المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
مجموعة من البحوث التفسيريّة، والفلسفيّة، والروائيّة، والتأريخيّة والاجتماعيّة في الإمامة والولاية بشكل عامّ، وفي إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين بشكل خاصّ ؛ وذلك في هيئة دروس استدلاليّة علميّة متّخذة من القرآن الكريم والروايات الواردة عن الخاصّة والعامّة، وأبحاث حليّة ونقديّة عن الولاية .
وتضمّ هذه المجموعة 270 درساً في ثمانية عشر مجلداً. وقد جري فيها مناقشة وبحث مطالب من قبيل: العصمة، الولاية التكوينيّة، لزوم الإمام الحيّ، لزوم متابعة الأعلم، ضرورة وجود الإمام للمجتمع، معنى الولاية، شرح حجّة الوداع، شرح واقعة غدير خمّ، حديث الولاية، حديث المنزلة، شرائط القيادة، علم الغيب و...
الدَّرْسُ الْخَامِسُ عَشَرْ: تفسير الآية: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطّاهرين
و لعنة اللهِ على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا باللهِ العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا}۱.
خاطب الله تعالى المؤمنين في هذه الآية المباركة، و أوجب عليهم إطاعة الله و رسوله و أولي الأمر على نحو مطلق. و لمّا كان أُولو الأمر هم أصحاب الأمر و الحائزين على هذا المنصب، فقد فرض طاعتهم بدون أي قيد و شرط؛ و جعلها في مستوى طاعة رسوله الكريم.
فينبغي أن نرى الآن، من هم أُولو الأمر؟ و لبيان ذلك ما علينا إلّا تفسير هذه الآية المباركة من أجل توضيح القصد و الحصول على المطلوب.
تفسير آية أولي الأمر
لقد أوجبت في هذه الآية اطاعة الله و رسوله و أولي الأمر. فما هو القصد من هذه الإطاعة؟ و ما هي المجالات و المصاديق التي يجب
اطاعتهم من خلالها؟
ألا تعني إطاعة الله هي نفسها إطاعة رسوله الكريم؟ و هل أمرَنا الله و نهانا و أوجَب علينا الإستماع إلى أوامره و نواهيه بواسطة اخرى غير رسوله؟ فمن المسلّم أنّ طاعة الله هي نفسها طاعة رسول الله، و أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله هو الطريق إلى تعريف أحكام الله و قوانينه. فلما ذا- إذن- فُرضت طاعتان: إحداهما لله، و الاخرى لرسوله العظيم؟
أنّ القصد من إطاعة الله هو اتّباع الأحكام التي نزلت على قلب رسول الله صلى الله عليه و آله بوصفها وحياً، و التي يشمل حكمها و خطابها عامّة المؤمنين. و القرآن الكريم كلامُ حضرة الأحدية و وحيهُ إلى الناس كافّة. فإطاعة الله- إذن- تعني إطاعة كلامه الذي يمثّله القرآن الكريم.
القسمان من إطاعة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم
و أمّا إطاعة رسول الله فهي تنقسم إلى قسمين:
الأول: إطاعته فيما أوحى الله إليه من تشريع الأحكام و تفصيلها، ممّا لا نجده في القرآن. إذ من الواضح أنّ الأحكام التي بيّنها كتاب الله هي اصول الأحكام و المواضيع الشرعية. فنرى أنّ كلام الله لا يخرج عن نطاق الإجمال فيما يخصّ الصَلَاة، و الصوم، و الحج و الجهاد، و الزكاة، و النكاح و المعاملات، و سائر العبادات و الأحكام. و أمّا كيفية الصَلَاة، و الصوم و الحج، و سائر الموضوعات، فينبغي أن نتعلّمها من رسول الله، كما صرّح هو قائلًا: «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُموُنِي اصَلّي»۱. و قد أوجب الله الصَلاة، لكن انظروني كيف اصلّي، ثمّ صلّوا مثل صلاتي من حيث الشروط، و المقدّمات و الأفعال، و الأقوال الواجبة في الصَلَاة. فخصوصيّات هذه
المواضيع لم ترد في القرآن الكريم بنحو تام؛ و ما ورد فقط هو اصول العبادات و المعاملات و الأحكام. فما علينا إلّا الرجوع إلى رسول الله لأخذ التفاصيل و تعلّمها.
نفس رسول الله صلى الله عليه و آله مثل المِجهر الدقيق للغاية، حيث تقوم بتكبير و تبيين و توضيح الأحكام المجملة التي أوحاها الله في كتابه. و قد كشف عن شروط كلّ عبادة و أجزائها بكيفيّة مخصوصة. و أنّ آيات القرآن نزلت عليه مجملة، و انعكست في نفسه الشريفة؛ بيد أنّ تلك النفس القدسية المقدّسة بيّنت حدودها، و ثغورها، و تأويلها، و تفسيرها و شأن نزولها، و سائر الخصوصيّات المتعلّقة بالكتاب العزيز معلنة ذلك للملأ بشكل مفصّل: {وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}۱ فأنت تفصّل الأحكام، و أنت تبيّن المراد من الآيات.
و بكلمة بديلة، يمكن القول بأنّ بيان خصوصيّات المسائل و الأحكام هو من الوحي أيضًا؛ إذ نزل به جبرئِيل خارجاً عن نطاق القرآن. و من الواضح أنّ لبيان الرسول الكريم في هذه الخصوصيّات و التفاصيل بعدا تشريعيا٢.
الثّاني: إطاعته في الآراء الشخصية، و الأوامر النفسيّة العائدة إلى مجتمع المسلمين؛ تلك الأوامر التي هي من مهمّة الوالي و الحاكم لإقرار
النظام الاجتماعي للُامّة؛ و هي لا تدخل في دائرة تشريع الأحكام. مثل الحكومة، و بيان الواجبات الشخصيّة للمسلمين، نصب الولاة و الحكّام على الولايات، و تسيير الجيوش للجهاد، و تعيين القضاة و أئمّة الجماعة للنظر في الشئون الاجتماعيّة، و رفع المرافعات، و الشئون الدينيّة للمؤمنين. قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ}۱. و من الطبيعي فإنّ هذا الحكم في الشؤون الشخصيّة هو حسب قوانين القضاء. و على المسلمين كافّة أن ينقادوا لرسول الله بلا قيد أو شرط في قراراته التي يصدرها بشأن الأمور المهمّة؛ نحو تجهيز الجيوش، و تعيين امراء الجيش، و إرسالهم إلى النقاط النائية من أجل الجهاد، و عقد المعاهدات مع غير المسلمين وفقاً للمصالح التي يحدّدها. هذا بالرغم من أنّ الله أمره بمشاورة المؤمنين في الأمور الهامّة؛ {وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}٢، بيد أنّه عقّب عليه بقوله: {فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}٣. فكان صلى الله عليه و آله يشاور المسلمين في عزائم الأمور؛ لكنّه في النتيجة كان يجب أن يتصّرف حسب إرادته و قراره الذي يتّخذه بنفسه، و ما على المسلمين جميعهم إلّا الطاعة و الإذعان.
يظهر ممّا ذكرناه أنّه بالرغم من أنّ إطاعة رسول الله هي في الحقيقة إطاعة الله، حيث أنّ الله هو الذي فرض تلك الإطاعة بقوله: {وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}٤، بيد أنّ إطاعة الله لها معنى، و إطاعة رسوله لها معنى آخر. و يجب على الناس أن يطيعوا الله فيما يتعلّق بتعاليم
القرآن المجيد، و يطيعوا رسوله في خصوصيّات الأحكام التي يبيّنها، و لها صفة تشريعية؛ و كذلك أن يطيعوه فيما يعود إلى مصالح المسلمين من خلال آرآئه الشخصيّة و أوامره ممّا ليس لها صفة تشريعيّة. و لعلّ هذا السبب هو السرّ من وراء تكرار كلمة {أَطِيعُوا} مرّتين، حيث أمر الله المؤمنين بالإتّباع، و فصل طاعته عن طاعة رسوله؛ لا كما ذهب اليه بعض المفسّرين من أنّ التكرار يفيد التأكيد؛ لأنّ الكلمة لو لم تتكرّر هنا، لأفادت التأكيد بشكل أفضل، بلحاظ الاقتران القائم بين طاعة الله و رسوله، حيث يفيد وحدة الطاعة في المقامين.
حدود صلاحيّات أولي الأمر
أمّا اولو الأمر فليس لهم منصب التشريع قطعاً۱، و لا يفصّلون الأحكام الإجمالية في القرآن؛ و لا يُشرّعون شيئاً منها كرسول الله. فهم يبيّنون الأحكام، و يبلّغون الآيات بين المسلمين، وفقاً لتشريع رسول الله؛ و لهم النظر في شئون المسلمين المختلفة. و على الناس أن يتّبعوهم في القضاء، و المرافعات، و سائر الشؤون الإجتماعية التي تحتاج إلى رأي الرئيس لتنظيم الامور، و الوقوف بوجه المشاكل، و الأخطار الداهمة و تحقيق المصالح العامّة. لذلك فإنّ طاعتهم جاءت متقارنه مع طاعة رسول الله في خطّ واحد من خلال كلمة واحدة هي: {أَطِيعُوا} حيث قال عزّ شأنه: {... وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. و في ضَوء ذلك، فإنّ طاعتهم
فقط في هذا الحقل، على عكس طاعة رسول الله حيث إنّها تشمل هذا الحقل، و حقل تشريع الأحكام الجزئية، و بيان تفاصيل المسائل. و دليلنا على هذا الكلام هو ما يذكره القرآن بعد تلك الآية مباشرة، إذ يقول: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ}.
فينبغي عليهم الرجوع إلى كتاب الله و سنّة رسوله في المنازعات و المشاجرات التي تقع بينهم، و ينهوا مشاجراتهم استلهامًا من ذينك المصدرين. و لو كان لأولي الأمر منصب التشريع، لوجب إرجاع المؤمنين إليهم عند المرافعة بوصفهم مشرّعين، في حين لا نجد من ذلك شيئاً.
و نقول في توضيح هذا المعنى: أنّ المخاطَبين في هذه الآية هم المؤمنون، كما جاء في صدرِها قولُه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.} فالمقطوع به أنّ نزاعهم مع غير أولِي الأمر؛ لأنّه لا معنى لنزاعهم معهم بعد فرض وجوب طاعتهم، و لا معنى للإرجاع إلى الله و رسوله من أجل رفع النزاع۱. و هذا
النزاع أيضًا ليس في الامور التي تتعلّق بالآراء و الأوامر الشخصيّة، بل هو يتعلّق بحكم الله في القضيّة المتنازع حولها، بدليل الآيات التي تليها حيث تذمّ الأشخاص الذين يتّخذون الطاغوت مرجعاً لهم، و يرضون بحكمه تاركين حكم الله و رسوله وراء ظهورهم. فالمراد هو نزاع المسلمين بعضهم مع البعض الآخر في الشئون الشخصيّة، و ما عليهم في هذه المسائل إلّا الرجوع إلى كتاب الله و سنّة رسوله لحسم النزاع و تسوية الخلاف؛ علماً بأنّ الكتاب و السنّة حجّتان قاطعتان لتسوية الخلاف و حسم النزاع عند من له علم بهما؛ و كذلك قول أولي الأمر فإنّه دليل و حجّة في فهم الكتاب و السنّة. و لمّا أوجبت الآية الشريفة طاعة أولي الأمر بلا قيد و شرط و فسّر هؤلاء الكتاب و السنّة دون أن يحملوا عنوان التشريع، فينبغي اتّباعهم و طاعتهم. و في ضَوء ذلك نكتشف «إنّاً»۱ حيث أنّ قولهم مطابق للواقع و خالٍ من الزلل و الخطاء.
لزوم العصمة عند أولي الأمر
و محصّل الكلام أنّ أولي الأمر رجال من الامّة يجب اطاعتهم بشكل مطلق و بلاقيد و شرط؛ و ذلك في جميع الحقول إلّا حقل التشريع؛ و أنّ إطاعتهم في حكم إطاعة رسول الله. و كما أنّ أمر الرسول و نهيه لا يخالفان أمر الله و نهيه، و إلّا يستدعي التناقض بين أمر الله و أمر الرسول و نهي الله و نهي الرسول، و هذا معنى لا يتمّ إلّا بالتزام عصمة الرسول، فكذلك أمر أولي الأمر و نهيهم لا يخالفان أمر الله و رسوله و نهي الله و رسوله. و إلّا يفضي إلى التناقض، و الأمر بالضدّين أو النهي عن
المتناقضين؛ و هذا معنى لا يتمّ أيضاً إلّا بالتزام عصمة أولي الأمر و بالنتيجة، فإنّ ما يُلزِم إطاعتهم المطلقة بلا قيد و شرط هو عصمتهم. و من جهة، لمّا كنّا نعلم بأنّ أيًّا من المذاهب الإسلامية لم يدّع العصمة لأئمته إلّا المذهب الامامي، إذ يرى الشيعة عصمة أئمّتهم الأثني عشر، لذلك فانّ مفهوم الآية سوف ينطبق طبعاً على الأئمّة المعصومين سلام الله و صلواته عليهم أجمعين.
هذا من ناحية دلالة الآية الكريمة، و الدليل على ذلك هو الروايات الجمّة التي تفوق الإحصاء، منها الروايات الواردة في تفسير هذه الآية.
تفسير أولي الأمر في الروايات
يروي صاحب «تفسير البرهان» و مؤلّف «غاية المرام» عن محمّد ابن يعقوب الكليني بأسناده المتّصل عن أبي بصير أنّه قال: «سَألتُ أبا عبد الله عليه السلام، عَن قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فقالَ: «نَزَلَتْ في عليّ بن أبِي طالِبٍ وَ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ عليهم السلامُ»، فَقُلْتُ لَهُ: أنّ النَّاسَ يَقُولُونَ: فَمَا لَهُ لَمْ يُسَمِّ عَلِيّاً وَ أهْلَ بَيْتِهِ في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ؟ قَالَ: «فَقُولُوا لَهُمْ: أنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه و ءَاله و سلّم نَزَلَت عَلَيْهِ الصَّلاةُ لَمْ يُسَمِّ اللهُ لَهُمْ ثَلَاثًا وَ لا أرْبَعاً حتى كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ و آلِهِ وَ سَلَّمَ هُوَ الذي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُم؛ وَ نَزَلَت عَلَيهِ الزَّكَاةُ وَ لَمْ يُسَمِّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ أرْبَعِينَ دِرْهَمًا حتى كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ و آلِهِ وَ سَلَّمَ هُوَ الذي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ؛ وَ نَزَلَ الحَجُّ فَلَم يَقُل لَهُمْ: طُوفُوا اسْبُوعاً حتى كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ و آلِهِ وَ سلّم هُوَ الذي فَسَرَّ ذَلِكَ لَهُم؛ وَ نَزَلَتْ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. و نَزَلَت في عليّ، و الْحَسَنِ، و الحُسَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ و آلِهِ و سَلَّمَ: ألَا مَنْ كُنتُ مولاهُ فَعَلِيّ
مولَاهُ، وَ قَالَ: اوصِيكُمْ بِكِتَابِ اللهِ وَ أهْلِ بِيْتِي، فَإنِّي سَألْتُ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أنْ لا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حتى يُوردَهُما عليّ الْحَوْضَ، فَأعْطَانِي ذَلِكَ. وَ قَالَ صلّى اللهُ عليه و ءَالِهِ وَ سَلَّمَ: لَا تُعَلِّمُوهُم فَهُمْ أعْلَمْ مِنْكُمْ. وَ قَالَ: إِنَّهُمْ لَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ بَابِ هُدًى، وَ لَنْ يُدْخِلُوكُمْ في بَابِ ضَلَالَةٍ. فَلَوْ سَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ و ءَالِهِ وَ سَلَّمَ فَلَمْ يُبَيِّنْ مَن أهْلُ بيتِهِ لَادّعاهَا ءَالُ فُلَانٍ وَ ءَالُ فُلَانٍ، وَ لكِنّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أنْزَلَ في كِتَابِهِ تَصدِيقاً لِنَبِيِّهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}۱ فَكَانَ عليّ وَ الْحَسَنُ، و الْحُسَيْنُ، وَ فَاطِمَةُ عليهم السلام فَأدْخَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و آلِهِ وَ سَلَّمَ تَحْتَ الْكِسَآءِ في بَيْتِ امّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: اللَهُمَّ! أنّ لِكُلِّ نَبِيّ أهْلًا وَ ثَقَلًا، وَ هؤلاءِ أهْلَي وَ ثَقَلِي، فَقَالَت أمُّ سَلَمَةَ: أ لَستُ مِنْ أهْلَكَ؟ فَقَالَ لَهَا: إِنَّكِ إلى خَيْرٍ، وَ لَكِنْ هَؤُلاءِ أهْلِي وَ ثَقَلِي»٢إلى آخر الحديث الذي يُبيّن بعضا آخر من فضائل أهل البيت.
و روى في تفسير «البرهان» و «غاية المرام» عن ابن شهرآشوب عن «تفسير مجاهد» ما نصّه:
«إنَّهَا نَزَلَت في أمير المؤمنين عَليهِ السَّلَامُ حِينَ خَلَّفَهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ و ءَالِهِ و سَلَّمَ بِالْمَدينةِ. «فَقَالَ، يَا رَسُولَ اللهِ! أ تُخَلِّفُني عَلَى النِّسَاءِ وَ الصِّبيانِ؟ فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين! أمّا تَرضَى أن تَكُونَ مِنِّي
بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن موسى حِينَ قَالَ لَهُ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ}؟ فَقَالَ اللهُ: {وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. قَالَ: عليّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السَّلَامُ وَلَّاهُ اللهُ أمْرَ الامَّةِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ، وَ حِينَ خَلَّفَهُ رَسُولُ اللهِ بِالْمَدِينَةِ، فَأمَرَ اللهُ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَ تَرْكِ خِلَافِهِ»۱
و في تفسير «البرهان» و «غاية المرام» أيضاً يروي عن ابن شهرآشوب عن إبانة الفلكي أنّ الآية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، إنّها نَزَلَتْ حين شكى أبُو من عليّ عليه السلام٢؛ و روى ابن شهرآشوب هذا الخبر المرويّ عن مجاهد في شأن النزول.
و روى في تفسير «البرهان» عن الصدوق- رضي الله عنه- بإسناده المتّصل عن أبي بصير، عن الإمام الباقر عليه السلام ما نصّه.
«فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قَالَ: «الأئِمَّةُ مِنْ وُلْدِ عليّ وَ فَاطِمَةَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهمَا إلى أن تَقُومَ السَّاعَةُ»٣
و في تفسير «الميزان» عن «عبقات الأنوار» عن كتاب «ينابيع المودّة»، عن «مناقب» ابن شهرآشوب، عن سُليم بن قيس الهِلاليّ، عن
أمير المؤمنين عليه السلام ضمن حديث قوله:
«قَالَ: وَ أمّا أدْنَى مَا يَكُونُ بِهِ الْعَبْدُ ضَالا أن لَا يَعْرِفَ حُجَّةَ اللهِ تَبَارَكَ وَ تعالى وَ شَاهِدَهُ عَلَى عِبادِهِ، الذي أمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِطَاعَتِهِ وَ فَرَضَ وَلَايَتَهُ». قَالَ سُلَيمٌ: قُلْتُ يَا أمير المؤمنين!، صِفهُم لي، قَالَ: «الَّذِينَ قَرَنَهُمْ اللهُ بِنَفْسِهِ وَ نَبِيِّهِ، فَقَالَ: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فَقُلْتُ لَهُ: جَعَلَنِي اللهُ فِداكَ!، أوضِحْ لِي، فَقَالَ: «الَّذِينَ قَالَ رَسُولُ اللهَ صلى اللهُ عَلَيهِ و ءَالِهِ وَ سَلَّمَ في مَوَاضِعَ، وَ في آخِرِ خُطبَتِهِ يَومَ قَبَضَهُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَيهِ: إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ أمرَينِ لَن تَضِلُّوا بَعْدِي إِن تَمَسَّكْتُمْ بِهِمِا: كِتَابَ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ، وَ عِتَرَتِي أهْلَ بَيْتِي؛ فَإِنَّ اللطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إلى أنَّهُمَا لَنْ يَفتَرقَا حتى يَردَا عليّ الْحَوضَ كَهَاتَين- وَ جَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيَهِ- وَ لَا أقُولُ كَهَاتَينِ- وَ جَمَعَ مُسَبِّحَتِهِ وَ الْوُسْطَى۱- فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا وَ لا تقَدَّمُوهُما فَتَضِلُّوا».٢
و جاء ذلك أيضاً في تفسير «البرهان» في ذيل آية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}؛ و في «غاية المرام». و يروي صاحب الميزان نقلًا عن البرهان، حديث جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول اللهَ صلى الله عليه و آله و سلّم إذ يذكر فيه النبيّ صلى الله عليه و آله أسماء الأئمّة الإثني عشر واحداً بعد الآخر مع سبب غيبة الإمام المهديّ قائم آل محمّد عليه السلام٣و يشتمل هذا الحديث على نقاط مشرقة و مواضيع
نفيسة.
أجل، فإنّ انطباق أولي الأمر على الأئمّة الطاهرين عليهم السلام بلغ درجة نجد فيها صادق أهل البيت عليه و عليهم السلام يوصي بالمباهلة لإثباته. كما جاءَ ذلك في تفسير «البرهان»، و «غاية المرام»، و تفسير «الميزان». إذ يروي أصحابها عن محمّد بن يعقوب الكليني في «الكافي» عن أبي مسروق، عن أبي عبد الله عليه السلام ما نصّه:
«قَالَ: قُلتُ لَهُ: إِنّا نُكَلِّمُ أهْلَ الْكَلامِ فَنَحتَجُّ عَلَيْهِم بِقَولِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فَيَقُولُونَ: نَزَلَتْ في المؤمنين، وَ نَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِقَولِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}، فَيَقُولُونَ: نَزَلَتْ في قُربَى المسلمين. قَالَ: «فَلَمْ أدَعْ شَيْئاً مِمَّا حَضَرَني ذِكْرُهُ مِنْ هَذا وَ شِبهِهِ إلَّا ذَكَرْتُهُ. فَقَالَ لِي: إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَادْعُهُمْ إلى الْمُبَاهَلَةِ» قلْتُ: وَ كَيْفِ أصْنَع؟ فَقَالَ: «أصْلِحْ نَفْسَكَ ثَلَاثًا» وَ أظُنُّهُ، قَالَ: «وَ صُمْ وَ اغْتَسِلْ وَ ابْرُز أنْتَ وَ هُوَ إلى الْجِبَالِ فَتَشَبَّكْ أصَابِعَكَ مِنْ يَدِكَ الْيُمنَى في أصَابِعِهِ، ثُمَّ أنصِفْهُ وَ أبدأ بِنَفْسِكَ، وَ قُلْ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاواتِ السَّبْعِ وَ رَبَّ الأرَضَينَ السَّبْعِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمِ! إِن كَانَ أبُو مَسْرُوقٍ جَحَدَ حَقَّاً وَ ادَّعَى بَاطِلًا فَأنْزِلْ عَلَيْهِ حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ وَ عَذَابًا ألِيماً؛ ثُمّ رُدَّ الدَّعْوَةَ عَلَيْهِ، فَقُل: وَ إِن جَحَدَ حَقّاً وَ ادَّعَى بَاطِلًا، فَأنْزِلْ عَلَيهِ حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ وَ عَذَابًا ألِيماً؛ ثُمَّ قَالَ لِي: فَإِنَّكَ لا تَلْبَثُ أن تَرَى ذَلِكَ فِيهِ، فَوَ اللهِ! مَا وَجَدْتُ خَلْقاً يُجْيبُني إِلَيْهِ».
و روى صاحب «الكافي» بإسناده عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه
قَالَ: «السَّاعَةُ الَّتي تُبَاهَلُ فِيهَا مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ۱».
و روى الحاكم الحسكاني بسلسلة سنده عن أبان بن أبي عيّاش:
قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْم بنُ قَيس الهِلالي عَن عليّ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ و ءَالِهِ و سَلَّمَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ قَرَنَهُم اللهُ بِنَفْسِهِ وَ بي، وَ أنْزَلَ فِيهِمْ «يَا أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أطِيعُوا اللهَ وَ أطِيعُوا الرَّسُولَ الآية فَإِن خِفْتُمْ تَنَازُعا في أمْرٍ فَارجِعُوهُ إلى اللهِ و الرَّسُولِ وَ أولِي الأمْرِ. قُلْتُ: يَا نَبِيّ اللهِ! مَن هُمْ؟ قَالَ: أنْتَ أوَّلُهُمْ»٢
و في تفسير «الميزان»، عن تفسير «العيّاشي»، عن عمر بن سعيد عن أبي الحسن عليه السلام في الآية {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قَالَ: «عليّ بن أبي طَالِبٍ وَ الأوصِيَاءُ من بَعْدِهِ»٣
و ثمّةَ رواية عن ابن شهرآشوب يقول فيها: سَألَ الْحَسَنُ بنُ صَالحٍ عَنِ الصَّادِقِ عليه السلام، عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «الأئِمَّةُ مِنْ أهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيه و ءَالِهِ و سَلَّمَ»٤
أجل، فقد اتّضح من البحث الاستدلالي التفسيري الذي ذكرناه حول آية أولي الأمر، و سلسلة الروايات الواردة التي تحصر أولي الأمر بالأئمّة الطاهرين، و نحن ذكرنا هنا شيئاً منها (و من رام الاستقصاء فليلاحظ تفسير «البرهان» في ذيل ءَاية{أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
و «غاية المرام» حيث أورد صاحبه أربعة أحاديث من العامّة و أربعة عشر حديثاً من الخاصّة، و «ينابيع المودة») أنّ المراد من أولي الأمر هم الأئمّة المعصومون من الذنب و الخطأ بلا ريب يعتري النفوس.
نقد نظريّة عصمة اجتماع أهل الحلّ و العقد
و من العجيب- كما سنأتي عليه مفصّلا- أنّ الإمام الفخر الرازي يقرّ بلزوم العصمة عند أولي الأمر في هذه الآية المباركة، بيد أنّه يقول بأنّ العصمة من الخطأ تتحقّق بواسطة اجتماع أهل الحلّ و العقد الذين يختارهم وليّ الأمر، و بكلمة أخرى، فإنّ كلّ فرد من أفراد أهل الحلّ و العقد ليس معصوما و مصونًا من الذنب و الزلل بذاته و لكن تتحقّق هذه المصونيّة و العصمة من خلال تبادل أفكارهم و اجتماعهم، و بالنتيجة، فالعصمة وليدة اجتماع أهل الحلّ و العقد.
و سنقوم- إن شاء الله- برّد هذا الكلام العاري من الحقيقة مفصّلًا، بَيدَ أنّا نكتفي هنا بذكر نقطة واحدة، و هي انّه لو كان اجتماع أهل الحلّ و العقد مفضيا إلى العصمة، فلما ذا ارتكب عثمان جميع تلك الأخطاء؛ و هو الذي نصبه أهل الحلّ و العقد حسب وصيّة عمر؟ و لما ذا كلّ تلك الزلّات و الهفوات الإجتماعية، و مصادرة حقوق الضعفاء، و حرمان الامّة الإسلامية من حقوقها المشروعة، و غيرها من الإنتهاكات التي بلغت حدّاً جعلت فيه كبار المؤرّخين يعترفون بها و يسجّلونها في كتبهم.
أحرق عثمان القرآن، و بقر بطن عمّار بن ياسر، ور كله ركلًا حتى اغمي عليه، و اصيب بالفتق، و هو الصحابيّ الجليل الذي كانت منزلته أوضح من الشمس في رائعة النهار؛ و قال فيه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم قولًا يعرفه الصغير و الكبير، و نصّه:«عَمَّارٌ مَعَ الحَقِّ وَ الحَقُ
مَعَ عَمّارٍ حَيثُ كَانَ، عَمَّارُ جَلْدَةُ بَيْنَ عَينِي وَ أنْفي» ۱و كذلك قام عثمان بضرب عبد الله بن مسعود لامتناعه عن تسليم القرآن الذي جمعه بنفسه. و أبعد الصحابي الكريم العظيم أبا ذر الغفاري الذي قال في حقّه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: «مَا أظَلَّتِ الْخَضْراءُ وَ لَا أقَلَّتِ الغَبراءُ عَلَى ذِي لَهْجَةٍ أصْدَقَ مِنْ أبِي ذَرٍّ٢» لا لذنب إلّا لصراحة لهجته و أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر، أبعده من المدينة إلى الشام، ثمّ بعد ذلك إلى الربَذَة على جمل جمّازة بلا غطاء و لا وطاء، فعاش وحيدا غريباً، و تضوّر جوعاً في تلك الفيافي الكأداء إلى أن وافته المنيّة هناك.
و قسّم عثمان بيت مال المسلمين على بني عمومته من آل اميّة و على ولاته الذين كانوا جميعهم من أقاربه و أرحامه حتى تعالت صيحات الاستغاثة من حناجر المسلمين. و وهب مروان بن الحكم فدكاً، و هي إرث فاطمة الزهراء بضعة رسول الله، التي ينبغي أن تصل إلى ذريتها، ملّكها ذلك الرجل الفظّ المتهوّر. و دعا الحَكَمَ طريد رسول الله إلى المدينة و وهبه جميع خرج أفريقيا في مجلس من المجالس.
و قد و عظه و نصحه أمير المؤمنين عليه السلام قائلًا:
«وَ أنّ شَرَّ النَّاسِ عِندَ اللهَ، إمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَ ضُلَّ بِهِ، فَأمَاتَ سُنَّةً مَأخُوذَةً، وَ أحيَى بِدْعَةً مَتْرُوكَةً. وَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهُ وَ ءَالِهِ يَقُولُ: يُؤتَى يَوْمَ القِيامَةَ بِالإمَامِ الْجَائِرِ وَ لَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَ لَا عاذِرٌ فيُلْقَى في جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيها كَمَا تَدُورُ الرَّحَى ثُمَّ يُرْتَبَطُ في قَعْرِهَا»٣
جانب من الانتهاك و الظلم الذي نزل بساحة أمير المؤمنين عليه السلام
تذمّر أمير المؤمنين عليه السلام في كثير من خطبه و رسائله و أقواله من الإنتهاك و الظلم الذي حلّ به فيما يخصّ ولايته. و تأوّه و تحسّر على منع القوم أن يدور الأمر حول محوره، و يُسلّم إلى صاحبه و وليّه. و بكى على هذه الامّة السيّئة الحظّ، المعرِضَةَ عن كتاب الله و سنّة رسول الله. و تطرّق إلى هذا الموضوع في مواطنَ جمّة من «نهج البلاغة» فقال في أحدها:
«حتى إذَا قَبَضَ اللهُ رَسُولَهُ صلى اللهُ عَلَيهِ و ءَالِهِ رَجَعَ قَومٌ عَلَى الأعْقَابِ وَ غَالَتْهُمُ السُّبُلُ، وَ اتَّكَلُوا عَلَى الوَلَائِج، وَ وَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ، وَ هَجَرُوا السَّبَبَ الذي امِرُوا بِمَوَدَّتِهِ، وَ نَقَلُوا الْبَنَاءَ عَنْ رَصِّ أسَاسِهِ، فَبَنَوْهُ في غَيْرَ مَوْضِعِهِ، مَعادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَ أبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ في غَمْرَةٍ، قَد مَارُوا في الْحَيرَةِ وَ ذَهُلُوا في السَّكْرَةِ عَلَى سُنَّةٍ مِن ءَالِ فِرْعَونَ مِن مُنْقَطِعٍ إلى الدُّنيا راكِنٍ أو مُفارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ»۱
و يقول في رسالته إلى مالك الأشتر و أهل مصر:
«فَلَمَّا مَضَى عليه السَّلَامُ [يَعْنِي مُحَمَّدًا] تَنَازَعَ المُسلِمُونَ الأمْرَ مِن بَعْدِهِ، فَوَ اللهِ! مَا كَانَ يُلْقَى في رَوعوَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِي أنّ الْعَرَبَ تُزعِجُ هَذَا الأمْرَ مِنْ بَعدِهِ صلى اللهُ عَليه و ءَاله عَنْ أهلْ بَيتِهِ، وَ لَا أنّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِن بَعْدِهِ. فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسُ عَلَى فُلَانٍ يُبَايُعونَهُ، فَأمْسَكْتُ يَدي حتى رَأيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسلامِ، يَدْعُونَ إلى مَحْقٍ دِينِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيهِ و ءَالِهِ فَخَشِيتُ إنْ لَمْ أنْصُرِ الإسلامَ وَ أهْلَهُ أنْ أرَى فِيهِ ثُلْما أو هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عليّ أعْظَمَ مِن فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ
الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أو كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ في تِلْكَ الأحْدَاثِ حتى زَاحَ الْبَاطِلُ وَ زَهَقَ، وَ اطْمَأنَّ الدِّينُ وَ تَنَهْنَهَ»۱
الدَّرْسُ السَّادِس عَشَر: أكْمَلِيَّةُ أمير المؤمنين عليه السلام في جَمِيع الْفَضَائِلِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة اللهِ على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا باللهِ العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا}۱
ذكرنا سابقاً أنّ أولي الأمر المقصودون في هذه الآية المباركة هم المعصومون عليهم السلام ذلك أنّ الآية أوجبت إطاعتهم بشكل مطلق و جعلتها في مستوى طاعة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم؛ و هذا معنى لا يمكن تحقّقه بدون عصمتهم. و لو فرضنا أنّهم غير معصومين و أنّهم خالفوا أوامر النبيّ قولًا أو عملًا، فهذا يلزم اجتماع الأمر و النهي من الله الذي أوجب طاعتهم. لأنّهم- من جانب- يأمرون وفقاً لأمر الله و رسوله، و- من جانب آخر- ينهون قولًا أو عملًا، و هذا محال.
فأولي الأمر أشخاص لا تلاحظ في قولهم أو فعلهم مخالفة للكتاب و السنّة أبداً، و أنّ لقولهم و فعلهم حجيّة على الامّة بنحو مطلق؛ و هذا الأمر
ملازم لعصمتهم. و لمّا كان المسلمون كافّة، شيعة و غير شيعة، لا يرون عصمة أحد غير الأئمّة المعصومين، لذلك فإنّ المقصودين بهذه الآية، التي تأمر الامّة بوجوب طاعة المعصوم بشكل مطلق، هم الأئمّة الطاهرون عليهم السلام.
و يرى بعض أهل السنّة۱ أنّ الآية لا تفيد عصمة رسول الله، و لا عصمة أولي الأمر. أمّا عصمة رسول الله، فلو ثبتت فبأدلة اخرى. و أمّا عصمة أولي الأمر فإنّها تستفاد عند ما لا تحافظ الآية على استقلالها و مفهومها الصحيح بدون هذا المعنى، لكنّنا نجد أنّنا لو لم نعتبر أولي الأمر معصومين، فإنّ الآية تظلّ على ما هي عليه، و لا يلزم اجتماع الأمر و النهي و لا يستلزم أمر المحال. فبيان هذا الموضوع هو أنّ هذه الآية أوجبت طاعة أولي الأمر من أجل المحافظة على اجتماع المسلمين، و عدم تشتّتهم و تفرّقهم فقط، مثل الولاية المعهودة التي يتقلّدها رؤساء سائر الامم و المجتمعات. فتلك الامم و المجتمعات تعيّن لها رئيساً. و تفوّض إليه امورها، و تقيّد الناس بوجوب طاعته. بَيدَ أنّه لو طغى ذلك الرئيس متعمّداً أحياناً، و تصرّف خلاف قانون ذلك المجتمع فلا يطيعونه. لأنّهم انتخبوه حافظاً و حارساً للقانون لا مشرّعاً له، فلو أخطأ، لا يجب اتّباعه أيضاً، و ينبغي أن يُشعِروهُ بخطئه. و لكن عند ما يكون خَطَأهُ غير مؤكّد، بل احتملوا فقط ذلك الخطأ في أوامره، فإنّ حكمه هنا نافذ المفعول؛ و ذلك للمحافظة على مصلحة المجتمع، لأنّ مصلحة المجتمع و بقاء سيادته و وحدته و عظمته أمر مهم، يُرجّحُ على المفسدة المترتّبة على أوامرهم المحتملة الخطأ.
و مجمل الكلام، فإنّ أولي الأمر في هذه الآية الشريفة هم الرؤساء و الحكّام الذين يقومون بأعباء الرئاسة و الحكومة في الوسط الاجتماعيّ. و لو اتّخذوا قراراً معارضاً لقول الله و رسوله على نحو اليقين، فلا ينبغي اتّباعهم في خصوص ذلك القرار؛ و ذلك لوجود بعض المقيّدات نحو {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ}۱، و قول رسول الله الذي يتّفق الشيعة و السنّة على نقله و روايته، و هو:«لَا طَاعَةَ لِمَخْلَوقٍ في مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»٢ و كذلك قوله:«لَا طَاعَةَ إلَّا في الْمَعْرُوفِ»٣ و أمثالها التي تسقط حجّيّة أقوالهم عند المعصية. و لو أخطأوا في قرار ما، فينبغي تنبيههم و إرجاعهم إلى الكتاب و السنّة.
هذا فيما إذا احرز خطأهم. أمّا إذا كان هناك احتمال في خَطئهم فأوامرهم حُجّة، و لا مانع من حجّيّة أوامرهم في مثل هذه المواضع؛ حتى لو اتّفق أن يكون عملهم مخالفاً للواقع. لأنّ حفظ مصلحة نظام المسلمين باتّباعهم أهمّ من المفسدة المترتّبة على هذه الامور.
و لكن بالتأمّل الدقيق في ظهور الآية الشريفة و سياقها، تنتفي هذه الشبهة تماماً لأنّه حتى لو كان جعل الحجّيّة على أقوال غير المعصوم و أفعاله ليس محالًا في حدّ ذاته، و عند صدور الخطأ بنحو جازم أو المعصية، فإنّ الدليل المخصّص يحدّد لزوم إطاعتهم و حجّيّة أوامرهم و عند صدور الخطأ المحتمل، فإنّ المصلحة السلوكيّة المتمثّلة بحفظ المجتمع و إقرار النظم تسدّ النقص الناشئ عن المفسدة المخالفة للواقع و يمكن أن
نجد مثل هذا الحجّيّة عند امراء السرايا الذين كان يرسلهم رسول الله إلى الجهاد، و عند الولاة الذين كان يعيّنهم هو أو أمير المؤمنين و كذلك حُجّيّة قول المجتهد بالنسبة إلى المقلّد، و حجّيّة الروايات و خبر الواحد، غير أنّ إمكان جعل الحجّيّة في أوامر أولي الأمر على هذه الكيفيّة مسألة، و ظهور الآية الشريفة في إطلاق وجوب متابعتهم مسألة اخرى و لا صلة بين الاثنين بتاتاً. و نحن لا ننكر إمكان حجّيّة الحكّام و الرؤساء، و بصورة عامّة، كلّ شخص غير معصوم، من باب تلافي المفسدة الواقعة بالمصلحة السلوكيّة، غير أنّا نقول بأنّ ظهور الآية الشريفة خارج عن هذا المجرى.
لزوم إطاعة أولي الأمر بشكل مطلق
أنّ للآية الكريمة- على نحو مطلق- ظهور بل نصّ في لزوم اتّباع أولي الأمر. و هذا المعنى يستلزم المحال بدون عصمتهم، لأنّ اسلوب الآية و سياقها غير قابل للتخصيص. فالآية أوجبت إطاعة أولي الأمر و جعلتها في حكم إطاعة رسول الله و مقارنة و ملازمة لها، و كذلك في حكم إطاعة الله. فكما أنّ التخصيص لا معنى له في إطاعة الله و رسوله فكذلك هو في إطاعة أولي الأمر التي سُبكت مع إطاعة الله و رسوله في قالب واحد، و ثمّ بيانها في عبارة واحدة. و في هذا المجال، لو كان هناك مخصّص أحياناً، فينبغي إمّا أن يكون متّصلًا بهذه الجملة، و يحدّد مجالات لزوم الإطاعة، و مجالات عدم لزومها، أو أنّ آية اخرى على الأقلّ تصرّح بالتخصيص في هذا المجال، كأن تقول مثلًا: لَا تُطِيعُوا أمْرَهُمْ في مُخَالَفَةِ اللهِ.
و أمّا الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ}۱وَ أمثالها، فليس فيها نظر إلي
تخصيص هذه الآية أبداً. و كذلك كلام رسول الله في حرمة متابعة المخلوق عند معصيته، فإنّه لا يرفع ظهور الآية الشريفة في أولي الأمر. و بصورة عامّة وفقاً للقواعد الاصوليّة، فإنّ الحكم يكون قابلًا للتخصيص عند ما يزيل المخصّص ظهوره في العموم؛ و أمّا إذا لم يُزل ظهوره، و ظلّ على عمومه، فإنّنا نكتشف أنّ المراد من المخصّص قائم في موضع آخر، و ليس له قابليّة تخصيص ذلك العموم. مضافاً إلى ذلك فنحن نرى أنّ الله أوجب الإحسان أو المتابعة لغير أولي الأمر في مواضع قليلة الأهميّة جدّا، و قد خصّص ذلك مباشرة و جعل إطاعتهم محصورة في غير معاصي الله. فهو يقول بشأن الإحسان و اتّباع الأبوين: {وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما}۱ هنا يصرّح بلزوم إطاعة الوالدين، و يقيّد ذلك مباشرة في مجالات غير عصيان الله. فهل هذا الموضوع أهمّ أو الولاية العامّة لشؤون المسلمين؟
فلو كان في آية أولي الأمر قيد، لوجب عليه أن يذكر له مخصّصاً متّصلًا بلا ريب؛ و لما قصّر في تأخيره على أساس أهميّة الموضوع. و مجمل القول، أنّ نتيجة البحث هي أنّ إطاعة أولي الأمر بنحو مطلق واجبة، و سياق الجملة يأبى التخصيص. الآية التي تنهى عن الفحشاء و كلام رسول الله في عدم جواز إطاعة المخلوق عند معصية خالقه لا يخصّصان لزوم اتّباع أوامر أولي الأمر أبداً. و في ضوء ذلك، فإنّ ظهور الآية بل نصّها دالّ على عصمتهم مع المقدّمة القائلة باستحالة اجتماع الأمر و النهي.
و هَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ وَ الحمد للّه.
في رحاب لقب «أمير المؤمنين» الذي هو أفضل ألقاب عليّ بن أبي طالب عليه السلام
اولو الأمر جمع يعني أصحاب الأمر. و القصد من أصحاب الأمر هم المؤمنون لقوله تعالى {وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} و هذا أول لقب منحه رسول الله لعليّ بن أبي طالب بأمر الله، لأنّ مفرد {أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} عني «ذو الأمر» من المؤمنين، و هو ما ينطبق لفظاً و معنى علي أمير المؤمنين الذي يعني أيضاً صاحب الأمر من المؤمنين. و هذا اللقب هو من أهمّ ألقاب الإمام و أعلاها درجة و شأناً؛ و يتقدّم على سائر ألقابه التي منها: «سيّد المسلمين»، و «يَعْسوب الدين»، و «قائد الغُرّ المُحَجّلين»، و «إمام البَررَة»، و «قاتل الفَجَرَة»، و «خليفة رسول الله»، و «وصيّه» و «وزيره» و أمثالها. و لذلك أمر رسول الله الناس أن يسلّموا عليه و يحيّوه بهذا اللقب. و هذا اللقب ليس عنواناً اعتباريّاً، بل هو بيان حقيقةٍ و كشف سرّ كان موجوداً عنده، لأنّ الأمير و الرئيس، لأيّ شيءٍ ضافان، فإنّهما يعبّران عن معنى ذلك الشيء و حقيقته. فأمير الجيش هو ذلك الشخص المقدّم على الجيش جميعه من حيث فنّ القتال. و أمير الأمراء يعني الشخص المتفوّق على سائر الأمراء من حيث الإمارة.
و أمير المؤمنين يعني رئيس المؤمنين و قائدهم من حيث الإيمان؛ و لذلك يقول ابن عبّاس:
«قَالَ رَسُولُ اللهِ: مَا أنْزَلَ اللهُ آيةً فيها» {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} «إِلّا وَ عليّ رَأسُها وَ أميرها»۱ و ينقل ابن شهرآشوب أيضاً عن طريق العامّة ما
نصّه: قال مُجَاهِدٌ في تفسِيرِهِ: ما كَانَ في القُرآن {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَإِنَّ لِعَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ سَابِقَةَ ذَلِكَ؛ لأنَّهُ سَبَقَهُم إلى الإسلَامِ، فَسَمَّاهُ اللهُ في تِسعٍ وَ ثَمانِينَ مَوضِعاً «أمير المؤمنين وَ سَيِّدَ المُخَاطَبِينَ إلى يَوْمِ الدِّينِ».۱
في ضوء ما تقدّم، فحيثما جاء في القرآن {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}. أو كان الخطاب موجّهاً للمؤمنين بدون هذا اللفظ، أو ورد مدح و تمجيد للمؤمنين، أو ذكرت لهم صفة محمودة، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام يأتي في طليعة ذلك كلّه.
أمير المؤمنين عليه السّلام النموذج الأكمل لجميع الفضائل
و يمكن أن نفهم من هذا اللقب بأنّه كما كان عليه السلام أفضل الجميع و أكملهم على صعيد كافّة جهات و أبعاد الفضائل النفسيّة و مكارم الأخلاق و الملكات و العقائد و درجات التوحيد، فلا بدّ أن يكون أكثرهم زهداً، و الزهد من صفات المؤمنين؛ و إلّا فلا ينطبق عليه عنوان الإمارة في هذا المجال. و لو فرض وجود أحد في جميع الامّة- مثلًا- زهده أكثر من زهد أمير المؤمنين أو في درجته، فلا يعدّ الإمام أميراً له من هذا المنظور. و كذلك أمير المؤمنين في سائر المحامد و الصفات الحسنة كالجود و السخاء و الإيثار، و العفو، و الصفح، و العلم، و الحلم، و الكرم، و الصلاة و الصوم و الإنفاق، و الجهاد، و القضاء، و الحكم، و رقّة القلب، و صفاء الضمير و المعارف الإلهيّة، و الاطّلاع على الأسرار، و الاتّصاف بصفات الله
و أسمائه الحسنى، و بلوغ درجات المقرّبين و الصدّيقين و الشهداء و تجلّي الذات الأحديّة المقدّسة، و مراتب الفناء و البقاء. فقد كان أمير المؤمنين في هذه الفضائل كلّها متميّزاً متفوقاً، لذلك نال عنوان القيادة و الإمارة.
الآيات التي يمثّل أمير المؤمنين عليه السّلام مصداقها
و جاء في آخر سورة الفرقان أربع عشرة صفة لعباد الله، هي: {وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ، وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً ، وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ، إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً ، وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ، وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً }. إلى أن يقول: {وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ، وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً ، وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً }۱ و كان عليّ بن أبي طالب سبّاقاً بارزاً في جميع تلك الصفات. و كذلك كان في سائر الآيات نحو {وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}٢ و الآية: {وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ}٣ و الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً}٤ و الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}٥و الآية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي
الْآخِرَةِ}۱ و الآية: {وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}٢ و الآية {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ}٣ و الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}٤ و الآية:٥» و الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}٦ و الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}۷ و الآية: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ}۸ و الآية: {وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}٩ و الآية: {وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}۱۰ و الآية: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}۱۱
و أمثال هذه الآيات الجمّة في القرآن الكريم. و من الطبيعيّ فإنّ الكلام يدور فعلًا حول هذه الآيات و أمثالها التي يُمثّل أمير المؤمنين عليه السلام فيها الإنسان المتميّز و النموذج المرموق في هذه الصفات و الأفعال. و أمّا الآيات التي تخصّه بالذات و هو شأن نزولها، فلا تدخل في كلامنا هذا فعلًا.
و على هذا الأساس نفسه جمع أمير المؤمنين الأضداد. فقد جمع الشجاعة و ثبات القدم و الجهاد الراسخ في سبيل الله إلى جانب رقّة القلب
و صفاء الباطن و التوجّه إلى الله و الزهد و العبادة الكثيرة. و هذا موضوع خاض فيه العلماء و الأكابر.
اجتماع الصفات المتضادّة في أمير المؤمنين عليه السلام
يقول الشريف الرضيّ جامع «نهج البلاغة» في مقدّمته على النهج: و من عجائبه عليه السلام التي انفرد بها الواردة في الزهد و المواعظ و التذكير و الزواجر إذا تأمّله المتأمّل، و فكرّ فيه المتفكّر، و خلع من قلبه أنّه كلام مثله ممّن عظم قدره، و نفذ أمره و أحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشكّ في أنّه من كلام من لا حظّ له إلّا في الزهادة، و لا شغل له بغير العبادة. و قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلّا حسّه، و لا يرى إلّا نفسه، و لا يكاد يوقن بأنّه كلام من ينغمِس في الحرب مصلتاً سيفه، فيقطع الرقاب و يجدّل الأبطال، و يعود به ينطف دماً، و يقطر مُهَجاً، و هو مع تلك الحال زاهد الزهّاد، و بدل الأبدال. و هذه من فضائله العجيبة و خصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد، و ألّف بين الأشتات. و كثيراً ما أذاكِرُ الإخوان بها و أستخرج عجبهم منها. و هي موضوع للعبرة بها و الفكرة فيها۱.
كلام ابن أبي الحديد في الصفات المتضادّة لأمير المؤمنين عليه السلام
يقول الشارح المعتزليّ ابن أبي الحديد الشافعيّ في ذيل كلام الشريف الرضيّ: كان أمير المؤمنين عليه السلام ذا أخلاق متضادّة.
فمنها: ما ذكره الرضيّ، و هو موضع التعجّب؛ لأنّ الغالب على أهل الشجاعة و الإقدام و المغامرة و الجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية، و فتكٍ و تمرّد و جَبَريّة، و الغالب على أهل الزهد و رفض الدنيا و هجران ملاذّها
و الاشتغال بمواعظ الناس و تخويفهم المعاد، و تذكيرهم الموت، أن يكونوا ذوي رقّة و لين، و ضعف قلب، و خَوَر طبع و هاتان حالتان متضادّتان، و قد اجتمعتا له عليه السلام.
و منها: أنّ الغالب على ذوي الشجاعة و إراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سَبُعِيّة، و طباع حوشيّة و غرائز وحشيّة و كذلك الغالب على أهل الزهادة و أرباب الوعظ و التذكير و رفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق و عبوس في الوجوه، و نفار من الناس و استيحاش و أمير المؤمنين عليه السلام كان أشجع الناس و أعظمهم إراقة للدم في سبيل الله، و أزهد الناس و أبعدهم عن ملاذّ الدنيا، و أكثرهم وعظاً و تذكيراً بأيّام الله و مَثلاته، و أشدّهم اجتهاداً في العبادة و آداباً لنفسه في المعاملة. و كان مع ذلك ألطف العالَم أخلاقاً، و أسفرهم وجهاً، و أكثرهم بشراً و أوفاهم هشاشة، و أبعدهم عن انقباض موحش، أو خُلُق نافر، أو تجهّم مباعد. أو غِلظة و فظاظة تنفر معهما نفس، أو يتكدّر معهما قلب. حتى عيب «بالدّعابة»، و لمّا لم يجدوا فيه مغمزاً و لا مطعناً تعلّقوا بها و اعتمدوا في التنفير عنه عليها (و قالوا .... لأنّ عليّاً يمزح فهو لا يصلح للخلافة). و تلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها و هذا من عجائبه و غرائبه اللطيفة.
و منها: أنّ الغالب على شرفاء الناس و من هو من أهل بيت السيادة و الرئاسة أن يكون ذا كِبرٍ و تيهٍ و تعظّم و تغطرُس، خصوصاً إذا اضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات اخرى. و كان أمير المؤمنين عليه السلام في مُصاص الشرف و معدنه و معانيه، لا يشكّ عدوّ و لا صديق أنّه أشرف خلق الله نسباً بعد ابن عمّه صلوات الله عليه. و قد حصل له هذا الشرف- غير شرف النسب- من جهات كثيرة متعدّدة، قد ذكرنا بعضها و مع ذلك فكان أشدّ الناس تواضعاً لصغير و كبير، و ألينهم عريكة
و أسمحهم خلقاً، و أبعدهم عن الكِبر، و أعرفهم بحقّ.
و كانت حاله هذه في كلا زمانيه: زمان خلافته، و الزمان الذي قبله. لم تغيّره الإمرة و لا أحالت خُلُقَه الرئاسة. و كيف تحيل الرئاسة خُلُقَه و ما زال رئيساً! و كيف تغيّر الإمرة سجيّته و ما برح أميراً! لم يستفد بالخلافة شرفاً، و لا اكتسب بها زينة، بل هو كما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل.
ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن الجَوزيّ في تاريخه المعروف «بالمنتظم»: تذاكروا عند أحمد بن حنبل خلافة أبي بكر و عليّ، و قالوا فأكثروا، فرفع رأسه إليهم، و قال: قد أكثرتم! أنّ عَلِيّاً لَمْ تَزِنْهُ الْخِلافَةُ؛ وَ لَكِنَّهُ زَانَها. و هذا الكلام دالّ بفحواه و مفهومه على أنّ غيره ازدان بالخلافة و تمّمت نقيصته، و أنّ عليّاً عليه السلام لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمّم بالخلافة؛ و كانت الخلافة ذات نقص في نفسها فتمّ نقصها بولايته إيّاها.
و منها: أنّ الغالب على ذوي الشجاعة و قتل الأنفس و إراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح، بعيدي العفو، لأنّ أكبادهم واغرة، و قلوبهم ملتهبة، و القوّة الغضبيّة عندهم شديدة، و قد علمتَ حالَ أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم و ما عنده من الحلم و الصفح، و مغالبة هوى النفس، و قد رأيتَ فعله يوم الجمل۱.
و لقد أحسن «مهيار» في قوله:
حَتَّى إِذا دَارَت رَحَى بَغْيِهِمْ | *** | عَلَيْهِم وَ سَبَقَ السَّيْفُ العَذَلْ |
عَاذُوا بِعَفوِ ماجِدٍ مُعَوَّدٍ | *** | لِلْعَفْوِ حَمَّالٍ لَهُم عَلَى العِلَلْ |
فَنَجَّتِ البُقْيَا عَلَيْهِم مَن نَجَا | *** | وَ أكَلَ الحَديد مِنْهُمْ مَنْ أكَل |
أطَّتْ بِهِمْ أرْحَامُهُمْ فَلَمْ يُطِعْ | *** | ثائرَةُ الْغَيْظِ وَ لَمْ يَشْفِ الغُلَلْ |
و منها: أنّا ما رأينا شجاعاً كان جواداً و سخيّاً قطّ. كان عبد الله بن الزبير شجاعاً و كان أبخل الناس. و كان الزبير أبوه شجاعاً و كان شحيحاً قال له عمر: لو وُلّيتها، لظلتَ تُلاطِمُ الناس في البطحاء على الصاع و المُدّ. و أراد عليّ عليه السلام أن يحجُر على ابن اخيه عبد الله بن جعفر لتبذيره المال، فاحتال لنفسه، فشارك الزبير في أمواله و تجاراته؛ فقال عليه السلام: أما إنّه قد لاذ بملاذ، و لم يحجُر عليه. و كان طلحة شجاعاً و كان شحيحاً، أمسك عن الإنفاق حتى خلّف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر. و كان عبد الملك شجاعاً و كان شحيحاً، يُضرَب به المثل في الشحّ، و سمّي: رَشْحُ الحُجْر، لبخله.
