاكل و جبال الحزن و الغمّ، و لا يتخطّى الرسول قيد أنملة، لا تحرّكهُ صرخات ابنتي الزهراء و لا أنينها، و لا تثير فيه الإحساسات القبليّة أو القوميّة، فيبقى عاملًا بوظيفته في وقار و مهابة أشبه بالبحر الخضم العظيم، فيُعلّم و يُربّي، ليس فقط ذلك العصر بمفرده، بل جميع عالم البشريّة و الإنسانية إلى يوم القيامة، بالعلم و الحلم و العظمة و الوفاء و الصفاء و الصدق و الزهد و عدم الاعتناء بغير الله سُبحانه.
فاعلموا يا أهل الدنيا انّ أمير المؤمنين، ذلك الطفل الصغير في ذلك اليوم، قد ردّ بالإيجاب على الرسول الأكرم مقابل تلكم المشكلات، و أبعد بجوابه هذه الأمواج العاصفة للخطرات بصدرٍ منشرح و قلب قويّ، و أعدّ نفسه للفداء في أحرج اللحظات و أصعبها، و كان يرى متجلياً أمامه كالمرآة المصاعب و المصائب خلال ثلاث و عشرين سنة تمثّل فترة رسالة النبيّ، و المصائب و المحن على مدى ثلاثين سنة بعد رحلة الرسول. لكنّه نهض و صاح: "أنَا يَا رَسُولَ الله"! أنا يا رسول الله الذي يُعينك و يصاحبك و يلازمك و ينصرك؛ لا أغفل عنك لحظة واحدة، أنثر تحت قدمك المباركة روحي و مالي و شخصيّتي و حيثيّتي و عزّي و دنياي.
مستعدٌّ أنا لأراهم يُلقون الحبل في عنقي فيقودونني إلى المسجد للبيعة۱، فلا أدعُ لساني يتخطّى جادّة العفّة و الصواب، و لا الإحساسات أن تحركني و تُثيرني.
مستعدّ أنا لرؤية المشركين و هم يجمعون الحطب جوار بيت ابنتك فيحرقونه٢، و لسماع صوت (ويلاه وا محمّداه!) من قرّة عينك؛ لكنّني لن أفدي ألأهم للمهّم و لن اتخطّى واجبي و وظيفتي حفظاً على الشريعة و بقاء القرآن و إعلاء الإسلام.
أنا الذي اختارَ السكوت و لم يجب في أدقّ أوقات الامتحان، و في اللحظات التي جاء فيها كبيرا قريش أبو سفيان و العباس يقولون: ابسط يدك يا علي لنبايعك فلا يستطيع أحد مخالفتك٣ فوالله إن شئت لأملأنّها على أبي فضيل- يعني أبا بكر- خيلًا و رجلًا٤.
أنا الذي لجأتُ إلى قبرك منتحباً محزوناً من الظلم الذي لحق بابنتك، فقلتُ: {يَا ابنُ امَّ إنَّ القَوْمَ استَضعَفُونِي وَ كَادُوا يَقْتُلُونَني}٥.
لذا فانّ عدم قيام أحد من المدعوّين في مجلس العشيرة لقبول هذا المعنى، مع علمهم بصدق الرسول الأكرم، لم يكن بغير سبب، فلقد ترعرع رسول الله بينهم منذ طفولته، و لم يكن غريباً أو مجهولًا في قومه، لكنّهم
كانوا يشعرون انّ القبول بهذا المعنى يعني تحمّل آلاف المشاكل و الغُصص و المصاعب، لذا قاموا و تركوا مجلس رسول الله ساخرين مقهقهين. و قد اشار المرحوم السيّد الحميري في بعض قصائده إلى حديث العشيرة، كهذه القصيدة:
بأبي أنْتَ وَ امِّي | *** | يَا أمير المؤمنينا |
بِأبِي أنْتَ وَ امِّي | *** | وَ بِرَهْطِي أجْمَعِينَا |
إلى أن يقول:
كُنْتَ في الدُّنيا أخَاهُ | *** | يَوْمَ يَدْعُو الأقْرَبينا۱ |
و يقول أيضاً:
مِنْ فَضْلِهِ أنَّهُ كَانَ أوَّلَ مَنْ | *** | صلى وَ آمَنَ بِالرَّحمَن إذ كَفَرُوا |
سِنين سَبْعَاً وَ أيَّامَاً مُحَرَّمَةً | *** | مَعَ النَّبِيّ عَلي خَوْفٍ وَ مَا شَعروا |
وَ يَوْمَ قَالَ لَهُ جبريلُ قَدْ عَلموا | *** | أنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأدْنين إن بَصُرُوا |
إلى أن يقول:
مَنِ الذي قَالَ مِنهم وَ هُوَ أحْدَثُهُمْ | *** | سِنّاً وَ خَيْرَهُمْ في الذِّكْرِ إذ سَطرُوا |
آمَنْتُ بِاللهِ قَدْ أعْطَيْتَ نَافِلَةً | *** | لم يُعْطِهَا أحَدٌ جِنٌّ وَ لَا بَشَرُ |
وَ إنَّ مَا قُلْتَهُ حَقٌّ وَ إنَّهُمْ | *** | إنْ لم يُجِيبُوا فَقَد خَانُوا وَ قَدْ خَسِرُوا |
فَفَازَ قِدْماً بها وَ اللهُ أكْرَمَهُ | *** | وَ كَانَ سَبَّاقَ غَايَاتٍ إذَا ابتَدَرُوا۱ |
و يقول أيضاً في قصيدة أخرى:
عَليّ عَلَيهِ رُدَّتِ الشَّمسُ مَرَّةً | *** | بِطَيبَةَ يَوْمَ الْوَحيِ بَعْدَ مَغِيبِ |
إلى أن يقول:
و قِيلَ لَهُ أنذِر عَشِيرَتَكَ الاولى | *** | وَ هُمْ مِن شَبَابٍ أرْبَعِينَ وَ شِيبِ |
إلى أن يقول:
فَفَازَ بها مِنهُم عليّ وَ سَادَهُمْ | *** | وَ مَا ذَاكَ مِن عَادَاتِهِ بِعَجِيبِ٢ |
الدَّرْسُ السَّادِس: عِصْمَةُ الأنْبِيَاءِ لا تَتَنَافِى مَعَ إخْتِيَارِهِمْ في فِعْلِ أفْعَالِهِمْ
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدآئهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوة إلّا بالله العلي العظيم
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}۱.
عصمة الأنبياء عن طريق إتمام الحجّة من قبل الله:
تبين هذه الآية المباركة السبب من إرسال الأنبياء إلى الناس و الغاية من التبشير و الإنذار، و هي إتمام الحجّة على الناس لئلّا يكون لديهم عذر في ارتكاب الأخطاء و الذنوب، و لئلّا يُقيموا الحجّة على الله يوم القيامة بأنّهم لم يكونوا يدركون شيئاً و أنّه لم يوجد من يقوم بهدايتهم.
و من الجلي انّ قاطعيّة العذر و كون أفعال الأنبياء و أقوالهم حجّة سيكون حين لا يعصون و لا يرتكبون أي زلل في أقوالهم و أفعالهم، و لا يُبتلون بالخطأ عند تلقّي الأحكام من قبل الله أو عند تبليغها، و الّا فانّ حجّة الناس و عذرهم سيكونان باقيين.
و سيقولون انّنا قد عملنا بالمعاصي لأننّا شاهدنا الأنبياء يرتكبونها،
و لقد بدرت منّا الأخطاء و المعاصي بسبب أخطاء النبيّ في قوله و فعله، فلقد أخطأ النبيّ و لم يتلقّ الوحي بصورة صحيحة، او انّه تلقّاه بصورة صحيحة لكنّه أخطأ و اضطرب في تبليغه، لذا فقد قمنا بأفعالنا نتيجة لذلك خلافاً للحقّ.
و لذا فانّ الأنبياء الذين بُعثوا لهذا الهدف ينبغي أن لا يقعوا في الزلل و الخطأ، و الّا لما تحقّق الهدف من بعثتهم، و هذا هو معنى العصمة.
إثبات العصمة من آية أخرى:
كما يمكن استفادة العصمة من آية اخرى:
{وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}.۱
فكما أنّ الأنبياء يصبحون مُطاعين بإذن الله، فانّ من يتبعونهم سيكونون بالملازمة مطيعين بإذن الله، و ستتعلق إرادة الله و إذنه بأفعالهم، و من المعلوم انّ النّبي لو أخطأ في تبليغه او ارتكب ذنباً فتجاوز الحق في النتيجة في قوله و فعله الّذين هما وسيلتان لإبلاغ الأحكام، فانّ الناس الذين يتبعونه سيكونون بالتأكيد قد تجاوزوا الحق و عملوا خلافه.
و وفقاً للأية المباركة السابقة في تعلّق إذن الله بأفعالهم، فإنّ إرادة الله و إذنه ستتعلّق أيضاً بالأفعال الباطلة. و باعتبار انّ إرادة الله هي حقّ على الدوام و متعلّقة بالحق، فانّه ينبغي الّا يرتكب نبيّ من الأنبياء أي خطأ أو معصية، ليكون إذن الله الذي يتعلّق بفعل من يُتابعهم في العمل متعلّقاً بفعل الحق.
{وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}٢.
و إضافة إلى ذلك فانّ النبّي اذا ارتكب معصية إمّا في القول أو الفعل، في حين ان المعصية مبغوضة من قبل الله و مورد نهيه سُبحانه، فانّ تلك المعصية ستكون مبغوضة و منهيّاً عنها من قبل الله كما ستكون محبوبةً مأموراً بها من قبله تعالى. فمورد البُغض و النهي من جهة انّ عمله كان- حسب الفرض- معصيةً، و كلّ معصية مبغوضة منهيّ عنها؛ و امّا مورد حبّ الله و أمره، فمن جهة انّ فعله و قوله كان- حسب الفرض- بإذن الله. و ان الهدف من الرسالة هو اطاعة الله، و بناءً على ذلك فانّ قوله و فعله هذا قد نشأ بإذن الله و رخصته و إرادته. و لأنّ اجتماع البُغض و الحبّ في شيء واحد من جهة واحدة، و كذلك اجتماع الأمر و النهي في فعل واحد من جهة واحدة أمر مستحيل، لذا فانّ المعصية و الإثم من قبل الأنبياء أمر مستحيل، و هذا هو معنى العصمة.
مَلَكة العصمة لا توجب جعل الأفعال اضطراريّة
ملكة العصمة ليست سبباً في جعل الأفعال اضطراريّة اجباريّة:
يظنّ كثير من الناس انّ الأفعال التي تصدر من الأنبياء و الأئمّة الذين يمتلكون ملكة العصمة تصدر بدون قوّة علميّة و لا إرادة اختياريّة، و انّ ملائكة السماء التي جعلها الله لحفظ و حراسة قلوبهم عن الخطأ و المعصية هي كالرصد الدائم في مقام المصونية و المحافظة الدائمة تحذّرهم من أي اختيار أو تصرّف.
و بناءً على هذا فانّه لا يجب قياس عبادتهم و مجاهدتهم مع سائر أفراد البشر، لأنّ أفراد البشر يسلكون طريق الله اثر مجاهدتهم النفسيّة و يواجهون المشاكل و المشاقّ؛ في حين أن الأنبياء يُهْدَون باطمئنان بواسطة جبرئيل و سائر الملائكة، فهم لهذه الجهة طاهرون و طيّبون ذاتاً، و لا يرد في سيرتهم شيء غير الطهارة و الطيب. و بناءً على ذلك فانّ كلّ ما فعلوه من التبليغ و الترويج و الإستقامة و العبوديّة و المجاهدة و الصدق لا
ينبغي توقّعه و انتظاره من سائر الناس، لأن سنخ وجودهم يغاير سائر أفراد البشر. و بالنتيجة فانّ أفعالهم و أقوالهم تغاير أقوال و أفعال أفراد البشر، و نتيجة لذلك فانّ عصمتهم ليست منهم، بل من الله الذي يُسيرهم بين يديه فيتحركون بتحريكه دون أي يكون لهم أي اختيار أو أي قوّة علميّة قلبيّة.
و هذا الظنّ خاطيء جدّاً و لا محل له، علاوةً على انّه سيفتح لأفراد الأمّة طريق التثاقل و التهاون، لأنّه من الواضح ان الأنبياء مع وجود مقام العصمة و الطهارة لديهم، و مع وجود مصونيّتهم و حفظهم بإرادته و اختياره و ملائكته، و لكن في نفس الوقت فانّ الله و إرادته تلك ليست خارجة عن وجودهم، و أن أعمالهم لا تصدر بدون قوّة علميّة و إدراكيّة، و بدون إرادة قلبيّة و اختيار.
و لإيضاح هذا المطلب نقول انّ جميع الحوادث التي تحدث و الموجودات التي توجد في العالم، مرتبطة كلّها و منوطة بالسبب و العلّة التي نشأت عنها، و انّها تتحقّق في الخارج بعلّة الصدور عن تلك العلّة.
و بناءً على هذا فانّ جميع الأفعال و الأقوال التي يفعلها النبيّ على ميزان واحد، و هي كلّها على صواب و حقّ و طاعة، و معلولة لسبب موجود في نفس النبي، و هو نفس الملكة و القوّة الرادعة التي توجد في النبيّ.
تماماً مثل حالنا حين نعمل عملًا، فاننا لا نفعله دون ان نتصوّر صورته أولًا، و نميل اليه ثانياً، ثم نصدر إرادة تحقّقه. كما انّه يجب علينا- من اجل أن نفعل شيئاً- ان نتصوّر في الوهلة الاولى شكله و منظره، ثم نجد رغبة إلى ذلك العمل في الوهلة الثانية، ثم نوجد في الوهلة الثالثة في أنفسنا إرادة القيام بذلك العمل.
و الحال كذلك لدى الأنبياء أيضاً، فانّ الأفعال التي تصدر عنهم تكون
بعد تصوّرهم للصورة العلميّة، و بعد ميلهم و إرادتهم لتحقّق ذلك العمل.
و لإيضاح هذه المسألة نضيف: قد تصدر منّا نحن البشر أعمال حسنة أو سيّئة، فالأعمال الحسنة ينبغي علينا أولًا ان نتصوّر صورتها العلمية، ثم نقدم على فعلها بعد أن نجد لها في أنفسنا ميلًا و إرادة، و الأمر كذلك بالنسبة للأعمال السيّئة. و لو فرضنا انّ هناك أفراداً لا تخطر في أذهانهم صور يميلون اليها الّا و كانت صوراً جميلة و حسنة، لذا فانّه بعد تعلّق الإرادة بهذه الصور فانّه سيظهر من هؤلاء على الدوام اعمال حسنة. و على العكس فاذا ما وجدت على الدوام في أذهان بعض الناس صور قبيحة و مناظر للخيانة و الجناية و المعصية مع توفّر الإرادة أيضاً، فانّه ستصدر منهم على الدوام أفعال قبيحة، و هؤلاء هم أهل الشقاء، كما أن الفئة الاولى هم أهل السعادة.
انّ الأنبياء هم من اولئكم الفئة التي تنعكس في أذهانهم دوماً صور الخيرات و الأفعال الحسنة فيميلون اليها، ثم يفعلونها بعد تحقّق إرادتهم. و لأن تلك الصور تظهر في أذهانهم بشكل متعاقب، فانّ حصول تلك الصور يتحوّل لديهم إلى ملكة مثل ملكة العفّة و الشجاعة و السخاء و غيرها. و هذا عبارة عن ملكة العصمة فيهم. و بناءً على هذا فانّ صدور أفعال الأنبياء بوصف الطاعة سيكون دائماً و باستمرار مسبّباً عن الصورة العلميّة الحسنة الدائميّة، و ذلك هو إذعانهم القلبي بالعبوديّة، و المراد من الملكة هو رسوخ و عدم تغير الصورة العلمية في النفس.
أفضلية الأنبياء بسبب وجود الاختيار في أفعالهم:
و هذا هو سبب مزيتّهم و أفضليّتهم على سائر أفراد البشر، لأن ملكتهم النفسانية و قوّتهم العلميّة عالية جداً، بحيث يختارون دائماً الخيرات و الطاعات بعلمهم و إرادتهم غير المنفكّة عنهم، و الّا فاذا فُرض
انّ العمل الحسن يصدر منهم بدون العلم و الاختيار المرتبط بوجودهم، فانهم سيكونون أشبه بالساعة التي تُنصب فتتحرك دون اختيار، او كمثل مفتاح الباب الذي يفتح الباب دون اختيار و إرادة، بل بسبب حركة اليد.
فأي فضيلة و شرف سيكون لهم في مثل هذه الحالة؟!
و إضافة إلى ذلك فانّنا نعلم انّ الأنبياء يتلقّون الوحي فلا يُخطئون في التلقّي و التبليغ، و لو كان هذا التلقّي و التبليغ غير مستند إلى القوّة النفسانية و الملكة الموجودة فيهم، و بدون الأسباب الموجودة بوجود الأنبياء و المقترنة بواقعيّتهم و وجودهم، لاستلزم ذلك انّ هذه الأفعال ستصدر بدون علم النبيّ و إرادته، و بذلك فانّ أفعال النبيّ ستخرج عن الاختيار، و هو ما يتنافى مع افتراضنا بأن النبيّ مختار كسائر أفراد البشر.
و بناءً على هذا فانّ كلّ الأفعال التي تصدر عن الأنبياء قولًا و فعلًا، و المعجزات التي تظهر على يدهم، كانت كلها بسبب علمهم و اختيارهم، و مستنده إلى ملكتهم و كيفيّتهم و حالتهم القلبيّة، و ذلك كلّه مستند أيضاً إلى إذن الله و حفظ الملائكة الذين يحفظون بهذا الطريق حالاتهم القلبيّة و الاختياريّة و صورهم العلمية و ملكاتهم النفسيّة.
و ينتهي هنا بحثنا عن عصمة الأنبياء، و يتضّح بشكل كامل كيفيّة إفاضة هذه الموهبة الالهية، و يتعيّن فضلهم و شرفهم بالنسبة لسائر البشر، فلا بدّ- من أجل توضيح مقاماتهم و درجاتهم التي ذكرناها في الدروس السابقة- أن نبحث عن كيفيّة الخلقة و عن كيفيّة حصول ملكة العصمة فيهم، و هذا ما يحتاج إلى عدّة أبحاث.
الخلقة عبارة عن الظهور لا الولادة و الخروج:
البحث الأوّل: انّ عالم الخلقة بما فيه الموجودات المجرّدة و الماديّة، هو ظهورٌ لنور وجود الباري تالي شأنه، و جميع الممكنات هي مظاهر
و تجليات لتلك الذات المقدّسة، و لذلك فانّ كلّ ممكن يقتبس بقدر سعة ماهيّته و قابليته من نور وجود الحق تعالى، فينعكس شعاع ذلك النور الطاهر في مرآة وجوده، فيتخلّع بخلعة وجوده.
و ليس معنى الخلقة خروج شيء من ذاته المقدّسة و إيجاد شيء مستقلّ في الخارج، بحيث يقوم بنفسه و يستند إلى نفسه في أصل الوجود، أو في استمراره أو في الصفة و الفعل.
و بناءً على هذا فانّ جميع عالم الوجود- عدا ذات الربّ- قائمٌ به و مستند اليه و معتمد عليه، بحيث انّه لو فُصل عن هذا الإتّكاء و القيام و الاعتماد لحظة واحدة لانغمر عالم الخلقة في ظلمة الفناء و العدم.
{يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}۱.
و على هذا الأساس فانّ اظهار الأنبياء لعجزهم و مسكنتهم مقابل ساحة الله سُبحانه، و مشاهدتهم فاقتهم و فقرهم أمام الذات القدسيّة، و تعفيرهم سيماء التذلّل في التراب في مناجاتهم، لم يكن تصنّعاً أو مُجاملة، بل كان حاكياً عن أمر حقيقيّ واقعيّ، و لذلك فاننا لا نفرّق من هذه الجهة بين الأنبياء و الأئمة و سائر الناس من أي صنف أو طبقة، فكلّ ما يمتلكه أحد يمتلكه بالله و مع الله، امّا بدون الله فانّ الجميع لا يمتلكون شيئاً.
بناء أساس عالم الوجود مبني على اختلاف الموجودات
أساس عالم الوجود مبني على اختلاف الموجودات:
البحث الثاني: انّ اساس عالم الوجود مبني على الاختلاف في الظهورات و التجليات، و هذه المسألة كانت مشهودة في الفلسفة تحت عنوان (الوَاحدُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ إلَّا الوَاحِدُ) و في العرفان تحت عنوان (لَا
تِكْرَارَ في التَّجَلي) من قبل العرفاء الأجلّاء من الأولياء ذوي العزّة و المقدار، كما كانت مورد بحث الحكماء الراشدين المسلمين.
اي انّه يستحيل في جميع عالم الخلقة وجود موجودين متساويين من جميع الجهات. نعم، يوجد بعض الموجودات المتشابهة في بعض الجهات، و لكن وجود موجودين متشابهين متماثلين من جميع الجهات أمرٌ يمتنع تحقّقه.
و قد أقرّت العلوم التجريبيّة اليوم بهذا الأساس، و أثبتت على ضوء القياس و الإستقراء و التجارب المستمرّة بأنّه لا يوجد تشابه من جميع الجهات بين موجودين اثنين، و انّ لكلّ موجود مميّزات منحصرة به. حتى انّه لا يوجد بين أفراد الإنسان منذ خلقة آدم أبي البشر إلى يوم القيامة انسانان متشابهان من جميع الجهات، لا من جهة الذاتيّات و الصفات، و لا من جهة الأعراض الزمانية و المكانية و الكيفيّة و الكميّة و غيرها، حتى انّه لا يوجد انسانان متشابهان في الخطوط الموجودة في بنان أصابعهما و في الخطوط المنقوشة على بدنيهما، و يُستفاد من هذا الاختلاف في أمر تشخيص هويّة المجرمين.
بل انّ خطوط الجلد الموجودة في أي نقطة من جسم الإنسان تختلف عن غيرها في جزء آخر من نفس الجسم، فالخطوط الموجودة على أصابع الكفّ الأيمن مثلًا تختلف عن الخطوط الموجودة على أصابع الكفّ الأيسر، و خطوط سبّابة اليد اليمنى تختلف عن خطوط بقيّة الأصابع في نفس الكف.
و لذلك، و على أساس هذا الأصل الكلي و الدائمي فانّ كلّ فرد من أفراد الإنسان يختلف في تشكيل الخلقة عن الأخر، و كما يتفاوتان في السيماء و الشكل و الشمائل، فانهما يتفاوتان أيضاً إلى حدّ كبير في
الملكات و الغرائز.
و يلاحظ في مرحلة الطفولة انّ بعض الاطفال يتفاوتون في مقدار السخاء و الايثار، و في الحياء و العفّة، و في المتانة و الأصالة، و في الشجاعة و الذكاء و الفهم و النباهة، لذا فان الأنبياء و الأئمة يتفاوتون مع سائر البشر، بل انّ الانبياء في نفس الوقت الذي بُعثوا فيه بأجمعهم من قبل الله و اوكلت اليهم مهمّة ابلاغ الرسالة، و مع اتّفاقهم على دعوة الناس إلى مقام التوحيد، و بعبارة مختصرة، مع انهم كلّهم من مبدأ واحد و يرجعون إلى مرجع واحد، و ان مجيئهم و ذهابهم من مكان واحد و إلى مكان واحد، يشهد على ذلك قوله تعالى على لسان المؤمنين:
{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}۱.
فانّهم في نفس الوقت يختلفون و يتفاوتون من جهة سعتهم الوجودية، التي يتبعها تفاوتهم في الغرائز و الصفات و المواهب الالهيّة.
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}٢.
و هذا الاختلاف واضح و مشهود في هذه الآيات المباركة التي تشرح قصص الأنبياء و صفاتهم.
جميع الموجودات التي تحمل القوّة و الاستعداد تتحرك باتجاه الكمال:
البحث الثالث: انّ هناك حركة نحو الكمال في جميع الموجودات التي تمتلك قوّةً و استعداداً، و التي ينبغي ان توصل قابلياتها إلى مرحلة
الفعلية. و نتيجة هذا السير و الحركة هي العبور من مراحل الكمون و الاستعداد و الوصول إلى مراحل ظهور الكمال و الفعلية. و هذه الحركة موجودة في جميع موجودات عالم الطبع، بما فيها الانسان و الحيوان و النبات و الجماد، كما انّ السير و العبور من المراحل البدويّة إلى المراحل النهائيّة أمر مشهود.
و لأنّ الأنبياء و الأولياء هم كسائر أفراد البشر غير مستثنين من هذه القاعدة، فاننا نرى انّ مراحل تكوينهم تبدأ في هذا العالم من سُلالة من ماء مهين، ثم تطوي مراحل استعدادها و فعلياتها المختلفة، و تتخطّى مراحل الاستعداد واحداً بعد آخر، من نطفة و علقة و مضغة و تشكّل العظام و إكسائها باللحم، ثم انشاء خلقة الروح و تبديل المادة إلى النفس المجرّدة الناطقة، فتستقبل مراحل الفعلية واحدةً بعد اخرى، إلى أن تصل إلى مرحلة الفعلية التامة:
{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}۱.
كما انّ الأنبياء هم- من جهة السير و الحركة الطبيعية و الطبعيّة و الماديّة- كسائر أفراد البشر في حركة من الصِغر إلى الكبر، و من الضعف إلى القوّة، و من صغر الجسم إلى كبره، يدلّ عليه قوله تعالى:
{قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}٢.
و قوله تعالى في آية اخرى:
{وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ
مِمَّا تَشْرَبُونَ}۱.
كما انّهم من وجهة نظر الكمالات الروحيّة و بروز القابليات و الغرائز و الصفات الباطنية و الملكات في سير و حركة، شأنهم شأن سائر أفراد البشر، حيث يقومون مدّة عمرهم بإيصال تلك الجواهر المكنونة إلى مرحلة الظهور و الفعلية التامّة.
كمال كلّ موجود في فعليّة قابليّة ذلك الموجود
البحث الرابع: انّ حصيلة و نتيجة إيصال القابليات إلى مرحلة الفعلية أمرٌ يتبع مباشرة للقابليات نفسها، ففعليّة الانسان مثلًا تابعة للقابلية الانسانيّة، و فعليّة الحيوان تابعة لقابلية ذلك الحيوان؛ فالنعامة لن تصل في سيرها التكاملي أبداً إلى فعلية صقر الصيد، كما انّ فعلية و كمال الخروف لن تظهر قابليات الجمل و الحصان. فكلّ واحد من هذه الانواع المختلفة و الأصناف المتفاوتة من الحيوانات يتحرك في جهة تلك الغريزة و القابلية، و يُظهر تلك القوة و القابلية الكامنة في ذاته، و يوصلها إلى مقام الظهور و البروز و الفعليّة و التماميّة.
على انّ جميع البشر، كما انّهم من وجهة نظر المادّة و الطبع و من جهة تكاملهم و تماميّتهم في سير و حركة، فانهم إلزاماً في حركة و سير من وجهة نظر الكمالات الروحية، و وفقاً للغرائز و الصفات التي وُهبت لهم، من أجل اكمال أنفسهم و إيصالها إلى الفعليّة المحضة. لذا يستحيل ان تكون فعلية فردين من افراد البشر متساوية و متماثلة من جميع الجهات.
و هكذا فانّ عيسى لن يكون موسى، و موسى لن يكون عيسى، لكنهما في حال النبوّة و في حال الموت غيرهما في حال النطفة أو في حال
الجنين او في حال الطفولة. و عيسى على نبينا و آله و عليه السلام مع انّه قد بُعث نبيّاً بينما كان طفلًا يتكلم في المهد، فانّه في حال نزول الانجيل و بروز المعجزات الالهيّة و دعوة بني اسرائيل، من شفاء الأبرص و إحياء الموتى و شفاء العُمي منذ ولادتهم، كان غير عيسى الذي كان في بطن أمّه مريم، و هكذا الحال بالنسبة إلى باقي الأنبياء.
انتظار الله سبحانه و عالم الوجود من كلّ فرد هو كماله المطلوب لا كمال غيره:
البحث الخامس: ان انتظار عالم الواقع و الخارج من كلّ فرد هو كماله المطلوب لا كمال غيره، فالعوالم المجرّدة و غير المجرّدة من العقول و الملائكة و الكواكب، و سيّارات الشمس و القمر، و الليل و النهار تتوقّع و تنتظر من كلّ فرد ايصال ثرواته الالهيّة على نحو حسن إلى مرحلة الفعلية، و أن لا يُهدرها أو يُفسدها، و لا تنتظر منه أن ينال في مسيرته و حركته المراحل الفعلية لسائر الموجودات التي تختلف عنه في اعطاء الغرائز و الصفات الالهيّة:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها}۱.
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها}٢.
انّ الله هو العدل المحض، لذا فانّه لا يظلم مثقال ذرّة:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً}٣.
لأنّ الظلم يعني الانتظار و التوقّع من النملة و تكليفها بالقفز كما تفعل
الجرادة، فإن خالفت عُذّبت و عوقبت، امّا اذا انتُظِرَ من النملة، حسب شعورها و إدراكها، أن لا تسلب ظلماً حبّةً من فم نملة أصغر، فانّ هذا ليس بظلم، و هذا التكليف تكليف بالحق بمقدار القابليّة و الفهم و الإدراك، و متلائم و السعة و الظرفيّة الوجوديّة للنملة، و هو عين العدل المحض.
و اذا ما كلّف الله أفراد الأمّة بمثل التكليف الذي كلّفه للأنبياء فانّ هذا سيكون ظلماً، اما اذا انتظر من كلّ فرد من أفراد الأمّة ظهور و بروز استعداداتهم و قابلياتهم في طيّ طريق الله و لقاء حضرته، و كلّفهم بالمجاهدة و الصبر و العبودية قدر سعتهم و ظرفيّتهم في متابعة ذلك النبيّ، فانّه لن يكون ظلماً أبداً.
الأنبياء كانوا عالمين و مختارين في جميع أفعالهم، المعجز منها و غير المعجز
البحث السادس: انّ الأنبياء يمتلكون علماً و اختياراً شأنهم شأن سائر افراد البشر، و الافعال التي تصدر عنهم بعنوان المعجزة أو الوحي الالهي الذي يبلغونه للناس، او في مقام العبودية و الاستكانة عند ما يعفّرون وجوههم بتراب المذلّة امام الله، هي كلها نابعة من علمهم و اختيارهم، فلا يصدر شيء منهم اضطراراً أو إجباراً، لكنّ التزكية و الطهارة و العلم و القدرة الفكريّة و العملية تترشحّ كلها بإذن الله من كيانهم، و يظهر- تبعاً لذلك- آثار و خواص عجيبه و خارقة للعادة.
و الآن و قد أصبحت هذه الأبحاث واضحة و معيّنة، فقد اتّضح كذلك كيفيّة خلقة الأنبياء و الأئمة عليهم السلام و كيفيّة عصمتهم.
فأوّلًا انّ ملكة العصمة في الأنبياء التي تحذّرهم من أي خطأ أو معصية، كانت اثر الموهبة الالهية، و منسجمة كاملًا مع عنوان الوراثة و التأييد بروح القدس، لكنّ هذه العصمة كانت كذلك في المراحل الاولية
بعنوان القوّة و القابلية، و هي معهم في كلّ الأحوال، في النوم و اليقظة و التجليات، و قد وصلت؛ على اثر المجاهدة و العبوديّة التامة و الابتلاءات الثقيلة و الامتحانات الكثيرة؛ إلى مرحلة الفعلية و التماميّة.
عيناً مثل سائر الملكات المكتسبة لأفراد البشر من العلوم و الفنون و الصنائع، التي تبقى- بعد حصول الملكة- في أعلى درجاتها لا تنفصل عنهم أبداً، و تبقى في كلّ حال ملازمة لوجودهم.
ان فعليّة و تماميّة هذه الملكة أمر اكتسابي، لكنّ أصلها (أي القابلية و الاستعداد) موهبة تختصّ مراحلها العالية بالأنبياء و الأئمة، كما وُهبت سائر مراحلها لأولياء الله و المقرّبين له بحسب اختلاف درجاتهم.
ثانياً: ان ملكة العصمة فضيلة و شرف علميّ اختياريّ، و هي من صفات نفوس الأنبياء، و التي أصبحت على هذا الأساس سبباً في كرامتهم و شرفهم، و ميّزتهم عن سائر أفراد الأمّة، عيناً مثل ملكة علم الطبّ و الرياضيّات و الفلك التي تميّز عالم الطب و عالم الرياضيات و عالم الفلك عن سائر الأفراد، مع هذا الاختلاف انّ ملكة العصمة هي ملكة الواصل إلى الواقع و متن الحقيقة، و العلم الحضوري بالنسبة إلى الأشياء، و الوصول إلى حقيقتها الخارجيّة، و بالطبع فكما انّ الخطأ و الذنب ليس له معنى في متن الخارج، فانّ الذنب و الخطأ كذلك لا معنى له لدى الأنبياء.