جلّ معناك أن يحيط بك الشعر!
و قد علمتَ حالَ أمير المؤمنين عليه السلام في الشجاعة و السخاء، كيف هي! و هذا من أعاجيبه أيضاً عليه السلام۱. و قد ذكر هذا المعنى الأديب الشاعر الشيخ صفّي الدّين عبد العزيز بن سِرايا الحلّيّ، فقال:
جُمِعَتْ في صِفَاتِكَ الأضدادُ | *** | فَلِهذا عَزَّتْ لَكَ الأندادُ |
زَاهِدٌ حَاكِمٌ حَلِيمٌ شُجَاعٌ | *** | فَاتِكٌ نَاسِكٌ فَقيرٌ جَوادُ |
شِيمٌ ما جُمِعنَ في بِشَر قَطْ | *** | وَ لَا حازَ مِثْلَهُنَّ الْعِبادُ |
خُلُقٌ يُخجِلُ النَّسِيمَ مِن اللُّطْفِ | *** | وَ بَأسٌ يَذُوبُ مِنْهُ الجَمادُ |
ظَهَرَتْ مِنكَ في الوَرى مَكرُمَاتٌ | *** | فَأقَرَّت بِفَضْلِكَ الحُسَّادُ |
إن يُكَّذِبُ بِهَا عَداكَ فَقَدْ | *** | كَذَّبَ مِن قَبْلُ قَوْمُ لُوطٍ وَ عادُ |
جَلَّ مَعْناكَ أن يُحيطَ بِهِ الشِّعْرُ | *** | وَ يُحصِي صِفَاتِكَ النُّقَّادُ۱ |
يقول القاضي نور الله الشوشتريّ بعد نقل هذه الأبيات: أنّ جمع أمير المؤمنين عليه السلام للصفات المتضادّة هو على أساس التشبّه بالله تعالى في سعة الكمال و إحاطته التي هي غير منحصرة بطرف من الأضداد و غير مقيّدة بجانب من الجوانب، بل هي مقتضى تلاحم الأطراف و جامعيّة الأضداد، لأنّ المقرّر عند أهل التحقيق هو أنّ كمال كلّ صفة يتّضح عند ما تكون تلك الصفة متلاحمة و متشابكة مع ضدّها، كما يلاحظ ذلك في عقد فرائد الأسماء الحسنى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ»
إذَن، يمكن وصف الله تعالى و المتشبّهين به في صفات الكمال بالصفات المتقابلة لاعتبارات متنوّعة، و لا ينحصر في واحدة منها.
و نعم ما قال الشاعر الفارسيّ في هذا المجال:
اسير نَفْس نشد يك نَفَس على ولى | *** | نشد اسير كه بر مؤمنين أمير آمد |
اسير نفس كجا و أمير خلق كجا | *** | كه سربلند نشد آن كه سر به زير آمد |
على نخورد غذائى كه سير برخيزد | *** | مگر كه سير خورد آن كه نيم سير آمد |
على ستم نكشيد و حقير ظلم نشد | *** | نشد حقير كه دشمن برش حقير آمد |
على نداد به باطل حقى ز بيتالمال | *** | كه بر حساب و كتاب خدا خبير آمد |
درود باد بر آن ملّتى كه رهبر وى | *** | چنين بلند مقام و چنين خطير آمد۱ |
الدَّرْسُ السَّابِعُ عَشَر: نَقْدُ نَظَرِيَّة «عِصْمَة اجْتِمَاع أهْلِ الْحَلَّ وَ الْعَقْد»۱
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطّاهرين
و لعنة اللهِ على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا باللهِ العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا}۱
يقول الزمخشريّ:٢ إنّ المراد من أولي الأمر إمّا علماء الامّة أو الخلفاء الراشدون وَ مَن تَبِعَهُمْ بِإحسان، أو امراء السرايا. و سار السيوطيّ٣ على نفس النهج فأورد روايات كثيرة في تفسيره. و كذلك فعل عدد كبير من مفسّري العامّة فحذوا حذو صاحبيهما، و استدلّوا أوّلًا بقصّة نزاع عمّار بن ياسر مع خالد بن الوليد، و هي كما يلي:
بعث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم خالد بن الوليد في سريّة و فيها عمّار بن ياسر. فسار الجيش و أقبل القوم الذين يريدون، فلمّا بلغوا
قريباً منهم عرسوا و لأن الوقت كان ليلًا فقد صمّم خالد أن يهاجمهم في اليوم التالي. و أتاهم ذو العبينتين فأخبرهم، فأصبحوا قد هربوا غير رجل أمر أهله فجمعوا متاعهم، ثمّ أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد يسأل عن عمّار بن ياسر، فأتاه، فقال: يا أبَا الْيَقظَان! إنّي قد أسلمتُ و شهدتُ أن لَا إِلَهَ إِلّا الله وَ أنّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، و أنّ قومي لمّا سمعوا بكم هربوا، و إنّي بقيتُ، فهل إسلامي نافعي غداً؟ و إلّا هربتُ. فقال عمّار: بل هو ينفعك فأقِم. فأقام، فلمّا أصبحوا، أغار خالد، فلم يجد أحداً غير الرجل، فأخذه، و أخذ ماله، فبلغ عمّاراً الخبر، فأتى خالداً فقال: خَلّ عن الرجل فإنّه قد أسلم و هو في أمان مِنّي. قال خالد: و فيم أنت تجير؟ فاستبّا و ارتفعا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم فأجاز أمان عمّار، و نهاهُ أن يجير الثانية على أمير. فاستبّا عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم فقال خالد: يا رسول الله أ تترك هذا العبد الأجْدَع يشتمني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: يا خالد! لا تسبّ عمّاراً، فإنّه مَن سبّ عمّاراً، سبّه الله. و من أبغض عمّاراً، أبغضه الله. و من لعن عمّاراً، لعنه الله. فغضب عمّار، فقام، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه، فاعتذر إليه، فرضي، فأنزل الله الآية۱.
و يروون عن أبي هريرة قوله: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: «مَنْ أطَاعَنِي، فَقَدْ أطَاعَ اللهَ، وَ مَنْ أطَاعَ أميري، فَقَدْ أطَاعَني وَ مَن عَصَانِي، فَقَدْ عَصَى اللهَ. وَ مَنْ عَصَى أميري، فَقَدْ عَصَاني»٢ و ينقلون روايات اخرى أيضاً تفيد أنّ المقصود من أولي الأمر هم الحكّام حتى لو
كانوا جائرين ظالمين.
نقول:كما استدللنا سابقاً، فإنّ القصد من أولي الأمر هم المعصومون بلا ريب. و إلّا فإنّ لازمه هو اجتماع الأمر و النهي في موضوع واحد و من جهة واحدة. و هذا خلاف منطق العقل، و يستلزم المحال. و قد اعترف الفخر الرازيّ بهذا المعنى في تفسيره.
و أمّا رواية خالد و عمّار، فممّا لا شكّ فيه هو أنّ النبيّ لم ينه عمّاراً عن أمان أحد، فهذه الجملة دخيلة على الرواية. و لعلّ الراوي أضافها متعمداً ليمكنه تطبيق آية أولي الأمر على امراء السرايا بوصفهم يحملون هذا العنوان، فتجب حينئذٍ إطاعتهم. أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم يحترم أمان كلّ مسلم، حتى لو كان أدنى المسلمين، فكيف بعمّار خصوصاً و قد كان الأمان لإنسان أسلم و أقرّ بالشهادتين.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ في خُطبَةٍ خَطَبَها في مَسْجِدِ الخَيْفِ: «بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ. نَضَّرَ اللهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاها، وَ بَلَّغَها إلى مَن لَمْ يَبْلُغْهُ. يَا أيُّهَا النَّاس! لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ حامِلِ فِقْهٍ لَيسَ بِفَقِيهٍ، وَ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَن هُوَ أفْقَهُ مِنْهُ. ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ العَمَلِ لله. وَ النَّصِيحَةُ لأئِمّةِ المسلمين. و اللُّزُومُ لِجَمَاعَتِهِمْ. فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ مُحِيطَةٌ مِن وَرائِهِمْ. الْمُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ تَتَكافَا دِمَآؤُهُمْ وَ هُمْ يَدٌ عَلَي مَنْ سِواهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أدنَاهُمْ»۱
و مضافاً إلى ذلك، فإنّ الإمعان في نصّ القصّة المنقولة عن خالد و عمّار تبيّن لنا أنّ خالداً كان عاصياً مذنباً. و لو كان عمّار كذلك، فلِمَ أثنى عليه رسول الله كلّ ذلك الثناء، و اعتذر منه خالد؟!
و أمّا الحديث القائل: «مَن أطَاعَ أميري فَقَدْ أطَاعَ اللهَ»، لو سلّمنا به فرضاً، فما هي علاقته بآية أولي الأمر؟ فالحديث في محلّه، و اولو الأمر اناس معصومون جُعِلَت طاعتهم في حكم طاعة رسول الله مطلقاً.
مغالطة الفخر الرازيّ في تفسير آية أولي الأمر
و قد التفت الفخر الرازيّ إلى عصمة أولي الأمر، بَيدَ أنّه لم يُرد أن يطبّقها على الأئمّة المعصومين، فوقع في خلط و اعوجاج. إنّه يقول: «في الآية دلالة على لزوم متابعة أولي الأمر مطلقاً. و لمّا كنّا عاجزين عن معرفة المعصوم، و لأنّ المعصوم لا وجود له أو كنّا عاجزين عن الوصول إليه. فالمراد من أولي الأمر- إذَن- هم أهل الحلّ و العقد من كبار الامّة العارفون بالمسائل و الأحكام. و لو اجتمعوا على مسألة، فالنتيجة المتّخذة عن اجتماعهم منزّهة من كلّ عيب قطعاً، و معصومة بعصمة إلهيّة. و لذلك يمكن أن نستنتج من الآية الاصول الأربعة العامّة في الفقه. ففي {أَطِيعُوا اللَّهَ} دلالة على حجّيّة الكتاب، {وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ} دلالة على حجّيّة السنّة، {وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} دلالة على حجّيّة الإجماع، و فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَ الرَّسُولِ، دلالة على حجيّة القياس؛ لأنّ المراد من التنازع في مسألة ما، هو عدم فهمه من الكتاب، و السنّة و الإجماع، هذه المصادر التي وجبت متابعتها بنحو مطلق، و في مثل هذه الحالة فإنّ معنى الردّ إلى الكتاب و السنّة هو نفسه الحصول على حكم تلك
المسألة من أشباهها و نظائرها.
و هذا هو القياس. و لمّا حصرت الآية الحجّيّة في هذه المواضيع الأربعة، فإنّ الاستحسان الذي قال به أبو حنيفة، و الاستصواب الذي قال به مالك، إذا كان معناهما القياس، فخير علي خير. و إن لم يكونا كذلك فالآية أظهرت بطلانهما». و لقد استدلّ الفخر الرازيّ على هذه المطالب قائلًا.
«لو قال أحد بأنّ معنى أولي الأمر إذا كان إجماع أهل الحلّ و العقد فسيكون مخالفاً للإجماع المركّب من العلماء في تفسير الآية، إذ أنّ التفاسير التي وردت لأولي الأمر لا تعدو أربعة أقسام:
الأوّل: الخلفاء الراشدون.
الثاني: أمراء السرايا.
الثالث: العلماء.
الرابع: و هو ما نقل عن الروافض أنّ المراد بهم هم الأئمّة المعصومون.
و نقول في الجواب: أنّ المراد من أهل الحلّ و العقد هم علماء الامّة العارفون بالمسائل، العاملون بالصلاح و الفساد. و لمّا كان اجتماعهم و اجماعهم موجباً لتنزّه رأيهم عن الخطأ وفقاً لقول رسول الله: «لا تَجْتَمِعُ امَّتِي عَلَى خَطَاً». فهو ينطبق على القول الثالث، بل هو نفسه و تصحيحه بنحو أكمل۱
الإجابة على مغالطة الفخر الرازيّ
بَيدَ أنّنا عند ما نلقي نظرة خاطفة على قوله يتّضح لنا جيّداً أنّه قد غالط في استدلاله و استنتاجه مثل هذه النتيجة.
أوّلًا: نقول متسائلين إذا افترضنا أنّ كلّ فرد من أهل الحلّ و العقد
ليسوا معصومين، و يحتمل صدور الخطأ عن كلّ واحد منهم، فكيف تكون نتيجة الآراء مصونة و معصومة من الخطأ؟ و بكلمة بديلة، مع فرض تعرّض كلّ واحد منهم للخطأ، فسوف تكون نتيجة الآراء معرّضة للخطأ أيضاً، بَيدَ أنّه من المؤكّد طبعاً أنّ الاجتماع أقرب إلى الصواب و أبعد عن الخطأ غير أنّ هذا القرب و البعد لا يبدّلان احتمال صدور الخطأ إلى عصمة.
و في مثل هذه الحالة فإنّ العصمة الحاصلة سوف تتحقّق بواسطة أحد الأسباب الثلاثة. الأوّل: أنّ جميع أهل الحلّ و العقد معصومون، و نتيجة هذا الاجتماع هي العصمة لا محالة، لكن من البديهيّ هو أنّه منذ وفاة رسول الله إلى يومنا هذا، لم يمرّ بهذه الامّة أنّ أهل الحلّ و العقد كانوا كلّهم معصومين. و الفخر الرازيّ نفسه يعترف بهذه الحقيقة ثمّ من المحال أن يعلّق الله طاعته على أمر محال و هو اولو الأمر الذين ليس لهم واقع خارجيّ.
الثاني: أنّ أهل الحلّ و العقد و إن كان آحادهم غير معصومين و يجوز عليهم الخطأ. لكنّ مجموعهم يوجب العصمة. و هذه الصفة قائمة بهيئتهم الاجتماعيّة لا بذوات أفرادهم؛ و هذا خطأ أيضاً، لأنّ العصمة في الرأي من الصفات الواقعيّة و الحقيقيّة. و اتّصاف الهيئة الاجتماعيّة ليس أكثر من أن يكون عنواناً اعتبارياً، و من المحال عقلًا أن تقوم صفة حقيقيّة على موضوع اعتباريّ. فالصفات الحقيقيّة في الخارج تحتاج إلى موضوعات واقعيّة، و لكن الاعتباريّات تابعة لرأي المعتبرين، فربّما حملوا الأمر الاعتباريّ على الصفات الحقيقيّة، و ربّما حملوه على الصفات الإعتباريّة. و لمّا ظهر أنّ اتّصاف الهيئة الاجتماعيّة أمر اعتباريّ ليس له مصداق خارجيّ، فإنّ الواقعيّة و مصداقها الخارجيّ هي ذوات الأفراد. و لو ترتّبت صفة العصمة على الذوات. فسوف تلزم المحاليّة الأولي نفسها؛ إذ
كيف يتمخّض جواز الخطأ على آحاد الأفراد عن العصمة من الخطأ؟ و لو ترتّبت هذه الصفة على الهيئة الاجتماعيّة، للزم أن يكون الأمر الاعتباريّ مقوّماً للأمر الحقيقيّ الخارجيّ. و هذا محال عقليّ أيضاً.
الثالث: أن نقول بأنّ صفة العصمة ليست و صفاً للأفراد بما هم أفراد و لا قائمة بوصف الهيئة الاجتماعيّة. بل أنّ سنّة الله اقتضت أن يصون النتيجة الحاصلة من آراء أهل الحلّ و العقد من الخطأ كما أنّ الخبر المتواتر كذلك.
و يجوز الخطأ في خبر كلّ واحد من آحاد المخبرين، أمّا الخبر المتواتر فقد سقّط هذا الجواز، و لذا يكون الخبر المتواتر معصوماً من الخطأ و يفيد اليقين.
و بعبارة أوضح فكما يحتمل الخطأ في الخبر الواحد، و أنّ هذا الاحتمال يضعف تدريجاً بسبب كثرة الأخبار إلى أن يبلغ درجة لو يزداد معها عدد المخبرين، و يزول ذلك الاحتمال تماماً، و ينقطع ذاك الاحتمال بالخبر المفيد لليقين، كذلك كلّ رأي من آراء أهل الحلّ و العقد، فإنّه يحتمل الخطأ و الفساد. و كلّما ازداد عددهم، ضعف ذلك الاحتمال إلى أن يزول تماماً، و يتّصف كلّ رأي بصفة العصمة. و على هذا الأساس قال رسول الله: «لَا تَجْتَمِعُ امَّتِي عَلَى خَطَأٍ»
و هذا الاحتمال ليس في محلّه أيضاً، و ذلك:
رواية «لا تجتمع أُمّتي على خطأ» مرفوضة كليّا
أوّلًا: أنّ هذه الرواية، على فرض صحّة سندها، تنفي اجتماع الامّة على خطأ. و لا تنفي اجتماع أهل الحلّ و العقد منهم على خطأ. و في أي آية أو رواية أو كتاب لغة فسّرت الامّة بأهل الحلّ و العقد؟
ثانياً: أنّها تنفي اجتماع الامّة على خطأ، و لا تنفي الخطأ عن اجتماع الامّة، و بينهما فرق كبير. ففي الحالة الأولى تفيد الرواية: أنّ الامّة كلّها
لا تتّفق على أمر، و هو خطأ.
و هذا الرأي هو عقيدة الشيعة من أنّ الإمام المعصوم موجود في كافّة العصور و لا تخلو الأرض من حجّة أبداً. لذلك، لو أجتمعت الامّة كلّها على أمر، فلا بدّ أن يكون بينهم شخص معصوم. و هذا ما ينسجم مع نظريّة المعصوم، وَ هُوَ الْحُجّة.
و أمّا على الفرض الثاني فإنّ المعنى هو أنّه لا خطأ في اجتماعهم. و هذا غير صحيح؛ لأنّ الخطأ يمكن أن يكون موجوداً في اجتماعهم بنحو الموجبة الجزئيّة، و لمّا كان المعصوم موجوداً بينهم، فالقول الصائب موجود بينهم أيضاً. فيوافق هذا ما دلّ من الآيات و الروايات على أن الأرض لا تخلو من دين الحقّ، و من المعصوم، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ}۱
و كذلك قوله: {وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}٢
و قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}٣
و قوله: {وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ}٤
و لا يختصّ هذا المعنى بامّة سيّد المرسلين، فالروايات المتواترة عن الفريقين تدلّ على افتراق اليهود إلى إحدى و سبعين فرقة كلّهم هالك إلّا فرقة واحدة. و كذلك افتراق النصارى إلى اثنين و سبعين فرقة كلّهم هالك إلّا واحدة. و أيضاً افتراق المسلمين إلى ثلاث و سبعين فرقة كلّهم هالك إلّا واحدة. بصورة عامّة، فالرواية «لَا تَجْتَمِعُ امَّتِي عَلَى خَطَأٍ» على فرض
صحّة سندها، فهي خارجة عن محلّ الكلام. و محلّ الكلام هو عصمة أهل الحلّ و العقد. و لو كان ذلك هو المراد بقوله: «وَ أولِي الأمْرِ مِنْكُمْ»، فما هو العامل الموجب لعصمتهم؟
و بالتأملّ، يمكن القول إنّه لا يخرج عن ثلاث جهات:
الأولى: أن نقول بأنّ سنّة الله اقتضت أن يصون رأي أهل الحلّ و العقد من الخطأ، مع أنّ رأي كلّ واحد منهم يحتمل الفساد و الخطأ. فالواضح أنّ الكلام لا ينتهي عند هذا الحد؛ إذ أنّ وجود أهل الحلّ و العقد لا يختصّ بالممالك الإسلاميّة، بل هو قائم في كلّ منطقة، بل في كلّ مدينة و قرية منذ عهد سحيق. حيث كان الكبار و الوجهاء في كلّ منطقة يتبادلون الآراء في شتى الامور و الشؤون و كم لوحظ أنّهم بعد تبادل الآراء قد أخطؤوا و وقعوا في خطر. و التاريخ و التجربة شاهدان صادقان على ذلك. إذَن، كيف يمكن أن نعتبر عصمة أهل الحلّ و العقد سنّة إلهيّة ثابتة لا تتغيّر؟
الثانية: أن نقول بأنّ سنّة الله تختصّ بالمسلمين في هذا المجال فالله مَنّ على الامّة المرحومة بأن جعل آراء أهل الحلّ و العقد فيها مصونة عن الخطأ و الفساد.
و هذا غير صحيح أيضاً، لأنّ هذه الميزة لو كانت للمسلمين دون غيرهم من سائر الامم، فهي معجزة باهرة و أمر خارق للعادة. و هذا موضوع يخالف النظام التكوينيّ، إذ نتصوّر أنّ الله يخلق نتيجة معصومة من آراء معرّضة للخطأ، لتكون تلك النتيجة مفيدة دائماً لحفظ الامّة المرحومة و بقاء حياتها، و لتقع هذه النتيجة من الحياة العمليّة للُامّة موقع القرآن الذي يمثّل حياتها العلميّة. و لو كانت كذلك، لذكرها رسول الله في عِداد المعجزات، و عيّن حدودها و ثغورها، و هل بيّن اجتماع أهل الحلّ
و العقد الذي يتمخّض عن مثل تلك النتيجة، و هي العصمة، فبأيّ صورة و كيفيّة تتحقّق فيها، و من هم أعضاء الحلّ و العقد؟ و ما هو النصاب الذي يتحقّق فيه اجتماعهم؟ و ما هي الظروف التي ينعقد فيها الاجتماع؟ و هل تكفي هيئة واحدة منهم لجميع الامة الإسلاميّة؟ أو لا بدّ لكلّ منطقة هيئتها الخاصّة بها؟ فلو كان ذلك الموضوع وارداً، لتحدّى به القرآن، و بيّن رسول الله خصوصيّاته لأصحابه، و تناقلته كتب التاريخ و الأخبار. و لكان من اللازم أيضاً أن يهتمّ به الصحابة و يَسألوا رسول الله عن خصوصيّاته. و قد سألوا عن أشياء لا قدر لها بالنسبة إلى هذه المهمّة، كالجبال و الحيض، و الأهلّة، و الأنفال، و ما ذا ينفقون. و قد صرّح القرآن بذلك من خلال الآيات التالية: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}۱، {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ}٢ {وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ}٣ {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}٤، {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ}٥ {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ.}٦
فلم يرد أي كلام حول هذا الموضوع المهمّ الملازم لحياة المسلمين العمليّة ما دامت السماوات و الأرض. و المقطوع لا يمكن القول بأنّهم سألوا عن خصوصيّات مجلس أهل الحلّ و العقد إلّا أنّ الجواب ككثير من الأشياء التي كان لآراء المخالفين تأثير عليها فحذفوها، و لذلك لم تصلنا لا سيّما و أنّ هذا المجلس لم يخالف رأي أغلبيّة الامّة التي كانت تنزع إلى هذا الاتّجاه، و لم يكن في شروطه ما يخالف آرائهم، بل أنّ أرباب الحلّ و العقد كانوا من الأشخاص المنادين بمثل هذا التجمّع.
الصحابة و التابعون لم يستدلّوا مطلقاً بإجماع أهل الحلّ و العقد
مضافاً إلى ذلك، كان من الواجب أن يحتجّ به أصحاب السقيفة و المنتحلون لخلافة رسول الله في مناقشاتهم عند ما استعرت نار الفتن و الأحداث بعد ارتحال الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلّم؛ و يشيّدوا زعمهم على أساس هذه المعجزة العجيبة. فما بالهم أعرضوا عن هذا الدليل القويّ؟!
إلى الحدّ الذي لم ترد عنه إشارة واحدة في أي من كتب الحديث أو التاريخ، لا من الصحابة و لا من التابعين إلى أن جاء الفخر الرازيّ بعد تصرّم القرون المتمادية فوقف على هذه المعجزة الخارقة للعادة، و اطّلع هو و من تبعه على هذا الأمر العظيم من أجل تصحيح مجلس أبي بكر، و عمر، و أبي عُبَيدة في السقيفة.
حقّاً لو لم نعتبر ذلك المجلس نفسه، و ما تمخّض عنه من رأي معصوم معجزةً، فمن المقطوع به أنّ اطّلاع الفخر الرازيّ على ذلك الأمر المكتوم بعد ستمائة سنة مرّت على حدوثه سيكون معجزة لا محالة! مضافاً إلى ذلك فهو نفسه يعترف بأنّ المفسّرين و أهل الحديث في جميع العالم الإسلاميّ يحصرون أولي الأمر في أربعة هم: الخلفاء الراشدون، و امراء السرايا، و العلماء، و الأئمّة المعصومون. و أنّ مجلس أهل الحلّ و العقد الذي هو مخالف للإجماع المركّب ينبغي أن يكون أحد الأربعة بتصحيح آراء العلماء. و هكذا يُمنَع من خرق الإجماع. مع أنّ السيوطيّ ذكر في «الدرّ المنثور»۱ روايات عن بعض المفسّرين تتعلّق بحجّيّة قول العلماء في تفسير آية أولي الأمر. و لا يُشَمّ من تلك الروايات أي رائحة عن مجلس أهل الحلّ و العقد. فهو يذكر أنّ مطلق قول أولي الأمر حجّة تجب إطاعته
حسب الآية. لذلك فإنّ الفخر الرازي نفسه، باعترافه أنّ التفسير منحصر باولئك الأربعة، أبطل ما ذهب إليه من أنّ المراد هو أهل الحلّ و العقد، و ضيّع جهوده في تفسير هذه الآية.
الثالثة: أنّ نقول بأنّ العصمة المنبثقة عن أهل الحلّ و العقد لا تعود إلى عامل خارق للعادة بل تعود إلى التربية الصالحة التي تلقّتها الامّة من تعاليم القرآن، و سنّة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلّم. و لمّا جعل القرآن و النبيّ العظيم صرح التربية و التعليم على أساس دقيق و منهج صحيح، فالأشخاص المتربّون في هذه المدرسة لا يصدر عن اجتماعهم إلّا الرأي المنزّه عن الخطأ دائماً.
و هذا الاحتمال ناقص و خاطئ أيضاً، لأنّه لمّا كان إدراك جميع الأفراد هو مجموع إدراكات البعض مع البعض الآخر. و أنّ احتمال الخطأ- بالفرض- سارٍ في كلّ منها، فكيف يتسنّى لهذه التربية الصالحة أن تجعل النتيجة الخارقة المتولّدة معصومة منزّهة؟ و منذ عصر صدر الإسلام إلى يومنا هذا، أي مجلس اقيم، و قدّم فيه أهل الحلّ و العقد نتيجة معصومة؟ و من أين ظهرت تلك المشاجرات و المنازعات القائمة بين المسلمين منذ ارتحال نبيّهم حتى اليوم، و كذلك تلك الأباطيل و المفاسد التي جرّت الامّة إلى حضيض الظلمات؟ و ما أكثر تلك الاجتماعات التي ظهرت و كان مثالها البارز اجتماع السقيفة، و كذلك المجالس التي عقدت على ذلك الأساس حتى اليوم، و الجلسات التي أقامها أهل الحلّ و العقد، و تبادلوا فيها الآراء، و خرجوا منها بنتائج متنوّعة، بَيدَ أنّها في نفس الوقت لم تتقدّم خطوة واحدة نحو صلاح الامّة، بل و بذرت بذرة الضلال و الشقاء في قلوب أبنائها بديلة عن بذرة السعادة و الهداية.
جرائم الحكّام المنصوبين من قِبل أهل الحلّ و العقد
أنّ النبوّة الطاهرة المقدّسة، و التعاليم القرآنيّة المرتكزة على الحياة المعنويّة، و الحياة على أساس التوحيد و تعاليم الفطرة، و الصدق، و النزاهة و الإيثار، و الإنفاق، و العاطفة، و صلة الرحم، و مساعدة الناس و الأخذ بأيديهم صوب طريق الصلاح. كلّ ذلك قد استبدل في برهة قصيرة بإمبراطوريّة كبيرة أسّسها معاوية في الشام، قائمة على العدوان و الظلم الفظيع ضدّ الناس المساكين و الامّة المغلوب على أمرها. و حلّت الدكتاتوريّة محلّ الحريّة الإسلاميّة.
و انقلبت القوانين الإلهيّة تماماً، و عطّلت حدود الله، و ماتت الأحكام و القوانين القرآنيّة، و سلبت أموال الناس، و اريقت دماء الأبرياء، و اندرست نواميس الإسلام. و أي جرائم ارتكبت في العصرين: الأمويّ و العبّاسيّ و ما تلاهما من عصور؟ و حقّاً لو أطلقنا على حكومات تلك العصور اسم الحكومات الشيطانيّة الجائرة لكان أليق بها من أن نسمّيها حكومات إلهيّة، و كلّ تلك الأحداث انطلقت من اجتماع أهل الحلّ و العقد الذي أنتج هذه المفاسد فحمّل تلك الأثقال الغريبة على اكتاف الناس المساكين.
كانت حكومة معاوية بأمر عمر و إقراره، إذ نصبه والياً على الشام و سلّطه على أعراض المسلمين و أموالهم. و أطلق له العنان ليتصرّف في بيت المال كيف يشاء. و أقرّ حكومته الإمبراطوريّة المبهرجة، و ثبّته فيها. لقد كانت حكومة معاوية، و يزيد، و مروان، و عبد الملك بأمر عمر و عمر هو الذي فوّض أمر الخلافة إلى الشورى عند ما عيّن ستّة من أهل الحلّ و العقد فيها. ثمّ سُلّط عثمان على المسلمين و أعراضهم و أموالهم و دمائهم وفقاً لرأي عبد الرحمن بن عوف. فضعضع أركان الإسلام. و تصرّف
في بيت المال حسب مشتهياته، و قسّمه على أقربائه، و ثبت معاوية في الشام، و أصدر حكمه إلى و اليه في مصر يأمره بقتل محمّد بن أبي بكر. فقتل أخيراً بتلك الصورة البشعة على أثر تحرّك المصريّين؛ و كانت كلّ تلك المفاسد التي خلّفها ذلك الوضع.
و استلم عمر مقاليد الامور بناءً على رأي أبي بكر الذي كان يرى نفسه فقط أهل الحلّ و العقد. و قام عمر بإحراق بيت الصدّيقة الطاهرة بضعة الرسول و زوجة أمير المؤمنين، و اعتدى على مقام الولاية الكبرى عند ما جرّ صاحبها بالسيف المسلول إلى المسجد حاسر الرأس. طالباً منه البيعة، منكراً إمام جماعة المسلمين كافّة فضائله نحو الوصيّة، و الخلافة و الوزارة، و الولاية، و حتّى الاخوّة۱. و كانت جميع تلك المفاسد ناتجة عن يوم السقيفة الذي وضع لبنة الاعوجاج، و غيّر مجرى الإسلام عن رافده الطبيعيّ، و شوّه وجه التاريخ.
جرائم و مظالم أبي بكر زمن خلافته
و سَلَبَ أبو بكر فدكاً من الزهراء، و قتل مالك بن نويرة بواسطة خالد ابن الوليد. و امتنع عن تنفيذ حدّ الزنا، و القتل، و الافتراء، و نهب أموال المسلمين بحقّ خالد، و برّأ ساحته من كلّ تلك الجرائم٢. ففتح لحكّام الجور، و قضاة السوء، و امراء الفسق و الفجور باب التبرئة من الذنب منذ ذلك الحين.
و الشيء العجاب هو أنّ بعض الجهّال ذكروا في كتبهم أنّ حكومة أبي بكر و عمر كانت حكومة دينيّة بسيطة و إلهيّة. و ما خوفنا إلّا من هذه الحكومة البسيطة التي وقفت متمرّدة في مقابل أصل الإسلام و الولاية
الكبرى، و غيّرت مجرى حياة المسلمين من خلال التأويل و التظاهر بالتفكير في مصلحة المسلمين. فينبغي أن نخشى هذه الحكومة أكثر من أن نخشى حكومة عثمان و معاوية اللذين تهتكا عَلَناً. و بتهتّكهما و صلافتهما كشفا للعالم جرائمهما، و أبانا له عن انحرافاتهما. بَيدَ أنّ عمر و أبا بكر فعلا مثل ما فعل عثمان و معاوية و لكن باسلوب آخر هو التذرّع بالمحافظة على الإسلام و التحمّس لجماعة المسلمين، و عدم تفرقتهم. حقّاً إنّهما وضعا أساس الظلم. فقد سلب أبو بكر فدكاً من الزهراء بالبكاء، و قدّم نفسه للمسلمين بوصفه مُصلحاً حقيقيّاً محايداً تهمّه مصلحتهم. و عند ما ارتقى المنبر ذات يوم ليخطب فيهم على أنّه خليفتهم، أعلن عدم رغبته في التصرّف ببيت المال لمصلحته الخاصّة و مصلحة أهله إلى أن أجبره عمر على ذلك۱ فالخوف الخوف من هذه الأساليب الماكرة البرّاقة، و هذه المرونة الخادعة. و ينبغي أن نخاف منها أكثر من أن نخاف من صلافة عثمان و معوية و وقاحتهما.
أجل، فإنّ جميع تلك الأمراض الفاسدة التي اتّسع فتقها على مرور الأيام ناتجة من ذلك الرأي المعصوم الذي ترشّح عن السقيفة كما يعتقد الفخر الرازيّ بذلك؛ فَمَرْحَباً بِهَذِهِ السَّقِيفَةِ وَ مَرْحَباً بِهَذِهِ العِصْمَةِ!!
و لو كانت تلك البيعة متمخّضة عن العصمة، فَلِمَ قال أبو بكر: لَا حَاجَةَ لِي في بَيْعَتِكُمْ أقِيلُوني؟٢ و قد صرّح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بهذا المعنى أيضاً في خطبته الشقشقيّة إذ قال: «فَيا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَستَقِيلُهَا في حَيَوتِه إِذ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ»٣ و يُستشفّ من كلامه أنّ
أبا بكر كان يقول: اتركوني و أقيلوني و اختاروا عليّاً خليفة مكاني. و إلّا فلو كان مجرّد طلب الإقالة دون التصريح بطلب نصب عليّ، فليس فيه ما يستدعي العجب. و الشاهد على المعنى قوله: أقِيلونِي وَ لَسْتُ بِخَيْرِكُمْ وَ عليّ فِيكُمْ. و هذا اللفظ مقيّداً بعبارة «و عليّ فِيكُم» موجود في «التجريد»، و لم يعترض عليه شارحه القوشجيّ مع أنّه من أهل السنّة، بل اعترف بصدوره عن أبي بكر.
و جاء في كتاب «إحقاق الحق» للقاضي نور الله الشوشتريّ أنّ الفضل بن روزبهان، عند جوابه المتعلّق بأعمال أبي بكر الشنيعة و حرق دار الزهراء عليها السلام يصرّح بأنّ كلام أبي بكر: أقِيلُونِي فَلَستُ بِخَيْرِكُمْ وَ عليّ فِيكُمْ» موجود في صحاح أهل السنّة. و اعترف ابن حجر في «الصواعق المحرقة»، ص ٣٠، بصدور كلام الإقالة عن أبي بكر۱
عمر نفسه يسمّي بيعة أبي بكر «فلتة وقى الله شرّها»
و كذلك لو كان رأى السقيفة مفضياً إلى العصمة، فلِمَ اعتبر عمر بيعة أبي بكر فلتة؟!٢
فقد نقل الطبريّ عن عمر قوله: ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أنّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ أمير المؤمنين، (يعني عمر نفسه) بَايَعْتُ فُلاناً. فَلَا يَغُرَّنَّ امْرَءاً أن يَقولَ: أنّ بَيْعَةَ أبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً، فَقَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ غَيْرَ أنّ اللهَ
وَقَى شَرَّهَا۱
و يقول ابن هشام: ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أنّ فُلَاناً قالَ: وَ اللهِ، لَو قَدْ مَاتَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَاناً، فَلا يَغُرَّنَّ امْرَءاً أنْ يَقُولَ: أنّ بَيْعَةَ أبِي بَكْرَ كَانَت فَلْتَةً فَتَمَّتْ، وَ إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ إِلَّا أنّ اللهَ وَقَى شَرَّهَا٢.
و نقل البلاذري في «أنساب الأشراف» ج ١ ص ٥٨١ بأنّ عمر ذكر هذا الموضوع مصرّحاً بذكر الاسم. قال: أنّ عُمَرَ قَالَ: بَلَغَنِي أنّ الزُّبَيرَ قَالَ: لَوْ قَد مَاتَ عُمَرُ بَايَعْنَا عَلَيّاً ... و قال في ص ٥٨٣- ٥٨٤: «أنّ فُلاناً وَ فُلاناً قَالا: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْنَا عَلِيّاً ... فَمَن بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشوَرَةٍ فَإِنَّهُمَا أهْلٌ أن يُقْتَلَا، وَ إِنّي اقْسِمُ بِاللهِ لَيَكُفَّنَّ الرِّجَالُ أوْ لَيُقْطَعَنَّ أيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ وَ لَيُصَلَّبُنَّ في جُذُوعِ النَّخْلِ ... الحديث.٣
و جاء في «السيرة الحلبيّة» ج ٣: ص ٤٠١ ما نصّه: قَالَ سَيِّدُنا عُمَرُ: أنّ بَيْعَةَ أبي بَكر فَلتَةٌ، أي: مِن غَيْرِ اسْتِعدادٍ وَ لَا مَشْوَرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ رَدَّاً عَلَى مَن بَلَغَهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: إذَا مَاتَ عُمَرُ، بَايَعْتُ فُلَاناً. و اللهِ، مَا كانَت بَيْعَةُ أبِي بَكْرِ بِمَشوَرَةٍ. الْبَيْعَةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ، فَغَضِبَ، فَلمَّا رَجَعَ مِن آخِرِ حِجَّةٍ حَجَّهَا الْمَدِينَةَ، قَالَ عَلَى المِنْبَرِ: قَدْ بَلَغَنِي أنّ فُلَاناً قَالَ: وَ اللهِ، لَوْ
مَاتَ عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ، لَقَد بَايْعتُ فُلاناً، أنّ بَيعَةَ أبي بَكرٍ كَانَت فَلتَةً مِن غَيرِ مَشْوَرَةٍ؛ فَلا يَغْتَرَّنَّ امرُؤٌ أن يَقُولَ: أنّ بَيعَةَ أبي بَكرٍ كَانَت فَلْتَةً، فَنَعَمْ كانَت كَذَلِكَ إِلّا أنّ اللهَ قَدْ وَقَى شَرَّها.
إذا كانت نتيجة آراء أهل الحلّ و العقد هي العصمة، فإنّ أبا بكر لم يشكّل مجلساً لتعيين عمر؛ بل عيّنه برأيه الشخصيّ دون مشورة، و مع أنّ أبا بكر لم يكن معصوماً، فكيف يتكفّل انتخاب عمر وحده بمنح أبي بكر صفة العصمة؟ و قد اعترض طلحة على أبي بكر و خطّأه في ذلك الانتخاب. و من المؤكّد أنّ طلحة كان من أهل الحلّ و العقد، فبم يتميّز رأي أبي بكر علي رأي طلحة، حتى يفضي إلى العصمة، بينما لا يفضي رأي طلحة إليها؟!
أنّ أبَا بَكرٍ لَمَّا نَصَّ عَلَى عُمَرَ، قَامَ إِلَيهِ طَلْحَةُ فَقَالَ لَه: مَا تَقولُ لِرَبَّكَ وَ قَدْ وَلَّيْتَ عَلَيْنا فَظّاً غَلِيظاً؟ قَالَ أبُو بَكرٍ: فَرَكْتَ لِي عَيْنَيْكَ وَ دَلكْتَ لِي عَقِبَيْكَ وَ جِئتَني تَكُفُّنِي عَنْ رَأيي وَ تَصُدُّنِي عَنْ دِينِي؟ أقُولُ لَهُ إذَا سَألني: خَلَّفتُ عَلَيْهِم خَيْرَ أهْلِكَ۱.
و إذا كانت نتيجة الآراء هي العصمة، فلما ذا ذمّ المسلمون قاطبة عبد الرحمن بن عوف الذي بايع عثمان و اختاره خليفة؟ و هو نفسه انتقد عثمان لمّا افتضح أمره و انكشفت جرائمه.
و قصارى القول فإنّ جميع الأعراض الفاسدة التي ظهرت في العالم الإسلاميّ كانت بسبب العنجهيّة و العناد الذي كان عليه البعض ممّن جاء الفخر الرازيّ في العصور التالية، فغطّى على جرائمه بتبريرات و تأويلات واهية، و برّر حكومتهم الضالّة المتسلّطة على رقاب المسلمي من خلال
الروايات الموضوعة و التفسير بالرأي.
احتجاج مالك بن نويرة ضدّ أبي بكر
لقد آزر أبو بكر خالد بن الوليد علناً في قضيّة قتل مالك بن نُويرَة. و لم يمتنع عن القصاص منه و إقامة الحدّ عليه لما إرتكبه من زنى محصن مع زوجة مالك فحسب، بل و سمّاه سيف الله بقوله: لَا أشِيمُ سَيفاً سَلَّمهُ اللهُ عَلَى الكافِرِينَ۱.
كان مالك بن نويرة أحد الباذلين المضحّين لمقام الولاية. و أنّ حبّه لأمير المؤمنين و تشيّعه له هو الذي أدّى إلى قتله و أفضى إلى العفو عن خالد. و كان ذلك الرجل التميميّ اليربوعيّ من كبار الشجعان و الفرسان و الشعراء، و له منزلة مرموقة بين بني يربوع في الجاهليّة و الإسلام.
و حدّث المرحوم القاضي نور الله الشوشتريّ٢. و كذلك المحدّث القمّيّ عن كتاب «الفضائل»٣ للشيخ الفقيه الثقة الجليل شاذان بن جبرئيل القمّي الذي يروي عنه السيّد فخّار بن معد الموسويّ استاذ المحقّق الحلّيّ حدّثا عن البراء بن عازب أنّه قال: كنّا جالسين عند رسول الله و معنا بعض الصحابة إذ دخل رؤساء بني تميم و بينهم مالك بن نويرة، فقال مالك: يَا رَسُولَ اللهِ عَلَّمْنِي الإيمانَ.فَقَالَ لَهُ رَسولُ اللهِ: «أنْ تَشْهَدَ أنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَ أنِّي رَسُولُ اللهِ، وَ تُصَّلِي الْخَمْسَ، وَ تَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَ تُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَ تَحُجَّ البَيْتَ، وَ تُوَالِي وَصِيِّي هَذَا- وَ أشارَ إلى عليّ بنِ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ- وَ لَا تَسْفِكَ دِمَاءً، وَ لَا تَسْرِقَ، وَ لَا تَخُونَ، وَ لَا تَأكُلَ
مَالَ الْيَتِيمِ، وَ لَا تَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَ تُؤمِنَ بِشَرائِعي، وَ تُحَلِّلَ حَلَالِي وَ تُحَرِّمَ حَرَامِي، وَ تُعطِيَ الحَقَّ مِنْ نَفْسِكَ الضَّعِيفَ وَ القَوِيّ وَ الكَبِيرَ وَ الصَّغِيرَ وَ عَدَّ عَلَيْهِ شَرائِعَ الإِسلامِ». فَسُرّ مالك كثيراً، و ذهب متبختراً و هو يقول: «تَعَلَّمْتُ الإيمانَ وَ رَبِّ الْكَعْبَةِ». و لمّا غاب عن أنظار النبيّ، قال صلى الله عليه و آله، «مَنْ أحبّ أن يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إلى هَذَا الرَّجُلِ»
فاستأذن أبو بكر و عمر رسول الله، و تبعاه، و بشّراه بما قال النبيّ بحقّه، و طلبا منه أن يستغفر لهما؛ لأنّه من أهل الجنّة. فقال مالك: «لَا غَفَرَ اللهُ لَكُمَا» تتركان رسول الله و هو صاحب الشفاعة و تطلبان منّي أن أستغفر لكما. فخجلا من موقفهما و قفلا راجعَين. فلمّا رآهما النبيّ قال: «في الْحَقِّ مَبْغَضَةٌ»۱
و لمّا توفّي رسول الله، جاء مالك إلى المدينة و بحث عن وصيّه. و كان ذلك في يوم الجمعة، حيث ارتقى أبو بكر المِنبر ليخطب في المسلمين، فلم يتحمّل مالك، و قال لأبي بكر: أ لستَ أخا تيم؟ قال: بلى. فقال مالك: أين وصيّ رسول الله الذي أمرني النبيّ بولايته؟ فقال الناس: أيّها الأعرابيّ! ما أكثر ما يحدث الأمر بعده الأمر. فقال مالك: لَا و الله! ما حدث شيء و لكنّكم خنتم في تنفيذ وصيّة رسول الله. ثمّ التفت إلى أبي بكر فقال له: من أصعدك على المنبر و وصيّ رسول الله جالس؟ فقال أبو بكر للحاضرين: أخرجوا هذا الأعرابيّ البوّال على عَقِبَيْه. فضَربه قُنْفُذ
و خالد بن الوليد و أخرجاه من المسجد. فركب مالك ناقته و صلى على رسول الله، ثمّ أنشد قائلًا:
أطَعْنَا رَسُولَ اللهِ مَا كَانَ بَيْنَنا | *** | فيا قَومِ ما شَأني وَ شَأن أبي بَكرِ |
إذا مَاتَ بَكرٌ قَامَ بَكْرٌ مَقَامَهُ | *** | فَتِلكَ وَ بَيْتِ اللهِ قاصِمَةُ الظّهْرِ |
قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة و زناه بزوجته
أجل، لمّا فوّض رسول الله لمالك جمع الصدقات و الزكوات من قومه، و جاء مالك إلى المدينة بعد وفاة الرسول الكريم، و رأى الخلافة على خلاف ما نصّ عليه رسول الله و أوصاه به، رجع إلى قومه و امتنع عن إرسال الصدقات إلى أبي بكر، و قسّمها على قومه، ثمّ أنشد قائلًا:
فَقُلْتُ خُذُوا أمْوَالَكُمْ غَيرَ خَائِفٍ | *** | وَ لَا نَاظِرٍ فيما يَجيءُ مِنَ الغَدِ |
فإِن قَامَ بالدِّينِ المُحَوَّقِ قائِمٌ | *** | أطَعنَا وَ قُلنَا الدِّينُ دِينُ مُحَمَّدِ۱ |
فأشخص أبو بكر خالد بن الوليد إلى البُطاح٢ في جيش من المسلمين و أوصاه إذا ما التقوا أشخاصاً أن يؤذّنوا و يقيموا الصلاة. فإذا أذّن اولئك معهم و أقاموا الصلاة، فلا يقاتلوهم؛ بل يطلبوا منهم الزكاة فقط فإذا امتنعوا قام المسلمون بسلب أموالهم لا غير، و لا حقّ لهم أن يقتلوا أحداً. أمّا إذا امتنعوا عن الأذان و الصلاة، يقتلوهم سواء بالحرق أو بغيره٣.
و كان في جيش خالد بن الوليد أبو قتادة٤، و اسمه الحارث، و كذلك
عبد الله بن عمر.۱ و لمّا قدم خالد البُطاح، لم يجد عليه أحداً، فغاروا على بني يَربوع- قوم مالك- تحت الليل و راعوهم و أخذوا يراقبوهم فأخذ مالك و قومه أسلحتهم. فقال خالد و من معه: لِمَ أخذتم أسلحتكم؟ فقالوا: و أنتم لِمَ أخذتم أسلحتكم؟ قالوا: إنّا المسلمون و لا نعتدي على أحد. فقالوا: و نحن المسلمون أيضاً.
قالوا: فإن كنتم كما تقولون، فضعوا أسلحتكم. نحن نصلّي و أنتم تصلّون، فوضعوا أسلحتهم و صلّوا.٢ فأمر خالد بأسرهم و قتلهم. فقال مالك: علام تقتلوننا؟ نحن على الإسلام. فقال أبو قتادة، و عبد الله بن عمر: يا خالد، ارفع يدك عن قتل مالك، فهو مسلم و قد رأينا صلاته.٣ فقال خالد: لا بدّ أن يقتل. فاشتدّ الكلام بين أبو قتادة و خالد. و عاهد قتادة الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً أبداً٤.
فقال مالك: يا خالد! ابعثنا إلى ابي بكر، فيكون هو الذي يحكم فينا. فقال له خالد: لا أمهلك أبداً٥. و كان خالد قد وقعت عينه على زوجة مالك و اسمها امّ تَميم. و كانت في غاية الحسن و الجمال. فتعلّق قلب خالد بها، و همّ بها، و صممّ على الزنى فجعل من قتل مالك مقدّمة لتحقيق غرضه. فقال مالك لزوجته بمحضر خالد: أنتِ التي قتلتيني، و لا بدّ أن اقتل لصون عرضي و غيرتي٦. و أخيراً فما قاله مالك. لم يؤثّر في خالد. فقال مالك:
يا خالد! أنتَ جئت لأمر آخر، و جرمنا أقلّ منه كثيراً.۱
فأمر خالد ضرار بن الأزور أن يضرب عنق مالك بالسيف، فقتله صبراً٢. و زنى خالد بزوجة مالك، امّ تَميم في نفس تلك الليلة٣. ثمّ أمر أن تجعل رءُوس المقتولين اثافي لقدورهم، فأوقدوا النار. و كان مالك عظيم الهامة، كثير الشعَر. و قبل أن ينضج رأسه بالنار، نضجت القدور بسبب احتراق الشعر الكثير، و جهز الطعام٤. ثمّ أمر خالد أن تحمل نساء القوم سبايا إلى المدينة، و تسلب أموالهم جميعها.
عزّت هذه الحادثة على المسلمين. فجاء عمر إلى أبي بكر، فقال له: أنّ خالداً قتل قوماً مسلمين، و قتل مالكاً، و زنى بزوجته المسلمة، و سلب أموالهم، فأرى أن تقتصّ منه و تجري عليه حدّ الزنا.
و لمّا دخل خالد مسجد المدينة، كان عليه قباء له، عليه صدأ الحديد، و هو معتجر بعمامة له قد غرز فيها أسْهُماً. فلمّا دخل المسجد، قام إليه عمر، فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها، ثمّ قال: قتلت امرأً مسلماً ثمّ نزوتَ على امرأته؟! و الله لأرجمنّك! فلم يكلّمه خالد ظانّاً أنّ رأي أبي بكر على مثل رأي عمر، حتى دخل على أبي بكر. و أخبره الخبر. و كان ممّا قاله له: إنّي قتلتُ مالكاً: لأنّه كان يقول فيك كذا و كذا. و كان خالد يعتذر في قتله أنّه (مالك) قَالَ لِخَالِدٍ وَ هُوَ يُراجِعُهُ: مَا إخَالُ صاحِبَكُمْ إلَّا وَ قَدْ كَانَ يَقُولُ كَذا وَ كَذا. فقال خالد في جوابه: أ وَ مَا تَعُدُّهُ لَكَ صاحِباً؟ و لذا
أمرتُ بضرب عنقه.
دفاع أبي بكر عن جرائم خالد
عذر أبو بكر خالداً، فخرج خالد منه مسروراً۱. فجاء عمر إلى أبي بكر، و هو يقول له: زنى خالد، فأقم عليه الحدّ. فقال أبو بكر: لَا لأنَّهُ تَأوَّلَ فَأخْطَأ. فقال عمر: قتلَ إمرأً مسلماً، فاقْتُله. فقال أبو بكر: لَا، إِنَّهُ تَأوَّلَ فَأخْطَأ. ثمّ قال: يا عمر! مَا كُنتُ لأغمِدَ سَيْفاً سَلَّمهُ اللهُ عَلَيْهِم٢. فقال عمر: يا أبا بكر! اعزِله عن مقامه. فأجابه أبو بكر: لَا أغْمِدُ سَيْفاً شَهَرَهُ اللهُ عَلَى الكُفَّار٣.
فجاء أخو مالك، و هو متمّم بن نويرة، إلى المدينة يطلب ثأر أخيه من أبي بكر، و يريد منه الأسرى. فأمر أبو بكر بإرجاع الأسرى. و ألحّ عمر على أبي بكر أن يعزِل خالداً قائلًا له: أنّ في سَيْفِهِ رَهَقاً٤. فأجابه أبو بكر: لَا، يا عُمَرُ! لَم أكُن لأشِيمَ سَيفاً سَلَّمهُ اللهُ عَلَى الكافِرينَ.٥
و جاء عبد الله بن عمر، و أبو قتادة عند أبي بكر و شهدا أنّ خالداً قتل مسلماً، و قالا له: كان مالك بن نويرة على الإسلام، و قد رأينا أذانه و إقامته. فأعرض أبو بكر عن أبو قتادة و غضب عليه.٦
أجل، لقد قتل خالد مالكاً بحجّة الارتداد عن الإسلام. و كلّما قال له
ذلك الرجل المؤمن أنا مسلم. قال خالد: لا بدّ أن تقتل. و لمّا قال له: هذه التي قتلتني. قال خالد: بَل قَتَلَك رُجُوعُكَ عِنَ الإسلامِ۱. و لم يرتدّ ذلك الصحابيّ النقيّ السيرة عن الإسلام؛ و إنّما قال كلاماً في أبي بكر فقط و نقله خالد إلى أبي بكر. و هذا الكلام هو الذي أهدر دم ذلك الرجل البرئ، و برّأ خالد من فعلته. و عذر أبو بكر خالداً، فلم يقتله، و لم يُقم عليه حدّ الزنى و لا حدّ الافتراء. و لم يعزّره لسلبه أموال المسلمين، بل نجد العكس. نجد أنّه لم يوبّخه على تلك الأعمال الشنيعة، بل دافع عنه. و سمّاه سيف الله و هو الفاسق الفاجر الفاتك صراحة، و هكذا أطلق عليه سيف الله الذي سلّه لقتل الكافرين (أمثال مالك بن نويرة، و اعتدى به على أعراض النساء المسلمات، و نهب أموال المسلمين).
و لو فرضنا أنّ مالكاً امتنع عن أداء الزكاة، فهل حكمه القتل؟ لقد امتنع مالك عن دفع الزكاة لأبي بكر، و لم يمتنع عن دفعها لوصيّ رسول الله، كما جاء ذلك في شعره، كان مالك مسلماً، فهل يجوز قتل المسلم؟ و لو فرضنا أنّ مالكاً قد ارتدّ عن الإسلام بارتداده عن أبي بكر فهل يجوز الزنى بزوجته، و هي امرأة مسلمة؟ و هل هذا يقبل التأويل؟ أ ليس في وجود عبد الله بن عمر، و أبي قتادة، اللذَينِ شهدا الحادثة عن قرب حجّة قاطعة لرفع التأويل؟ لما ذا غضب أبو بكر من كلامهما، و أعرض عنهما؟ لأنّ خالداً كان معيناً له في حكومته.
أمر أبو بكر أن تُدفع دية مالك من بيت المال، و أن يُرجع الأسرى. فهل نعتبر تلك الأحداث عملًا صحيحاً قام به أبو بكر، و نحملها على الاجتهاد؛ لأنّه تأوّل بوصفه معصوماً و من أولي الأمر؟ حقّاً أنّ الفخر
الرازيّ و أمثاله، ممّن أوّلوا و برّروا تلك السيّئات الصريحة، هم شركاء في تلك الجرائم التي ارتكبها أبو بكر و أعوانه. و هل كان سيف خالد هو واقعاً سيف الله الذي سلّه الله على الناس؟
يقول عمر: «أنّ في سَيْفِهِ رَهَقاً» فهل هذا الهتك و الاعتداء من فعل الله، و خالد سيف الله؟ يقول عمر: لَا. أمّا أبو بكر فيقول: نعم، هو سيف الله .... {وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، ... وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}۱
الدَّرْسُ الثَّامِنُ عَشَر: الإمَامْ هُوَ الإنْسَان الْبَالِغُ مَقَام التّوحِيد، وَ الْقُرْآن يَهْدِي النَّاس بِوَاسِطَةِ الإمَام.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة اللهِ على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا باللهِ العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا}۱
الإمام، هو الشخص المربّي للإنسان إلى أعلى درجة من الكمال، و آخر نقطة من ذروة التوحيد و مقام المعرفة. و لمّا كان خلق الإنسان بالحقّ، فينبغي أن يكون الإمام مرشداً و موصلًا للإنسان إلى تلك الذروة بالحقّ، و إلّا فلا خَلاقَ٢ لشخص آخر هو دون مقام المعرفة و التوحيد و درجات القرب.
خلق العالم و الإنسان على أساس الحقّ
يتّضح هذا المعنى من خلال قوله تعالى: {ما خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ}۱ و قوله تعالى: {وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}٢
يستفاد من الآيتين أنّ الموجودات لم تخلق عبثاً، و إنّما خُلِقَت من وحي الحكمة و الهدف الصحيح. و تشترك كلّ الموجودات في هذه الحقيقة بلا استثناء. خَلقُ هذا الكون كلّه بالحقّ، و جميع الكائنات الحيّة و الميّتة صغيرها و كبيرها تخضع لهذا النظام العام و لا تتعدّى هذه الحقيقة. و على هذا المنوال خلق الله سبحانه و تعالى الإنسان الذي يعتبر جزءاً من هذه الكائنات الحقّ و جبله على فطرة التوحيد.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}٣
«توجّه بقلبك و باطنك إلى هذا الدين الحنيف القائم على أساس الحقّ، و المنزّه من الانحرافات، هذا الدّين المرتكز على الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها و لا تغيير و لا تبديل في خلقة الله و فطرته. هذا هو الدّين القيّم و لكنّ أكثر الناس عجزوا عن إدراك هذه الحقيقة».
يتمتّع الإنسان بالإدراك و المعرفة. و له غرائز و صفات استمدّت وجودها كلّها من مبدأ التوحيد. و قد خلقه الله على أساس المعرفة و إدراك الحقيقة، و جعل قلبه مستودعاً لأسراره.
فالتوحيد يعني الإيمان بأنّ الله واحد في جميع مراحل الوجود، من الذات و الصفات و مظاهر عالم الوجود. و صرح الوجود كلّه قائم بذاته
و متعلّق به. فلا حكومة في السماوات و الأرض و ما بينهما إلّا حكومته، و لا قدرة إلّا قدرته، و لا علم و حياة إلّا علمه و حياته. فلا تشذّ ذرّة صغيرة
واحدة عن هذا النظم و لم يكن لأحد الاستقلال و الفناء الذاتي إلّا للذات الأحديّة بلا شائبة.
لذلك لمّا كان العالم كلّه متوكّئاً على هذا المبدأ، خلق الله الإنسان لإدراك هذا المعنى و بلوغ المعرفة و استيعاب هذه الحقيقة. و جعل في قلبه قوّة جاذبة نحو ساحة القُدس. و هذه هي الحقيقة و النظرة التي جُبِل الإنسان عليها.
من جهة اخرى، نحن نعلم أنّ الله أحسن كلّ شيء خَلَقَه، فلا نقص و لا عيب في كيان الوجود: الذي {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ}۱ و مضافاً إلى أنّه أحسن كلّ شيء خلقه و أتمّه. فقد هدى كلّ موجود نحو كماله. {قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى ، قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}٢ فمِن بين الكائنات الخارجة عن الإحصاء التي أوجدت تامّة الخلقة، و أودعت فيها الحركة نحو الهدف في طريق الكمال هو الإنسان الذي خلق على فطرة الله و توحيده. ينبغي أن يُوجَّه نحو الكمال و تظهر استعدادته و مواهبه الكامنة. فإذا تحرّك على الصراط المستقيم، فإنّه سيبلغ الهدف؛ و إلّا فسيكابد من الاضطراب و بلبلة الأفكار. مثله في ذلك مثل الطائر الذي لاعشّ له حتى إذا كانت الأعاصير والأمطار و الرعد و البرق و الصواعق، تراه حائراً يرتطم بهذا الجانب أو ذاك إلى أن يموت، و يرحل عن الدنيا ناقصاً بدون ظهور استعداداته و فعليّة
غرائزه الإلهيّة المودعة فيه.
{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَكِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ، وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ، وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ، وَ يَصْلى سَعِيراً}۱
«فمن تحرّك في الصراط المستقيم و عمل الصالحات، فإنّه يُعطي كتاب عمله بيمينه و يكون حسابه يسيراً و يصبح مسروراً في الجنّة مع أهله. و أمّا من تحرّك في الطريق الأعوج المنحرف و انشغل بالآثام و التعدّيات، فإنّه يعطي كتابه وراء ظهره (تعساً له) و يدعو بالهلاك على نفسه، و سيصلى نار جهنّم»
في ضوء ذلك، فإنّ الإنسان ينبغي أن يخضع لتربية صائبة و تعليم صحيح حتى يبلغ كماله. و لذلك فإنّ الله قد أنزل القرآن بالحقّ أيضاً. {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ}٢
و كذلك أرسل رسوله بالحقّ و دين الحقّ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ، بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِ}٣
قوانين الدين على أساس التوحيد
أنّ الدين الذي جاء به رسول الله هو دين الحقّ الذي لا يأتيه العبث و الباطل، و يستطيع أن يلبّي حاجات الناس جميعهم؛ و يقودهم نحو الكمال الحقيقيّ و التوحيد المطلوب.
الإسلام دين التوحيد؛ إذ أنّ كافّة تعاليمه الأخلاقيّة و العلميّة نزلت على أساس التوحيد؛ و مُقَنّنها و مشرّعها هو التوحيد. و وضعت هذهالقوانين للوصول إلى التوحيد. و ما نزلت إلّا على أساس التوحيد، و إذا ما طُبقّت، فهي تسمو على أساسه أيضاً.
و كما نرى في القوانين السائدة على العالم، و كذلك في الأنظمة الداخليّة للأحزاب أنّ تعاليم خاصّة قد انبثقت من روح الحزب و تمثّل أفكاره و آراءه. و لو تمسّك بها أحد، فإنّها ستقوده نحو آراء أصحابها و أفكارهم، فكذلك الإسلام فإنّه انبثق من التوحيد. و التوحيد يعني أن يرى أنّ جميع الكائنات بلا استثناء تخضع لعلم الله و قدرته و تأثيره، و أنّ الله هو المؤثّر في جميع عوالم الوجود. و أنّه لا قيمة و لا استقلال لأيّ أحد في وجوده حيال الخالق جلّ شأنه. فقد وضعت التعاليم الإسلاميّة كلّها على أساس هذا المبدأ. و الإنسان المسلم المتمسّك بهذا القانون يرى نفسه مرتبطاً بعالم الوجود كلّه، غير مُعْرِضٍ عن أحد. يألف الجميع و يأنس معهم، و يلتذّ في معاشرته للناس، و صلة الأرحام، و عيادة المرضى و قضاء حوائج الناس، و الإلفة مع الفقراء و المساكين، و بذل الأموال من أجل راحة الآخرين و رفاههم، و تعاليم اخرى كثيرة تربط الإنسان مع الكائنات جميعها، و كأنّه قطعة واحدة لا تقبل الانفصال عن مصنع الوجود. و لذلك نرى أنّ قوانين الجهاد منسجمة مع العبادات تماماً. فالجهاد هو من أجل هداية الناس الضالّين. لا من أجل التوسّع في الأرض و سلب الأموال و نهب الممتلكات، و لهذا فلا نجد اعتداءً أو انتهاكاً في تعاليم الإسلام الجهاديّة و لا نلمس قسوة أو إجحافاً فيها.
و كذلك تخلو تلك التعاليم من مفردات شاذّة، نحو قتل الأطفال و النساء، و حرق الأشجار و الأمتعة، و منع الماء، و فرض العطش، و قذف
الأدوية السامّة، لأنّ الهدف من الجهاد هو هداية الناس، لا استئصالهم من أجل تحقيق المصالح الشخصيّة. و الجهاد عبادة تنسجم تماماً مع جميع العبادات حتى مع الصلاة التي تلزمها الطهارة و الخلوص. و قد يتصوّر أحد أنّ الزواج و الطلاق أمران متعارضان كما يبدو في الظاهر. بَيدَ أنّهما منسجمان و لا تعارض بينهما.
و جاءت التعاليم الخاصّة في القرآن المجيد مرتكزة على أساس أخلاقيّ صحيح إلى الحدّ الذي لو طُبّقت فيه، فإنّها ستستوعب عالماً من الرحمة و العطف. تقول تلك التعاليم بأنّ الإنسان إمّا يمسك زوجته بإحسان، أو يسرّحها بإحسان، و لا يضيّق عليها، و لا يأخذ ممّا آتاها من الصداق ديناراً واحداً حتى لو كان مقداره قنطاراً من الذهب و المجوهرات و لا يضغط عليها، و لا يؤذيها حتى تتنازل عن مهرها؛ فالطلاق- في الحقيقة- مقارن للرحمة و المودّة. و يلاحظ في تعاليم هذا الدين المبين أنّه قد تمّ التأكيد على كلّ عمل يقرّب الإنسان إلى اللطف، و المودّة، و الرحمة و الشفقة، و الحسن، و ورد النهي عن كلّ ما من شأنه التفرقة و الانفصال و القلق، و الانعزال عن الناس. و عُدّ تتبّع عثرات الناس و الطعن فيهم ذنباً و كذلك سوء الظنّ، و النبز بالألقاب التي لا يرضى بها أصحابها، و السبّ و الشتم، و التجسّس على الناس.
يقول الإسلام بأنّ المسلم ينبغي له أن يحسن الظنّ بالآخرين، و ينظر إلى إخوانه المؤمنين نظرة طيّبة، و ينظر إلى جميع الكائنات من حيث ارتباطها بالله و مبدأ التوحيد نظرة طيّبة أيضاً. يجب على المسلم أن لا يلهث وراء حبّ الظهور، و لا يميل إلى الإستكبار، و ينفق أمواله على الفقراء و المساكين، و لا يكنز الذهب و الفضّة، و لا يملأ حبّ الدنيا قلبه و يجدّ و يعمل و يقدّم حصيلة أتعابه إلى البُؤَساء و المعدمين ابتغاء مرضاة
الله و بلوغ أعلى درجات الإنسانيّة. و هذه القوانين كلّها رحمة.
و قد نبعت من التوحيد منسجمة مع روحه في كافّة ميادين الحياة و لو طبّقها الإنسان، فسترفعه إلى التوحيد، و توصله إلى مبدئه و منشئه. على عكس القوانين المضادّة للتوحيد، فإنّها- شاء الإنسان أم أبى- مرتكزة على أساس التفرقة، و النفعيّة، و المصلحيّة، و تحقيق الأرباح، فهي تدعو الإنسان إلى التفرقة، و تقطع صلته بالعالم. و يتصوّر كلّ أحد أنّه منفصل عن العالم و يسعى لبقاء وجوده حتى لو كان منافياً لوجود الغير.
و نلمس هذا واضحاً حتى في البلدان المتطوّرة، إذ تلهث وراء مصالحها، لا يهمّها ما تعانيه الدول الاخرى من فقر و حرمان. فهدفها هو تحقيق الأرباح لصالحها، و بهذا فهي ترى نفسها منقطعة عن عالم الوجود.{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}۱
يقول الإسلام: تحرّكوا كلّكم إلى الله، و اخلعوا عنكم رداء الشرك و اجتنبوا عن كلّ ما يصدّكم عن التوحيد، و أقيموا الصلاة للوصول إلى هذا المنزل، و لا تكونوا من المشركين الذين وضعوا قوانينهم على أساس التفرقة، و انقسموا شيعاً و جماعات.
و هذا الدين الحنيف هو الذي يرى الله وحده فعّالًا ما يشاء، و يراه مؤثّراً و مربّياً و مكمّلًا. و ينظر إلى الكائنات جميعها على أنّها من فعل الله و أثره، و أنّها محكومة بإرادته القويّة و مشيئته. و هو على عكس المبادئ و السنن التي لا تعتمد على التوحيد، فهذه ترى أنّ الإنسان هو المؤثّر في الوجود. و الشرك- مهما كانت درجته- فإنّه يقحم غير الله في عالم
الوجود، و حصيلة ذلك أنّه يرى غير الله مؤثّراً، و يرى الله منفعلًا و متأثّراً. و الإنسان المتوكّئ على أفعاله، نبذ الله- بزعمه- وراء ظهره فرآه منفعلًا. و الغفلة عن الله أيضاً درجة من الشرك و لها نفس الأثر.
و بهدف تربيّة الناس، و تصعيد مستوى معارفهم، و هدايتهم نحو أصالة العلم، و حقائق العالم التي تستظلّ بظلّ التوحيد، و ردت الآيات الكريمة التالية: {أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى ، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى}۱
«هل أنّ قوى الفصل و الأثر متعلّقة بكم معشر البشر و الانفعال و التأثّر متعلقان بالله؟ هذه قسمة غير صائبة، أنّ هذه الكائنات التي تعتدّون بقدرتها و عظمتها هي أسماء فحسب أطلقتموها أنتم و آباؤكم عليها (لا حقيقة لها) و أنتم تعتبرونها مؤثّرة، في مقابل الله ظنّاً منكم و اتّباعاً للهوى و لقد جاءكم دين التوحيد من ربّكم و عرّفكم أصل التوحيد و انحصار القدرة و العظمة و الإرادة و العلم و الحياة و سائر الصفات و الأسماء بذات الله المقدّسة الدائمة».
القرآن يهدي الناس بواسطة الإمام
في ضوء ما تقدّم، فكلّ إنسان بلغ مقام التوحيد الحقيقيّ و اليقين الكامل، فإنّه نال درجة الإنسانيّة. و إذا لم يبلغ ذلك المقام، فهو ناقص؛ و بحاجة إلى تربية. و ينبغي أن يكون معلّم الناس إنساناً كاملًا. فالناقص لا يستطيع أن يعلّم الناس و يقودهم نحو الكمال. و الهدف من الدين ليس مجرّد القيام ببعض الأعمال الصالحة حتى يحلو للقائل أن يقول: كَفَانَا
كِتابُ اللهِ. و القرآن وحده لا يستطيع أن يقود الناس، إذ لا بدّ من إنسان مُلمّ ضليع بحقائق القرآن، فمن هو ذلك الإنسان؟
إنّه الإمام، معلّم القرآن، و العارف بمبدأ الأحكام و منشئِها، يتربّع على منهل القانون، و ينظر بعين الحقّ إلى عمق المصالح و المفاسد من المنشأ و الأصل.
{ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ.}۱
«ثمّ جعلناك على منبع الأمر و مبدأ نزوله فتنظر القوانين و الأوامر على أصلها و حقيقتها فاتّبعها و لا تتّبع آراء و أفكار الناس الجهلاء الذين لا عقل لهم، إنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً و لن يبلغوا بك ما تهدفه و تقصده و هو رضا الله و لقاؤه»
فالإمام يستطيع أن يأخذ بيد الإنسان، و يقوده نحو الحقيقة المطلقة. لأنّنا عرفنا أنّ خلق السماوات و الأرض و الإنسان، و إنزال القرآن و إرسال الرسول، كلّ اولئك بالحقّ. و كذلك الإنسان فإنّه ينبغي أن يسلك سبيل الحقّ، و يقطع طريقه إلى أن يصل أقصى درجات التوحيد. فهل يستطيع أن يقطع هذا الطريق بدون إمامٍ و مربّ؟ و هل انتهت عمليّة التربية و التعليم بعد وفاة النبيّ الأكرم؟ و هل أنّ اللطف الإلهيّ كان فقط في عصر رسول الله، ثمّ ترك الله الامّة بعده مهملة ضائعة غير ملتزمة؟ و هل أنّ روح النبيّ بعد الممات كفيلة بمساعدة الامّة و إيصالها إلى مقام الكمال فلا تعد هناك حاجة إلى شخص حيّ من أهل اليقين؟ و هل أنّ العمل بالقرآن وفقاً لفهم الناس البسطاء يكفي بدون تعريف للحقائق؟ و هل أنّ
العمل الصالح نفسه، مثل الصلاة و الصوم، و الصدق، و اجتناب السرقة و القمار، يوصل الإنسان إلى مقام الإنسانيّة؟
يُنقَل أنّ الناس في سويسرا و بعض الدول الاخرى لا يكذبون، و لا يسرقون، و لا يخونون، و لا يفعلون أمثال هذه الأشياء. صحيح أنّ الإنسان متى تلقّى تربيّة في مجال معين، فإنّه يتخرّج في ذلك المجال و يعمل به. بَيدَ أنّ هذه الصفات الحسنة عند شعوب تلك البلدان منبعثة عن العقل و العلم و معرفة الله و إدراك المصالح الصادقة، أو أنّ تلك الشعوب عاشتها تلقيناً و تربّت عليها؟۱ أنا رأيتُ بنفسي في القرى و الأرياف أنّ الرعاة عند ما يسوقون أغنامهم و معزهم للرعي صباحاً، و يمرّون على البيوت، فإنّ الأغنام و المعز العائدة إلى تلك البيوت تخرج على عادتها لتلتحق بالقطيع. و حينما يرجع القطيع عند الغروب، و يمرّ على نفس البيوت، فإنّ تلك الأغنام و المعز تنفصل عن القطيع تلقائيّاً لتعود إلى أصحابها. فهذا العمل عند الحيوان من وحي العادة، و لا يستحقّ حمداً و تمجيداً. و كذلك جهاز التسجيل فإنّه يسجّل الصوت جيّداً، و يعيده دون أن يتدخّل فيه، و يعيد حتى نَفَس القارِئ أو صوت الورق. فعمله هذا لا يستحقّ حمداً و ثناءً. و الإنسان الاوروبيّ الذي لا يتلقّى تعليمه و تربيته على أساس التوحيد، و الرأفة بالآخرين، و المروءة، و الإيثار، و الصفح فإنّ صدقه، و نظمه، و أمانته (مهما كان نصيبها من الصحّة) هي من وحي التلقين و العادة. فما قيمة ذلك؟ و العامل الاوروبيّ الذي يذهب إلى مقرّ عمله صباحاً، و ينجز أعماله في المعمل بدون رقابة ربّ العمل على سبيل
الفرض، ما هي الدرجة التي يدركها من الإنسانيّة؟ و أنّ كثيراً من المكائن تُؤدّي أعمالها أوتوماتيكيّاً لساعات متواليّة بدون إشراف أحد، و تقدّم منتوجاً سليماً و نظيفاً. و بعد إنجاز مقدار معيّن من إعداد المنتوج الذي يحتاجه الناس، تنطفئ تلقائيّاً. فتتوقّف عن العمل. فهل تستحق هذه المكائن بما عليها من نظم مدحاً و ثناءً؟! فاولئك الأشخاص قد تربّوا و تعوّدوا على نفس النمط، و هم يعيشون حركة دائبة في هذا الطريق. و من الأفضل أن نطلق على أمثال هؤلاء: الناس الآليّين. إذ ينجزون العمل المطلوب فقط، و لا خِلاق لهم من المعرفة، و الحقيقة، و الصفاء و المحبّة و الآثار التوحيديّة، و يراوحون في طريقهم كالجماد وفقاً للتوجيهات الصادرة إليهم، بَيدَ أنّ هذا لا يعطينا معنى الإنسانيّة. و لمّا خلقت ذات الإنسان على أساس الفطرة، فليس ذلك طريق كماله، و الارتقاء في سلّم العلم و المعرفة، و العثور على الأسرار الإلهيّة، و سرّ الخلق و التكوين و الوقوف على الصراط و الميزان و الحقّ و الباطل، كلّ ذلك لا يتحقق بهذا النسق.
مقام الإمامة خاصّ بالمخلَصين
ينبغي على الإنسان أن يضع قدمه على طريق التوحيد، و لكن من ذا الذي يطلعه على ذلك بعد النبيّ؟ أنّ المعلّم الذي لا تتجاوز معلوماته العمليّات الحسابيّة الأصليّة الأربع، كيف يستطيع أن يعلّم طلابه المعادلات ذات المجاهيل المتعدّدة، و كذلك الجذور، و رسم المنحنى، و الهندسة الفضائيّة، و المثلّثات، و الحساب الاستدلاليّ؟ هذا مستحيل، فإنّ أقصى ما يستطيع أن يفعله هو إيصال الطالب إلى مستوى ما يحمله من معلومات و في ضوء ذلك، فكيف يستطيع الشخص اللاموحّد الناقص الذي لم يتحرّر من رتبة الشيطان و هوى النفس أن يكون معلّماً للناس يهديهم نحو التوحيد و
يوصلهم إلى كمال الإنسانيّة؟! أنّ هذا مستحيل، أو نقول: أنّ مشيئة الله في إرشاد الناس و هدايتهم إلى كمالهم قد تراجعت و تركتهم ضائعين. و هذا غير صحيح؛ لأنّه قد ثبت أنّ السماء و الارض، و الإنسان، كلّ اولئك قد خُلقوا بالحقّ، و هو يعني عدم البطلان و العبث، أو أن نقول: لم يُهمَل الناس، و إنّما يحتاجون إلى مربّ و مكمّل، و في هذه الحالة ينبغي أن يكون المربّي أكمل الناس، و إلّا فلا يكون مكمّلًا، و هو المطلوب و نستخلص من هذا البحث أنّه كما أنّ تشريع القوانين مرتكز على أساس الحقّ، و كذلك بعثة الرسول الأعظم، و نصب الإمام الذي يتمتّع بمقام الكمال، و هو المربّي و المعلّم للبشريّة، إلى أعلى درجة من الإنسانيّة و فعليّة القوى المودعة من الله فيه و مقام التوحيد؛ كل ذلك على أساس الحقّ أيضاً. و كلا المسألتان من أصل واحد، و الوردتان أصلهما شجرة الورد الواحدة، و تتغذّيان من ثدي واحدة و أمّا الإنسان الذي لم يبلغ مقام التوحيد المطلق، و لم يصل إلى أعلى درجة من الإنسانيّة، و لا زالت بين جنبيه نفسه الأمّارة، و لم يتركه الشيطان، و لم يتّضح موقفه، و لا زال يعيش في ظلمات الشرك (و إن كان شركاً خفيّاً)، و لم يتيقَّن طريق الحقّ و لا زال إيمانه من وحي التقليد، أو مشوباً ببعض الشوائب الاخرى، و لم يُفتَن على إيمانه، و ما فَتَأ فريسة لذئب الأمانيّ الباطلة، و في قبضة هوى النفس، نعم فالإنسان بهذه المواصفات لا يمكن أن يكون معلّماً و موجّهاً و قائداً.
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ، حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَو
تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ}۱
«اجتنبوا الأرجاس المتمثّلة بعبادة الأوثان (و النفس الأمّارة هي الصنم الحقيقيّ و احترزوا من القول الباطل، و سيروا على أساس دين التوحيد المستقيم المنزّه عن الإفراط و التفريط، و المطهّر من الاعوجاج و النقص، و لا تشركوا بالله أحداً أبداً، و لا تجعلوا معه مؤثّراً آخر؛ و من جعل معه مؤثّراً آخر و أقحمه في تسيير العالم فمثَلُه مثل من سقط من مراتب الوجود و خرّ من سماء الفضيلة إلى الحضيض فتخطّفه طير الهوى المفترسة للبشر، و تجعله فريسة لها، أو تقذفه رياح الحوادث و الاضطراب فتلقيه في مكان بعيد».
فالشخص الذي لم يبلغ مقام الكمال، و ما زال محجوباً بحجاب النفس، و ما فتئت نفسه هي المحور إذ يحوم حولها دائماً، و ما برح عاجزاً عن أن يفتح منفذاً يخترق فيه حجب قلبه المظلمة ليخرج منه، و يحلّق في فضاء عالم القدس، و ليعيش منشرح الصدر، مطمئنّ القلب، مرضيّاً عنه، فيصدق عليه الخطاب القائل: {ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً}٢ و يُكلّل بقوله عزّ من قائل: {فَادْخُلِي فِي عِبادِي ، وَ ادْخُلِي جَنَّتِي}٣ نعم فالإنسان بهذه المواصفات، مهما بلغ من المقام و المنزلة، فإنّه يظلّ في غشاوته، و ينطبق ليه عنوان الكفر الحقيقيّ حسب حالته و درجته، و يهتزّ عند المحن و الشدائد و الاختبارات، و تجرفه صاعقة الهوى و حبّ الرئاسة و الجاه الذي هو بدرجات أشدّ من دويّ و برق حبّ المال و الأولاد و حتى حبّ الحياة. تجرفه نحو بيداء الضياع، و مفازة البؤس، فتسلّمه إلى الهلاك و الفناء.
{وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ}۱
فهل يستطيع مثل هذا الشخص المصاب بقارعة السماء، و المهدّد قلبه بسيل الخطرات النفسانيّة دائماً، و المحاصر بإبليس و جنوده، أن يأخذ بِيَدِ الامّة، و يهدي ضعفاءها إلى طريق التوحيد و أقوياءها إلى مقام الكمال؟
اعتراف أبي بكر بضعفه
يقول أبو قُتَيْبَة الدينوَريّ الذي كان من أعاظم قدماء العامّة و أعيانهم و يعترف أهل السنّة جميعهم بجلالته و قدره: صعد أبو بكر على المنبر بعد وفاة رسول الله، و خطب هذه الخطبة:
وَ لَقَدْ قُلِّدْتُ أمراً عَظِيماً مَالِي بِهِ طَاقَةٌ و لا يَدٌ، وَ لَوَدِدْتُ أنِّي وَجَدْتُ أقْوَى النَّاسِ عَلَيْهِ مَكَانِي، فَأطِيعُونِي مَا أطَعْتُ اللهَ، فَإذَا عَصَيْتُ اللهَ، فَلا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. ثُمَّ بَكَى، وَ قَالَ: إِعْلَمُوا أيُّهَا النَّاسُ! أنِّي لَمْ اجْعَلْ لِهَذَا المَكَانِ أنْ أكُونَ خَيْرَكُمْ، وَ لَودِدْتُ أنّ بَعْضَكُمْ كَفَانِيه. وَ لَئِن أخَذْتُمُونِي بِمَا كَانَ اللهُ يُقِيمُ بِهِ رسولَهُ مِنَ الْوحي مَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدِي. وَ مَا أنَا إِلَّا كَأحَدِكُمْ، فَإِذَا رَأيْتُمُونِي قَدِ استَقَمْتُ فَاتَّبِعُونِي، وَ إِن زُغتُ فَقَوَّمُونِي. وَ اعْلَمُوا أنّ لِي شَيْطَاناً يَعْتَرينِي أحْيَاناً. فَإِذَا رَأيْتُمُونِي غَضَبْتُ فَاجْتَنِبُونِي. لَا اؤثِّرُ في أشْعَارِكُمْ وَ أبْشَارِكُمْ؛ ثُمَّ نَزَلَ٢
و عند ما كان يعجز عن الجواب على مسائل الناس، كان يقول:
سَأقُولُ فِيهَا بِرَأيي۱ و عند ما كان يعيي، و لم يجد نفسه أهلًا للمهمّة، كان يقول: أي سَماءٍ تُظِلُّنِي؟٢
فهو يعترف بأنّه لا زال يعيش مغلولًا بحبائل الشيطان و النفس الأمّارة، و يقترف الإثم أحياناً، و يعتريه الشيطان، ففي مثل هذه الحالة كيف يكون إماماً للناس، و يريد من ضعفاء الامّة، بل من كبارها أمثال سلمان، و أبي ذرّ، و عمّار، و المقداد، و حذيفة، و جابر بن عبد الله الأنصاريّ، بل و حتى من أمير المؤمنين عليه السلام صاحب العصمة الكبرى و الولاية العظمى، يريد منهم أن يتّبعوه؟ و يأمرهم أن يبايعوه و يُؤمِّروه و يقتدوا بأوامره و سنّته. و إذا ما خالف أحد، فإنّه يأمر عمر بقتاله قائلًا: إِن أبَوْا، فَقاتِلْهُمْ٣. هذا مع أنّه يعلم، و يعلم جيّداً أنّ أمير المؤمنين عليّاً هو محور الحياة في الإسلام، و هو قطب سعادة الامّة و فوزها و انتصارها.
غصب أبي بكر للخلافة عالماً بحقّانيّة أمير المؤمنين عليه السلام
يقول أمير المؤمنين: «أمَا وَ اللهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أبِي قُحَافَةَ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أنّ مَحَلّي مِنْهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَ لَا يَرقَى إلى الطَّيْر»ُ٤ فالإمام يقول هنا بأنّ أبا بكر يعلم بأنّ الرحى لا قطب لها غيري، فإذا دارت، فإنّ حجرها ينزلق، و لا يطحن القمح فحسب، بل و يدمّر الطحّان و المطحنة.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ}۱. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ}٢. {وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ}٣
الدَّرْسُ التَّاسِع عَشَر: أصْوَاتُ الأكْثَرِيةِ لَيْسَتْ مِعْيَاراً في انْتِخَابِ الإمَامِ الْمَعْصُومْ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطّاهرين
و لعنة اللهِ على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا باللهِ العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا}۱
ذكرنا سابقاً أنّ خلق السماوات و الأرض، و المخلوقات السماويّة و الأرضيّة. و خلق الإنسان، و إنزال القرآن، و إرسال النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلّم كلّ ذلك بالحقّ. و الآيات القرآنيّة صريحة في أنّ النظام الكونيّ و هداية الإنسان نحو الكمال منزّهان من العبث، لذلك فإنّ أوامر الله و نواهيه هي بالحقّ أيضاً. و ترمي إلى إطاعة الحقّ، إذ أنّ هذا الموضوع هو على طريق نفس تلك المبادئ التكوينيّة، و يؤيّد نظام الخلقة و من المحال على الله سبحانه تعالى أن يأمر بالباطل، لأنّ الباطل يزلّ بالإنسان نفسه عن الطريق المستقيم، و يحرّكه في المسار المضادّ لطريق الكمال و السعادة. و نستخلص من ذلك أنّ الأوامر التشريعيّة لله ينبغي أن
تكون دآئماً وفقاً لنظامه التكوينيّ لا معاكسة له، قال تعالى:
{وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}۱ {وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}٢ لذلك، فإنّ الله لا يأمر بالباطل أو باتّباع الظلم و المعصية أو بالدعوة إلى اتّباع غير الحقّ أبداً.
فاتّباع أولي الأمر الذين وجبت إطاعتهم في الآية المباركة بلا قيد و شرط هو اتّباع للحقّ، و إلّا فإنّ هذا الأمر سيكون معاكساً للنظام الإلهيّ العامّ. و لذلك ينبغي أن يكون المقصودون في هذه الآية أشخاصاً معصومين يكون فعلهم حقّاً، و كذلك قولهم و سيرتهم و سنّتهم.
أنّ كثيراً من أهل السنّة بل غالبيّتهم، بل جميعهم يقولون بعدم وجوب العصمة في أولي الأمر. و إنّما يمكن انتخاب الإمام برأي الأغلبيّة أو ببيعة أهل الحلّ و العقد، و تجب إطاعته وفقاً لمفاد الآية المباركة. هذه النظرية تخالف أساس القرآن و تشريع الشريعة الحقّة و أساس الدين المبين؛ لأنّ للإمام حالات و ملكات روحيّة لا يطّلع عليها إلّا علّام الغيوب المطّلع على السرائر و الخفيّات؛ مثل العصمة، و طهارة الروح، و قداسة الباطن، و النزاهة المقترنة بذات الإمام. الحافظة له من كلّ قول أو فعل مخالف للحقّ، و المسدّدة له بإبعاده عن الأهواء و الشهوات. و مثل العلم الذي لا يبقى- مع وجوده- شيء مجهول عليه. و كثير من الصفات الأخرى المعنويّة الدقيقة و اللطيفة التي لا يلحظ لها أثر في الخارج إلّا مسائل جزئيّة منها، و الحصول على تلك الملكات من هذه الظواهر الجزئيّة و الترشّحات
الخارجيّة عسير للغاية. {وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ}۱.{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ}٢
عجز أكثريّة الناس عن انتخاب الإمام
في ضوء ما تقدّم، أنّى يتسنّى للناس الذين هم في غطاء عن العلم بالباطن و السرائر و النيّات و الملكات أن يعرفوا الشخص المتّصف بأدقّ الملكات و الصفات الروحيّة. و أعمقها، و ألطفها، فيختاروه إماماً؟ و لو قاموا بذلك، فإنّهم يحيدون عن جادّة الصواب. و عند ما نقرأ عن موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام أنّه اختار سبعين رجلًا من قومه لميقات ربّه و أنّ هؤلاء المصطفَين قد سقطوا في الامتحان حين طلبوا منه أن يريهم الله جهرة، حيث جاء في القرآن على لسانهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً.٣ فما بالنا باختيار الناس العاديّين، و ما ذا ننتظر من أهل الماديّات غير أنّهم يميلون إلى من يشبع غرائزهم و يضمن لهم ماديّاتهم و شهواتهم. فيصوّتوا لصالحه؟! و في مثل هذه الحالة. فما هو الدليل القاطع المقنع على أن نقول بأن هؤلاء لا يخطئون في اختيارهم. و لا ينتخبون شخصاً منحرفاً لمقاليد الامور؟
و ربّما كان انتخابهم لأشخاص خونة خَبَّأوا أنفسهم وراء الكواليس و عند ذلك، تُرتكَب الجرائم، و تشيع المعاصي و الذنوب، و لا يدري هؤلاء المساكين ما الخبر؟؛ و لا يدركون الأساليب الخادعة البرّاقة التي اتّخذها المنتخَب، أو إنّهم يدركونها و لكن لا حيلة لهم حيالها. فيتسلّط علي
الناس و يجرّهم جميعاً إلى جحيم الهلاك، كما نجد ذلك ملحوظاً للغاية في بيعة معاوية، و يزيد، و بقيّة سلاطين بني أميّة.
وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشآءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
أنّ الله الذي خلق الخلق بالحقّ، كيف يفوّض للناس القاصرين في عملهم، المحتاجين إلى من يعلّمهم، نصب الإمام؟ {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}۱
و قد نبّه رسول الله الناس إلى هذه الحقيقة منذ اليوم الأوّل الذي نشر فيه دعوته و بلّغها القبائل. فلمّا عرض على بني عامر بن صَعْصَعة دعوته قال له رجل منهم: أ رأيتَ إن نحن بايعناك على أمرك، ثمّ أظفرك الله على من خالفك، أ يكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال: الأمر إلى الله يضعه حيث شاء.٢
قال تعالى: {وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً}٣
كيف يتيسّر للناس أن ينتخبوا لهم إماماً و هم على ما هم عليه من الأغراض الشخصيّة، و المشاجرات، و الشهوات، و اختلاف الآراء و المعتقدات في المقياس الذي يشخّصون المرشّح الصالح؟ لا سيّما مع كثرة التجمّعات، و تشتّت الروحيّات، و وجود التكتّلات المضادّة للحقّ التي كانت و لا زالت ممّا تنوء به البشريّة. و لذلك يلاحظ ما ذا جرّت الإنتخابات من ويلات، فكم من حقوق قد اضيعت، و دماء اريقت و أموال نُهبت. و أعراض هُتكت، و أحكام عُطّلت، و حدود امتُهنت و إذا
بذلك الإسلام الذي رفد الناس بالحياة و امتدت أغصانه على أساس الحقّ و العدالة فظلّلت ربوع المعمورة، أضحى مسرحاً للأحداث الدامية الشنيعة و العوبة بِيَدِ الفجّار و الفسّاق الذين خلا لهم الجوّ ليشنّوا هجماتهم ضدّ المساكين الأبرياء، و واصلوا انتهاكاتهم و تعدّياتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
فما يتطلّبه هذا الحديث و ما نستخلصه من هذا البحث هو أنّ الخليفة ينبغي أن يكون معصوماً، و منصوباً من قبل الله. و مضافاً إلى ذلك كلّه يمكن أن يواجه الخليفة المنتخب مسائل علميّة يعجز عن جوابها، ففي مثل هذه الحالة، و من أجل المحافظة على شخصيّته، إمّا يجيب من عنده و يفتي بلا دليل، و إمّا يرجع إلى أهل الرأي فيأخذ الجواب ممّن هو أعلم منه و أوعى. ففي الحالة الأولى أظهر فشل القانون الإلهيّ و ضعفه، أمّا في الحالة الثانية، فقد أسقط مكانته و منزلته من الأنظار. فالإمام الذي هو الحاكم الروحيّ و المعنيّ للناس يجب أن يتّبع بما له من منزلة هي كمنزلة نفس النبيّ {وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}۱ فيقيم الحدود الإلهيّة، و يدحض الباطل ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. و ربّما يفضى عجزه عن الإجابة على الأسئلة إلى ضعف يقين السائل و تشكيكه به. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ}٢
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ}٣
و عند تقدّم المفضول على الفاضل، فإنّ الباطل سيتقدّم على الحقّ و الجهل على العلم. و من هنا تنبثق ضروب الفساد. {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ
جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ، وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}۱
الأكثريّة تسعى وراء المصالح
أنّ اغلبيّة الناس يلهثون وراء مصالحهم فارّين من الحقّ، و ما ذا تفهمُ هذه الأغلبيّة؟ إنّهم يودّون أن ينتخبوا شخصاً يضمن مصالحهم المادّيّة و الشهوانيّة. و ما ذا يعرف الطفل الصغير في المدرسة عن مديره و معلّمه و مربّيه؟ و المدير الذي يمتلك التدبير الصحيح و التصميم الراسخ يدفع الأطفال إلى الدرس و ينظّمهم وفقاً لتخطيطه الذهنيّ الذي لا يجد الأطفال إليه سبيلًا؛ إنّه يوجّههم لما فيه تقدّمهم و رقيّهم و لو لم يرغبوا بذلك، و هذا الحقّ سَيطر على أفكارهم و أهوائهم، و في ضوئه تنظّم شئون المدرسة و تتحقّق النتائج المرجوّة.
و لو تقرّر فرضاً أن يكون تعيين المدير بانتخاب الطلّاب أنفسهم فإنّ هؤلاء سينتخبون شخصاً يعطّل دروسهم، و يخصّص جميع أوقاتهم للّعب. و لو استُفتوا عمّ سيعملون في المدرسة، فسيقولون: نريد أن تكون جميع الساعات نزهة و لعباً. و لو استفتوا عن تعطيل المدرسة أو عدم تعطيلها، فسيصوّتون كلّهم بتعطيلها. فهل يجب العمل وفقاً لرغبات الأطفال و اصولهم و يعزل المدير المتّقي العالم الخبير بالمصلحة- حسب تصويت الأغلبية- و يؤتي بشخص آخر لاعب بديلًا عنه كما يشتهي الأطفال؟ أو أنّ آلاف الأصوات لا قيمة لها في هذا المجال، و مئات المدارس المليئة بالطلّاب لا تستطيع أن تقوم بمهامّ مدير عالم مطّلع.
فكذلك أفراد الناس، فإنّهم مبتلون بالشهوات و المادّيّات، و لا تتجاوز أفكارهم حدود النفعيّة و المصلحيّة، و ضروب الثأر الشخصيّ و الجاهليّ و اللذائذ المؤقّتة. و في مثل هذه الحالة، لو فوّض الأمر إلى هؤلاء فإنّهم لمّا كانوا لا يستطيعون النظر إلى افق أوسع و أرحب من مستواهم الفكري لذلك تراهم يحبسون سعادتهم و سعادة جميع الناس عند ذلك المستوى.
آيات القرآن الواردة في كون أغلب الناس من المنحرفين
جاء في الآية ١٠٠، من السورة ٥: المائدة:
{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
{وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}۱ {إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}٢ فلو كانت أصوات الأغلبيّة على الحقّ، ينبغي، في هذه الحالة، استفتاء مشركيّ قريش حول دعوة النبيّ الأكرم في مكّة. و من المؤكّد أنّ رأى هؤلاء هو قتل النبيّ و تقطيعه إرباً إرباً، كما نجد ذلك عند ما اجتمع أهل الحلّ و العقد و رؤساء مكّة في دار الندوة، و بعد التشاور، أصدروا أمراً بقتله، فجمعوا أشخاصاً من مختلف القبائل للقيام بهذه المهمّة.
و على هذا النمط صمّمت أغلبيّة المشركين، بعد التشاور و الأخذ برأي أهل الحلّ و العقد مثل أبي سفيان، على تجهيز الجيوش من مكّة إلى المدينة لقتال رسول الله و المسلمين، و اجتثاث جذور الإسلام، و اقتلاع القرآن. و الاعتداء على أعراض المسلمين و نواميسهم، فكانت معركة بدر، و احد، و الأحزاب و أمثالها، و كانت تلك الخسائر الفادحة كلّها.
كان هذا هو المستوى الفكريّ لأهل الجاهليّة، و ظلّ هذا المبدأ متداولًا بين الناس على مرّ العصور، و إن اختلفت مظاهره في كلّ عصر. و لم يكن هذا معروفاً فقط عند القبائل التي عاشت في عصر النبيّ، بل كان سائداً عند جميع الامم و القبائل، إذ كانت الأصوات الجاهليّة و الأفكار الماديّة هي الأساس في تخطيطهم. و لذلك كانوا يناوئُون الأنبياء و يدخلون معهم في نفاق و صراع. أ فكلما جاءكم رسول بما لا تهوىي أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم و فريقا تقتلونو لقد آتينا موسى الكتاب و قفينا من بعده بالرسل و آتينا عيسى ابن مريم البينات و أيدناه بروح القدس أ فكلما جاءكم رسول بما لا تهوىي أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم و فريقا تقتلونو لقد آتينا موسى الكتاب و قفينا من بعده بالرسل و آتينا عيسى ابن مريم البينات و أيدناه بروح القدس أ فكلما جاءكم رسول بما لا تهوىي أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم و فريقا تقتلونو لقد آتينا موسى الكتاب و قفينا من بعده بالرسل و آتينا عيسى ابن مريم البينات و أيدناه بروح القدس أ فكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم و فريقا تقتلون و.۱
و على هذا فقد كان أغلب الناس في جميع العصور من المنحرفين و المصلحين. و قد ذكر الله تعالى في سورة الشعراء عادات امم ثمانية من الأنبياء في ثمانية مواضع (قوم محمّد خاتم النبيّين صلى الله عليه و آله و قوم موسى، و قوم إبراهيم، و قوم نوح، و قوم هود، و قوم صالح، و قوم لوط، و قوم شعيب) و تطرّق إلى تعامل هؤلاء مع أنبيائهم، و قال في آخر كلّ موضع:
{وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}٢ و كذلك قال: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}٣ و بشأن قوم نبيّنا، قال أيضاً: {وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ}٤؛ {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}٥ {وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}٦ و قال في ثلاثة
مواضع من القرآن: {وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}۱
و قال في موضع: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}٢ و كذلك قال: {بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ}٣ {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ}٤ و قال في مواضع اخرى: {وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ}٥ {وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ}٦ {فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً}۷
و قال أيضاً بأنّ أكثر الناس يفسقون: {وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ}۸ {وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ}٩ {وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ}۱۰ و قال كذلك: {وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}۱۱ و قال في ثلاثة مواضع اخرى: {وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ}۱٢؛ {وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}۱٣ {وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}۱٤
و قال أيضاً بأنّ أكثرهم يتّبعون الظنّ، و لا يقين عندهم في أعمالهم. {وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا}۱٥. و قال بأنّ أكثرهم من الجهّال: {وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.}۱٦
و قال كذلك بأنّ أكثرهم لا يعقلون، و لا يستعملون فكرهم: {وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}۱
و قال أيضاً بأنّ أكثر الناس لا يسمعون كلام الحقّ و دعوة الحقّ:
{كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}٢
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}٣
و قال كذلك: أنّ كثيراً من الناس غافلون عن الآيات: {وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ}٤ و جاء في أربعة و عشرين موضعاً من القرآن المجيد أنّ أكثر الناس لا يعلمون. ففي تسعة مواضع ورد بهذا اللفظ: {وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}٥ و في تسعة اخرى، جاءَ بهذا اللفظ: {وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}٦
في خمسة مواضع، ورد بهذا اللفظ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}۷ و في
موضع واحد، ذُكر بهذا اللفظ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}۱
وجود الإمام الحقّ ضروريّ لهداية الأكثريّة الضالّة
أجل، فإنّ هذا عرض لمستوى الأفكار و الطلبات و درجات الفهم و الإدراك لأكثر الناس، بيّنها القرآن في الآيات المتقدّمة. فهل بمقدور الناس أن يعيّنوا بها إماماً؟
و هذا الإمام معصوم من كلّ خطأ و إطاعته هي نفس إطاعة الله. و هذا الإمام يقودهم نحو طريق الحقّ. و يوصلهم إلى كمال استعدادهم و قابليّتهم، و يُهذّب نفوسهم، و يُضِيء قلوبهم بنور الله، و يأخذ بأيديهم منقذاً لهم من الاضطراب و القلق، و التشويش النفسيّ ليعب بهم نحو الهدوء و الطمأنينة. و يخرجهم من الشرك إلى التوحيد.
و هذا الأمام هو الشخص الذي مع الحقّ دائماً. و هو على عكس ما تريده الأكثريّة؛ إذ يهتمّ بتعليمهم و تربيتهم تربية صحيحة ليخرجهم من حضيض الشهوات؛ و الترف الباطل، و عربدة السكر، و الأنانيّة و الغطرسة و العُجب إلى عبادة الله و حبّه، و ذلك من خلال تعاليم مركّزة و توجيهات مُتّزِنة. و هذا الأمر متقارن مع عدم ميل الأكثريّة، كما نلاحظ أنّ كلّ نبيّ جاء من الله لإصلاح الناس و تربيتهم، كان على عكس ما تريده الأكثريّة. و ينبغي للإمام أن يربّي الناس بإرادة وطيدة و عزيمة قويّة، و لا يبالي بما عليه الناس من أهواء و آراء مرتكزة على عبادة المادّة و حبّ اللذّة. قال عزّ من قائل: {فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} ٢و قال تعالى: {قُلْ
أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}۱ {وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ}٢ {وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}٣
فهذه الآيات جميعها تبيّن بجلاء أنّ الناس يجب أن يتّبعوا الحقّ فقط، و لا يوكلوا امورهم إلى من يضلّهم و يُقحمهم في عقيدته و خطّه. فهذا و أمثاله لا يرضون في يوم من الأيّام عن عقيدة الحقّ و رجل الحقّ. بل و يتهرّبون منه. فهل يمكنهم و الحال هذه أن ينصبوا إماماً لهم قائماً بالحقّ في حين أنّ مستواهم الفكريّ محدود بهذا الحدّ؟ حاشا و كلّا.
خضوع عامّة الناس للعواطف
أنّ عامّة الناس يخضعون للعواطف، فلم يتعالوا إلى درجة تكامل و ارتقاء العقل. و لذلك فلو فوّض إليهم حقّ انتخاب الرئيس و الإمام، فإنّهم لا ينهضون بهذه المهمّة؛ لأنّ اختيارهم مرتكز على الخيال الواهي و الوهم المتدنّي، فإنّهم يُخدَعون برؤية الصور، و استماع الكلمات و الخطب، فيدلون بأصواتهم؛ في حين قد يكون صاحب الصورة و الكلمة من الناس المحتالين، و قد استعدّ أحسن استعداد من أجل اقتناص الناس العاديّين لصالحه، و كم رأينا في عصرنا هذا أنّ الناس يجنحون إلى المرشّحين
و يصوّتون لصالحهم بسبب نصب الصور المعلنة و رفع اللافتات، و كتابة أسماء المرشّحين على الجدران. و عند ما يتبدّل المسرح و تتغيّر الدعايات، و يظهر شخص آخر و على نفس المنوال من خلال الصور المعلنة و اللافتات، و التباهي عند إلقاء الخطب و الكلمات المشوبة بالمزاعم الواهيّة الجوفاء، فإنّه يستقطب الناس إلى جانبه ليصعّد من درجة تصويتهم لصالحه.
فهل يمكن في الإسلام المشيّد صرحه على مبدأ اتّباع الحقّ و أصالة الواقع أن تفوّض صلاحيّة انتخاب الإمام- الذي يمثّل العقل المستقل للجماهير و المتصدّي لحمل المهمّة الثقيلة لرقيّ الناس و تكاملهم و الأخذ بأيديهم نحو نور الهداية و سعادة الدنيا و الآخرة، و تأسيس المدينة الفاضلة، و إقامة القسط و العدل في أرجاء المعمورة، و توجيههم صوب رحاب العرفان و التوحيد الإلهيّ- إلى أشخاص هم في الدرجة المنحطة من حيث العلم و التقوى و الإدراكات العقليّة؟ أبداً أبداً، فعامّة الناس ينتخبون شخصاً يلائم أذواقهم، و يتّفق معهم في المنهج و السلوك. و من الواضح هنا، إلى أي درجة من السقوط و التردّي و الفساد سينحدر المجتمع، و كيف سيهبط من محور العدل و أصالة العقل إلى حضيض وادِي الميول الشخصيّة و الأوهام الاعتباريّة.
سؤال و إشكال على مناصري الديمقراطيّة
و لنا أن نسأل هنا، و على أنصار الديمقراطيّة، الذين يوكلون حقّ انتخاب الإمام إلى جميع أفراد الشعب، أن يجيبوا.
و سؤالنا هو: أنّ عامّة الناس في كلّ امّة ليسوا بمستوى واحد في الفهم و العقل و الشعور و المعرفة، بل الملحوظ أنّهم يتفاوتون فيما بينهم فبعضهم يجدّ و يكافح و يعاني ليصعّد من مستواه العقليّ و العلميّ. و مثله كمثل الفيلسوف اللبيب، و العالم الكفوء. و العارف متنوّر الضمير، إذ اطّلع
على الحقائق، و أدرك أوضاع الناس و مصالحهم و مفاسدهم، و استطاع أن يشخّص بحسّه المرهف في معرفة الناس، أعقل الأشخاص و أعلمهم و أورعهم و أشجعهم و أبصرهم بشؤون الامّة و مصالحها لينتخبه قائداً للناس.
و من الطبيعيّ فإنّ هؤلاء يندر وجودهم في كافّة المجتمعات البشريّة، و يصعب العثور عليهم.
و ثمّة طائفة اخرى لم يبلغ أفرادها تلك الدرجة من الكمال، بَيدَ أنّهم يطمحون إلى تطوير قواهم العلميّة و العمليّة و تكميلها، و يريدون إيصال أنفسهم إلى الكمال من خلال التدرّج في المراحل العقليّة و العمليّة و اجتياز الدروس التربويّة.
و هؤلاء يتواجدون في المجتمعات البشريّة، و عددهم أيضاً ليس قليلًا، لكنّهم قليلون للغاية إذا ما قيسوا بجماهير الامّة، و إنّهم و إن لم يبلغوا درجة الشريحة الأولى في تشخيص الحقّ من الباطل، بَيدَ أنّهم ألمّوا بهذه المرحلة إلى حدّ ما.
و هناك طائفة ثالثة، و هم عامّة الناس الذين يُؤَلّفون جماهير الامّة. و هؤلاء لم يرتقوا إلى مستوى عال من العلم و العمل، و لم يخطوا خطوة واحدة على هذا الطريق. و إنّهم يسيرون وراء بريق المظاهر و الألوان و الروائح، فكلّ ما يبهر العيون يستقطبهم إليه. و هم و إن كانوا فارغين معنويّا و بعيدين عن الواقع، لكنّهم هم الذين يُدلون بأصواتهم لأجمل المرشّحين، و يجتذبهم كلّ مرشّح تكثر صوره و دعاياته، و تركّز عليه وسائل الإعلام.
و لو تقرّر فرضاً تفويض الرأي إلى جميع الناس، و إشراكهم في انتخاب القائد، فينبغي أن يجري هذا التفويض وفق معدّل من ميزان العقل
و وعى الناس، فمثلًا يحقّ لعامّة الناس الإدلاء بصوت واحد، و لطلّاب المدارس بعشرة أصوات، و لطلّاب العلوم الدينيّة بمائة صوت، و للعلماء بألف صوت، و للحكماء و الفلاسفة الإلهيّين بعشرة آلاف صوت، و للعلماء الربّانيّين العارفين الذين تحرّروا من ربقة أنفسهم و أهوائهم، و وجدوا طريقهم إلى الحقّ و الحقيقة و وصلوا إلى الكلّيّة بمائة ألف صوت، و للإمام الذي تربّع في مصدر الولاية، و هو من عالم الأمر قلق على عالم الخلق، و قد انشرح صدره لتلقّي الأنوار الإلهيّة و بثّها في عالم الكثرة، فكان في منهل الشرع و الشريعة، له كلّ الأصوات. و يجب أن ينظر إليه على أنّه صاحب القرار الوحيد حتى في اختيار الإمام من قبل الله. و هذا هو منطق الشيعة، فهم يقولون: أنّ حقّ اختيار الإمام لله، و نصبه يكون بواسطة النبيّ أو الإمام الذي يسبقه.
و أنتم يا دعاة الحرّيّة الجهلاء! هل تمنحون جماهير الامّة حقّ انتخاب الإمام على أساس نفس هذا المعيار؟ و هل تقسمّون الناس إلى طبقات مختلفة، فتمنحونهم حقّ الانتخاب وفق معدّلات متفاوتة؟!
فالتصويت عندكم على أساس أكثريّة أصوات الناس بلا فرق بين العالم الفاضل و الجاهل البليد أو دماغ الدولة المفكّر أو العامّيّ الفارغ فلكل منهم صوت واحد.
و هذا اسلوب خاطي من منظار العقل و المعرفة. و هو اسلوب يهبط بقيمة العقل و العقلاء و العلم و العلماء إلى الحضيض، و يجعل رأي العالم و الجاهل، و المطّلع على شئون المجتمع و غير المطّلع سواء، في مقياس قيمة التصويت، و يضع أصحاب المعرفة و الوعي في نفس الدرجة التي عليها السذّج البسطاء!
فكيف تجيبون على هذه المسألة؟! و ما هو موقفكم في ساحة العدل
الإنسانيّ و شرف الإنسانيّة؟! و كيف تضيّعون حقوق عامّة الناس بترك انتخاب الإمام الذي يرضاه العقلاء و المفكّرون في المجتمع؟ كيف تضيّعون ذلك في مقابل العدل الإلهيّ؟ و من ثمّ تجرّون المجتمع نحو الانحطاط و الفساد.
هذه مؤاخذة اسجّلها على رافعي لواء الديمقراطيّة الجاهليّة، و هي ممّا ألهمنيه الله، تبارك و تعالى. هيّا، أجيبوا! و هيهات أن تقدروا على الجواب!