بيد انّ ملكة علم الطب و الرياضيّات ليست كذلك، فهي تمنح القوة فقط لنفس الطبيب و عالم الرياضيّات في مجالٍ معيّن، بحيث يمكنه الاستفادة من ملكته و اظهار آثارها في الخارج في أي لحظة يشاء.
إعطاء ملكة العصمة للأنبياء ليس ظلمًا للأخرين، و دلالة كلام ابن سينا على ذلك
ثالثاً: انّ إعطاء هذه الملكة للأنبياء و عدم إعطائها لغيرهم ليس ظلماً و لا جوراً، لأن الظلم سيكون حين يُنتظر من موجودٍ ما نضح آثار تزيد عن حدّ وجوده؛ و الله سبحانه لم يكلّف غير الأنبياء بالتكليف الذي حمّلهم
ايّاه حسب السعة الوجوديّة لنفوسهم لئلّا يكون ذلك ظلماً، بل انّه كلّف كلّا حسب قابليّته و استعداده، علماً بأنّ قابليّة و استعداد الموجودات ليسا خارجين عن إحاطة قدرة الله بل هي بإعطائه، و كلام ابن سينا (مَا جَعَلَ اللهُ المِشْمِشَةَ مِشْمِشَةً بَلْ أوْجَدَهَا) له دلالة جيّدة على ذلك.
و بناءً على هذه فانّ الخالق العليم قد خلق الموجودات، و من جملتها أفراد الإنسان مختلفة متفاوتة دون أي ذرّة من الاستحقاق الذاتي، و ابتلى كلّا منها في طريق تكاملها، و من جملتهم الأنبياء الذين ابتلاهم- بسبب تفوّق قابليتهم التي وهبها الله لهم على قابليّات الأخرين- بابتلاءآت أعجب و امتحانات أصعب و مجاهدات أشقّ، فسلكوا هذا الدرب و طووا هذا السبيل بقدم الطاعة و الاختيار. و أخيراً، و لأن الكمال مختصّ بالله وحده، فان مرجع الكمالات من الأنبياء أو غيرهم، إلى الله وحده۱.
لقد تجلى الله سبحانه و تعالى في الأنبياء تجلياً تاماً، و تجلى في نبيّ الاسلام تجلّيا أتمّ و أكمل، كما تجلى في سائر الموجودات تجليات متفاوتة، و لا يعني هذا أنّ الله أخرج شيئاً من وجوده فأدخله فيهم، أو أنّه
سلب ملكية صفة و ملكة ما فنقلها اليهم.
{لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}۱.
فلا يوجد في عالم التوحيد موجود غير ذاته الأحدية المقدّسة، له بنفسه شيء يستحقّ المدح، لا الأنبياء و لا غيرهم، بل انّ كلّ شيء من الله و راجع اليه.
{لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ}٢.
الحمد و الشكر مختصّان بذات الخالق المقدّسة في النشئة الاولى و في النشئة الاخرى.
بلى، هذا المدح و الفضيلة و الشرف في عالم الكثرة و ظهور الموجودات على حسب اختلاف الكثرات و الاعتبارات، و من الواضح أن الأنبياء هم أفضل و أشرف جميع الموجودات لأنّ سعتهم الوجوديّة أكثر من جميع الموجودات، و لأن إدراكهم و علمهم أعلى، و مجاهدتهم و ابتلاءاتهم أكثر، وَ الحَمْدُ لِلّهِ أولًا وَ آخِرًا وَ ظَاهِرًا و بَاطِنًا.
كانت هذه مطالب بيّناها في شأن العصمة الكلّيّة للأنبياء.
إثبات عصمة أمير المؤمنين عليه السّلام عن طريق اتّحاد نفسه مع نفس رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم
إثبات عصمة أمير المؤمنين عن طريق اتّحاد نفسه مع نفس رسول الله.
انّ أمير المؤمنين له حكم نفس رسول الله بمقتضى النصوص الصريحة، و لذلك فانّ قلبه المبارك له ملكة العصمة القدسيّة. و الروايات الواردة في اتّحاد روحه عليه السلام مع روح رسول الله صلى الله عليه و آله، عن طريق أهل السنّة كثيرة، و نذكر بعضها كنماذج:
يقول القندوزي الحنفي:
و في المناقب عن علي بن الحسن، عن عليّ الرضا، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليّ عليهم التحيّة و السلام.
قَالَ: "إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه و آله خَطَبَنَا فَقَالَ: أيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ قَدْ أقْبَلَ إليكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالبَرَكَةِ وَ الرَّحْمَةِ و المغْفِرَةِ، وَ ذَكَرَ فَضْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ ثمَّ بَكَى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا يُبْكِيكَ؟
فَقَالَ: يَا عليّ! أبْكِي لمَا يُسْتَحَلُّ مِنْكَ في هَذَا الشَّهْرِ؛ كَأنِّي بِكَ وَ أنْتَ تُرِيدُ أن تُصَلي، وَ قَدِ انْبَعَثَ أشْقَى الأوَّلينَ وَ الآخِرِينَ، شَقِيقُ عَاقِرِ نَاقَةِ صَالِحٍ، يَضْرِبُكَ ضَرْبَةً عَلى رَأسِكَ، فَيَخْضبُ بها لِحْيَتَكَ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَ ذلِكَ في سَلَامَةٍ مِنْ دِيني؟
قَالَ: في سَلَامَةٍ مِنْ دِينِكَ.
قُلْتُ: هَذَا مِن مَوَاطِنِ الْبُشْرَى وَ الشُّكْرِ.
ثم قَالَ: يَا عَلي! مَن قَتَلَكَ فَقَدْ قَتَلَني، وَ مَن أبْغَضَكَ فَقَدْ أبْغَضَني، وَ مَنْ سَبَّكَ فَقَدْ سَبَّني، لأنَّكَ مِني كَنَفْسِي، رُوحُكَ مِن رُوحِي، وَ طِينَتُكَ مِن طِينَتِي، وَ إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى خَلَقَني وَ خَلَقَكَ مِنْ نُوري، وَ اصْطَفَاني وَ اصْطَفَاكَ، فَاخْتَارَني لِلنُّبُوَّةِ وَ اخْتَارَكَ لِلإمَامَةِ.
فَمَنْ أنكَرَ إمَامَتَكَ فَقَدْ أنْكَرَ نُبُوَّتِي. يَا عليّ أنْتَ وَصِيِّي، وَ وَارِثِي، وَ أبُو وُلْدِي، وَ زَوجُ ابْنَتِي، أمْرُكَ أمْرِي، وَ نَهْيُكَ نَهْيِي، اقْسِمُ بِاللهِ الذي بَعَثَني بِالنُّبُوَّةِ، وَ جَعَلَني خَيرَ البَرِيّةِ، إنَّكَ لَحُجَّةُ اللهِ عَلى خَلْقِهِ، وَ أمينُهُ عَلى سِرِّهِ وَ خَليفَةُ اللهِ عَلى عِبَادِهِ"۱.
و قد وردت في هذه الرواية فقرات صريحة في اتّحاد روح عليّ عليه
السلام المقدّسة مع روح النبيّ، و أكثر ما يستحقّ التأمّل و الاهتمام قوله صلى الله عليه و آله: "فَمَنْ أنْكَرَ إمَامَتَكَ فَقَدْ أنْكَرَ نُبُوَّتِي".
اذ يتّضح منها انّ مسألة الإمامة هي روح الإسلام و حقيقة الإيمان، إلى الحدّ الذي يصبح الإنسان بدونها عارياً عن الايمان و مُنكراً للنبوّة، و لو اعترف آلاف المرات بالنبوّة.
يقول في (السيرة الحلبيّة): قَالَ أبُو بَكْر: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه [و آله] و سلّم يِقُولُ: "عَلي مِنّي بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَبِّي"۱.
و يقول القندوزي: عَن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و آله: عليّ "مِني وَ أنَا مِنْهُ، وَ هُوَ وَليّ كُلٌّ مُؤمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ بَعْدِي". رواه صاحب الفردوس٢.
كما يروي عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: "لِكُلِّ نَبِيّ صَاحِبُ سِرٍّ وَ صَاحِبُ سِرِّي عليّ بْنُ أبي طَالِبٍ". رواه صاحب الفردوس٣.
و يقول أيضاً: علي عليه السلام رفعه عنه صلى الله عليه و آله: "خُلِقْتُ أنَا وَ عليّ مِنْ نُورٍ وَاحِدٍ"٤.
و يروي كذلك عن أنس قال: رَأيتُ رَسُولَ اللهِ جَالِساً مَعَ عليّ فَقَالَ: "أنَا وَ هذَا حُجّةُ اللهِ عَلي خَلْقِهِ". رواه صاحب الفردوس٥.
و يروي كذلك عن عبد الله بن مسعود قال: قَالَ صلى الله عليه
[و آله] و سلّم: "أنَا وَ عليّ مِن شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ و النَّاسُ مِنْ أشْجَارٍ شَتَّى". رواه صاحب الفردوس۱.
و يقول أيضاً: يروي صاحب كتاب (مودّة القربى) عن ابن عبّاس رضي الله عنه رفعه: "خُلِقْتُ أنَا وَ عليّ مِن شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ و النَّاسُ مِنْ أشْجَارٍ شَتَّى".
و في رواية عنه: "خَلَقَ الأنبِيَاءَ مِن أشْجَارٍ شَتَّى وَ خَلَقَني وَ عَليًّا مِن شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأنَا أصْلُهَا، وَ عليّ فَرْعُهَا، وَ الْحَسَنُ وَ الحسين ثِمَارُهَا، وَ أشْيَاعُنَا أوْرَاقُهَا، فَمَنْ تَعَلَّقَ بها نَجَى، وَ مَن زَاغَ عَنْهَا هَوَى"٢.
قصّة ليلة المبيت و إيثار و تضحية أمير المؤمنين عليه السّلام لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم
ايثار و تضحية أمير المؤمنين لرسول الله:
لقد لازم أمير المؤمنين عليه السلام النبيّ في جميع المراحل، و كان يفديه بروحه و لا يتوانى دقيقة عن الإيثار، و كان كفّار قريش يعذّبون المسلمين كثيراً حتى أجبروهم على الهجرة إلى الحبشة بإذن رسول الله.
و قد ذهب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله مرّة إلى الطائف لطلب النصرة و المساعدة و استنصرهم قائلًا: لا اكره أحداً منكم، انّما أريد
ان تمنعوني ممّا يُراد بي من القتل حتى ابلغ رسالات ربّي۱.
فلم يقبله أحد، و قعدوا له صفّين، فلما مرّ رسول الله رجموه بالحجارة حتى أدموا قدمه، ثم أخرجوه من الطائف.
و لمّا توفّي أبو طالب اجترأت قريش على رسول الله، فلم يعودوا يتورّعون عن إصابته بكلّ أنواع الأذى، و كانوا يرجمون بيته دوماً بالخشب و الحجارة، و يُهيلون عليه التراب في الطريق.
و عاد رسول الله إلى بيته يوماً و آثار التراب على رأسه و وجهه، فكانت احدى بناته تغسل التراب عن رأسه و وجهه و تبكي فيقول لها:
لا تبكي يا بُنيّة! انّ الله مانعٌ أباك!٢.
ثمَّ انّ الانصار قدموا إلى رسول الله و آمنوا به و بايعوه على انّه اذا ذهب اليهم في المدينة لحفظوه ممّا يحفظون منه أنفسهم و أولادهم، و لمنعوه من عدوّه.
و من جانب آخر فقد رأى كفّار قريش بأنهم عجزوا عن الوقوف أمام دعوته بمختلف الحيل، و لو بالوعد و الوعيد، و انّ عدد المسلمين كان يتزايد يوماً بعد آخر، حتى صمّموا في النهاية أن يجتمعوا في دار الندوة ليتّخذوا قرارهم النهائي في شأنه، فاجتمع منهم في دار الندوة أربعون رجلًا مجرّباً، ثم صمّموا على قتل النبّي بعد مناقشات طويلة، فاختاروا من كلّ قبيلة رجلًا للإشتراك في قتله، على أن يضربوه ضربة رجل واحد فيضيع دمه بين القبائل، و لا يستطيع بنو هاشم ان يحاربوا كلّ هذه القبائل فيقنعوا بالدية، فلا يضيرهم أن يسلموا الدية إلى بني هاشم.
لقد اتّفقوا على موعد معيّن، فاختاروا من كلّ قبيلة رجلًا شجاعاً ليتسلّلوا إلى بيت الرسول ليلًا دون أن يعلم بهم أحد فيقطّعونه بسيوفهم إرباً ارباً.
و كانوا جادّين في قرارهم غاية الجدّ، و كتموا ذلك عن الجميع فلم يخبروا به أحداً، و عند ما حلّ الموعد المعيّن، و كانوا يتأهّبون لاقتحام منزل النبّي ليلًا، نزل عليه جبرئيل فأطلعه على الأمر:
نزول آية {وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} في ليلة المبيت
{وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}۱.
و أمره أن يترك علياً أمير المؤمنين مكانه و يهاجر إلى المدينة، فأرسل الرسول الأكرم إلى على و قال له: "يا علي، ... انّه قد اوحى إلى جبرئيل عن ربّي عزّ و جل أن أهجر دار قومي، و انّه أمرني ان آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفى بمبيتك عليه أثري، فما أنت قائل أو صانع؟"
فقال علي عليه السلام: "أو تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبيّ الله".
قال نعم.
فتبسّم علي عليه السلام ضاحكاً، و أهوى إلى الأرض ساجداً شكراً لما نبّأه رسول الله صلى الله عليه و آله من سلامته. فكان عليّ عليه السلام اول من سجد لله شكراً، و أول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمّة. روى ابن الأثير باسناده عن ابن اسحق قال: و أقام رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم، يعني بعد أن هاجر أصحابه إلى المدينة، ينتظر مجيء جبرئيل عليه السلام و أمره له أن يخرج من مكّة، بإذن الله له في الهجرة إلى المدينة، حتى اذا اجتمعت قريش فمكرت بالنبيّ و أرادوا
برسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم ما أرادوا، أتاه جبرئيل عليه السلام و أمره أن لا يبيت في مكانه الذي يبيت فيه. فدعا رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم عليّ بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه و يتسجّي ببُردٍ له أخضر ففعل، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه [و آله] سلم على القوم و هم علي بابه۱.
و روى كذلك باسناده عن أبي رافع قال: و خلّفه رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم، يعني خلف عليّاً يخرج اليه بأهله، و أمره أن يؤدي عنه أمانته. و وصايا من كان يوصي اليه، و ما كان يؤتمن عليه من مال، فأدّى علي أمانته كلها، و أمره أن يضطجع على فراه ليلة خرج و قال: إنّ قريشاً لم يفقدوني ما رأوك! فاضطجع على فراشه، و كانت قريش تنظر إلى فراش النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم فيرون عليه علياً فيظنّونه النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم، حتى اذا أصبحوا رأوا عليه علياً فقالوا: لو خرج محمّد لخرج بعلي معه، فحبسهم الله بذلك عن طلب النبّي حين رأوا عليّاً.
نزف الدم من أقدام عليّ عند الهجرة إلى المدينة:
و أمر النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم عليّاً أن يلحقه بالمدينة، فخرج عليّ في طلبه بعد ما أخرج اليه أهله، يمشي الليل و يكمن النهار حتى قدم المدينة، فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلّم قال: ادعُوا لي عَليًّاً قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ لا يَقْدِرُ أنْ يمشِي، فأتاه النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم، فلما رآه اعتنقه و بكى رحمةً لما بقدميه من الورم و كانتا تقطران دماً، فتفل النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم في يديه و مسح بهما
رجليه و دعا له بالعافية، فلم يشتكهما حتى استشهد [عليه السلام]۱.
مباهاة الله ملائكته بإيثار أمير المؤمنين عليه السّلام رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم بنفسه
يقول اليعقوبي٢، و يروي القندوزي كذلك٣ قال: روى الثعلبي في تفسيره، و ابن عقبة في (ملحمته)، و أبو السعادات في (فضائل العترة الطاهرة) و الغزالي في (إحياء العلوم) بسندهم المتّصل عن ابن عبّاس، و عن أبي رافع، و عن هند بن أبي هالة ربيب رسول الله و أمّه خديجة أمّ المؤمنين، أنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: "أوحَى اللهُ إلى جبرئيلَ وَ مِيكَائيلَ: إني قَد ءَاخيتُ بينكُمَا وَ جَعَلْتُ عُمْرَ أحَدِكُمَا أطوَلَ مِن عُمرِ صَاحِبِهِ، فَأيُّكُمَا يُؤثِرُ أخَاهَ عُمْرَهُ؟
فَكِلاهُمَا كَرِهَ الموتَ، فَأوحَى اللهُ إليهِمَا: إني ءَاخَيتُ بين عليّ وَليّي وَ بين محمّدٍ نَبِيّي، فَأثَرَ عَلى حَيَاتَهُ لِنَبِيّي،
فرَقَدَ عَلى فِرَاشِ النَّبِيّ يَقِيهِ بِمُهْجَتِهِ. اهْبِطَا إلى الأرضِ وَ احْفَظَاهُ مِن عَدُوِّهِ. فَهَبَطَا فَجَلَسَ جبرائِيلُ عِندَ رَأسِهِ وَ مِيكَائِيلُ عِندَ رِجْليهِ، وَ جَعَلَ جبرائيلُ يَقُولُ: بَخٍّ بَخٍّ مَن مِثْلُكَ يَا بنَ أبي طَالِبٍ، وَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ يُبَاهِي بِكَ الملَائِكَةَ، فَأنْزَلَ اللهُ:
{وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ}٤.
و جاء في الروايات أن الرسول صلى الله عليه و آله توجّه عند خروجه من مكّة إلى غار (ثور) مباشرةً فمكث فيه ثلاثة أيّام، فجاءت العنكبوت فنسجت بيتاً على فوهة الغار، و جاءت حمامة فوضعت بيضها في باب الغار، ثم جاء الكفّار يقتفون آثار الرسول صلى الله عليه و آله حتى و صلوا باب الغار، لكنّ الله صرفهم عن الدخول إلى الغار.
و في ليلة المبيت اجتمع الرجال من العشائر المختلفة يريدون قتل الرسول صلى الله عليه و آله، و أرادوا الدخول إلى بيته ليقطّعوه إرباً إرباً، غير انّ أبا لهب لم يسمح لهم بالدخول و قال انّ في هذه الدار نساء بني هاشم و بناتهم فاقعدوا بنا على الباب نحرس محمّداً في مرقده لئلّا يفلت من أيدينا.
و أصبح الصباح فاقتحم الرجالُ البيت فوثب علي رافعاً البردة الخضراء عن وجهه، فقالوا له: أين محمّد؟ فقال: أ جعلتموني عليه رقيباً؟
ثم انهم لما أدركوا خروج النبّي صاروا في صدد البحث عنه و ملاحقته، فصان الله نبيّه بحوله و قوّته.
يقول السبط بن الجوزي: قال أحمد في الفضائل: حدّثنا يحيي بن حماد، حدّثنا أبو عوانه، حدّثنا أبو بكر بن محمّد، عن عمرو بن ميمون قال: إني لجالسٌ إلى ابن عبّاس إذ أتاه رَهطٌ يَقَعونَ في علي بن أبي طالبٍ عليه السلام، فردّ عليهم ابن عبّاس قال:
لمّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه [و آله] و سلم، لَبِسَ عَلي عليه السَّلامُ ثَوبَهُ وَ نَامَ عَلي فِرَاشِهِ، وَ كَانَ المشرِكُونَ يُؤذُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه [و آله] و سلّم. إلى أن قال:
وَ بَاتَ الْكُفّارُ يَرْمُونَ عَليّاً عَليهِ السَّلام بِالْحِجَارَةِ وَ هُوَ يَتَضَوَّر قَد لَفَّ رَأسَهُ في الثَّوبِ إلى الصَّبَاحِ.
إلى أن يقول:
أشعار أمير المؤمنين عليه السّلام في ليلة المبيت حسب رواية ابن عبّاس
قال ابنُ عبّاس: أنشَدَني أمير المؤمِنين شِعْراً قَالَهُ في تِلْكَ الليلة:
وَقَيْتُ بِنَفسِي خير مَن وَطَأ الْحَصَا | *** | وَ مَنْ طَافَ بِالبَيتِ العَتِيقِ وَ بِالحِجْرِ |
رَسُولُ إلهٍ خَافَ أن يمكُرُوا بِهِ | *** | فَنَجَّاهُ ذُو الطَّولِ العَلي مِنَ المكْرِ |
وَ بَاتَ رَسُولُ اللهِ في الغَارِ ءَامِناً | *** | مُوَقَّاً وَ في حِفْظِ الإلهِ وَ في سِتْرِ |
وَ بِتُّ اراعِيهِمْ وَ مَا يُثبِتُونَني | *** | وَ قَدْ وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلى الْقَتْلِ وَ الأسْرِ |
و أنشد حسّان في ليلة المبيت على ما نقله ابن الجوزي:
مَنْ ذَا بِخَاتمهِ تَصَدَّق رَاكِعاً | *** | وَ أسَرَّهَا في نَفْسِهِ إسْرَارَا |
مَنْ كَانَ بَاتَ عَلى فِرَاشِ محمّد | *** | وَ محمّدٌ أسْرَى يَؤُمُّ الْغَارَا |
مَنْ كَانَ في القُرآنِ سُمِّيَ مُؤْمِنَاً | *** | في تِسْعِ ءَايَاتٍ تُلينَ غزارا۱ |
ثم يقول ابن الجوزي: و قد أشار في هذا البيت إلى قول ابن عبّاس:
مَا أنْزَلَ اللهُ ءَايَةً في القُرآنِ إلَّا وَ عليّ عَليهِ السَّلامُ أميرهَا وَ رَأسُهَا٢.
و يقول السيّد الحميري:
وَ سَرَى بِمَكَّةَ حين بَاتَ مَبِيتَهُ | *** | وَ مَضَى بِرَوعَةِ خَائِفٍ مُتَرَقِّبِ |
خير البَرِيَّةِ هَارِباً مِنْ شَرِّهَا | *** | بِالليلِ مُكْتَتِماً وَ لم يَسْتَصْحِبِ |
بَاتُوا وَ بَاتَ عَلى الْفِرَاشِ مُلَفِّقَاً | *** | فيرونَ أنَّ محمّداً لم يَذْهَبِ۱ |
الدَّرْسُ السَّابِع: مَنْصَبُ الإمَامَةِ أعْلى مِنْ مَنْصَبِ النُّبُوَّةِ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة الّا بالله العلي العظيم
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ}۱.
منصب الإمامة أعلى من النبوّة:
ينبغي أن نبحث في هذه الآية المباركة عن المراد بالإمام؟ و عن المراد بالهداية بأمر الله؟ و عن العلاقة بين تعليل الإمامة بالصبر و الإيقان بآيات الله و بين الإمامة نفسها؟
و لتوضيح معنى الإمام نقول:
إعطاء منصب الإمامة لإبراهيم عليه السّلام كانت زمن شيخوخته
انّ الله تعالى يقول:
{وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}٢.
و الإمامة التي أعطاها الله لإبراهيم كانت في زمن شيخوخته، و بعد أن اجتاز جميع الاختبارات و من اهمّها ذبح ولده اسماعيل، فقد كان الله
سبحانه وهبه على الكبر اسماعيل و اسحق:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ}۱.
و لأنّ ابراهيم عليه السلام حين اعطى الإمامة فانّه سألها لذريّته، لذا فإنّ هذا الإعطاء و هذا السؤال حصلا حين امتلك ذريّةً في كبره. فهذا السؤال و الطلب لم يكن له من محلّ- في ظاهر الحال- قبل حصوله على الذريّة، و مع يأس ابراهيم و انقطاع أمله فيها. إذ كيف يمكن للإنسان اليائس من الحصول على الذريّة أن يسأل الله الإمامة لذريّته من بعده؟ لقد كان عليه ان لا يتعرّض إلى هذا الطلب، أو كان عليه على الأقل أن يقول: إن رَزَقْتَني ذُريَّةً؛ إن تعلّقت إرادتك بعد هذا- مع يأسى- فأعطيتني أولاداً فهل ستجعلهم أئمةً أم لا؟
و الدليل على يأس ابراهيم عليه السلام من الحصول على ذريّة هو آيات القرآن الكريم:
{وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ، قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ، قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ، قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ}٢.
و كانت سارة زوجة ابراهيم يائسة هي الأخرى من إنجاب الأولاد:
{وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
عَجِيبٌ ، قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}۱.
و يتّضح لدينا جيّداً من هذه الآيات القرآنية انّ ابراهيم كان يائساً من الحصول على الأولاد في آخر عمره، لذا فانّ سؤاله الإمامة لأولاده كان حين وهبه الله الإمامة، و ذلك في سني شيخوخته بعد أن وهبه الله اسماعيل و اسحق.
إعطاء مقام الإمامة لإبراهيم عليه السّلام كان بعد نبوّته
و نستنتج- بناءً على ذلك- انّ إمامة ابراهيم كانت بعد نبوّته، و بعد أن أصبح شيخاً كبيراً، أي انّ الإمامة تختلف عن النبوّة، بل هي مقام أعلى و أسمى.
و على هذا الأساس فانّ المراد بآية {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً}. اني سأجعلك قدوة يقتدي بها أفراد البشر في القول و العمل، فالإمام إذن هو الذي يجب ان يتبعه الناس في أفعالهم و أقوالهم و سلوكهم، و في النهاية في أفكارهم و عقائدهم و ملكاتهم.
و من هنا أخطأ بعضُ المفسّرين فتصوّروا أن المراد بالإمامة في هذه الآية الشريفة هو نفسه معنى النبوّة، لإنّ الناس يقتدون بالنبّي في دينهم، ثم أوردوا هذه الآية دليلًا على ذلك: {وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}٢.
و هو توهّم لا محل له أبداً، لأن لفظ (إماماً) في قوله تعالى {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً} وقعت مفعولًا ثانياً لجاعلك، و لأن (جاعل) اسم للفاعل لا يعمل اذا كان المعنى دالّا على الماضي و لا يأخذ مفعولًا، لذا فانّ
من المسلم انّه سيكون بمعنى الحال و الاستقبال. أي: يا ابراهيم اني سأجعلك إماماً. و لأنّ ابراهيم في هذا الخطاب كان في منصب النبوّة، لذا فان من المسلم أن الإمامة هي غير النبوّة. و إضافة إلى ذلك فانّ الخطاب نفسه: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً} كان وحياً من السماء، و لا يمكن أن يحصل دون وجود منصب النبوّة، لذا فانّ ابراهيم عليه السلام كان نبيّاً قبل منصب الإمامة، و انّ الإمامة لن تكون هنا بمعنى النبوّة.
لقد كانت هذه الإمامة بعد الإبتلاءات التي مرّ بها ابراهيم، و من جملتها ذبحه لولده اسماعيل، و كانت عند كبر ابراهيم و شيخوخته، فقد مرّ عليه- قبل ان يُرزق أولاداً- الملائكةُ الذاهبون لإهلاك قوم لوط، و كان آنذاك نبيّاً مرسلًا، و نتيجة لذلك فانّ إمامته كانت بعد درجة النبوّة.
و علّة خطأ هؤلاء المفسّرين كثرة استعمال لفظ الإمام في غير الموارد الصحيحة بتسامحات عرفية، بحيث حصل التصوّر بانّه يمكن إطلاق إسم الإمام على كلّ من يمتلك رئاسة أو تفوّقاً؛ و لأنّ النبّي مطاع و متفوّق، فقد عبّر عنه بالإمام.
لذا فقد فسّر البعض لفظ (إماماً) في هذه الآية المباركة بالنبيّ، و البعض بالرسول، و البعض بالمطاع، و فسّره البعض الأخر بالوصيّ و الخليفة و الرئيس و القائد، و جميعها غير صحيح، لأنّ معنى (النبيّ) من النبأ، و النبأ بمعنى الخبر. فالنبيّ هو الذي يخبره الله سبحانه في باطنه، و هو غير معنى الإمام. كما ان (الرسول) هو المكلّف بوظيفة التبليغ، و لا يستلزم ذلك أن يعتبره الناس قدوةً فيتبعونه في الظاهر و الباطن، أو يسمعون كلامه فيعملون به، و لذلك فانّ معنى الرسول هو أيضاً غير الإمام.
امّا (المطاع) فهو الإنسان الذي له من الاحترام و الحيثيّة بحيث يُطيعه الناس، و هو من لوازم النبوّة و الرسالة و مختلف عن معنى الإمامة.
و امّا (الخليفة) و (الوصيّ) فمعناها النيابة لا الإمامة؛ كما انّ (الرئيس) يُقال للشخص الذي يكون مصدراً للحكم، و يستلزم ذلك أن يكون مطاعاً، و ليس لإيّ منها معنى الإمام.
الإمام من مادّة أمّ يؤمّ، و هو- كما ذكر- كونه قدوة، و الامام هو مطلق مَن يجب على الناس متابعته و النظر اليه و مشايعته في جميع آثاره في جميع الشؤون، من الحركة و السكون، النوم و اليقظة، الظاهر و الباطن، القول و العمل، و الأخلاق و الملكات و ...
لذا نرى انّ هذا المعنى للإمام في هذه الآية المباركة في غاية المناسبة و الحسن، أن يخاطب الله تعالى ابراهيم فيقول: بعد أن جعلتُك في مقام النبوّة و الرسالة، أي في مقام تلقّي الوحي السماوي و إبلاغه إلى أفراد الإنسان، فقد جعلتُك الآن قدوة يجب ان يتبعوا شئونها في جميع الجهات.
لكننا لو وضعنا أيّاً من تلك المعاني السابقة المذكورة في مكان الإمام لما صحّ المعنى، فليس صحيحاً ان نقول: اني جاعلك- بعد امتلاك مقام النبوّة و الرسالة- نبيّاً أو رسولًا او خليفةً او وصيّاً أو رئيساً.
و ينبغي أن يُعلم أيضاً أنّ مخالفة معنى الإمام لمعاني هذه الالفاظ ليس مجرّد عناية لفظيّة و اعتبارات كلاميّة، بل هو اختلاف في حقائق معانيها، ففي معنى الإمام حقيقة لا يمتلكها أي من تلك المعاني.
و لننصرف الآن و قد اتّضح المطلوب إلى تفسير الآية المباركة:
{وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ}.
حيث يُلاحظ هنا انّ الله تعالى جعل مع كلمة الأئمة صفة تلازمها، ألا و هي الهداية بأمر الله، كما انّ هذه النكتة مشهودة في آية اخرى في قصّة سيّدنا ابراهيم: {وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ ، وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ
وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ}۱.
و يُلاحظ هنا انّه قد ذكر صفة ملازمة لكلمة الأئمّة، أو بعبارة اخرى انّ جملة (يَهْدُونَ بِأمْرِنَا) جملة تفسيريّة لمعنى الأئمّة. لذا يجب ان يكون للإمامة عنوان الهداية أولًا، و ان هذه الهداية هي بأمر الله ثانياً؛ أي انّ الامام هو الذي يهدي الناس بأمر الله. و المراد بأمر الله هو الذي ذكر حقيقته في هذه الآية:
{إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}٢.
و في الآية: {وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}٣.
حيث يُستفاد من هذه الآيات أنّ أمر الله واحد لا تعدّد له، اضافةً إلى انّه ليس له زمان أو مكان، و ثانياً انّ أمره هو إرادته، فبمجرّد إرادته فانّ الموجود سيرتدي لباس الوجود، و ذلك نفسه هو ملكوت كلّ موجود. و حين يريد الله إيجاد موجود بأمره، أي ملكوت ذلك الموجود، فانّه يوجده.
و من الجليّ انّ الأمر هو نفس الجانب الثبوتي مقابل الخلق الذي يمثّل جانب التغيّر و الزوال و الفساد. قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}٤.
و بناءً على هذا فانّ الموجودات لها وجهتان: وجهة خلقيّة، و هي التي يُشاهد فيها التغير و الفساد و التدريج و الحركة، و وجهة الأمر التي
سيكون فيها الثبات و عدم التغير، و تلك الوجهة الأمريّة تسمّى بالملكوت، و هي حقيقة و واقعيّة الموجودات، و التي تقوم بها الوجهة الخلقية. و مع التغيرات و التبدّلات المشهودة في هذه الوجهة فانّ تلك الوجهة لا تتغير و لا تتبدّل.
هداية الموجودات على يد الإمام
و على هذا فانّ الأئمة الذين يهدون بأمر الله لهم تعامل مع ملكوت الموجودات، فهم يهدون كلّ موجود إلى الله و يوصلونه من وجهته الأمرية- و ليس فقط من وجهته الخلقية- إلى كمال الله تعالى.
انّ قلب الموجودات بيد الإمام، فهو يهديهم إلى الله تعالى من جهة السيطرة و الإحاطة بقلوبهم؛ فالإمام- إذاً- هو الذي يهدي الناس إلى الله، يهديهم بالأمر الملكوتي الموجود و الملازم له دائماً، و هذه في الحقيقة هي الولاية بحسب الباطن في أرواح و قلوب الموجودات، نظير ولاية كلّ فرد من أفراد البشر عن طريق باطنه و قلبه بالنسبة إلى أعماله، و هذا هو معنى الإمام.