بحث كتب التاريخ و علم الاجتماع في أُسلوب تفكير عموم الناس
لقد تحدّثت كتب التاريخ و علم الاجتماع عن طبيعة الأفكار السائدة عند عامّة الناس؛ و قدّمت أكثر تلك الكتب وصفاً يثير العجب لتلك الأفكار. و كمثال على ذلك نذكر شيئاً منها جاء في كتاب «مروج الذهب» للمؤرّخ الشيعي أبي الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ المسعوديّ المتوفّى سنة ٣٦٤ ه-. فقد قال هذا المؤرّخ:
و بلغ من إحكام معاوية للسياسة و إتقانه لها و اجتذابه قلوب خواصّه و عوامّه أنّ رجلًا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفّين، فتعلّق به رجل من دمشق، فقال: هذه ناقتي، اخذت منّي بصفّين، فارتفع أمرهما إلى معاوية، و أقام الدمشقيّ خمسين رجلًا بيّنة يشهدون أنّها ناقته. فقضى معاوية على الكوفيّ، و أمره بتسليم البعير إليه. فقال الكوفيّ: أصْلَحَكَ الله! إنّه جمل و ليس بناقة، فقال معاوية هذا حكم قد مضى. و دسّ إلى الكوفيّ بعد تفرّقهم. فأحضره، و سأله عن ثمن بعيره. فدفع إليه ضعفه. و برّه، و أحسن إليه، و قال له: أبلغ عليّاً أنّي اقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرّق بين الناقة و الجمل.
و قد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنّه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفّين الجمعة في يوم الأربعاء، و أعاروه رؤوسهم عند القتال و حملوه بها.
[و لمّا قُتل عمّار بن ياسر على يد أهل الشام، و كان في أصحاب أمير المؤمنين، (و كان قد بلغ أهل الشام حديث رسول الله فيه من أنّ عمّاراً تقتله الفئة الباغيّة)] ركنوا إلى قول عمرو بن العاص: أنّ عليّاً هو الذي قتل عمّار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، صدّقه جميعهم، و رأوا كلامه حجّة، و اعتبروا عليّاً و أعوانه هم الفئة الباغيّة.
ثمّ ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن الإمام عليّ عليه السلام سنّة، ينشأ عليها الصغير، و يهلك عليها الكبير.
و يقول المسعوديّ: [و من غفلة أهل الشام و العراق] ما ذكره بعض الأخباريّين أنّه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم و أهل الرأي و العقل منهم: مَن أبو تراب (عليّ بن أبي طالب) هذا الذي يلعنه الإمام علي المنبر؟ قال: أراه لصّاً من لصوص الفتن.
و حكى الجاحظ، قال: سمعت رجلًا من العامّة و قد ذُكر له أهل البيت يقول: إذا أتيته مَن يكلّمني منه؟ و إنّه أخبره صديق له أنّه قال له رجل منهم، و قد سمعه يصلّي على محمّد [صلّى الله عليه و آله و سلّم]: ما تقول في محمّد هذا؟ أ ربّنا هو؟
و ذكر ثمامة بن أشرس، قال: كنتُ مارّاً في السوق ببغداد، فإذا أنا برجل عليه الناس مجتمعون، فنزلتُ عن بغلتي، و قلتُ: لِشيء ما هذا الاجتماع؟ و دخلتُ بين الناس، و إذا برجل يصف كحلًا معه إنّه ينجح من كلّ داء يصيب العين. فنظرت إليه، فإذا عينه الواحدة رشاء،۱ و الاخري
مأسوكة.
فقلتُ له: يا هذا! لو كان كحلك ما تقول لِمَ لَم ينفع عينيك؟! فقال لي: يا جاهل! أ هاهنا اشتكت عيناي؟! إنّما اشتكتا بمصر، فقال كلّهم: صدق. [و اعتراضك هذا ليس في محلّه].
[يقول ثمامة: و لمّا أردتُ أن افهمهم بأنّ هذا الرجل يغالط، و حتى لو اشتكت العين بمصر، فالكحل الآن ببغداد، و لا بدّ أن ينفعها، لكنّهم لم يفهموا أبداً] و ذكر أنّه ما انفلت من نعالهم إلّا بعد كَدّ.
يقول المسعوديّ بعد نقل هذه الأخبار عن الجاحظ و ثمامة: و ذكر لي بعض إخواني: أنّ رجلًا من العامّة بمدينة السلام (بغداد) رفع إلى الولاة الطالبيّين لأصحاب الكلام على جار له أنّه يتزندق، فسأله الواليّ عن مذهب الرجل. فقال: إنّه مُرجِئيّ، قَدَرِيّ، ناصبيّ، رافضيّ. فلمّا قصّه عن ذلك، قال: إنّه يبغض معاوية بن الخطّاب الذي قاتل عليّ بن العاصّ. فقال له الواليّ: ما أدري على أي شيء أحسدك: على علمك بالمقالات، أو على بصرك بالأنساب؟
[و يقول المسعوديّ أيضاً]: و أخبرني رجل من إخواننا من أهل العلم، قال: كنّا نقعد نتناظر في أبي بكر، و عمر، و عليّ، و معاوية، و نذكر ما يذكره أهل العلم. و كان قوم من العامّة يأتون فيستمعون ٠۱ منّا. فقال لي ذات يوم بعضهم، و كان أعقلهم و أكبرهم لحية! كم تطنبون في عليّ
و معاوية، و فلان، و فلان؟ فقلتُ له: فما تقول أنت في ذلك؟! قال: مَن تريد؟ قلتُ: عليّ، ما تقول فيه؟ قال: أ ليس هو أبو فاطمة؟ قلتُ: و من كانت فاطمة؟ قال: امرأة النبيّ عليه السلام بنت عائشة اخت معاوية! قلتُ: فما كانت قصّة عليّ؟ قال: قتل في غزاة حنين مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم.
[و يقول المسعوديّ بعد نقله قصّة اخرى عن بني اميّة و السفّاح]: و قد كان ببغداد رجل في أيّام هارون الرشيد متطبّب يطبّب العامّة بصفاته.
و كان دهريّاً يظهر أنّه من أهل السنّة و الجماعة، و يلعن أهل البدع و يعرف بالسنّيّ، تنقاد إليه العامّة. فكان يجتمع إليه في كلّ يوم بقوارير۱ الماء خلق من الناس.
فإذا اجتمعوا، وثب قائماً على قدميه، فقال لهم: معاشر المسلمين! قلتم: لا ضارّ و لا نافع إلّا الله. فلأيّ شيءٍ مصيركم إلى تسألونني عن مضارّكم و منافعكم؟! إِلْجؤوا إلى ربّكم. و توكّلوا على بارئكم، حتى يكون فعلكم مثل قولكم.
فيقبل بعضهم على بعض، فيقولون: أي و الله قد صدقنا. فكم من مريض لم يعالج حتى مات. و منهم من كان يتركه حتى يسكن ثمّ يريه قارورة الماء، فيصف له الدواء، فيقول: إيمانك ضعيف، و لو لا ذلك لتوكّلت على الله كما أمرضك فهو يبرئك، فكان يقتل بقوله هذا خلقاً كثيراً لتزهيده إيّاهم في معالجة مرضاهم.
[و يواصل المسعوديّ حديثه بعد هذا الكلام فيقول] و من أخلاق العامّة أن يُسَيّدوا غير السيّد، و يفضّلوا غير الفاضل، و يقولوا بعلم غير العالم، و هم أتباع من سبق إليهم من غير تمييز بين الفاضل و المفضول و الفضل و النقصان و لا معرفة للحقّ من الباطل عندهم.
ثمّ انظر، هل ترى إذا اعتبرتَ ما ذكرنا، و نظرتَ في مجالس العلماء، هل تشاهدها إلّا مشحونة بالخاصّة من أولي التمييز و المروءة و الحِجا.
«... هَمَجٌ رَعَاعٌ لَا يَعْبَأُ اللهُ بِهِمْ»
و تَفقّد العامّة في احتشادها و جموعها، لا تراهم الدهر إلّا مسرعين إلى قائد دبّ، و ضارب بدفّ على سياسة قرد، أو متشوّقين إلى اللهو و اللعب أو مختلفين إلى مشعبذ فتمسّ ممخرق، أو مستمعين إلى قاصّ كذّاب، أو مجتمعين حول مضروب، أو وقوفاً عند مصلوب. يُنعَق بهم فيتّبعون و يُصاح بهم فلا يرتدعون. لا ينكرون منكراً، و لا يعرفون معروفاً و لا يبالون أن يلحقوا البارّ بالفاجر، و المؤمن بالكافر. و قد بيّن ذلك رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم فيهم حيث يقول: «النّاسُ اثنَانِ: عَالِمٌ وَ مُتَعَلِّمٌ، وَ مَا عَدَا ذَلِكَ هَمَجٌ رَعَاعٌ لا يَعبَا اللهُ بِهِم». و كذلك ذكر
عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام و قد سُئل عن العامّة، فقال: «هَمَجٌ رَعَاعٌ؛ أتْبَاعُ كُلِّ ناعِقٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ العِلْمِ، وَ لَمْ يَلْجَؤُوا إلى رُكْنٍ وَثِيقٍ»
و أجمع الناس في تسميتهم على أنّهم غَوغاء۱. و هم الذين إذا اجتمعوا، غلبوا و إذا تفرّقوا، لم يعرفوا.
ثمّ تدبّر تفرّقهم في أحوالهم و مذاهبم، فانظر إلى إجماع مَلَأهم، أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم قام يدعو الخلق إلى الله اثنتين و عشرين سنة، و هو ينزل عليه الوحي، و يمليه على أصحابه، فيكتبونه و يدوّنونه و يلتقطونه لفظة لفظة. و كان معاوية في هذه المدّة بحيث لا يعلمها إلَّا الله. ثمّ كتب له صلى الله عليه و آله و سلّم قبل وفاته بشهور. فأشادوا بذكره، و رفعوا من منزلته: بأن جعلوه كاتباً للوحي، و عظّموه بهذه الكلمة و أضافوه إليها، و سلبوها عن غيره، و أسقطوا ذكر سواه.
و أصل ذلك العادة و الإلفة، و ما ولدوا عليه، و ما نَشَئوا فيه، فألفوا وقت التحصيل و البلوغ، و قد عملت العادة عملها، و بلغت مبالغها. و في العادة قال الشعراء، و تكلّم أهل الدراية و الادباء. قال الشاعر:
لا تُهِنّى بَعْدَ إِذ أكْرَمتَنِي | *** | فَشدِيدٌ عَادَةٌ مُنْتَزَعَة |
و قال آخر معاتباً لصاحبه:
وَ لَكِنْ فِطَامُ النَّفْسِ أثْقَلُ مَحْمِلًا | *** | مِنَ الصَّخرَةِ الصَّمَّاءِ حِينَ تَرُومُها |
و قد قالت حكماء العرب: العادَةُ أملَكُ بِالأدَبِ. و قالت حكماء
العجم: العَادَةُ هِيَ الطبِيعَةُ الثانِيةُ.
و قد صنّف أبو عِقالِ الكاتب كتاباً في أخلاق العوامّ يصف فيه أخلاقهم و شيمهم و مخاطباتهم، و سمّاه ب «المُلْهي». و لو لا أنّي أكرهُ التطويل و الخروج عمّا قصدنا إليه في هذا الكتاب من الإيجاز، لشرحتُ من نوادر العامّة و أخلاقها، و ظرائف أفعالها عجائب، و لذكرتُ مراتب الناس في أخلاقهم و تصرّفهم في أحوالهم.۱
أجل، لقد نقلنا هذه المعلومات التاريخيّة عن كتابٍ لمؤرّخ و عالم اجتماعيّ مشهور، يوثّقه العامّة و الخاصّة، لتكون سنداً و حجّة للمؤالف و المخالف.
و ليعلموا أنّ عامّة الناس الذين يعيشون بهذا المستوى من الفكر و الخيال و العاطفة لا يستطيعون تعيين الإمام المعصوم.
إنّ للإمام فرقاناً إلهيّاً يميّز به الحقّ من الباطل
فروح الإمام عليه السلام في نقطة من ذروة الحقائق و إدراك المعنويات و تشخيص الحقّ من الباطل. و للإمام فُرقانٌ إلهيّ يفرق بين الصحيح و غير الصحيح، بل هو في الدرجة العليا من هذا الفرقان. أي أنّ له قوّة تشخيصيّة و رادار نفسانيّ لا يخطئ. و لا يندم على ما فعل. {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً}٢. و هو كالفرقان الذي جعله الله لموسى و هَارون على نبيّنا و آله و عليهما الصلاة و السلام {وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ}٣.{وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}۱
و للإمام بصيرة و نور يميّز بهما الطريق من الحفرة، و الصالح من الطالح، و الحقّ من الباطل، و يسير في ضوئهما؛ و ينظّم شئونه و شئون المتعلّقين به و بمجتمعه على أساسهما.{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ}٢
و من الواضح أنّ للإمام درجة عالية من هذا النور، فأنّي للناس العوام و العاديّين أن يصلوا إلى ذلك النور ليعرفوا الإمام ببصيرتهم لا ببصرهم، فينتخبوه؟!
و في ختام هذا الدرس نذكر رواية قيّمة للغاية حول شروط الإمام و هي مأثورة عن معدن الولاية و الإمامة عليّ بن موسى الرضا عليه السلام:
حديث الإمام الرضا عليه السلام الخاصّ بشروط الإمام
تحدّث المرحوم محمّد بن يعقوب الكلينيّ٣ عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنّا مع الرضا عليه السلام بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة و ذكروا كثرة اختلاف الناس فيها. فدخلتُ على سيّدي الرضا عليه السلام فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسّم عليه السلام ثمّ قال: يا عبد العزيز! جَهِل القوم و خُدِعوا عن آرائهم. أنّ الله عزّ و جلّ لم يقبض نبيّه صلى الله عليه و آله حتى أكمل له الدين و أنزل عليه القرآن فِيهِ تِبْيَانٌ كُلِّ شَيءٍ. بَيّن فيه الحلال و الحرام، و الحدود و الأحكام، و جميع ما يحتاج إليه الناسُ، فقال عَزّ وَ جلّ: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ
شَيْءٍ}۱. و أنزل في حجّة الوداع، و هي آخر عمره صلى الله عليه و آله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}٢. و أمْرُ الإمامة من تمام الدين. و لم يمضِ صلى الله عليه و آله و سلّم حتى بيّن لُامّته معالمَ دينهم و أوضحَ لهم سبيلهم و تركهم على قصد سبيل الحقّ. و أقام لهم عليّاً عليه السلام عَلماً و إماماً، و ما ترك لهم شيئاً تحتاج إليه الامّة إلّا بيّنه. فمن زعم أنّ الله عزّ و جلّ لم يكمل دينه، فقد ردّ كتابَ الله، و من ردّ كتاب الله، فهو كافر به. هل يعرفون قدر الإمامة و محلّها من الامّة، فيجوز فيها اختيارهم؟
«أنّ الإمَامَةَ أجَلُّ قَدْراً وَ أعْظَمُ شَأناً وَ أعْلَى مَكَاناً وَ أمْنَعُ جَانِباً وَ أبْعَدُ غَوراً مِنْ أن يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أو يَنَالُوها بِآرائِهِم أو يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيارِهِمْ». أنّ الإمامة خصّ الله عزّ و جلّ بها إبراهيم الخليل بعد النبوّة و الخُلّة مرتبة ثالثة و فضيلة شرّفه بها و أشاد بها ذكره، فقال: {نِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً}٣. فقال الخليل عليه السلام سروراً بها {وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي} قال الله تبارك و تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة، و صارت في الصفوة. ثمّ أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة و الطهارة فقال:
{وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ ، وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ
وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ}۱.
فلم تزل في ذرّيّته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورّثها الله تعالى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال جلّ و تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}٢
فكانت له خاصّة، فقلّدها صلى الله عليه و آله عليّاً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذرّيّته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم و الإيمان، بقوله تعالى: {وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ}٣
فهي في ولد عليّ عليه السلام خاصّة إلى يوم القيامة، إذ لا نبيّ بعد محمّد صلى الله عليه و آله و سلّم فمن أين يختار هؤلاء الجهّال الإمام؟
أنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء، و إرث الأوصياء. أنّ الإمامة خلافة الله و خلافة الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم و مقام أمير المؤمنين عليه السلام و ميراث الحسن و الحسين عليهما السلام. أنّ الإمامة زمام الدين، و نظام المسلمين، و صلاح الدنيا، و عزّ المؤمنين. أنّ الإمامة اسُّ الإسلام الناميّ، و فرعه الساميّ. بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحجّ و الجهاد، و توفير الفيء و الصدقات، و إمضاء الحدود و الأحكام و منع الثغور و الأطراف.
الإمام يحلّ حلال الله، و يحرّم حرام الله، و يقيم حدود الله، و يذبّ عن دين الله، و يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة، و الموعظة الحسنة، و الحجّة
البالغة. الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم، و هي في الافق بحيث لا تنالها الأيدي و الأبصار.
الإمام البدر المنير، و السراج الزاهر، و النور الساطع، و النجم الهادي في غياهب الدجى و تيه البلدان و القفار، و لجج البحار. الإمام الماء العذب على الظمأ، و الدالّ على الهدى، و المنجي من الردى. الإمام النار على اليفاع، الحارّ لمن اصطلى به، و الدليل في المهالك. من فارقه فهالك. الإمام السحاب الماطر، و الغيث الهاطل، و الشمس المضيئة، و السماء الظليلة، و الأرض البسيطة، و العين الغزيرة، و الغدير و الروضة.
الإمام الأنيس الرفيق، و الوالد الشفيق، و الأخ الشقيق، و الامّ البرّة بالولد الصغير، و مفزع العباد في الداهية النئاد۱. الإمام أمينُ الله في خلقه، و حجّته على عباده، و خليفته في بلاده، و الداعي إلى الله، و الذابّ عن حرم الله.
الإمام المطهّر من الذنوب و المبرّأ عن العيوب، المخصوص بالعلم الموسوم بالحلم، نظام الدين، و عزّ المسلمين، و غيظ المنافقين، و بوار الكافرين.
الإمام واحدُ دهره، لا يدانيه أحد، و لا يعادله عالم. و لا يوجد منه بدل و لا له مثل و لا نظير. مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منه له و لا اكتساب، بل اختصاص من المفضّل الوهّاب. فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره، هيهات هيهات!
ضلّت العقول، و تاهت الحلوم، و حارت الألباب، و خَسِئَت العيون، و تصاغرت العظماء، و تحيّرت الحكماء، و تقاصرت الحلماء و حصرت الخطباء، و جهلت الألبّاء، و كلّت الشعراء، و عجزت الادباء.
و عيبت البلغاء عن وصف شأن من شأنه، أو فضيلة من فضائله، و أقرّت بالعجز و التقصير. و كيف يوصف بكلّه، أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه و يغني غناه؟ لا، كيف؟ و أنّى؟ و هو بحيث النجم من يد المتناولين، و وصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا؟ و أين العقول عن هذا؟ و أين يوجد مثل هذا؟
أ تظنّون أنّ ذلك يوجد في غير آل الرسول محمّد صلى الله عليه و آله و سلّم؟ كذبتهم- و الله- أنفسهم، و منّتهم الأباطيل، فارتقوا مرتقى صعباً دحضاً، تزلّ عنه إلى الحضيض أقدامهم. راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة، و آراء مضلّة. فلم يزدادوا منه إلّا بعداً، {قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}۱. و لقد راموا صعباً، و قالوا إفكاً، و ضلّوا ضلالًا بعيداً، و وقعوا في الحيرة، إذ تركوا الإمام عن بصيرة، {وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}.٢ رغبوا عن اختيار الله، و اختيار رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و أهل بيته إلى اختيارهم. و القرآن يناديهم: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}٣. و قال: {ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ ، أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ، أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ
فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ}۱. و قال عزّ و جلّ: {أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها}٢. ام: {طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}٣. أم: {قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ، وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ}٤. أم: {قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا}٥
بَلْ هُوَ فَضْلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَ اللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ. فكيف لهم باختيار الإمام؟ و الإمام عالم لا يجهل، و راع لا ينكل، معدن القُدس و الطهارة، و النسك و الزهادة، و العلم و العبادة، مخصوص بدعوة الرسول صلى الله عليه و آله و نسل المطهّرة البتول، لا مَغْمَز فيه في نسب، و لا يدانيه ذو حسب في البيت، من قريش و الذروة من هاشم، و العترة من الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم و الرضا من الله عزّ و جلّ، شرف الأشراف، و الفرع من عبد منافٍ، نامي العلم، كامل الحلم، مضطلعُ بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله عزّ و جلّ، ناصِحٌ لعباد الله، حافظ لدين الله.
إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء و إرث الأوصياء
أنّ الأنبياء و الأئمّة صلوات الله عليهم يوفّقهم الله و يؤتيهم من مخزون علمه و حكمه ما لا يؤتيه غيرَهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا
أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}۱. و قوله تبارك و تعالى: {وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}٢. و قوله في طالوت {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}٣
و قال لنبيّه صلى الله عليه و آله: {أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}٤. و قال في الأئمّة من أهل بيت نبيّه و عترته و ذرّيته، صلوات الله عليهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً}٥
و أنّ العبد إذا أختاره الله عزّ و جلّ لُامور عباده، شرح صدره لذلك و أودع قلبه ينابيع الحكمة، و ألهمه العلم إلهاماً. فلم يعي بعده بجواب و لا يحير فيه عن الصواب. فهو معصوم مؤيّد، موفّق مسدّد. قد أمن من الخطايا و الزلل و العثار، يخصّه الله بذلك ليكون حجّته على عباده و شاهده على خلقه. و: {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.٦
فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه؟ أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدّمونه؟ تعدّوا- و بيت الله- الحقّ، و نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون، و في كتاب الله الهدى و الشفاء، فنبذوه و اتّبعوا
أهوآءهم، فذمّهم الله و مقّتهم و أتعسهم، فقال جلّ و تعالى: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}۱. و قال: {فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ}.٢ و قال: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}.٣ و صلى الله على النبيّ محمّد و آله و سلّم تسليماً كثيراً.
أجل، لمّا فاض هذا الحديث عن معدن الولاية، و ينبوع الإمامة و ترشّح عن شفتي الإمام الثامن، و كانت كلّ كلمة من كلماته كنزاً نفيساً ينبغي التفكير به مليّاً، و طلب فهمه و إدراك حقائقه من الله، أتينا به كلّه تنويراً للعقول، و تفريحاً للقلوب، و إنعاماً للعيون.
و نستخلص من بحثنا هذا، أنّ الطريق لاختيار الإمام مسدود بوجه الإنسان. و لمّا كان فكره لا يصل إلى مقامات الإمام و درجاته. و مستواه لا يتجاوز حدود أفكاره و أهوائه، فليس له مثل ذلك الحقّ.
ليس للعامّة من سبيل لإدراك كمالات الإمام
و قال البعض٤: كما أنّ احتمال الخطأ موجود في الخبر الواحد، و غير موجود في الخبر المتواتر، إذ أنّ المتواتر يفيد اليقين، فلذلك، إذا أراد شخص واحد أن ينتخب الإمام، فاحتمال الخطأ في انتخابه كبير، بَيدَ أنّه كلّما أزداد عدد الناخبين، فإنّ ذلك الاحتمال يضعف، فيما إذا قام إجماع أهل الحلّ و العقد على ذلك، إلى أن يزول شيئاً فشيئاً، و تكون نتيجة الأصوات معصومة. و نقول هنا بأنّه قد اتّضح من خلال بحثنا أنّ هذه الدعوى باطلة، و الخبر المتواتر لا يسعفنا في هذا المجال؛ لأنّ شرطه أن يخبر المخبرون من أشياء محسوسة، و ذلك أنّ احتمال الخطأ وحده وارد
في كلّ إخبار من إخباراتهم، و يحصل اليقين بصدق الخبر من خلال كثرة المخبرين بدون تواطُؤ. و أمّا إذا أخبروا عن المعقولات و الآراء، فلا يفيد خبرهم اليقين أبداً. و بصورة عامّة، فإنّ الخبر المتواتر لا ينطبق على هذه الامور. و هكذا موضوع انتخاب الإمام، فإنّه لا يتيسّر لُاناس ليس بمقدورهم أن يدركوا فضائل الإمام و ملكاته و نفسيّاته الخفيّة المخفيّة و حالاته الروحيّة و درجات قربه من عوالم التوحيد، سواء كانوا شخصاً واحداً أو مائة ألف شخص؛ فإنّهم كلّهم في درجة واحدة و مستوى واحد، و سوف لن تنكشف تلك الملكات و الفضائل الروحيّة باجتماعهم و انتخابهم أبداً. لذلك فإنّ طريق الإختيار مسدود، و أنّ اختيارهم لن ينتج عصمة في الرأي و صوناً عن الخطأ
الدَّرْسُ الْعشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الإمَام أَفْضَل الأُمَّة وَ عَلَى رَأسِ أُمُورِهَا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ علي محمّد و آله الطّاهرين
و لعنة اللهِ علي أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا باللهِ العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا}۱
أنّ ما يفهم عن الإمامة من منظار العقل و الشرع هو أنّ الإمامة- كالنبوّة- منصب من الله علي أساس اللطف بالعباد، مع أنّ شأن الرسول هو تشريع الأحكام و القوانين بواسطة الوحي الإلهيّ، و شأن الخليفة هو إيصال الأحكام و تبيين الآداب و السنن، و توضيح المجملات، و تفسير المعضلات، و تطبيق الآيات و الكمالات علي المصاديق و الموضوعات و القتال علي التأويل كما قاتل النبيّ علي التنزيل؛ و كذلك إظهار و بيان صريح للبعض خصوصيّات الأحكام التي لم تساعد الظروف علي التصريح بها في عصر رسول الله لأسباب ما، أو بسبب تأخّر الظروف و عدم تحقّق
موضوعاتها، أو بسبب عدم استعداد النفوس لقبولها، و كما أنّ اصول الكتاب نزلت علي الناس تدريجياً، و أنّ القوانين و الأحكام وصلتهم شيئاً فشيئاً لأسباب ما، فكذلك فروع الأحكام، و خصوصيّات الموضوعات و بيان الحقائق، و تأويل القرآن، فإنّ كلّ تلك الأشياء ينبغي أن تتّضح لهم تدريجياً. و هذا هو ما يقوم به الخليفة و الإمام.
لزوم نصب الإمام المعصوم عليه السلام حسب قاعدة اللطف
في لزوم نصب الإمام المعصوم حسب قاعدة اللطف الإلهيّ لمّا اقتضي اللطف الإلهيّ أن يصطفي الله الأنبياء لتقريب العباد إلى طاعة الله و إبعادهم عن معصيته، و الوصول إلى مقام القرب و حرم الله الآمن، ليؤدّبوا العباد بآداب العبوديّة، و يُعَلّموهم ما خفي عليهم و جهلوه و يُعْلّموهم أنّ الله لم يخلقهم كالأنعام ليأكلوا و يشربوا و يعيشوا غافلين، بل خلقهم للمعرفة، حتى يتلمّسوا طريق رضاه بتوجيه الأنبياء و إرشادهم و بذلك يَسّر عليهم طرق السلوك، و أتمّ عليهم الحجّة بإرسال الرسل و إنزال الكتب، و تتابع الوحي الإلهيّ في كلّ عصر، و هداهم إلى طريق السعادة بواسطة الأنبياء. لمّا اقتضي اللطف الإلهيّ كلّ تلك الأشياء، فكذلك اقتضي أن يكون للدين أئمّة بعد الأنبياء و هم أفضل الخلق و أعرفهم و أعلمهم بحقائق الدين، لكي يوصلوا النفوس التي لم تكتمل بعدُ إلى الكمال و يبلّغوا الأحكام المشرّعة التي لم تُبَلّغ للناس لأسباب ما، و يربّوا الأشخاص الذين لم يتشرّفوا برؤية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و الاستفادة منه فيقودوهم نحو طريق الهداية، و ليس من المعقول أن يهمل الله الامّة و يتركها بدون من يدير شئونها، في حين أنّ جميع الناس متساوون من حيث الحاجة إلى من يربّيهم و يعلمهم، و جميعهم متكافئون من حيث شمولهم بقاعدة اللطف الإلهيّ.
إذَن، من اللازم علي الله تبارك و تعالى أن يبعث من يوجّه النفوس نحو الكمال، و هو الذي يكمل الشريعة ببيانه، و يدفع شبهات الملحدين و ينير عالم الجهل بنور العرفان، و يوضّح معارف الدين و أسراره للنفوس، المستعدّة. و يصدّ أعداء الدين بقوّة السلاح، و يقوّم الاعوجاج بيده و لسانه، و يرفع النقائص و يملأ الفراغ. و لمّا كانت هناك فاصلة زمانيّة بين نبيّينِ، و لا وجود لشريعة و قانون بعد خاتم النبيّين، فسوف يكون وجود الإمام بين الشرائع، و بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم لازماً و ضروريّاً بوصفه العلّة المبقيّة لأساس الفرض. و لمّا أخذ الله علي نفسه أن يمنّ علي عباده بلطفه الخفيّ، و يرعاهم رعاية دقيقة، و يهديهم و يحسن بهم، و لا يريد إلّا خيرهم و سعادتهم، لذلك عليه أن لا يترك دين نبيّه ناقصاً بارتحاله، و إنّما يواصل رعايته للدين من خلال تعيين الإمام الذي يستطيع هو فقط أن يحمل هذه المهمّة الثقيلة، و هو الانموذج الأكمل و المثل الأعلى لوجود النبيّ في كافة الخصوصيّات؛ و هو الذي يقود الناس نحو الكمال. من هذا المنطق كان تعيين الوصيّ فرضاً علي النبيّ، لذلك نصب اللهُ عليّاً بن أبي طالب عليه السلام وصيّاً علي الامّة كافّة، بواسطة النبيّ. و مضافاً إلى التأكيدات الواردة علي خلافته و وصايته طيلة عصر النبوّة الممتدّ ثلاث و عشرين سنة سواء في مكّة أو في المدينة. أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم عند ما عاد من حجّة الوداع، وقف عند غدير خم فنصب عليّاً إماماً و خليفة بمشهد و مرأي مائة ألف من المسلمين أو يزيدون.
و لكن ما إن رحل رسول الله إلى ربّه حتى تآمر القوم في سقيفة بني ساعدة ضدّ النصّ النبويّ الشريف متدَرّعين بالتحمّس للإسلام، فأعرضوا عن وصيّ رسول الله، و دعوا الناس إلى بيعتهم، و فعلوا من الأفاعيل ما
فعلوا. حتى إذا ارتقوا مِنبر النبيّ، عجزوا عن تلبيّة حاجات الناس، و عيوا عن الإجابة علي أسئلتهم و حلّ مشاكلهم، و وهنوا في إدارة شئون المسلمين حتى علي الصعيد الظاهريّ و رجعوا إلى قطب الرحي أو مولي المولي كراراً و مراراً. لذلك رأي علماء السنّة و أنصارهم أنّ إمامة الأفضل غير واجبة علي الامّة، و يمكن نصب المفضول مع وجود الأفضل، و لا يلزم تعيين الإمام من قبل الله. فالاختيار بِيَدِ الامّة، يولّون من شاءوا لزعامتهم. و عند ما يناقش هؤلاء و تتلي عليهم الآيات القرآنيّة، و الأخبار الصحيحة المأثورة في هذا الموضوع، و المثبّتة في كتبهم، فلا جواب لهم غير قولهم: لمّا كان هذا هو فعل السلف الصالح، و نحن لا حقّ لنا أن نتدخل و ننتقد فعل الصحابة، فعلينا أن نقرّ بكلّ ما فعلوه مهما كان الفاعل و مهما كان الفعل. و ليس لنا أن نناقش، و ننتقد، و نجرّح، و نعدّل، و نحلّل و ندقّق، {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ}۱
اعتذار أهل السنّة بشأن عدم انتقاد عمل الصحابة هو اعتذار الجاهليّين
فهذا الجواب هو جواب أهل الجاهليّة أنفسهم في مقابل البراهين الساطعة و الآيات الباهرة لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم فعند ما كان يقرأ عليهم آيات الله، و يسدّ منافذ الشرك عليهم عن طريق العقل و الفطرة. و يلزمهم بعبادة الله وحده، و يبيّن ذلك لهم بالدليل و البرهان كانوا يقولون: {نَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ}٢
و عند ما كان يقال لهم هلمّوا اتّبعوا أحكام الله، كانوا يقولون: لا نترك ما ألفينا عليه آباءنا: {وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا
عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ}۱
و نحن أيضاً نقول لأهل السنّة: هل الميزان في الدين و تعاليمه هو كتاب الله و سنّة نبيّه؟ أو أنّ لعمل الصحابة حجّيّته تجاههما؟ فلو كانت الحجّة كتاب الله و سنّة رسوله، فلا يجب أن يُخفَّق في أعمالهم بعرضها علي الكتاب و السنّة فيستحسن الحسن منه و يستقبح القبيح. أمّا إذا اتّخذنا عمل الصحابة دليلًا للاعتقاد و العمل و نظرنا إليه نظرتنا إلى الكتاب و السنّة، فعند ذلك يظهر لنا دين جديد متمخّضاً عن عمل الصحابة و عمل رسول الله. و من الطبيعيّ، فإنّ هذا الدين سوف لن يكون ديناً سماويّاً، و ذلك لأنّنا يجب أن نعطّل بعض السنّة أو بعض الكتاب و نضعهما جانباً بسبب حجّيّة عمل الصحابة، و نتركهما عند تعارضهما مع عمل الصحابة. و محصّلة ذلك أنّ عمل الصحابة هو ملاك العمل، فأين هذا التصوّر؟ و أين الإسلام؟
لقد أجاب السنّة جواب أهل الجاهليّة، و اتّخذوا من اتّباع السلف و الصحابة ملاكاً لعملهم معرضين عن الآيات القرآنيّة الصريحة و الأخبار المتضافرة المتواترة بشأن وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام و خلافته الحقّة. و قد أوّلوا كلّ واحدة منها بنحو لا يقبل التأويل، و برّروها بمبرّرات باهتة يدحضها المنطق: {وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ}٢
«و عند ما يقال لهم: تعالوا نتّبع ما أنزل الله و نقتدي بسيرة النبيّ
و عمله (و هما أصلان أصيلان للاعتقاد و العمل و لا نلحق بهما شيئاً آخر و نجعله من اصولنا الاعتقاديّة و لا نتّبع الأهواء الباطلة. الميزان هو الحق و كفي. لا عمل الصحابة. الميزان قول الله و سيرة رسوله، لا عمل البشر المعرّضين للخطأ) قالوا: حسبنا سيرة آبائنا و كبرائنا (يقول الله): أنّ آباءهم لا يعلمون شيئاً أبداً و لا يهتدون إلى الطريق المستقيم».
أبحاث الشيعة مع أهل السنّة بالأبحاث التاريخيّة
يلاحظ في بعض الأقوال و كذلك في بعض الكتابات، أنّنا لما ذا نأتي بعد مضيّ ألف سنة و نحقّق في أقوال الصحابة و أفعالهم، و نلقي اللوم و العتاب عليهم، و نقيس أقوالهم و أفعالهم بميزان القرآن و الأخبار المأثورة عن الرسول الكريم. و نطعن في بعضهم فنخرجهم عن الصدق و الأمانة. لقد مضى عصر هذه المناقشات و المداولات، و ما يجدينا أساء الصحابة أم أحسنوا، فحسابهم على الله، و ما ذا يهّمنا من ذلك؟ و وقتنا ضيّق و عصرنا لا يسمح لنا أن نخوض في الاختلافات التي عرفنا آثارها في الماضي إذ أفضت إلى تهييج المشاعر و العواطف المذهبيّة، و هذا ما سيجرّ إلى الجدال و النزاع. و لكن عند ما نلقي نظرة عابرة على تلك التوجّهات، فسيتّضح لنا أنّها اعتراضات ليست في محلّها، لأنّ النظر في سيرة الصحابة ليس من باب تتبّع العثرات و العيوب حتى يثير العواطف بل هو من باب أن يكون ملاك عملنا و اسلوبنا على أساس صحيح و كفى. فلا نضمر قصداً آخر أبداً. و لنجلس مع إخواننا أهل السنّة باخوّة، و نناقش هذه القضايا بحرّيّة تامّة، و ننبذ كلّ لون من ألوان التعصّب الجاهليّ، لتتّضح كلّ حجّة من الحجج الشرعيّة التي هي ملاك عملنا، فلا نجعل عملنا- لا سمح الله- على أساس غير إسلاميّ و غير صحيح سنين طويلة و أعمار مديدة و قرون متمادية. فإذا لا نعرف الصحابة، و لا نعرف أساليبهم، و مستواهم العمليّ و الإيمانيّ، و جعلنا عملنا وفقاً لعملهم و سيرتهم سنين متمادية دون
أن نلتفت إلى ذلك، و احتججنا بأفعالهم، فهل هذا التوجّه صحيح أو لا؟ أنّموضوعنا لا يحوم حول إحسان الصحابة و إسائتهم من وجهة نظرهم الخاصّة بالذات. و أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «وَ الْحِسَابُ عَلَى اللهِ».۱
إنّما نعرض موضوعنا من حيث اصطدام عملنا بسيرتهم. هذا ألمٌ موخِز، فنحن نريد أن نكون مسلمين وفقاً لاعتقادنا، و نجعل الحقّ ملاكاً لعملنا، و نتوكّأ على شريعة سيّد المرسلين، و إذا بنا نرى أنّ الذي يجري هو معاكس لهذا الهدف، و ذلك بسبب السير وراء أشخاص لم ينطبق عملهم على الكتاب و السنّة، و نحن نحاول جاهدين أن يكون ديننا خالصاً لله، {وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}٢. ثمّ نجده ملوّثاً و مشوباً بالشوائب. فَهَذِهِ هِي المُصيِبَةُ العُظْمَى. و انّنا نخشى أن ننضوي تحت عنوان الآية الشريفة: {وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}٣ و نخشى كذلك أن نكون مصداقاً لهذه الآية: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ}٤
و نخاف أن نفتري على الله، و نمتعض من التشريع المحترم و نفرّ منه، {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}٥
نحن نريد أن نكون، و معنا جميع المسلمين، بل و كافّة أهل العالم تابعين للشريعة الحقّة و الدين الخالص النقيّ من جميع شوائب الخرافة
و التعصّب القوميّ و العنصريّ و المطهّر من كافّة الأوساخ و القاذورات التيعلقت به على مرّ التاريخ. {أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ}۱
فالدين الإسلاميّ هو دين العقل و العلم و البصيرة، دين التفكّر و التأمّل و الإمعان، و لذلك فعلينا أن نطّلع اطّلاعاً كافياً على تفاصيل السيرة النبويّة و سيرة الأئمّة المعصومين، و نتعرّف على اسلوب الصحابة و طريقة تفكيرهم بصورة تامّة، و لا نكتفي بالظنّ فقط. {وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا}٢. {وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}٣. {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ}٤
علماء السنّة يقولون بأنّ العصمة و الأفضلية غير واجبتين في الإمام
يقول علماء السنّة: العصمة و الأفضليّة غير واجبتين في الإمام؛ لأنّهم يعتبرون منصب الخليفة النظر في الشؤون الاجتماعيّة الشؤون العامّة فقط. مثل إقامة الحدود، و قطع يد السارق، و القصاص، و المحافظة على الأمن، و جمع الزكاة و حفظها. و الحرص على بيت المال و المحافظة عليه، و حراسة الحدود و الثغور، و تجهيز الجيش، و دفع الظلم، و تقسيم الفَيء بين المسلمين، و إرسال المسلمين إلى الحجّ و الجهاد. و يقولون: لا تجب الأفضليّة في مثل هذه الامور، فربّما يكون غير الأفضل و غير الأعلم أكفأ من غيره فيها، و أقدر عليها، و أصوب عملًا، لذلك يجب على الامّة عزل الأفضل، و نصب المفضول مكانه للخلافة. و يقولون: تنعقد الخلافة بوصيّة الخليفة السابق و تنصيصه، أو ببيعة أهل الحلّ و العقد. كما في وصيّة أبي بكر بالخلافة لعمر، و بيعة المسلمين للخلفاء التالين.
و لا تجب بيعة جميع أهل الحلّ و العقد، بل تكفي بيعة واحد أو اثنين منهم، أو خمسة كحدّ أعلى. و الدليل على ذلك هو أنّه لم يبايع أبو بكر يوم السقيفة إلّا بضعة أشخاص، هم: عمر، و أبو عبيدة بن الجرّاح، و اسَيد بن حَضير، و بشير بن سعد، و سالم مولَى أبي حُذَيفة.
قال الماورديّ: «اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتّى، فقالت طائفة: لا تنعقد إلّا بجمهور أهل العقد و الحلّ من كلّ بلد ليكون الرضاء به عامّاً، و التسليم لإمامته إجماعاً. و هذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها و لم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها. و قالت طائفة اخرى: أقلّ من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضى الأربعة استدلالًا بأمرين: أحدهما: أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثمّ تابعهم الناس فيها، و هم المذكورون سابقاً.
الثاني: أنّ عمر جعل الشورى في ستّة ليعقد لأحدهم برضى الخمسة. و هذا قول أكثر الفقهاء و المتكلّمين من أهل البصرة و قال آخرون: تنعقد بثلاثة يتولّاها أحدهم برضى الاثنين ليكونوا حاكماً و شاهدين كما يصحّ عقد النكاح بوليّ و شاهدين. و قالت طائفة اخرى: تنعقد بواحد؛ لأنّ العبّاس قال لعليّ: امْدُدْ يَدَكَ ابَايِعْكَ فَيَقُولَ النَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللهِ بَايَعَ ابْنَ عَمِّهِ فَلا يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ اثْنَانِ.»
تصريح أهل السنّة في عدم لزوم الإمام المعصوم عليه السلام
و الدليل الآخر هو «لأنّ البيعة حكم و حكم الواحد نافذ».۱
و يتّفق على هذا الموضوع، كفاية بيعة الواحد من أهل الحلّ و العقد، إمام الحرمين الجوينيّ في كتاب «الإرشاد»، و الإمام ابن العربيّ المالكيّ في «شرح صحيح الترمذيّ»، و القرطبيّ في تفسيره، و الإمام أبو المعالي و آخرون۱. و حتى التفتازانيّ يقول في «شرح المقاصد»: إذا مات الإمام و تصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة و استخلاف و قهر الناس بشوكة انعقدت الخلافة له. و كذا إذا كان فاسقاً أو جاهلًا عَلَى الأظْهَر إلّا أنّه يُعصى فيما فعل. و يجب طاعة الإمام ما لم يخالف حكم الشرع سواء كان عادلًا أو جائراً.٢
و أمّا الصفات التي يجب أن يتّصف بها الخليفة فهي: أن يكون قرشيّاً، و أن يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضياً من قضاة المسلمين، و أن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب، و تدبير الجيوش و السرايا و سدّ الثغور، و حماية البيضة، و حفظ الامّة، و الانتقام من ظالمها و الأخذ لمظلومها، و أن يكون ممّن لا تلحقة رقّة و لا هوادة في إقامة الحدود و لا جزع لضرب الرقاب و الأبشار. و لا يلزم أن يكون من أفضل الامّة، بل يسوغ نصب المفضول إذا اقتضت المصالح. و ليس من صفاته أن يكون معصوماً، و لا عالماً بالغيب، و لا أفرس الامّة و أشجعهم، و لا أن يكون من بني هاشم فقط، و هو و سائر الامّة في العلم سيّان، فلا يلزم أن يكون أعلم من غيره. فإن قالوا: إلى من يرجع الناس في المسائل، و إلى من يُرجعون ما خفي عليهم؟ قيل: الإمام ليس مسؤولًا عن ذلك، بل هو مسؤول عن الامور الاجتماعية الظاهريّة كما ذكرنا.
و قال جمهور أهل السنّة من أهل الإثبات: لا ينخلع الإمام بفسقه و غصب الأموال، و ضرب الأبشار، و تناول النفوس المحرّمة، و تضييعالحقوق، و تعطيل الحدود و سائر المحرمات، و لا يجب الخروج عليه، بل يجب و عظه و تخويفه. و إطاعته واجبة على كلّ حال حتى لو جار و استأثر بالأموال لما اثر عن النبيّ و الصحابة القول: «اسْمَعُوا و أطِيعُوا وَ لَو لِعَبْدٍ أجْدَعَ، وَ لَو لِعَبْدٍ حَبَشِيّ، وَ صَلَّوا وَراءَ كُلِّ بَرٍّ وَ فاجِرٍ. وَ رُوِيَ أنَّهُ قَالَ: أطِعْهُمْ وَ إِن أكَلُوا مَالَكَ وَ ضَرَبُوا ظَهْرَكَ وَ أطِيعُوهُمْ مَا أقامُوا الصَّلاةَ».
نقلنا هذه المواضيع عن أبي بكر الباقلّانيّ صاحب كتاب «التمهيد» الذي ذكرها في الاصول وفقاً لآراء أهل السنّة.۱
الروايات المجعولة في لزوم اطاعة الحاكم الجائر
يستدلّ العامّة على وجوب إطاعة الخليفة و الحاكم الجائر، كما أشار إلى ذلك الباقلّانيّ، بأخبار كثيرة رووها. و نحن نذكر فيما يلي بعضها:
يقول العلّامة الأميني٢: روى في «صحيح مسلم» و «سنن البيهقيّ» عن حذيفة بن اليمان أنّه قالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ، فَجَاءَ اللهُ بِخَيْرٍ فَنَحْنُ فِيهِ، فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذا الْخَيرِ شَرٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَ هَل وَراءَ هَذا الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: كَيْفَ يَكُونُ؟ قَالَ: «يَكُونُ بَعْدِي أئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدايَ وَ لَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي. وَ سَيَقُومُ فِيهِمْ رِجالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ في جُثمانِ إنسٍ». قُلْتُ: كَيْفَ أصْنَعُ يَا رَسولَ اللهِ، إنْ أدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَسْمَعُ
وَ تُطِيعُ لِلأمير، وَ إنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَ أخَذَ مَالَكَ فَاسْمَعْ وَ أطِعْ».
و في «صحيح مسلم» و «سنن البيهقيّ» عن عوف بن مالك الأشجعيّ أنّه قال: سمعت رسول الله يقول: «خِيارُ أئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبَّونَهُمْ وَ يُحِبُّونَكُمْ وَ تُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَ يُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ. وَ شِرارُ أئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبغِضُونَهُمْ وَ يُبْغِضُونَكُمْ وَ تَلْعَنُونَهُمْ وَ يَلْعَنُونَكُمْ». قَالَ: قُلنا: يَا رَسُولَ اللهِ! أ فَلا نُنَابِذُهُمْ عِندَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لَا، مَا أقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ ألَا وَ مَن وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأتِي شَيْئاً مِن مَعْصِيةِ اللهِ فلْيَكْرَهُ مَا يَأتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ وَ لَا تَنْزَعَنَّ يَداً مِن طَاعتِهِ».
و في «صحيح مسلم» و «سنن البيهقيّ» أيضاً عن سلمة بن يزيد الجعفيّ أنّه سأل النبيّ: فقال: يَا رَسُولَ اللهِ! إِن قَامَتْ عَلَيْنَا امَراءُ يَسْألُونَنَا حَقَّهُمْ وَ يَمْنَعُونَنا حَقَّنَا. فَمَا تَأمُرُنَا؟ قَالَ: فَأعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلّمَ ثُمَّ سَألهُ، فَقَالَ: «اسْمَعُوا وَ أطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيهِمْ مَا حُمِّلُوا وَ عَليْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ».
و فيهما أيضاً عن المقدام أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم قال۱: «أطِيعُوا امَرَاءَكُمْ ما كانَ، فَإن أمَرُوكُمْ بِمَا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ فَإنَّهُمْ يُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ وَ تُؤْجَرُونَ بِطاعَتِكُمْ، وَ إنْ أمَرُوكُم بِشيْءٍ مِمَّا لَم آمُركُمْ بِهِ فَهُوَ عَلَيْهِمْ وَ أنْتُمْ مِنْهُ بُرَاءُ. ذَلِكَ بَأنَّكُمْ إِذَا لَقِيتُمُ اللهَ قُلْتُم: رَبَّنا لا ظُلْمَ؟ فَيَقُولُ: لا ظُلْمَ. فَتَقُولُونَ: رَبَّنَا أرْسَلْتَ إِلَيْنَا رُسُلًا فَأطَعْنَاهُمْ بِإذنِكَ وَ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا خُلَفاءَ٢. فَأطَعْناهُمْ بِإِذْنِكَ، وَ أمَّرتَ عَلَيْنا امَراءَ فَأطَعْناهُمْ. قَالَ: فَيَقُولُ: صَدَقْتُمْ هوَ عَلَيْهِمْ وَ أنْتُمْ مِنْهُ بُرَاءُ»
و في «سنن البيهقيّ» عن سويد بن غفلة أنّه قال: قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: يَا أبَا امَيّةَ! لَعَلَّك أنْ تَخْلُفَ بَعْدِي، فَأطِعِ الإمامَ وَ إن كانَ عَبْداًحَبَشِيّاً. إِن ضَرَبَكَ، فاصْبِرْ. وَ إنْ أمَرَكَ بَأمْرٍ، فَاصْبِرْ. وَ إنْ حَرَمَكَ فَاصْبِرْ وَ إنْ ظَلَمَكَ، فَاصْبِرْ، وَ إنْ أمَرَكَ بِأمْرٍ يَنْقُصُ دِينَكَ فَقُلْ: سَمْعٌ وَ طَاعَةٌ، دَمِي دُونَ دِيني.۱
و يروي السيوطيّ أيضاً عن ابن جرير، عن ابن زيد في قوله، تعالى: {وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قَالَ: قَالَ امَيّ: هُمُ السَّلاطينُ: قَالَ: وَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ: «الطَّاعَةَ وَ في الطَّاعَةِ بَلَاءٌ». وَ قَالَ: «لَو شَاءَ اللهُ لَجَعَلَ الأمْرَ في الأنبياءِ- يعني لَقَدْ جَعَلَ إلَيْهِمْ وَ الأنبِياءُ مَعَهُمْ- ألَا تَرى حِينَ حَكَمُوا في قَتلِ يَحْيَي بنِ زَكَرِيّا».٢
و يروي أيضاً عن البخاريّ عن أنس: قَالَ: رَسُولُ اللهُ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلّمَ: «اسْمَعُوا وَ أطِيعُوا وَ إنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ حَبَشِيّ كَأنَّ رَأسَهُ زَبيبَةٌ».٣
و يروي أيضاً عن أبي هريرة أنّ النبيّ قال: «سَيَليكُمْ بَعْدي وُلَاةٌ فَيَلِيكُم البَرُّ بِبِرِّهِ و الْفَاجِرُ بِفَجْرِهِ فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَ أطِيعُوا في كُلِّ مَا وَافَقَ الحَقَّ وَ صَلّوُا وَراءَهُمْ. فَإِنْ أحْسَنُوا فَلَهُمْ وَ لَكُمْ. وَ إِن أسَاءُوا فَلَكُمْ وَ عَلَيْهِم».٤
أجل، فهذه نماذج من الروايات التي نقلها العامّة في كتبهم، و بنوا إطاعة أولي الأمر على أساسها. إنّهم يوجبون إطاعة الأمراء ما أقاموا
الصلاة، مَنْ كانوا، و مهما فعلوا. و لا ريب- طبعاً- أنّ هذه الروايات كلّها موضوعة. فبعد أن استلم الحكم سلاطين الجور، بالأخصّ في عصر معاوية، وضع العلماء روايات حجّة للتغطيّة على قبائح اولئك السلاطين و كمّ الأفواه؛ و أذاعوها بين الناس؛ إنّهم نشروا تلك الأباطيل و بثّوا تلك الأحكام على خلاف النصوص الصريحة الواردة في الكتاب العزيز و سنّة نبيّنا الكريم صلى الله عليه و آله و سلّم. و لقد أخبر رسول الله نفسه عن هذه المصيبة، فقال ما مضمونه: «ستظهر بين الناس بعدي أحاديث، فكلّ ما وجدتموه منها مخالفاً لكتاب الله، فاضربوه عرض الجدار.». أي ألقوها جانباً، و لا تعيروا لها اهتماماً، فقد وضعها الوضّاعون فأضلّوا بها الناس المساكين، و نحن ينبغي أن نطبق تلك الروايات على كتاب الله قبل الرجوع إلى سندها.
الآيات الدالّة على حرمة طاعة أهل المعصية
ننقل هنا عدداً من الآيات القرآنيّة: قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}۱. {وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}٢.{وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}٣. و: {فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً}٤. {وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}٥. {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}٦. {وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}۷. {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا
وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}۱. {وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ ، وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}٢. {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ}٣
و هذه نماذج من الآيات التي تحرّم متابعة الظالم و طاعته مهما كان عنوانه. و تمنع صراحة من اتّباعه.في ضوء هذا، لمّا كانت الأخبار المذكورة فيما سبق مخالفة لنصّ القرآن، فلا اعتبار لها. و نسبتها إلى رسول الله ذنب لا يغتفر. و كلّ من كان له إلمام بالكتاب و السنّة، و كان متفاعلًا مع روح الدين، فإنّه يقف على بطلانها حالًا.٤
و نحن نقرأ في القرآن أنّ الله ينهى الإنسان عن إطاعة والديه إذا أمراه بمعصية، فكيف يأمره بإطاعة الفسّاق و الفجّار و الظَلَمة؟ وَ إِن {جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما}٥. {وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما}٦
يجب أن يكون الإمام هو الأفضل و على رأس أُمور الأمّة
أمّا قولهم أنّ المفضول يمكن أن يدير شئون الامّة مع وجود الفاضل في الامّة، فهو قول بعيد عن الصواب و ليس في محلّه؛ لأنّ الأشخاص ما لم يصلوا إلى درجة التوحيد الخالص و لقاء الله، فالتفاضل النسبيّ قائم بينهم. و ربّما يكون شخص أفضل من الآخر لسبب ما، و هذا أكفأ من الأوّل لسبب آخر، لكن لمّا لم يصل أحد إلى مرحلة العبوديّة المطلقة التي هي درجة الولاية، فإنّ النسبيّة ترفع عندئذٍ.
أنّ وليّ الله الذي اجتاز جميع صفات الإمكان و الوجود المجازيّ و أصبح موجوداً بوجود الله، و غرق في بحر التوحيد اللامتناهيّ، كيف يُفَضّل عليه شخص آخر، و لو في جانب من الجوانب؟ أنّ صفات وليّ الله مندكّة في صفات الله، و نفسه و ملكاته خارج عالم التقدير و القياس. و لا حدّ و لا مقدار لعلمه و قدرته و حياته. و هو في كافّة الصفات أفضل من الامّة جميعها بلا استثناء، و لمّا كان رسول الله أكمل الآخرين و أفضلهم في جميع الصفات بلا استثناء، و كان هو المربّي و المكمل للآخرين، و مع أنّه لم يضرب بسيف في الغزوات إلّا أنّه كان أقربهم للعدو، و ذلك لتقوية قلوب قومه، و لمّا كان هو المقدّم عليهم جميعاً في الإنفاق، و الإيثار و العلم، و الحميّة، و الوفاء، و بقيّة الصفات بمقياس لا يقبل القياس. فكذلك الإمام عليه السلام فإنّنا عند ما نفرض بلوغه مقام اليقين و التوحيد المخلص، و نراه مرجعاً لتربية امّته، فإنّه سيكون أفضل الناس جميعهم و أعلمهم من كلّ الجهات، و فصل فضيلة من فضائله عنه محال، و فرض صفة غير تامّة فيه محال أيضاً. و قد أقرّ بذلك الكبار من عرفاء أهل السنّة.
و لو كانت مقاليد الحكم بِيَدِ الإمام نفسه، فإنّه يقسّم الأعمال الاجتماعيّة على الأشخاص، و هو يكون على رأس الامور. و لكن ثمّة فرق بين أن تنجز تلك الأعمال بإشراف الإمام، و من خلال طاعته و اتّباعه و بين أن يكون للمكلّفين بإنجازها رأي مستقلّ فيها كما يذهب إلى ذلك أهل السنّة، فهذا الرأي المستقل هو أساس الإشكال إذ إنّه نأى بهم عن الصواب.
و لكنّهم لو قاموا بتلك الأعمال بإشراف الإمام و استصوابه، فالملاحظ هو:
أوّلًا: ما أكثر الذين يعزلهم الإمام لعدم كفاءتهم، كما نجد ذلك في ما قام به أمير المؤمنين عليه السلام عند ما تسلّم مقاليد الامور في خلافته الظاهريّة، فعزل جميع الولاة الذين نصبهم عثمان بما فيهم معاوية إذ عزله من ولاية الشام.
ثانياً: لو كان القائمون بالأعمال تحت إشراف الإمام و مراقبته، فإنّهم مصونون من التخطّي و الانتهاك؛ لأنّ الإمام يُنبّههم و يذكرهم بمجرّد أقلّ خطأ يصدر منهم، و يردعهم عن القيام بأيّ عمل مخالف. و نجد ذلك جليّاً في رسالة أمير المؤمنين عليه السلام إلى عثمان بن حُنيف واليه على البصرة، و كذلك رسالته إلى عبد الله بن عباس واليه عليها بعد عثمان؛ لأنّ الإمام هنا بمنزلة القلب الذي يصلح ما فسد من الأجزاء، و عند عجزه، فإنّه يفصله عنه، و العضو الفاسد لا بدّ أن يُستأصل. أمّا إذا كان الإمام غير معصوم، فإنّ الذين يمارسون أعمالهم تحت سلطته، إنّما يمارسونها بإشراف إنسان غير معصوم. و الولاة الذين ينصبهم، هم تحت مراقبته و في هذه الحالة، فأيّ مفاسد تبقى لا ترتكب؟ مضافاً إلى ذلك، فإنّ الرئيس في أوّل تصدّيه قد لا يكون شخصاً متعدّيّاً متهوّراً، بَيدَ أنّ التعلّق بالدنيا.
و الإهتمام بالرئاسة يجعلان منه شخصاً آخر غير ما كان في البداية فالرئاسة اختبار عجيب و عسير للغاية و مدمّر للإنسان
التصديّ للشؤون الإجتماعيّة من قبل غير المعصوم عرضة للزلل و الانحراف دائماً
و من ينجو من هذه المزالق غير الإنسان المعصوم؟ فالعنوان و الشأن، و الرئاسة، و التسليم بالطاعة تستقطب اهتمام الإنسان شيئاً فشيئاً فتغريه حتى تجعله يفكّر بمكاسب أكثر لصالح شخصيّته و اعتباره فتتلوّث روحه اللطيفة بالتدريج، و يقسو قلبه الرقيق، و يجفو ضميره الإنسانيّ و تجفّ عينه الباكية، و يتبدل خشوعه في الصلاة إلى غفلة و سهو إلى أن يصبح واحداً من الفجّار و الفسّاق.
و هذه مسألة ثابتة من وجهة نظر علم النفس، و مذكورة في كتب علماء الأخلاق مشفَّعة أو مُتبعة بالأدلّة و البراهين. مضافاً إلى ذلك فالتجربة شاهد صدق واضح على هذا الموضوع. ففي هذه الحالة، كيف يجوز في سنن الله تعيين شخص ناقص لزعامة الناس، في حين أنّ نفسه عرضة للهلاك، أوّلًا، و يهلك بسيرته امّة بكاملها، ثانياً، قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}۱
و كثير من أهل السنّة يرون للخليفة استقلالًا في الرأي و يقولون: إذا رأى الخليفة في حكم من الأحكام مصلحة للُامّة، فله أن يمُضيه حتى لو كان مخالفاً لحكم الله و مناقضاً لصريح الدين.٢ كما يشاهد أنّ كثيراً من
الخلفاء كانوا يعملون برأيهم في المسائل المستحدثة.
إذ نقرأ في التاريخ أن عمر حرّم متعتي الحجّ و النساء، و رفع عبارة
«حَيّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ» من الأذان، و غير ذلك من الأعمال. و يرى أهل السنّة أنّ الأحكام الصادرة عن الخلفاء واجبة المراعاة و التنفيذ وفقاً للآية القائلة بوجوب إطاعة أولي الأمر.
كما يروي السيوطيّ عن عكرمة أنّه سُئل من امّهات الأولاد، فقال: هنّ أحرار. أي: أنّ الأمَةَ تُعتق إذا رزقت ولداً من مولاها و سيّدها. فقيل له: بأيّ تقوله؟ قال: بالقرآن. قالوا: بما ذا من القرآن؟ قال: قول الله {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}۱. و لمّا كانت هذه الآية تفيد وجوب إطاعة أولي الأمر، و عمر كان أولي الأمر، و أفتى بإعتاق امّ الولد، لذلك حكم القرآن باعتاقها.٢
ليس لأُولي الأمر حقّ التشريع
و هذا مردود من ناحيتين: الأولى: قلنا: أنّ المراد من أولي الأمر هم المعصومون لا غيرهم. الثانية: قلنا: أنّ حقّ التشريع يختصّ بكتاب الله في الاصول. أمّا في الفروع و بيان خصوصيّات الأحكام و تعيين الموضوعات، فإنّه لرسول الله، و ليس لأولي الأمر حقّ في ذلك، بدليل أنّ الآية تقول عند التنازع: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ}٣
لذلك فإنّ جميع الآراء و الفتاوى التي صدرت عن الخلفاء، صغرى
و كبرى لا تحظى بتأييد الشارع.
أجل، فإنّ هذه الشريحة من العامّة على مدّعاها تستدلّ قائلة: لمّا كانت مراعاة المصلحة العامّة و متطلّبات كلّ عصر تستدعي أن يصدرالخليفة أحياناً حكماً خاصّاً، فالواجب يقتضي إطاعة حكمه حتى لو كان مخالفاً للكتاب و السنّة. و هذا الحكم يحظى بتأييد الدين أيضاً وفقاً لآية أولي الأمر؛ لأنّه لمّا كان الدين يريد صلاح الامّة في كلّ عصر، و أنّ الخليفة يحكم على الناس وفقاً لآية أولي الأمر، و أنّه أصدر هذا الحكم الخاصّ مخالفاً للنصوص الدينيّة، فمن الطبيعيّ أنّ هذا الحكم يحظى بتأييد الشارع.
و الذي ينظر في التاريخ، يجد أنّ حكومات مختلفة قد تعاقبت على الامّة منذ عصر صدر الإسلام، و أنّ مثل تلك الأحكام قد صدرت عن الحكّام كثيراً في العصر الامويّ و العبّاسيّ. ففي ضوء هذه النظرية، لا يعدّ للدين مفهوم صحيح؛ لأنّ الدين في قاموس هؤلاء عبارة عن مصالح اجتماعيّة يتعامل الحاكم و السلطان بمقتضاها في كلّ عصر. و يغيّر حكم الله و رسوله وفقاً لما يراه من مصلحة، على النحو المتداول في المجتمعات الاخرى حيث يحكم أهل الحلّ و العقد في كلّ عصر وفقاً لصلاح تلك الجماعة و ينفّذون ذلك. فالدين- في ظلّ هذه النظرية- سيصبح سنّة اجتماعيّة فقط، إذ كان الأنبياء في العصور الخالية يبيّنونه في قالب الدين، و على شكل إظهار الوحي، و ذلك من أجل تربية الناس. كما يصرّح البعض بأنّ الدين سنّة اجتماعيّة في قالب الوحي.
و أنّ مشاهدة جبرئيل، و وجود الجنّة و النار، و الصراط، و الكتاب و غيرها من الأشياء، جاءت بشكل مبسّط لتفهيم الناس و تطويعهم. و لمّا تطوّرت العلوم، و شقّت طريقها في العالم، فلا معنى لتربية الناس بنمط دينيّ، لقد كان الدين في حلقة من حلقات الماضي مدرسة تربويّة، و كما
أنّ علماء الجيولوجيا يخرجون من باطن الأرض أشياء من خلال دراسة آثار طبقات الأرض «الجيولوجيا»، فيتصدُّوا إلى الخوض في أحوال أهل ذلك العصر و خصوصيّاتهم، فكذلك علماء الاجتماع هذا اليوم، فإنّ عليهم الخوض في المباحث الدينيّة بنفس تلك الطريقة.
إذا كان قصد أهل السنّة من لزوم إطاعة الخلفاء هو إطاعتهم بأيّ شكل كان، فلا نقاش لنا معهم؛ لأنّ هذا النقاش سيئول إلى إنكار الله و عوالم الباطن، و الملكوت، و الفضائل الأخلاقيّة، و المعاد، و اتّصال الأنبياء بالملائكة.
و أمّا إذا كان قصدهم هو أنّ للخلفاء، مع وجود الاعتقاد بالله و رسوله، أن يضعوا حكماً من عندهم وفقاً لمصالح العصر و قابليّات الناس، فينبغي أن نقول في جوابهم، أنّ الدين أمر أصيل، و الأحكام الدينيّة حاكمة على الاجتماعيّات و مصالحها، أي: يجب إصلاح المجتمعات بالتعاليم الدينيّة، و يجب تربية الناس بتطبيق التعاليم الإلهيّة. و ينبغي تنظيم المجتمع على أساس التعاليم الدينيّة؛ لا أنّ الدين يفقد أصالته، و يعيش المجتمع مستقلّا و منفكاً عنه فلا يتنازل عن فعليّة تفكيره القائم و مصالحه التخيّليّة فيفرض رأيه على الأحكام الدينيّة، و يجعلها عرضة للتغيّر و التبديل.
و فيما يلي نماذج قرآنيّة كشاهد على ما نقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ}۱. {فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.٢ {وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ... وَ مَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ... فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ... وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ}.۱
و يقول تعالى- أيضاً: {وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ}٢
{يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ}.٣ {وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}٤
أجل، فإنّ سبب جميع هذه الأحكام الباطلة التي صدرت عنهم هو أنّهم زحزحوا الخلافة عن محورها الأصليّ بعد رسول الله، و اجتهدوا في الأحكام وفقاً لآرائهم و أهوائهم، و منذ ذلك الحين فإنّ كلّ حاكم جاء بعدهم حذا حذوهم فحكم و أفتى وفقاً لميله و هواه، جرياً على تلك السنّة السيّئة لُاولئك الاوّل. ثمّ وضعوا لذلك اسماً هو: مصلحة المجتمع.
انتقاد أمير المؤمنين عليه السلام لغاصبي الخلافة
يقول أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام من خطبة له: «حتى إذَا قَبَضَ اللهُ رَسُولَهُ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ [وَ سَلَّمَ] رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الأعْقَابِ وَ غالَتْهُمُ السُّبُلُ، و اتَّكَلُوا عَلَى الوَلائِجِ، وَ وَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ، وَ هَجَرُوا
السَّبَبَ الذي امِرُوا بَمَوَدَّتِهِ، وَ نَقَلوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصّ أسَاسِهِ فَبَنَوْهُ في غيْرِ مَوْضِعِهِ، مَعادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَ أبْوابُ كُلِّ ضَارِبٍ في غَمْرَةٍ»۱. ثمّ قال: «قَدْ مَارُوا في الحَيْرَةِ و ذَهَلُوا في السَّكْرَةِ عَلَى سُنَّةٍ مِن آلِ فِرْعَوْنَ مِن مُنقَطَعٍ إلى الدُّنْيَا رَاكِنٍ، أوْ مُفَارِقٍ لِلدّينِ مُبَايِنٍ»٢
و قد تذمّر عليه السلام كثيراً من غاصبي الخلافة. و عبّر عنهم أنّهم مُخرّبو الدين كما لاحظنا ذلك في كلامه. و يقول في خطبة اخرى: «اللَّهُمَّ! إِنِيّ أسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيشٍ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ اكْفَئُوا إنائِي وَ أجْمَعُوا عَلَى مُنازَعَتِي حَقّا كُنْتُ أولَى بِهِ مِنْ غَيْرِي وَ قَالُوا: ألَا أنّ في الْحَقِّ أن تَأخُذَهُ وَ في الْحَقِّ أن تُمْنَعَهُ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أو مُتْ مُتَأسِّفاً، فَنَظَرْتُ فَإذَا لَيْسَ لِي رافِدٌ وَ لَا ذَابٌّ وَ لَا مُسَاعِدٌ إِلَّا أهَلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ المَنِيَّةِ فَأغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى وَ جَرَعْتُ رِيقِي عَلَى الشَجَى وَ صَبَرْتُ مِن كَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى أمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ وَ آلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ حَزِّ الشِّفَارِ»٣
تركوه وحيداً، و بينما كان مشغولًا بتجهيز رسول الله، سارعوا بدهاء عجيب فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، و دعوا الناس إلى بيعتهم خلاف النصّ النبويّ. و لمّا فرغ من مواراة الجسد الشريف الثرى، كانوا قد فعلوا فعلتهم، و استحوذ عليهم الشيطان، و حرفوا الشريعة عن قطبها، و حاصروا الإمام، و صعدوا على منبر رسول الله، و جرّوه كالجمل المخشوش إلى المسجد ليمثل أمام أبي بكر، و سلّوا عليه سيوفهم ليبايع. فحاججهم و وجّه أنظارهم إلى ما هم عليه من ضلال، و بيّن لهم شرفه و فضله، بَيدَ أنّه لم يحصل على أي نتيجة قطّ.
وَ خَرَجَ عليّ كرّمَ اللهُ وَجْهَهُ يَحْمِلُ فاطِمَةَ بنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلّمَ عَلَى دابَّةٍ لَيْلًا في مَجَالِسِ الأنْصَارِ تَسألُهُمُ النُّصْرَةَ. فَكَانُوا يَقُولُونَ: يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ! قَدْ مَضَتْ بَيْعَتُنَا لِهَذا الرَّجُلِ، وَ لَو أنّزَوجَكِ وَ ابْنَ عَمِّكِ سَبَقَ إِلَيْنَا قَبْلَ أبِي بَكْرٍ ما عَدَلْنا بِهِ. «فَيَقُولُ عليّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: أ فَكُنْتُ أدَعُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلّمَ في بَيْتِهِ لَمْ أدفنْهُ وَ أخْرُجُ انازِعُ النَّاسَ سُلطانَهُ؟ فَقالَتْ فَاطِمَةُ: ما صَنَعَ أبُو الحَسَنِ إِلَّا ما كانَ يَنْبَغِي لَهُ، وَ لَقَدْ صَنَعُوا مَا اللهُ حَسِيبُهُمْ وَ طَالِبُهُمْ»۱
الدَّرْسُ الحَادِيَ وَ الْعِشْرُونَ: الأئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ هُمُ الْمَقْصُودُونَ بِأُولِي الأمْرِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطّاهرين
و لعنة اللهِ على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا باللهِ العليّ العظيم
تحقيق في عدم افتراق الثقلين، و معيّة أمير المؤمنين عليه السلام للقرآن
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا}۱.
أنّ المقصود من أولي الأمر هو أحد الثَّقَلين الذينِ خلّفها النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم في امّته. «قَالَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللهِ و أهْلَ بَيْتِي وَ إِنَّهُمَا لَن يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عليّ الْحَوضَ».٢
إذ أنّ القرآن وحده لا يكفي ما لم يكن هناك معلّم و قيّم على الناس. و في ضوء الحديث النبويّ الشريف، فإنّ عمر قد أخطأ عند ما قال: كَفَانَا كِتابُ اللهِ، و ذلك لأنّ رسول الله قال: «لن يفترقا»، فمن أخذ بأحدهما دون الآخر، فقد حُرم الاثنين.
لا يكفي كتاب الله وحده بدون أهل البيت
أنّ ذلك الرجل الذي قال: نأخذ بالقرآن، و لا نحتاج إلى العترة، لم يفهم كتاب الله حقّاً، و قد قصرت يده و أيدي أتباعه عن الكتاب و عن أهل البيت في آن واحد، لأنّ القرآن له حقيقة و واقعيّة هي أعلى من هذه الألفاظ و أهمّ كثيراً.
و كما لو كتبنا على الورق أسماء مثل حسن، تقي، عليّ، فإنّ هذه الأسماء تمثّل واقعاً خارجيّاً له جسم، و روح، و حدود، و مواصفات، و حياة، و علم، و قدرة، و نفس، و غرائز، و نيّات، و غير هذه الأشياء.
و تلك الحقيقة هي أعلى و أرقى من هذا اللفظ الحاكي بآلاف المرّات، بل أكثر. و هذا الاسم هو فقط معرّف و ممثّل لذلك الواقع. فكذلك حقيقة القرآن الكريم، فإنّه عالَم جِدّ رفيع و كبير، و حيّ، و الحقائق جميعها فيه موجودة، و طرق الخير و الشرّ و نتائج الأعمال كلّها، نحو الجنّة، و النار و الصراط، و الكتاب، و الميزان فيه مشهودة. و هذه الألفاظ المدوّنة بين الدفّتين تمثّل اسماً لتلك الحقيقة، و الإمام عليه السلام هو الواقف على تلك الحقيقة. و معاني هذا الكتاب السمَاويّ و حقائقه كلّها منطوية في نفسه؛ {وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ}۱. و هذه المعيّة التي قصدها رسول الله بقوله: «عليّ مَعَ الْقُرآنِ وَ الْقُرآنُ مَعَ عليّ لَا يَفْتَرقَانِ حتى يَرِدَا عليّ الْحَوضَ»٢
لأنّ من الواضح أنّ هذه المعيّة هي القرآن في الحقيقة، في هذا الكتاب المشهود و الملموس خارجاً؛ {وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ... ، وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ، بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}٣. و قال أيضاً: {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ}.٤
إحاطة أمير المؤمنين عليه السلام بالقرآن و قتاله في سبيله
وردت روايات كثيرة عن الشيعة و السنّة۱ في أنّ المقصود بمن عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين عليّ عليه السلام. و في حديث مأثور عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم أيضاً أنّه قال: «انّ فِيكُمْ مَن يُقَاتِلُ عَلى تَأويلِ القُرآنِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنزِيلِهِ». قَالَ أبُو بَكْرِ: أنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: لَا. قَالَ عُمَرُ: أنَا هو يَا رَسُولَ اللهِ!؟ قالَ: «لَا، وَ لَكِنْ خَاصِفُ النَّعْلِ- وَ كَانَ أعْطَى عَلِيّاً نَعْلَهُ يَخصِفُهَا-»٢.
يستشفّ من هذه الروايات جيّداً أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو المُسلم بالقرآن، القيّم على هذا الكتاب السماويّ، المكلّف من قبل الله بقتال الامّة على قبول معنى القرآن و باطنه. و في ضوء ما مرّ بنا، فإنّنا نخلص إلى أنّ كلام القائلين بالرجوع إلى القرآن و الإفادة منه، و الاستغناء عن الروايات المأثورة عن المعصومين، كلام فارغ لا طائل تحته، و ليس له أي شأن:- لأنّه مضافاً إلى أنّ كتاب الله لا يكفي بلا إمام- فإنّ القرآن نفسه أمرنا باتّباع أهل البيت في آيات كثيرة نحو: {ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}٣. و قوله: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ}.۱ و كذلك وردت روايات جمّة عن طريق الشيعة و السنّة في أنّ المقصود بذلك هو أمير المؤمنين عليه السلام٢. و هناك أيضاً ما يماثل آية أولي الأمر التي أوجب الله فيها إطاعتهم بنحو مطلق.
و ينقل صاحب كتاب «غاية المرام» في ص ٢٦٣ أربعة أحاديث عن العامّة، و في ص ٢٦٥ أربعة عشر حديثاً عن الخاصّة في أنّ المقصود من أولي الأمر هم الأئمّة الطاهرون صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين. لذلك فإنّ الذين يقولون: نرجع إلى كتاب الله، عليهم أن يعلموا بأنّ كتاب الله قد أرجعهم إلى رسول الله بقوله: {وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}٣.
و قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ}٤. و قوله: {وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ}٥. فطاعته صلى الله عليه و آله و سلّم واجبة. و هو نفسه قد أوجب طاعة أمير المؤمنين عليه السلام وفقاً لحديث الثَّقَلَيْن، و العشيرة، و الغدير و خَصف النعل، و السفينة، و غيرها من هذه الأحاديث. و كذلك وفقاً لمدلول آية أولي الأمر بانضمام الروايات المأثورة إليها، فإنّ إطاعة الأئمّة الأطهار واجبة بأمر الله، و حجّيّة الأخبار الصحيحة المأثورة عنهم ثابتة.
و جاء في «الكافي» و تفسير «العيّاشيّ» عن الإمام الصادق عليه السلام
أنّه قال في آية أولي الأمر: «إِيَّانَا عَنَى خَاصَّةً، أمَرَ جَمِيعَ المؤمنين إلى يَوْمِ القِيامَةِ بِطاعَتِنَا».۱
تفسير أولي الامر بالائمّة عليهم السلام و نزول آية التطهير
و جاء في «الكافي» أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال عند السؤال عن وجوب إطاعة الأوصياء: «نَعَمْ، هُمُ الّذِين قَالَ اللهُ»: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} و قال الله: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ}.٢ و٣
و جاء في «الكافي» و «تفسير العيّاشيّ» أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب و الحسن و الحسين عليهم السلام. و عند ما قيل له: أنّ الناس يقولون: فما له لم يُسَمّ عليّاً و أهل بيته في كتابه؟ فقال: فقولوا لهم: نزلت الصلاة و لكن و لم يسمّ لهم ثلاثاً و لا أربعاً حتى كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم فسّر ذلك لهم. و نزلت عليه الزكاة و لم يسمّ لهم من كلّ أربعين درهماً درهم حتى كان رسول الله صلى الله عليه و آله هو الذي فسّر ذلك لهم. و نزل الحجّ، فلم يقل: طوفوا سبعاً حتى كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم هو الذي فسّر ذلك لهم. و نزلت: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} و نزلت في عليّ، و الحسن، و الحسين عليهم السلام. فقال في عليّ: «مَن كُنتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَولَاهُ. وَ قالَ: اوصِيكُمْ بِكِتابِ اللهِ وَ أهلِ
بَيتِي، فَإِنّي سَألْتُ اللهَ أنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حتى يُورِدهُما عليّ الحَوْضَ، فَأعْطَانِي ذلِكَ». وَ قَالَ: «لَا تُعَلِّمُوهُم، فَإِنَّهُم أعلَمُ مِنكُم»۱. وَ قَالَ: «إِنَّهُمْ لَن يُخرِجُوكُم مِن بَابِ هُدَى وَ لَن يُدْخِلُوكُمْ في بَابِ ضَلَالةٍ».
فَلو سكت رسول الله، و لم يبيّن مَن أهل بيته، لادّعاها آل فلان و آل فلان، و لكنّ الله أنزل في كتابه الكريم تصديقاً لنبيّه صلى الله عليه و آله و سلّم: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}٢. فكان عليّ، و الحسن، و الحسين، و فاطمة عليهم السلام عند رسول الله فأخذهم بيده، فأدخلهم تحت الكساء في بيت امّ سلمة، ثُمّ قَالَ صلى الله عليه و آله و سلّم: «اللَّهُمَّ أنّ لِكُلِّ نَبِيّ أهْلَا وَ ثَقَلًا وَ هَؤُلَاءِ أهلُ بَيْتِي وَ ثَقَلي». فقالت امّ سلمة: أ لَسْتُ مِن أهْلِكَ؟ فَقَالَ: «إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ وَ لَكِنَّ هَؤُلآء أهْلُ بَيْتِي وَ ثَقَلي». فأنزل الله آية التطهير.٣
و روى عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه سئل عمّا بنيت عليه دعائم الإسلام، إذا أخذ بها، زكي العمل و لم يضرّ جهل ما جهل بعده؟ فقال: شهادةُ أنْ «لَا إِلَهَ إِلّا اللهُ وَ أنّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ» صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلّمَ و الإقرار بما جاء به من عند الله، و حقّ في الأموال الزكاة و الولاية التي أمر الله بها، ولاية آل محمّد صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين فإنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم قال: «مَن مَاتَ وَ لَمْ يَعْرِف إِمَامه مَاتَ مِيتَةً جاهِلِيّةً». قالَ اللهُ تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ}. فكَانَ عليّ عَلَيهِ السَّلَامُ ثُمَّ صارَ مِن بَعْدِهِ الحَسَنُ ثُمَّ مِن بَعْدِهِ الْحُسَيْنُ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ عليّ بنُ الْحُسَينِ ثُمَّ مِن بَعْدِهِ مُحَمَّدُ بنُ عليّ ثُمَّ هَكَذَا يَكُونُ الأمْرُ. أنّ إِلأرضَ لَا تَصْلُحُ إلَّا بِإمَامٍ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ».۱
استدلال منصور بن حازم على لزوم وجود الإمام لفهم القرآن
يروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ بإسناده عن منصور بن حازم أنّه قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: أنّ اللهَ أجَلّ و أكرمَ من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون بالله. قال: صدقت. قلتُ: أنّ من عرف أنّ له ربّاً، فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضاً و سخطاً، و أنّه لا يعرف رضاه و سخطه إلّا بوحي أو رسول. فمن لم يأته الوحي، فقد ينبغي له أن يطلب الرسل. فإذا لقيهم، عرف أنّهم الحجّة و أنّ لهم الطاعة المفترضة. و قلتُ للناس: تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم كان هو الحجّة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى. قلتُ: فحين مضى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم. من كان الحجّة على خلقه؟ فقالوا: القرآن. فنظرت في القرآن. فإذا هو يخاصم به المُرجيّ و القدريّ و الزنديق٢ الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته. فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إِلّا بقيّم فما قال فيه من شيءٍ، كان حقّاً. فقلتُ لهم: مَن قيّم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، و عُمَر يعلم، و حذيفة يعلم. قلت: كلّه؟ قالوا: لا. فلم أجد أحداً يقال: إنّه يعرف ذلك كلّه إِلّا عليّاً عليه السلام. و إذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري. و قال هذا: لا أدري. و قال هذا: لا أدري.
و قال هذا أنا أدري فأشهد أنّ عليّاً عليه السلام كان قيّم القرآن. و كانت طاعته مفترضة و كان الحجّة على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم. و أنّ ما قال في القرآن فهو حقّ. فقال: رحمك الله.۱
مناظرة أصحاب الإمام الصادق عليه السلام مع الشاميّ في الإمامة
و يروي الكلينيّ بإسناده أيضاً عن يونس بن يعقوب أنّه قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فورد عليه رجل من أهل الشام، فقال: إنّي رجل صاحب كلام وفقه و فرائض، و قد جئت لمناظرة أصحابك. فقال أبو عبد الله عليه السلام: كلامك من كلام رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم أو من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و من عندي فقال أبو عبد الله عليه السلام: فأنتَ إذاً شريك رسول الله؟ قال: لا. قال: فسمعتَ الوحي عن الله عزّ و جلّ يخبرك؟ قال: لا. قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله؟ قال: لا. فالتفت أبو عبد الله إلى، فقال: يا يونس بن يعقوب، هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلّم.
ثمّ قال: يا يونس، لو كنتَ تحسن الكلام، كلّمته. قال يونس: فيا لها من حسرةٍ. فقلتُ: جعلتُ فداك، إِنّي سمعتك تنهى عن الكلام و المجادلة و تقول: ويل لأصحاب الكلام، يقولون: هذا ينقاد، و هذا لا ينقاد. و هذا ينساق، و هذا لا ينساق. و هذا نعقله، و هذا لا نعقله. فقال أبو عبد الله: إنّما قلتُ: فويلٌ لهم إن تركوا ما أقول، و ذهبوا إلى ما يريدون.
ثمّ قال لي: اخرج إلى الباب، فانظر من ترى من المتكلّمين فأدخله قال: فأدخلتُ عُمران بن أعين، و كان يحسن الكلام. و أدخلتُ الأحوَل (و هو محمّد بن النعمان المعروف بمؤمن الطاق) و كان يحسن الكلام.
و أدخلت هشام بن سالم و كان يحسن الكلام. و أدخلت قيس بن الماصر، و كان عندي أحسنهم كلاماً، و كان قد تعلّم الكلام من عليّ بن الحسين عليه السلام. فلمّا استقرّ بنا المجلس و كان أبو عبد الله قبل الحجّ يستقرّ أيّاماً في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة. قال: فأخرج أبو عبد الله رأسه من فازته، فإذا هو ببعير يخبّ، فقال: هشام و ربّ الكعبة. قال: فظننّا أنّ هشاماً رجل من ولد عقيل كان شديد المحبّة له. فقال: فورد هشام بن الحَكَم، و هو أوّل من اختطّت لحيته. و ليس فينا إلّا من هو أكبر سنّاً منه. قال: فوسّع له أبو عبد الله، و قال: «نَاصِرُنَا بِقَلبِهِ و لِسَانِهِ وَ يَدِهِ».
ثمّ قال: يا حُمران، كلّم الرجل، فكلّمه، فظهر عليه حمران و غلبه. ثمّ قال: يا طاقي۱، كلّمه، فكلّمه. فظهر عليه الأحول.
مناظرة هشام بن الحكم مع الشاميّ حول الإمامة
ثمّ قال: يا هشام بن سالم، كلّمه فتعارفا. ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام لماصر: كلّمه، فكلّمه فأقبل أبو عبد الله عليه السلم يضحك من كلامهما ممّا قد أصاب الشاميّ. فقال للشاميّ: كلّم هذا الغلام- يعني هشام بن الحَكَم- فقال: نعم. فقال لهشام: يا غلام! سلني في إمامة هذا؛ فغضب هشام حتى ارتَعَد، ثمّ قال للشاميّ: يا هذا، أ ربّك أنظر لخلقه، أم خلقه لأنفسهم؟ فقال الشاميّ: بل ربّي أنظر لخلقه.
قال هشام: فَفَعَلَ بِنَظَرِهِ لَهُمُ مَا ذا؟
قال الشاميّ: أقام لهم حجّة و دليلًا كيلا يتشتّتوا أو يختلفوا، يتألّفهم و يقيم أوَدَهُمْ وَ يُخْبِرَهُمْ بِفرض ربّهم.
قال هشام: فمن هو؟
قال الشاميّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم.
قال هشام: فبعد رسول الله؟
قال الشاميّ: الكتاب و السنّة.
قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب و السنّة في رفع الاختلاف عنّا؟
قال الشاميّ: نعم.
قال هشام: فلم اختلفنا أنا و أنتَ و صرت إلينا من الشام في مخالفتنا إيّاك؟
قال يونس: فسكت الشاميّ. فقال أبو عبد الله عليه السلام للشاميّ: مالك لا تتكلّم؟ قال الشاميّ: إن قلتُ: لم نختلف، كذبتُ. و إن قلتُ: أنّ الكتاب و السنّة يرفعان عنّا الاختلاف، أبطلتُ، لأنّهما يحتملان الوجوه و إن قلتُ: قد اختلفنا و كلّ واحدٍ منّا يدّعي الحقّ فلم ينفعنا إذَن الكتاب و السنّة إلّا أنّ لي عليه هذه الحجّة. فقال أبو عبد الله عليه السلام: سلهُ تجده مليّاً.
فقال الشاميّ: يا هذا! مَن أنظر للخلق، أ ربّهم أو أنفسهم؟ فقال هشام: ربّهم أنظر لهم منهم لأنفسهم.
فقال الشاميّ: فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم، و يقيم أوَدَهُم و يخبرهم بحقّهم من باطلهم؟
قال هشام: في وقت رسول الله صلى الله على و آله و سلّم أو الساعة؟
قال الشاميّ: في وقت رسول الله، رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و الساعة مَنْ؟
فقال هشام: هذا القاعد الذي تُشدّ إليه الرحال، و يخبرنا بأخبار السماء (و الأرض) وِرَاثة عن أبٍ عن جدّ.
قال الشاميّ: فكيف لي أن أعلم ذلك؟
قال هشام: سله عمّا بدا لك.
قال الشاميّ: قطعتَ عذري، فعليّ السؤال. فقال أبو عبد الله: يا شاميّ! اخبرك، كيف كان سفرك؟ و كيف كان طريقك؟ كان كذا و كذا.
فأقبل الشاميّ يقول: صدقتَ. أسْلَمْتُ لِلّهِ السَّاعَةَ. فقال أبو عبد الله: بَل آمَنْتَ باللّهِ السَّاعَةَ. أنّ الإسلام قبل الإيمان، و عليه يتوارثون و يتناكحون. و الإيمان عليه يُثابون. فقال الشاميّ: صَدَقْتَ، فَأنَا السَّاعَةَ أشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إلّا اللهُ وَ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ أنَّكَ وَصِيّ الأوصِياء.
قال يونس: ثمّ التفت أبو عبد الله عليه السلام إلى حُمران، فقال: تُجري الكلام على الأثر فتصيب، و التفت إلى هشام بن سالم، فقال: تريد الأثر و لا تعرفه. ثمّ التفت إلى الأحوَل۱، فقال: قَيّاسٌ رَوّاغٌ. تكسر باطلًا
بباطلٍ إلّا أنّ باطلك أظهر. ثمّ التفت إلى قيس بن الماصر۱، فقال: تتكلّم و أقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم أبعد ما تكون منه. تمزج الحقّ مع الباطل، و قليلُ الحقّ يكفي عن كثير الباطل.
أنتَ وَ الأحْوَلُ قَفّازانِ حاذِقانِ.
قال يونس: فظننت و اللهِ أنّه يقول لهشام قريباً ممّا قال لهما. ثمّ قال: يا هشام! لا تكاد تقع. تلوي رجليك إِذا هممتَ بالأرض طرتَ، مثلك فلْيكلّم الناسَ؛ فَاتّقِ الزّلّةَ. و الشفاعةُ من وَرَائها إِن شاء الله.٢
و ذكر النعمانيّ في تفسيره أنّ إسماعيل بن جابر يقول: سَمِعْتُ أبَا عبد الله جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ عَلَيهِمَا السَّلَامُ يَقُولُ: «أنّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى بَعَثَ مُحَمَّداً فَخَتَمَ بِهِ الأنبِيآءَ فَلا نَبِيّ بَعْدَهُ، وَ أنْزَلَ عَلَيهِ كِتَاباً فَخَتَمَ بِهِ الْكُتُبَ فَلَا كِتَابَ بَعْدَهُ. أحَلَّ فِيهِ حَلالًا وَ حَرَّمَ حَرَاماً فَحَلالُهُ حَلالٌ إلى يَومِ القِيامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرامٌ إلى يَومِ القِيامَةِ. فِيهِ شَرْعُكُمْ وَ خَبَرُ مَنْ قَبْلَكُم وَ بَعْدَكُم وَ جَعَلَهُ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عِلْماً باقِياً فِي
أوصِيائهِ.۱
أجل، لقد صدّوا الامّة عن أهل البيت بعد وفاة رسول الله بقولهم: كَفَانا كِتابُ اللهِ. و أقصوا صاحب العصمة و الولاية الكبرى. و زعم طلّاب الدنيا أنّ خلافة رسول الله أمر مادّيّ و رئاسة ظاهريّة، فتربّعوا على أريكة الحكم من وحي هوى النفس، و ساقوا الناس نحو الغيّ و الضلالة فزعزعوا بذلك دعائم الإسلام و أركانه.
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام حول منزلة آل محمّد عليهم السلام
قال أمير المؤمنين عليه السلام ضمن الخطبة الثانية في «نهج البلاغة «وَ مِنْها (يَعنِي آلَ النَّبِيّ عَلَيهِ الصَّلاةِ و السَّلام) مَوضِعُ سِرِّه، وَ لَجَا أمْرِهِ، وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَ مَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَ كُهُوفُ كُتُبِهِ، وَ جِبَالُ دِينِهِ. بِهِم أقَامَ انحِنآءَ ظَهْرِهِ، وَ أذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرائِصِهِ».
«وَ مِنْهَا (يَعْنِي قَوماً آخَرِينَ) زَرَعُوا الْفُجُورَ، وَ سَقَوهُ الْغُرُورَ وَ حَصَدُوا الثُّبُورَ. لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مِن هَذِهِ الامَّةِ أحَدٌ. وَ لَا يُسَوَّى بِهِم مَن جَرَتْ نِعْمَتُهُم عَلَيْهِ أبَداً. هُمْ أسَاسُ الدِّينِ وَ عِمَادُ الْيَقِينِ. إِلَيْهِم يَفِيء الْغَالِي، وَ بِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي. وَ لَهُمْ خَصائِصُ حَقِّ الوِلَايَةِ، وَ فِيهِم الوَصِيَّةُ وَ الوِرَاثَةُ. الآنَ إذْ رَجَعَ الْحَقُّ إلى أهْلِهِ وَ نُقِلَ إلى مُنْتَقَلِهِ»٢.
و قال أيضاً ضمن كلام له آخر: «فَوَ اللهِ ما زِلتُ مَدفُوعاً عَن حَقِّي مُستَأثَراً عليّ مُنذُ قَبَضَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ سَلَّمَ حتى يَوْمِ النَّاسِ
هَذا».۱ و٢
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام حول عدم وجود الناصر و المعين
و من خطبة له لمّا قبض رسول الله، و جاءه العبّاس بن عبد المطّلب و أبو سفيان، ليبايعاه بالخلافة؛ و منها نفهم أنّه كم كان وحيداً لا ناصر له و لا معين؛ و نراه يقدّم نفسه بأنّه لا جناح له.
«أيُّهَا النَّاسُ! شُقُّوا أمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجاةِ (و المقصود بسفن النجاة هنا آل بيت رسول الله لما جاء في الحديث المسلّم به المنقول عن الشيعة و السنّة: مَثَلُ أهْلِ بَيتِي فِيكُمْ كَسَفِينَةِ نُوحٍ مَن رَكِبَها نجَى. وَ مَن تَخَلَّفَ عَنها غَرِقَ) وَ عَرِّجُوا عَن طَرِيقِ الْمُنافَرَةِ وَضَعُوا عَن تِيجَانِ المُفاخَرَةِ. أفلَحَ مَن نَهَضَ بِجَناحٍ أوِ اسْتَسلَمَ فَأرَاحَ. هَذَا ماءٌ آجِنٌ وَ لُقمَةٌ يَغَصُّ بِها آكِلُها وَ مُجتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيرِ وَقتِ إِينَاعِهَا كالزَّارِعِ بِغَيْرِ أرضِهِ. فَإِن أقُل، يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى المُلكِ. وَ إن أسكُت، يَقُولُوا: جَزِعَ مِنَ الْمَوتِ. هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَ التِي. وَ اللهِ لَابنُ أبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالمَوتِ مِنَ الطِّفلِ بِثَديِ امِّهِ بَلِ انْدَمَجْتُ عَلى مَكنونِ عِلمٍ لَو بُحتُ بِهِ لَاضطَرَبتُمُ اضطِرَابَ الأرْشِيَةِ في الطَّويّ الْبَعِيدَة».٣ و٤
فهذا الكلام كناية عن القضاء الإلهيّ المحتّم؛ إذ لا بدّ أن يفتن الله الناس، ليتميّز، إثر ظهور المناوئين، الذين يتّبعون الشريعة و النصوص
النبوّية المتعلّقة بالولاية من الذين غلب عليهم الهوى فأعرضوا عن الولاية فيكون الناس فريقين متميّزين، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}.۱
ففريق ينعمون في حرم الولاية لأهل البيت و هم مصونون من كلّ ما ينغّص عليهم النعمة، في الدرجات العلى من الجنّة. و فريق مطرودون من ذلك الحرم الأمن، محرومون من هذا النعيم، فهم يصهرون في نار تلظّى.
{وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.٢
سبب عدم قيام أمير المؤمنين عليه السلام
أنّ السبب من عدم قيام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو عدم وجود الأعوان و الأنصار كما نجده يقول: قال لي رسول الله: يا عليّ، إن وجدت بعدي أعواناً عليهم فجاهدهم و خذ بحقّك. و إن لم تجد فاصبر و كفّ يدك.٣
و هو نفسه عليه السلام يقول: لو كان لي أربعون ناصراً و معيناً بعد وفاة رسول الله (طبعاً الناصر المضحّيّ و المعين الحقيقيّ) لنهضتُ
و ضربت بالسيف.۱
و جاء ذلك أيضاً في الرسالة التي بعثها معاوية إليه إذ قال له: يا علي! أنت الذي لم تجد لك حتى أربعين ناصراً و معيناً. و لمّا أتاك أبي للبيعة قلتَ له: لو وجدتُ أربعين ذوي عزمٍ لناهضتُهم٢. و لمّا وجدوه وحيداً و كان أنصاره سلمان، و أبا ذر، و المقداد، و الزبير، و عمّار بن ياسر و العبّاس بن عبد المطّلب، و ابيّ بن كعب، و عُتبة بن أبي لهب، و البَراء بن عازب و سعد بن أبي وقّاص، و طلحة بن عبيد الله٣. و جميع بني هاشم و عدد كثير آخر من المهاجرين و الأنصار، تحصّنوا في بيت فاطمة عليها السلام؛ إذ لم يجدوا مأمناً أفضل من بيت بضعة الرسول لحفظ أرواحهم. فأرسل أبو بكر عمرَ لأخذ البيعة منهم و قال له: فَإِن أبَوا فَقَاتِلهُم.٤
أخذهم أمير المؤمنين عليه السلام إلى المسجد للبيعة
جاء عمر مع جماعة من أعوانه و دخل بيت فاطمة عليها السلام يقول
ابن أبي الحديد: ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَقَالَ لِعَلِيّ: قُمْ فَبَايِع، فَتَلَكَّأ وَ احتَبَسَ۱ فَأخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ: قُمْ، فَأبَى أن يَقُومَ. فَحَمَلَهُ وَ دَفَعَهُ كَما دَفَعَ الزُّبَيْرَ حتى أمسَكَهُمَا خَالِدٌ وَ سَاقَهُمَا عُمَرُ وَ مَن مَعَهُ سَوقاً عَنِيفاً، وَ اجتَمَعَ النَّاسُ يَنظُرُونَ وَ امْتَلأتْ شَوارِعُ الْمَدِينَةِ بِالرِّجَالِ. وَ رَأتْ فاطِمَةُ ما صَنَعَ عُمَرُ فَصَرَخَتْ وَ وَلْوَلَتْ وَ اجْتَمَعَ مَعَهَا نساءٌ كَثِيرٌ مِنَ الهاشِمِيّاتِ وَ غَيرِهِنَّ فَخَرَجَتْ إلى بابِ حُجرَتِهَا وَ نَادَتْ: «يَا أبَا بَكْرٍ! مَا أسرَعَ ما أغَرْتُم عَلَى أهلِ بَيتِ رَسُولِ اللهِ. وَ اللهِ لا اكَلِّمُ عُمَرَ حتى ألقَى اللهَ».٢
أجل، فقد اقتيد أمير المؤمنين إلى المسجد بتلك الحالة المدهشة و الحبل في عنقه كَالْجَمَلِ الْمَخْشُوشِ و اخرج من بيته ليبايع أبا بكر.
و الشاهد على ذلك أنّ أمير المؤمنين كان يوماً يذكر فضائله و مناقبه لجماعة كثيرة من الناس في زمن خلافة عثمان. و كان طلحة بن عبيد الله حاضراً فقال له:
كيف نصنع بما ادّعى أبو بكر و عمر و أصحابه الذين صدّقوه و شهدوا على مقالته يوم أتوه بك و في عنقك حبل و صدّقوك بما احتججت٣. و شاهدنا الآخر هو ما كتبه معاوية إليه في إحدى رسائله فقال له: و كنتَ تقاد كما يقاد الجَمَل المخشوش حتى تبايع. و الجمل المخشوش هو الذي يُدخَل في عظم أنفه من الخشب لينقاد. فأجابه الإمام
أروع جواب في رسالة يذكر فيها محامده و محاسنه، و يعدّد قبائح معاوية و سيّئاته. فقال له ردّاً على تلك الفقرة: «وَ قُلْتَ إِنَّي كُنْتُ اقَادُ كَما يُقادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حتى ابَايِعَ. وَ لَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ أرَدْتَ أن تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وَ أن تَفضَحَ فَافتَضَحْتَ وَ مَا عَلَى الْمُسلِم مِنْ غَضَاضَةٍ في أن يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً في دينِهِ وَ لَا مُرتَاباً بِيَقِينِهِ. وَ هَذِهِ حُجَّتِي إلى غَيْرِكَ قَصْدُها وَ لَكِنِّي أطلَقتُ لَكَ مِنها بِقَدرِ ما سَنَحَ مِنْ ذِكرِهَا».۱ و٢
الدَّرْسُ الثَانِيَ وَ الْعشْرُونَ: إلى الدَّرْسِ الرَّابِعَ وَ الْعِشْريِنَ الإِشْكَالات الْوَارِدَة عَلَى آية أُولِي الأمْر » مَعَ أَجْوِبَتِهَا وَ أُخُوَّةَ أمِير الْمُؤمِنِينَ مَعَ رَسُولِ اللهِ في كَافَةِ الدَّرَجَاتِ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطّاهرين
و لعنة اللهِ على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا باللهِ العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا}۱.
أصبح جليّاً لنا من مجموع المباحث السابقة جيّداً أنّ أولي الأمر في هذه الآية المباركة هم الأئمّة المعصومون سلام الله و صلواته عليهم أجمعين. و لا يجوز حملها على الخلفاء الأربعة بعد وفاة رسول الله أو على امراء السرايا أو على العلماء؛ لأنّ العصمة غير موجودة عند جميع هؤلاء.
و لم يدّع أحد من المسلمين العصمة عندهم، إلّا الشيعة؛ إذ يعتقدون بعصمة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. و قد ذكرنا سابقاً أنّه لمّا فرضت الآية إطاعة أولي الأمر بلا قيد و شرط، و قرنت طاعتهم بطاعة رسول الله، فلا بدّ أن يكونوا معصومين.
و أمّا حمل الآية على الحكّام و السلاطين فلا يجوز أيضاً، لأنّ إطاعة هؤلاء إذا كانت واجبة مطلقاً فهي مخالفة لضرورة الدين و صريح الآيات القرآنيّة، إذ حرّمت إطاعة المكذّبين و المسرفين و كلّ ما فيه معصية للّه و مخالفة لأوامره. و إذا كانت واجبة بشكل مقيّد و عند الأمر بالطاعة فهي مخالفة لإطلاق الآية الشريفة أيضاً. و لذلك اعترف الفخر الرازيّ في تفسيره بلزوم العصمة في أولي الأمر. بَيدَ أنّه لمّا كان معارضاً لخلافة أمير المؤمنين عليّ و أبنائه الطيّبين مباشرة، فهو يقول بأنّ أولي الأمر جماعة من أهل الحلّ و العقد لهم علم و خبرة، و إجمالهم في المسائل حجّة، و نتيجة آرائهم و أفكارهم ملازمة العصمة.
و قد أبطلنا هذه النظريّة في المباحث المتقدّمة، و بيّنا مواضع الإشكال و الفساد فيها مفصّلًا.
إشكالات أهل السّنة في انطباق آية أُولي الأمر على الأئمّة المعصومين
أنّ الإشكالات التي أثارها العامّة حول انطباق الآية على الأئمّة المعصومين هي سبعة إشكالات كلّها واهية لا تصمد أمام الدليل و البرهان. و نحن هنا سنتطرّق إليها جميعها مشفوعة بالأجوبة.
الإشكال الأوّل: قيّدت الآية المباركة لفظ {أُولِي الْأَمْرِ} بكلمة {مِنْكُمْ} أي إنّهم من سنخكم. و هذا يدلّ على أنّ الواحد منهم إنسان عادي مثلنا، و هم مؤمنون من غير مزية عصمة إلهيّة.
الجواب: يتمّ هذا الاستدلال إذا كان متعلّق لفظ منكم ظرفاً لغواً، كما يصطلح عليه النحويّون، و لكنّ ظاهر الآية يفيد أنّ الظرف هنا هو ظرف مستقرّ، أي «أولِي الأمْرِ كائِنين مِنكُمْ». و هذا يدلّ فقط على أنّ أولي الأمر هم من جنس البشر لا من جنس آخر، نظير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ}۱. و قوله في دعوة إبراهيم: {رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}٢. و قوله: {رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي}٣. في ضوء ذلك، فالآية تدلّ فقط على أنّ أولي الأمر هم من الناس أنفسهم. و من الطبيعيّ، فلا شكّ أنّ الأئمّة المعصومين هم من جنس البشر لا من جنس الملائكة أو غيرهم.
الاشكال الثاني: أنّ لفظ أولي الأمر جمع، و الجمع يدلّ على مسمّى له تعدّد، فإذا أردنا أن نحمل الآية على الأئمّة المعصومين، و لمّا كان في كلّ عصر إمام واحد ليس أكثر، فهذا يلزم أن نحمل لفظ الجمع على المفرد، و هو خلاف الظاهر.
الجواب: أنّ الذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع و يراد به واحد من آحاده. و لكنّ الآية الشريفة ليست كذلك. أنّ أولي الأمر هم الأئمّة الاثنا عشر المعصومون، و لا إشكال في إطلاق لفظ الجمع عليهم. و لا يلزم في صحّة استعمال لفظ الجمع وجود جميع أفراده فعلًا، بل إذا وُجِدُوا واحداً بعد الآخر، فإنّ لفظ الجمع المنحلّ إلى الآحاد سوف ينطبق عليهم. فنحن نقول على سبيل المثال: على طالب المدرسة أن يجتاز الصفوف الدراسيّة. فالصفوف هنا جمع و لكنّ اجتيازها لا يتحقّق في زمن واحد، بل يتحقّق تدريجياً. و مثل هذا الاستعمال شائع بين الناس كثيراً. فهم يقولون: أطع رؤساءك، أي: أطع هذا الرئيس؛ لأنّه لا يوجد في كلّ عصر أكثر من رئيس واحد. و قد وردت هذه الجموع في القرآن المجيد كثيراً. منها: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}٤. {فَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ}۱. {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى}٢. {إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ}٣. {وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}٤. فالواضح من هذه الآيات هو أنّ الإنسان لا يؤدّي صلواته كلّها في زمن واحد، و لا يطيع سادته و كبراءه في وقت واحد، و لا يخفض جناحه للمؤمنين جميعهم في عصر واحد. فهذه الجموع تنحلّ إلى أفراد متعدّدين. و متى كان أحدهم مصداقاً، فهو الذي يقع عليه عبء التكليف. و آية أولي الأمر هي كذلك لأنّها منحلّة إلى أفراد، متى تحقّق وجود أحدهم في الخارج، فإنّ وجوب إطاعته سوف يتحقّق لا محالة.
الاشكال الثالث: لو كان القصد من إطاعة أولي الأمر هو إطاعة الأئمّة المعصومين. فهذا مشروط بمعرفتهم. لأنّ الإنسان إذا لم يعرفهم، فوجوب إطاعتهم محال، و هذا تكليف بما لا يطاق. و لمّا فرضت الآية المباركة إطاعتهم بنحو مطلق، فلا تنطبق إذن على الأئمّة المعصومين.
الجواب: أنّ هذا الإشكال نفسه إشكال على المستشكل؛ لأنّنا إذا اعتبرنا أولي الأمر هم المنتخبين من أهل الحلّ و العقد، فإنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم أيضاً. و لا فرق بين أن نعتبر أولي الأمر هم الأئمّة المعصومين أو غيرهم، فإطاعة التكليف- على أي حال- منوطة بمعرفة موضوعه. و الفرق الوحيد هو أنّ تعريف الأئمّة المعصومين يحتاج إلى بيان من الله و رسوله، بينما تعريف أهل الحلّ و العقد يتولّاه الناس. هذا أولًا، و أمّا ثانياً:
فإنّ معرفة الموضوع- كما جاء في علم الاصول- ليست شرطاً في أصل التكليف، بل الشرط هو تنجّز التكليف و تحقّق بلوغه. فالتكليف متحقّق من غير معرفة به و بموضوعه، لكن ليس له تنجّز، و عند قصور المكلّف عن العلم، فلا يقع عليه تكليف. و لو أردنا فرضاً أن نجعل العلم بالتكليف أو بموضوعه من شرائط التكليف نفسه كالاستطاعة في الحجّ و وجدان الماء في الوضوء، فلن يوجد تكليف مطلق أبداً. و في ضوء ما تقدّم فإنّ وجوب إطاعة أولي الأمر مطلق في هذه الآية الشريفة، و من الطبيعيّ فإنّ العلم بهم شرط لتنجّز التكليف. و عند عدم العلم، فلا تنجّز في التكليف ما لم يكن عن تقصير. و في أغلب التكاليف فإنّ العلم بالموضوع من شرائط بلوغ التكليف، لا من شرائط أصل التكليف.
الاشكال الرابع: أنّ الله تعالى يقول في هذه الآية بعد وجوب إطاعة أولي الأمر: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ}.
و هذا يعني أنّ فضّ النزاع يقع على الله و رسوله كما تصرّح الآية به. و لو كان اولو الأمر هم الأئمّة المعصومين، لأوجبت الآية الرجوع إليهم لفضّ النزاع؛ لأنّهم يحكمون بين الناس حسب الواقع. و لكن لمّا لم تصرّح الآية بالرجوع إليهم لفضّ النزاع، فهذا يعني عدم اتّصافهم بالعصمة، و عدم حجيّيّة قولهم في النزاع، و إنّما المرجع لفضّ النزاع هو الكتاب و السنّة.
الجواب: كما مرّ بنا في أوائل البحث مفصّلًا فإنّ الآية تخاطب المؤمنين:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، فقد وجبت في هذه الآية إطاعة الله و رسوله و أولي الأمر بنحو مطلق و بلا قيد و شرط. فإطاعة الله في القوانين الكلّيّة و اصول الأحكام التي يريدها القرآن المجيد.
أمّا إطاعة رسوله فلها بُعْدَان: الأوّل: ما يرجع إلى القوانين و الأحكام، نحو تفصيل الأحكام، و بيان حدود الموضوعات و مواصفاتها و تفريع الفروع المبيّنة اصولها في كتاب الله. فهذا البعد هو بعد التشريع و يختصّ برسول الله. الثاني: ما يرجع إلى أوامره الشخصيّة المتعلّقة بالمصالح الاجتماعيّة نحو تجهيز الجيش، و إرسال السرايا، و تعيين امراء الجيش و أئمّة الجماعة و المؤذّنين، و أمثالها من الشؤون التي لا ترتبط بالتشريع، بل هي منوطة برأيه و حكمه. فإطاعة رسول الله في كلا البعدين واجبة.