أمّا في الآية الشريفة فانّ الله تعالى يبيّن علّة منح هذا المنصب بهذه الكيفيّة:
{لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ}۱.
أحدها الصبر في طريق الله، و المقصود بالصبر الإستقامة و الثبات في جميع الامتحانات و الابتلاءات التي تعرض للعبد في طريق العبوديّة و الوصول إلى المراد، و الأخر أن يكونوا قد وصلوا إلي مرحلة اليقين قبل ذلك.
و نرى في آياتٍ من القرآن المجيد انّها تَعُدُّ علامةَ اليقين كشفَ الحجب الملكوتيّة، فصاحب اليقين هو الذي يدرك حقائق الموجودات و ملكوتها، و المحجوب هو الذي يغطي قلبه ستار يمنعه من مشاهدة الأنوار الملكوتيّة، مثل قوله تعالى:
{وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}۱.
و هذه الآية تشير إلى انّ إرادة ملكوت السماوات و الأرض كان مقدّمة لإفاضة اليقين على قلب ابراهيم، و من هنا فانّ اليقين لن ينفصل عن مشاهدة الانوار الملكوتيّة.
و كقوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}٢.
لو كنتم تعلمون كعلم أصحاب اليقين، لرأيتم الجحيم و لشاهدتم حقيقة جهنّم أي ملكوت الأفعال القبيحة و معصية الله و النفس الأمّارة.
و كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ، وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}٣.
و يُستفاد من الآيات المتقدّمة انّ المقرّبين- أي أصحاب اليقين- هم الذين ارتبطوا بالملكوت و بحقائق العالم، و اجتازت قلوبهم جانب المشاهدة الخلقيّة، فلم يعودوا محجوبين عن الله، لا يحجبهم عنه الحجاب القلبيّ من المعصية و الجهل و الشكّ و النفاق، و اولئكم هم أصحاب اليقين الذين يرون العليّين و الحقائق الملكوتيّة للأبرار و الأخيار، كما أنهم
يشاهدون الحقيقة الملكوتيّة للأشرار و أهل المعاصي التي هي (الجحيم).
و بناءً على هذا فانّ الإمام و هو الهادي إلى أمر ملكوتي، يجب أن يكون قد وصل حتماً إلى مقام اليقين و انكشف له عالم الملكوت، و صار متحقّقاً بكلمات الله؛ و كما ذكر فانّ الملكوت هو الوجهة الباطنية للموجودات، لذا فانّ هذه الآية الشريفة {وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا}۱ تشير بوضوح إلى انّ كلّ ما يتعلّق بأمر الهداية، أي القلوب و الأعمال، فانّ باطنها و حقيقتها بيد الإمام، و وجهتها الملكوتيّة و الأمريّة حاضرة بمشهد من الإمام لا تخفى عنه لحظة واحدة.
تحقّق أمير المؤمنين عليه السّلام به مقام الإمامة و الولاية
انّ الألقاب التي منحها رسول الله صلى الله عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السلام تدلّ جميعها على حصول أمير المؤمنين على هذه الدرجة.
فقد روى القندوزي انّ رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم قال: "يَا عَلي أنتَ تُبْرِءُ ذِمَّتِي وَ أنْتَ خَليفَتِي عَلى امَّتِي"٢.
و يجب ان نعلم انّ ابراء الذمّة ليس المفهوم منه ان يقوم أمير المؤمنين بقضاء دَيْن رسول الله بأدائه بعض الدراهم مثلًا، بل ان المقصود به هو الوفاء بالعهد الذي قطعتُه للّه في أداء الرسالة و إيصال الحق إلى الناس و هدايتهم إلى الله،
فيا عليّ! أنت الذي تؤدّي هذا الدين، أنت الذي عقدت العزم على إنجاز هذا الأمر، فأنت تتعامل بواسطة نفسك القدسيّة مع قلوب و أرواح الناس من الباطن و مع أفعالهم و أقوالهم في الظاهر.
و نظير هذا المعنى الروايات الدالّة على: "يَا عَلي أنتَ تَقْضِي دَيْني"؛ و هذه المجموعة من الروايات كثيرة أيضاً.
يروي ابن الجوزي باسناده عن أحمد بن حنبل، بسنده المتّصل عن أنس يقول:
قلنا لسلمان الفارسي: سَلْ رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم مَنْ وصيُّهُ؟
فسألَ سَلمانُ رَسُولَ الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم، فقال: "مَنْ كانَ وَصيّ موسى بنِ عِمْرانَ؟ فقال: يُوشَعُ بنُ نُونٍ، قال: إنّ وَصِيّي وَ وَارِثِي وَ مُنْجِز وَعْدِي عليّ بنُ أبي طَالِبٍ عليه السلام".
ثم يقول: و الحديث الذي ذكرناه رواه أحمد في الفضائل و ليس في اسناده ابن زياد و لا هذه الزيادة، فذاك حديث و هذا حديث۱.
حديث أنس في ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام
يروي أبو نعيم الحافظ الاصفهاني و شيخ الاسلام الحمويني عن أنس
قال:
قال رسولُ الله صلى الله عليه [و آله] و سلم: "يَا أنَسُ! اسْكُبْ لي وُضُوءاً، ثم قَامَ فَصَلى رَكْعَتَينِ".
ثم قَالَ: "يَا أنَسُ أوَّلُ مَن يَدْخُلُ عَليكَ مِن هَذَا الْبَابِ أمير المؤمِنين، وَ سَيِّدُ المسلمين، وَ قَائِدُ الْغُرِّ المحَجَّلينَ، وَ خَاتم الوَصِيِّنَ".
قَالَ أنَسُ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ أجْعَلهُ رَجُلًا مِنَ الأنصَارِ، وَ كَتَمتُهُ، إذ جَاءَ عليّ، فَقَالَ: مَن هَذَا يَا أنَسُ؟
فَقُلْتُ: عليّ، فَقَامَ مُسْتَبشِراً فَاعتَنَقَهُ، ثم جَعَلَ يمسَحُ عَرَقَ وَجْهِهِ
بِوَجْهِهِ، وَ يمْسَحُ عَرَقَ عليّ بِوَجْهِهِ.
قَالَ عليّ: "يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ رَأيتُكَ صَنَعتَ شَيْئاً مَا صَنَعْتَ بي مِن قَبلُ".
قَالَ: "وَ مَا يمنَعُني وَ أنْتَ تُؤَدِّي عَني، وَ تُسْمِعُهُمْ صَوتِي، وَ تُبيّن لهم مَا اختَلَفُوا فِيهِ بَعْدِي"۱.
و يروي أبو نعيم الحافظ بسنده عن أبي برزة الأسلمي قال:
قالَ رسولُ الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم: "إنّ اللهَ تعالى عَهِدَ إلى عَهْداً في عليّ"، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ بينهُ لي.
فَقَالَ: اسْمَعْ! فَقُلْتُ: سَمِعْتُ! فقَالَ: إنِّ عَليّاً رَايَةُ الهدى، وَ إمَامُ أوليائِي، وَ نُورُ مَنْ أطَاعَني، وَ هُوَ الْكَلمةُ التي ألْزَمْتها المتَّقين٢، مَنْ أحَبَّهُ أحَبَّني، وَ مَنْ أبْغَضَهُ أبغَضَني، فَبَشِّرْهُ بِذلِكَ، فَجَاءَ عَلي فَبَشَّرْتُهُ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أنَا عبد الله، وَ في قَبْضَتِهِ، فَإن يُعَذِّبْني فَبِذَنبِي، وَ إنْ يُتِمُّ لي الذي بَشَّرْتَني بِهِ، فاللهُ أوْلى بي.
قال صلى اللهُ عليه [و آله] و سلم: اللَّهُمَّ أجْلِ قَلبَهُ، وَ اجْعَلْ٣ رَبِيعَهُ
الإيمانَ.
فقالَ اللهُ [تَبَارَكَ و تَعالى]: قَدْ فَعَلْتُ بِهِ ذَلِكَ، ثم إنَّهُ رُفِعَ إلى أنَّهُ سَيَخُصُّهُ بِالبَلَاءِ بِشَيءٍ لم يَخُصَّ بِهِ أحَداً مِنْ أصْحَابي.
فَقُلْتُ: يَا رَبِّ! أخِي وَ صَاحِبِي.
فَقالَ تعالى: إنَّ هذا شَيءٌ قَدْ سَبَقَ، إنَّهُ مُبْتَلى وَ مُبْتَلى بِهِ"۱.
مكر قريش بأمير المؤمنين عليه السّلام
يروي القندوزي الحنفي عن كتاب (المناقب) للموفّق بن أحمد الخوارزمي، و الحمويني باسناده عن أبي عثمان النهدي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام،
قال: "كُنْتُ أمْشِي مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه [و آله] و سلم، فَأتَيْنَا عَلى حَدِيقَةٍ فَاعتَنَقَني وَ أجْهَشَ بَاكِياً، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
فَقَالَ: أبْكِي لِضَغَائِنَ في صُدُورِ قَومٍ لَا يُبدُونَهَا لَكَ إلَّا بَعْدِي".
فَقُلْتُ: في سَلَامَةٍ مِنْ دِيني؟ (أي غير مُبتلٍ بهوى النفس، فأرجّح في انتقامي منهم هوى نفسي و الرئاسة على رضا الله، و هل سأكون على هذا النهج و الصراط المستقيم؟)
فَقَالَ: في سَلَامَةٍ مِنْ دِينِكَ"٢.
و روى في ديوانه أشعاراً له عليه السلام، قال: و في ديوانه كرّم الله وجهه:
تِلْكُمْ قُرَيْشٌ تمنَّاني لَتَقْتُلَني | *** | فَلَا وَ رَبِّكَ مَا بَزُّوا وَ لَا ظَفَرُوا |
إمَّا بَقيتُ فَإني لَسْتُ مُتَّخِذاً | *** | أهْلًا وَ لَا شِيعَةً في الدِّينِ إذْ فَجَرُوا |
قَدْ بَايَعُوني فَلم يُوفُوا بِبَيْعَتِهِمْ | *** | وَ مَاكَرُوني في الأعْدَاءِ إذْ مَكَرُوا۱ |
الدَّرْسُ الثَّامِن: الوَلايَةَ التَّكْوِينِيَّةُ لِلإمَامِ بِإذنِ اللهِ عَلى نُفُوسِ السُّعَدَاءَ وَ الأشْقِيَاءِ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة الّا بالله العلي العظيم
الإمامة هي الهيمنة على عالم الأمر
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ، وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا}۱.
انّ كلّ موجود من الموجودات الخارجيّة، و حتى أفعال الإنسان، له وجهتان، وجهة ظاهريّة مشهودة و محسوسة تُدعى بالوجهة الخلقيّة و الملكيّة، و وجهة باطنيّة غير مشهودة و لا محسوسة تُدعى بالوجهة الأمريّة و الملكوتيّة.
و الوجهة الملكوتيّة و الأمريّة هي التي تظهر بواسطتها الوجهة الخلقيّة و الملكيّة، مثل إرادة الانسان التي يقوم بواسطتها بفعل الأفعال في الخارج.
و الإمام هو الذي يستطيع هداية البشر إلى الله من الوجهة الملكوتيّة، و تلك هي الهداية بالأمر و ليست زمانية و لا مكانية. و الآية الشريفة:
{وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا}۱ تعرّف اولئك الأفراد.
و تشير هذه الآية انّ كلّ ما يرتبط بأمر الهداية، أي القلب و العمل، فانّ باطنه و حقيقته بيد الإمام، و ذلك الباطن و الحقيقة- و هي الوجهة الأمريّة لتلك الأمور- حاضر دوماً عند الإمام لا يغيب عنه. و هذا المقام يستلزم الاطّلاع على أسرار الملكوت الذي سيكون اليقين من لوازمه. و بناءً على هذا فانّ مقام الإمامة أشرف من النبوّة.
مقام الإمامة أشرف من النبوّة:
ورد في (الكافي) عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تَعالى اتَّخَذَ إبْرَاهِيم عَبْدًا قَبْلَ أنْ يَتَّخِذَهُ نَبِيًّا، وَ إنَّ اللهَ اتَّخَذَهُ نَبِيًّا قَبْلَ أنْ يَتَّخِذَهُ رَسُولًا، وَ إنّ اللهَ اتَّخَذَهُ رَسُولًا قَبلَ أن يَتَّخِذَهُ خَليلًا، وَ إنَّ اللهَ اتَّخَذَهُ خَليلًا قَبلَ أن يجعلهُ إمَامًا، فَلمّا جَمَعَ لَهُ الأشْيَاءَ قَالَ: إني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا.
قَالَ: فَمِنْ عِظَمِهَا في عَينِ إبراهِيم قَالَ: وَ مِن ذُرِّيَّتِي؟ قَالَ {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
قَالَ: لَا يَكُونُ السَّفِيهُ إمَامَ التَّقِيّ"٢.
و ذلك لأن معنى النبوّة اتّصال القلب بعالم الملكوت، و تلقّي الوحي من جبرئيل، و هذا المعنى أقوى في الرسول، كما انّه سيكون هناك أيضاً مشاهدة الملائكة و ملائكة الوحي، لكنه يمكن في نفس الوقت ان لا يكون لكلّ منهم سيطرة على ملكوت بني آدم أو إحاطة بالقلوب ليسيروا بهم إلى الكمال و إلى مقامهم الواقعي،
فمقام الأنبياء و المؤمنين و العلماء هو مقام الإرشاد و التبليغ و إراءة الطريق فقط.
قال الله تعالى: {وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ}۱.
و تبيّن هذه الآية دائرة مأموريتهم، و هي مجرّد البيان و الدلالة على الطريق، و أمّا الإضلال و الهداية فهي بيد الله تعالى و ليس بيد الأنبياء منها شيء، خلافاً للإمام الذي يهدي بنفسه بإذن الله. يقول في هذا الشأن: {وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ}٢.
و قال أيضاً: {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}٣.
نعم هذا كلّه دلالة على الطريق و ليس منصباً للإمامة.
معنى الإمام:
و بناءً على هذا فإن أقوال و أحاديث الفقهاء هي فقط من باب نقل الرواية و بيان الحكم، لا من جهة حجّية الرأي و الفعل و القول؛ و من الخطأ أن يُطلق عليهم إسم الإمام. فالإمام هو الذي صار له- بوصوله إلى مقام اليقين و كشف الملكوت- الهيمنة على عالم الأمر، و صار باطن الأفعال مكشوفاً له، و صار بإمكانه- بسيطرته على الباطن- أن يهدي القلوب إلى المقاصد و الغايات.
و الأمر هو الإذن الذي تصدر المعجزة بواسطته من الأنبياء العظام،
فأحيوا به الموتى و قاموا بالأعمال الخارقة للعادة.
لقد قال عيسى بن مريم، على نبينا و آله و عليه السلام، لبني اسرائيل:
{أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}۱.
ففي هذه الآيات تعدّ خوارق العادات المنسوبة إلى عيسى بن مريم منوطةً بإذن الله تعالى، و لإنّ إذن الله ليس إجازة و أمراً اعتباريّاً و ترخيصاً خارجاً عن الملكوت، لذا فقد اعطى عيسى بن مريم قوّة التصرّف في أمر الملكوت، بحيث يتصرّف في ملكوت الأشياء بإرادته الملكوتيّة، و بحيث يستطيع تغيير ماهيّة الأشياء، فصار يُحيي الموتى و يُبرء الأبرص و الأعمى دون أسباب و دون إعداد المقدّمات في الخارج.
يجب أن يكون لدى الإمام قوّة ملكوتية في الأمور
و ينبغي ان يوجد لدى الأئمة عليهم السلام هذه القوّة حتماً، ليكونوا قدوةً للبشر من جانب الظاهر و الباطن، و ليقودوا الأمّة إلى كمال التكوين و التشريع.
و الأئمّة الأطهار لا يهدون فقط الأفراد الصالحين فيوصلونهم إلى كمالهم، بل انهم يهدون الأشقياء و أصحاب الأعمال السيّئة أيضاً و يوصلونهم إلى كمالهم.
{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ
يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ، وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا}۱.
و هذه الآية تبيّن أولًا انّ الناس جميعاً في كلّ زمان و مكان يمتلكون إماماً، و ذلك لأنّ الآية تقول على نحو الإطلاق و العموم بأننا سندعوا جميع افراد البشر يوم القيامة بإمامهم، لذا فانّ هناك إماماً في كلّ زمان و مكان هو مربّي أمّته، و بواسطته يدخل السعداءُ الجنّة، و الأشقياءُ النار، فهناك فئة من الأمّة هم أصحاب اليمين، أي أهل السعادة، و فئة أخرى عميٌ و هم أصحاب الشقاء، و المراد بهذه الفئة أصحاب الشمال، حيث صرّحت بذلك بعض آيات القرآن:
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً}٢.
{وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً}٣.
و هاتان الفئتان هما أصحاب اليمين و أصحاب الشمال الموجودون في كلّ مجتمع من المجتمعات، و الذين سيصلون إلى هذه المراحل بواسطة إمامهم، لذا فانّ المراد بهاتين الفئتين جميع افراد الأمّة باستثناء الإمام. امّا اذا أردنا أن نقسم البشر بحيث يكون الامام ضمنهم، فانّ علينا بتقريب آخر أن نقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
الجماعة الاولى: المقرّبون.
و الثانية: أهل السعادة و أصحاب اليمين.
و الثالثة: أهل الشقاء و أصحاب الشمال.
{فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ، وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}۱.
هؤلاء الذين سبقوا في السير إلى الله، اولئك المقرّبون من ساحة الله تعالى، و الذين تخطّوا الحساب و الكتاب و العرض و السؤال و الميزان و الصراط و جهنّم، فصاروا من المقرّبين إلى الله، و اختاروا السكنى في حرم الأمن و الأمان الالهيّ.
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}٢.
و هؤلاء هم الذين اجتازوا هذه العقبات في الدنيا؛ و في الوقت الذي كان البشر فيه منهمكين في شهواتهم النفسانية، كان المقرّبون مشغولين في تصفية حساباتهم، و كانوا يناجون ربهم سرّاً و علانية، و سيكون الأئمة عليهم السلام بالتأكيد ضمن هذه الفئة.
أمّا أصحاب اليمين فهم الصالحون الذين كانت أعمالهم موافقة للعقل و لأمر الإمام، فلا يبتعدون عن الحق و الصدق و الأمان و العبادة و الكسب و الأعمال الحسنة، لذا فانّ هؤلاء هم أهل الجنّة الذين سيُعطون كتاب أعمالهم بيمينهم كناية عن السعادة و الفوز و النجاة، و لكن باعتبار انهم لا يزالون محجوبين بالحجب القلبيّة، فلم يتمكّنوا أن ينسوا غير الخالق بشكل كامل، و أن يطأوا بأقدامهم على عالم الباطل و زينة الدنيا الخادعة، فانهم يجب أن يُحاسبوا، كما انّ مقامهم و منزلهم ليس مقام و محل المقرّبين.
امّا أصحاب الشمال فهم الذين لم يعملوا وفق أوامر العقل و الأنبياء، فواجهوهم و لم يتورّعوا عن ظلم أنفسهم، و هؤلاء هم أهل الفسق و الفجور و الخيانة و الكذب و الجناية، و بالطبع فانهم سيُعطون كتابهم بشمالهم كنايةً عن العذاب و الظّلمة و الشقاء و جهنّم.
و لأنّ ظهور و بروز هذه الخيرات و البركات في المؤمنين، و هذا الفجور و الخيانات في الفاسقين قد كان بسبب ظهور ولاية الإمام، لذا فانّ جميع افراد الأمّة يذهبون بواسطة إمامهم إلى الجنّة أو إلى جهنّم.
لذا فقد ورد في روايات كثيرة: "عليّ قَسِيمُ الجنّةِ و النَّارِ"۱. و هذه الروايات لم ترد عن طريق أهل البيت عليهم السلام فقط، بل انّه قد روى عن طريق العامّة أيضاً روايات من هذا القبيل.
و سنأتي بثلاث معانٍ لهذه الروايات هي الاخرى مترتّبة (إحداها على الأخرى)، أي اننا سنفسّرها في ثلاث مراحل متفاوتة من وجهة نظر ظهورها و خفائها.
معنى الروايات الواردة في انّ عليّاً قسيم الجنّة و النّار
الأول من وجهة نظر العمل، و هو انّ أمير المؤمنين كان له مقام الولاية و الإمامة من قبل الله، و فعله و قوله حجّة، أي ان جميع أفراد البشر يجب أن يقتدوا به في جميع شئون حياتهم.
و بناءً على ذلك، فانّ كلّ من يتبعه سيكون حقّاً من أهل الصدق و الصفاء و العبادة و التسليم و الجهاد و الجود و الإيثار، و من الواضح أنّ شخصاً كهذا هو من أهل الجنّة، و ذلك لأنّ الجنّة هي ظهور الأفعال و الملكات الحميدة في العوالم الأخرى، و كلّ من يرفض دعوته عليه
السلام و لا يقتدي بسيرته، و ينصرف إلى الكذب و الخيانة و التطفيف في الميزان و أكل الربا و التكاثر في الأموال و عبادة الشهوة و السعي وراء المنفعة و اتباع الهوى و الإعراض عن ذكر الله، فانّ من المسلم انّه سيكون من أهل النار، لأنّ جهنّم هي ظهور الملكات و الأفعال القبيحة في تلك العوالم.
و ما أوجب تفرّق هاتين الفئتين و انفصالهما عن بعضهما هو أمر و نهي مقام الولاية، الذي قبلته فئة و رفضته أخرى. لذا فانّه سيكون قسيم الجنّة و النار، شأنه شأن معلم يربّي تلاميذه و يعلمهم الدروس، فهناك فئة من التلاميذ يجدّون و يسعون فيتعلّمون تلك الدروس، و فئة أخرى تتكاسل و تأبى التعلّم، فيقوم المعلّم بإنجاح الفئة الاولى و بإفشال و إبقاء الفئة الأخرى في مكانها السابق، و كما انّ من الصحيح أن نقول انّ المعلم رفع فئة إلى مقامٍ أعلى و حبس أخرى في مكانها السابق، فانّ من الصحيح كذلك أن نقول: "عليّ قَسِيمُ الجنّةِ وَ النَّارِ".
الثاني: من وجهة نظر الحبّ و البُغض، لأنّ نتيجة روح العمل هي المحبّة، لذا فانّ الذين يفتقرون هذه المحبّة، بل اولئك الذين يربّون- و العياذ بالله- بُغضه (عليه السلام) في قلوبهم، هم في غاية البعد عن الحقيقة و الواقع، فالذي يحبّ شيئاً سيكون مسلّماً أن يحبّ آثاره أيضاً، و الذين يحبّون أمير المؤمنين سيحبّون أفعاله و أقواله و سيرته، و ستكون لهم محبّة لهذه الآثار. و على العكس فانّ أعداءه و مُبغضيه سيُبغضون سيرته و سنّته، لذا فانّ أعمالهم ستكون طبعاً أعمالًا خشنة و سيئة.
و لأنّ الأفعال الحسنة تُوجِد المحبة و الصفاء و النور في الإنسان، كما ان الافعال القبيحة توجِد ظلمة القلب و قساوته، فانّ محبّي أمير المؤمنين- بناءً على ذلك- هم طبعاً أصحاب الحقيقة و الصفاء و المحبّة، قلوبهم
أطيب و اكثر نوراً، و أنفسهم أخفّ، بينما أعداء أمير المؤمنين هم بالطبع بعيدون عن الحقيقة و الصفاء، قلوبهم مظلمة و أنفسهم مُتعبة و ثقيلة و أرواحهم مُدنّسة.
و لأنّ نتيجة الأعمال الحسنة هي ذلك الصفاء و النورانية و المحبّة للّه، كما ان نتيجة الأعمال القبيحة هي الظلمة و القساوة و الإعراض عن الله، لذا فانّ أمير المؤمنين بسبب تقسيم الناس إلى فئتين محبّ و مُبغض قد قسمهم إلى فئتين: أهل الجنّة و أهل النار.
تفسير الإمام الرضا عليه السّلام في مجلس المأمون في انّ عليّاً قسيم الجنّة و النّار
يروي القندوزي الحنفي عن أبي الصلت الهروي قال: قال المأمون لعليّ [بن موسى] الرضا عليه السلام: أخبرني عن جدّك أمير المؤمنين علي عليه السلام بأيّ وجه هو قسيم الجنّة و النار؟
فقال له الرضا: أ لم تروِ عن آبائك عن عبد الله بن عبّاس انّه قال:
"سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه [و آله] و سلّم يَقُولُ: حُبُّ عَلي إيمانٌ وَ بُغْضُهُ كُفْرٌ".
فقال: بلى.
فقال الرضا عليه السلام: فقسمة الجنّة و النار إذا كانت عليّ حبّه و بُغضه فهو قسيمُ الجنّة و النار.
فقال المأمون: لا أبْقَاني اللهُ بَعْدَك إنَّكَ وَارِثُ جَدِّكَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه [و آله] و سلم.
قال أبو الصلت الهروي: فلما انصرف الرضا عليه السلام إلى منزله أتيتُهُ، فقلتُ له:
يا بنَ رسول الله صلى الله عليه و آله، ما أحسنَ ما أجبتَ به أمير المؤمنين!
فقال الرضا عليه السلام: يا أبا الصلت! إنّما كلّمتُهُ مِن حيثُ هو،
وَ لَقَدْ سَمِعْتُ أبي يُحَدِّثُ عَن ءَأبائِهِ عَنْ عليّ عليهم السَّلامُ انّه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه و آله: "يَا عليّ أنْتَ قَسِيمُ الجنّةِ وَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقُولُ لِلنَّارِ: هَذَا لي وَ هَذَا لَكِ"۱.
كما يروي الخوارزمي الموفّق بن أحمد المكّي باسناده عن نافع، عن ابن عمر قال:
قال رسولُ الله صلى الله عليه [و آله] و سلم لِعَلي: "إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤتَي بِكَ يَا عليّ بِسَرِيرٍ مِنْ نُورٍ، وَ عَلَي رَأسِكَ تَاجٌ، قَدْ أضَاءَ نُورُهُ وَ كَادَ يَخْطفُ أبْصَارَ أهْلِ الموقِفِ، فَيَأتِي النِّدَاءُ مِنْ عِنْدِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ: أيْنَ وَصِيّ محمّد رَسُولِ اللهِ؟
فَتَقُولُ: هَا أنَا ذَا!
فَيُنَادِي المنَادِي: أدْخِلْ مَنْ أحَبَّكَ الجنّةَ وَ أدْخِل مَن عَادَاكَ في النَّارِ فَأنْتَ قَسِيمُ الجنّةِ وَ النَّارِ"٢.
كما يروي ابن المغازلي الشافعي بسنده عن ابن مسعود قال:
قال رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم: "يَا عليّ إنَكَ قَسِيمُ الجنّةِ و النَّارِ، أنْتَ تَقْرَعُ بَابَ الجنّةِ وَ تُدْخِلها أحِبَّاءَكَ بِغير حِسَابٍ"٣.
معنى «الوسيلة» في رواية النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم
و يروي الحمويني في (فرائد السمطين) عن أبي سعيد الخدري قال:
كان رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم يقول: اذا سألتم الله عزّ و جل فاسألوه لي الوسيلة٤، فسُئل عنها فقال: هي درجة في الجنّة، و هي
ألف مرقاة، ما بين المرقاة إلى المرقاة بسير الفرس الجواد شهراً، مرقاة زبرجد إلى مرقاة لؤلؤ إلى مرقاة ياقوت إلى مرقاة زمرد إلى مرقاة مرجان إلى مرقاة كافور إلى مرقاة عنبر إلى مرقاة يلجوج إلى مرقاة نور، و هكذا من أنواع الجواهر، فهي من بين درجات النبيّين كالقمر بين الكواكب، فيُنادي المنادي: هذه درجة محمّد خاتم الأنبياء، و أنا يومئذٍ متّزرٌ بريطة من نور، على رأسى تاج الرسالة و إكليل الكرامة، و عليّ بن أبي طالب أمامي و بيده لوائي و هو لواء الحمد مكتوبٌ عليه: "لا إلَهَ إلَّا اللهُ، محمّد رَسُولُ اللهِ، عليّ وَليّ اللهِ، وَ أولياءُ عَلي المُفلِحُونَ الْفَائِزُونَ بِاللهِ، حتى اصعد أعلى درجة منها و علي أسفل منّي بدرجة و بيده لوائي، فلا يبقى يومئذٍ رسولٌ و نبيّ و لا صدّيق و لا شهيد و لا مؤمن الّا رفعوا أعينهم ينظرون الينا و يقولون: طوبى لهذين العبدين، ما أكرمهما على الله، فينادى المنادي يسمع نداءه جميع الخلائق:
هذا حبيب الله محمّد و هذا ولى الله عليّ، فيأتي رضوان خازن الجنّة فيقول: أمرني ربّي أن آتيك بمفاتيح الجنّة فأدفعها اليك يا رسول الله، فأقبلها أنا فأدفعها إلى أخي عليّ، ثم يأتي مالك خازن النّار فيقول: أمرني ربّي أن آتيك بمقاليد النار فأدفعها اليك يا رسول الله، فأقبلها أنا فأدفعها إلى أخي عليّ، فيقف عليّ على عجزة جهنّم و يأخذ زمامها بيده و قد علا زفيرُها و اشتدّ حرّها، فتنادي جهنّم: يا عليّ ذرني فقد أطفأ نورُك لهبي! فيقول لها عليّ: ذري هذا وليّي و خُذي هذا عدوّي، فلجهنّم يومئذٍ أشدّ مطاوعة لعلي فيما يأمرها به مِنْ رقِّ أحدكم لصاحبه، و لذلك كَانَ عَلِيٌ
قَسِيمُ النّار و الجنّةِ۱.
الولاية تُظهر السرائر السليمة و السيّئة
ثالثاً: من وجهة نظر اشعاع نور الولاية و ظهور الحقائق و المخفيّات و بروز القابليات، و هذه المرحلة تحتاج إلى الدقّة و التأمّل؛ و لإيضاح هذه المرحلة نذكر مقدّمة بعنوان مثال و شاهد:
من المعلوم و المشهود انّ الشمس تبتعد في فصل الشتاء عن الأرض، فتفقد الأرض بعض حرارتها، و تفقد جميع آثارها و تجليّاتها، إذ تصبح كئيبةً باردة و تفقد آثارها الحياتيّة فليس فيها ظهور لخواص الموجودات او آثارها، فالأشجار يابسة لا ورق فيها و لا ثمر، كأنّها أخشاب يابسة مغروسة في الأرض، تقف اشجار التفاح و الكمثرى و الرمّان و المشمش و الجوز و الأشجار غير المثمرة كلّها سواءً و في رديف واحد، لا يميّزها عن بعضها شيء، إذ ليس فيها من ظهور أو فعليّة، كما انّ قابليّاتها الكامنة غير مرئيّة، لذا فانّها تقف في منزلة واحدة و تُعدّ أخشاباً يابسة لا ضرر و لا نفع لها.
كما ان الورود و الشقائق ذابلة كلّها و منكمشة بلا أثر، فلا ورد الياسمين و البنفسج يفوح بالعطر، و لا النباتات ذات الرائحة الكريهة تبعث برائحتها؛ لا نداوة هناك في الوردة الحمراء، و لا ورود الدفلى ذات الرائحة النفّاذة لها أثر من ذلك.
البلابل و طيور الكناري و الصقور و العُقبان قد انسحبت إلى أعشاشها و أوكارها، و الأفاعي و العقارب قد سبتت و رقدت هي الاخرى
مع الطيور البديعة الرائعة و تهاوت في جحورها و أعشاشها متثاقلة بلا حسّ.
و ما ان تقترب الشمس بأشعتها التي تغمر العالم مع حلول الربيع، و تُرسل إلى الأرض بأشعتها الباعثة على النشاط و الحياة، فانّ تلك القابليات الكامنة ستصل إلى مرحلة الفعليّة، فتبدأ شجرة التفّاح بإرسال أغصانها و أوراقها و ثمارها الحلوة الحمراء المعطّرة مزيّنةً جوّ الحديقة، و يظهر من شجرة الكمثرى هذه الفاكهة الخاصّة، و تُعلن شجرة المشمش بمنظرها الزاهي المحبّب و ثمارها الصفراء العطرة اللذيذة ميزتها الوجوديّة عن سائر ما يجاورها في الحديقة.
كما انّ الأشجار غير المثمرة و الأشجار ذات الثمار المرة أو الفجّة الحامضة و الضارّة مثل بعض أشجار الغابات ستُعلن عن تفاهة شخصيّتها و أثرها، و تطأطيء رؤسها أمام الأشجار الاخرى فليس لها بَعْدُ من مجالٍ للغرور و الاستكبار و التعالي.