و أمّا إطاعة أولي الأمر فهي فقط في البُعد الثاني من بعدي طاعة الرسول؛ لأنّ أولي الأمر، و إن كانوا الأئمّة المعصومين، فهم لم و لن يأتوا بشريعة جديدة بل هم تابعون لشريعة رسول الله. لذلك لا نصيب لهم من التشريع، و إنّما شأنهم بيان الأحكام، و إبلاغ معاني القرآن، و تأويلها و تجهيز الجيوش، و النظر في المصالح الاجتماعيّة من قبيل تعيين الولاة و نصب القضاة و غيرها. فإطاعة أولي الأمر واجبة فقط في الآراء الشخصيّة. و لمّا جعلت الآية الشريفة كتاب الله و سنّة رسوله هما المرجعين لأخذ الأحكام، و لا نصيب لأولي الأمر في ذلك، لذا ينبغي الرجوع إلى الله و رسوله لفضّ النزاع، سواء من خلال الرجوع إلى أولي الأمر أو إلى غيرهم ممّن يعلم بالكتاب و السنّة. و من الطبيعيّ إذا ما تمّ الرجوع إلى أولي الأمر، و حكموا وفقاً للكتاب و السنّة لعلمهم بهما، فإنّ حكمهم سيكون قاطعاً أيضاً و تجب إطاعته في ضوء الآية المباركة.
فاتّضح لنا إذن أنّ السبب من وراء الإرجاع إلى الكتاب و السنّة و عدم الإرجاع إلى أولي الأمر في التنازع هو من باب تعيين مصادر الأحكام و التشريع المنحصرة في الكتاب و السنّة، لا من باب عدم حجّيّة قول أولي
الأمر، فقولهم حجّة و رافع للخصومة من حيث إنّه متّخَذ من كتاب الله و سنّة رسول الله.
و ممّا يؤيّد جميع ما ذكرنا، هو الآيات التالية التي تحرّم الرجوع إلى الطواغيت لفضّ النزاع و الخصومة، فقد قال جلّ من قائل: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً ، وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ، .... وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}.۱
فهذه الآيات تحرّم الرجوع إلى غير الله و رسوله لفضّ المنازعات و المشاجرات، و تدين الأشخاص الذين يتحاكمون إلى سلاطين الجور الذين يحكمون خلاف حكم الله و رسوله، لحلّ مشاكلهم، ملقيةً اللوم عليهم طاعنة فيهم لأجل ذلك. و تجعل حكم النبيّ هو الفاصل في الخصومة الرافع للمنازعة، فهذه شواهد تدلّ على أنّ الله قد جعل مرجع الأحكام في آية أولي الأمر كتابه و سنّة رسوله، لذلك ينبغي تحكيمهما في المنازعات من هذه الجهة، لا من جهة أنّ قول أولي الأمر، على فرض عصمتهم و عدم تجاوزهم الكتاب و السنّة، ليس حجّة، بل هو حجّة، و حجّيّته في طول حجّيّة الكتاب و السنّة لا في عرضها.
الاشكال الخامس: يقول الشيعة: أنّ فائدة الإمام المعصوم هي هداية الناس إلى الصراط المستقيم و إنقاذهم من المنازعات و المشاجرات و التفرقة. و هذا طبعاً مع فرض عصمتهم، و لكن لو فرض وقوع نزاع بين
أولي الأمر أنفسهم، إذ يتنازعون حول أصل الولاية أو غير ذلك، فإنّهم في هذه الحالة غير معصومين، و أنّ تلك النتيجة ستكون غير عائدة و لا مفيدة. و لمّا بيّنت الآية الشريفة تنازع الناس مع وجود أولي الأمر بل تنازع أولي الأمر أنفسهم، و اعتبرت المرجع في رفع الخصومة كتاب الله و سنّة رسوله في كافّة الأحوال، فمن المحال فرض العصمة لهم مع وجود فرض التنازع بينهم.
الجواب: كما ذكرنا سابقاً فإنّ الخطاب موجّه في هذه الآية إلى غير أولي الأمر من سائر المؤمنين {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ... }
من الواضح أنّ المعنيّين بهذا الخطاب هم أفراد آخرون من المؤمنين. و هذا الخطاب الذي يأمر الناس بطاعة أولي الأمر لا يشمل أولي الأمر أنفسهم. و عند ما يقول بعد ذلك: فإذا تنازعتم فارجعوا إلى الله و رسوله، فهو خطاب يتلو ذلك الخطاب الأوّل. و لمّا كان عطفاً فالمخاطَبون به هم نفس المخاطَبين السابقين، أي إنّهم غير أولي الأمر. لذلك فإنّ مجال التنازع هو في الوقائع الحادثة بين الناس، لا المسائل و الأحكام الصادرة عن الإمام؛ لأنّه لا معنى للتنازع في أحكامه و أوامره مع وجوب طاعته، و لا يفترض ذلك. كما لا مجال للتنازع بين أولي الأمر في المسائل الواقعة (كذلك لا يفترض نزاعهم فيما بينهم باعتبار أنّ الخطاب موجّه للمؤمنين لا لهم. مضافاً إلى ذلك فإنّهم معصومون لا يتنازعون، فالخطاب لا يشملهم. و من الواضح- طبعاً- أنّ الناس يجب أن يرجعوا في منازعاتهم إلى الكتاب و السنّة. فيُنهى نزاعهم مَن له علم بهما سواء كانوا أولي الأمر أو غيرهم. مثل الآيات التي توجّه المؤمنين إلى وجوب طاعة رسول الله، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ} و لمّا كانت تخاطب المؤمنين، فهي لا تشمل رسول الله. بل تخصّ المؤمنين الذين ينبغي أن يسألوه عن
حكم الله و الرسول أو يسألوا غيره ممّن له علم و اطّلاع، ثمّ يطيعوه. و كذلك في آية أولي الأمر فإنّ الخطاب لا يشملهم، بل يشمل غيرهم من المؤمنين الذين ينبغي أن يسألوا أولي الأمر عن الحكم و المسألة أو يسألوا غيرهم، فيعملوا وفقاً لحكم الله و رسوله.
الإشكال السادس: أنّا في زماننا هذا عاجزون عن الوصول إلى الإمام المعصوم و تعلّم الأحكام و المسائل و تأويلات القرآن منه، و لا سبيل لنا إليه، فلا يكون هو الذي فرض الله طاعته علينا، إذ لا سبيل إلى الطاعة. و من جهة اخرى لمّا كنّا نعلم أنّ الآية الكريمة فرضت طاعة أولي الأمر بنحو مطلق، فلا يكون اولو الأمر هم الأئمّة المعصومين.
الجواب: أنّ الوصول إلى الإمام كان ميسوراً لكافّة الناس في زمن الظهور كما نجد ذلك في عصور الأئمّة الأحد عشر. و أمّا في زمن الغيبة فإنّ عدم إمكان الوصول لجميع الناس مستند إليهم، إذ حرموا من ذلك الفيض بسبب سوء أفعالهم و خياناتهم و جرائمهم، فهذا القصور ليس من جهة الله و رسوله، كما لو قتلت الامّة نبيّها ثمّ اعتذرت أنّها لا تقدر على طاعته و لا تتمكّن من لقائه و الإفادة من محضره. كما وقع للُامّة في زمن الحضور مثل هذه المصائب التي يمكن أن نعتبر زمنها زمن غيبة أيضاً.
فقد سُجن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام و فرضت الإقامة الجبريّة على الإمام الرضا و غيره من الأئمّة كالإمام الجواد، و الإمام الهاديّ، و الإمام العسكريّ عليهم السلام بحيث لم يتيسّر لجميع الناس الوصول إليهم. فمتى أصلحت الامّة نفسها، و وجدت فيها القابليّة على ظهور الإمام فسوف تتشرّف بلقائه، كما نلحظ ذلك في رسالة الإمام المهديّ صلوات الله عليه التي كتبها إلى الشيخ المفيد رضوان الله عليه إذ يذكّر بهذه النقطة فيقول: «وَ لَوْ أنّ أشْيَاعَنَا- وَفَّقَهُمُ اللهُ لِطَاعَتِهِ- عَلَى اجتِمَاعٍ مِنَ
القُلُوبِ في الْوَفَاءِ بالْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لَمَا تَأخَّرَ عَنْهُمُ اليُمْنُ بِلِقائِنَا، وَ لَتَعَجَّلَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ بِمُشَاهَدَتِنَا عَلَى حَقِّ المَعْرِفَةِ وَ صِدقِهَا مِنْهُمْ بِنَا، فَمَا يَحْبِسُنَا عَنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَّصِلُ بِنَا مِمَّا نَكْرَهُهُ وَ لَا نُؤثِرُهُ مِنْهُمْ».۱
هذا من ناحية العوامّ، و أمّا من ناحية خواصّ الناس الذين يحاولون جادّين من أجل تزكيّة النفس، و يخطون خطوات ثابتة وطيدة على الصراط المستقيم مجدّين في مجاهدة المشتهيات النفسانيّة، فإنّ الطريق إلى لقاء الإمام و الإفادة من فيضه مفتوح أمامهم. فكلّ من أراد أن يتشرّف بحضور الإمام، فعليه أن يخطو خطوات صادقة مخلصة على هذا الطريق.
مضافاً إلى ذلك، فإنّ هذا الإشكال مقلوب على الفخر الرازيّ نفسه لأنّه يرى أنّ أولي الأمر هم إجماع أهل الحلّ و العقد المتّبعة آراؤهم الذين يجب عليهم أن يشكّلوا امّة واحدة في جميع العالم الإسلاميّ. و هذا- بطبيعة الحال- غير ممكن، إذ لا يتيسّر حاليّاً بأيّ وجه من الوجوه تشكيل أمّة إسلاميّة واحدة في كل العالم الإسلاميّ بنظريّة أهل الحلّ و العقد.
الاشكال السابع: إذا كان القصد من أولي الأمر هم الأئمّة المعصومين، فإنّ ذلك يحتاج إلى تعريف صريح من الله و رسوله. و لو كان ذلك، لرجعت الأمّة كلّها إليهم بعد وفاة رسول الله، و لنظروا إليهم على أنّهم الأولياء و أصحاب الاختيار، و لما اختلف في أمرهم اثنان.٢
الجواب: أنّ سبب مخالفة بعض الامّة ليس فقدان النصّ من الله و رسوله؛ لأنّ كثيراً من الامور قد ورد فيها نصّ صريح من الكتاب و السنّة
لكنّها خولفت أيضاً. فالعلم بالحكم و فهم الواقع في جانب، و تسليم القلب لأمر الله و رسوله في جانب آخر.
فما أكثر ما يكون الإنسان قد عرف جيّداً موضوعاً ما، و أدرك من الناحية الفكريّة و العقليّة حقيقة الأمر بدون أي شبهة و شكّ، بَيدَ أنّه أعرض عن ذلك الأمر المعلوم و لم يطبّقه عمليّاً بسبب حبّ الرئاسة، و غلبة النفس الأمّارة، و الانغماس في اللذّات و الشهوات، و عدم خضوع القلب أمام الحقائق و الواقعيّات. فحبّ الجاه و هوى الرئاسة عند الإنسان أقوى من حبّ المال و بعض الشهوات الغذائيّة و الجنسيّة آلاف المرّات. و ربّما أعرض الإنسان ظاهريّاً عن الشهوات الجنسيّة و الغذائيّة و الماليّة، لكنّ حبّ الجاه و الرئاسة، و هو خفيّ للغاية، يعشعش في منافذ القلب الدقيقة. و يظلّ ملازماً للإنسان حتى موته، و هو آخر ما يخرج من قلوب الصدّيقين. و كيف يخرج من القلب بهذه السرعة و هذه السهولة؟ إنّه كالصيّاد ينصب كميناً في زاوية الضمير حتّى إذا ما وجد الفرصة سانحة للهجوم فإنّه يبادر إلى ذلك، فيدعو الناس إلى اتّباعه متنازلًا عن كلّ شيءٍ لأجل ذلك حتى عن المال و الولد. غير أنّ الذين اخترقوا هذه الحواجز و نزلت فيهم آية «المباهلة» و آية «التطهير»، و كذلك الذين يرون أنفسهم تابعين لُاولئك المطهّرين، محاولين بلوغ الهدف بمجاهدة النفس غير متخطّين نصوص الكتاب و السنّة، و غير مرتابين في ولاية الأئمّة المعصومين. فهؤلاء جميعاً مستثنون ممّا ذكرنا.
النصوص الصريحة في الكتاب و السنّة حول ولاية أمير المؤمنين عليه السلام
أ لم تنزل آية الولاية في أمير المؤمنين و أبنائه الطاهرين
عليهم السلام فقال جلّ من قائل: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ}۱ فلا شكّ أنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام بإجماع الشيعة و السنّة. و قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}. و هذه الآية نزلت عند ما خاطب النبيّ الامّة في غدير خم قائلًا: «أ لَسْتُ أولى بِكُمْ مِن أنْفُسِكُمْ؟ قَالُوا: بِلَى. قَالَ: مَن كُنتُ مَوْلَاهُ فَهَذا عليّ مَوْلَاهُ».
و قال تعالى في آية التطهير: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} و هم الخمسة المطهّرون: رسول الله و أمير المؤمنين، و فاطمة، و الحسن، و الحسين صلوات الله عليهم.
و جاء في حديث السفينة: «مَثَلُ أهْلِ بَيتِي فِيكُمْ كَمَثَلِ سَفِينَةِ نُوحٍ مَن رَكِبَها نَجَى وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْها غَرِقَ».
و حديث العشيرة: «أيُّكُمْ يُؤازِرُنِي عَلَى أن يَكُونَ أخِي وَ وَزِيرِي وَ خَلِيفَتِي مِن بَعْدِي؟»
و حديث الثَّقَلَيْن: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللهِ وَ عِترَتِي أهلَ بَيتِي، مَا إِن تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أبَداً».
و حديث المنزلة: «يَا عليّ! أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارونَ مِنْ موسى إِلَّا أنَّهُ لا نَبِيّ بَعْدِي».
و حديث خصف النعل: «أنَا قَاتَلْتُ النَّاسَ عَلَى تَنزِيلِ الْقُرآنِ وَ لَكِنْ خَاصِفُ النَّعلِ يُقَاتِلُهُمْ عَلَى تَأوِيلِهِ- وَ كَانَ قَد أعْطَى عَلِيّاً نَعْلَهُ يخْصِفُها». و نحو أمره صلى الله عليه و آله أصحابه أن يسلّموا عليه بالإمارة و يقولوا: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أمير المؤمنين. و أحاديث اخرى جمّة صرّح بها رسول الله عشرات المرّات بل مئات المرّات، و في مجالس عديدة و مواطن كثيرة
فسمّاه وصيّه، و وزيره، و وارثه، و أخاه، و نَفْسه، و خليفته، و وليّ كلّ مؤمن بعده. و هذه الأحاديث التي وردت، و الآيات التي نزلت في حقّ أمير المؤمنين، و آيات اخرى غيرها، كلّها ممّا يتّفق عليها الشيعة و السنّة. فقد اعتبروا جميع إسنادها صحيحة، و رووها عن رسول الله بطرق عديدة و ذكروها في كتب التاريخ و الحديث و التفسير المعتبرة۱. أ لا تكفي كلّ هذه الآيات و الروايات المعتبرة لإثبات ولاية أمير المؤمنين و أبنائه الطاهرين؟!
أجل، فإذا لم نعتبر هذه الروايات نصوصاً صريحة، فهذا يعني أنّنا لم نفهم معنى النصّ الصريح، و لو تكلّم جبرئيل و نادى من أعلى السماء: أنّ أمير المؤمنين وصيّ رسول الله، لعادوا إلى قولهم بأنّ هذا ليس نصّاً و تصريحاً. و كلّ من يراجع كتب أهل السنّة يجدها زاخرة بأحاديث الوصاية و تصريحات رسول الله، مع ذلك فهم يقولون: لم يصرّح رسول الله بذلك.
لقد كان مشركو قريش يرون الآيات الباهرة و المعاجز القاهرة من رسول الله كلّ يوم بحيث لم يبق أمامهم أي مجال للشكّ و الإبهام، بَيدَ أنّهم لم يقرّوا بها؛ لأنّ نفوسهم لم تستعدّ لقبول قول الحقّ و الانصياع للواقع. {وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.٢
و قال تعالى: {وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا
بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ}.۱
و قال عزّ شأنه: {وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ، وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ}.٢
و قال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ}.٣
أنّ كلّ من يلاحظ سيرة رسول الله مع أمير المؤمنين عليه السلام و يستقصي اسلوبهما و سلوكهما فإنّه يقف على هذه الحقيقة بدون أي شكّ و ريب، و هي أنّ وجود ذلك الإمام العظيم امتداد لوجود رسول الله و مخلّد له، و هو نفس النبيّ، و خلافته بعد رسول الله كالشمس الساطعة في رائعة النهار.
اعتراف أبي بكر بتقدّم أمير المومنين عليه السّلام عليه
لقد كان أبو بكر و عمر و أعوانهما على علم تامّ بمنزلة أمير المؤمنين عليه السلام. و كان واضحاً عندهم ما أخبر به الرسول الكريم عن وصايته و ولايته و خلافته عليه السلام غير أنّهم لجّوا بمناهضته فاجتمعوا في السقيفة داعين الناس إلى بيعتهم بدون أن يخبروا الإمام بذلك.
يقول ابن حجر الهيثميّ الشافعيّ: روى ابن سمّان في كتابه المعروف ب «الموافقة» بإسناده عن ابن عبّاس أنّه قال: لَمّا جاءَ أبو بكرٍ وَ عليّ لِزِيارَةِ قَبْرِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِستَّةِ أيَّامٍ، قالَ عليّ لأبِي بَكرٍ: تَقَدَّم، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ: لَا أتَقَدّمُ رَجُلًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَ [آلِهِ] وَ سلَّمَ يَقُولُ فِيهِ: «عليّ مِنِّي كَمَنْزِلَتِي مِن رَبِّي».۱
و روى محبّ الدين أحمد بن عبد الله الطبريّ هذا الحديث في كتابيه: «الرياض النضرة» ج ٢، ص ١٦٣، و «ذخائر العقبي» ص ٦٤ لكن بهذه العبارة: «عليّ مِنِّي بِمَنْزِلَتي مِنْ رَبِّي».
و كذلك روى الموفّق بن أحمد الخوارزميّ بإسناده عن الشعبيّ أنّه قال: نَظَرَ أبُو بَكرٍ إلى عليّ بنِ أبي طَالِبٍ مُقْبِلًا، فَقَالَ: مَنْ سَرَّهُ أن يَنْظُرَ إلى أقْرَبِ النّاسِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ أجْوَدِهِمْ مَنْزِلَةً وَ أعْظَمِهِمْ عِنْدَ اللهِ عَنَاءً وَ أعْظَمِهِم٢ عَلَيْهِ فَلْيَنظُرْ إلى هَذَا- وَ أشَارَ إلى عليّ بنِ أبِي طالِبٍ- لأنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهُ لَرَؤُوفٌ بِالنَّاسِ وَ إِنَّهُ لأوّاهٌ حَلِيمْ»٣. و ذكر محبّ الدين الطبريّ هذا الحديث كلّه أيضاً في «الرياض النضرة» ج ٢، ص ١٦٣ من غير الاستشهاد بقول رسول الله.
و روى الشيخ سليمان الحنفيّ القندوزيّ عن كتاب «مودّة القُربي» بسنده المتّصل عن عبد الله بن عمر أنّه قال: انّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ قالَ: «خَيرُ رِجَالِكُمْ عليّ بنُ أبِي طالِبٍ، وَ خَيْرُ شَبابِكُمُ الْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ، وَ خَيْرُ نِسائِكُمْ فاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمّدٍ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَ السَّلَامُ».٤
و روى عن ابن عمر أيضاً أنّه قال: كُنّا إِذا أعْدَدْنَا أصْحابَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قُلنَا: أبو بَكْرٍ وَ عُمَرُ وَ عُثمَانُ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أبا عَبدِ الرَّحْمَنِ. فَعَلِيّ مَا هُوَ؟ قالَ: عليّ مِن أهلِ بَيتٍ لا يُقَاسُ بِهِ أحَدٌ. هُوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ في دَرَجَتِهِ. أنّ اللهَ يَقُولُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} فَفاطِمَةُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ في دَرَجَتِهِ وَ عليّ مَعَهُمَا.۱ و يمكننا أن نجد روايات كثيرة مأثورة عن رسول الله، و شواهد من كلام كبار علماء الإماميّة و علماء السنّة تؤيّد هذه الرواية التي ذكرها عبد الله بن عمر من أنّ عليّاً من أهل بيت لا يقاس به أحد.
نَحْنُ أَهْلُ بَيْتٍ لا يُقاسُ بِنَا أَحَدٌ
و روى في «ذخائر العقبي» ص ١٧ عن أنس بن مالك أنّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «نَحْنُ أهْلُ بَيْتٍ لا يُقَاسُ بِنَا أحَدٌ». و في «ينابيع المودّة» ص ٢٥٣ أنّه قال بعد حديث ابن عمر: قال أحمد بن محمّد الكُرزُريّ البغداديّ: سمعت من عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألتُ من أبي أحمد بن حنبل عن أفضل الصحابة، فقال: أبو بكر، و عمر، و عثمان. ثمّ سكت. فقلتُ: أين عليّ بن أبي طالب؟ قَالَ: هُوَ مِن أهْلِ بَيْتٍ لا يُقَاسُ بِهِ هَؤُلَاءِ.
و روى في «كنز العمّال» ج ٦ ص ٢١٨ عن «فردوس الأخبار» للديلميّ أنّه قال: قَالَ: «نَحْنُ أهْلُ بَيْتٍ لا يُقاسُ بِنَا أحَدٌ».
و ذكر عبيد الله الحنفيّ هذا الحديث في كتابه «أرجح المطالب» ص ٣٣٠عن ابن مَردويه في كتاب «المناقب». و قال أيضاً: قَالَ عليّ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «نَحْنُ أهْلُ بَيتِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لا يُقَاسُ بِنَا أحَدٌ».
و جاء في الخطبة الثانية من «نهج البلاغة» قوله: «لا يُقاسُ بآلِ مُحَمّدٍ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ مِن هَذِهِ الأمَّةِ أحَدٌ».۱
و روى الخوارزميّ الحنفيّ كذلك بإسناده عن رسول الله: «أنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ: خَيْرُ مَنْ يَمْشِي عَلَى الأرضِ بَعْدي عليّ بْنُ أبي طَالِبٍ».٢
فهذه أحاديث ذكرها أبو بكر، و عائشة، و عبد الله بن عمر أنفسهم عن رسول الله في فضائل أمير المؤمنين و أفضليّته. و نقلت أيضاً أحاديث اخرى على لسان عمر و عبد الله بن عمر و غيرهما في اخوّة الإمام لرسول الله.
أُخوّة أمير المؤمنين عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم
يقول محبّ الدين الطبريّ:٣ عَنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: آخى رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلهِ] وَ سَلَّمَ بَينَ أصْحَابِهِ فَجاءَ عليّ تَدْمَعُ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! آخَيْتَ بَيْنَ أصْحَابِكَ وَ لَمْ تُؤاخِ بَينِي وَ بَينَ أحَدٍ؟ قَالَ لَهُ
رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَليْهِ [وَ آلهِ] وَ سَلَّمَ: «أنْتَ أخِي في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ».
يقول محبّ الدين الطبريّ بعد نقل هذا الحديث: رواه الترمذيّ بسنده المتّصل، و قال: حديثٌ حَسَنٌ. و أخرجه البَغَويّ أيضاً في «المصابيح» و عدّه من الأحاديث الحِسان.
و جاء في رواية اخرى عن الإمام أحمد بن حنبل: أنّ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ لَهُ لَمَّا قَالَ: «آخَيتَ بَينَ أصحَابِكَ وَ تَركْتَنِي؟ قَالَ: وَ لِمَ تَرَانِي تَرَكْتُكَ؟ إِنَّمَا تَرَكتُكَ لِنَفْسِي، أنْتَ أخِي وَ أنَا أخُوكَ».۱
وَ عَن عليّ عَلَيهِ السَّلامُ قَالَ: «طَلَبَنِي النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فَوَجَدَنِي في حائِطٍ نَائماً فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ وَ قَالَ: قُمْ فَوَ اللهِ لُارضِيَكَ أنتَ أخِي وَ أبُو وُلْدِي، تُقَاتِلُ عَلَى سُنَّتِي، مَنْ مَاتَ عَلَى عَهْدِي فَهُوَ في كَنزِ الجَنَّةِ، وَ مَن مَاتَ عَلَى عَهْدِكَ، فَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ، وَ مَن مَاتَ عَلَى دِينِكَ بَعْدَ مَوتِكَ، خَتَمَ اللهُ لَهُ بِالأمْنِ وَ الإِيمَانِ مَا طَلَعَتْ شَمسٌ أو غَرَبَت». أخرجه أحمد.٢
وَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ الأنْصَارِيّ قَالَ: عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبٌ: لَا إِلهَ إِلّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، عليّ أخُو رَسُولِ اللهِ. وَ في رِوايَةٍ: مَكْتُوبٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، عليّ أخُو رَسُولِ اللهِ، قَبْلَ أن تُخْلَقَ السَّمَاوَاتُ وَ الأرضُ بِألْفَي سَنَةٍ» أخرَجَهُمَا أحْمَدُ في المَنَاقِب.٣
و يقول ابن الأثير: وَ آخَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ مَرَّتَينِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ آخَى بَينَ المُهَاجِرينَ، ثُمَّ آخَى بَينَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الأنصَارِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَ قَالَ لِعَليّ في كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما: «أنتَ أخِي في الدُّنيَا وَ الآخِرَةِ».٤
و روى القندوزيّ الحنفيّ عن أحمد بن حنبل في مسنده بسنده المتّصل عن مخدوج ابن زيد الهُذليّ أنّه قالَ: أنّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ آخَى بَينَ المسلمين، ثُمَّ قَالَ: «يَا عليّ!أنتَ أخِي وَ أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هَارونَ مِنْ موسى إِلَّا أنَّهُ لا نَبِيّ بَعْدِي- إلى أن قَالَ: صلى اللهُ عَلَيهِ [و آلِهِ] وَ سَلَّمَ: ثُمَّ يُنَادِي المُنَادِي مِن عِندِ العَرشِ: نِعْمَ الأبُ أبُوكَ إِبراهِيمُ، وَ نِعْمَ الأخُ أخُوكَ عليّ».۱
و قال أيضاً: لمّا كان يوم الشورى، قال عليّ لأهل الشورى: «انْشِدُكُمُ باللهَ .. هَلْ تَعْلَمُونَ .. أنّ رَسُولَ اللهِ قَالَ [بَعْدَ ما رَجَعَ مِنَ السَّمَاءِ لَيْلَةَ اسْرِى بِهِ]: فَلَمّا رَجَعْتُ مِن عِندِهِ، نَادى مُنادٍ مِن وَراءِ الْحُجُبِ: نِعْمَ الأبُ أبُوكَ إِبراهِيمُ، وَ نِعْمَ الأخُ أخُوكَ عليّ، وَ اسْتَوصى بِهِ؟» قَالُوا: نَعَمْ٢. فقد أنشد الإمام عليه السلام الحاضرين يوم الشورى بالله في فضائله التي كانوا يقرّون بها.
و روى ابن الصبّاغ المالكيّ عن ضياء الدين الخوارزميّ عن ابن عبّاس أنّه قَالَ: لَمّا آخَى رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ بَيْنَ أصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرينَ وَ الأنصارِ وَ هُوَ أنّهُ آخَى بَيْنَ أبِي بَكرٍ وَ عُمَرَ وَ آخَى بَينَ عُثمَانَ وَ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ، وَ آخَى بَينَ طَلْحَةَ وَ الزُّبَيرِ وَ آخَى بَينَ أبي ذرٍّ الغِفَاريّ وَ الْمِقدادِ، وَ لَمْ يُواخِ بَينَ عليّ بنِ أبي طالِبٍ
وَ بَينَ أحدٍ مِنهُمْ، خَرَجَ عليّ مُغضِباً حتى أتى جَدْوَلًا مِنَ الأرضِ وَ تَوَسَّدَ ذِراعَهُ وَ نَامَ فِيهِ، تَسْفِي الرِّيحُ عَلَيْهِ، فَطَلَبَهُ النَّبِي صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فَوَجَدَهُ عَلَى تِلكَ الصِّفَةَ فَوَكَزَهُ بِرِجلِهِ وَ قَالَ لَهُ: «قُم فَما صَلَحْتَ أن تَكُونَ إلَّا أبا تُرابٍ، أ غَضِبْتَ حِينَ آخَيتُ بَينَ المُهَاجِرينَ وَ الأنصارِ وَ لَمْ اواخِ بَيْنَكَ وَ بَينَ أحَدٍ مِنهُمْ؟ أ مَا تَرضَى أنْ تَكُونَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هَارونَ مِن موسى إِلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي. ألَا مَن أحَبَّكَ، فَقَد حُفَّ بِالأمنِ وَ الإيمانِ. وَ مَن أبْغَضَكَ، أماتَهُ اللهُ مِيتَةً جَاهِلِيّةً».۱
و روى ابن المغازليّ الشافعيّ أيضاً بإسناده عن زيد بن أرقم أنّه قالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، قَالَ: «إِنِّي مُواخٍ بَيْنَكُمْ كَما آخَى اللهُ بَيْنَ الْمَلائكَةِ، ثُمَّ قَالَ لِعَليّ: أنْتَ أخِي وَ رَفِيقِي، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيةَ: {إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} ألأخِلّاءُ في اللهِ يَنظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعضٍ».٢
و روى أيضاً عن حُذَيفَةَ بن اليَمان أنّه قَالَ: آخَى رَسُولُ اللهِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الأنصَارِ. كانَ يُواخِي بَينَ الرَّجُلِ وَ نَظيرِهِ، ثُمَّ أخَذَ بِيَدِ عليّ بنِ أبي طالِبٍ، فَقَالَ: «هَذَا أخي». قالَ حُذَيفَةُ: فَرَسُولُ اللهِ سَيّدُ المُرسَلِينَ وَ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ وَ رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ الذي لَيسَ لَهُ شِبهٌ وَ لَا نَظِيرٌ، وَ عليّ أخُوهُ٣. أي: إنّه عليه السلام يشارك رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم في جميع تلك الصفات. و هذا هو ما تستدعيه الاخوّة.
و كذلك روى عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده المتّصل٤، و الموفّق
ابن أحمد الخوارزميّ أيضاً بأسناده المتّصل،۱ و الحموينيّ بإسناده المتّصل أيضاً،٢ روى هؤلاء الثلاثة عن زيد بن أبي أوفى، و كذلك روى الحموينيّ٣ بسند آخر عن زيد بن أرقم باختلاف يسير في اللفظ، روى هؤلاء ما نصّه: قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ مَسْجِدَهُ فَقَالَ: أينَ فُلانُ بنُ فُلانٍ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ في وُجُوهِ أصْحَابِهِ وَ يَتَفَقَّدُهُمْ وَ يَبعَثُ إِلَيْهِمْ حتى تَوافَقُوا عِندَهُ، فَحَمِدَ اللهَ وَ أثنى عَلَيْهِ وَ آخَى بَيْنَهُمْ. وَ ذَكَرَ حَدِيثَ المُؤاخاةِ بَيْنَهُمْ- فَقَالَ عليّ عَلَيهِ السَّلامُ: «لَقَدْ ذَهَبَ رُوحِي و انْقَطَعَ ظَهْرِي حِينَ رَأيتُكَ فَعَلْتَ بِأصْحَابِكَ ما فَعَلْتَ غَيرِي، فَإن كانَ هَذَا عَن سَخَطٍ عليّ فَلَكَ العُتبي وَ الْكَرامَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: وَ الَّذِي بَعَثَنِي بالحَقِّ ما أخَّرْتُكَ إِلَّا لِنَفسِي، وَ أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هَارونَ مِن موسى غَيْرَ أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي، وَ أنتَ أخِي وَ وارثِي. قالَ: وَ مَا أرِثُ يَا رَسُولَ اللهِ!؟ قَالَ: مَا وَرَّثَ الأنْبِياءُ مِنْ قَبلِي. قَالَ: وَ ما وَرَّثَ الأنبياءُ مِنْ قَبلِكَ؟ قالَ: كِتابَ اللهِ وَ سُنَّةَ نَبِيّهِ. وَ أنتَ مَعِي في قَصْرِي في الْجَنَّةِ مَعَ ابنَتي فاطِمَةَ. وَ أنتَ أخي وَ رَفِيقِي، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ: {إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} المُتَحابُّونَ في اللهِ يَنظُرُ بَعْضُهُم إلى بَعْضٍ».
و روى صاحب كتاب «الفردوس» أيضاً بسنده عن أبي ذرّ، فقال: أسْنَدَ ظَهْرَهُ إلى الكَعْبَةِ فَقَالَ: أيُّهَا النَّاسُ! هَلُمُّوا احَدِّثْكُمْ عَن نَبِيّكُم. سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ لِعَليّ عَلَيهِ السّلامُ: «اللهُمَّ! اغْفِرهُ وَ استَغفِرْ بِهِ
اللَهُمَّ انصُرْهُ وَ انْتَصِرْ بِهِ فَإِنَّهُ عَبْدُكَ وَ أخُو رَسُولِكَ».۱
و روى ابن أبي الحديد عن أبي رافع قوله: أتَيْتُ أبا ذرٍّ بِالرَّبَذَةِ أودِّعُهُ فَلَمَّا أرَدْتُ الانصِرافَ قالَ لِي وَ لُاناسٍ معي: سَتَكُونُ فِتنَةٌ فاتَّقُوا اللهَ وَ عَلَيْكَ بالشيخِ عليّ بنِ أبي طالِبٍ فاتَّبِعُوهُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ لَهُ: «أنتَ أوَّلَ مَن آمَنَ بِي وَ أوَّلَ مَن يُصافحني يَومَ القِيامَةِ، وَ أنتَ الصِّدِّيقُ الأكبَرُ و أنت الْفارُوقُ الذي يُفَرِّقُ بَينَ الحَقِّ وَ البَاطِلِ، وَ أنتَ يَعسُوبُ المؤمنين وَ المَالُ يَعسُوبُ الكافِرِينَ، وَ أنتَ أخِي وَ وَزيرِي وَ خَيرُ مَنْ أترُكُ بَعْدِي تَقْضِي دَيْنِي وَ تُنْجِزُ مَوعِدِي».٢
و روى أيضاً ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» عن حكيم بن جبير أنّه قالَ: خَطَبَ عليّ عَلَيهِ السَّلامُ فَقَالَ في أثناءِ خُطبَتِهِ: «أنَا عبد الله وَ أخُو رَسُولِهِ لا يَقُولُهَا أحَدٌ قَبْلِي وَ لَا بَعْدِي إلّا كَذّابٌ. وَرِثتُ نَبِيّ الرَّحْمَةِ وَ نَكَحْتُ سَيِّدَةَ نِساءِ هَذِهِ الامّةِ، وَ أنا خاتَمُ الْوَصِيِّينَ»، وَ قَالَ رَجُلٌ من عَبسٍ: مَنْ لَا يُحسِنُ أن يَقُولَ مِثْلَ هَذَا؟ فَلَم يَرجِعْ إلى أهْلِهِ حتى جُنَّ وَ صُرِعَ، فَسَألوُهُمْ هَل رَأيتُمْ بِهِ قَبْلَ هَذَا، قَالُوا: ما رَأينَا بِهِ قَبْلَ هَذا عَرَضاً.٣
و روى شيخ الإسلام الحموينيّ مثل هذه الرواية عن زيد بن وهب باختلاف يسير في اللفظ.٤
و روى أحمد بن حنبل أيضاً في مسنده عن عمر بن عبد الله عن أبيه
عن جدّه أنّه قال: أنّ النَّبِيّ آخَى بَينَ النَّاسِ وَ تَرَكَ عَلِيّاً حتى آخِرهِم لا يَرى لَهُ أخاً، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ! آخَيتَ بَينَ النَّاسِ وَ تَرَكتَنِي؟ قَالَ: وَ لِمَن تَرانِي تَرَكتُكَ؟ وَ إِنَّمَا تَرَكتُكَ لِنَفسِي، أنْتَ أخِي وَ أنَا أخُوكَ. فإِن فَاخَرَكَ أحَدٌ، فَقُلْ: أنَا عَبدُ اللهِ وَ أخُو رَسُولِ اللهِ، لَا يَدَّعيها بَعْدِكَ إِلَّا كَذَّابٌ».۱
و روى ابن المغازليّ أبو الحسن الفقيه أيضاً بإسناده عن أنس أنّه، بعد نقله قصّة المواخاة بين الصحابة، و ذكره تأثّر أمير المؤمنين، عليه السلام لعدم التفات رسول الله إليه، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [و آلِهِ] وَ سَلَّمَ: «إِنَّمَا ذَخَرْتكَ لِنَفْسِي، أ لَا يَسُرُّكَ أن تَكُونَ أخَا نَبِيِّكَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! أنّى لِي بِذَلِكَ؟» فَأخَذَ بِيَدِهِ وَ أرقَاهُ المِنبَرَ، فَقَالَ: «اللَهُمَّ! هَذَا مِنّي وَ أنَا مِنهُ. ألَا إِنَّهُ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هَارونَ مِن موسى. ألا مَن كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذا عَلِيٌ مَوْلَاهُ». قَالَ: فَانصَرَفَ عليّ عَلَيهِ السَّلامُ قَريرَ العَينِ فَأتبَعَهُ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ فَقَالَ: بَخْ بَخْ يَا أبا الحَسَنِ! أصْبَحتَ مَولاي وَ مَولَى كُلِّ مُسلِمٍ.٢
و روى عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «جَمَعَ رَسُولُ اللهِ (أو دَعا رَسُولُ اللهِ) بَني عبدِ المُطَّلِب فِيهِم رَهْطٌ كُلُّهُمْ يَأكُلُ الجَذَعَةَ وَ يَشرَبُ الْفَرَقَ. قَالَ: فَصَنَعَ لَهُمْ مُدّاً مِنْ طَعَامٍ فَأكَلُوا حتى شَبِعُوا. قَالَ: وَ بَقِيَ الطَّعامُ كَما هُوَ كَأنَّهُ لَم يُمَسَّ، ثُمَ
دَعَا بِغُمَرٍ فَشَرِبُوا حتى رَوُوا وَ بَقِيَ الشَّرَابُ كَأنَّهُ لَم يُمَسَّ وَ لَم يُشرَبْ مِنهُ. فَقَالَ: يَا بَنِي عَبدِ المُطَّلِب! إِنِّي بُعِثْتُ إلَيكُمْ خاصَّةً وَ إلى النَّاسِ عامَّةً وَ قَد رَأيتُمْ مِنْ هَذِه الآيَةِ مَا رَأيتُم، فَأيُّكُمْ يُبَايِعُني عَلَى أن يُكُونَ أخِي وَ صَاحِبِي؟ قَالَ: فَلَمْ يَقُمْ إلَيْهِ أحَدٌ، فَلَمَّا كَانَ في الثَّالِثَةِ، ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى يَدِي».۱
و نحن نقلنا حديث العشيرة في الدروس الماضيّة مفصّلًا.٢ و قد وضح لدينا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام تقلّد يومئذٍ منصب الوزارة و الاخوّة، و الخلافة، و الولاية.
أجل، فهذه الأحاديث التي أتينا بها هنا حول اخوّة أمير المؤمنين عليه السلام هي غيض مختصر من الأحاديث المرويّة في هذا الباب.
و يذكر المرحوم السيّد هاشم البحرانيّ في كتابه «غاية المرام» بشأن مؤاخاة أمير المؤمنين لرسول الله واحداً و عشرين حديثاً عن طريق العامّة (في ص ٤٧٨)، و خمسة أحاديث عن طريق الخاصّة (في ص ٤٨١) و ينقل هذا المؤلّف ثمانية و ثلاثين حديثاً عن طريق العامّة (في ص ٤٨٢) و أربعة و ثلاثين حديثاً عن طريق الخاصّة (في ص ٤٨٦) كلّها تتعلّق بأخوّة الإمام لرسول الله.
و نقل ذلك كثير من علماء العامّة، مثل الترمذيّ في «الصحيح» و البَغَويّ، في «مصابيح السُنّة»، و ابن كثير في «البداية و النهاية»، و الملّا علي المتّقي الحنفيّ في «كنز العمّال»، عن مؤلّفات عديدة لعلماء الأحناف و الشوافع، و كذلك نقل هذا الموضوع ابن الأثير في «أُسد الغابة»، و الموفّق بن أحمد الحنفيّ الخوارزميّ في «المناقب»، و أحمد بن حنبل في
«المسند»، و إبراهيم بن محمّد الحموينيّ الشافعيّ في «فرائد السمطين» بطرق عديدة، و المناويّ في «كنوز الحقائق» إذ طبع في حاشيّة «الجامع الصغير» للسيوطيّ الشافعيّ۱ في «مطالب السئول»، و سبط بن الجوزيّ في «التذكرة»، و ابن صبّاغ المالكيّ في «الفصول المهمّة»، و محبّ الدين الطّبريّ في «ذخائر العقبي»، و جمال الدين محمّد بن يوسف الزرنديّ الحنفيّ في «دُرَر السمطين»، و غير هؤلاء.
أنّ الروايات المأثورة بشأن الاخوّة هنا كلّها مأخوذة من مصادر العامّة و كتبهم. و ما رواه الخاصّة في كتبهم بشأن هذا الموضوع كثير أيضاً، بَيدَ أنّا لمّا كنّا نرمي إلى النقل عن العامّة غالباً من وحي «وَ الْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الأعْدَاءُ»، لذلك اكتفينا بما نقلناه هنا٢. يقول السيّد إسماعيل الحِميَريّ:
فَتى أخَوَاهُ الْمُصَطَفي خَيرُ مُرسَلٍ | *** | وَ خَيْرٌ شَهِيدٍ ذُو الْجَنَاحَيْنِ جَعْفَرُ٣ |
و يمكن قياس معنويّات الصحابة من خلال عقد الاخوّة الذي تمّ على يد النبيّ، و هو صلى الله عليه و آله ما يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، لأنّ هذا العقد قد راعى تماماً الجانب الروحيّ، و الانسجام الفكريّ، و حجم الإلفة و الرفقة و البعد النفسي عند الصحابة. و لذلك نراه صلى الله عليه و آله قد أخى٤ بين
أبي بكر و عمر، و بين عثمان و عبد الرحمن بن عوف، و بين طلحة بن عبيد الله و الزبير بن العوّام، و بين أبي ذرّ الغفاريّ و المقداد بن عمرو و بين معاوية بن أبي سفيان و حُباب بن يزيد المجاشعيّ۱. و أمّا مؤاخاته صلى الله عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السلام ففيها أسرار تتّضح من خلال التأمّل و الإمعان في الروايات المأثورة في هذا الحقل و غيره من الحقول، إذ تُظهر لنا تلك الروايات كيفيّة تعامله صلى الله عليه و آله مع أمير المؤمنين. و من المقطوع به أنّ هذه الاخوّة ليست أمراً اعتباريّاً صوريّاً، بل هي تعبّر عن نوع من الاتّصال و الارتباط الحقيقيّ بينهما بدليل أنّ أمير المؤمنين لمّا سأله عن سبب تركه إيّاه بلا أخ، أجابه بأنّه هو أخوه و ليس له أخ غيره، و قد ذخره لنفسه. فهذا الإرتباط الحقيقيّ يدلّ على نوع من الوحدة و الاتّحاد في أصل الخلقة و الفطرة كالأخوين الحقيقيّين الذينِ ينشآن من أصل واحد، و ينموان في رحم واحد، و كذلك الروح المقدّسة لرسول الله، و الروح المقدّسة لأمير المؤمنين عليها الصلاة و السلام فإنّهما قد انبثقتا عن عالم واحد، هو عالم النور و الطهر و التوحيد.
و على هذا الأساس، جاءت الروايات التي نقلناها سابقاً عن رسول الله صلى الله عليه و آله إذ قال:٢ خُلِقتُ أنا و عليّ من نور واحد، و سرى ذلك النور دائماً في أصلاب آبائنا حتى عبد المطّلب، ثمّ انقسم نصفين، فصار نصف إلى عبد الله، و نصف إلى أبي طالب. فظهر من
عبد الله رسول الله، و من أبي طالب وصيّ رسول الله. فهو خاتم النبيّين، و هذا خاتم الوصيّين.
خُلِقتُ أَنا و عليّ من شجرة واحدة و الناس من أشجار شتّى
و كذلك جاءت الروايات التي تدلّ على أنّه صلى الله عليه و آله و سلّم: قال۱: خُلِقتُ أنا و عليّ من شجرة واحدة و الناس من أشجار شتّى. و قال أيضاً: و الأنبياء من أشجار شتّى. و ثمّة روايات كثيرة تدلّ على وحدة نفسيهما، نحو قوله: عليّ بن أبي طالب نفسي، و قوله: هو مثلي.
أجل، فهذا الاتّحاد في الفكر و الطبيعة بين ذينك العظيمين في هذه الدنيا و في جميع المراحل إنّما هو نابع عن اتّحاد النور و الحقيقة في باطن أمرهما و ملكوتهما و هذا أمر مهمّ للغاية، إذ هما كالأخوين الذينِ يمثّلان فرعين من أصل واحد.
الشواهد على أنّ أُخوّة أمير المؤمنين عليه السلام و رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم دالّة على وحدة حقيقتيهما
فذانك الإمامان في عالم الإنسانيّة هما جسمان مختلفان من نور واحد و حقيقة واحدة. و لذلك قال حذيفة: لمّا قال النبيّ بأنّ عليّاً أخوه، و هو سيّد المرسلين و إمام المتّقين و رسول ربّ العالمين، و لا مثيل له: فعليّ بن أبي طالب بما تقتضيه مقام الاخوة هو سيّد الوصيّين و إمام المتّقين و المنصوبُ مِن قِبَلِ رَبِّ العالمين و لا مثيل له. و هذا تفسير استنبطه حذيفة من نفس معنى الاخوّة. و الشاهد على هذا المعنى قوله صلى الله عليه و آله: مكتوب على باب الجنّة: «محمّد رَسُولُ اللهِ وَ عليّ أخُوهُ». و الجنّة هي عالم المعنى و الحقيقة و ظهور البواطن و الخفايا. و كان رسول الله، و وليّ الله معاً في تلك العوالم، بل في عوالم أعلى منها.
لذلك قال رسول الله: كانت اخوّة عليّ مكتوبة على باب الجنّة من قبل ألفَي سنة. و هذه القبليّة إشارة إلى العوالم العليا حيث كان اتّحاد تينك
الروحين المقدّستين.
و الشاهد الآخر على هذا المعنى أيضاً هو ما جاء في أغلب الروايات المأثورة عن رسول الله أنّه قال: يا عليّ! أنتَ أخي في الدنيا و الآخرة. و الدنيا عالم ظاهر و الآخرة عالم باطن. أي أنت أخي في هذه الدنيا من حيث الإبلاغ، و القتال على تأويل القرآن، و الجهاد، و العلم، و القضاء و سائر شئون النبوّة. و أنت أخي في الآخرة من حيث العلم، و المعرفة و التوحيد، و الصفات الحميدة كالكرم، و الحلم، و العفو، و الإيثار و سائر المَلَكات، و من حيث الاطلاع على السرائر و المغيّبات في المواطن كلّها.۱ و اللطيف ما ورد عنه في بعض الروايات المذكورة أنّه قال: أنتَ أخي و رفيقي، أي: أنت ملازمي و مرافقي في تلك المراحل جميعها. و قال. صلى الله عليه و آله ترسيخاً لهذا المعنى: أنتَ أخي و أنا أخوك و من الواضح أنّ الاخوّة من الامور الإضافيّة، فكلّ من كان أخاً لشخص فذلك الشخص هو أخ للأوّل حتماً، فلا حاجة إلى التذكير و التنبيه، بَيدَ أنّ رسول الله أراد أن يثبّت هذا المعنى إلى درجة لم يبق معها أي مجال للشبهة و التأويل.
و لذلك نراه يقول: من مات على دينك، ختم له بالأمن و الإيمان. و أنّ الذين على دينك، أي: شيعتك محفوفون بالخير و العافية، و الأمن و السلامة، و الإيمان و اليقين ما طلعت شمس أو غربت، و ما زالت الدنيا. و من مات على بغضك، فإنّ الله يميته ميتة أهل الجاهليّة. أي: من لم
و كانَ لَهُ أخاً وَ أمينَ غَيْبٍ | *** | عَلي الْوَحيِ المُنزّلِ حِينَ يُوحَي |
يتّصل بك، فإنّه لا يعرف عن الإسلام شيئاً. و من لم يعرفك، فإنّه لم يعرفني، و من أبغضك، فقد أبغضني. و من ردّ عليك و أنكرك، فقد ردّ عليّ و أنكرني.
و بُعَيد بيان حقيقة الاخوّة، ذكر رسول الله معنى الوزارة مشبّهاً إيّاها باخوّة هارون و وزارته لموسى. فأمير المؤمنين من النبيّ كهارون من موسى في جميع النواحي إلّا النبوّة فإنّها ليست لأحد بعده. فهو منه كَهارون من موسى في النواحي المعنويّة و الظاهريّة كالخلافة، و الوصاية و الوزارة، و الاخوّة، و المعاني الساميّة الراقية، و إدراك الأسرار و ما تنطوي عليه الضمائر. و قد قال له بعد ذكره الاخوّة: أنت الصدّيق الأكبر، و أنت الفاروق بين الحقّ و الباطل، و أنت الذي تقضي دَيني بأداء الرسالة، و أنتَ الذي تبلّغ عنّي، و تنجز عِداتي. و أنت مثلي، فما صدر عنّي، صدر عنك.
و الشاهد الآخر قوله صلى أهله عليه و آله: هذا عظيم الفخر لك، و إن فاخرك أحد بعدي، فقل: أنا عبد الله و أخو رسول الله لا يدّعيها غيرك إلّا كذّاب.
أجل، فما أتينا به من بحث هنا كان من وحي فقه الحديث ليعرف معنى اخوّته جيّداً. و ما ذكره رسول الله بعد هذه العبارة: أنتَ أخي، نحو: «و وصيّي، و وَزيرِي، أو في الدُّنيا و الآخِرَة، أو وَ أنتَ الصِّديقُ الأكبَرُ»، أو «وَ أنتَ تَقضِي دَيْني وَ تُنجِزُ عِداتِي»، و غيرها ممّا ذكرناه، فإنّها تمثّل جملًا تفسيريّة لمعنى الاخوّة.
و لذلك يمكن أن نجزم قائلين: أنّ منصب الاخوّة أعلى من مناصب أمير المؤمنين جميعها؛ لأنّ الخلافة، و الوزارة، و الولاية، و الإمارة و الوراثة، و غيرها. كلّها ترتشف من أصل وحدته و اخوّته له صلى الله
عليه و آله. و لا يمكن العثور على مقام أرفع من هذا بعد مقام العبوديّة و لذلك قال له رسول الله: «قل لمن فاخرك أنَا عَبدُ اللهِ وَ أخُو رَسُولِهِ».
استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام بأُخوّته لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم عند بيعة أبي بكر
فَهذا الإخبار من لدن رسول الله هو إخبار عن الغيب و كشف عن الحقيقة؛ لأنّه لم ينكر أحد اخوّة عليّ لرسول الله إلّا عُمَر، عند ما اقتيد الإمام إلى المسجد للبيعة، و هو بذلك الموقف المأساويّ الفظيع و الحالة الأليمة الفجيعة. لقد تجرّأ عليه عمر قائلًا له بكلّ وقاحة: إن لم تبايع أبا بكر و الله نضرب عنقك. فقال عليه السلام: «تَقتُلُونَ عَبدَ اللهِ وَ أخا رَسُولِهِ» فقال عمر: أمّا عبد الله، فنعم، و أمّا أخو رسوله، فلا. يقول ابن قتيبة:
فَأخرَجُوا عَلِيّاً فَمَضُوا بِهِ إلى أبي بكرٍ، فَقَالُوا لَهُ: بَايِعْ. فَقَالَ: «إنْ أنَا لَم أفْعَلْ، فَمَهُ؟» قَالُوا: إذَنْ و اللهِ الذي لَا إلَهَ إلّا هُوَ نَضْرِبُ عُنُقَكَ. قَالَ: «إِذاً تَقْتُلُونَ عبد الله وَ أخا رَسُولِهِ». قَالَ عُمرُ: أمّا عبد الله، فَنَعَمْ. وَ أمّا أخُو رَسُولِهِ، فلا.۱
وَ أبُو بَكْرٍ سَاكِتٌ لَا يَتَكلَّمُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أ لَا تَامُرُ فِيهِ بِأمْرِكَ؟ فَقَالَ: لا اكْرِهُهُ عَلَى شَيءٍ ما كانَت فاطِمَةُ إلى جَنبِهِ. فَلَحِقَ عليّ بِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَصِيحُ وَ يَبكي، وَ يُنادِي: «يَا بْنَ امَّ أنّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي وَ كَادُوا يَقْتُلُونَنِي».۱
أشار الإمام هنا- وفقاً لحديث المنزلة- إلى قضيّة هارون أخي موسى عند ما خلّفه على بني إسرائيل و ذهب هو إلى ميقات ربّه. فزيّن السامريّ العجل، و قدّمه إلى بني إسرائيل، و دعاهم إلى عبادته: فلما رآه بنو إسرائيل، توجّهوا إليه، و سجدوا له، متمرّدين على وصيّ موسى و أخيه هارون، إذ خلعوا طاعته، و أعرضوا عن عبادة الله. فصاح بهم هارون و نصحهم، و حاول أن يصدّ السامريّ عن عمله، بَيدَ أنّه لم يفلح و ذلك بسبب قوّة التبليغ السيّئ الذي قام به السامريّ، و العجل المزَيَّن، و انحراف الناس نحو الصنميّة التي كانوا قد نسوها مدّة، بحيث كانت رغبتهم في الرجوع إليها قد بلغت درجة لم ينفع معها كلام هارون و مبادرته إلى رفع ذلك البلاء. و لمّا رجع موسى من الطور، و وجد قومه عاكفين على عبادة العجل، غضب، و صاح بأخيه هارون لتركه إيّاهم على تلك الحالة.
{قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي}.٢
الدَّرْسُ الْخَامِسُ وَ الْعشْرُونَ: إلى الدَّرْسِ الثلَاثِينَ وَصَايَةُ أمِير المْؤُمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ قِبَلِ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ ءَالِهِ وَ سَلَّم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطّاهرين
و لعنة اللهِ على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا باللهِ العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا}۱.
الدين الإسلاميّ المقدّس دين كامل شُرّع على أساس الفطرة. و هو الدين الذي يُلبّي جميع الحاجات الفطريّة للإنسان بنحو تام من أجل ارتقاء البشر إلى منازل السعادة. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها}٢. و لم يترك الإسلام أي حكم من الأحكام الفطريّة إلّا و صرّح به بنحو أتمّ. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}٣. و قال الرسول الأكرم: «إِنَّمَا بُعِثتُ لُاتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلَاقِ»٤. و قال أيضاً: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبَكُمْ إلى اللهِ إِلّا وَ قَدْ دَعَوْتُكُم إلَيه، وَ مَا مِنْ شَيْءٍ يُبَعِّدُكُمْ عَنِ
النَّارِ إِلَّا وَ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ».۱
الوصيّة من الأحكام الفطريّة و العقليّة
تمثّل الوصيّة حكماً من أحكام الشريعة المتقنة المرتكزة على الفطرة، و الوصيّة تعني أنّ الإنسان يوصي بشأن امور دينه و دنياه كي لا تُترك سدى، و كما تكون في الحياة بشكل أفضل، فكذلك هي بعد الممات تكون بشكل أفضل أيضاً. و الوصيّة حكم عقليّ و قد أقرّها الشارع المقدّس أيضاً. و هذا الحكم له ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: حكم الفطرة، و هذا يعني أنّ كلّ إنسان مجبول فطريّاً على الرغبة في القيام بأعماله و الإشراف على جميع شئونه مباشرة و وفقاً لرأيه و هواه. فهذا حكم فطري و غريزة إلهيّة فالإنسان لا يريد أبداً أن يُفِلتَ زمام اموره من يده فيكون بِيَدِ شخص آخر غريب عنه. و إلى جانب رغبته في أعماله و شئونه المتنوّعة، فإنّ له رغبة في أن يكون صاحب القرار فيها من حيث التصرّف و التغيير و التبديل و المحافظة عليها و غير ذلك. و هذه الرغبة لا تنتهي عند ساعة الاحتضار بل تمتدّ إلى ماشاء الله من عمر الزمن ما دام الإنسان يشاهد آثاره شاخصة بعد الموت على تعاقب السنين و تصرّم الأيّام و الشهور و الدهور.
و لذلك نراه في هذه الدنيا قد مدّ بصره بنظرة ثاقبةٍ فاحصة نحو زمن ما بعد الموت حتى افق واسع و شعاع طويل للغاية فيه. و هو يحاول جاهداً
أن يفرض إرادته و يعبّر عن رأيه و حرّيّته و عمّا يراه من صالحه، و ذلك من أجل المحافظة على آثاره من علم، و كتاب، و صدقة، و بناء، و ولد و زوجة و مزرعة، و أمثال ذلك. و يبذل أقصى جهده من أجل تحقيق ذلك بعد الموت. و هذه الغريزة الفطرية ملحوظة حتى عند الحيوانات. إذ أنّ أكثرها عند ما يشعر بقرب موته و يرى علامات الموت، فإنّه يشيّد لأفراخه بيتاً محكماً و عُشّاً رصيناً بعيداً عن كلّ خطر.
المرحلة الثانية: حكم العقل. لا شكّ أنّ العقل يفرض سيطرته على الإنسان من خلال ما يفكّر به الإنسان نفسه من ضرورة الإهتمام باموره و تنظيمها و عدم إهمالها و يدرك أنّ عليه تعيين وصيّ له بعد لحفظها و حراستها لتنظيم آثاره و الإفادة منها. و يوصي بالمحافظة عليها لكي يتسنّى له الإفادة منها بعد موته بنفس المقدار الذي كان يطمح أن يفيد منها في حياته و العقلاء في العالم ينظرون إلى الشخص الذي يموت بلا وصيّة تاركاً و راءه زوجة، و ذرّيّة، و محلّ تجاريّ، أو مزرعة، أو أمر متعلّق بالحكومة أو بالمسائل العلميّة، أو أمثال ذلك بدون تدبير، ينظرون إلى مثل هذا الشخص نظرة امتهان و ازدراء، و يرونه إنساناً ناقصاً، و يذمّونه على ترك الوصيّة. على عكس ما لو أوصى و عيّن له وصيّاً كفوءاً خبيراً بصيراً مدبّراً يدير شئونه و يتولّى أمر ذرّيّته من أولاده الصغار و غيرهم. فإنّهم يُثنون عليه و يمجّدونه، و ينظرون إلى عمله بوصفه عملًا إنسانياً.
المرحلة الثالثة: حكم الشرع الذي شُرّع على أساس حكم الفطرة و حكم العقل. و الوصيّة في ضوئه حكم ممدوح و مستحسن في جميع الشرائع و الأديان. و قد جاءت الوصيّة في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة التي هي أكمل الشرائع و أتمّها بحدود و مواصفات معيّنة واضحة لا غبار عليها. قال تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.۱
الولاية أهمّ مسألة في الدين
أنّ أهمّ مسألة من مسائل الدين هي مسألة الولاية، أي تولّي زمام الامور الدينيّة الباطنيّة، و البدنيّة و الروحيّة، و الدنيويّة و الاخرويّة، و المادّيّة و المعنويّة، و العباديّة و الاجتماعيّة. و هذه الامور جميعها منطوية في أمر الدين، و كانت الولاية عليها لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.
الولاية هي روح الدين، و الدين بدونها جسد هامد لا حراك فيه كالدين بدون نبيّ مبعوث من الله، أو كمعالجة المريض بدون طبيب، أو كبناء البيت بدون معمار. أو كإجراء عمليّة جراحيّة بدون استاذ معالج؛ لأنّ سعادة الناس في ظلّ الدين، و قوام الدين في ظلّ حافظه و حارسه العارف باصوله و فروعه و القيّم على معارفه و حقائقه. و كما أنّ الإنسان يتنكّب عن جادّة الإنسانيّة ما لم يكن له دين، و لا يصدق عليه إلّا اسم الإنسان فقط، فكذلك الدين فإنّه يعدل عن الصراط المستقيم ما لم يكن له إمام، و لا ينطبق عليه إلّا اسم الدين فقط. و لذلك نرى أنّ ذلك المقدار من التوصيات النبويّة بشأن الولاية لا يضارعه شيء ممّا ورد في المسائل الدينيّة الاخرى. و أنّ ذلك الحجم من التعظيم الذي أولاه النبيّ لمقام الولاية، و تأكيده المتواصل، و تذكيره المتابع، و أخذه العهد و البيعة من الناس و الصحبة، و تذكيراً بتوجيه الخطاب إليهم، و إشهادهم على ذلك
لا يضاهيه ما جاء في أي حكم من أحكام الدين الاخرى، بل و لا يبلغعُشره أو واحداً بالمائة أو واحداً بالألف منه.
أنّ قراءة في السيرة النبويّة و مطالعة في التاريخ الصحيح تكشفان لنا أنّ ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند النبيّ صلى الله عليه و آله مع أصل الإسلام على حدّ سواء. و أنّ كفّتها متساوية مع كفّة النبوّة و القرآن، بل هي روح النبوّة و روح القرآن.
إننّا في هذا البحث- ناهيك عن الأحاديث النبويّة بشأن ولاية أمير المؤمنين المأثورة بعناوين مختلفة و عبارات متنوّعة، نحو حديث العشيرة، و حديث أنَس، و حديث الغدير، و حديث المنزلة، و حديث الثَّقَلَين. و حديث السفينة. و غيرها التي جاء بعضها في هذا الكتاب و سيجيء بعضها الآخر لاحقاً- نريد أن نعرض الأحاديث التي ورد فيها لفظ الوصيّة بشكل خاصّ، حتى يتبيّن لنا كثرة المواطن التي أطلق رسول الله فيها لقب «سيّد الوصيّين» أو «سيّد الأوصياء» أو «وصيّي» علي أمير المؤمنين. و كذلك سمّاه في مواطن كثيرة: «خليفتي» و بالألقاب التي تحمل معنى الخليفة و الوصيّ.
وصاية أمير المؤمنين عليه السلام من قِبل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم
أعلن رسول الله في أوّل يوم دعا فيه عشيرته إلى الإسلام أنّ عليّاً أخوه و وزيره و وصيّه و خليفته. و قد نقلنا و قائع تلك الجلسة في هذا الكتاب.
الروايات الواردة في أنّ وصاية أمير المؤمنين عليه السلام من قبل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم
و روى ابن المغازليّ، و هو من أعيان علماء العامّة، بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يَا عليّ أنتَ سَيِّدُ المسلمين
وَ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ وَ قائِدُ الْغُرِّ المُحَجَّلين وَ يَعْسُوبُ المؤمنين»۱. ثمّ قال ابن المغازليّ نفسه: قال أبو القاسم الطائيّ: سألت أحمد بن يحيي عن معنى اليعسوب، فقال: أمير النحل و ذَكَرها. و قد شبّه رسول الله عليّ بن أبي طالب في هذا الخبر بأمير النحل.
و روى الشيخ عبد الحافظ بن بدران عن جماعة كثيرة عن مشايخه بسلسلة إسناده المتّصل عن الشعبيّ قوله: قَالَ عليّ عَلَيْهِ السَّلامُ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله علَيهِ وَ آلهِ و سلّم: مَرحَباً بِسَيِّدِ المسلمين، وَ إمَامِ الْمُتَّقِينَ. فَقِيلَ لِعَليّ: فَأيّ شَيءٍ كَانَ مِنْ شُكْرِكَ؟ قَالَ حَمِدتُ اللهَ عَزَّ وَ جلَّ عَلَى مَا آتانِي، وَ سَألْتُهُ الشُّكْرَ عَلَى مَا أوْلَانِي، وَ أن يَزِيدَني مِمَّا أعْطَانِي».٢
و نقل الحموينيّ، و هو من كبار علماء العامّة، بسنده المتّصل عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّهُ قَالَ: كُنتُ يُوماً مَعَ النَّبِيّ صلى الله عَلَيهِ وَ آلهِ وَ سلّم في بعضِ حِيطانِ المَدِينَةِ وَ يَدُ عليّ في يَدِهِ، فَمَرَرْنا بِنَخلٍ فَصَاحَ النخْلُ: هَذَا مُحَمّدٌ سَيِّدُ الأنْبِياءِ، وَ هَذَا عليّ سَيِّدُ الأوصِيَاءِ وَ أبُو الأئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ، ثُمَّ مَرَرْنَا بِنَخلٍ: فَصَاحَ النَّخْلُ، هَذَا الْمَهْدِيّ، وَ هَذَا
الْهادِي، ثُمَّ مَرَرْنَا بِنَخلٍ، فَصَاحَ النَّخل: هَذَا مُحَمَّدٌ رسُولُ اللهِ، وَ هَذَا عليّ سَيْفُ اللهِ، فالْتَفَتَ النَّبِيّ إلى عليّ، فَقَالَ: «يَا عليّ سَمِّهِ: الصَّيحانِيَ» فَسُمِّيَ مِن ذَلِكَ اليَومِ: الصَّيحانِيّ.۱
و نقل أيضاً بإسناده المتّصل عن سعيد بن جُبَير عن ابن عبّاس أنّه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سلّم لُامّ سَلَمَةَ: «هَذَا عليّ بنُ أبِي طَالِبٍ لَحْمُهُ لَحْمِي وَ دَمُهُ دَمِي وَ هُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إِلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي يَا امَّ سَلَمَةَ هَذَا عليّ أمير المؤمنين وَ سَيِّدُ المسلمين وَ وَصِيِّي وَ عَيبَةُ عِلمِي وَ بَابي الذي اوتى مِنهُ. أخي في الدُّنيَا وَ الآخِرَةِ وَ مَعِي في السَّنَامِ الأعلَى، يَقتُلُ النَّاكِثِينَ وَ القَاسِطِينَ وَ المَارِقِينَ».٢ (أصحاب الجمل و صفّين و النهروان).
و روى أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ بإسناده عن ابن أبي ليلي عن الحسن بن عليّ عليهما السلام أنّه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَليهِ [وَ آله] و سلّم: ادعُوا إلى سَيِّدَ الْعَرَبِ» - يَعْنِي عَليّاً- فَقَالَت عائشَةُ: أ لَستَ سَيِّدَ الْعَرَبِ؟ قَالَ: «أنا سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ وَ عليّ سَيِّدُ الْعَرَبِ»، فَلَمَّا جاءَ عليّ أرسَلَ إلى الأنصَارِ فَأتَوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: «يَا مَعشَرَ الأنصَارِ! أ لَا أدُلُّكُمْ عَلَى مَا إِن تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلِّوا بَعْدَهُ أبَداً» ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ؛ قَالَ: «هَذَا عليّ فَأحِبُّوهُ بِحُبِّي وَ أكْرِمُوهُ بِكَرَامَتِي فَإنَّ جَبْرَئيلَ أمَرَنِي بِالَّذِي قُلتُ».٣ قال أبو نعيم: رووا هذا الحديث بسند آخر أيضاً عن سعيد بن جبير.
و روى أبو الحسن الفقيه محمّد بن أحمد بن عليّ بن شاذان في كتابه «فضائل عليّ و أولاده المعصومين عليهم السلام» الحاوي مائة منقبة عن طريق أهل السنّة، روى بإسناده عن حَبّةَ العُرَنيّ، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سلّم: أنَا سَيِّدُ الأوّلِينَ وَ الآخَرِينَ، وَ أنتَ يَا عليّ؛ سَيِّدُ الخلائِقِ بَعْدِي، أوَّلُنا كآخِرِنَا وَ آخِرُنَا كَأوَّلِنَا».۱
و روى ابن شاذان أيضاً عن طريق العامّة عن ابن عبّاس أنّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سلّم: «وَ الَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ بَشيراً ما اسْتَقَرَّ الْكُرسِيّ و الْعَرشُ وَ لَا دارَ الْفَلَكُ وَ لَا قَامَتِ السمَاوَاتِ وَ الأرضُ إِلَّا بِأنْ كُتِبَ عَلَيها: لَا إِلهَ إِلّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، عليّ أمير المؤمنين وَ أنّ اللهَ تعالى عَرَجَ بي إلى السَّمَاءِ وَ اخْتَصَّنِي بِلَطِيفِ نِدَائِهِ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قُلتُ: لَبَّيكَ رَبِيّ وَ سَعْدَيْكَ، فَقَالَ: أنَا الْمَحْمُودُ وَ أنتَ مُحمَّدٌ شَقَقْتُ اسْمَكَ مِنْ اسْمي وَ فَضَّلْتُكَ عَلى جَمِيعِ بَرِيَّتِي فَانْصِبْ أخاكَ عَلِيّاً عَلَماً يَهْديهِمْ إلى دِيني. يَا مُحَمَّدُ! إِنّي جَعَلْتُ عَلِيّاً أمير المؤمنين، فَمَنْ تَأمَّرَ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُ، وَ مَن خَالَفَهُ عَذَّبتُهُ، وَ مَن أطَاعَهُ قَرَّبْتُهُ. يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي قَدْ جَعَلتُ عَلِيّاً إِمَامَ المسلمين، فَمَن تَقَدَّمَ عَلَيْهِ أخزَيتُهُ، وَ مَنْ عَصَاهُ اسْتَجْفَيْتُهُ. أنّ عَلِيّاً سَيِّدُ الوَصِيّينَ، وَ قَائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلين، وَ حُجَّتِي عَلَى جَمِيعِ خَلْقِي أجمَعِينَ».٢
و روى هو أيضاً عن طريق العامّة عن ابن عبّاس أنّه قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سلّم يَقُولُ: مَعاشِرَ النَّاسِ! اعْلَمُوا أنّ
لِلّهِ تعالى بَاباً مَنْ دَخَلَهُ أ مِنَ مِنَ النَّار وَ مِنَ الْفَزَعِ الأكْبَرِ» ، فَقَالَ لَهُ أبو سَعِيد الخُدْريّ: يَا رَسُولَ اللهِ! اهْدِنَا إلى هَذَا البَابِ حتى نَعْرِفَهُ، قَالَ: «هُوَ عَلِيّ بْنُ أبِي طالِبٍ سَيِّدُ الوَصِيِّينَ وَ أمير المؤمنين و أخُو رَسُولِ رَبِّ العالَمِينَ وَ خَلِيفَةُ اللهِ عَلى النّاسِ أجمَعِينَ. مَعَاشِرَ النَّاسِ! مَنْ أحَبَّ أن يَسْتَمْسِكَ بالعُروَةِ الوثْقَى الَّتي لَا انْفِصَامَ لَها، فَليَتَمَسَّكْ بِوِلَايَةِ عليّ بنِ أبِي طالِبٍ فَإِنَّ وِلَايَتُهُ وِلَايَتِي وَ طَاعَتُهُ طَاعَتِي. يا مَعَاشِرَ النَّاسِ مَن أمرّه الله ليَقتَدِيَ بِي فَعَلَيهِ أن يَتوالى وِلَايَةِ عليّ بنِ أبِي طالِبٍ فَإنَّ وِلَايَتُهُ وِلَايَتِي وَ طَاعَتُهُ طَاعَتِي. يَا مَعَاشِرَ النَّاسِ! مَن أحَبَّ أن يَعْرِفَ الحُجَّةَ بَعدِي فَليَعْرِفْ عليّ بنَ أبِي طَالِبٍ بَعْدي وَ الأئِمّةَ مِنْ ذُرِّيَتِي فَإِنَّهُمْ خُزّانُ عِلمِي». فَقَامَ جابِرُ بنُ عَبدِ اللهِ الأنصَارِيّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ما عِدَّةُ الأئِمّةِ؟ فَقَالَ: «يَا جَابِرُ؛ سَألتَنِي رَحِمَكَ اللهُ عَنِ الإسلَامِ بِأجْمَعِهِ، عِدَّتُهُمْ عِدَّةُ الشُّهُورِ وَ هُوَ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً في كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ و الأرضَ وَ عِدَّتُهُمْ عِدَّةُ العُيُونِ التِي انْفَجَرَت مِنهُ لِمُوسَى بْنِ عِمْرانَ حِينَ ضَرَبَ بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيناً، وَ عِدَّةُ نُقَباءِ بَنِي إسرائيلَ. قَالَ اللهُ تعالى: {وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} فَالأئِمّةُ يا جَابِرُ؛ اثْنَا عَشَرَ إمَاماً، أوَّلُهُمْ عليّ بنُ أبِي طَالِبٍ، وَ آخِرُهُمُ القائِمُ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِم».۱
و روى ابن شاذان أيضاً بإسناده من طريق العامّة عن أبي ذر الغفاريّ أنّه قالَ: نَظَرَ النَّبيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سلّم إلى عليّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: «هَذَا خَيرُ الأوَّلِينَ مِنْ أهلِ السَّمَاوَاتِ وَ الأرَضِينَ، هَذَا سَيّدُ الصِّدِّيقِينَ، هَذَا سَيِّدُ الوَصِييِّنَ وَ إِمَامُ المُتَّقِينَ وَ قائِدُ الغُرِّ الْمحَجَّلِينَ، إِذَا
كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ جاءَ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ فَوقِ الجَنَّةِ قَد أضَاءَتِ القِيَامَةُ مِن ضِيائِها، عَلَى رَأسِهِ تاجٌ مُرَصَّعٌ بالزَّبَرجَدِ وَ الياقُوتِ، فَتَقُولُ الملائكةُ: هَذَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَ يَقُولُ النَّبِيُّونَ: هَذَا نَبِيّ مُرسَلٌ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِن بُطْنانِ الْعَرْشِ: هَذَا الصِّدِّيقُ الأكْبَرُ، هَذَا وَصِيّ حَبِيبِ الله، هَذَا عليّ بنُ أبِي طالِبٍ، فَيَقِفُ عَلَى مَتنِ جَهَنَّمَ فَيُخرِجُ مِنها مَن يُحِبُّ وَ يُدخِلُ فِيها مَن يُبغِضُ، وَ يَأتِي أبوابَ الجَنَّةِ فَيُدخِلُ أولِياءَهُ بِغَيرِ حِسابٍ».۱
و روى ابن شاذان أيضاً عن طريق العامّة عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سلّم: سَتَكُونُ بَعْدِي فِتْنَةٌ مُظْلِمَةٌ النَّاجِي مَنْ تَمَسَّكَ بالعُروَةِ الوُثقَى، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ و مَنِ العُروَةُ الوُثقَى؟ قَالَ: وِلَايةُ سَيِّدُ الوَصِييّنَ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَ مَنْ سَيِّدُ الوَصِيّنَ؟ «قَالَ أمير المؤمنين». قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَ مَنْ أمير المؤمنين؟ قَالَ: «مَولَى المسلمين و إمَامُهُم بَعْدِي. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَ مَنْ مَولَى
المسلمين وَ إِمَامُهُم بَعدَكَ؟ قَالَ: أخِي عليّ بنُ أبِي طالِبٍ»۱.
و روى الشيخ الصدوق ابن بابويه القُمّيّ أيضاً بإسناده المتّصل عن الأصبغ بن نباته أنّه قال: قَالَ أمير المؤمنين عَلَيهِ السَّلام: «أنَا خَليفَةُ رَسُولِ اللهِ وَ وَزيرُهُ وَ وَارِثُهُ، وَ أنَا أخُو رَسُولِ اللهِ وَ وصِيُّهُ، وَ أنَا صَفِيّ رَسُولِ اللهِ وَ صاحِبُهُ، أنَا ابنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ وَ زَوجُ ابْنَتِهِ وَ أبو وُلدِهِ، وَ أنَا سَيِّدُ الوَصِيّينَ. أنَا الحُجَّةُ العُظمَى وَ الآيَةُ الكُبرَى وَ المَثَلُ الأعْلَى وَ بابُ النَّبِيّ المُصْطَفَى، أنَا العُرْوَةُ الوُثقَى وَ كَلِمَةُ التَّقوَى وَ أمِينُ الله تعالى ذِكرُهُ عَلَى أهْلِ الدُّنْيَا».٢
استدلال أمير المؤمنين عليه السلام بحديث أنس المشهور
و روى أبو منصور أحمد بن عليّ بن أبي منصور الطبرسيّ في كتاب «الاحتجاج» عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّ عمر بن الخطّاب لمّا دنا أجله جعل الخلافة شورى، و عيّن ستّة من قريش بينهم أمير المؤمنين عليه السلام و أوصى أن لا تمرّ عليهم ثلاثة أيّام إلّا و يختاروا منهم خليفة. و بعد مشاورات متواصلة، تمّ انتخاب عثمان بن عفّان. فَلَمَّا رَأى أمير المؤمنين مَا هُمْ بِهِ مِنَ البَيْعَةِ لِعُثمانَ، قَامَ فيهِم لِيَتَّخِذَ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ، فَقَالَ لَهُمُ: «اسمَعُوا مِنّي، فَإِن يَكُ مَا أقُولُ حَقّاً فاقْبَلُوا، وَ إِن يَكُ بَاطِلًا فَأنكرُوا، ثُمَّ قَالَ لَهُم: أنشُدُكُمْ بِاللهِ الذي يَعلَمُ صِدقَكُمْ إِن صَدَقتُم، وَ يَعلَمُ كِذبَكُمْ إن كَذَبْتُمْ، هَل فِيكُم أحَدٌ صلى الْقِبلَتَينِ كِلتَيهِمَا غَيْرِي؟ قَالُوا: لَا. قالَ: فَهَل فِيكُم مَن بَايَعَ البَيعَتَينِ كِلتَيهِمَا بَيعَةَ الفَتحِ وَ بيَعَةَ الرِّضوانِ غَيرِي؟ قَالُوا: لَا- وَ ساقَ الحَدِيثَ بِذِكْرِهِ مَناقِبَةُ وَ فَضائِلَهُ فَيُصَدِّقُونَهُ في قَولِهِ لَهُمْ إلى أن قَالَ: فَأنشُدُكُمْ باللهِ
هَل فِيكُمْ أحَدٌ قالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلّمَ: «أوَّلُ طَالِعٍ يَطْلُعُ عَلَيكُمْ مِن هَذا الْبَابِ يَا أنَسُ؛ فَإِنَّهُ أمير المؤمنين وَ سَيِّدُ المسلمين وَ خيرُ الوَصِيِّينَ وَ أولَى بالنَّاسِ»، فَقَالَ أنَسُ: اللَهُمَّ! اجعَلهُ رَجُلًا مِنَ الأنصَارِ، فَكُنتُ أنَا الطّالِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ لأنَسٍ: «مَا أنتَ يَا أنَسُ؛ بِأوَّلِ رَجُلٍ أحَبَّ قَومَهُ» غيرِي؟» قَالُوا: لَا.۱
نلاحظ هنا أنّ الإمام عليه السلام يستدّل بحديث أنَس. و حديث أنَس من الأحاديث المشهورة و المعتبرة. و لا شبهة و لا شكّ في صدوره عن رسول للَه صلى الله عليه و آله و سلّم و قد ثبّته الكبار من محدّثي السنّة في كتبهم ناهيك عن محدّثي الشيعة. و عدّوه من المسلّمات القطعيّات كحديث الغدير، و حديث العشيرة. و قد عرف هذا الحديث بحديث أنَس. و قد روى أبو نعيم الأصفهانيّ في «حلية الأولياء» ج ١، ص ٦٣ و محمّد بن طلحة الشافعيّ في «مطالب السئول» ص ٢١ عن أبي نعيم في «الحلية». و أحمد بن الموفّق الخوارزميّ في «المناقب» ص ٥١ و إبراهيم بن محمّد الحموينيّ الشافعيّ في «فرائد السمطين» ج ١ باب ٢٧ و الكنجيّ الشافعيّ في «كفاية الطالب» ص ٩٢، تحت عنوان «تخصيص عليّ بكونه سيّد المسلمين»، و ابن أبي الحديد المعتزليّ الشافعيّ في «شرح نهج البلاغة» ج ٢ ص ٤٥٠، و القندوزيّ الحنفيّ في «ينابيع المودّة» ص ٣١٣، عن أبي نعيم في «الحلية»، و ابن شهرآشوب في «المناقب» ج ١ ص ٥٤٣ عن حلية أبي نعيم و ولاية الطبريّ، و السيّد هاشم البحرانيّ في «غاية المرام» ص ٦١٩ عن الحموينيّ، و ابن عساكر في «تاريخ دمشق
الكبير» الجزء الخاصّ بأمير المؤمنين، ورقة ٩٩،۱ روى هؤلاء بإسنادهم عن أنَس أنّه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سلّم: «يَا أنَس! اسْكُبْ لِي وَضُوءاً»، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَينِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أنَسُ! أوَّلُ مَن يَدْخُلُ عَلَيْكَ مِن هَذَا البَابِ أمير المؤمنين وَ سَيِّدُ المسلمين وَ قَائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلين وَ خَاتَمُ الوَصِيّينَ». قَالَ أنَسُ: قُلتُ: اللَهُمَّ اجْعَلهُ رَجُلًا مِنَ الأنصَارِ، وَ كَتمتُهُ، إذْ جَاءَ عليّ، فَقَالَ: «مَن هَذَا يَا أنَسُ؟» فَقُلتُ: عليّ، فَقَامَ مُسْتَبشِراً فَاعْتَنَقَهُ ثُمَّ جَعَلَ يَمسَحُ عَرَقَ وَجهِهِ بِوَجهِهِ وَ يَمسَحُ عَرَقَ عليّ بِوَجْهِهِ، قَالَ عليّ: «يَا رَسُولَ اللهِ! لَقَد رَأيْتُكَ صَنَعتَ شَيئاً ما صَنَعْتَ لِي مِن قَبلُ؟ قَالَ: وَ مَا يَمْنَعُنِي وَ أنتَ تُؤَدِّي عَنّي وَ تُسمِعُهُمْ صَوتِي وَ تُبَيِّنُ لَهُمْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدِي».٢
بحث في سند حديث أنس
نحن هنا ندرس هذا الحديث في مرحلتين: الأولى: نبحث عن سنده متطرّقين أيضاً إلى المفردات الواردة فيه. الثانية: ندرس دلالته.
المرحلة الأولى: تبيّن لنا أنّ كبار أئمّة الحديث رووا هذا الحديث بسلسلة إسنادهم المتّصل. و نحن ذكرنا عشرة منهم بأسمائهم و كتبهم و لا يقدح أحد في رواته. يقول الكنجيّ الشافعيّ: وَ هَذا حَديثٌ حَسَنٌ عالٍ.
و ذكرنا أيضاً أنّ هذا الحديث من المشهورات و لم يقدح فيه أحد و لم يضعّفه، بل ذكره أمثال الحافظ أبي نعيم، و الحمويني، و الطبريّ و هم من الأجلّاء في هذا الاختصاص، و من أعاظم أساتذة الحديث، فقد رووه بإسنادهم المتّصل عن أنَس، و ذكره ابن عساكر في «تاريخ دمشق الكبير».
و ابن عساكر هذا هو المؤرّخ المشهور. و كان حافظاً و محدّثاً. و كان يسكن بلاد الشام و هو صاحب السمعانيّ مؤلّف كتاب «الأنساب». ولد في دمشق سنة ٤٩٩ ه-. و توفّى سنة ٥٧١ ه-. روى هذا الحديث بسلسلة سنده عن أبي عليّ المُقري، عن أنس.
و ليس هناك من اختلاف في ألفاظ هذا الحديث إلّا في بعض الجزئيّات التي أشرنا إليها في الهامش.
الوَضوء بفتح الواو هو الماء الذي يُتَوضّا بِهِ. الأمير بمعنى الشخص الآمر و الرئيس. السيّد و هو الكبير و ذو السيادة.
معنى «قائد الغرّ المحجّلين»
و أمّا «قائد الغُرِّ المُحَجَّلين». يقول في «شرح القاموس»: الغُرّة و الغُرغُرة بضمّهما بياضٌ في الجبهة. و فَرَسٌ أغَرّ على وزن أحْمَر و غَرّاء على وزن حَمراء وصف للفرس. و الأغَرّ على وزن الأحْمَر الأبيض من كلّ شيء. و يقول أيضاً: الحُجْلَة محرّكة كالقُبّة، و موضع يزيّن بالثياب و الستور، و الأسِرّة للعروس. إلى أن يقول: حَجّلَها تَحْجيلًا من باب
التفعيل اتّخذ لها حجلةً أو أدخلها فيها. ثمّ يقول: و التَّحجيل من باب التفعيل بياض يكون في قوائم الفرس كلّها ... و الفرس محجول على وزن منصور، و مُحَجَّل على وزن مُعَظَّم.
و يقول في «مجمع البحرين»: و في حديث عليّ عليه السلام «قائدُ الغُرِّ المُحَجَّلين» أي: مواضع الوضوء من الأيدي و الأقدام، إذا دُعوا علي رؤوس الأشهاد أو إلى الجنّة كانوا على هذا النهج، استعار أثر الوضوء في الوجه و اليدين و الرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس و يديه و رِجليه.
و يقول في «المصباح المنير» ألْحَجْلُ: الخِلخالُ بكسر الخاء و الفتح لغة. و يسمّى القيد حجلًا على الاستعارة، و الجمع حُجول و أحجال مثل حَمل و حُمول و أحمال. و فرسٌ مُحَجَّل و هو الذي ابيضّت قوائمه. و جاور البياض الأرساغ إلى نصف الوظيف و نحو ذلك. و ذلك موضع التحجيل فيه. و التحجيل في الوضوء غسل بعض العضد و غسل بعض الساق مع غسل اليد و الرجل.
و يقول ابن الأثير في «النهاية»: في صفة الخيل: «خَيرُ الْخَيلِ الأقْرَحُ الْمُحَجَّلُ» هُوَ الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد و يجاوز الأسارغ و لا يجاوز الركبتين لأنّهما مواضع الأحجال و هي الخلاخيل و القيود، و لا يكون التحجيل باليد و اليدين ما لم يكن معها رجل أو رجلان. و منه الحديث: «امّتِيَ الْغُرُّ المُحَجَّلُونَ» أي: بيض مواضع الوضوء من الأيدي و الوجه و الأقدام. استعار أثر الوضوء في الوجه و اليدين و الرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس و يديه و رِجليه.
و يقول في «لسان العرب» أوّلًا: و الحُجلة مثل القُبّة، وَ حَجَلة
العروس معروفة. و هي بيت يزيّن بالثياب، و الأسِرّة و الستُور، و منه «اعْرُوا النِّساءَ يَلزِمْنَ الْحِجَالَ»، و حَجَّلَ العروس: اتّخَذَ لها حَجَلَةً. ثمّ نقل عبارة بن الأثير السابقة نفسها.
في ضوء ما تقدّم. فإنّ معنى «قائد الغُرّ المُحَجّلِينَ» هو أحد شيئين: أمّا الغُرّ بمعنى أصحاب الجباه البيض. و المُحَجّلونَ بمعنى أصحاب الأيدي و الأقدام البيضاء، و في هذا كناية عن نورانيّة وجوه المتوضّئين و أيديهم و أقدامهم التي تألّقت في عوالم المعنى فأضاءت بنورها مسافة و أمير المؤمنين قائد الناس النورانيّين و الأطهار إلى عوالم القدس و الطهارة و عوالم النور. أو أنّ الغُرّ بمعنى النورانيّين، و المُحَجَّلين بمعنى المُبَوّئين في الغرف، فهو قائد المؤمنين إلى غرف الجنّة حيث الأمن و الأمان و الهدوء و السكينة.
و الشاهد على المعنى الأوّل هو أنّه ذكر لفظ المُحَجَّلين مع لفظ الغُرّ و لمّا كان التَّحجيل هو البياض في يَدَي الفرس و رجليه، و الغُرّة هي البياض في جبهته، فسيتّضح لنا تماماً تشبيه المتوضّئين الذين تضي مواضعهم الخمسة و هي الوجه و اليدان و الرِّجلان. بالخيول التي يكون البياض في وجوهها و أيديها و أرجلها. و أمّا الشاهد على المعنى الثاني فهو أنّ إحدى درجات الجنّة هي الغُرُفات الآمنة و الحجلات المطمئنّة، كما نلحظ ذلك في قوله تعالى: {وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً}۱. و قوله أيضاً: {لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ}٢. و قوله
كذلك: {وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ}۱. و قوله بعد تعداده أربع عشرة صفة من صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان: {أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً}.٢
و أمّا معنى خاتم الوصيّين فهو كمعنى خاتم النبيّين؛ لأنّ خاتَم و خاتِم بالفتح و الكسر هو ما تختم به الرسالة لكي تبقى محفوظة من التزوير. و جاء في «شرح القاموس»: و الخِتَام ككِتاب الطينُ يختمَ به عليالشيء، و الخاتِم على وزن الكامِل ما يوضع على الطينة ليتم به و الخاتم حليّ للإصبع مثل الخاتَم بالفتح ... إلى أن يقول: يقول المصنّف: الخاتِم- بكسر التاء- اسم فاعل بمعنى الذي يختم، و الخاتَم- بفتح التاء- و الخاتام و الخَيتام. اسم الحليّ و غيرها يختم بها، و تُلبس في اليد.
و يقول ابن الأثير في «النهاية» «آمين، خاتَمُ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عِبَادِهِ المؤمنين». قِيل: معناه طابَعُهُ و علامتُه التي تدفع عنهم الأعراض و العاهات؛ لأنّ خاتم الكتاب يصونه و يمنع الناظرين عمّا في باطنه؛ و تفتح تاؤه و تكسر لُغَتان. و جاء مثل هذا المعنى في «لسان العرب» أيضاً. و في ضَوُء ذلك فإنّ الخاتِمَ أو الخاتَمَ يعني الآخِر. و إذا قَرَأنا (خاتِم) بالكسر بمعنى اسم الفاعل، فهو خاتِم أوصياء الأنبياء. و إذا كان بالكسر أو بالفتح بمعنى ما يُختَمُ بِهِ فَهو ذلك الختم الذي يضرب على الطغراء الخاصّة بصحيفة الأوصياء، و قد ختمت بواسطة وجود الوصيّ المبارك.٣
و أمّا يَعسوب الدين الذي رواه ابن أبي الحديد أيضاً فهو كما ذكرنا
سابقاً امير النحل و ذكرها الذي يتولى رئاسة الخلية ، و يعسوب الدين كناية عن مقام الرئاسة و سيادة و الحكومة الذي كان لأمير المؤمنين في جميع الشؤون الدينية .
و أما المرحلة الثانية: التي تخص دلالة الحديث . فقد صلى رسول الله صلّى الله عليه و آله ركعتين ، و ليس لنا علم بحالاته في تلك الصلاة و نزول جبرائيل ، و مشاهدته عوالم الملكوت و مقامات أمير المؤمنين، و هو نفسه لم يصرّح لنا بشيء عن ذلك، بَيدَ أنّ كلّ ما نعلمه هو أنّه قال لأنس بعد الصلاة: أوّل من يدخل هو سيّد المسلمين و أمير المؤمنين و خاتم الوصيّين. و لمّا دخل أمير المؤمنين عليه السلام قام بذلك الوضع العجيب كشخص وجد ضالّته و ظفر بمعشوقة و محبوبه فاعتنقه و مسح وجهه بوجهه، و مسح عرقه بوجهه بحيث أنّ أمير المؤمنين نفسه تعجّب ممّا صنعه رسول الله من عمل لم يعهده من قبل، فقال متحيّراً: يا رسول الله! لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت لي من قبل، فأشار صلى الله عليه و آله إلى مقامات الإمام. و قال: أنت تؤدّي عنّي و تنجز عداتي، و تُسمِعُ الناس صوت التوحيد و نداء الإسلام الصادر عنّي، و أنت الذي إذا نشبت نار الفتن و الاضطرابات بعدي، تشقّ للناس طريقهم من بين لجج الهوى و الهوس العميقة لتكون كموج النور المتألّق و الحقيقة الساطعة في دياجير الجهل و غياهب الشهوات، فتوضّح لهم الحقيقة، و كأنّ رسول الله كان يرى أنّ ما يحاك بعده من دسائس سيؤدّي بالإسلام و ينسفه من الأساس، و ستعود الصنميّة الجاهليّة إلى الناس بشكل آخر. و يتّضح صدق كلامنا جيّداً من خلال سياسة الخلفاء الذين جاءوا بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و الاسلوب الذي انتهجه معاوية و ولده يزيد. و يتبيّن لنا من خطب «نهج البلاغة» و خطبة سيّد الشهداء عليه السلام بمِنَى
أواخر عصر معاوية. و كذلك بقيّة خطبه عليه السلام و كلماته، أنّ الخلفاء أفرغوا الإسلام من محتواه، و تركوه بلا رمق و لا روح.۱
و لمّا كان رسول الله يعلم بأنّ الشخص الوحيد الذي يدافع عن الحقّ و يؤدّي دَين الرسالة، و ينجز عهود الله و رسوله، و يقرع أسماع أهل العالم بنداء التوحيد المتمثّل بلا إله إلّا الله وَحْدَهُ وَحْدَهُ و معنى قُلْ هُوَ اللهُ أحَد، هو أمير المؤمنين و حسب، و أنّه الشخص الوحيد الذي انبثق عن أصل التوحيد مع رسول الله، و حاز على أعلى الدرجات و أرفع المقامات في دَرْك الحقيقة و المعارف الإلهيّة و الفناء في الذات الأحديّة٢، لذلك فهو يقول في جواب أمير المؤمنين: لِمَ لا احبّكَ و لا أعتنقك، و لا أمسح عرق وجهك الجميل بوجهي؟ أنتَ روحي التي بين جنَبي، و أنت حقيقتي و أنت الرافع راية العدل و التوحيد. و الحارس الأمين لدين الله و سنّتي و أنت ناصري و معيني في أحلك الظروف و أخطر العقبات، و أنت النتيجة المتولّدة عن رسالتي. و أنت الامتداد لنبوّتي و الحافظ لشريعة الله بين شرائح الناس المختلفة حتى يوم القيامة، و أنت المرسّخ شجرة التوحيد
وولايتي.
صدر و ذيل حديث أنس يدلّان كلاهما على وصاية و إمامة أمير المؤمنين عليه السلام
أجل، فإنّ صدر هذا الحديث و ذيله معاً شاهدا صدقٍ صريح على خلافة مولى المتّقين و إمارته و وصايته.
أوّلًا: لفظ أمير المؤمنين، و هو بمعنى الحاكم و المهيمن على جميع المؤمنين.
و ثانياً: سيّد المسلمين.
و ثالثاً: قائد الغرّ المُحجّلين و هو بمعنى الإمام و الدليل و الرائد.
و رابعاً: لفظ خاتم الوصيّين، و هو أكثر صراحة من جميع تلك الألقاب؛ إذ يدلّ على مقام وصايته في جميع شئون النبوّة وفقاً لوصاية أوصياء الأنبياء السابقين، بل هو أعلى منهم و أشرف.
و كذلك أداء العهود و ديون رسول الله، و إبلاغ صوته، و تبيين الإختلافات و المشاجرات بعده، كلّ اولئك نابع عن مقام الولاية و حسب و لذلك عدّوا هذا الحديث- كما ذكرنا- من النصوص الصريحة على وصاية أمير المؤمنين و خلافته، و قد رووه بألفاظ متقاربة و أسانيد اخرى أيضاً.
روى البحرانيّ في «غاية المرام» ص ١۱ و كذلك في «المناقب الصغير» تحت عنوان «عليّ و السنّة»٢ عن «مناقب» ابن مردويه عن أنس أنّه قَالَ: كَانَ النَّبِيّ في بَيْتِ امِّ حَبِيبَةَ بِنتِ أبي سُفيَانَ، فَقَالَ: «يَا امَّ حَبِيبَةَ! اعْتَزِلينا فَأنَا عَلى حاجَةٍ» ثُمَّ دَعَا بِوَضُوءٍ فَأحسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قالَ: «أنّ أوَّلَ مَن يَدْخُلُ مِن هَذا البَابِ أمير المؤمنين وَ سَيِّدُ الْعَرَبِ وَ خَيْرُ الوَصِيّينَ وَ أولَى النَّاسِ بِالنَّاسِ». قَالَ أنَسٌ: فَجَعَلتُ أقُولُ: اللَهُمَّ اجْعَلْهُ رَجُلًا مِنَ
الأنصَارِ. قَالَ فَدَخَلَ عليّ فَجاءَ يَمشِي حتى جَلَسَ إلى جَنبِ النَّبِيّ (رَسُولِ اللهِ في نسخة المناقب) فَجَعَلَ (رَسُولُ اللهِ في نسخة المناقب) يَمسَحُ وَجهَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ يَمسَحُ بِهَا وَجهَ عليّ بنِ أبي طالِبٍ، فَقَالَ عليّ: «وَ مَا ذَاكَ يا رَسُولَ اللهِ!؟ قالَ: إِنَّكَ تُبَلِّغُ رِسَالَتِي مِن بَعْدِي وَ تُؤَدِّي عَنِّي وَ تُسمِعُ النَّاسَ صَوتِي وَ تُعَلِّمُ النَّاسَ مِن كِتابِ اللهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ».
و روى البحرانيّ أيضاً في ص ٢٠،۱و في «المناقب الصغير»٢كذلك بإسناده عن «مناقب» ابن مَردويه عن أنس أنّه قَالَ بَينَا (بَينمَا في نسخة المناقب) أنَا عِندَ النَّبِيّ (رَسُولِ اللهِ، المناقب) إذ قالَ: «الآنَ يَدخُلُ سَيَّدُ المسلمين وَ أمير المؤمنين وَ خَيرُ الوَصِيِّينَ وَ أولَى النَّاسِ بِالمؤمنين» (بالنّاسِ، المناقب) إذ طَلَعَ عليّ بنُ أبي طالِبٍ، فَقَامَ النَّبِيّ (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «اللهُمّ! وَالِ مَن وَالاهُ». وَ قَالَ: فَجَلَسَ بَينَ يَدي رَسُولِ اللهِ، المناقب) فَأخَذَ يَمسَحُ الْعَرَقَ عَن جَبهَتِهِ وَ وَجهِهِ وَ يَمسَحُ بِهِ وَجْهَ عليّ بنِ أبِي طَالِبٍ، وَ يَمسَحُ الْعَرَقَ عَن وَجهِ عليّ وَ يَمسَحُ بِهِ وَجهَهُ. فَقَالَ لَهُ عليّ: «يا رَسُولَ الله! نَزَلَ في شَيءٌ؟ قالَ: أ ما تَرْضَى أن تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارونَ مِن موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟ أنتَ أخِي وَ وَزيري وَ خَيْرُ مَن اخَلِّفُهُ (اخَلِّفُ، المناقب) بَعْدِي تَقْضِ دَيْنِي وَ تُنجِزُ مَوعِدِي وَ تُبَيِّنُ لَهُمْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدِي وَ تُعَلِّمُهُمْ مِن تَأوِيلِ القُرآنِ ما لَم يَعْلَمُوا، وَ تُجَاهِدُهُمْ عَلَى التَّأوِيلِ كمَا جاهَدتُهُمْ عَلَى التَّنزِيلِ».
و روى أيضاً في «غاية المرام» ص ١٩، عن ابن عبّاس عن أنس
أنّه۱ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «يَا أنَسُ! اسكُب لِي وَضُوءاً أو ماءً، فَتَوضَّى ثُمَّ انصَرَفَ، فَقَالَ: يَا أنَسُ! مَن يَدخُلُ عليّ الْيَوْمَ أمير المؤمنين وَ سَيِّدُ المسلمين وَ خَاتَمُ الوَصِيّينَ وَ إمَامُ الغُرِّ المُحَجَّلين، فَجاءَ عليّ حتى ضَرَبَ البَابَ فَقَالَ: مَن هَذَا يَا أنَسُ»؛ فَقُلْتُ: هَذَا عليّ بْنُ أبي طالِبٍ قَالَ: «افتَحْ لَهُ البَابَ».
و يقول في ص ٢٠.٢ وَ من المنَاقِبِ عَن أنَسٍ قَالَ: كُنتُ خَادِماً لِلنَّبِيّ، فَبَيْنَما أنَا يَوْماً أوَضِّيهِ إذْ قَالَ: «يَدخُلُ رَجُلٌ وَ هُوَ أمير المؤمنين وَ سَيِّدُ الوَصِيّينَ وَ أوْلَى النَّاسِ بِالمؤمنين وَ قَائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلين»، قَالَ: اللَهُمَّ! اجْعَلهُ رَجُلًا مِنَ الأنصارِ، فَإذَا هُوَ عليّ بنُ أبِي طالِبٍ.
و يقول في الصفحة نفسها أيضاً:٣ عَن أنَسِ بنِ مَالِكٍ: قَالَ: بَيْنَا اوَضى النَّبِيّ صلى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ إذ قَالَ: «يَطْلُعُ الآنَ»، قُلتُ: فِدَاكَ أبِي وَ امِّي مَن ذا؟ قال: «سَيِّدُ المسلمين وَ أمير المؤمنين وَ خَيرُ الوَصِيِّينَ وَ أولَي النَّاسِ بِالنَّبِيِّينَ»، قالَ: فَطَلَعَ عليّ، ثُمَّ قَالَ لِعَليّ: «[أ مَا تَرضَي] أن تَكُونَ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هَارون مِنْ موسى».
حديث كلام الله تعالى مع رسوله في شأن أمير المؤمنين عليه السلام
و من الأخبار الدالّة على وصايته عليه السلام خبر كلام الله تعالى مع رسوله عند سدرة المنتهى حول أمير المؤمنين؛ إذ بيّن فيه الباري سبحانه مقامات الإمام عليه السلام ثمّ قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم: «إنَّهُ سَيَخُصُّهُ بِالْبَلاءِ»
نقل الرواية بسندين
لقد نقلت هذه الرواية بسندين: أحدهما: عن أمير المؤمنين
عليه السلام نفسه، و الثاني: عن أبي بَرزة الأسلَميّ. و نحن هنا ننقل الروايتين بخصوصيّتهما عن طريق العامّة.
أمّا الرواية الأولى فقد نقلها الموفّق بن أحمد الخوارزميّ [حسب نقل كتاب «عليّ و الوصيّة» ص ١٩] في كتاب «المناقب» ص ٢٤٠طبع إيران بإسناده عن غالب الجُهَنِيّ عن أبي جعفر، عن أجداده، عن أمير المؤمنين عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: «قَالَ النَّبِيُ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلهِ وَ سَلّمَ: لَمَّا اسرِيَ بِي إلى السَّمَاءِ ثُمَّ مِنَ السَّمَاءِ إلى سِدرَةِ المُنتَهى، وَقَفْتُ بَينَ يَدَي رَبِّي عَزَّ وَ جلَّ فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ؛ قُلتُ: لَبَّيك وَ سَعْدَيكَ، قَالَ: قَد بَلَوتُ خَلقِي فَأيُّهُمْ رَأيتَ أطوَعَ لَكَ؟ قَالَ: قُلتُ: يَا رَبِّي؛ عَلِيّاً، قَالَ: صَدَقتَ يَا مُحَمَّدُ؛ فَهَلِ اتَّخذْتَ لِنَفسِكَ خَلِيفَةً يُؤَدِّي عَنكَ وَ يُعَلِّمُ عِبَادِي مِن كِتَابِي مَا لَا يَعْلَمُونَ؟ قَالَ: قُلتُ: يَا رَبِّ؛ اختَر لِي فَإنَّ خِيَرَتَكَ خِيَرَتِي، قَالَ: اخْتَرْتُ عَلِيّاً فَاتَّخِذْهُ لِنَفْسِكَ خَلِيفَةً وَ وَصِيّاً، و نَحَلتُهُ عِلمِي وَ حِلمِي، وَ هُوَ أمير المؤمنين حَقّاً، لَم يَنَلْهَا أحَدٌ قَبلَهُ وَ لَيسَتْ لأحَدٍ بَعدَهُ. يَا مُحَمَّدُ! عليّ رايَةُ الهُدى وَ إمَامُ مَنْ أطاعَنِي وَ نُورُ أولِيائِي، وَ هُوَ الكَلِمَةُ الَّتِي ألْزَمْتُهَا المُتَّقِينَ، مَن أحَبَّهُ فَقَد أحَبَّنِي، وَ مَن أبغَضَهُ فَقَد أبْغَضَنِي، فَبَشِّرهُ يَا مُحَمَّدُ بِذَلِكَ. فَقَالَ النَّبيّ صلى اللهُ عليه و آله و سلم: قُلْتُ رَبّ فَقَدْ بّشَّرْتُه. فَقَالَ: أنَا عَبدُ الله وَ في قَبضَتِهِ، إن يُعاقِبنِي فَبِذُنُوبِي لَم يَظلِمَنِي شَيئاً، وَ إِن تَمَّمَ لِي وَعْدِي فَإِنَّهُ مَولَايَ، قَالَ: أجَل، قالَ: قُلتُ: يَا رَبِّ! فَاجْلِ قَلبَهُ وَ اجْعَلْ رَبيعَهُ الإيمَانَ. قَالَ: قَد فَعَلتُ ذَلِكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ غَيرَ أنِّي مُختَصٌّ لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ البَلاءِ لَمْ أخُصَّ بِهِ أحَداً مِن أولِيائِي. قَالَ قُلتُ يَا رَبِّ؛ أخِي وَ صَاحِبي! قَالَ: قَد سَبَقَ في عِلْمِي أنَّهُ مُبتَلى، لَوْ لا عليّ لَمْ يُعرَفْ حِزبِي وَ لَا أولِيائي وَ لَا أولِياءُ
رُسُلِي».
و ذكر البحرانيّ هذا الحديث أيضاً في «غاية المرام» ص ٣٤ تحت عنوان: الحديث الثامن عشر عن الموفّق بن أحمد الخوارزميّ، و ليس هناك أي اختلاف بينه و بين حديث الخوارزميّ إلّا في جملة غَيرَ أنِّي مُختَصٌّ لَهُ بِشيءٍ مِنَ البَلاءِ، فَقد ذكرها كما يلي: غَيْرَ أنّي مُشَخِّصُهُ بِشيْءٍ مِنَ البَلاءِ.
وَ أمّا رواية أبي برزة الأسلميّ فهي نفس هذه الرواية باسقاط صدرها و ذيلها. و نحن هنا ننقلها عن «حلية الأولياء» للحافظ أبي نعيم الأصفهانيّ في الجزء الأوّل ص ٦٦ ثمّ نتحدّث حولها.
يروي أبو نعيم بسنده عن أبي برزة أنّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: «أنّ اللهَ عَهِدَ إلى عَهداً في عليّ فَقُلْتُ: يَا رَبِّ بَيِّنْهُ لِي. فَقَالَ: اسمَعْ، فَقُلتُ: سَمِعْتُ. فَقَالَ: أنّ عَلِيّاً رايَةُ الهُدى وَ إمامُ أوْلِيائي وَ نُورُ مَنْ أطاعَنِي وَ هُوَ الْكَلِمَةُ الَّتي ألزَمْتُها المُتَّقِينَ، مَن أحَبَّهُ أحَبَّنِي، وَ مَن أبغَضَهُ أبغَضَنِي، فَبَشِّرْهُ بِذَلِكَ. فَجَاءَ عليّ فَبَشَّرْتُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أنَا عَبدُ اللهِ وَ في قَبضَتِهِ فَإنْ يُعَذِّبْنِي فَبِذَنْبِي. وَ إن يُتِمَّ لِيَ الذي بَشَّرْتَنِي بِهِ فَاللهُ أوْلَى بِي. قَالَ: قُلتُ: اللَهُمَّ! اجْلِ قَلبَهُ وَ اجْعَلْ رَبِيعَهُ الإيمانَ. فَقَالَ اللهُ: قَد فَعَلْتُ بِهِ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّهُ رَفَعَ إلى أنَّهُ سَيَخُصُّهُ مِنَ البَلاءِ بِشيْءٍ لَم يَخُصَّ بِهِ أحَداً مِنْ أصحَابِي. فَقُلتُ: يا رَبِّ؛ أخِي وَ صاحِبي! فَقَالَ: أنّ هَذَا شَيءٌ قَدْ سَبَقَ في عِلْمِي أنَّهُ مُبْتَلى وَ مُبتَلى بِهِ»
و نقل محمّد بن طلحة الشافعيّ في «مطالب السؤول» ص ٢١ هذه الرواية بنفس ألفاظها عن الحافظ أبي نعيم. و روى ابن أبي الحديد
المعتزليّ في «شرح نهج البلاغه» ج ٢ ص ٤٤٩،۱ و في الحديث الثالث و عن الحافظ أبي نعيم أيضاً عند نقله أربعة و عشرين حديثاً في فضائل أمير المؤمنين. في ذيل كلامه: قَد خَاضُوا بِحارَ الْفِتَنِ وَ أخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ ... إلخ. علماً أنّ عبارة ابن أبي الحديد في نقل الرواية هي نفس عبارة أبي نعيم الّتي نقلناها عن «حلية الأولياء».
لكنّ الشيخ سليمان القندوزيّ الحنفيّ عند ما ينقل هذه الرواية عن أبي نعيم في ثلاثة مواضع من كتابه «ينابيع المودّة» فإنّه يذكر لفظ يا رَبِّ إنَّهُ أخي وَ وَصِيِّي بدل لفظ يا رَبِّ إنَّهُ أخي وَ صاحبِي في جميع تلك المواضع على الصفحات ٧٨ و ٧٩ و ١٣٤ من كتابه.
لذلك لا يعلم على وجه الحقيقة هل أنّ كلمة وَصِيّي كانت موجودة في «الحلية» و نقلها القندوزيّ نفسها، ثمّ حذفت من «الحلية» في طبعاتها المتأخّرة. أو أنّها نقلت عن «الحلية» بقسمين. أحدهما فيه كلمة صاحبي كما نقل ذلك عنها ابن أبي الحديد. و محمّد بن طلحة، و الثاني فيه كلمة وَصِيّتِي كما نقلها القندوزيّ في المواضع الثلاثة جميعها من كتابه.
و الشاهد على الرواية الأولى ما نقلناه بكلمة صاحبِي عن «مناقب» الخوارزميّ و «غاية المرام».
الشاهد على الرواية الثانية كلامه تعالى: فَاتَّخِذْهُ لِنَفْسِكَ خَلِيفَةً وَ وَصِيّاً. كما جاءَ في صدر رواية «المناقب» للخوارزميّ، و «غاية المرام».