كما ان الطيور و البلابل ستنشغل و تنهمك بالتغريد في فضاء الحدائق، بينما تحلّق طيور الزاغ و العُقبان باحثةً عن الجيف، و تظهر الأفاعي و الجرذان و العقارب و تُعلن عن وجودها متحركةً بين الصخور و الأنهار.
و كلّ ذلك بتأثير أشعّة الشمس و ظهور دفئها الباعث على الحياة و النشاط، فحين تبزغ الشمس فانّ كلّ موجود يُظهر قابليته و يُبرز مراحله الكامنة، بينما لم يكن هناك فرق بين الموجودات قبل طلوع الشمس و قبل بزوغ اشعاعها.
و هكذا الأمر بالنسبة إلى شمس الولاية، فقبل أن تطلع و تشرق على القلوب و الأفئدة، و قبل أن تأمر و تنهى، فانّ البشر سيعيشون في مستوي
واحد، فلا تفاوت بين الشقيّ و السعيد، و لا بين أهل الجنّة و النار، و لا بين مؤمن و كافر، و لا بين عادل و فاسق، و لا بين محبّ و مُبغض، و لا بين موحّد و مُشرك:
{كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً}۱.
كانوا كلّهم في مستوى واحد، و ما أكثر ما كان يحصل ان يعدّ الأشقياء أنفسهم أفضل من السعداء و يفتخرون بذلك؛ و لكن ما ان طلعت شمس الولاية و أشرقت على الأرواح الكئيبة، حتى بعثت الحركة و النشاط في النفوس و أظهرت غرائز و سرائر و ضمائر كلّ إنسان، فطووا باختيارهم طريق السعادة فأوصلوا كلّ القابليّات النورانيّة إلى مرحلة الفعليّة؛ أمّا الأشقياء فانّ خُبث السريرة سيظهر بسبب تمرّدهم و إنكارهم و جحودهم القلبيّ، و ستظهر الآثار القبيحة السيّئة لهم في مرحلة الفعل و القول.
و هكذا فانّ أصحاب الفطرة السليمة سيتراصّون في صفوف العبوديّة، و سيملأن الدنيا تواضعاً و إنفاقاً و إيثاراً و رحمةً و إنصافاً و ترحّماً على الأيتام و صدقاً و صفاءً و عدلًا و توحيداً.
امّا أصحاب الفطرة السيّئة فانّهم سيشكّلون صفوف الفجور و الفسق، فيملأون الدنيا خيانةً و قبحا و قساوة و اغتصاباً للحقوق و الأموال، و كذباً و ظلماً و شِركاً:
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}٢.
و بعبارة أخرى فلأنّ الإمام هو روح القرآن و حقيقته، و كما انّ
القرآن شفاء و نور و رحمة للمؤمنين، و سببٌ لرقيّهم و كمالهم، بينما هو في الوقت نفسه ظُلمة و خسران و وبال للظالمين و سببٌ لزيادة قسوتهم و ظلمهم، فانّ وجود الإمام عليه السلام له هذا الأثر و الخاصيّة أيضاً.
{وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً}۱.
انّ الآيات القرآنية تُقرأ على المؤمن و توجب رفع مقامه و منزلته بناءً على تقبّل قلبه و خضوعه و خشوعه و ازدياد إيمانه و توكّله، لكنّها عند ما تُقرأ على الكافر فانّها ستسبّب زيادة ظلمته و خُسرانه بسبب جحود قلبه و إنكاره و تمرّده.
حين تشرق شمس الولاية على قلوب المؤمنين كمصباح منير، فانّهم سيفيدون من تلك الحرارة و النور، و سيتصاعد العطر المنعش من أرواحهم و أسرارهم فيعطّر فضاء عالم الإنسانية، امّا قلوب الكافرين فتصبح متعبة كدرة، و ستزكم رائحة التعفّن الكامنة فيهم أنوف الإنسانية، و تسبب الملل و الضجر للعقل و الحق.
انّ الامام سيظهر، من وجهة نظر ملكوت البشر و قلوبهم، كلّ استعداد فيهم و يوصله إلى مقاصده، فيوصل المؤمنين إلى الجنّة و يُرسل الكافرين إلى النار، و يحرّك كل موجود من وجهة نظر ملكوته في طريق و صراط يتناسب معه.
{ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}٢.
انّ لكلّ فرد من المؤمنين مقاماً معلوماً في الجنّة، كما انّ هناك لكلّ
كافر مكاناً معلوماً في النار، و الوصول إلى هذه الغاية يتم بواسطة الامام الذي يهدي كلّ شخص في مسيره و هدفه من وجهة نظر التكوين؛ امّا من وجهة نظر التشريع، و بسبب القبول و الرفض الذي يجعل الكافرين و المؤمنين في صفّين متقابلين مختلفين، فانّه سيقود كلّا منهما إلى كمال استعداه.
و بناء على ذلك، فما أجمل قول رسول الله صلى الله عليه و آله و ما أروعه حين قال:
عَليّ قَسِيمُ الجنّةِ وَ النَّارِ.
يقول ابن شهر آشوب: شريك القاضي و عبد الله بن حمّاد الأنصاري قال كلّ واحد منهما: حضرتُ الأعمشَ في علّته التي قُبض فيها و عنده ابن شبرمة، و ابن أبي ليلي و أبو حنيفة، فقال أبو حنيفة: يا أبا محمّد [يخاطب الأعمش] اتّقِ الله و انظرْ لنفسك فانّك في آخر يوم من أيّام الدنيا و أوّل يوم من أيّام الأخرة، و قد كنت تحدّث في عليّ بأحاديث لو تُبتَ عنها كان خيراً لك.
قال الأعمش: مثل ما ذا؟
قال: مثل حديث عباية الأسدي: إنَّ عَليًّا قَسِيمُ النَّارِ.
قال (الأعمش): أقعدوني و سنّدوني! و حَدّثَني- و الّذي إليه مصيري- موسى بن طريف إمامُ بني أسد عن عباية بن ربعي امام الحيّ قال: سَمِعْتُ عَليًّا عليه السّلام يَقُولُ: "أنَا قَسِيمُ النَّارِ أقُولُ هَذَا وَليّي دَعِيهِ وَ هَذَا عَدُوِّي خُذِيهِ".
و حدّثني أبو المتوكّل الناجي في امرة الحجّاج، عن أبي سعيد الخدري: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: "اذا كان يوم القيامة يأمر الله عزّ و جل، فأقعدُ أنا و عليّ على الصّراطِ و يُقالُ لنا: أدْخِلا الجنّةَ مَنْ آمن بي
و أحبّكما و أدْخِلا النّارَ مَنْ كَفَرَ بي و أبْغَضَكُمَا".
(و في لفظ: ألقيا في النار من أبغضكما و أدخلا الجنّة مَن أحبّكما).
و حدّثني أبو وايل قال: حدّثني ابن عبّاس قال: قَالَ رَسول الله صلى الله عليه و آله: "إذا كَانَ يَومَ الْقِيامةِ يَأمُرُ اللهُ عَليًّا أن يُقَسِّمَ بين الجنّةِ وَ النَّارِ، فَيَقُولُ لِلنَّارِ خُذِي ذَا عَدُّوِي وَ ذَرِي ذَا وَليي".
قال: فجعل أبو حنيفة ازاره على رأسه و قال: قوموا بنا لا يجيء أبو محمّد بأعظم من هذا۱.
يقول القندوزي، أخرج الدار قطني في كتاب (جواهر العقدين) عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني قال: إنَّ عَليًّا قالَ حَديثاً طَويلًا في الشُّورَى، و فيه انّه قالَ لأهلِ الشّورى: فأنشِدُكُمْ بِاللهِ هَلْ فِيكُمْ أحَدٌ قالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه [و آله] و سلّم: أنتَ قَسِيمُ النَّارِ و الجنّةِ غيري؟ قالوا: اللَهُمَّ لَا٢.
أشعار السيّد الحميري و دعبل الخزائي في رواية «عليّ قَسيمُ الجَنَّهِ و النّار»
و قد أنشد السيّد الحميري في هذا الأمر قصائد كثيرة مثل:
قَسِيمُ النَّارِ هَذا لي | *** | فَكُفِّي عَنْهُ لَا يَضْرُرْ |
وَ هَذا لَكِ يَا نَارُ | *** | فَحُوزِي الْفَاجِرَ الأكْبَرْ٣ |
و يقول أيضاً:
ذَاكَ قَسيمُ النَّارِ مِنْ قيلِهِ | *** | خُذِي عَدُّوِّي وَ ذَرِي نَاصِرِي |
ذَاكَ عليّ بْنُ أبي طَالِبٍ | *** | صِهْرُ النَّبِيّ المصطفَى الطَّاهِرِ٤ |
و يقول:
عَليّ وَلِيّ الْحَوض و الذَّائِدُ الذي | *** | يَذَبِّبُ عَنْ أرْجائِهِ كُلَّ مُجْرِمِ |
عليّ قَسِيمُ النَّارِ مِن قَوْلِهِ لها | *** | ذَرِي ذَا وَ هَذا فَاشْرَبِي مِنْهُ و اطْعَمِي |
خُذِي بِالشِّوى مِمَّنْ يُصيبُك مِنْهُمُ | *** | وَ لَا تَقْرَبي مَن كَانَ حزْبِي فَتَظلمي۱ |
و يقول دعبل الخزاعي:
قَسيمُ الجَحيم فَهذا لَهُ | *** | وَ هَذا لها باعتدالِ الْقِسَمْ |
يَذُودُ عنِ الحَوضِ أعداءَهُ | *** | فَكَمْ مِنْ لَعِينٍ طَرِيدٍ وَ كَمْ |
فَمِنْ نَاكِثِينَ و مِنْ قَاسِطِينَ | *** | و مِنْ مَارِقين و مِنْ مُجتَرَمْ٢ |
و قال القندوزي: نُسب إلى الشافعي انّه أنشد هذه الأبيات:
عَليّ حُبُّهُ جُنَّة | *** | قَسِيمُ النَّارِ و الجنّة |
وَصِيّ المصطفى حَقّاً | *** | إمام الإنْسِ وَ الجنّة٣ |
رواية عمّار بن ياسر عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام
يقول ابن الأثير: أروي بسندي المتّصل عن علي بن جزء قال: سمعتُ أبا مريم السلولي يقول: سمعتُ عمّار بن ياسر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم يقول لعلي بن أبي طالب:
"يَا عليّ إنَّ اللهَ عَزَّ و جلَّ قدْ زَيَّنَكَ بِزَينَةٍ لم يَتَزَيَّنِ الْعِبَادُ بِزِينَةٍ أحَبّ
إليهِ مِنْهَا: الزُّهْدُ في الدُّنيا، فَجَعَلَكَ لَا تَنَالُ مِنَ الدُّنيا شَيئاً، وَ لَا تَنَالُ الدُّنيا مِنْكَ شَيْئاً، وَ وَهَبَ لَكَ حُبَّ المساكِينَ، وَ رَضُوا بِكَ إمَامًا وَ رَضيتَ بِهِم أتباعاً، فَطُوبَى لِمَنْ أحَبَّكَ وَ صَدَقَ فِيكَ، وَ وَيلٌ لِمنْ أبغَضَكَ وَ كَذَبَ عَليكَ. فَأمَّا الَّذِينَ أحَبُّوكَ وَ صَدَقُوا فِيكَ فَهُمْ جيرانُكَ في دَارِكَ، و رُفَقَاؤُكَ في قَصرِكَ، وَ أمَّا الَّذِينَ أبْغضُوكَ وَ كَذَبُوا عَليكَ، فَحَقٌ عَلى اللهِ أن يُوقِفَهُمْ موقِفَ الكذَّابين يَوْمَ الْقِيامةِ"۱.
الدَّرْسُ التَّاسِعْ: في مَعْنَى الْوَلَايَةِ التَّكْوِينِيَّة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة الّا بالله العلي العظيم
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ، وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا}۱.
و رد في كثير من الروايات عن طريق أهل البيت سلام الله عليهم أجْمَعِينَ، و عن طريق العامّة، انّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: "لَا يَجُوزُ أحَدٌ الصِّرَاطَ إلَّا مَنْ كَتَبَ لَهُ عَلى الجوازَ"٢.
تحقيق في حديث ("لَا يَجُوزُ أحَدٌ الصِّرَاطَ إلَّا مَنْ كَتَبَ لَهُ عَلى الجوازَ"):
و قبل ان ننقل هذه الروايات فاننا مجبرون على ذكر مقدّمة لتوضيح معنى الصراط و كيفيّة كتابة الجواز للعبور:
انّ جميع الموجودات- كما أشرنا سابقاً- لها ظاهر و باطن، و من جملتها الانسان و اخلاق الانسان و أفعاله، فهي الأخرى لها ظاهر و باطن. و يُقال لظاهرها الخلق و الملك، و لباطنها الأمر و الملكوت، الظاهر هو المشهود و المحسوس، امّا الباطن فمختفٍ كامن في هذا العالم.
كما ان ميزان جزاء و ثواب الأعمال يُقاس على ملكوتها و حقيقتها، لا على ظاهرها، فالصلاة التي يصلّيها الشخص- مثلًا- يمكن من وجهة النظر الظاهري أن تراعى فيها جميع خصوصيات الأداب الواجبة و المستحبّة، من الوضوء و الطهارة و القيام و الاستقبال و السجود و التختم بالعقيق، و العطر، و السواك، و اللباس الأبيض، و العمامة و غيرها، الّا ان النيّة تكون احياناً التقرّب إلى الله، و أحياناً اخرى الرياء و التظاهر، مهما كان ظاهر الصلاتين واحداً لا اختلاف فيه، لأنّ روح الصلاة، أي الباعث و الداعي للمصلي هو الذي جعل روح هذه الصلاة في بُعدين مختلفين، أحدهما التقرّب إلى الله و الأخر التقرّب إلى هوى النفس.
الصلاة في الصورة الأولى تقرّب الانسان إلى الله، و في الصورة الثانية تُبعده عنه، في الصورة الاولى تقوده إلى الجنّة، و في الصورة الثانية تسوقه إلى النار.
و هكذا الأمر في الصوم و الجهاد و الزكاة و الحجّ و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قراءة القرآن و عيادة المريض، و سائر الأعمال التي لها ظاهر ممدوح، حيث تمتلك جميعها هذا الملكوت و الحقيقة، و تختلف قدرة إيصالها إلى الله شدّةً و ضعفاً بمقدار شدّة أو ضعف نية فاعلها، امّا اذا كانت النية لغير الله فانّها ليس فقط لا تقرّب الإنسان إلى الله، بل انّها ستبعده عنه.
المعاصي و الذنوب لها أيضاً روح تختلف في الشدّة و الضعف، كما
ان العقاب سيُقاس على أساس الباعث الذي دعا المذنب إلى المعصية.
و نجد أحياناً ان شخصاً ارتكب ذنباً، لكنّه ارتكبه خطأً و عن غير عمد، لذا فانّ ذلك الفعل لن يكون له آنذاك عنوان المعصية، و لن يكون مُبعّداً له عن الله.
في عالم الحسّ و الشهادة، أي العالم الذي نرتبط معه بالحواسّ الظاهريّة، و المراد به هذا العالم الحالي، فانّ ملكوت و واقعيّة الأعمال مختفٍ كامن، و ما هو ظاهر و مشهود في هذا العالم انّما هو هيكل الفعل و جسده و متنه، لذا فانّ معيار كبر و صغر الأفعال من الوجهة الظاهريّة عند أسرى سجن الطبيعة، هو صغر و كبر نفس العمل، فكثرة الصلاة، و كثرة الصيام، و التظاهر بالورع و التقوى، و التظاهر بالخشوع و الخضوع، و التكلم بهدوء بلسانٍ ليّن هي أمور مستحسنة، و غيرها غير مستحسن و غير مرغوب. امّا في عالم المعنى و الملكوت فان الأمر على العكس، فلا يُنظر هناك إلى ظاهر الاعمال من جهة صغرها و كبرها، بل انّ ما يمثّل المعيار و الميزان للمطلوبيّة و المرغوبيّة هو النية و الإخلاص و الروح الموجودة في العمل، فظاهر الأفعال هناك كامن بينما ملكوتها و باطنها ظاهر جليّ، أي انّ الظاهر معلوم و الباطن مخفيّ، مثل عالم النوم و عالم اليقظة.
زوال عالم اليقظة عند النوم، و بالعكس
انّ كلّ ما يُشاهد و يُحسّ في عالم اليقظة يزول في عالم النوم، حين يرقد الشخص فيضع رأسه على و سادة النوم، فيرى انّ جميع ظهورات و آثار عالم اليقظة و خصوصيات و كيفيّات هذا العالم ستضمحل و تزول، لكأنّه لم يرَ طوال عمره كهذا العالم.
و حين يستيقظ و يعرض عالم اليقظة نفسه عليه، فانّ كلّ خصائص عالم النوم سيتصوّرها اعتباريّة، و كأنّه لم يدخل في مثل ذلك العالم، و ما لم
يجد الانسان سبيلًا إلى عالم الملكوت فانّه لن يدرك شيئاً غير مظاهر الطبيعة هذا و غير الهيكل و الجسم الظاهر، لكنّه حين يتّصل بعوالم الملكوت بالموت الطبيعي أو غيره، فانّ حقيقة الأعمال و واقعيّتها ستظهر له آنذاك، و سيكون عمله و سرّه معها، و سينسى عالم الشهادة، و ستُظهر ظهورات النيات و الواقعيّات للإنسان عالماً جديداً أقوى أثراً بآلاف المرّات من عالم الحسّ.
تحقيق في معنى الصراط
يسلك الإنسان في هذه الدنيا بواسطة النفس و صفاتها و استخدام أفعالها طريقاً في المعنى،۱ و لأنّ رجوع الأنفس إلى الله، فانّ هذا الطريق في ملكوت الإنسان و نفسه سيكون إلى الله أيضاً.
و يختلف البشر في سلوك هذا الطريق باختلاف قواهم المعنويّة، فالبعض له طريق مستقيم تماماً، و للبعض الأخر طريق يضمّ انحرافاً قليلًا، بينما البعض الأخر يتحرك بصورة كاملة في طريق الانحراف.
و لأنّ الإنسان يمتلك منذ اوائل عمره حتى آخر لحظات حياته حالاتٍ متفاوتة و ملكات روحيّة و نفسيّة من الحالات المختلفة، و التي هي نتيجة للأعمال المتفاوتة، فهو في انتقال من حالة إلى حالة اخرى. حتى اذا ما كانت حالاته حسنة و ممدوحة بشكل كامل، و اذا ما كان فعله صالحا و نيّته التقرّب إلى الله، فانّه سيكتسب الاخلاص في العمل و ينتقل دائماً من حال إلى حال و من كمال إلى كمال، فيصير من المقرّبين و السابقين، فاذا أخذت عنايةُ الله و لطفه بيده فأعانته صار من العباد الكمّل، و اذا كان من المتوسّطين، أي انّه لم يستطع نسيان غير الله كلياً، بل كانت نفسه الأمّارة و الشهوة يتغلّبان عليه أحياناً فيوقفان سيره أو يُعيدانه إلى الخلف قليلًا، الّا
انّ فعله و قوله غالباً ما يكون صالحا و نيته صالحة، فسيكون من أصحاب اليمين.
و اذا كانت نفسه الأمّارة هي التي تقوده دائماً، و كان كلّ سيره بخلاف الوصول إلى مراحل الكمال الإنساني، فانّه سيكون من الأشقياء و أصحاب الشمال.
و هذا الاختلاف الموجود لدى الناس في طريقهم سيسبّب اختلاف ملكوتهم، لذا فانّ بعضهم سيطوي الطريق بسرعة، و البعض الأخر ببطء، و البعض الأخر في نهاية المشقّة و المحنة.
و هذا الملكوت سيظهر يوم القيامة، و هناك حيث عالم الحقيقة فان الناس سيكونون في درجات مختلفة؛ و جهنّم التي تستعر هي ظهور و بروز عوالم الشهوة و الغضب و الاستكبار و حبّ الشخصية و الإعراض عن الله و الانغماس في المعاصي التي يعبّر القرآن عنها بعبارة الحياة الدنيا.
و بناءً على هذا فانّ جهنّم هي ملكوت الدنيا، كما ان الصراط الذي يمدّ عليها هو الطريق الذي ينبغي للإنسان طيّة في نفسه لكي ينال المقصود و هو الله سبحانه و تعالى. و عند ما يطوي الانسان هذا الطريق في الدنيا، لذا فان هذا الصراط سيوضع أيضاً على جهنّم. و لأنّ على كلّ شخص بشكل حتمي أن يفوز بمقصوده بمجاهدة النفس للشهوات في الدنيا، لذا فانّ العبور على جهنّم ضروري لجميع الافراد، حتى للأنبياء و لأولياء الله.
و حين نزلت الآية الكريمة: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا}۱ سألوا رسول الله صلى الله عليه و آله: أ وَ أنتَ أيضاً واردٌ جهنّم؟ أجاب: بلي،
لكننّا نعبر عليها كالبرق الخاطف۱.
و على هذا، فلأنّ الجميع قد قدموا إلى هذه الدنيا و كان لهم جميعاً طريق في أنفسهم إلى الله، فانّ عليهم جميعاً ان يردوا إلى جهنّم، و على الجميع ان يعبروا على الصراط.
فاولئك الذين لم يهبوا قلوبهم إلى الدنيا، و لم ينكبوا عقولهم، و لم يسألوا غير الله تعالى و لو لحظة واحدة، فانهم سيعبرون على جهنّم (على الصراط) كالبرق الخاطف، امّا الباقون فانّ سرعتهم ستتفاوت باختلاف حالهم في الاخلاص، فالبعض يمرّ بطيئاً، و البعض من زمرة الأشقياء الذين كان صراطهم منحرفاً بشكل كامل، سيزلّ على الصراط و يهوي في النار.
روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و آله قال:
"يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ، ثم يَصْدُرونَ بِأعْمَالِهِمْ، فَأوَّلُهُمْ كَلمحِ الْبَرقِ، ثم كَمَرِّ الرِّيحِ، ثم كَحَضْرِ الْفَرَسِ، ثم كَالرَّاكِبِ، ثم كَشَدِّ الرَّجُلِ ثم كَمَشْيِهِ"٢.
و في تفسير القمّي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
"الصِّرَاطُ أدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وَ أحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، فَمِنهم مَنْ يمرُّ عَليهِ مِثْلَ الْبَرقِ، وَ مِنهُمْ مَنْ يمُرُّ عَليهِ مِثْلَ عَدْوِ الْفَرَسِ، وَ مِنْهُم مَنْ يمُرُّ عَليهِ مَاشِيًا، وَ مِنهُمْ مَنْ يمرُّ عَليهِ حَبْواً، وَ مِنهُمْ مَنْ يمُرُّ عَليهِ مُتَعَلِّقًا، فَتَأخُذُ النَّارُ مِنْهُ شَيْئاً وَ تَتْرُكُ شَيْئاً"٣.
لذا فانّ معنى الصراط العبور على الملكات و الأخلاق الرذيلة و الصفات القبيحة، فمن لم يُدنّس بها أصلًا مرّ كالبرق الخاطف، و من
تلوّث بها في الجملة مرّ كعدو الفرس، حتى اذا ما ابتلى و تدنّس كثيراً علّق من الصراط إلى جهنّم فأحاطت النار به.
انّ الإمام عليه السلام الذي يعيّن صراط الانسان و طريقة إلى الله في هذه الدنيا، و الذي له السيطرة على نفس الإنسان و ملكوته، هو نفسه الذي سيعيّن سرعة و بطء حركة الإنسان على الصراط يوم القيامة حيث ظهور الصفات و الملكات، و وفقاً لسرعة الانسان في حركته في الدنيا إلى الله، فانّه سيُجيزه بنفس القدر بالحركة بسرعة أو ببطء على الصراط، امّا الأفراد الذين لم يكن لديهم اتّصال بمقام المعنى و الولاية، و الذين أفنوا في وجودهم روح و شرف و فضيلة الإنسانية، فانّه لن يسمح لهم بالحركة، و سيأمر جهنّم لتبتلعهم و تغمرهم.
و لأن الإمام له إحاطة في الدنيا على ملكوت المؤمنين و غير المؤمنين، فانّه سيقف هناك على مكان عالٍ و رفيع بحيث يُشرف على الجنّة و على جهنّم، فيعيّن مكان و منزلة كلّ فرد صالح في الجنّة، و منزلة كلّ فاسق و منحرف طالح في النار، و قد عبّر في القرآن الكريم ن ذلك المقام العالي بالأعراف.
{وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ}۱.
و الأعراف في اللغة لها معنيان، الأول أعراف الحجاب و هو القسم الأعلى منه، و الثاني أعالى الجبل و التلّ، و كلا المعنيين مناسب هنا، أي انّه حجاب بين أهل الجنّة و أهل النار يقف الإمام في ذروته و قمّته، لأنّه كان في الدنيا في ذروة و قمّة الحالات الروحيّة و المعنوية، ينظر من هناك إلى وجوه و سيماء أمّته، و يشاهد حالاتهم الروحيّة و الملكوتيّة من
سيمائهم، كما كان محيطاً على ملكوتهم في الدنيا يسيرهم عن طريق الملكوت إلى واقعيّتهم و مقصدهم، لذلك فانّه هناك أيضاً سيجعلهم حسب واقعيّتهم و ملكوتهم في نقاط مختلفة من الجنّة أو في دركات متفاوتة في النار.
و بناءً على ما ذكرنا فقد اتّضح بحمد الله و قوّته حقيقة و سرّ ظهور جهنّم أولًا، و ظهور الصراط ثانياً، و مقام الإمام في الأعراف و ارتباط كيفيّة إدخال اهل جهنّم فيها بأمر الإمام ثالثاً.
رواية (لَا يَجُوزُ أحَدٌ الصِّرَاطَ إلَّا مَن كَتَبَ لَهُ عَلى الجَوَازَ) بالطرق المختلفة
فنقول الآن بأنّ الروايات التي وردت في شأن أمير المؤمنين عن طريق الشيعة كثيرة جدّاً، و لكن من أجل ان يتّضح ان هذه المطالب مسلم بها عند أهل السنّة و لا يرقى اليها الشكّ، فقد قرّرنا ان ننقل فظائله عليه السلام في الغالب من كتبهم.
يقول ابن حجر الهيتمي الشافعي: روى ابن السمّان أنّ أبا بكر قال له (أي لعليّ عليه السلام): سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم يقول: "لا يَجُوزُ أحَدٌ الصِّرَاطَ إلَّا مَنْ كَتَبَ لَهُ عَلى الجوازَ"۱.
و ينقل ابن حجر قبل هذا الحديث عن سُنن الدار قطني: إنَّ عَليًّا [عليه السّلامُ] قالَ للسِّتَّةِ الَّذين جَعَلَ عُمَرُ الأمرَ شُورَى بَيْنَهُمْ كَلَاماً طَويلًا مِنْ جُمْلَتِهِ:
"انْشِدُكُمْ اللهَ هَلْ فِيكُمْ أحَدٌ قالَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم (يَا عليّ أنْتَ قَسِيمُ الجنّةِ و النَّارِ يَوْمَ القِيامةِ) غَيرِي؟" قَالُوا: اللَهُمَّ لَا.
و معناه ما رواه عنترة عن عليّ الرّضا [عليه السّلامُ] أنَّه صلى الله عليه [و آله] و سلم قالَ لَه: "أنْتَ قَسِيمُ الجنّةِ وَ النَّارِ في يَوْمِ القِيامةِ تَقُولُ لِلنَّارِ هَذَا لي وَ هَذَا لَكِ".
فابن حجر يستشهد بكلام أمير المؤمنين في الشورى لتأييد الرواية التي نقلها عن أبي بكر، ثم يفسر كلام أمير المؤمنين بكلام الرضا عليه السلام إلى عنترة.
و ينقل محبّ الدين الطبري عين هذه الرواية عن قيس بن أبي حازم، قال:
إلْتَقَى أبُو بَكرٍ وَ عليّ بنُ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهما، فَتَبَسَّمَ أبُو بَكْرٍ في وَجْهِ عليّ، فَقالَ لَهُ: مَا لَكَ تَبَسَّمْتَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه [و آله] و سلم يقول: "لَا يَجُوزُ أحَدٌ الصِّرَاطَ إلَّا مَنْ كَتَبَ لَهُ عليّ الجوازَ".
أخرجه ابن السمّان في كتاب (الموافقة)۱.
كما ينقل الموفّق بن أحمد الخوارزمي في كتابه (المناقب) رواية الجواز٢.
كلام المرحوم العلّامة العسكري في رواة هذه الرواية من العامّة
يقول العلّامة الميرزا نجم الدين الشريف العسكري في كتاب (مقام الامام أمير المؤمنين عند الخلفاء)، الصفحة الخامسة: و قد نقل الكثير من الاعلام في كتبهم هذا الحديث:
۱- ابراهيم بن محمّد الحمويني الشافعي في (فرائد السمطين)، ج ۱، الباب الرابع و الخمسين.
٢-.محبّ الدين الطبري الشافعي أيضاً في كتابه الأخر بإسم (الرياض النضرة في فضائل العترة) ج ٢، ص ۱۷٣ و ۱۷۷ و ٢٤٤. و قال انّ الحاكمي رواه في كتابه (الأربعين).
٣-.أورده ابن أبي عدسه في تأريخه بهذا اللفظ:
قال أبو بكر لعلي: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم يقول: لَا يَجُوزُ أحَدٌ الصِّرَاطَ إلَّا مَنْ كَتَبَ لَهُ عَلي الجوازَ.
٤-.الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في (ينابيع المودة)، ص ۸٦ و و ۱۱٢.
٥-.ابن المغازلي الشافعي في كتابه (المناقب)، كما في (غاية المرام).
٦-.الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد)، ج ٣، ص ۱٦۱، عن ابن عبّاس.
۷-.القاضي عياض في (الشفاء).
۸-.العلّامة السيّد أبو بكر ابن شهاب الدين العلوي الحسيني الشافعي في كتاب (رشفة الصادي من بحور فضائل بني الهادي)، ص ٤٥٩.
٩-.القرشي في (شمس الأخبار).
۱۰- العلّامة الشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي في (الإتحاف بحبّ الأشراف)، ص ٢٥.
۱۱- (اسعاف الراغبين)؛ ثم يقول: و روى حديث الجواز جماعة آخرون عن الصحابة من غير أبي بكر، كابن عبّاس و ابن مسعود، و ينبغي العلم انّ جميع هؤلاء المذكورين خرّجوا هذا الحديث في كتبهم۱.
و عند مراجعة (ينابيع المودّة) في ص ۱۱٢ فانّه ينسبه إلى الإمام
أمير المؤمنين و عبد الله بن عباس و عبد الله بن مسعود و أنس بن مالك و أبي سعيد الخدري.
و يقول: روى الحمويني بسنده عن مالك بن أنس عن جعفر الصادق عن آبائه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم قال:
"إذَا جَمَعَ اللهُ الأوَّلينَ وَ الأخرِينَ يَوْمَ الْقِيامةِ نَصَبَ الصِّرَاطَ عَلَى جَهَنَّم لم يَجُزْ عَنْهَا أحَدٌ إلَّا مَنْ كَانَت مَعَهُ بَرَاةٌ بِوِلَايَةِ عليّ بْنِ أبي طَالِبٍ".
و أخرج هذا الحديث أيضاً الموفّق بن أحمد بسنده عن الحسن البصري عن ابن مسعود. و أخرجه الموفّق أيضاً بسنده عن مجاهد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
و اخرج هذا الحديث ايضاً ابن المغازلي بسنده عن مجاهد، عن ابن عبّاس؛ و عن طاوس، عن ابن عبّاس
و أيضاً بسنده عن أنس بن مالك، و بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.
و في الصفحة ۸٦ و في ص ۱۱٣، فقد رواه عن ابن مسعود بمتن آخر عن الموفّق بن احمد، باسناده عن الحسن البصري، عن ابن مسعود.
قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه [و آله] و سلم: "إذَا كَانَ يَوم الْقِيامةِ يَقْعُدُ عَلَي عَلَى الْفِردُوسِ، وَ هُوَ جَبَلٌ قَدْ عَلَا عَلى الجنّةِ وَ فَوْقَهُ عَرْشُ رَبِّ الْعَالمين، وَ مِنْ سَفْحِهِ تَتَفَجَّرُ أنْهَارُ الجَنَّةِ وَ تَتَفَرَّقُ في الجِنَانِ، وَ عليّ جَالِسٌ عَلى كُرسِيّ مِن نُورٍ، يَجْرِي بَينَ يَدَيْهِ التَّسْنيم، لَا يَجُوَزُ أحَدٌ الصِّرَاطَ إلَّا وَ مَعَهُ سَنَدٌ بِوِلَايَةِ عليّ وَ وَلَايَةِ أهْلِ بَيْتِهِ، فَيُدْخِلُ مُحِبِّيهِ الجنّةَ وَ مُبْغِضِيهِ كالنَّارَ".
كما ينقل الخوارزمي هذه الرواية بهذا المضمون في مقتله (طبع
النجف، ج ۱، ص ٣٩).
توضيح معنى الرواية المذكورة
بلى، يبين هذا الحديث مقام أمير المؤمنين في الأعراف، و أنّ هذا المقام في آخر درجات الفرق الذي يبدأ منه عالم الكثرة، يعني في حقيقة الولاية التي هي الحجاب الأقرب، و من الأعراف يجري نهر التسنيم في الجنّة. و هذا النهر ينبع من الولاية، و تجري فروعه في قلوب الشيعة، كما يجري في جنانهم في ذلك العالم من ظهور الملكوت.
و أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو حقيقة الولاية، يعيّن مقامات أهل الجنّة حسب ميزان جريان التسنيم، فيعبرون الصراط و يصلون إلى منازلهم، كما يعيّن في النار أماكن الذين لا يؤمنون بالولاية.
يقول ابن شهرآشوب: روى ابن عبّاس و أنس عن النبّي الأكرم صلى الله عليه و آله:
قَالَ: "إذَا كَانَ يَومَ الْقِيَامَة، وَ نُصِبَ الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ، لم يَجُزْ عَليهِ إلَّا مَنْ مَعَهُ جَوَازٌ فِيهِ وَلَايَةُ عليّ بنِ أبي طَالِبٍ، وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى:
وَ قِفُوهُمْ إنهم مَسؤُلُونَ"۱.
و يقول أيضاً: و يروي والدي شهرآشوب باسناده عن رسول الله صلى الله عليه و آله قال:
"لِكُلِّ شَيْءٍ جَوَازٌ، وَ جَوَازُ الصِّرَاطِ حُبُّ عليّ بْنِ أبي طَالِبٍ"٢.
و يروي أيضاً في تأريخ الخطيب، عن ليث، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عبّاس قال:
قُلتُ للنَبِيّ: يَا رَسولَ اللهِ! لِلنَّاسِ جَوَازٌ؟ قالَ: نَعَم؟
قُلْتُ: وَ مَا هُوَ؟ قالَ: "حُبُّ عليّ بْنِ أبي طَالِبٍ".٣
و في حديث وكيع، قال أبو سعيد: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا مَعْنى بَراةُ عليّ؟
قالَ: "لا إلَهَ إلّا اللهُ، محمّد رَسُولُ اللهِ، عليّ وَليّ اللهِ"۱.
و سأل النبّيُ الاكرمُ من جبرئيل: "كَيفَ تَجُوزُ امَّتِي الصِّرَاطَ؟ فَمَضَى وَ عَادَ وَ قَالَ: إنّ اللهَ تعالى يَقْرَئُكَ السَّلامَ و يقول: إنَّكَ تَجُوزُ الصِّراطَ بِنُوري، وَ عَليّ بنُ أبي طَالِبٍ يَجُوزُ الصِّرَاطَ بِنُورِكَ، وَ امَّتُكَ تَجُوزُ الصِّرَاطَ بِنُورِ عليّ، فَنُورُ امَّتِكَ مِنْ نُورِ عليّ، وَ نُورُ عليّ مِنْ نُورِكَ، وَ نُورُكَ مِنْ نُورِ اللهِ"٢.
و ورد في الخبر: "وَ هُوَ الصِّرَاطُ الذي يَقِفُ عَلى يمينهِ رَسُولُ اللهِ، وَ عَلى شِمَالِهِ أمير المؤمنين، وَ يَأتِيهِمَا النِّدَاءُ مِنَ اللهِ: ألْقِيَا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنيدٍ"٣.
و روى الحسن البصري في خبر آخر عن عبد الله، عن رسول الله قال:
"وَ هُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرسِيّ مِن نُورٍ- يَعْني عَليّاً- يَجْرِي بين يَدَيْهِ التَّسْنيم، لَا يَجُوزُ أحَدٌ الصِّرَاطَ إلَّا وَ مَعَهُ بَراةٌ بِوِلَايَتِهِ وَ وَلَايَةِ أهْلِ بَيْتِهِ، يُشْرِفُ عَلى الجنّةِ وَ يُدْخِلُ مُحِبِّيهِ الجنّةَ وَ مُبْغِضِيهِ النَّارَ"٤.
في أشعار السيّد الحِمْيَري
و ما أجمل قول شاعر أهل البيت السيد اسماعيل بن محمّد الحميري حين يقول:
قَوْلُ عليّ لِحَارِثٍ عَجَبٌ | *** | كَمْ ثم اعْجُوبَةً لَهُ حَمَلَا |
يَا حَارِ٥ هَمْدَانَ مَنْ يَمُتْ يَرَني | *** | مِنْ مُؤمِنٍ كانَ أوْ مُنَافِقٍ قَبَلَا٦ |
يعْرِفُني طَرْفُهُ وَ أعْرِفُهُ | *** | بِعَيْنِهِ۷ وَ اسْمِهِ وَ مَا فَعَلَا |
وَ أنْتَ عِنْدَ الصِّرَاطِ تَعْرِفُني | *** | فَلَا تَخَف عَثْرَةً وَ لَا زَلَلَا |
أسْقِيكَ مِنْ بَارِدٍ عَلى ظَمَأ | *** | تَخَالُهُ في الْحَلَاوَةِ الْعَسَلَا |
أقولُ لِلنَّارِ حين تُوقَفُ لِلْعَرْ | *** | ضِ عَلى جسرِهَا ذَرِي الرَّجُلا |
ذَرِيه لَا تَقْرَبِيهِ إنَّ لَهُ | *** | حَبْلًا بِحَبْلِ الوَحْي۸ مُتَّصِلَا |
هَذَا لَنَا شِيعَةٌ وَ شِيعَتُنَا | *** | أعْطَاني الله فِيهِمُ الأمَلَا٩ |
مدح أمير المؤمنين عليه السّلام لقبيلة همدان اليمنّيين في صفّين
يخاطب أمير المؤمنين بهذا الكلام الحارث الهمداني
. يروي ابن شهرآشوب عن (الأمالي) للطوسي، باسناده عن الحارث الهمداني عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله:
"إذَا كَانَ يَومَ الْقِيامةِ أخَذتُ بِحُجزَةٍ مِن ذِي الْعَرشِ، وَ أخَذتَ أنْتَ يَا عليّ بِحُجزَتِي، وَ أخَذَت ذُرِّيَّتُكَ بِحُجْزَتِكَ، وَ أخَذَتْ شيعَتُكُمْ بِحُجْزَتِكُمْ، فمَا ذا يَصْنَعُ اللهُ بِنَبِيِّهِ؟ وَ مَا ذَا يَصْنَعُ نَبِيُّهُ بِوَصِيِّه؟ إلى أن قال [عليّ عليه السلام]: خُذْهَا إليكَ يَا حَارُ قَصِيرَةً مِن طَوِيلَةٍ۱، أنتَ و مَن أحبَبتَ وَ لَكَ مَا اكْتَسَبْتَ"٢.
و لقد جاهد الحارث الهمداني (بسكون الميم) و قومه من قبيلة همدان في اليمن، في يوم صفّين جهاداً كبيراً و حاموا عن دين الله و عن إمامهم، و واجهوا المشاقّ و المحن و الشدائد، حتى قال أمير المؤمنين فيهم:
فَلَو كُنتُ بَوَّابَاً عَلى بَابِ جَنَّةٍ | *** | لَقُلْتُ لِهَمْدَانَ ادْخُلي بِسَلَامِ٣ |
و يقول السيّد الحميري:
وَ لَدَى الصِّراطِ تَرَى عَلياً وَاقِفَاً | *** | يَدْعُو إليهِ وَليهُ المنْصُورَا |
اللهُ أعْطى ذَا عَليّاً كُلَّهُ | *** | وَ عَطَاءُ رَبِّكَ لم يَكُنْ مَحْظُورَا٤ |
الدَّرْسُ الْعَاشِر: لُزُومُ وُجُود الإمَامِ الْحَيّ لِتَمَتُّعُ الْقُلُوبْ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدّين
و لا حول و لا قوّة الّا بالله العلي العظيم
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ}۱.
أصل العلية و المعلولية:
انّ كلّ واحد من الموجودات التي تُشاهد في العالم له أصل و علّة يستند في نشأته اليها، كما انّ التغيرات و التبدّلات التي تحصل فيها لها عللها هي الأخرى.
فلو ضربنا زجاجةً بحجر لانكسرت، و لو أجرينا ماءً في جدول لجرى الماء إلى حيث ما أمكن له، و لبلّ النقاط التي يلامسها، حتى انّ الماء يجرى في خُلل الجبال و شقوقها ما وجد إلى ذلك سبيلًا.
و هذا هو أصلٌ عام في النشوء و في التغيرات المشهودة في موجودات العالم.
تأثير المجالسة في الإنسان:
كما انّ أخلاق و ملكات و عقائد و روحيّات بنى الإنسان ليست مستثناةً من هذا الأصل العام، فقد ثبت بالتجربة انّ معاشرة الأبرار تؤثر على الإنسان، و انّ المعاشرة مع الأشرار تؤثر عليه هي الأخرى، و ما أكثر ما حصل أن صاحب شخصٌ ذو فطرة طيبة و أعمال صالحة أصدقاءَ السوء فتلاشى صفاؤه الباطني، و أظلم قلبه و اختنقت روحه.
و على العكس من ذلك، فما أكثر ما حصل انّ شخصاً ذا سيرة سيّئة غير اسلوبه و نهجه إثر معاشرته لشخص طيّب، فصلُحت نيته تدريجياً، و تبعتها أفعالُه فصارت صالحةً حسنة حميدة.
لذا ورد التأكيد كثيراً في التعاليم الإسلاميّة على مصاحبة الأبرار و المنع من الانس بالأشرار و التوادّ معهم، حتى انّ جلسةً واحدة قد تؤثّر على الانسان و لو أمضاها بالسكوت او المذاكرة، لأن تأثير الأرواح لا يحتاج إلى مذاكرة، و انّما الأرواح المؤتلفة تميل إلى بعضها و تتبادل التأثير مع بعضها.
و من أجل أن يستطيع الإنسان تغيير أخلاقه و صفاته إلى اخلاق و صفات الإنسان الكامل، فانّ عليه أن يعرّف قلبه و روحه على أصل و علّة الأخلاق و الصفات الحسنة، لتؤثّر تلك المحامد في الإنسان بواسطة الاتّصال. و عليه أن يصل مركز قلبه بمنبع العلم و المعرفة و الحياة، ليحصل منه على العلم و المعرفة و الحياة قدر سعته و استعداده و قابليته.
و كما انّ هناك في شبكة المياه في المدن مخزناً عظيماً للماء متّصل بعدد كبير من البيوت، بحيث يصل اليها الماء حسب ظروفها و قابليّاتها، فكذلك الأمر في علّة و منبع الحياة و المعرفة الذي يجب ان يروي و يُشبع القلوب بواسطة التسليم و الانقياد و الاتباع و الخضوع، بقدر سعة تلك القلوب و ظرفيّتها.
و لهذا الموضوع أمران ضروريّان:
الأول: وجود ذلك الأصل و العلّة، أي مبدأ إفاضة العلم و الحياة.
و الثاني: التسليم و التلقّي و الخضوع؛ ليمكن لتلك العلّة ان تؤدّي وظيفتها، لأنّ التسليم له حكم الشروط لتلقّي العلم و المعارف، و معتبر من المقدّمات المعِدّة.
قلب الإمام مركز إفاضة العلوم
مبدأ إفاضة العلم هو قلب الامام الذي يفيض- بواسطة السيطرة على ملكوت الموجودات- على كلّ موجود بقدر قابليته و استعداده: {وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا}۱.
و الهداية بأمر الله هي هداية أفراد البشر عن طريق ملكوتهم و نفوسهم.
و لذا يجب ان يكون في العالم و على الدوام إمامٌ حيّ، و قد استفدنا من الآية: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ}٢.
انّ الإمام موجود في كلّ زمان، يُدعى بواسطته أفراد البشر واحداً فواحداً؛ و هذا أمر مسلّم و صحيح تستند عليه جميع أديان العالم و مذاهبه، و يعتمد عليه الدين الاسلامي الذي يعتبر تعيين الإمام للمجتمع من قبل الله، و يعرّفه بأنّه صاحب القلب و المحيط بالملكوت و المعصوم عن الخطايا و المعاصي. كما انّ الشيعة قد استفادوا هذا الأمر على أساس تعاليم الاسلام، فقد جعلوا سيرتهم على واقع و حقيقة التعاليم الاسلاميّة، امّا أهل السنّة الذين لا يُراعون هذا الأمر، فانّ أيديهم قاصرة عن إدراك منبع الحياة
و العلم، و كما اشير سابقاً فانهم لا يستفيدون من الإسلام بالمعنى الحقيقي.
و على هذا الأصل القائل بالحاجة إلى الإمام الحيّ بعد رسول الله صلى الله عليه و آله، و هو الوجود المقدّس لأمير المؤمنين عليه السلام، فانّ ذلك من أجل أن يصل جميع أفراد البشر بواسطة ذلك القلب الحيّ الواعي في عالم الجمع إلى الإفادة من حياتهم و علومهم، و إلّا فانّه اذا كفى مجرّد العمل بنداء (كفانا كتاب الله)، لزحف كلّ امريء فانزوى في زاوية النفس و خرائبها المظلمة، و لما أمكنه أن يتخطّى نفسه و هواه إلى آخر عمره، و ذلك لأن الإمام هو الملقي للمعارف القرآنية إلى قلب الانسان، و بدونه فانّ الإنسان الأعمى المهووس بالشهوات المنغمر في اللذّات سيفسّر و يؤوّل الآيات القرآنية لخدمة أغراضه و نواياه، و مهما عمل فانّ عمله لن يتعدّى دائرة ميوله و رغباته النفسانيّة. و مثل هذا القرآن بدون الروح الحيّة العميقة الإدراك للإمام لَا يَزيدُهم مِنَ اللهِ إلَّا بُعْدًا.
الشيعة تعتبر أساس تعاليم الإسلام قائم على الإمامة
تقول الشيعة انّ أساس تعاليم الاسلام قائمة على الإمامة، ففي زمن رسول الله كان صلى الله عليه و آله هو الإمام، و كان يفيض المعارف على قلوب الأمّة بقلبه اليقظ منبع علوم {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى}۱، ثم جرى ذلك بعده؛ بواسطة الأئمة الأطهار الواحد بعد الأخر، وصولًا إلى حضرة بقيّة الله الأعظم عجّل الله تعالى فَرَجه الشريف؛ ريّ كلّ قلب بقدر سعته من قبل مراكز الحياة و المعرفة تلك.
أمّا الموضوع الأخر و هو التسليم و الخضوع و الاتّباع للإمام، الذي يُعدّ القلوب لتلقّي و اكتساب المعارف و العلوم، فهذه الخصوصيّة موجودة
لدى الشيعة، لذا يُشاهد أنّ الشيعة يفوقون العامّة بقدر ملحوظ في صفات المحبّة و الوفاء و الصفاء و الإنفاق و الإيثار و قضاء حوائج الناس و في رقّة القلب و العاطفة و نظائرها من الصفات الحميدة، و هذا ناجم عن روح التسليم و الخضوع مقابل معلم البشريّة و مبدأ التعليم و التربية، سواءً كان الإمام حاضراً أو غائباً، لأنّ تأثير و تأثّر الأرواح لا حاجة له كثيراً إلى الحضور، لأنّه ليس مادّه ليشترط لتأثيرها في ما دّه أخرى القُرب المكاني و التماسّ الخارجي، بل هو تأثير فعلية النفس الفعّالة في قابليات النفوس المستعدّة.
و لأنّ عالم الملكوت خارج عن الزمان و المكان، لذا يمكن أن نجد تأثير فعلية الآثار الحياتيّة للإمام في كلّ قلب، فإن كان الإمام في مشرق العالم و كان تابعه في المغرب، فانّ قلب التابع مع ذلك سيحصل على استفادته، كما انّ الانسان- على اثر محبّته لولده- في ذكره دوماً، سواءً كان ولده قربه أو مسافراً بعيداً عنه، فصورة الولد لا تفارقه بل مطبوعة في قلبه. و كذلك اذا ما وجدت تجليّات الإمام في قلب المؤمن أينما كان ذلك المؤمن، فانّه سوف يستمدّ ماء الحياة من ذلك المعدن اللامتناهي اثر انعكاس الصورة الحقة.
لذا فانّ الشيعة يفيدون- و لو في زمن الغيبة- من ذلك المركز للعلم و المعرفة، بسبب التفاتهم الكامل إلى مصدر الخيرات و العلوم، مع انّه لا شك هناك و لا ريب في انّ أثر حضور الإمام و فوائده أكثر و أوفر؛ خلافاً لغير الشيعة الذين لا ترتبط قلوبهم بهذا المعدن، لذا فانّ نفوسهم حائرة متردّدة ليس لها إلى الخروج عن ذواتها من سبيل.
الشيعة يمتلكون اللطف و الرقّة و المداراة:
يقول ابن أبي الحديد بعد أن يذكر قدراً من صفات أمير المؤمنين عليه السلام:
وَ قَدْ بَقِيَ هَذا الخُلُقُ مُتَوارَثاً مُتَنَاقَلًا في مُحِبّيهِ وَ أوليائِهِ إلى الآن، كما بَقِيَ الجَفَاءُ و الخُشونَةُ و الوُعُورَةُ في الجَانبِ الآخرِ، و مَن لَهُ أدْنى مَعرفَةٌ بِأخلاقِ النَّاسِ و عَوَائِدِهِمْ يَعْرفُ ذَلكَ۱.
انّ المعارف و العلوم الالهيّة تجري في قلوب اتباع الإمام اثر اتّصال قلوبهم بقلبه، كما انّ السبب في انّ للمؤمنين أنهاراً من ماء زلال في الجنّة يعود إلى تأثير ذلك الإتصال القلبي و الإفادة من نبع فضائل الأئمة. و نرى كثيراً في القرآن الكريم أنّ الله تعالى يعد المؤمنين {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} مثل:
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}٢.
الجنّة تجلّي الصفات و الأفعال:
و كما ذكرنا فانّ الجنّة هي ظهور و بروز عالم نفس المؤمن في الأخرة، و لأنّ نفس المؤمن قد نجت، بسبب الاطمئنان بالله و بالسكينة التي حصلت عليها، من حرارة و لسع اليأس و الفشل و من طوفان خواطر الشيطان و الاضطرابات الفكريّة و الأخلاقيّة، فهم مسرورون فرحون في رحمة الله و مقام أمنه و أمانه، فقد عشقوا الله بنشاط و لذّة كاملين حتى في أدقّ لحظات سكرات الموت، فهم في سكينة و اطمئنان، لذا فعند ما يظهر ملكوت الأشياء في الأخرة، فانّ ملكوت نفس المؤمن سيكون بصورة جنّة متشابكة الأشجار، تشابكت فيها فروع الأعمال الصالحة و أوراقها، فألقت ظلالها على الأرض، فلا مجال هناك لأشعّة الشمس اللاهبة و لا لطوفان
الحوادث أو غبار الخيالات و الخواطر الشيطانية.
سواءً اعتبرنا انّ الجنّة من جهة تجسّم أعمال المؤمن و ظهور ملكوت النفس المؤمنة، أو بعنوان الجزاء المترتّب على العمل، فانّ النتيجة ستكون واحدة. يشهد على هذا المعنى خطاب الله تعالى إلى آدم أبي البشر قبل وروده في هذه النشأة:
{فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى ، وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى}۱.
فقد خاطب الله آدم: انّ هذه الجنّة لا خواطر نفسانية فيها و لا اضطرابات للخيال و القوى الواهمة، هناك حيث لا تجوع و لا تعرى، و لا تظمأ و لا تضحى بحرارة الشمس، فالجوع و العُرى و الحرارة و الانصهار كلها من أثر تسلّط النفس الأمّارة بالسوء على الإنسان، أمّا في الجنّة حيث قلب الإنسان مطمئنّ هادئ بعيد عن الخواطر و الانفعالات، هناك حيث الاستقرار و الاستراحة في {مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}٢.
فالذين يغادرون الدنيا إلى الله بالإيمان و الأعمال الصالحة هم الذين يدخلون الجنّة و يتمتّعون فيها تحت ظلال الأشجار المتكاثفة.
حقيقه الأنهار الجارية في الجنّة
الأنهار الجارية في الجنّة:
و امّا الأنهار الجارية في الجنّة، فهي العلوم و المعارف التي أوجبت حياة القلب، و ذلك لأن المؤمنين كانوا قد رووا قلوبهم بالعلم و المعرفة و الإقرار بوحدانية الله و أسماء ذاته المقدّسة، و بالإقرار بحقّانية الإمام
و النبيّ، فانّ ظهور هذه العلوم التي هي حياة القلوب سيكون هناك في هيئة أنهار ماء. و سيكون لجميع الذين عملوا الصالحات- و من جملتها الإقرار بإمام زمانهم- امتلاك هذه الأنهار، بل يمكن اعتبار مقياس فصل الأعمال الصالحة عن غير الصالحة هو مصادقة الإمام عليها أو عدمها، فكلّ فعل أمَرَ به الإمام صالحٌ، و كلّ ما نهى عنه سيكون غير صالح، و ذلك لأنّ نظر الإمام يمثّل النظرة الواقعيّة و الحقيقية، و لذلك فانّ تخطّى كلام الإمام يمثّل انحرافاً عن متن الواقع و حقيقة نفس الأمر.
امّا الذين لم يوكلوا قلوبهم للإمام، و لم يستفيدوا من ذلك المنبع الفيّاض، فانّ قلوبهم ستبقى يابسة لا طراوة لها و لا محبّة و لا صفاء و لا معرفة، كالقربة اليابسة العتيقة البالية، قد فقدت مرونتها و سعتها، لذا فانّ ماء اولئكم هو الحرمان و الحسرة و الندم الذي سيصبّ في أفواههم على هيئة الفلز المصهور.
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ}۱.
الأنهار الأربعة الجارية في الجنّة: أنهار الماء، اللبن، الخمر، و العسل المصفّي
أنهار الجنّة الأربعة:
ذكر الله سبحانه في هذه الآية المباركة أربعة أنهار، أوّلها أنهار الماء الزلال غير الأسن، لأن الماء في عالم الطبيعة هو حياة الموجودات:
{وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ}٢.
أنهار الماء: و حياة القلوب بالعلم و معرفة الله، لذا فانّ أنهار العلم و المعرفة الجارية في القلوب ستتجلّى هناك في هيئة أنهار ظاهرة صافية من ماء زلال غير آسن، و المراد بالأنهار أصناف و أنواع المعارف و العلوم الحقّة و الحقيقيّة التي تناط بها حياة القلوب و تروي بها غرائز الإنسان، و المراد بغير الأسن غير المتعفّن و غير المتغير، أي عدم تغير تلك العلوم بأوهام و شكوك و عادات باطلة و سنن ضالّة و اعتقادات فاسدة.
و هذا النهر مختصّ بالذين وصلوا في طريق الله إلى مقام القلب، و استفادوا من العلوم الالهيّة الحقة دون أي تدخّل للنفس لتغييرها.
انهار من لبن: و النوع الثاني هو الأنهار من اللبن الذي لم يتغير طعمه، و هذه الأنهار هي ظهور و بروز العلوم التي كانت مفيدة للمبتدئين في الطريق إلى الله، لأنّ اللبن طعام الطفل، و العلوم التي تتعلّق بالأفعال و الأخلاق كعلوم الشرائع و الحكمة العمليّة باعتبارها مقدّمة للعمل و تزكية النفس، لذا فانّ ظهور هذه الأنهار مختصّ بالضعفاء المستعدّين للسير في منازل النفس و الذين لهم قابلية الوصول إلى مقام القلب بسبب الابتعاد عن المعاصي و الأخلاق الرذيلة، الّا انّهم لم يصلوا بعدُ إلى ذلك المقام، فهم بتعلّمهم المقدّمات من علوم الشرائع و الأخلاق و بالعمل بها في صدد تقوية بُنيتهم الروحية. كما انّ عدم تغير طعم هذه الأنهار إشارة إلى عدم تلوّث هذه العلوم بالنوايا الفاسدة و الأهواء و البدع الباطلة و الأعمال و العصبيّات الجاهلية التي تُسقط هذه العلوم عن خاصيّتها و فضيلتها، و تحوّلها إلى سمّ مهلك.
أنهار الخمر: و النوع الثالث من الأنهار أنهارٌ من خمر لذّة للشاربين، فالخمر في الدنيا مع انّ مادّتها خبيثة و نكهتها مُقرفة و طعمها رديء، لأنّها تخدّر العقول و تسقطها من الإحساس و الإدراك، و تهوي بالانسان إلي
مصافّ البهائم، لكن خمر الأخرة جذباتٌ الهيّة تظهر اثر تجليّات الصفات و الأسماء في القلب، فتحيّر العقول و تبهتها بحيث يسقط العقل المفكّر في العواقب و المصالح عند مشاهدة تلك الاسماء الكليّة و الصفات الالهيّة غير المحدودة و ينسى كليّاً مراتب الوجود.
و لأنّها تمتلك هذه الخاصيّة فقد عُبّر عنها بالخمر، لكن هذه الخمر ترفع الانسان من مرتبة العقل و تهديه إلى مرتبة أعلى و هي الشهود و القلب.
و على ذلك فانّ انهار الخمر هي ظهور أصناف و أنواع محبّة صفات و ذات الله التي جعلها الله سبحانه للشاربين، و هم الكاملين الواصلين إلى درجة الشهود، و الذين صار لديهم القابليّة لمشاهدة حسن تجليّات الصفات و شهود جمال الذات، و صاروا مولّهين بالجمال المطلق للحضرة الربوبيّة لا إدراك لهم بسببه، و وصلوا إلى مقام الروح و استغرقوا في الأنوار الالهيّة، و ستوجب لهم اللذة و البهجة و السرور و الحبور.
أنهار من عسل مصفّى: و النوع الرابع من هذه الأنهار هي أنهار من عسل مصفّى لا يُرى فيها شيء من الشمع و الخبث و المواد القذرة. و لأنّ العسل له حلاوة زائدة، فانّ تلك الحلاوة التي هي من واردات عالم القدس و البوارق النورانية، و اللذات التي توجد في حالات مختلفة للمتوسّطين في طريق الله، و تعيدهم إلى الله بالذوق و الوجد و التوجّه، و توجّههم إلى كمالاتهم، فانّها تظهر هناك في هيئة أنهار من عسل مصفّى خالٍ من الشوائب و الأكدار و تدخّلات النفس و تسويلاتها، و هذا بالطبع مختصّ بالأفراد الذين هم في مقام ذوق تلك الجذبات، و الذين لم يصلوا بعدُ إلى مرحلة السكر اثر مشاهدة التجليات.
و بناءً على ما سبق فانّ أنهار اللبن هي العلوم لدى المبتدئين
و الضعفاء من سالكي طريق الله، و أنهار العسل مختصّة بالافراد المتوسّطين المشغولين بملاحظة الجذبات الالهية و مشاهدة الصفات، و أنهار الخمر مختصّة بالأفراد الذين نسوا وجودهم بسبب تجليات الجمال و عشق تلك الذات الأزلية فامّحوا في أنوارها.
و المراد بالأية الشريفة: {وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً}۱، الشراب الذي يطهّرهم و يزكّيهم من جميع التعلّقات الدنيويّة من المال و الولد و العيال و الجاه و الاعتبار، و يرفع نفس الشارب عن هذه المراحل.
ثم انّ أنهار الماء الزلال غير الأسن و غير المتغير مختصّة بالذين وصلوا إلى مرحلة القلب، و الذين طلعت و أشرقت في قلوبهم جميع أنواع العلوم و المعارف الالهيّة بدون تدخّل النفس و زيغ الأهواء.
نهر الزنجبيل و عين الكافور
امّا الافراد المتوسّطون الذين يمحون بجمال الله اثر تجليات صفاته و مشاهدة أسمائه، فيعمدون إلى خلط قدر من نهر الزنجبيل- و هو مادّة تبعث الحرارة- في كؤوس شرابهم ليبقى طلبهم و عشقهم حيّاً على الدوام و لكي تبقى الحرارة موجودة فيهم بقدرٍ كاف.
{وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا ، عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا}٢.
و الزنجبيل نهر يسمّى بالسلسبيل، فهو من فرط حُسن مذاقه يمنح الشاربين حرارة الطّلب، و بالطبع فلأنّ هؤلاء لم يصل اشتياقهم و عشقهم إلى الذروة، فانهم لذلك لا يُسقون من الزنجبيل الخالص، بل يمزجون في كأسهم من نهر الزنجبيل فيسقونهم منها؛ و لأنهم لا يزالون مشتاقين للسير
في الصفات، فانّ محبّتهم لذلك لم تصفُ عن لذّة حرارة الطلب، فهم يهدأون و يسكنون أحياناً من واردات و تجليات الجمال، لذا يُصبّ في كأسهم من عين الكافور، و الكافور شراب بارد معطّر يبعث على السكون و الارتياح.
{إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ، عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً}۱.
و لأنهم لم يصلوا إلى مقام الجمع، و لم يستغرقوا في عين جمع الذات، لذلك فليس لهم ذلك السكون المطلق و ذلك الهدوء من جميع الجهات، و انّما السكون للذين وصلوا إلى مرحلة العبوديّة المطلقة و أصبحوا من عباد الله، فاولئك من المقرّبين و يسقون من أصل عين الكافور، بالإضافة إلى انّهم يُجرون من تلك العين في قلب كلّ من له قابليّة و استعداد، و يصبّون منها في كأس كلّ فرد حسب قابليته.
و على كلّ حال فانّ عين الكافور هذه هي نفسها عين التسنيم المختصّة هي الاخرى بالمقرّبين، لكنهم يصبّون قدراً منها في كأس الأبرار.
{إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ، وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}٢.
انّ الأبرار يشربون من شراب مختوم، ختامه طيّب و طاهر، هي قوانين الشرع المقدس التي ملئوا بها آنية الشراب و صانوها عن تلاعب
الشيطان، فهم يصبّون قدراً من نهر التسنيم في ذلك الشراب الصافي و يقدّمونه للأبرار، لكنّ المقربين يُسقون من نفس عين التسنيم الجارية من أعلى نقاط الجنّة.
عين التسنيم تجري تحت أقدام أمير المؤمنين عليه السّلام
انّ المستقرّ على الأعراف، الذي يجري التسنيم تحت أقدامه، هو مولى الموالي أمير المؤمنين صاحب مقام الولاية الكبرى، ذلك الذي يشرب جميع المقرّبين من العين الجارية تحت أقدامه.
كما انّ نهر التسنيم يستمدّ ماؤه من قلب أمير المؤمنين عليه السلام فيسقي المقرّبين، ثم يرد في حوض الكوثر. ثم انّ جميع أنواع تلك العلوم التي ذكرناها من التسنيم و الكافور و الزنجبيل و الخمر الصافي و أنهار اللبن و الماء غير الأسن و أنهار العسل تنبع كلها من مقام الولاية، أي العلم المطلق، فتجري إلى قلوب الشيعة و الموالين أينما كانوا و حيثما حلّوا، فتروى كلّ واحد من الناس بدوره حسب قابليته و ظرفيّته.
ساقي الحوض الكوثر
وردت كثير من الروايات المستفيضة عن الأئمة سلام الله عليهم في أنّ ساقي حوض الكوثر هو أمير المؤمنين عليه السلام، فهو يسقي مواليه بالأقداح التي توزّعت على جوانب الحوض، و يذود عن الحوض بالعصا التي في يده أعداء أهل بيت العصمة.
الّا اننا نذكر بعض الروايات المنقولة عن العامّة في هذا الباب، فيروي محبّ الدين احمد بن عبد الله الطبري، عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم: "يَا عليّ مَعَكَ يَوْمَ الْقِيامةِ عَصَا مِنْ عَصَي الجنّةِ تُذودُ بها المنَافِقين عَنِ الْحَوْضِ". أخرجه
الطبراني۱.
يقول القندوزي الحنفي: أخرج أبو المؤيد أخطب الخطباء الموفّق بن أحمد الخوارزمي عن سيّد الحفّاظ أبي منصور شهردار ابن شيرويه الديلمي بسنده، عن زيد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه أمير المؤمنين علي رضي الله عنهم، ثم ينقل رواية مفصّلة و من جملة فقراتها يقول:
يَا عليّ ... "وَ إنَّكَ غَدَاً عَلَي الْحَوْضِ خَليفَتِي، وَ أنْتَ أوَّلُ مَنْ يَرِدُ عليّ الْحَوْضَ، وَ أنْتَ تَذُودُ المنَافِقين عَنْ حَوضِي، وَ أنتَ أوَّلُ دَاخِلٍ في الجَنَّةِ مِنْ امَّتِي، وَ إنَّ مُحِبِّيكَ وَ أتْبَاعَكَ عَلَي مَنَابِرٍ مِنّ نُورٍ، رواءٌ مَرويّينَ، مُبيَضَّةٌ وُجُوهُهُمْ حَوْلي، أشْفَعُ لهم فَيَكُونُونَ غَداً جِيرَاني، وَ إنَّ أعدَاءَكَ غَداً ظِماءٌ مُظْمَئِينَ مُسْوَدَّةٌ وُجُوهُهُمْ، يُضْرَبُونَ بِالمقَامِعِ وَ هِي سِيَاطٌ مِن نَارٍ مُقْمَحين"، (الحديث)٢.
و يقول أيضاً: أخرج أبو نعيم الحافظ، عن أبي هُريرة قال:
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه [و آله] و سلّم لِعَليّ رضيَ الله عنه: أنْتَ يَا عليّ عَلَى حَوضِي تَذُودُ عنه المنَافِقين، وَ إنَّ أبَارِيقَهُ عَدَد نُجُومِ السَّمَاءِ، وَ أنْتَ و الحَسَنُ و الحُسَيْنُ وَ حَمْزَةٌ وَ جَعْفَرٌ في الجنّةِ إخوانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلينَ، وَ أنْتَ وَ أتْبَاعَكَ مَعِي، ثُمَّ قَرَأ: {وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ}٣.
و يقول أيضاً: و في جمع الفوائد: جابر و أبو هريرة رفعاه:
"عَليّ بنُ أبِي طَالِبٍ صَاحِبُ حَوضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ". للأوسط٤.
و يقول أيضاً: أبو سعيد رفعه:
"يَا عليّ! مَعَكَ يَومَ الْقِيامةِ عَصًا مِن عَصَى الجنّةِ تَذُودُ بها المنَافِقين عَن حَوضِي". للأوسط۱.
و يقول: و في (جواهر العقدين)، أخرج الطبراني عن أبي كثير قال:
كُنتُ جَالِسًا عِنْدَ الْحَسَنِ بنِ عليّ رضي اللهُ عنهما، جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لَه: إنَّ مُعَاوِيَة بنَ خَديجٍ يَسُبُّ أبَاكَ عِنْدَ ابنِ أبي سُفيَانَ، فَقالَ لَهُ: إن رَأيتَهُ مِن بَعْدُ، ارنيه! فَرَآهُ يَوْمًا فَأراه ذلك الرجل،
فقال الحسنُ رَضي اللهُ عنه لابنِ خَدِيجٍ: "أنْتَ تَسُبُّ أبَايَ عِنْدَ ابنِ آكِلَةِ الأكْبَادِ؟
أما لَئِن وَرَدتَ عَلَى الحَوضِ وَ مَا أرَاكَ تَرِدُهُ، لَتجِدَنَّ أبي مُشَمِّراً حَاسِراً ذِرَاعَيْهِ، يَذُودُ المنَافِقين عَنْ حَوضِ رسولِ الله صلى الله عليه [و آله] و سلم و هَذَا قَوْلُ الصَّادِقِ المصَدَّقِ صلى اللهُ عليه [و آله] و سلّم"٢.
و يقول أيضاً: لأحمد في (المناقب)، انّ رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم قال: "اعْطِيَتْ في عليّ خَمْسٌ، هُنَّ أحَبُّ إلى مِنَ الدُّنيا وَ مَا فِيهَا".
إلى أن قال: "وَ أمّا الثَّالِثَةُ فَهُوَ وَ اقِفٌ عَلى حَوضِي يَسْقِى مَنْ عَرَفَهُ مِن امَّتِي"٣.
و يقول أيضاً: و في (المناقب)، عن سيعد بن جبير، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم:
"يَا عليّ، أنْتَ صَاحِبُ حَوْضِي، وَ صَاحِبُ لِوائِي، وَ حَبِيبُ قَلْبِي، وَ وَصِيِّي، وَ وَارِثُ عِلمي، وَ أنْتَ مُسْتَوْدعُ مَوَارِيثِ الأنْبِياءِ مِنْ قَبْلي، وَ أنْتَ أمين اللهِ في أرْضِهِ، وَ حُجّةُ اللهِ عَلى بَرِيَّتِهِ، وَ أنْتَ رُكْنُ الإيمانِ، وَ عَمُودُ الإسْلَامِ، وَ أنْتَ مِصْبَاحُ الدُّجَى، وَ مَنَارُ الهدى، و الْعَلَمُ المَرفُوعُ لأهْلِ الدُّنيا، يَا عليّ، مَنِ اتَّبَعَكَ نَجَى، وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْكَ هَلَكَ، وَ أنْتَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ وَ الصِّرَاطُ المسْتَقِيم، وَ أنْتَ قَائِدُ الْغُرِّ المحَجَّلينَ وَ يَعْسُوبُ المؤمِنينَ، وَ أنْتَ مَوْلى مَنْ أنَا مَوْلاهُ، وَ أنَا مَوْلَى كُلِّ مُؤمِنٍ وَ مُؤمِنَةٍ، لَا يُحِبُّكَ إلَّا طَاهِرُ الْوِلَادَةِ، وَ لَا يُبْغِضُكَ إلَّا خَبِيثُ الْوِلَادَةِ، وَ مَا أعْرَجَني رَبِّي عَزَّ وَ جَلَّ إلى السَّمَاءِ وَ كَلَّمني رَبّي إلَّا قَالَ: يَا محمّد إقْرَءْ عَلياً مِنِّي السَّلَامَ وَ عَرِّفهُ أنَّهُ إمَامُ أوليائِي وَ نُورُ أهْلِ طَاعَتِي، وَ هَنيئاً لَكَ هَذِهِ الْكَرَامَة"۱.
و يقول ابن شهر آشوب: و في أخبار أبي رافع من خمسة طرق: قال النبيّ صلى الله عليه و آله:
"يَا عليّ تَرِدُ عليّ الْحَوضَ وَ شِيعَتُكَ رُوَاءً مَروِيّينَ، وَ يَرِدُ عَليكَ عَدُوُّك ظِمآءٌ مُقْمَحين"٢.
و جاء في تفسير قوله تعالى: {وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً}، يَعني سَيِّدهُم عليّ بن أبي طالِبٍ، و الدَّليلُ عَلى أنَّ الرَّبَّ بِمعنى السَّيِّدِ، قولُهُ تعالى: وا ذْكُرني عِنْدَ رَبِّكَ٣.
الفايق (للزمخشري): إنَّ النَّبِيّ قَالَ لِعَليّ: "أنْتَ الذَّائِدُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ القِيامةِ، تَذُودُ عَنْهُ الرِّجَالَ كَمَا يُذادُ الأصيدُ البعيرُ الصَّادِي، أي الَّذِي
بِهِ الصَّيْدُ، و الصَّيدُ دَاءٌ يَلْوِي عُنُقَهُ"۱.
أشعار السيّد الحميري في حوض الكوثر و ساقيه
و يقول الحميري شاعر أهل البيت سلام الله عليهم:
اؤَمِّلُ في حُبِّهِ شِرْبَةً | *** | مِنَ الْحَوْضِ تَجْمَعُ أمْناً وَ ريَّا |
إذَا مَا وَرَدْنَا غَدَاً حَوْضَهُ | *** | فَأدْنى السَّعِيدَ وَ ذَادَ الشَّقِيَّا |
مَتَى يَدْنُ مَولاهُ مِنْهُ يَقُلْ | *** | رِدِ الْحَوضَ وَ اشْرَبْ هَنيئاً مَرِيَّا |
وَ إن يَدْنُ مِنْهُ عَدوٌ لَهُ | *** | يَذُدْهُ عَلى مَكَانَاً قَصِيّا٢ |
و يقول أيضاً في غاصبي مقام الولاية ضمن قصيدة طويلة:
وَ أزْمَعُوا غَدْرَاً بمولاهمُ | *** | تَبَّاً لما كَانُوا بِهِ أزْمَعُوا |
لا هُمْ عَليهِ يَردُوا حَوْضَهُ | *** | غَداً وَ لا هُوَ فِيهُم يَشفَعُ |
حَوضٌ لَهُ مَا بين صَنعَا إلى | *** | أيْلَةِ أرضِ الشَّامِ أو أوسَعُ |
يُنْصَبُ فيهِ عَلمٌ لِلهدى | *** | وَ الْحَوضُ مِنْ مَاءٍ لَهُ مُتْرَعُ |
يَفيضُ مِنْ رَحْمَتِهِ كَوْثَرٌ | *** | أبْيَضُ كَالفِضَّةِ أو أنْصَعُ |
حَصَاهُ يَاقُوتٌ وَ مَرْجَانَةٌ | *** | و لُؤْلُؤٌ لمْ تَجْنِهِ إصْبَعُ |
بَطْحاؤهُ مِسْكٌ و حافاتُهُ | *** | يَهْتَزّ مِنْها مونقٌ مُونعُ |
أخْضَرُ ما دونَ الْجنى ناضِرٌ | *** | وَ فَاقِعٌ أصْفَرُ مَا يَطْلَعُ |
وَ الْعِطْرُ وَ الرَّيْحَانُ أنواعُهُ | *** | تَسْطَعُ إن هَبَّت بِهِ زَعْزَعُ |
رِيحٌ من الجنّةِ مَأمُورَةٌ | *** | دَائِمَةٌ ليسَ لها مَنْزَعُ |
إذَا مَرَتهُ فَاحَ مِن رِيحِهِ | *** | أزكى مِنَ المسكِ إذَا يَسْطَعُ |
فيه أباريقُ وَ قِدْحَانُهُ | *** | يَذُبّ عَنْهَا الأنزَعُ الأصلَعُ |
يَذُّبُ عَنْهُ ابنُ أبي طالِبٍ | *** | ذَبَّكَ حَربي إبِلٍ تَشْرَعُ |
إذا دَنَوا مِنْهُ لِكَيْ يَشْرَبُوا | *** | قيلَ لهم تَبَّاً لَكُمْ فَارجِعُوا |
دُونَكُمُو فَالْتمسُوا مَنْهَلًا | *** | يُروِيكُمُ أو مطْعَمَاً يُشْبِعُ |
هَذَا لمنْ وَالى بَني أحْمَدٍ | *** | وَ لم يَكُن غيرهُم يَتْبَعُ |
فَالفَوزُ لَلشَّارِبِ مِنْ حَوضِهِ | *** | وَ الْوَيلُ وَ الذلُّ لمنْ يمنَعُ۱ |
و الخلاصة فهذا الحوض هو معدن علم أمير المؤمنين عليه السلام الذي يُحيي الأرواح و يشفي القلوب، من دخله أعمى صار مُبصراً، و من ورده أسودَ صار أبيضاً، و من دخله مريضاً شُفي، و من دخله محترقاً وجد روحاً جديدة، و لذا فانّ هذا الحوض يجري من الأعراف و هو مقام أمير المؤمنين، و يجري من التسنيم و هو علمه عليه السلام، و لا مقام أعلى منه الّا عرش الله الذي يُشير إلى مقام الحقيقة النبويّة.
قال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في حديثه المتّفق عليه لدى الفريقين:
"أنَا مَدِينَةُ الْعِلم وَ عَلي بَابها"٢.
الدَّرْسُ الْحَادِي عَشَرْ: مَعْنَى وَحْيْ الْخَيْرَاتِ إلى الأئِمَّةْ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدّين
و لا حول و لا قوّة الّا بالله العلي العظيم
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ}۱.
بحثنا في المباحث السابقة في كيفية الهداية بأمر الله و شرائط تحقّقها من خلال ما استنتجناه من الآيات القرآنية، و نبحث الآن في الجملة الأخرى من الآية، القائلة: {وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ} لنستنتج معناها بحول الله و قوّته.
معنى ايحاء الخيرات إلى الأئمّة:
يقول الله تعالى في هذه العبارة الشريفة انّ نفس الأعمال الخيرة التي كانوا يعملونا هي من وحينا، لأنّ المصدر المضاف يفيد تحقّق الفعل في الخارج، فاذا قال أحد: يُعجِبُني إحْسَانُكَ وَ فِعْلُكَ الْخير، فانّه يُستفاد منه انّ الإحسان و فعل الخير الذي عملتَه قد سرّني. امّا اذا أرادوا أن يقولوا إنّ إحسانك و فعلك الخير بعد هذا يسرّني، فانهم لا يضيفون المصدر، بل امّا
يقطعونه عن الإضافة أو أن يذكروا الفعل مع (أن المصدريّة)، فيقولون: يُعجبني أن تُحسن و أن تفعل الخير، أو يقولون: يعجبني الإحسان لك و الفعل لك.
شأن ذلك شأن الآيات التي بُيِّنَت في القرآن بعنوان تشريع الأحكام، و يقصد بها الإتيان بتلك الأفعال في الزمان المستقبل لوقت الخطاب، فاستعمل في تلك الآيات (أن المصدرية).
مثل {أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}۱، و {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ}٢، و {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}٣، و {أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ}٤.
معنى الوحي التكويني:
امّا في الآية مورد البحث، فهو لا يقول: وَ أوْحينا إليهِمْ أنْ يَفْعَلُوا الْخيراتِ، بل يقول: انّ الافعال الخارجيّة التي تصدر منهم هي عين وحينا، و انّا أوحينا اليهم الأفعال الخيرة التي يعملونها، و في هذه الحال فانّ نفس فعلهم هو مورد الوحي. و ينبغي أن نرى- بناءً على هذا- كيف يمكن ان يكون الفعل مورد الوحي؟ و نأتي بشاهد من القرآن الكريم لبيان هذا الأمر:
{وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}٥.
فهل هذا الوحي الذي أوحاه الله تعالى للنحل مثل الوحي إلى قلوب الأنبياء؟
فالوحي يصل إلى قلب النحل في كلّ لحظة أن اصنعي هذا النوع من البيوت، و اسكني هنا، و قِفي على هذه الوردة، ثم على تلك الوردة! و لا تقفي على الوردة ذات الرائحة الكريهة! أو انّ الأمر ليس كذلك، بل انّ الله سبحانه خلق هذا الحيوان اللطيف العجيب بحيث انّها لا تعمل شيئاً الّا بإرادة الله. فهذا الحيوان المعصوم يسير دون أي تدخّل للنفس الأمّارة و الآمال الباطلة و حبّ الشخصيّة وفق برنامج معيّن عينه الله تعالى له في عالم التكوين، و يسير في كلّ لحظة بأمر و إذن ربّ العالمين، فينتقل حسب دعوة الفطرة من هذه الوردة إلى تلك، و يتناول رحيق الوردة ذات الرائحة الجيّدة، و يصنع بيتاً هندسيّاً بشكل عجيب في السقوف و الجبال و الأشجار. و هذا الوحي يُدعى بالوحي التكويني، أي انّ الله سبحانه و تعالى ينظّم في عالم التكوين و الخارج حركات ذلك الحيوان و سكناته دون تدخّل أي أمر خارجي يُخرجه من الصراط المستقيم في سيره التكاملي، كما يحرّكه في السبل و طرق السعادة و الأعمال الحسنة حسب برنامج الخلقة.
وحي الخيرات إلى الأئمّة
وحي الخيرات للأئمّة:
تقول الآية القرآنية المباركة: {وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ}، أي انّ جميع الأفعال الحسنة التي تظهر عنهم هي بإذننا و أمرنا، و انّ ملكوتها بيدنا، و بالنتيجة فانّ أعمالهم تصدر منهم دون أي تدخلّ للفكر النفساني و الهوى و العُجب.
فهم لا يفكرون و لا يفعلون بالاعتبار شيئاً للمحافظة على مصالحهم، و لا يقعون في اعتبارات واهية من أجل فعلٍ ما، فيفعلوه على أساس
مصلحةٍ خيالية، بل انهم اجتازوا جميع هذه المراحل، فصارت إرادتهم إرادة الله، و صار فعلهم يصدر عن ضمير طاهر بلا مواربة و لا خيانة و بلا شائبة من التفكير بالمصلحة أو ملاحظة للأجر و الثواب أو تفكيرٍ بعاقبة. هؤلاء هم الذين جزاؤهم نفس فعلهم، فليسوا في صدد جزاء خارج عن نفس فعلهم و حقيقته.
هذا الفعل هو فعل الله الذي يطلع بإرادة الله من مرآة وجودهم و صُقع نفوسهم، و يظهر من مصدر تجلّي وجودهم، و لذلك يمكن القول أنّ نفس فعلهم هو وحي الله. انّ الانسان ما لم تبصر عينه جمال ربّه فينسى تدريجاً مراتب وجوده و يصبح موجوداً بالله تبارك و تعالى، فانّه سيرى أنّ جميع أفعاله صادرة عن نفسه، و سيقوم بها حتماً من أجل غايةٍ و هدف. لكنّه اذا تقدّم بقدم صدق في مرحلة العبوديّة فانّه سوف يتأثّر تدريجياً بمشاهدة قدرة الله و علمه المطلق و بانكشاف مراحل التوحيد في وجوده، فيصبح لا يدرك وجوداً لنفسه بعدُ ليقوم بعملٍ ما لحفظه أو لاستجلاب منفعةٍ له و دفع الضرر عنه، و سيرى نفسه خاضغاً مستسلماً بيد القدرة الالهيّة كالعجينة في القبضة القوية، و سيرى وجوده سراباً اثر بزوغ شمس الحقيقة و مشاهدة الجمال المطلق و العلم و الحياة المطلقة، فلا يمكنه أن يعمل لنفسه و لمصلحته، و سيكون كلّ ما يصدر عنه في هذه الحال هو عمل الحق فقط.
كما يقول سُبحانه في الحديث القدسيّ الذي رواه الفريقان: "لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلى بِالنَّوَافِلِ حتى احِبَّهُ، فَإذَا أحَبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ وَ بَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ وَ لِسَانَهُ الذي يَنْطِقُ بِهِ وَ يَدَهُ التي يَبْطِشُ بها"۱.
اي انّه لن يعدّ أذنه ملكاً له، بل انّ أذنه مجرى يسمع الله بها، و عينه وسيلة يرى الله بها؛ و تدلّ الآية المباركة القرآنية:
{وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى}۱، على هذا المقام. كما انّ الآية المباركة: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}٢، تدلّ على هذا المعنى أيضاً.
تحقق شرائط الإمامة
و عموماً فانّه يُستفاد من الآية المباركة: {وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ}، أنّ الإمام هو من توجّب عليه حقّاً اجتياز مراحل النفس و الورود في مراحل التوحيد الحقيقي، و مع طلوع الشمس المشرقة على العالم و ظهور ذات الحق المقدّسة جلّ و علا في مرايا الكائنات و تجليها في الماهيّات الإمكانية، فانّ عليه ان لا يرى في نفسه ظهوراً أو بروزاً، بل عليه أن يجعل أصل وجوده مندكّاً في وجود حضرة مفيض الوجود، ليصبح فعله و حركته و سكونه و قيامه و قعوده و حربه و سلمه فعل الله.
و لو وصل امرؤ ما إلى هذه المرحلة كان له قابلية الإمامة بإذن الله، و الّا فلا، و ذلك لأنّ الإمام يعني مَن يهدي المأموم إلى مقامه و مقصده، فمن لم يخرج من شوائب النفس الأمّارة إذا أصبح إماماً فانّه سيدعو جميع المأمومين إلى مقامه و محلّه، أي للميول و الرغبات النفسيّة. و من الواضح انّ هذه الدعوة ليست دعوةً إلى الله بل دعوةً للنفس. و الإمام بهذه الخاصيّة التي ذُكرت، لأنّ فعله فعل الحق و قوله قول الحق لذا فهو حجّة، لأنّ فعل و قول الحق حُجّة.
و بناءً على هذا يجب اتباعه (أي الإمام) و عدم انتقاد فعله، لأنّ انتقاد فعل الإمام يعني انتقاد فعل الحق، و على الناقد ان يرجع إلى ذاته ليجد العيب و الخلل هناك، لأنّها نسبت- لجهلها و عدم معرفتها بالإمام- العيبَ اليه.
كما يمكن ان يكون هناك كثير من الأفراد الطيّبين ذوي الأعمال الصالحة، لكنهم لم يتخطّوا ذواتهم خارجاً، لذا فانهم لم يتعرّفوا على الإمام، لأنّ الإمامة في غاية الرفعة و السموّ.
ثورة زيد بن عليّ بن الحسين لم يكن بأمر من الإمام
ثُورة زيد بن علي بن الحسين لم تكن بأمر من الإمام:
ينقل المرحوم الكليني في (أصول الكافي)، كتاب الحجّة، باسناده عن أبان عن الأحول۱، أنّ زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام بَعَث اليه و هو مستخفٍ، قال: فأتيتُه.
فقال لي: يا أبا جعفر ما تقول إنْ طَرَقَكَ طارقٌ منّا أ تخرجُ معه؟
قال: فقلتُ له: إنْ كان أباك [الإمام علي بن الحسين] أو أخاك [الإمام محمّد الباقر] خرجتُ معه.
قال: فقال لي: فأنا أريد أن أخرج أجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي.
قال: قلتُ لا ما أفعل جُعلتُ فداك.
قال: فقال لي: أ ترغب بنفسكَ عنّي؟
قال: قلتُ له: إنّما هي نفسٌ واحدة، فإنْ كان لله في الأرض حجّة فالمتخلّفُ عنك ناجٍ و الخارجُ معك هالكٌ، و إنْ لا تكن للّه حجّة في الأرض
فالمتخلّفُ عنك و الخارجُ معك سواء.
قال: فقال لي: يا أبا جعفر كنتُ أجلس مع أبي على الخوان فيُلقمني البَضعةَ السمينة و يبرّد لي اللقمة الحارّة حتى تبرد شفقةً علي و لم يشفق عَلي من حرّ النار إذا أخبرك بالدين و لم يُخبرني به؟
فقلتُ له: جُعِلْتُ فِداكَ مِنْ شفقته عليك من حرّ النار لم يُخبرك؛ خافَ عليك أن لا تقبله فتدخل النارَ و أخبرني أنا، فإن قبلتُ نجوتُ و إن لم أقبل لم يُبالِ أن أدخل النّار.
ثم قلتُ له: جُعلت فداك أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء.
قلتُ: يقول يعقوبُ ليوسفَ عليهما السلام: {يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً}۱، لِمَ لَمْ يُخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه و لكن كتمهم ذلك، فكذا أبوك كتمك لأنّه خاف عليك.
قال: فقال: أما و الله لئن قُلتَ ذَلك لقد حدّثني صاحبُك بالمدينة أني اقتل و اصلب بالكناسة و أنّ عنده لصحيفة فيها قتلي و صلبي.
فحججتُ فحدّثتُ أبا عبد الله عليه السلام بمقالة زيد و ما قلتُ له، فقال لي: أخذتَهُ من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله و من فوق رأسه و من تحت قدميه و لم تتركْ له مَسلكاً يسلكه٢.
لقد كان لزيد بن علي بن الحسين مقام شامخ، و كان مشهوراً بالتقوى و الزهد و الغيرة و الإيثار و الإنفاق و العبادة، و عند ما استشهد تأثّر الإمام الصادق عليه السلام عليه كثيراً و بكى و ترحّم عليه، و لكن و مع ذلك كله فقد كان مقام الإمام شيئاً آخر لم يكن زيد يعرف عنه شيئاً.
حركة الإمام و سكونه كلاهما صحيح:
لقد نفد صبر زيد أمام انحراف هشام بن عبد الملك و جرائمه، و لم يكن له سعة صدر ليتحمّل هذه الأمور، فقام بثورته ضدّه، امّا الإمام فانّه لا يكلّ أبداً من التصدّي للظلم، و لأنّ نفسه لا تضيق فانّه لا يُقدم على المواجهة الدمويّة ما دام ذلك في غير صالح الاسلام و المجتمع الاسلامي، و لا يتأثّر بإحساساته أو إحساسات جلسائه أو إلقاءآتهم، فهو لا يمتلك حسّ الانتقام، و لا يُقدم على عملٍ ليرضى رغبته و ليشفي غرائزه، بل انّ أعماله كلها وفق أعلى برامج الإنسانيّة لهداية الخلق إلى أعلى درجة الكمال، و في هذه الحال فانّ حربه و سلمه كلاهما مصلحة، و كلاهما من فعل الله تعالى، و حركته و سكونه من أفعال الله أيضاً و يجب اتّباعه فيهما.
و الخلاصة فانّ مقام الإمامة هو الالتزام برسالة الله و هداية نفوس الناس إلى الله، و ليس هناك من يليق بهذا المقام الّا من اتّسعت نفسه و فاز بعلوم الله و صار حيّاً بحياة الله و أفلح في الامتحانات الالهيّة و تجاوز مراحل النفس كلياً.
و لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام نفس رسول الله صلى الله عليه و آله، و كان الرسول الأكرم يصرّح بهذا الأمر في مواطن كثيرة، و لم يكن هذا التصريح بالطبع من وجهة نظر الظاهر و المجاملات الإعتباريّة و البلاغات العاديّة للناس، بل كان ذلك على أساس إدراك للواقع و الوقوف على مراتبه و قابليّاته و مقاماته اللامتناهية، فهي كاشفة و مظهرة لتلك الواقعيّة.
و حسب تصريح الآية القرآنية في قضيّة المباهلة، فقد عُدّت نفس أمير المؤمنين نفسَ رسول الله و اعتُبرت بمنزلة نفس النبّي الأكرم، كما قد
اعترف الفخر الرازي في ذيل تفسير آية المباهلة بهذه الحقيقة.
يقول القندوزي: أخرج صاحب (المناقب) عن جعفر الصادق، عن أبيه، عن جدّه علي بن الحسين: أنّ الحسن بن علي (عليهم السلام) قال في خطبته:
"قال الله تعالى لجدّي صلى الله عليه [و آله] و سلم حين جحده كفرةُ أهل نجران و حاجّوه:
الرواية في اتّحاد نفس الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم مع نفس أمير المؤمنين عليه السّلام
{فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ}۱.
فَأخْرَجَ جَدِّي صلى اللهُ عليه [و آله] و سلّم مَعَهُ مِنَ الأنْفُسِ أبي، وَ مِنَ البَنين أنَا وَ أخِي الحسين، وَ مِنَ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ امِّي، فَنحن أهْلُهُ وَ لَحْمُهُ وَ دَمُهُ وَ نَفْسُهُ، وَ نحن مِنْهُ وَ هُوَ مِنَّا".
ثم قال: و في (عيون الأخبار) عن الريّان بن الصلت، قال الرضا رضي الله عنه: "عَني اللهُ مِنْ أنْفُسِنَا نَفْسَ عليّ، وَ ممّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيّ صلى اللهُ عليه [و آله] و سلم: لِتَنْتَهِيَنَّ بَنُو وليعة أوْ لَابْعَثَنَّ إليهِم رَجُلًا كَنَفْسِي يَعْني عليّ بنَ أبي طالِبٍ، فَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ بَشَرٌ". و قد تقدّم في الباب الخامس٢.
ثم يقول: أخرج أحمد [بن حنبل] في (المسند) عن عبد الله بن حنطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم لوفد ثقيف حين جاؤه. "لَتُسْلِمُنَّ أوْ لَابْعَثَنَّ إليكُمْ رَجُلًا كَنَفْسِي لَيضْرِبَنَّ أعْنَاقَكُمْ، وَ ليسْبِيَنَّ ذَرَارِيكُمْ، ليأخُذَنَّ أمْوَالَكُمْ، فَالْتَفَتَ إلى عليّ وَ أخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ: هَذَا هُوَ
(مرّتين)"۱.
و يقول أيضاً: أخرج أحمد بن حنبل في (المسند) و في (المناقب): انّ رسول الله قال: "لَتَنتَهِيَنَّ يَا بَني وَليعة، أو لَابْعَثَنَّ إليكُمْ رَجُلًا كَنَفْسِي يُمضِي أمْرِي، يَقْتُلُ المقَاتِلَةَ، وَ يَسْبِي الذُّرِّيَّةَ، فَالتَفَتَ إلى عليّ فَأخَذَ بِيَدِهِ وَ قَالَ: هُوَ هَذَا (مرّتين)".
ثم يقول: و قد أخرج الموفّق بن أحمد الخوارزمي عين هذا الحديث بنفس الألفاظ٢.
و ينقل أيضاً من كتاب (المشكاة) عن حبيش بن جنادة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم: "عليّ مِنّي وَ أنَا مِن عليّ وَ لَا يُؤَدِّي عَني إلّا أنَآ أوْ عليّ".
ثم يقول: روى الترمذي هذا الحديث، و رواه أيضاً أحمد بن حنبل عن حبيش بن جنادة. و يقول الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيح.
كما روى هذا الحديث عن ابن ماجة عن ابن جنادة ٣.
و يقول أيضاً انّه رواه في (المشكاة) عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال:
انّ النبيّ صلى اللّه عليه [و آله] و سلم قال: "إنّ عَليّاً مِنّي وَ أنَا مِنْهُ وَ هُوَ وَليّ كُلِّ مُؤمِنٍ بَعْدِي". (رواه الترمذي) ٤.
و يقول الحمويني في (فرائد السمطين) باسناده عن علي كرّم الله وجهه قال: "اهْدِيَ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه [و آله] و سلّم قَنْوُ مَوزٍ،
فَجَعَلَ يَقشرُ الموزَ بيدهِ وَ يجعَلُها في فَمِي، فقالَ قَائلٌ: يَا رسولَ اللهِ! إنَّكَ تُحِبُّ عَليٍّا!
قالَ: أ وَ مَا عَلِمْتَ أنَّ عَليّاً مِني وَ أنَا مِنْ عليّ"۱.
و يقول أيضاً: روى أحمد بن حنبل في مسنده عن حبيش بن جنادة السلولي قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم يقول: "عليّ مِنّي وَ أنَا مِنهُ وَ لا يُوَدِّي عَنّي إلّا أنَا أو عليّ"٢.
و يقول أيضاً: في كتاب (المناقب)، عن عطيّة بن سعد العوفي، عن مخدوج بن يزيد الذهلي قال: نَزَلَتْ آيَةُ {أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ}
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أصْحَابُ الجنّةِ؟
قال: "مَنْ أطَاعَنِي، وَ وَ إلى عَليًّا مِنْ بَعْدِي، وَ أخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه [و آله] و سلم بِكَفِّ عليّ فقالَ: إنَّ عَليّاً مِنّي، وَ أنَا مِنْهُ، فَمَنْ حَادَّهُ فَقَدْ حَادَّني، وَ مَنْ حَادَّني أسْخَطَ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ".
ثم قالَ: "يَا عليّ! حَرْبُكَ حَربِي، وَ سلمُكَ سِلْمي، وَ أنْتَ الْعَلم بيني وَ بين امَّتِي".
قالَ عَطِيّهُ: سَألْتُ زَيْدَ بنَ أرقَم عَنْ حديثِ مخدوجٍ قالَ: اشْهِدُ اللهَ لَقَدْ حَدَّثَنَا بِهِ رَسُولُ اللهِ٣.
الخصال الموجودة في أمير المؤمنين عليه السّلام
و يقول القندوزي أيضاً: و في (المناقب) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه [و آله] يقول:
"في عليّ خِصَالٌ لَوْ كَانَت وَاحِدَةٌ مِنْهَا في رَجُلٍ اكتَفِى بها فَضْلًا
وَ شَرَفاً".
قوله صلى الله عليه [و آله] و سلم: مَن كُنْتُ مَولَاهُ فَعَليّ مَوْلَاه.
و قوله: عليّ مِني كَهَارُونَ مِنْ موسى.
و قوله: عليّ مِنّي وَ أنَا مِنْهُ.
و قوله: عليّ مِني كَنَفْسِي، طَاعَتُهُ طَاعَتِي، وَ مَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَتِي.
و قوله: حَرْبُ عليّ حَرْبُ اللهُ، وَ سَلم عليّ سِلمُ اللهُ.
و قوله: وَليّ عليّ وَليّ اللهِ وَ عَدُوُّ عليّ عَدُوُّ اللهِ.
و قوله: عليّ حُجّةُ اللهِ عَلى عِبَادِهِ.
و قوله: حُبُّ عليّ إيمانٌ وَ بُغْضُهُ كُفْرٌ.
و قوله: حِزْبُ عليّ حِزبُ اللهِ، وَ حِزْبُ أعْدَائِهِ حِزْبُ الشَّيْطَانِ.
و قوله: عليّ مَعَ الحقّ وَ الحقُّ مَعَهُ لَا يَفْتِرِقَانِ.
و قوله: عليّ قَسِيمُ الجنّةِ وَ النَّارِ.
و قوله: مَنْ فَارَقَ عَلياً فَقَدْ فَارَقَني، وَ مَنْ فَارقَني فَارَقَ اللهَ.
و قوله صلى الله عليه [و آله] و سلم: شِيعَةُ عليّ هُمُ الْفَائِزُونَ يَوْمَ الْقِيامةِ.
و يُستفاد من مجموع هذه الروايات انّ رسول الله قد جعل علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام في بيته و حرمه حرم الله، من وجهة الباطن و المعارف الالهيّة، و الاطّلاع على الأسرار الغيبيّة، و من وجهة الظاهر، و كانا دائماً في السرّ و الشهادة و الظاهر و الخفاء نفسين تشعّبا من أصل واحد، و خاصةً في تلك الفقرة من الرواية حيث قال: لَا يُؤَدِّي عَنّي إلَّا أنَا أو عليّ و المقصود هو انّ أحداً لا يستطيع حمل ثقل الرسالة و هداية الناس إلى الله من وجهة الظاهر و الباطن، أي بالسيطرة على أنفسهم و ملكوتهم، الّا أنا أو عليّ، و بناءً على ذلك فانّه كان عليه السلام شريكاً
لرسول الله في جميع المقامات و الدرجات، و في نفس الدرجة، و هي مقام الحمد و حمل لواء الحمد، و وفقاً للعديد من الروايات فانّ ذلك اللواء بيد أمير المؤمنين، أي انّ أحداً لم يعرف الله كما عرفه أمير المؤمنين، لذا فانّ أحداً غيره عليه السلام لم يستطع حمد الله كما يليق بذلك المقام العالي الرفيع، كما انّ مقام الشفاعة يوم القيامة في يده عليه السلام و يد ذريّة رسول الله.
لقد نقلنا في المباحث السابقة بعضاً من مقامات أمير المؤمنين، مثل كونه قسيم الجنّة و النار، و إعطائه الجواز على الصراط، و كونه ساقي الكوثر؛ و ذكرنا أيضاً مقام الشفاعة و ميزان العمل.
رفع الشبهة في أنّ خصائص مقام الولاية منافية لقدرة الله تعالى
و يجب ان نعلم انّ اتّصافه عليه السلام بهذه الصفات لا ينافي قدرة الله تعالى، بل هو عين الصفات التي في الله سبحانه، لم تنسلخ عنه سبحانه حين اعطيت لأمير المؤمنين ففقد الله سبحانه قدرته، بل هي عين صفات الله التي تظهر فيه عليه السلام في امتلاكه الولاية الكبرى، بل انّ نفس الولاية هي عين تجليات و ظهورات حضرة الحق.
و عليه فانّ كلّ موجود راجع إلى الله وحده، و ما هو موجود في مقام الولاية، انّما هو الاحتياج و الفاقة المحضة إلى الذات المقدّسة، كما هو الأمر في هذا العالم المادي حيث الموجودات مقدّرة و محدودة قُسّم بينها العلم و القدرة فاكتسب كلّ موجود منها حسب حاله و سعته، لكنّ هذا التقسيم لا يتنافى مع وجود منبع العلم و القدرة و الحياة في الله، و ليس مقسّمها من أحد غير الله تعالى.
كما انّ ظهورات التقسيم في أي مرحلة هي نفس ظهورات الله، و كذلك الأمر في عالم العقل و الملكوت، فانّ المقسّم هو الله، لا تخرج الاستفادة و التقسيم عن صفاته و أسمائه، لذا فانّ مقام الولاية و هو
تقسيم المعارف و العلوم و الحياة على القلوب هو نفسه عمل الله تعالى وحده:
{وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ}۱.
و على هذا فانّ أحداً لن يشاهد في القيامة التي هي عالم الظهور و البروز، غير قدرة الله و عظمته و حياته، و ستكون جميع الموجودات ازاء ذاته المقدّسة صفراً و عدماً.
{يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ}٢.
{وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ}٣.
وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}٤.
و عموماً فانّ جميع أسماء و صفات الله التي حُصرت في القرآن الكريم، مثل: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}٥.
و {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ}٦.
و جميع درجات و مراتب الحمد و التمجيد (من أي موجود إلى أي موجود) مختصّة بذات الله.
{اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ}۷.
{هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}۸
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}۱.
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}٢.
و ستظهر في ذلك العالم، و سيكون انحصارها بذات الحق المقدّسة مشهوداً.
مقام الولاية هو ظهور الصفات و الأسماء الإلهيّة
انّ مقام الولاية هو نفس تلك الصفات و الأسماء لا غيرها، و لذلك فانّ ظهور تلك الصفات و الأسماء يُدعى بالولاية لا غيرها. و الحمد للّه ربّ العالمين و صلى الله على محمّد و آله الطاهرين.
الدَّرْسُ الثَّانِي عَشَرْ: الهِدَايَةُ إلى الحَقّ تَلْزَمُ لِلْعِصْمَة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة الّا بالله العلي العظيم
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}۱.
يُعلّم الله سبحانه رسول في هذه الآية المباركة كيفيّة محاججة المشركين، و كيف يُثبت لهم أنّ شركاء الله لا يستحقّون الحمد و الاتّباع، و أساس هذا الاحتجاج قائم على لزوم اتّباع الصدق و الإعراض عن غير الحق.
و هذا الاحتجاج احتجاجٌ عقليّ لأنّه يستند إلى أصل عام و كلّي، و هو لزوم الاتّباع الدائم للحقّ، و لذلك فانّه أفضل دليل للزوم اتباع الامام المعصوم. و علينا- من أجل الورود في أصل الاحتجاج- أن نبيّن ذلك المبني كمقدّمة للبحث.
لزوم اتّباع الحقّ
انّ أحد الأحكام الفطريّة و العقلية للإنسان، هو لزوم اتّباع الحق،
و هذا الحكم قانون عام يستند عليه الإنسان دائماً، و اذا ما انحرف عنه أحياناً في أعماله و أقواله فمال إلى غير الحق بسبب هوى نفسه أو شبهة أو خطأ قد يبدر منه، فانّه سيكون بسبب ظنّه أنّه حقّ، و لقد تبع غير الحق لالتباس الأمر عليه، فانه يجد نفسه معذوراً حيث يحتسب أنه على حق.
و على هذا فانّ الحق واجب الاتّباع بدون أي قيد أو شرط، و يتفرّع على هذا الأصل قاعدة اخرى، هي انّ الذي يهدي إلى الحق يجب اتّباعه لأنّه مع الحق و دالّ على الحق، و بناءً على هذا يجب تقديمه في الاتّباع على الأخر الذي لا يدلّ على الحق أو الذي يدلّ على غير الحق، لأنّ اتّباع الهادي إلى الحق هو اتّباعٌ للحقّ الموجود معه.
و قد ذكرنا آنفاً انّ اتّباع ذات الحق حكم ضروري فطريّ عقلي، و على هذا الأساس أقام القرآن الكريم استدلاله ضدّ المشركين في هذه الآية المباركة، فهو يسألهم أوّلًا باستفهام: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ}۱.
و من الجلي انّ المشركين ليس لديهم جواب إيجابيّ في هذا المجال، لأن الشركاء الذين يجعلونهم لله إمّا من الجمادات مثل الأصنام، أو من الأحياء مثل الملائكة و أرباب الأنواع و الجنّ و طواغيت الزمان و الفراعنة و حكّام الجور الذين يتابعونهم، و من الواضح انّ أيّاً منهم لا يهدي إلى الحق، لأنهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً. و لأنهم ليس لديهم جواب ايجابيّ، فانّ الله جعل علي لسان نبيه ان يُجيبهم فوراً جواباً ابتدعه بنفسه فيقول: {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ}. الله هو الهادي إلى الحق، يهدي كلّ موجود في مقاصده التكوينية إلى ما يحتاجه،
و هو الذي يرسل اليه ما يحتاجه، كما في قوله تعالى:
{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}۱.
فعند ما سأل فرعونُ هارونَ و موسى: من ربّكما؟ قالا: ربّنا الذي أعطى كلّ موجود في عالم الخلق احتياجاته الوجودية و خلقه تامّ الخلقة، ثم هداه إلى كماله. و مثل قوله: الذي {خَلَقَ فَسَوَّى ، وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى}٢.
فانّ الله هو الذي خلق ثم لحظ في الخلقة التعادل و التناسب من جميع الجهات، و هو الذي خلق كلّ موجود في العالم بقدر و حدّ معين، ثم يسيره في طريق الكمال. و بناءً على هذا فانّ الله هو الذي هدى الإنسان إلى سعادة الدنيا، و دعاه إلى الجنّة و السعادة المطلقة بإرساله للأنبياء و الكتب السماويّة و الأحكام الالهيّة.
لزوم اتّباع الأمام المعصوم عليه السّلام مبني على أصل لزوم اتّباع الحقّ
و على كلّ حال، فانّ رسول الله لما انتزع في مقام الاحتجاج اعترافيْن من المشركين،
الأوّل: أنْ ليس من شركائهم من يهدي إلى الحق.
و الثاني: أنّ الله هو وحده الهادي إلى الحق.
فانّه يرى لزاماً و واجباً أن يسأل هذا السؤال:
{أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى}؟
و من الواضح انّ جواب هذا السؤال هو ان يقولوا انّ الله الذي يهدي إلى الحق أحقّ أن يُتّبع، بيد ان الكفّار و المشركين لا يلتزمون عملياً بهذا المنطق، و يعبدون الشُّركاء الذين لا يهدون إلى الحق، و يُعرضون عن
عبادة الله الذي لا شريك له و الذي يهدي إلى الحق، و بذلك يجعلون حُجباً على القوى الفطريّة و الأحكام العقلية، و يتعاملون خلاف ناموس الفطرة و العقل. لذا فانّ النبيّ يُخاطبهم من باب التوبيخ و اللوم:
{فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟
و ينبغي إعمال دقّة النظر عند المقابلة بين جملة {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ} و بين جملة {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى}، لنرى كيف جُعلت هاتان الجملتان عِدْلًا لبعضهما؟
لأنّ من الواضح أنّ السائل بطريق الاستفهام ينبغي أن ينفي طرفاً من الجملة، كأن يقول: أ رَأيْتَ زيداً أم لا؟ أ دَرَسَ حَسنٌ أمْ لم يَدْرُس؟
أمّا اذا استفهم مثلًا: أ يدرس حسن أم انّه مغرورٌ بنفسه؟ فانّ من اللازم، من أجل أن تكون هذه المعادلة الاستفهاميّة صحيحة، أن يُقال: انّ المغرور بنفسه لا يدرس.
و بناءً على ذلك فانّ هناك جملة منطوية و ضمنية في جملة (مغرور بنفسه)، و هي (لا يدرس).
و كذلك الأمر في هذا الجانب، أي جملة (مغرور بنفسه) و التي سيكون عِدلها جملة (ليس مغروراً بنفسه)؛ و لأن الجملة السابقة الاستفهاميّة تحوي جملة (يدرس) بدلًا من جملة (ليس مغروراً بنفسه)، لذا يجب القول انّ جملة (ليس مغروراً بنفسه) منطوية و متضمّنة في هذه الجملة. و تكون النتيجة (حسن ليس مغروراً بنفسه و يدرس) أو (حسن مغرور بنفسه و لا يدرس).
يجب أن يكون طرفا الجملة في الاستفهام نفياً و اثباتاً:
يدرس حسن مغرور بنفسه
ليس مغروراً بنفسه أو لا يدرس
و لم يكن في الآية المباركة أيضاً طرفي الجملة الاستفهاميّة (النفي و الاثبات) لكي تنتفي الحاجة إلى جملة ضمنية اخرى (لأن يَهِدّي كان في الاصل يهتدي، و القاعدة في باب الافتعال جواز إدغام تاء الافتعال في عين الفعل بعد قلبه إلى عين الفعل) و تكون نتيجة المعنى: هل انّ الذي يهدي إلى الحق أحقّ أن يُتّبع، أم الذي لا يهتدي بنفسه الّا بهداية الغير؟ لأن جملة (يهدي إلى الحق) عدلها جملة (لا يهدي إلى الحق).
لذا يُستفاد من ذلك انّ الذي لا يهتدي الّا بهداية الغير لا يهدي إلى الحق؛ و كذلك فلأنّ جملة (مَن لا يَهِدِّي إلَّا أن يُهْدَي) سيكون عدلها (من يهتدي بنفسه)، لذا يُستفاد انّ الذي يهدي إلى الحق هو الذي يهتدي بنفسه و بذاته لا بهداية الغير.
من يهدي إلى الحق من لا يهدّي (يهتدي) الّا أن يُهدي
أحقّ أن يُتّبع
من يهتدي بنفسه من لا يهدي إلى الحق
و لذلك فانّه يستفاد من هذه الآية جيّدًا انّه يجدر بالإنسان أن يتّبع من يهدي إلى الحق، و هو بالطبع من يهتدي بنفسه لا بهداية غيره، و ذلك هو الإمام المعصوم الذي لا يعبد غير الله في أي لحظة، و لا يصدر منه أي معصية، و مثل هذا الإنسان قد اهتدى على يد الله نفسه دون تدخّل واسطةٍ ما؛ أمّا من عَبَدَ غير الله مدّةً، أو من صدرت منه معصية مهما تنبّه و اهتدى فعلًا على يد الغير فصار عابداً لله و عادلًا، لكنّه غير لائق لمقام الإمامة و لا للاتّباع.
و يجب أن نعلم بالطبع انّ كلمة (أحقّ) في الآية الشريفة، و هي من أدوات التفضيل و الدالّة على رجحان متابعة الحق لا لزومه، مبنية على قواعد فنّ المناظرة و المباحثة لتحريك عصبيّة الطرف المقابل، و الّا فانّ
من الجلي انّ تبعيّة غير الحق غير جائزة كلياً، و انّ اتّباع الحق لازم و واجب في كلّ الأحوال، و بالنتيجة فانّ اتّباع الإمام المعصوم واجب، و اتّباع الإمام غير المعصوم حرام.
هذه هي احدى الطرق الاستدلالية التي احتجّ بها كبار علماء الشريعة في لزوم اتّباع الإمام المعصوم، و نقلوا تبعاً للروايات المتواترة عن رسول الله: أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لم يعبد صنماً آنا واحداً و لم يرتكب معصية و لو للحظة واحدة، و لا مكان للشكّ في انّه تربّى في حضن رسول الله، و كان أوّل شخص آمن بالرسول و هو صبيّ لم يبلغ الحلم.
نُقل في (الأمالي) للشيخ الطوسي مسنداً، و كذلك في (المناقب) لابن المغازلي مرفوعاً عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم في الآية: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} عن قول الله لابراهيم: "مَن سَجَدَ لِصَنَمٍ دُوني لَا أجْعَلُهُ إمَامًا قال عليه السّلام: وَ انْتَهَت الدّعْوَةُ إلى وَ إلى أخِي عَليٍ، لم يَسْجُدْ أحَدُنَا لِصَنَمٍ قَطُّ"۱.
عَلي مَعَ الحق وَ الحق مَعَ عَلي:
يروي السيّد هاشم البحراني٢ خمس عشرة رواية عن طريق العامّة واحدى عشرة رواية عن طريق الخاصّة في انّ علياً مع الحق و الحق مع عليّ، و في انّه قال صلى الله عليه و آله في شأنه: اللهم أدر الحق معه حيثما دار، و في لزوم متابعته و الإقتداء بسيرته، و نذكر هنا باختصار و بحذف السند الروايات التي نقلت عن العامّة مع احدى الروايات التي نقلت عن
طريق الخاصّة.
۱-.يروي ابراهيم بن محمّد الحمويني، و هو أحد علماء العامّة، و
٢-.الموفّق بن أحمد الخوارزمي باسنادهما المتّصل عن شهر بن حوشب؛ و
٣-.الزمخشري في (ربيع الأبرار) مُرسلًا۱، قال شهر بن حوشب: كنتُ عند أمّ سلمة رضي الله عنها، إذ استأذن رجل فقالت له: من أنت؟
روايات أهل السنّة في معيّة عليّ للحقّ و الحقّ لعليّ
قال: أنا أبو ثابت مولى علي عليه السلام.
فقالت أمّ سلمة: مرحباً بك يا أبا ثابت ادخل، فدخل و رحّبت به.
ثم قالت: يا أبا ثابت أين طار قلبك حين طارت القلوب مطائرها؟
قال: تَبَع علي عليه السلام.
فقالت: وُفّقتَ و الذي نفسي بيده؛ لقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم يقول: "علي مع الحق و القرآن، و الحق و القرآن مع علي، و لن يفترقا حتى يردا علي الحوض".٢ و٣
و ورد في رواية الموفّق بن أحمد الخوارزمي أنّ أبا ثابت قال: مولى أبي ذر، ثم يقول بعد بيان حديث أمّ سلمة: وَ لَقَدْ بَعَثْتُ ابْني عُمَرَ، وَ ابْنَ أخِي عبد الله بْنِ أبي امَيَّه، وَ أمَرْتُهُمَا أنْ يُقَاتِلأ مَعَ عَلي مَنْ قَاتَلَهُ، وَ لَو لَا أنَّ رَسُولَ اللهِ أمَرَنَا أنْ نَقِرَّ في حِجَالِنَا وَ في بُيُوتِنَا لَخَرَجتُ وَ كُنتُ حتى أقِفِ في صَفِّ عليّ.
٤-.يروي الحمويني باسناده المتّصل عن أبي حيّان التميمي، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام.
٥-.في كتاب (الجمع بين الصحاح الستّة) تأليف رزين إمام الحرمين، عن (صحيح البخاري)، عن أمير المؤمنين عليه السلام.
٦-.من الجزء الأول من كتاب (الفردوس)، عن أمير المؤمنين عليه السلام.
۷-.يروي الموفّق بن أحمد الخوارزمي باسناده المتّصل عن أبي الحباب التيمي، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام قال: قالَ رَسُولُ اللهِ: "رَحِمَ اللهُ عَلياً، اللَهُمَّ أدِرِ الحق مَعَهُ حَيْثُ دَارَ". و يقول الخوارزمي: أخرجه أبو عيسي الترمذي في جوامعه.
۸-.يروي الحمويني باسناده المتّصل عن أخي دعبل الخزاعي، عن هارون الرشيد، عن الأزرق بن قيس، عن عبد الله بن عبّاس قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه [و آله] و سلم: "الحقُّ مَعَ عليّ بنِ أبي طَالِبٍ حَيْثُ دَارَ"۱.
٩-.عن كتاب (فضائل الصحابة) باسناده المتّصل عن الأصبغ بن نباته، عن محمّد بن أبي بكر، عن عائشة قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم يقول: "عليّ مَعَ الحقِّ وَ الحقُّ مَعَ عليّ، لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَليّ الْحَوْضَ".
۱۰-.الموفّق بن أحمد الخوارزمي باسناده المتّصل عن شريك، عن سليمان الأعمش، عن ابراهيم، عن علقمة و الأسود قالا: سَمِعْنَا أبا أيّوب الأنصاري قال: سَمِعتُ النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم يقولُ لِعَمَّار
بن يَاسِر: "تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ البَاغِيَة وَ أنْتَ مَعَ الحقِّ وَ الحقُّ مَعَكَ يَا عَمَّارُ، إذَا رَأيتَ عَليًّا سَلَكَ وَادِياً وَ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً غيرهُ: فَاسْلُك مَعَ عليّ وَ دَعِ النَّاسَ، إنَّهُ لَنْ يَدُلُّكَ عليّ رَدَيّ، وَ لَنْ يُخْرِجُكَ عَنْ الهُدَى.
يَا عَمَّارُ إنَّهُ مَنْ تَقَلَّدَ سَيْفَاً أعَانَ بِهِ عَليًّا عَلَي عَدُوِّهِ، قَلَّدَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامةِ وُشَاحًا مِن دُرٍّ، وَ مَنْ تَقَلَّدَ سَيْفاً أعَانَ بِهِ عَدُوَّ عليّ قَلَّدَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامةِ وَشَاحاً مِن نَارٍ". قالَ: قُلْتُ: حَسْبُكَ.
تذاكر علقمة و الأسود و أبي أيّوب الأنصاري في خلافة عليّ عليه السّلام
لقاء علقمة و الأسود عند أبي أيّوب الأنصاري و المذاكرة في خلافة علي عليه السلام:
۱۱-.يروي ابراهيم بن محمّد الحمويني باسناده المتّصل عن الأعمش، عن ابراهيم، عن علقمة و الأسود قال: قالا: أتَيْنَا أبَا أيّوبَ الأنْصَارِيّ وَ قُلْنَا لَهُ: يَا أبَا أيُّوبَ! إنَّ اللهَ تبارَكَ و تعالى أكْرَمَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه [و آله] و سلّم وَ صَفَا لَكَ مِنْ فَضْلِهِ مِنَ اللهِ فَضَّلَكَ بها! أخْبِرْنَا بِمَخْرِجِكَ مَعَ عليّ عليه السّلامُ تُقَاتِلُ أهْلَ لا إلَهَ إلّا اللهُ! (يقصدان حربه مع أصحاب معاوية المسلمين ظاهراً).
فقال (أبو أيّوب): اقسِمُ لَكُمَا بِاللهِ، لَقَدْ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم في هَذَا الْبَيْتِ الذي أنْتما فِيهِ مَعِي، وَ مَا في الْبَيْتِ غير رَسُولِ الله صلى الله عليه [و آله] و سلم و عليّ جَالِسٌ عَنْ يمينهِ وَ أنَا جَالِسٌ عَن يسارِهِ، وَ أنَسٌ قَائِمٌ بين يَدَيْهِ، إذ حرَّكَ البابَ، فَقالَ رسولُ الله صلى الله عليه [و اله] و سلّم: "إفْتَح لِعَمَّارِ الطَيِّبِ المطَيَّبِ".
فَفَتَحَ النَّاسُ۱ البَابَ وَ دَخَلَ عَمَّار، فَسَلّم عَلَى رَسُولِ اللهِ فَرَحَّبَ بِهِ؛ ثم قَالَ لِعَمَّارٍ، "إنَّهُ سَيَكُونُ في امَّتِي بَعدِي هُنَاة، حتى يَخْتَلِفَ السَّيفُ
فِيما بينهم، وَ حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً، فَإذَا رَأيْتَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الأصْلَع عَنْ يميني، يَعني عليّ بْنَ أبي طالبٍ.
فَإن سَلَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَادِياً وَ سَلَكَ عليّ وَادِياً، فَاسْلُك وَادِيَ عليّ عليه السَّلامُ وَ خَلِّ عَنِ النَّاسِ. يَا عَمَّارُ! إنّ عَليّاً لا يَرُدُّكَ عَنْ هُدَى وَ لَا يَدُلُّكَ عَلى رَدَى. يَا عَمَّارُ! طَاعَةُ عَلي طَاعَتِي، وَ طَاعَتِي طَاعَةُ الله عَزَّ وَ جَلَّ".
۱٢-.الموفّق بن أحمد الخوارزمي، باسناده المتّصل عن أبي ليلى قال:
قال رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم: "سَتَكُونُ مِنْ بَعْدِي فِتْنَةٌ، فَإذَا كَانَ ذَلِكَ فَالْزَمُوا عليّ بنَ أبي طَالِبٍ، فَإنَّهُ الْفَارُوقُ الأكْبَرُ الْفَاصِلُ بين الحق وَ الْبَاطِلِ"۱.
۱٣-.الحمويني بإسناده عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حُذيفة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم: "عليّ طَاعَتُهُ طَاعَتِي وَ مَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَتِي".
۱٤-.عن كتاب (الفردوس) بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم: "تَفْتَرِقُ امَّتِي فِرقَتَينِ، فَيَمْرُقُ بينهما فِرقَةٌ مَارِقَةٌ، يَقْتُلها أوْلي الطَّائِفَتَيْنِ بِالحق".
۱٥- يروي عامر الشعبي، و هو من النواصب و المنحرفين عن أمير المؤمنين، عن عروة بن الزبير، عن أبي بكر قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: الحق مَعَ عليّ وَ عليّ مَعَ الحقُّ.
كانت هذه هي الروايات التي ذُكرت في (غاية المرام) عن طريق أهل السنّة، و لقد نُقلتْ احدى عشرة رواية عن طريق الشيعة، نكتفي بذكر إحداها:
عيادة عطا لعبد الله بن عبّاس و التذاكر في خلافة علي بن أبي طالب عليه السلام:
ينقل ابن بابويه باسناده المتّصل عن عبد الحميد الأعرج، عن عطا قال:
دخلنا على عبد الله بن العبّاس و هو عليل بالطائف و قد ضعف، فسلمنا عليه و جلسنا، فقال لي: يا عطا، مَن القوم؟
فقلت: يا سيّدي شيوخ هذا البلد، منهم عبد الله بن سلمة بن هرم، و عمارة بن الأجلح، و ثابت بن مالك، فما زلتُ أذكر له واحداً بعد واحد، ثم تقدّموا اليه و قالوا: يا بن عمّ رسول الله! انّك رأيتَ رسول الله صلى الله عليه و آله و سمعتُ منه ما سمعتَ، فأخبرنا عن اختلاف هذه الأمّة، فقومٌ قدّموا علياً على غيره، و قومٌ جعلوه بعد ثلاثة!
قالَ: فَتَنَفَّسَ ابنُ عَبَّاس فقال: سَمعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه و آله يقول: عليّ "مَعَ الحقِّ وَ الحقُّ مَعَ عليّ، وَ هُوَ الإمَامُ و الْخَليفَةُ بَعْدِي، فَمَنْ تمسَّكَ بِهِ فَازَ وَ نَجَا، وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَ ضَلَّ وَ غَوَى، يَلِى تَكْفِيني وَ غَسلي وَ يَقْضِي دَيني وَ أبُو سِبْطَي الْحَسَنِ وَ الحسين، وَ مِنْ صُلْبِ الحسين تَخْرُجُ الأئِمّةُ التِّسعَةُ، وَ مِنَّا مَهدِيّ هَذِهِ الأمَّةِ".
فقال له عبد الله بن سلمة الحضرمي: يا بن عمّ رسول الله صلى الله
عليه و آله، فهل لا كنت تعرفنا قبلُ؟!
فقال: قد و الله أدّيتُ ما سمعتُ وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحين.
ثم قال: اتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ تَقِيَّةَ مَنِ اعْتَبَرَ تمهِيدًا، وَ أبقَى في وَجَلٍ، وَ كَمَشَ في مَهَلٍ، وَ رَغِبَ في طَلَبٍ، وَ هَرَبَ في هَرَبٍ، فَاعْمَلُوا لآخِرَتِكُمْ قَبْلَ حُلُولِ آجَالِكُمْ، وَ تَمَسَّكُوا بِالْعُروَةِ الْوُثْقَى مِنْ عِتْرَةِ نَبِيِّكُمْ، فَإني سَمِعْتُهُ صلى الله عليه و آله و سلم يَقُولُ: مَن تمسَّكَ بِعِتْرَتِي مِنْ بَعْدِي كَانَ مِنَ الْفَائِزِينَ.
ثم بكى بكاءً شديداً، فقال له القوم: أ تبكي و مكانك من رسول الله صلى الله عليه و آله مكانك؟!
فقال لي: يا عطا انّما أبكي لخصلتين لهولِ المطّلعِ و فِرَاقِ الأحِبَّةِ.
ثم تفرّق القوم فقال: يا عطا خُذ بيدي و احملني إلى صحن الدار، فأخذنا بيده أنا و سعيد و حملناه إلى صحن الدار، ثم رفع يديه إلى السماء و قال: اللَهُمَّ إني أتَقَرَّبُ إليكَ بِمحمّد وَ ءَالِ محمّد اللَهُمَّ إني أتَقَرَّبُ إليكَ بِوِلأيَةِ الشَّيخِ عليّ بنِ أبي طَالِبٍ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حتى وَقَعَ عَلَى الأرْضِ، فَصَبَرنَا عَليهِ سَاعَةً ثم أقَمْنَاهُ فَإذَا هُوَ مَيَّتٌ رحمة اللهِ عليه۱.
سبب مخالفة المعاندين لخلافة أمير المؤمنين عليه السّلام
و على كلّ حال، فلو سأل سائل: كيف حصل- مع وجود هذه النصوص الصريحة الواصلة عن رسول الله، و التي نقل الكثير منها الخلفاء الثلاثة و عائشة بأنفسهم- أن صرف هؤلاء الخلافة عنه عليه السلام،
فارتقوا منبر النبيّ و تربّعوا في مقام الخلافة بدلًا من أمير المؤمنين؟
فالجواب هو قول رسول الله الذي رواه أهل السنة أيضاً: "حُبُّكَ الشَّيءَ يُعْمِي و يُصِمُ"۱.
فمن أحبّ شيئاً و كانت محبّته هذه نابعة من الإحساسات، و كان هوى النفس و القوى الدنية مؤثرة في نشأتها، فانّ ذلك الشخص سيكون أعمى و أصمّ بالنسبة إلى غير ذلك المقصود و المحبوب، أي أنّه لن يرى غير ذلك الهدف و لن يسمع غير ذلك الكلام. و ليس خفيّاً على أرباب الملل و النحل، و لا مُبهماً على المطّلعين على السيرة و التاريخ، أنّ غصب مقام الخلافة من آل بيت الرسول صلى الله عليه و آله لم يكن له من داعٍ الّا حبّ الحكومة و الترؤّس على المسلمين، و الّا بروز النزعة الشخصيّة، لذا فان جميع هذه الأحاديث و النصوص لن تجدي شيئاً مع وجود تلك الغريزة المهلكة، فستدفع بها جميعاً- عند ما تريد نيل هدفها- إلى طوفان البلاء ليجرفها أشبه بقشّة و أعشاب يابسة، و لا تتورّع عن مواجهتها لهدفها عن محاربة أهل البيت، أو عن إحراق باب بيت بضعة رسول الله، أو عن اقتياد مقام الولاية و جرّه إلى المسجد قسراً، ثم السعي بحدّ السيف المشرع للإدّعاء بتسليمه و خضوعه مقابل هذه التعدّيات.
و هذه مسألة يجب التأمّل و التدقيق فيها، لأنّ مقام العلم و إدراك الحقائق أمر، و مرحلة خضوع النفس و انقيادها إلى الحق أمر آخر منفصل عنه، و هكذا فانّ الكثير من الذين تردّوا في بئر الطبيعة و هاويتها لم يحصل ذلك لهم بجهلهم بطريق الصلاح، فما أكثر من امتلك منهم علماً كافياً فصار يميّز جيّداً بين القبيح و الحسن؛ و لكنهم أوقعوا أنفسهم عملًا
- بسيطرة القوى النفسيّة و عدم انقيادها لملكة العقل و بغلبة الغرائز الشهويّة- في مثل تلك الاعمال القبيحة الذميمة.
لذا فانّ دعوة الأنبياء و الأئمّة الأطهار مبنية على إصلاح النفس و الخضوع و الانقياد أمام الحق، قال الله العلي الأعلى:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها}۱.
إعتراف عُمر به مقام أمير المؤمنين عليه السّلام في روايات أهل السنّة
لقد كان عُمر يعلم جيداً بمقام و منزلة و شخصيّة المولى أمير المؤمنين، فهناك روايات كثيرة وردت عن أهل السنّة يعترف فيها بنفسه بذلك، و ينقل بشأنها الأحاديث عن رسول الله، و لكن- و كما ذُكر- فانّ اتّباع الحق يستلزم طهارة النفس و صفاء الباطن و الانقياد، و أين هذا؟
يقول العلّامة الأميني: أخرج الحافظ الدار قطني و ابن عساكر: انّ رجلين أتيا عمر بن الخطاب و سألاه عن طلاق الأمَة، فقام معهما فمشى حتى أتى حلقة في المسجد فيها رجلٌ أصلع فقال: أيّها الأصلع ما ترى في طلاق الأمَة؟! فرفع رأسه اليه ثم اوحى اليه بالسبّابة و الوسطى، فقال لهما عمر: تطليقتان.
فقال أحدهما: سُبحان الله، جئناك و أنت أمير المؤمنين فمشيتَ معنا حتى وقفتَ على هذا الرجل فسألتَه فرضيتَ منه أن أومى اليك.
فقال لهما: تدريان مَن هذا؟ قالا: لا.
قال: هذا علي بن أبي طالب، اشهِدُ عَلي رَسُولِ الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم لَسَمِعْتُهُ وَ هُوَ يَقُولُ: "إنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَ الأرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَا في كَفَّةٍ ثم وُضِعَ إيمانُ عليّ في كَفّةٍ لَرَجَحَ إيمانُ عَلي بنِ أبي طالِبٍ"٢.
ثم يقول العلّامة الأميني: و في لفظ الزمخشري: جئناك و أنت الخليفة فجئتَ إلى رجل فسألتَه، فوالله ما كلمتُكَ. فقال له عمر: ويلك أ تدري من هذا؟ (الحديث).
و نقله عن الحافظين: الدار قطني و ابن عساكر: الكبخي في (الكفاية) ص ۱٢٩ و قال: هذا حسنٌ ثابت. و رواه من طريق الزمخشري خطيب الحرمين الخوارزمي في (المناقب)، ص ۷۸، و السيّد علي الهمداني في (مودّة القربي)، و حديث الميزان۱.
رواه عن عمر محبّ الدين الطبري في (الرياض)، ص ٢٤٤، و الصفوري في (نزهة المجالس)، ج ٢، ص ٢٤.
الدَّرْسُ الثَّالِث عَشَرْ: مَعْنَى هِدَايَةَ الأئِمَّةَ، وَ شَرَائِطِ الهَادِي إلى الحَقَ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة الّا بالله العلي العظيم
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}۱.
جرى البحث في الفصل السابق مفصّلًا حول هذه الآية المباركة، و كانت النتيجة انّ الهادي إلى الحق يجب حتماً أن تكون هدايته بنفسه لا بغيره، و أنّ مَن كان مِن أهل الشرك و المعصية و من اهتدى بغيره لا يمكن ان يكون إماماً و لا يمكنه هداية الناس إلى الحق، و يلزم هنا ذكر نكات عدّة:
الاولى: انّ المراد بالحق في الآية الشريفة المعنى الحقيقي و ليس معنى الحق المبني بنحو ما على التساهلات العرفيّة في ألسنة الناس، كما يُشاهد انهم ينسبون الهداية للحقّ لكلّ من يتكلم بالحق، حتى لو كان معتقداً بذلك أو غير معتقد، و سواءً عمل بذلك الّا انّ نفسه لم تتحقّق به أو لم يعمل، و سواءً اهتدى بنفسه أم لم يهتدِ. فهذه بأجمعها ليست هدايةً
للحقّ، بل انّها تدعي هداية إلى الحق من باب المسامحات العرفيّة، فالهداية إلى متن الحق هي الوصول إلى متن الواقع، و هي فقط لله و للواصلين اليه سُبحانه دون واسطة الغير.
الثانية: انّ المراد بالهداية إلى الحق في هذه الآية، هو الإيصال إلى المطلوب، لا بمعنى إراءة الطريق إلى الله، لأنّ من البديهي انّ إراءة الطريق أمرٌ سهل ممكن لكلّ شخص، سواءً كان إماماً أم لم يكن، و سواءً اهتدى بنفسه أم بغيره، و سواءً كان ضالّا غير مهتد أصلًا؛ فالهداية بمعنى إراءة الطريق ستكون على كلّ حال أمراً ممكناً لهم، و لكنّ الإيصال إلى متن الواقع و الحق و كمال كلّ موجود أمرٌ مختصٌ بالمهتدين بأنفسهم و الهادين إلى الحق.
الثالثة: انّ المراد بجملة {لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى} هو الذي لم يهتدِ بنفسه، و هو أعمّ من غير المهتدي أصلًا، أو المهتدي بالغير، و الدليل على عموميّتها أنّ جملة (إلّا أن يُهْدَى) و هي استثناء من جملة (لَا يَهِدِّي) جاءت مع (أنْ المصدريّة). و هذه الجملة لا تدلّ على تحقّق الوقوع، خلافاً للمصدر المضاف.
و هناك فرق بين أن نقول (أعجبني ضربُك) أو أن نقول (أعجبني أن تضرب)، فالإعجاب من نفس الضرب في الصورة الاولى متحقّق في الخارج، بينما الإعجاب في الصورة الثانية من إمكان تحقّق الضرب، و قد نصّ على هذا المطلب الشيخ عبد القاهر الجرجاني في (دلائل الإعجاز).
و على ذلك فانّ جملة {إِلَّا أَنْ يُهْدى} لا تعني كونه الآن مهتدياً بالغير، بل تعني انّه (و لو أمكن أن تصل الهداية اليه من الغير). و من الواضح انّ الهداية من الغير ستكون في حال قبول الهداية، و امّا اذا كان غير قابل للهداية فانّ الهداية من الغير لن تصل اليه، و لذلك فانّ جملة {لَا
يَهِدِّي} باقية على عمومها و سيكون معناها: لم يهتدِ بنفسه، سواءً لم يجد الهداية أو كان قابلًا للهداية فاهتدى بغيره.
الإمام يجب أن يكون مهتدياً إلى الحقّ، و في ذلك شروط ثلاثة
الامام يجب ان يكون مهتدياً بالحق و في ذلك شروط ثلاثة:
و عموماً فانّ الإمام هو الذي يكون مهتدياً إلى الحق ذاتيّاً، و ليس من فئة من الفئتين اللتين مرّ ذكرهما، و على هذا فانّ الإمام هو المصون من الضلالة و المعصية، أي انّه أوّلًا لا يخطيء في تلقّي المعارف الالهيّة و الإلهامات الرحمانية، و انّ متن الواقع ينعكس في قلبه دون اضطراب أو تدخّل النفس التي تغيره إلى صورة أخرى و تفسّره على نحو آخر.
و ثانياً: انّ الامام هو الذي يقوم- في ابلاغ الأحكام و هداية الناس من جانب الباطن و الظاهر- بتحريكهم على طريق مستقيم لا عوج فيه.
و ثالثاً: أن لا يكون الإمام نفسه مبتلياً بالمعصية و ظلم النفس، و قد استفدنا هذه المعاني من جملتي {وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ}۱.
و يستفاد أيضاً من الآية الخاصّة بابراهيم و التي سأل فيها الإمامة لذريّته، أنّ الإمامة لا ينالها الظالم، لأنّ تعبير الظالم ورد في الآية بشكل مُطلق: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}٢، أي انّ عهدي لا ينال ظالماً و لو كان ظلمهُ محدوداً؛ و على العكس فانّ عهدي ينال اولئك الذين ليسوا ظالمين على نحو مطلق، و هذا هو عين العصمة.
انّ الإمام هو الذي لم يرتكب طوال عمره أي ذنب، امّا من ارتكب الذنب الصغير أحياناً، أو من بدر منه ظلمٌ أو شرك ثم تاب منه فامّحى أثر
ذلك الذنب، فانّه لا يكون إماماً.
يقول العلّامة الطباطبائي (مُدّ ظلّه العالي)۱ في تفسير هذه الآية الشريفة: و قد سُئل بعض أساتيدنا رحمة الله عليه عن تقريب دلالة الآية على عصمة الإمام، فأجاب: إنّ الناس بحسب القسمة العقليّة على أربعة أقسام: مَن كان ظالماً في جميع عمره، و من لم يكن ظالماً في جميع عمره، و من هو ظالم في أوّل عمره دون آخره، و من هو بالعكس من هذا. و إبراهيم عليه السلام أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل و الرابع من ذريّته، فبقي قسمان و قد نفى الله أحدهما، و هو الذي يكون ظالماً في أوّل عمره دون آخره، فبقي الأخر، و هو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره، و هذا هو معنى العصمة٢ و٣.
سبع مسائل من امّهات مسائل الإمامة
و إجمالًا فانّ كلّ ما استدللنا عليه من آيات القرآن هو سبع مسائل من أهم مسائل الإمامة التي تقول بها الشيعة و تصرّ عليها و التي تمثّل الحدّ الفاصل بينهم و بين أهل السنّة (الذين لا يعتبرون أيّاً منها شرطاً للإمامة).
المسألة الاولى: الإمامة غير قابلة للانتخاب:
المسألة الاولى: انّ الإمامة ليست قابلة للاختيار و الانتخاب، بل هي مجعولة بجعلٍ الهيّ يُعلن للناس من قبل النبّي او الإمام السابق، او باتّضاح الإمام نفسه للناس بواسطة النصوص و المعجزات، لأنّه أولًا- و كما قلنا- فانّ الله سبحانه و تعالى يعرّف هذا المنصب في القرآن الكريم بعنوان
(الجعل و التنصيب الالهيّ)، حيث ورد:
{قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً}۱.
و يقول أيضاً: {وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا}٢.
و يقول أيضاً: {وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ}٣.
و في جميع هذه الآيات التي ذكرت منصب الإمامة، فانّها أوردت عنوان الجعل الالهيّ.
ثانياً: انّ الإمامة قوّة الهيّة في نفس الإمام يحصل بواسطتها على الاطّلاع على ملكوت و نفوس الأشياء و يسيطر عليها، كما هو مستفاد من جملة {يَهْدُونَ بِأَمْرِنا}، فمن كانت فيه هذه القوّة كان هو الإمام، و من خلا منها لم يكن إماماً.
و لا دخل للاختيار و الانتخاب في هذا الأمر، ليس لجهة قولنا انّ الناس باعتبار جهلهم بالملكوت و بمقام العصمة لا يمكنهم معرفة الامام، و لذا فانّ انتخابهم و اختيارهم ليس صحيحاً، بل اننا لو فرضنا انّ جميع الناس صار لهم اطّلاع على ملكوت الأشياء و روحها، و انّ الله قد أعطاهم نوراً يمكنهم به تشخيص مقام العصمة، فانّ الإمامة- مع ذلك- لن تكون قابلة للانتخاب، لأنها- و كما قلنا سابقاً- ملكة الهيّة و قوّة قدسيّة موجودة في نفس الإمام، و ليس هناك من معنى للقول بأنّ الانسان ينتخب موجوداً خارجياً، فالموجود الخارجي موجود و لا يحتاج إلى انتخاب الانسان
ليوجد.
أ من الصحيح أن نقول للعالم الذي صارت لديه مَلَكة استنباط الأحكام: انّنا ننتخب اجتهادك؟ أو نقول للبطل الفائز في المسابقات و الذي وصلت القدرة في بدنه إلى الفعلية: انّنا ننتخب قوّتك؟ أو نقول لحافظ القرآن الكريم: انّنا ننتخب حفظك؟! كلّا بالطبع، فهذا الكلام ليس صحيحاً أبداً.
انّ الانتخاب يحصل في الأمور الاعتباريّة التي دورانها بيد الاعتبار و الانتخاب، و التي توجد بواسطة الانتخاب و تفنى بعدمه. امّا في الأمور التكوينية و الواقعيّة التي وجدت قبل مرحلة الانتخاب و امتلكت وجودها، فانّ الانتخاب ليس له مجال فيها أبداً.
المسألة الثانية: انّ الامام يجب أن يكون معصوماً حتماً
المسألة الثانية: انّ الإمام يجب حتماً ان يكون معصوماً بعصمة الباري جلّ و عزّ، و قد استنتجنا بعض الاستنتاجات في هذا الباب من آيات: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. و جملة: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنا} و جملة: {وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ}؛ و أصبح معلوماً أنّ الإمام حينما عبر جميع مراحل النفس و تحقّق بوجود حضرة الحق، و تحكّمت في وجوده إرادة و مشيئة الحق دون تدخّل النفس الأمّارة، و صار فعله نفس وحي الله، لذا فانّ ذلك الإمام معصوم و منزّه عن كلّ دنس نفسي، و هذا هو معنى العصمة.
كما اننا استفدنا المصونية و العصمة من آية: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}۱.
بحيث أوضحت الآيات القرآنية هذه الحقيقة بشكل كامل.
الإمام يجب أن يكون معصوماً حتماً و مؤيّدًا من قبل الله تعالي
المسألة الثالثة: انّ الإمام يجب ان يكون مؤيّداً من قبل الله تعالى
المسألة الثالثة: ان الامام يجب ان يكون مؤيّداً من عند الله، أي انّ علومه و إدراكاته تحصل في نفسه بواسطة اليقين و الإلهامات الغيبيّة، و يكون الله هو المتكفّل بأموره، و قد أستفيد هذا الأمر من جملة: {وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ}۱، و جملة: {لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ}٢، و جملة: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنا}٣، لإنّ الإمامة تستلزم امتلاك مقام اليقين، و مقام اليقين كما ذُكر ليس ميسوراً دون انكشاف الملكوت و حقيقة الأشياء و بناءً على هذا فانّ الله سبحانه و تعالى يؤيّده كلّ لحظة بانكشاف الملكوت و الهداية بأمر الله.
المسألة الرابعة: انّ الأرض لا تخلو من حجّة أبداً
المسألة الرابعة: انّ الأرض و جميع الأفراد الذين يعيشون عليها لهم إمام في كلّ زمان، و لا يمكن أن تخلو الأرض عن حجّة الله أبداً، و قد استفيد هذا الأمر أيضاً من آية: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ}٤، لأن الله سبحانه و تعالى يدعو جميع أفراد بني آدم إلى الحشر يوم القيامة بإمامهم، فلا يوجد فردٌ من البشر إلّا و له إمام، و لا يوجد فردٌ على الأرض بدون إمام، كما انّه ورد في روايات كثيرة انّه لو لم يبقَ على الأرض الّا نفرين، لكان أحدهما إماماً للأخر، و لو لم يوجد الّا شخص واحد لوجب أن يكون الإمام نفسه.
المسألة الخامسة: علم الإمام المحيط بأعمال الأمّة
المسألة الخامسة: انّ الامام يعلم بجميع أعمال و أقوال و سيرة و ملكات عباد الله، و ليس هناك علمٌ غائب أو مخفٍ عن نظر الإمام، و قد بيّنت الأبحاث السابقة هذا المعنى في هذا الأمر استناداً إلى الآيات القرآنية، لأنّ الامام له سيطرة على نفوس و ملكوت الموجودات، و مع هذه الملكة فانّ جميع الأرواح و النفوس و روح الأعمال ستكون في مشهد الإمام و في حضور الولاية، كما انّ موجودات عالم الطبيعة مشهودة عند الشخص البصير و غائبة عند الأعمى.
و بالرغم من أنّ ملكوت كثير من الأعمال و الأقوال و النفوس سينكشف لدى الأفراد الذين لم يصلوا بعدُ إلى مرحلة الإمامة، و بالرغم من انّ هذا المعنى سيتّضح لديهم اثر التقوى و العبادة و مخالفة النفس الأمّارة و مجاهدتها، الّا انّهم لن يمتلكوا السيطرة الكلية على جميع الأرواح و النفوس أو هداية كلّ منهما إلى كماله، كلًّا حسب دوره و بقدر ظرفيّته، مع أنّ هذه الدرجة من البصيرة هي بصيرة القلب التي لا توجد لدى الأخرين، الّا ان هذه البصيرة و الرؤية قويّة و نافذة لدى الإمام بحيث لا يخفى عنه شيء من الملكوت في كلّ آن و في أي مكان.
المسألة السادسة: علم الإمام بحاجات العباد
المسألة السادسة: انّ الإمام يعلم جميع الأمور التي يحتاجها العباد في معاشهم أو معادهم، لأنّه- و حسب الفرض- فانّ الإمام يهدي النفوس إلى الحق من ملكوتها، و يوصلها إلى كمالها، فكيف يمكن أن يكون نفسه جاهلًا بما يحتاجه العباد في أمور تكاملهم؟ و هذه الخاصيّة تتّضح أيضاً من الآية القرآنية: يَهْدُونَ بِأمْرِنَا، و من أفضلية مقام الإمامة على النبوّة حسب مفاد خطاب حضرة الحق لإبراهيم الخليل.
و علاوةً على ذلك، فلأن فعل الإمام و قوله منطبق على الحق بتمام معنى الكلمة، و لأنّ الإمام قد خطا في مقام العبوديّة و التقرّب إلى مرحلةٍ بعيدة بحيث انّ الله نفسه سيكون هو الأمر و الناهي في وجوده، و سيكون فعل الإمام هو عين وحي الله، فكما انّ ما يحتاجه العباد ليس خافياً على الله، فانّه لن يكون خافياً على الإمام الذي هو التجلّي الأتمّ و المجرى الكامل لإفاضات الحضرة الأحديّة إلى الموجودات، و هذا الأمر ليس خافياً على الامام، بل انّ علم الامام هو عين علم الله تعالى، و ليس هناك أي تفاوت في أصل المعنى
أفضليّة الإمام على أفراد البشر في الملكات النفسانيّة
المسألة السابعة: أفضلية الإمام على أفراد البشر في الكمالات النفسانية
المسألة السابعة: انّ الامام هو أعلى من جميع أفراد البشر من حيث الفضائل النفسانية و الملكات الالهيّة، و من المستحيل أن يكون هناك شخص أفضل من الإمام في محاسن الاخلاق و الملكات الانسانية، لأنّه- و كما فرضنا- فانّ الطريق إلى الله عن طريق ملكات و صفات النفس. و لأنّ الامام أعلى و أرفع من سائر الأفراد في هذه المرحلة، لذا فانّه يهديهم عن طريق الملكوت إلى الحق، و اذا ما وجد في هذه الحالة شخصان أحدهما يفوق الأخر في هذا المعنى، فانّ الشخص المتفوّق سيكون حتماً إماماً للآخر، لإنّ الذي أفق ملكوته و نفسه أنور و أكثر مضاءة و بصيرة سيستطيع أن يدعو إلى منزله و محله الشخص الأخر الذي ليس في مستوى أفقه، و في هذه الحالة فانّه سيكون هو الإمام، خلافاً للشخص الضعيف الذي لن يستطع تحريك القوى أو تحمّل ثقله.
و هذه المسائل السبع هي من أصول مسائل الإمامة، و سائر المسائل الأخرى متفرّعة عنها.
أفضلية أمير المؤمنين في جميع الفضائل النفسيّة:
امّا في أفضلية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام على جميع أفراد البشر عدا خاتم الأنبياء، فليس فيه مجال للشبهة و الشكّ، و هذه الحقيقة يعترف بها العدوّ و الصديق. و بغضّ النظر عن الظهورات التي صدرت عنه عليه السلام خلال ثلاث و عشرين سنة في حياة رسول الله، و خلال ثلاثين سنة بعد رحلته في فنون العلوم المختلفة، و في حلّ المسائل الرياضيّة الغامضة، و القضاء بالحق، و في علوّ النفس و الهمّة و الإيثار، و الاتّصال بحرم الله و الإنجذاب بالجذبات الالهيّة، و في إدراك الحقائق و المعارف الكلية المعنوية الإلهيّة و عبور جميع مراحل النفس و آثارها، و في السبق إلى الاسلام و الهجرة و الجهاد.
و بغضّ النظر عن الأحاديث التي رويت عن رسول الله و التي تُثبت أفضليته عليه السلام بالمعنى الضمني او الالتزامي، مثل حديث: "أنتَ مِني بمنزلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، و حديث: إنّ عَليّاً وَزِيرِي، وَ وَصِيّي، وَ وَارِثِي، وَ أخِي في الدّنيا وَ الآخِرَةِ، وَ خَليفَتِي مِنْ بَعْدِي، وَ وَليّ كُلّ مُؤمِنٍ مِنْ بَعْدِي، وَ إنّ عَليّاً أميرُ المؤمِنينَ، وَ سَيّدُ المسْلمينَ، وَ يَعْسُوبُ المؤمِنينَ، وَ قَائِدُ الغُرّ المحَجّلينَ، وَ هُوَ الصّدّيقُ الأكْبَرُ، وَ الْفَارُوقُ الأكْبَرُ، وَ عَالم هَذِهِ الامّةِ، وَ ذُو قَرْنِهَا".
و بغض النظر عن حديث: "أنَا مَدِيَنَةُ الْعِلْم وَ عليّ بَابُهَا، و الأحاديث الأخرى في علمه عليه السلام".
و بغض النظر عن الأحاديث التي وردت مستفيضة في الدلالة على أنّه عليه السلام له حكم نفس رسول الله، و عن الأحاديث التي تُشير إلى انّه عليه السلام كان يمتلك فضائل خاصّة به، مع ان كلًّا منها يدلّ بمفرده على أفضليته عليه السلام على سائر الأمّة.
لو غضضنا الطرف عن هذا كلّه، فانّ هناك روايات كثيرة وردت عن رسول الله صلى الله عليه و آله عن طريق أهل البيت و شيعتهم و عن طريق العامّة أيضاً تدلّل على أفضليّته على الأمّة، بل على جميع أفراد البشر، بل على الأنبياء و المرسلين، و هذه الأحاديث تدلّ بالمعنى المطابقي على أفضلية ذلك الإمام المعصوم.
روايات «عليّ خَيْرُ البَشَرِ»
يروي الشيخ حافظ سليمان بن ابراهيم القندوزي الحنفي عن كتاب (مودّة القربى) تأليف السيد علي الشافعي عن عطاء قال: سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ عليّ، قالتَ: ذَلِكَ خير الْبَشَرِ لا يَشُكّ إلّا كَافِرٌ۱.
و يروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله: "يَا عليّ أنتَ خير الْبَشَرِ، مَا شَكّ فِيهِ إلّا كَافِرٌ"٢.
و يروي عن حذيفة انّه قال: عليّ خيرُ الْبَشَرِ وَ مَنْ أبى فَقَدْ كَفَرَ٣.
و يروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري انّ رسولَ اللهِ قَالَ: عليّ خيرُ الْبَشَرِ، مَن شَكّ فِيهِ فَقَدْ كَفَرَ٤.
كما يروي عن أمّ هاني بنت أبي طالب و أخت أمير المؤمنين عليه السلام انّ رسولَ الله قال: "أفْضَلُ الْبَرِيّةِ عِنْدَ الله مَنْ نَامَ في قَبْرِهِ، وَ لمْ يَشُكّ في عليّ وَ ذُرّيَتِهِ أنهم خير الْبَرِيّةِ"٥.
و روى عن الإمام محمّد بن علي الباقر، عن آبائه عليهم السلام قال: سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه و آله عَنْ خير النّاسِ؛ فَقَالَ: "خَيرُهَا، وَ أتْقَاهَا، وَ أفْضَلُهَا، وَ أقْرَبهَا إلى الجنّةِ أقْرَبهَا مِني، وَ لا أتْقَى وَ لا أقْرَبَ إلى مِنْ عليّ بنِ أبي طَالِبٍ"٦.
الروايات المعراجيّة الدالّة على ولاية أمير المؤمنين:
و يروي عن أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال: "قالَ رسولُ الله صلى الله عليه [و آله] و سلم: إنِّي رَأيْتُ اسْمَكَ مَقْرُونَاً بِاسْمِي في أرْبَعَةِ مَوَاطِنَ،
فَلمّا بَلَغْتُ الْبَيْتَ المُقَدّسَ في مِعْرَاجِي إلى السّمَاءِ، وَجَدْتُ عَلَى صَخْرَةٍ بها: لا إلَهَ إلّا الله، محمّد رَسُولُ الله، أيّدْتُهُ بِعَليّ وَزِيرِهِ، وَ لمَّا انْتَهَيْتُ إلى سِدْرَةِ المنْتَهَى وَجَدْتُ عَلَيهَا: إنّي أنَا الله، لا إلَهَ إلّا أنَا وَحْدِي، محمّدٌ صَفْوَتِي مِنْ خَلْقِي، أيّدْتُهُ بِعَليّ وَزِيرِهِ، وَ نَصَرْتُهُ بِهِ،
وَ لمّا انتَهَيْتُ إلى عَرشِ رَبّ الْعَالمين، فَوَجَدُتُ مَكْتُوباً عَلى قَوَائِمِهِ: إنِّي أنَا الله، لَا إلَهَ إلّا أنَا، محمّدٌ حَبِيبِي مِنْ خَلْقِي، أيّدْتُهُ بِعَليّ وَزِيرِهِ، وَ نَصَرْتُهُ بِهِ، فَلمَّا وَصَلْتُ الجنّةَ وجَدْتُ مَكْتُوباً عَلَى بَابِ الجنّةِ: لَا إلَهَ إلّا أنَا، وَ محمّدٌ حَبِيبِي مِنْ خَلْقِي، أيّدتُهُ بِعَليّ وَزِيرِهِ، وَ نَصَرْتُهُ بِهِ"۱.
بيانات جبرئيل في هيئة دحية في أمر ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام
بيانات جبرئيل في هيئة دحية في الولاية:
يروي الخوارزمي أبو المؤيّد الموفّق بن أحمد باسناده المتّصل عن الأعمش عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: كان رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلم في بيته، فغدا عليه عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه بالغداة أن لا يسبقه اليه أحد، فدخل فإذا النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم في صحن الدار، فاذا رأسه في حجر دحية بن خليفة الكلبي، فقال: السلام عليك كيف أصبح رسول الله؟
قال: بخير يا أخا رسول الله.
فقال عليّ: "جَزَاكَ الله عَنّا خيراً أهْلَ الْبَيتِ".
فقال له دحية: إني لأحبّك، و انّ لك عندي مدحة ازفّها لك، أنتَ أميرُ المؤمِنينَ، وَ قَائِدُ الْغُرّ المحَجّلينَ، أنتَ سَيّدُ وُلْدِ ءَادَمَ يَوْمَ الْقِيامةِ مَا خَلَا النّبِيّينَ وَ المرسَلينَ، لِوَاءُ الحمد بِيَدِكَ يَوْمَ الْقِيامةِ، تُزَفّ أنْتَ وَ شِيعَتُكَ يَوْمَ الْقِيامةِ إلى الجنّةِ مَعَ محمّد وَ حِزْبِهِ إلى الْجِنَانِ زَفّاً، وَ قَدْ أفْلَحَ مَن تَوَلّاكَ وَ خَسِرَ مَنْ تَخَلّاكَ، فَبحُبّ محمّدٍ حَبّوكَ، وَ مُبْغِضُوكَ لَنْ تَنَالُهُمْ شَفَاعَةُ محمّدٍ صلى الله عليه [و آله] و سلم؛ ادْنُ مِني صفوةَ الله!
فأخذ رأس النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم فوضعه في حجره، فقال النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلم: ما هذه الهمهمة؟ فقال علي بما جرى.
فقال: يا علي، لم يكن دحية، و لكن كان جبرائيل، و سمّاك بإسم سمّاك الله به، فهو الذي ألقى محبّتك في صدور المؤمنين، و رهبتك في صدور الكافرين۱.
المسائل السبع للإمامة كانت متحقّقة في أمير المؤمنين
انّ الأحاديث المرويّة عن رسول الله و الدالّة على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام بعنوان خير الوصييّن و سيّد ولد آدم و أمثال ذلك كثيرة، و قد اكتفينا بهذه الروايات العدّة عن طريق العامّة كمثال، لذا وفقاً للمسأئل السبع السابقة فانّ مقام الإمامة مختصّ به عليه السلام، و هو الذي كان يدعو الناس بقاطعيّة تامّة، لم يُشاهَد في فعله او قوله ندم أو شكّ أو حيرة أو جهل. و لأنّ الإمام له إحاطة بالملكوت، فانّه لا يخطئ أبداً، و لأنّ فعله فعل الحق، فانّه لا يتردّد و لا يتحيّر و لا يندم في عمله، لأنّ الله
سبحانه لا يتحيّر و لا يندم في فعله.
انّ الأفراد الذين يندمون، انّما يندمون عند العمل لجهلهم، اذ تبدو لديهم جهة من الجهات بصورة مقبولة فيبادرون إلى فعلها، و حين تتّضح لهم نقاط الضعف و النقاط المبهمة التي خفيت عليه لدى العمل فانهم يندمون.
امّا رجل الحق فلا يندم، و لم يشاهد أبداً انّ الإمام أظهر ندمه من فعلٍ فعله، و هذه هي علامة صحّة العمل و إتقانه، إضافة إلى أنّ الإمام يعيّن وظيفة الناس في كلّ موضوع بشكل قطعيّ، و لا يؤجّل ذلك إلى اليوم التالي و لا تنكشف له الحقيقة بالمشاورة و المطالعة و التأني و التروّي، بل انّ الحقائق تظهر أمامه و تتجلى كالمرآة، فيجيب بلا تريّث و لا تأخير.
لقد كان عُمر يعيى و يعجز في كثير من الأمور عن الإجابة على مسائل الأحكام العاديّة، بينما كانوا يسألون أمير المؤمنين عن بعض المسائل التي لا يستطيع علماء الرياضيات حلّها الّا باستخدام القوانين الرياضيّة، فيُجيبهم عليها مباشرة. فهل كان له عقل الكتروني يا ترى؟ إنّ الأجهزة الالكترونية هي الأخرى لا تستطيع ان تتجاوز حلّ المسائل البسيطة، لكن الامام كان يجيب عن تلك المسائل بداهةً، لكأنّ الجواب كان واضحاً لديه كالشمس، كما انّه كان يُجيب فوراً على الكثير من مسائل القضاء التي يحتاج حلّها إلى جهد رياضيّ.
إظهار أبي بكر ندمه من الخلافة
ندم أبي بكر على الخلافة:
و لقد أظهر أبو بكر ندمه على تولّيه الخلافة مرّات عديدة، و قال مراراً:
أقِيلُوني أقِيلُوني وَ لَسْتُ بِخيركُمْ۱.
لكنه يجب ان يُقال له: اذا كانت الخلافة التي سلبتها بأمر الله فكيف تريد تركها و التخلي عنها؟ و إن لم تكن بأمر الله فيكف سلبتها؟
فهو يعيى هنا و يتحيّر فلا يميّز يمنةً عن يسرة، لأنّهُ من جهة لا يمتلك القدرة على تحمّل هذا العبء و المسئولية، و من جهة اخرى فانّ قلبه لا يطاوعه في أن يُعيد الأمر إلى صاحبه. {كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}۱.
لقد ارتقى أبو بكر منبر رسول الله في مسجد الرسول يوماً بعد بيعة السقيفة و قال في خطبته: أيّهَا النّاسُ، فَإنّي قَدْ وُلّيتُ عَلَيكُمْ، وَ لَستُ بِخيركُمْ، فَإن أحْسَنتُ فَأعِينُوني، وَ إن أسَأتُ فَقَوّمُوني٢ ... أطِيعُوني مَا أطَعْتُ اللهَ، وَ إذَا عَصَيْتُ اللهَ وَ رَسُولَهُ، فَلا طَاعَةَ لي عَليكُمْ٣.
يقول الطبري: و خطب أبو بكر الناس فقال:
أيُهّا النّاسُ إنّمَا أنَا مِثْلُكُمْ، وَ إني لَا أدْرِي لَعَلّكُمْ سَتُكَلّفُوني مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه [و آله] يُطِيقُ، إنّ الله اصْطَفَى محمّداً عَلى الْعَالمِينَ، وَ عَصَمَهُ مِنَ الآفَاتِ، وَ إنّمَا أنَا مُتّبِعٌ وَ لَستُ بِمُبتَدِعٍ، فَإن اسْتَقَمْتُ فَتَابِعُوني، وَ إن زُغتُ فَقَوّمُوني.
إلى أن يقول: وَ إنّ لي شَيْطَاناً يَعْتَرِيني، فَإذَا أتَاني فَاجْتَنِبُوني.٤
خمسة إشكالات على خطبة أبي بكر
الإشكالات الخمسة على خطبة أبي بكر:
الاشكال الاوّل: قوله: (وَ لَسْتُ بِخيركُمْ)؛ حيث يجب أن يُقال له: فلما ذا تصدّيتَ للخلافة و لم تتخلّ عنها لخير الناس و مولى الموالي مع كلّ تلك النصوص الصريحة من صاحب الشريعة على أفضليته؟ و لما ذا أردت أن تكون إماماً لمن هو أفضل منك و أعلم؟ و كيف رضيت ان تدعو أمير المؤمنين الناموس الأكبر الالهيّ و كنز الاسرار و معارف الحق و نفس الرسول لاتّباعك؟ و كيف أردت أن تأخذ بيعته لك و أن تجعله يسلم لأمرك و نهيك دون قيد أو شرط؟ و بأيّ معارف و فضائل أخلاقيّة أردتَ ايصال المؤمنين إلى المطلوب؟ و على أي ملكوت كنت مسيطراً و مهيمناً؟
الاشكال الثاني: قولك (فَإن أحسَنْتُ فَأعِينُوني! وَ إن أسأتُ فَقَوّمُوني!)
و بناءً على هذا فانّك حين جعلتَ بأيدينا ميزان صحّة أو بُطلان عملك، و خيرتنا في الجرح و التعديل، فقد كنّا نحن إمامك لا أنت إمامنا!
و بغضّ النظر عن ذلك، فمن أين لنا أن نميّز الصحيح من السقيم؟ لو ميّزناه من عندنا لكنّا إذن لا نحتاج إلى خليفة، و إن توجّب ان يُفهمنا ايّاه إمامُ الحق لوجب علينا اتّباع ذلك الامام، و لوجب عليك أن تسلم أنت الأخر لأمره.۱
الاشكال الثالث:
قولك: (لَعَلَّكُمْ سَتُكَلّفُوني مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ يُطِيقُ).
بلى، انّ مثل هذه التكاليف ستأتي حتماً، و لكن من أجلسك مكان رسول الله لتحتار في النهوض بأعباء عمل و مهمة رسول الله؟ أو لم تسمع طوال المدّة المديدة رسولَ الله يقول كراراً- لا مرةً أو مرّتين- عَلي يَقْضِي دَيْني؟ أو لم تسلّم يوم غدير خم على أمير المؤمنين بتحيّة الولاية؟! فبأيّ مجوّز جلستَ مكان رسول الله أنتَ العاجز عن تحمّل أعباء مسؤوليته و عمله، و سلبتَ الحق المسلم لمقام الخلافة و الوصاية؟!
الإشكال الرابع:
قولك: (أطِيعُوني مَا أطَعْتُ اللهَ، وَ إذَا عَصَيْتُ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لي عَليكُمْ).
فبناءً على ذلك فقد صرتَ أنت أيضاً رديفاً لنا لا رئيساً علينا، فلما ذا نطيعك إذن؟ تعال أنت فأطعنا! و بأيّ قاعدة و سُنّة الهيّة صارت طاعتُك واجبةً علينا؟ و إضافة إلى ما تقدّم، فاننا نحتاج في معالم ديننا إلى معلم و مربّ نتعلم منه ما هي طاعة الله و رسوله، و ما هي مخالفة الله و رسوله، فمن أين لنا أن نعلم أنّ عملك هذا طاعة، و عملك ذاك معصية؟ الّا ان يدلّنا معلم القرآن و العارف بر