جملة من الأخبار في وصاية أمير المؤمنين عليه السلام من قبل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم
و منها الأحاديث التي تدلّ على أنّ الإيمان متوقّف على التوحيد و النبوّة، و الولاية، نحو الحديث الذي يرويه سليمان القندوزيّ في «ينابيع المودّة» ص ٢٤٨ عن المير سيّد علي الهمدانيّ الشافعيّ في كتاب «مودّة
القربيّ» ضمن المودّة الرابعة. عن عُتبة بن عامر الجُهَنيّ أنّه قَال: بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سلَّمَ عَلَى قَوْلِ أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَ أنّ مُحَمَّداً نَبِيّهُ وَ عَلِيّاً وَصِيُّهُ، فَأيٌّ مِنَ الثَّلاثَةِ تَرَكْنَاهُ كَفَرْنا. وَ قَالَ لَنا النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ: «أحِبُّوا هَذَا يَعْنِي عَلِيّاً فَإنَّ اللهُ يُحِبُّهُ، وَ اسْتَحْيُوا مِنْهُ فَإنَّ اللهَ يَسْتَحْيي مِنْهُ».
و يروي أيضاً في «ينابيع المودّة» ص ٨٢ ضمن الباب الخامس عشر عن طلحة بن زيد، عن الإمام جعفر الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ: «ما قَبَضَ اللهُ نَبِيّاً حتى أمَرَهُ اللهُ أن يُوصِي إلى أفضَلِ عَشِيرَتِهِ مِنْ عُصْبَتِهِ، وَ أمَرَنِي أنْ أوْصِ إلى ابْنِ عَمِّكَ عليّ، أثبَتْتُهُ فِيالكُتُبِ السَّالِفَةِ وَ كَتَبْتُ فِيها أنَّهُ وَصِيُّكَ، وَ عَلَى ذَلِكَ أخَذْتُ مِيثَاقَ الْخَلَائِقِ وَ مِيثَاقَ أنْبِيائِي وَ رُسُلِي،۱وَ أخَذتُ مَواثِيقَهُمْ بِالرُّبُوبِيّةِ، وَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ بِالنُّبُوَّةِ، وَ لِعَلِيّ بْنِ أبي طالِبٍ بالوِلَايَةِ وَ الْوَصِيَّةِ»
و منها الأحاديث التي تدلّ على أنّ لكلّ نبيّ وارثاً و وصيّاً، و أنّ وارث رسول الله و وصيّه هو عليّ بن أبي طالب. فقد روى الشيخ سليمان القندوزيّ في «ينابيع المودّة» ص ٨٦ عن «مناقب» الخوارزميّ، عن مقاتل ابن سليمان عن الإمام جعفر الصادق. عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام أنّه قالَ: «قالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ:
يَا عليّ؛ أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ شَيْثٍ مِن آدَمَ، وَ بِمَنزِلَةِ سامٍ مِن نُوحٍ، وَ بِمَنزِلَةِ إسحاق مِن إبراهيمَ كَما قَالَ تعالى: {وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ}،۱ وَ بِمَنزِلَةِ هَارونَ مِن موسى، وَ بِمَنزِلَةِ شَمعُونَ مِن عيسى، وَ أنتَ وَصِيّي وَ وَارِثي، وَ أنتَ أقْدَمُهُمْ سِلماً وَ أكثَرُهُمْ عِلماً، وَ أوفَرُهُمْ حِلماً وَ أشْجَعُهُمْ قَلباً، وَ أسْخَاهُمْ كَفّاً، وَ أنتَ إِمَامُ امَّتِي وَ قَسِيمُ الْجَنَّةِ وَ النَّارِ بِمَحَبَّتِكَ يُعْرَفُ الأبْرَارُ مِنَ الْفُجَّارِ وَ يُمَيَّزُ بَيْنَ المؤمنين وَ المُنَافِقِينَ وَ الْكُفَّارِ».
يُبين رسول الله في هذا الحديث، أوّلًا: كان لكلّ نبيّ من الأنبياء السابقين مثل آدم، و نوح، و إبراهيم، و موسى، عيسى وصيّاً من الأوصياء. و أنا أيضاً نبيّ الله فسيكون لي وصيّاً. و أنت وصيّي يا علي لذلك فإنّ مبدأ الوصاية سنّة إلهيّة ينبغي أن تجري عند جميع الأنبياء، و أنا أيضاً لا أتخلّف عن هذه السنّة.
و ثانياً: ينبغي أن يكون وصيّ النبيّ أقدم الناس جميعهم إسلاماً و إيماناً، و أكثرهم علماً، و أوفرهم حلماً، و أشجعهم قلباً، و أسخاهم كَفّاً و لمّا كانت هذه الصفات كلّها مجتمعة فيك يا عليّ، و أنت أفضل الناس فيها، فقد جعلك الله إماماً لُامّتي. و على أساس هذا المعيار الصحيح تعرف الجنّة و النار حيث درجات المؤمنين من أتباعك، و المتمرّدين على ولايتك، و سيكون لهم مأوى في أقسامها المختلفة وفقاً لاختلاف درجاتهم. و بمحبّتك يعرف الأبرار من الفجّار، و يميّز بين المؤمنين و المنافقين و الكفّار.
و في هذا الكتاب نفسه أيضاً ص ٢٤٨ ضمن المودّة الرابعة من
«مودّة القُربي» ينقل السيّد عليّ الشافعيّ الهمدانيّ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يروي عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم قوله: «انّ اللهَ تعالى جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيّ وَصِيّاً، جَعَلَ شَيْثاً وَصِيّ آدَمَ، وَ يُوشَعَ وَصِيي موسى، وَ شَمْعُونَ وَصِيي عيسى، وَ عَلِيّاً وَصِيي، وَ وَصِيِّي خَيرُ الأوصياءِ في البَداءِ، وَ أنَا الدَّاعِي وَ هُوَ المُضِيءُ».
و في ص ٧٩ منه أيضاً بإسناده عن الموفّق بن أحمد الخوارزميّ بإسناده عن امّ سَلَمةَ أنّها قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ: «أنّ اللهَ اختَارَ مِن كُلِّ نَبِيّ وَصِيّاً، وَ عليّ وَصِيي في عِترَتِي وَ أهلِ بَيتِي وَ امَّتِي بَعدِي».
يقول القندوزيّ بعد نقل هذا الحديث، روى الخوارزميّ مثل هذا الحديث أيضاً. و روى شيخ الإسلام الحموينيّ حديث الوصيّة عن عليّ بن موسى عليهما السلام.
و منها ما جاء في كتاب «عليّ و الوصيّة» ص ٢٢٦ عن كتاب «المناقب» للخوارزميّ بإسناده عن أبي القاسم عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز البغويّ۱ عن حميد الرازيّ، عن عليّ بن مجاهد، عن محمّد بن إسحاق، عن شريك بن عبد الله، عن أبي ربيعة الإياديّ، عن ابن بريدة، عن أبيه بريدة أنّه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيّ وَصِيّ و وارِثٌ، وَ أنّ عَلِيّاً وَصِيِّي وَ وَارِثي».
روى محبّ الدين الطبريّ هذا الحديث الشريف، في «ذخائر العقبي» ص ٧١ عن «معجم الصحابة» للحافظ أبي القاسم البغويّ عن
بريدة. و في «الرياض النضرة» ج ٢ ص ١٧٨ في باب «ذكر اختصاص أمير المؤمنين بالولاية و الإرث» عن بريدة. و ذكره أيضاً الكنجيّ الشافعيّ في «كفاية الطالب» ص ١٣١، و عبد الرءوف المناويّ المتوفّى سنة ١٠٣١ ه- في كتابه «كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق» المطبوع في حاشية الجزء الثاني من «الجامع الصغير» للسيوطيّ ص ٦٩. و رواه الشيخ سليمان القندوزيّ في «ينابيع المودّة» ص ٢٠٧ عن «معجم الصحابة» لأبي القاسم البغويّ، و عن الديلميّ في ص ١٨٠، و في ص ٢٣٢ أيضاً عن الديلميّ صاحب كتاب «فردوس الأخبار»، و في ص ٧٩ عن الموفّق بن أحمد الخوارزميّ. و رواه أيضاً في ص ٢٤٨ ضمن المودّة الرابعة من كتاب «مودّة القربي».
و منها: حديث ذكره الحموينيّ في «فرائد السمطين» في الجزء الثاني، الباب الحادي و الثلاثين، و ذكره العلّامة البحرانيّ في ص ٣٩ تحت
عنوان «الحديث السادس و الثلاثون». و رواه القندوزيّ الحنفيّ في «ينابيع المودّة» ص ٤٤١ عن مجاهد، عن ابن عبّاس، و هذا الحديث يدور حول مجيء نَعثَل اليهوديّ إلى رسول الله. و سؤاله عن الصفات و الأسماء الإلهيّة، و استفساره عن أوصياء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم، و هذا الحديث مفصّل للغاية، و نحن هنا نذكر فقرة منه تخصّ الوصيّة. قالَ (أي: نَعثَلُ اليَهُوديّ): فَأخْبِرنِي عَن وَصِيِّكَ مَن هُوَ؟ فَمَا مِن نَبِيّ إلَّا وَ لَهُ وَصِيّ. وَ أنّ نَبِيَّنَا موسى بنَ عِمرانَ أوصَى إلى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، فَقَالَ: «نَعَم أنّ وَصِيِّي وَ الْخَلِيَفَةَ مِن بَعْدِي عليّ بنُ أبِي طالِبٍ وَ بَعْدَهُ سِبطايَ الْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ يَتلُوهُ تِسعَةٌ مِن صُلْبِ الحُسَيْنِ أئِمَّةٌ أبْرَارٌ» (الحديث).۱
من أحاديث الوصيّة: حديث سلمان الفارسي
و من أحاديث الوصيّة، حديث سلمان الفارسيّ عند ما سأل النبيّ قائلًا له: مَن وصيّك؟ فأجابه: «يا سلمان؛ تعلمُ مَن وصيّ موسى؟ فقال: نعم، يوشع بن نون. فقال صلى الله عليه و آله: اعلم يا سلمان؛ أنّ وصيّي و وارثي و أخي و وزيري و خير من اخلّف بعدي، ينجز موعدي و يقضي دَيني، عليّ بن أبي طالب».
و قد ذكر هذا الحديث كثير من علماء الشيعة و السنّة في كتبهم و صدّقه الكبار من علماء العامّة و شهدوا على صحّته. و لمّا روى هذا الحديث بطرق مختلفة، و عباراته متباينة فيما بينها إجمالًا. لذلك ننقله هنا نصّاً من الكتب المعتبرة للجمهور.
يروي العلّامة البحرانيّ في مناقبه الصغير الموسومة ب «عليّ و السُنّة» ص ٥٧ عن أبي سعيد الخُدريّ أنّه قال: أنّ سَلمانَ قالَ: قُلتُ لِرَسُولِ الله صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: لِكُلِّ نَبِيّ وَصِيّ، فَمَن وَصِيُّكَ؟ فَسَكَتَ عَنِّيفَلَمّا كَانَ بَعدُ رَآنِي، فَقَالَ: «يَا سَلمَانُ»؛ فَأسْرَعْتُ إِلَيهِ وَ قُلتُ: لَبَّيكَ، فَقَالَ: «تَعلَمُ مَن وَصِيّ موسى؟» قُلتُ: نَعَمْ، يُوشَعُ بنُ نُونٍ، فَقَالَ: لِمَ؟ قُلتُ: لأنَّهُ أعلَمَهُمْ يُوْمَئذٍ، قَالَ: «فَإِنَّ وَصِيِّي وَ مَوضِعَ سِرِّي وَ خَيرَ مَن اخَلِّفُ بَعْدِي، يُنجِزُ مَوعِدي وَ يَقضِي دَينِي، عليّ بنُ أبِي طالِبٍ».
يسأل الرسول سلمان في هذا الحديث عن السبب مِن جعل يوشع ابن نون وصيّاً لموسى، فيجيب: لأنّه كان أعلمهم يومئذٍ، إنّه يريد هنا أن يوضّح للناس بأنّ وصيّ النبيّ ينبغي أن يكون أعلم الامّة جميعها و أفهمها في مسائل الدين و المعارف الإلهيّة و رموز الدين و أسراره. و لذلك يقول: وصيّي و موضع سِرّي و خير من اخلّف بعدي، ينجز موعدي و يقضي دَيني، و يكون أهلًا للاضطلاع بهذه المهمّة الشاقّة، عليّ بن
أبي طالب.
و روى في هذا الكتاب نفسه أيضاً ص ٥٨ عن «المناقب» عن ابن مردويه، عن أنس، أنّ سلمان قال: قُلتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: عَمَّن نَأخُذُ بَعْدَكَ وَ بِمَن نَثِقُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي حتى سَألتُ ذَلِكَ عَشْراً، ثُمَّ قَالَ: «يا سَلمَانُ؛ أنّ وَصِيّي وَ خَلِيفَتِي وَ أخِي وَ وَزيري وَ خَيرَ مَن اخَلِّفُهُ بَعْدِي عليّ بنُ أبِي طالِبٍ، يُؤَدّي عَنِّي وَ يُنجِزُ مَوعِدي».
و يقول محبّ الدين الطبريّ أيضاً في «الرياض النضرة» ج ٢، ص ١٧٨ بعد حديث بريدة: عَن أنَسٍ قالَ: قُلنَا لِسَلمانَ: سَلِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: مَنْ وَصِيُّهُ؟ فَقَالَ سَلمَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَنْ وَصِيُّكَ؟ قَالَ: «يَا سَلمَانُ؛ مَنْ كانَ وَصِيي موسى؟» قالَ: يُوشَعُ بنُ نُونٍ قالَ: «فَأنَّ وَصِيي وَ وارِثِي، يَقْضِي دَينِي وَ يُنجِزُ مَوعِدي عليّ بنُ أبِي طالِبٍ». ثمّ يقول: خرّج أحمد بن حنبل هذا الحديث في كتابه «المناقب».و ذكر سبط بن الجوزيّ هذا الحديث نفسه و بعبارة الطبريّ ذاتها في «التذكرة» ص ٢٦، و اعتبره حديثاً صحيحاً، و ردّ على من عدّه حديثاً ضعيفاً. و ملخّص الكلام أنّ السبب الذي دفع البعض أن يضعّفوا هذا الحديث هو وجود إسماعيل بن زيادة في إسناده، و هو من الذين قدح فيهم الدار قطنيّ. و سبب هذا القدح هو وجود الزيادة في ذيله. هذه الزيادة متمثّلة في الجملة التالية: «وَ هُوَ خَيرُ مَن أترُكُ بَعدِي».
ثمّ يقول: و أمّا الحديث الذي ذكرناه فليس فيه زيادة، و ما نقلناه عن أحمد بن حنبل، و ليس في سلسلة رواته إسماعيل بن زيادة. و هذا الحديث غير ذلك الحديث.
و لكن محبّ الدين الطبريّ في كتابه الآخر «ذخائر العقبي» ص ٧١
ذكر فقط ذيل حديث سلمان، فقال: قالَ: رَوى أنَسٌ أنّ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: قالَ: «وَصِيِّي وَ وارِثي يَقْضي دَيْنِي وَ يُنجِزُ مَوْعِدي عليّ بنُ أبي طالِبٍ». ثمّ يقول: ذكر أحمد بن حنبل هذا الحديث في «المناقب».
و ذكر ابن شهرآشوب هذا الحديث أيضاً بسندين في مناقبه ج ١، ص ٥٤٢.
الأوّل: روى عن الطبريّ بإسناده عن سلمان أنّه قال: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ: يا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّهُ لَم يَكُن نَبِيّ إلَّا وَ لَهُ وَصِيّ، فَمَنْ وَصِيُّكَ؟ قَالَ: «وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي في أهْلِي وَ خَيرُ مَن أترُكُ بَعْدِي، مُؤَدِّي دَينِي وَ مُنْجِزُ عِدَاتِي عَلِيُ بنُ أبِي طَالِبٍ».
الثاني: عن مطير بن خالد عن أنس، و قيس بن ماناه و عبادة بن عبد الله عن سلمان أنّهما (أي؛ أنس و سلمان) قالا: قال النّبِيّ: «يَا سَلْمانُ؛ سَألتَنِي مَن وَصِيِّي مِن امَّتِي، فَهَلْ تَدرِي لِمَن كانَ أوْصَى إِلِيهِ مُوسَيعَلِيهِ السَّلام؟» قُلتُ: اللهُ وَ رَسُولَهُ أعْلَمُ. قالَ: «أوصَى إلى يُوشَعَ لأنَّهُ كَانَ أعْلَمَ امَّتِهِ، وَ وَصِيِّي وَ أعْلَمُ امَّتِي بَعْدِي عليّ بْنُ أبِي طالِبٍ».
و يروي الشيخ سليمان القندوزيّ كذلك في الباب الخامس عشر من «ينابيع المودّة» ص ٧٨ عن «مسند» أحمد بن حنبل بإسناده عن أنس بن مالك أنّهُ قالَ: قُلنا لِسَلمانَ: سَلِ النَّبيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم عَن وَصِيِّهِ، فَقَالَ سَلمانُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ مَن وَصِيُّكَ؟ فَقَالَ: يا سَلمَانُ؛ مَن وَصِيّ موسى؟ فَقَالَ: يُوشَعُ بنُ نُونٍ. قالَ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم: «وَصِيِّي وَ وارِثِي يَقضِي دَيْنِي وَ يُنجِزُ موعْدي عليّ بنُ أبِي طَالِبٍ» ثمّ يقول: روى الثعلبيّ حديث الوصيّة بشأن عليّ بن أبي طالب عن البراء بن
عازب، في تفسيره في ذيل الآية الكريمة: {وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}.۱
و روى ابن المغازليّ هذا الحديث بسنده عن ابن عبّاس، و جابر بن عبد الله الأنصاريّ، و بريدة، و أبي أيّوب الأنصاريّ.
و ذكر في ص ٢٣١ من «ينابيع المودّة» أيضاً، ضمن سبعين منقبة نقلها لأمير المؤمنين هذا الحديث عن أحمد بن حنبل، عن أنس.
لِكُلِّ نَبِيّ وصِيّ
و ينقل أيضاً في ص ٢٥٣ ضمن المودّة السابعة عن كتاب «مودّة القربي» عن عبد الله بن عمر أنّه قالَ: مَرَّ سَلمانُ الفارسِيّ وَ هُوَ يُريدُ أن يَعُودَ رَجُلًا وَ نَحنُ جُلُوسٌ في حَلقَةٍ وَ فِينا رَجُلٌ يَقْولُ: لَو شِئْتُ لأنْبَأتُكُمْ بَأفْضَلِ هَذِهِ الامَّةِ بَعْدَ نَبِيِّها وَ أفْضَلَ مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أبي بَكرٍ وَ عُمَرَ فَسُئِلَ سَلمَانُ فَقَالَ: أمَا و اللهِ لَو شِئتُ لأنْبَأتُكُمْ بِأفضَلِ هَذِهِ الامَّةِ بَعدَ نَبِيِّها وَ أفْضَلَ مِن هَذَينِ الرَّجُلَينِ أبي بَكرٍ وَ عُمَرَ. ثُمَّ مَضَى سَلْمانُ. فَقِيلَ لَهُ:
يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! مَا قُلْتَ؟ قَالَ: دَخَلتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم في غَمَراتِ المَوتِ. فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ هَلْ أوْصَيْتَ؟ قالَ: «يا سَلمَانُ أ تَدْرِي مَنِ الأوصياءُ»؟ قُلتُ: اللهُ وَ رَسُولُهُ أعلَمُ. قالَ: «آدَمُ وَ كانَ وَصِيُّهُ شَيثٌ وَ كانَ أفضَلَ مَنْ تَرَكَهُ بَعْدَهُ مِن وُلدِهِ؛ وَ كانَ وَصِيّ نُوحٍ سامٌ وَ كانَ أفضَلَ مَن تَرَكَهُ بَعْدَهُ؛ وَ كانَ وَصِيّ موسى يُوشَعُ وَ كانَ أفضَلَ مَن تَرَكَهُ بَعْدَهُ؛ وَ كَانَ وَصِي عيسى شَمعُونُ بنُ فَرْخِيا وَ كانَ أفْضَلَ مَن تَرَكَهُ بَعْدَهُ؛ وَ إِنِّي أوْصَيتُ إلى عليّ وَ هُوَ أفْضَلُ مَنْ أترُكُهُ مِن بَعْدِي».
و ينقل هذا الحديث نفسه في كتاب «عليّ و الوصيّة» في ص ٣٦٦
عن كتاب «الكوكب الدرّي» للسيّد محمّد صالح الترمذيّ الحنفيّ ص ١٣٣ بإسناده عن عمر بن الخطاب. بَيدَ أنّه لم يذكر هذه الفقرة: «فَسُئِلَ سَلمانُ فَقَالَ: أمَا و اللهِ لَو شِئتُ لأنَبِّأتُكُمْ بِأفضَلَ مِن هَذِهِ الامَّةِ» و أضاف فقرة اخرى هي «وَ وَصِيّ سُلَيمانَ آصفُ بنُ بَرخِيا». و ذكر أيضاً أنّ وصيّ عيسى هو شمعون بن بَرخيا.
كنتُ أنا و عليّ نوراً بين يدي الله عزّ و جلّ قبل أن يخلق آدم
و منها: الأخبار التي تدلّ على أنّ الله جعل النبوّة في محمّد و الوصاية في عليّ، نحو الحديث الوارد في «ينابيع المودّة» ص ٢٥٦: عُثْمانُ رَفَعَهُ: خُلِقتُ أنَا وَ عليّ مِنْ نُورٍ واحِدٍ قَبلَ أن يَخلُقَ اللهُ آدَمَ بِأربَعَةِ آلافِ عامٍ، فَلَمّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ رَكَّبَ ذَلِكَ النُّورَ في صُلبِهِ فَلَمْ يَزَلْ شَيئاً واحِداً حتى افتَرَقْنا في صُلبِ عَبدِ المُطَّلِبِ، فَفِي النُّبُوَّةُ وَ في عليّ الْوَصِيَّةُ.
و يقول في هذه الصفحة نفسها أيضاً: عَن عليّ عَلَيهِ السّلام قالَ: «قال رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم: يَا عليّ؛ خَلَقَنِيَ اللهُ وَ خَلَقَكَ مِن نُورِهِ، فَلَمّا خَلَقَ آدَمَ عليه السّلامُ أودَعَ ذَلِكَ النُّورَ في صُلْبِهِ فَلَمْ نَزَلْ أنَا وَ أنتَ شَيئاً واحِداً، ثُمَّ افْتَرَقنا في صُلْبِ عَبد المُطَّلِبِ، فَفِي النُّبُوَّةُ وَ الرِّسَالةُ، وَ فِيكَ الوَصِيَّةُ وَ الإمَامَةُ».
و يقول ابن أبي الحديد۱ في «شرح نهج البلاغة» ج ٢، ص ٤٥٠؛ الحديث الرابع عشر:قالَ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّم: «كُنتُ أنا وَ عليّ نُوراً بَينَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ قَبلَ أن يَخْلُقَ آدَمَ بِأربَعَةِ عَشَرَ ألفَ عامٍ، فَلَمّا خَلَقَ آدَمَ، قَسَّمَ ذَلِكَ فِيهِ وَ جَعَلَهُ جُزئَيْنِ فَجُزءٌ أنَا وَ جُزءٌ عليّ» ثمّ يقول: روى أحمد بن حنبل هذا الحديث في مسنده، و كذلك رواه في كتاب «فضائل عليّ».
و ذكر صاحب «الفردوس» هذه الرواية أيضاً، و نقل فيها فقرة إضافيّة فقال: «ثُمَّ انتَقَلْنا حتى صِرْنَا في عَبدِ المُطَّلِبِ، فَكَانَ لِيَ النُّبُوَّةُ وَ لِعَلِيّ الوَصِيَّةُ»
و منها: الأخبار التي مفادها أنّ جبرئيل أعلم النبيّ بخبر وصاية أمير المؤمنين، كما روى الموفّق بن أحمد الخوارزميّ في «المناقب» ص ٢٢٨ في الفصل التاسع عشر عن محمّد بن أحمد بن شاذان، و محمّد بن عليّ بن فضل الزّيّات، عن عليّ بن بديع الماجشونيّ، عن إسماعيل بن أبان الورّاق، عن غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين عن أبيه عليهم السلام أنّه قالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم: نَزَلَ عليّ جَبْرِئيلُ عَلَيهِ السَّلامُ صَبيحَةَ يَوْمٍ فَرِحاً مَسرُوراً مُستَبْشِراً، فَقُلتُ: حَبيبي مالِي أراكَ فَرِحاً مُستَبْشِراً؟ فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ! وَ كَيفَ لَا أكُونُ فَرِحاً مُستَبشِراً وَ قَد قَرَّتَ عَينِي بِما أكرَمَ اللهُ أخاكَ وَ وَصِيَّكَ وَ إمامَ امَّتِكَ عليّ بنَ أبِي طالِبٍ عَلَيهِ السَّلامُ. فَقُلتُ: وَ بِمَ أكرَمَ اللهُ أخي وَ وَصِيّي وَ إمَامَ امَّتِي؟ قالَ: بَاهَي اللهُ بِعِبادَتِهِ البارِحَةَ مَلَائكَتَهُ وَ حَمَلَةَ عَرشِهِ وَ قَالَ: مَلائكَتِي انْظُرُوا إلى حُجَّتِي في أرضِي عَلى عِبَادي بَعدَ نَبِيِّي مُحَمَّدٍ فَقَدْ عَفَّرَ خَدَّهُ فِي الترابِ تَواضُعاً لِعَظَمَتِي، اشهِدُكُمْ أنَّهُ إِمَامُ خَلقِي وَ مَولَى بَرِيَّتِي».
و نقل القندوزيّ الحنفيّ هذا الحديث الشريف في «ينابيع المودّة» في ص ٧٩، و ص ١٢٧ عن الخوارزميّ عن غياث بن إبراهيم بنفس السند السابق و باختلاف طفيف.
و روى ابن شهرآشوب في «المناقب» ج ١، ص ٥٤٣ عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلّم قال: «انّ جَبرئيلَ
نَظَرَ إلى عليّ فَقَالَ: هَذَا وَصِيُّكَ».
و منها: الأحاديث المأثورة عن النبيّ التي تدلّ على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام وصيّ رسول الله و وزيره و منجز وعده و مؤدّي دينه و خليفته في امّته. و لمّا كانت هذه الأحاديث قد نقلت أيضاً عن كبار العلماء بأسانيد مختلفة مضافاً إلى أنّ نصوصها ليست بعبارة واحدة، لذلك نحن ننقل كثيراً منها كلّا علىحده مع ذكر مصادرها.
ينقل الحموينيّ في «فرائد السمطين» ج ٢ باب ٨ حديثاً مفصّلًا بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن رسول الله. و ممّا جاء فيه: «أمّا عليّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام فَإنَّهُ أخي وَ شَقِيقي وَ صاحِبُ الأمرِ بَعْدي وَ صاحِبُ لِوائي في الدُّنيا و الآخِرَةِ. وَ صاحِبُ حَوْضِي وَ شَفَاعَتِي وَ هُوَ مَوْلى كلِّ مُسلِمٍ وَ إمامُ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ قائِدُ كُلِّ تَقِيّ، وَ هُوَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي عَلى أهْلِي وَ امَّتِي في حَيَاتِي وَ بَعْدَ مَوتِي وَ مُحِبُّهُ مُحِبِّي وَ مُبغِضُهُ مُبغِضِي، وَ بِوِلَايَتِهِ صارَتُ امَّتِي مَرحُومَةً وَ بِعَداوَتِهِ صَارَتِ المُخالِفَةُ لَهُ مَلعُونَةً».
و روى العلّامة البحرانيّ في كتابه «المناقب الصغير» ص ٥٨ عن كتاب «الوسيلة» المتعلّق بالعلّامة الشيخ أحمد بن فضل بن محمّد بن باكثير المكّيّ الشافعيّ، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلّم أنّه قالَ: «انّ خَلِيلي وَ وَزِيرِي وَ خَلِيفَتِي وَ خَيرَ مَن أتْرُكُ مِن بَعْدِي يَقضِي دَينِي وَ يُنجِزُ مَوعِدي عليّ بنُ أبي طالِبٍ».
أغلق رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم أبواب المسجد إلّا باب أمير المؤمنين عليه السلام
و روى صاحب كتاب «عليّ و الوصيّة» ص ١٠٩ عن «مناقب» ابن المغازليّ الشافعيّ بإسناده عن نافع غلام عبد الله بن عمر أنّه قالَ: قُلتُ لِابْنِ عُمَرَ: مَنْ خَيرُ النَّاسِ بَعدَ رَسُولِ اللهِ؟ قال: ما أنتَ وَ ذَا، لَا امَّ لَكَ؟ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ اللهَ وَ قَالَ: خَيْرُهُم بَعْدَهُ مَن كَانَ يَحِلُّ لَهُ مَا يَحِلُّ لَهُ، وَ يَحْرُمُ
عَلَيهِ ما يَحْرُمُ عَلَيهِ. قُلتُ: مَن هُوَ؟ قَالَ: عليّ بنُ أبي طالِبٍ، سَدَّ أبوابَ المَسجِدِ وَ تَرَكَ بابَ عليّ وَ قالَ لَهُ: لَكَ في هَذا المَسجِدِ ما لِي وَ عَلَيكَ فيهِ مَا عليّ، وَ أنتَ وارِثِي وَ وَصِيِّي تَقْضِي دَيْنِي وَ تُنْجِزُ عِدَاتِي وَ تقتُلُ عَلَى سُنَّتِي، كَذَبَ مَن زَعَمَ أنَّهُ يُبْغِضُكَ وَ يُحِبُّنِي.
و روى إبراهيم بن محمّد الحموينيّ أيضاً في «فرائد السمطين» ج ١ الباب ٢٩ بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنّه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّم: «هَذَا عليّ أمير المؤمنين وَ سَيِّدُ المسلمين وَ وَصِيّي وَ عيبةُ عِلمي وَ بابيَ الذي أوتى مِنهُ، أخِي في الدُّنْيَا و الآخِرَةِ، وَ مَعِي في السَّنامِ الأعلَى، يَقتُلُ القاسِطينَ وَ الناكِثِينَ و الْمارِقِينَ».
و ذكر سبط بن الجوزيّ في «تذكرة الخواصّ» ص ٤٩ رسالة عمرو بن العاص إلى معاوية. و قد فصّل كثيراً في ذكر فضائل عليّ بن أبي طالب. علماً بأنّ عمرو بن العاص لم يكن مخالفاً لأمير المؤمنين في البداية و كما هو واضح من رسالته، فقد ذكر فيها اموراً ضدّ معاوية، لكنّه لم يثبت على موقفه هذا، فعند ما كتب إليه معاوية رسالة اخرى يستعطفه فيها و يستعينه و ضمّها بوثيقة حكومة مصر، تجهّز لمساعدة معاوية، و كلّما حاول ولده و غلامه ردعه عن ذلك، لم ينفع معه حتى تحرّك لقتال أمير المؤمنين عليه السلام ملتحقاً بمعاوية.
يقول سبط بن الجوزيّ في ص ٤٩: قال أهل التواريخ و السِير: لمّا ولى عثمان الخلافة، لم يلتفت إلى عمرو بن العاص و لا ولّاه، و عزله عن مصر. و لمّا حصر عثمان، خرج عمرو بن العاص إلى الشام فنزل فلسطين و كان يؤَلّب على عثمان حتى قُتل.
ذكر فضائل أمير المومنين عليه السلام على لسان عمرو بن العاص
قيل لمعاوية أن عمرو بن العاص دويهة العرب فإذا أردت الحكومة و الغلبة على عليّ بن أبي طالب فعليك به، فكتب إليه يستدعيه إليه و يستعطفه و يعده المواعيد إن هو وافقه على قتال أمير المؤمنين و يذكر ما جرى على عثمان، فكتب إليه عمرو:
أمّا بَعدُ فَإنِّي قرَأتُ كِتابَكَ وَ فَهمتُهُ، فَأمّا ما دَعَوتَنِي إلَيهِ مِن خَلعِ رَبْقَةِ الإسلامِ مِن عُنُقِي وَ التَّهَوُّنِ مَعَك في الضَّلَالَةِ وَ إِعانَتِي إيَّاكَ عَلى البَاطِلِ وَ اختِراطِ السَّيفِ في وَجهِ أمير المؤمنين عليّ بنِ أبي طالِبٍ فَهُوَ أخُو رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ وَلِيُّهُ وَ وَصِيُّهُ وَ وارِثُهُ وَ قاضِي دَيْنِهِ وَ مُنجِزُ وَعْدِهِ وَ صِهرُهُ عَلَي ابْنَتِهِ سَيِّدَةِ نِساءِ العالَمِينَ وَ أبُو السِّبْطَيْنِ الْحَسَنِ وَ الحُسَينِ سَيِّدِي شَبابِ أهلِ الجَنَّةِ.
وَ أمّا قَولُكَ إنَّكَ خَلِيفَةُ عُثمَانَ فَقَدْ عُزِلْتَ بِمَوتِهِ وَ زالَتْ خِلَافَتُكَ وَ أمّا قَولُكَ أنّ أمير المؤمنين أشلَى الصَّحابَةَ عَلى قَتْلِ عُثْمَانَ فَهُوَ كَذِبٌ وَ زُورٌ وَ غَوايَةٌ. وَيْحَكَ يَا مُعاوِيةُ! أ ما عَلِمْتَ أنّ أبَا الحَسَنِ بَذَلَ نَفسَهُ لِلّهِ تعالى وَ باتَ عَلى فِراشِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، وَ قالَ فِيهِ: مَن كُنتُ مَولَاهُ فَعَليّ مَولاهُ؟ فَكِتابُكَ لا يَخدَعُ ذا عَقلٍ وَ ذا دِينٍ و السَّلامُ.
فلمّا قرأ كتابه، قال له عُتبة بن أبي سفيان: لا تيْأس منه و رغّبه في الولاية و أشركه في سلطانك. لذلك لمّا أرسل إليه رسالة اخرى و معها عهده إليه بحكومة مصر، و لمّا رأى عمرو أنّه سيكون حاكماً لمصر، مال قلبه إلى معاوية فتحرّك تلقاء الشام لقتال عليّ بن أبي طالب.۱
أنّ الباعث الذي دفعنا إلى ذكر رسالة عمرو بن العاص هنا هو ما ورد
فيها من اعترافه بفضل أمير المؤمنين و اعتباره وصيّ رسول الله، و وارثه و قاضي دينه و منجز وعده. و وليّ كلّ مؤمن.
ذكر بعض فضائل أمير المؤمنين عليه السلام
و يروي ابن شهرآشوب أيضاً في «المناقب» ج ١ ص ٥٤٢ عن سفيان الثوريّ، عن منصور، عن مجاهد، عن سلمان الفارسيّ أنّه قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: «أنّ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي وَ خَيْرَ مَن أتْرُكُ بَعْدِي يُنجِزُ مَوعِدِي وَ يَقضِي دَيْني عليّ بنُ أبِي طالِبٍ».
و يروي محبّ الدين الطبريّ في «الرياض النضرة» ج ٢ ص ١٧٨ و في «ذخائر العقبي» ص ٧١ بإسناده عن أنس، و كذلك القندوزيّ الحنفيّ في «ينابيع المودّة» ص ٢٠٨ عن أحمد بن حنبل في مناقبه عن أنس أنّه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: «وصِيِّي وَ وَارِثِي يَقْضِي دَينِي وَ يُنجِزُ مَوعِدِي عليّ بنُ أبِي طالِبٍ».
و يروي القندوزيّ الحنفيّ في ص ١٣٣ من «ينابيع المودّة» ضمن حديث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، أنّ رسول الله قال: «يَا عليّ؛ أنْتَ صَاحِبُ حَوْضي و صَاحِبُ لِوائِي وَ حَبِيبُ قَلبِي وَ وَصِيي وَ وارِثُ عِلْمِي».
و منها: الأحاديث التي سمّى فيها رسول الله صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ۱ وَ سَلّمَ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب خاتم الأوصياء، و خاتم الوصيّين و سيّد الأوصياء و سيّد الوصيّين، و أفضل الأوصياء.
منها: الحديث الذي نقلناه سابقاً عن «غاية المرام» ص ٦١٩ إذ يروي الحموينيّ بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّه كان يوماً مع النبيّ في بعض حيطان المدينة، إلى أن يقول: فمررنا بنخل، فصاح النخل: هَذا مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الأنبِياءِ، وَ هَذا عليّ سَيِّدُ الأوصِياءِ وَ أبُو الأئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ.
و ذكرنا أيضاً روايات كثيرة معروفة بحديث أنس جاء فيها أنّ رسول الله قال لأنس: «أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيكَ مِن هَذَا البَابِ أمير المؤمنين و سَيِّدُ المسلمين وَ قائِدُ الْغُرِّ المُحَجَّلين وَ خَاتَمُ الوَصِيّينَ».
و نقلنا أيضاً عن «غاية المرام» ص ٦٢١، الحديث الثالث و العشرين أنّ ابن شاذان روَى عن طريق العامّة، عن الإمام الرضا، عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم، أنّهُ سئل ضمن ذلك الحديث: وَ مَا العُروَةُ الوُثْقَى؟ قالَ: وِلَايَةُ سَيِّدِ الْوَصِيِّينَ. قيلَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ وَ مَن سَيِّدُ الوَصِيِّينَ؟ قَالَ: «أمير المؤمنين ... أخِي عليّ بنُ أبي طالِبٍ» و ذكرنا أيضاً ضمن حديث المناشدة الذي خاطب فيه أمير المؤمنين، المسلمين في مسجد النبيّ أيّام عثمان، أنّ صاحب كتاب «عليّ و الوصيّة» ص ٧٣ نقل عن الحموينيّ في «فرائد السمطين» بإسناده عن سليم بن قيس الهلاليّ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: «أنَا أفضَلُ أنبياءِ اللهِ وَ رُسُلِهِ، وَ عَلِيّ ابنُ أبي طالِبٍ وَصِيّي أفضَلُ الأوصِياء».
و ذكر المناويّ عبد الرءوف ابن تاج العارفين أيضاً في كتابه «كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق» المطبوع بمصر سنة ١٣٢١، و كذلك جاء في حاشية «الجامع الصغير» للسيوطيّ في ج ١، ص ٧١ حديث عن الديلميّ
صاحب كتاب «فردوس الأخبار» في حرف الألف بإسناده عن أبي ذرّ الغفايّ رحمة الله عليه أنّه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سَلَّم وَ هُوَ يُخَاطِبُ أمير المؤمنين عليّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السَّلامُ: «أنَا خاتَمُ الأنبياءِ و أنْتَ يا عليّ؛ خاتَمُ الأوصِياءِ».
و روى الشيخ سليمان القندوزيّ الحنفيّ في «ينابيع المودّة» ص ٧٩ هذا الحديث الشريف بلفظ آخر عن الحموينيّ في «فرائد السمطين» إذ
جاء فيه: قَالَ أبُو ذر: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] و سَلَّم: «أنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَ أنتَ يا عليّ، خاتَمُ الوَصِيِّينَ إلى يِوْمِ الدِّينِ».
و روى القندوزيّ أيضاً في «ينابيع المودّة» ص ٨٠عن «المناقب» عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عن آبائه عليهم السلام: قَالَ: كانَ عليّ عليه السلام يَرى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سَلَّم قَبْلَ الرِّسَالَةِ الضَّوءَ وَ يَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: «لَو لا أنِّي خاتَمُ الأنبِياءِ لَكُنْتَ شَرِيكاً في النُّبوَّةِ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيّاً فَإنَّكَ وَصِيّ نَبِيّ وَ وارِثُهُ، بَل أنتَ سَيِّدُ الأوصِياءِ وَ إمامُ الأتقِياءِ».
و عند ما يذكر الحموينيّ أيضاً في آخر الجزء الثاني الباب ٦١، ص ٣١٣ من «فرائد السمطين» أحوال الإمام المهديّ قائم آل محمّد عليه السلام فإنّه يقول: عَنْ أبي مُعاويَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ عَبايَةَ ابنِ رِبْعِيّ، عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سَلَّم: «أنَا سَيِّدُ النَّبِيّينَ وَ عليّ بنُ أبي طالِبٍ سَيِّدُ الوَصِيِّينَ، و أنّ أوصِيَائِي بَعْدِي اثنا عَشَرَ أوَّلُهُمْ عليّ بنُ أبي طَالِبٍ وَ آخِرُهُمُ القائمُ الْمَهْدِيّ عَلَيهِمُ السَّلامُ».
و روى القندوزيّ الحنفيّ هذا الحديث الشريف أيضاً في «ينابيع المودّة» ص ٤٤٥، عن عَباية بن ربعيّ، عن جابر، عن رسول الله، و في ص ٤٤٧، و ص ٤٨٧ عن «فرائد السمطين» للحموينيّ بسنده عن عَباية بن ربعيّ، عن ابن عبّاس، عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم.
و منها: الأحاديث المتعلّقة بكلام رسول الله مع الصدّيقة الكبرى عند موته، إذ صرّح فيها بأنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وصيّه، و أنّه خير الأوصياء. و هذه الأحاديث مهمّة للغاية أيضاً، و هي تستحقّ الإمعان من وجهه نظر رجال الحديث و العلماء الذين ثبّتوها في كتبهم الموثوقة.
كلام رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم مخاطباً فاطمة الزهراء عليها السلام في شأن أهل البيت عليهم السلام
يقول الكنجيّ الشافعيّ في الباب الأوّل ص ٥٥ من كتاب «البيان في أخبار صاحب الزّمان» طبع النجف: أخبرنا السيّد النقيب الكامل مستحضر الدّولة، سفير الخلافة المعظّمة، عَلَمُ الهدى، تاج امراء آل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم، أبو الفتوح المرتضى بن أحمد بن محمّد بن محمّد بن جعفر بن زيد بن جعفر بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن إسحاق بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمّد الباقر بن الإمام زين العابدين بن الإمام الحسين الشهيد بن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن أبي الفرج يحيى بن محمود الثقفيّ، عن أبي عليّ الحسن بن أحمد الحدّاد عن الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهانيّ، عن الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبرانيّ. و (بسند آخر) أخبرنا الحافظ أبو الحجّاج يوسف بن خليل في حلب عن أبي عبد الله محمّد بن أبي زيد الكرانيّ في أصفهان، عن فاطمة بنت عبد الله الجوزدانيّة، عن أبي بكر بن بريدة، عن الحافظ أبي القاسم الطبرانيّ (الذي تنتهي سلسلة السندين به)، عن محمّد بن زريق بن جامع المصريّ، عن هيثم بن حبيب، عن سفيان بن عيينة، عن عليّ الهلاليّ، عن أبيه، أنّه قال: دَخَلتُ عَلَي رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سَلَّم في شَكاتِهِ الَّتي قُبِضَ فِيها فَإذا فاطِمَةُ عليها السَّلامُ عِندَ رَأسِهِ. قالَ: فَبَكَتْ حتى ارتَفَعَ صَوتُها فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ طَرْفَهُ إلَيها قالَ: «حَبِيبَتِي فاطِمَةُ! مَا الذي يُبْكِيكِ؟ فَقَالَتْ: أخْشَى الضَيْعَةَ مِن بَعْدِكَ. فَقالَ: يَا حَبِيبَتِي! أ مَا عَلِمَتْ أنّ اللهَ اطَّلَعَ إلى الأرْضِ اطّلاعَةً فَاخْتَارَ مِنْها أباكِ فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمّ اطّلَعَ اطّلاعَةً فَاختَارَ مِنها بَعْلَكِ وَ أوْحَى إلى أن انكِحَكِ إيّاهُ! يا فاطِمَةُ! وَ نَحنُ أهلُ بَيتٍ قَد أعْطانَا اللهُ سَبْعَ خِصالٍ لَم يُعْطِ أحَداً قَبْلَنا وَ لَا يُعطِي أحَداً بَعْدَنَا، أنَا خاتَمُ النَّبِيِّينَ
وَ أكْرَمُ النَّبِيّينَ عَلَى اللهِ وَ أحَبُّ الْمَخلُوقِينَ إلى اللهِ وَ أنا أبُوكِ. وَ وَصِيِّي خَيرُ الأوصِياءِ وَ أحَبُّهُمْ إلى اللهِ وَ هُوَ بَعلُكِ، وَ مِنّا مَن لَهُ جَناحانِ أخْضَرانِ يَطِيرُ [بِهِما] في الْجَنَّةِ مَعَ الملائكةِ حَيثُ يَشَاءَ وَ هُوَ ابنُ عَمِّ أبِيكِ وَ أخُو بَعْلِكِ، وَ مِنّا سِبطا هَذِهِ الامّةِ وَ هُمَا ابْناكِ الْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ وَ هُمَا سَيِّدا شَبَابِ أهْلِ الْجَنَّةِ، وَ أبُوهُما وَ الَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ خَيرٌ مِنهما. يا فَاطِمَةُ وَ الَّذِي بَعَثَنِي بالحَقِّ أنّ مِنْهُما مَهْدِيّ۱ هَذِهِ الامّةِ إذا صارَتِ الدُّنيا هَرْجاً وَ مَرْجاً، وَ تَظاهَرَتِ الفِتَنُ، وَ تَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، وَ أغارَ بَعضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلا كَبِيرٌ يَرحَمُ صَغِيراً، وَ لَا صَغيرٌ يُؤَقِّرُ كَبيراً. يَبعَثُ اللهُ عِندَ ذَلِكَ مِنْهُمَا٢ مَن يَفتَحُ حُصُونَ الضَّلَالَةِ وَ قُلُوباً غُلْفاً، يَقُومُ بِالدِّينِ في آخِرِ الزَّمَانِ كَما قُمْتُ بِهِ في أوّلِ الزَّمَانِ، وَ يَمْلأ الدُّنيَا عَدْلًاً كَما مُلِئَت جَوْراً. يا فَاطِمَةُ لَا تَحْزَنِي وَ لَا تَبكي فَإنَّ اللهَ أرحَمُ بِكِ وَ أرأفُ عَلَيكِ مِنِّي وَ ذَلِكَ لِمكَانِكِ مِنِّي وَ مَوقِعِكِ مِن قَلبِي، وَ زَوَّجَكِ اللهُ زَوجَكِ وَ هُوَ أشْرَفُ أهلِ بَيتِكِ حَسَباً وَ أكرَمُهُمْ مَنْصَباً وَ أرحَمُهُمْ بِالرَّعيَّةِ وَ أعْدَلُهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَ أبصَرُهُمْ بِالقَضِيَّةِ. وَ قَدْ سَألتُ رَبِّي أن تَكُوني أوَّلَ مَن يَلْحَقُنِي مِن أهلِ بَيْتِي. قالَ عليّ عَلَيهِ السَّلامُ فَلَمّا قُبِضَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، لَمْ تَبقَ فاطِمَةُ بَعْدَهُ إلَّا خَمسَةً وَ سَبعِينَ يَوماً حتى ألحَقَها اللهُ بِهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ».٣
ثمّ يقول الكنجيّ: ذكر صاحب «حلية الأولياء» هذا الحديث بنفس الشكل و الكيفيّة في كتابه المترجم بذكر نعت المهديّ. و ذكره الطبرانيّ شيخ أهل الصنعة أيضاً في معجمه الكبير.
دلالة هذا الحديث الشريف على وصاية أمير المؤمنين عليه السلام
أجل، فقد ذكر ابن حجر الهيثميّ هذا الحديث في «مجمع الزوائد» ج ٩ ص ١٦٥. و ينبغي أن نعلم بأنّ هذا الحديث الشريف حديث صحيح وفقاً لاصطلاح أهل العلم و أهل الجرح و التعديل، لأنّ الطبرانيّ ذكره في «المعجم الكبير» و هذا أمر معلوم و واضح، و صرّح الطبرانيّ أيضاً في معجمه الكبير بأنّه لم يجمع إلّا الأحاديث الصحيحة كما يسمّيها، لذلك فإنّ وصاية أمير المؤمنين عليه السلام تثبت من خلال هذا الحديث وحده. و لو فرضنا عدم وجود نصّ على الوصاية غير هذا الحديث، فإنّه هو فقط يكفي لإثبات الوصاية؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم يصرّح في هذا الحديث أنّ عليّ بن أبي طالب وصيّه، و أنّه خير الأوصياء الذين كانوا للأنبياء السابقين من لدن آدم أبي البشر حتى عيسى ابن مريم. و من الثابت أنّ هذه الوصاية لا تحوم حول الشؤون الشخصيّة بل تحوم حول شئون النبوّة و الخلافة و حكومة المسلمين من كافّة الجهات. و في ضوء ما تقدّم، فإنّ هذا الحديث الشريف، من حيث نصّه الصريح على الوصاية، و من حيث سنده القويّ جدّاً، يعتبر من الأدلّة على وصاية عليّ بن أبي طالب.
و روى الخوارزميّ أيضاً في مناقبه [نقلًا عن «عليّ و الوصيّة» ص ٢١٨]، ص ٦٧ بسنده عن الأعمش، عن ابن ربعيّ، عن أبي أيّوب الأنصاريّ أنّه قال: أنّ النَّبِيّ مَرِضَ مَرَضَهُ فَأتَتْهُ فاطِمَةُ الزَّهرَاء عَلَيْها السَّلامُ تَعُودُهُ فَلَمَّا رَأتْ مَا بِرَسُول اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سَلَّم مِنَ الْجَهْدِ و الضَّعفِ استَعبَرَتْ فَبَكَتْ حتى سَالَ دَمعُها عَلَى خَدَّيْهَا، فَقَالَ لَها
رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سَلَّم: «يا فاطِمَةُ؛ أنّ لِكَرامَةِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ إيَّاكِ زَوَّجَكِ مَن أقْدَمُهُمْ سِلماً، وَ أكثَرُهُمْ عِلماً، وَ أعظَمُهُمْ حِلماً، أنّ اللهَ اطَّلَعَ إلى أهْلِ الأرْضِ اطِّلاعَةً فَاختَارَني مِنهُم فَبَعَثَنِي نَبِيّاً مُرسَلًا، ثُمَّ اطَّلَعَ اطِّلاعَةً فَاختَارَ مِنهُمْ بَعْلَكِ، فَأوحى إلى أن ازَوِّجَكِ إِيَّاهُ وَ اتَّخِذهُ وَصِيّاً وَ أخاً».
و نقل هذا الحديث في «ينابيع المودّة» ص ٨١ عن الخوارزميّ باختلاف يسير، ثمّ قال: وَ زادَ ابنُ المَغازِلِيّ: «يا فاطمِةُ إنّا أهلُ البَيْتِ اعْطِينا سَبْعَ خِصالٍ لَم يُعْطَها أحَدٌ مِنَ الأوَّلِينَ وَ لا يُدرِكُها أحَدٌ مِنَ الآخِرِينَ. مِنّا أفضَلُ الأنبياءِ وَ هُوَ أبُوكِ، وَ وَصِيُّنا خَيرُ الأوصِياءِ وَ هُوَ بَعلُكِ، وَ شَهيدُنا خَيرُ الشُّهَداءِ وَ هُوَ حَمْزَةُ عَمُّكِ، وَ مِنّا مَن لَهُ جَناحانِ يَطيرُ بِهِما في الجَنَّةِ حَيثُ يَشاءُ وَ هُوَ جَعفَرٌ ابنُ عَمِّكِ، وَ مِنّا سِبطانِ وَ سَيِّدا شُبّانِ أهلِ الجَنَّةِ ابْناكِ. و الَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ أنّ مَهدِيّ هَذِهِ الامَّةِ يُصَلِّي عيسى ابنُ مَريَمَ خَلْفَهُ فَهُوَ مِنْ وُلدِكِ. ثمّ قالَ: وَ زادَ الحموينيّ: يَمْلأ الأرضَ عَدْلًا وَ قِسطاً بَعدَما مُلِئَتْ جَوْراً وَ ظُلماً. يا فاطِمةُ! لا تَحْزَنِي وَ لا تَبكي فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أرْحَمُ بِكِ وَ أرأفُ عَلَيكِ مِنِّي وَ ذَلِكِ لِمَكانِكِ وَ مَوْقِعِكِ مِن قَلْبي. قَد زَوَّجَكِ اللهُ زَوجاً وَ هُوَ أعظَمُهُمْ حَسَباً، وَ أكْرَمُهُمْ نَسَباً، وَ أرحَمُهُمْ بِالرَّعِيَّةِ، وَ أعدَلُهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَ أبصَرُهُمْ بِالقَضِيَّةِ»
و لا يخفى فإنّ مجموع مضامين الفقرات الواردة في رواية الخوارزميّ، و ابن المغازليّ، و الحموينيّ الذي نقلنا روايته توّا، هى نفس المضامين الواردة في رواية الكنجيّ الشافعيّ التي رواها بسندَيه عن عليّ الهلاليّ، عن أبيه (عليّ) باختلاف يسير. و ذكرها الطبرانيّ في معجمة الكبير.
و لا يخفى أيضاً أنّ ابن المغازليّ روى حديثاً آخر قريباً من
هذه المضامين. يقول في «ينابيع المودّة» ص ٤٣٦: وَ نَذْكُرُ ما في «المناقب» لابنِ المَغازِلِيّ عَن أبِي أيّوبِ الأنصاريّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أنّ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سَلَّم مَرِضَ فَأتَتْهُ فاطِمَةُ- رَضِيَ اللهُ عنها- وَ بَكَتْ فَقالَ: «يا فاطِمَةُ! أنّ لِكَرامَةِ اللهِ إيَّاكِ زَوَّجَكِ مَن هُوَ أقْدَمُهُمْ سِلْماً وَ أكْثَرُهُمْ عِلْماً. أنّ اللهَ تعالى اطَّلَعَ إلى أهلِ الأرضِ اطّلاعَةً فَاخْتَارَنِي مِنهُمْ فَجَعَلَني نَبِيّاً مُرسَلًا، ثُمَّ اطَّلَعَ اطِّلاعَةً ثانِيَةً فَاخْتارَ مِنهُمْ بَعْلَكِ فَأوحى إلى أن ازَوِّجَهُ إيّاكِ وَ اتَّخِذَهُ وَصِيّاً. يا فَاطِمَةُ! مِنّا خيرُ الأنبِياءِ وَ هُوَ أبُوكِ، وَ مِنّا خَيرُ الاوصِياءِ وَ هُوَ بَعلُكِ، وَ مِنّا خَيرُ الشُّهَداءِ وَ هُوَ حَمزَةُ عَمُّ أبيكِ، وَ مِنّا مَن لَهُ جَناحانِ يَطيرُ بِهِما في الجَنَّةِ حَيثُ شاءَ وَ هُوَ جَعفَرٌ ابنُ عَمِّ أبيكِ وَ مِنّا سِبْطا هَذِهِ الامَّةِ وَ سَيِّدا شَبابِ أهلِ الْجَنَّةِ الْحَسَنُ وَ الْحُسَينُ وَ هُما ابناكِ. وَ الَّذِي نَفسي بِيَدِهِ مِنّا مَهدِيّ هَذِهِ الامَّةِ وَ هُوَ مِن وُلدِكِ».
و بعد أن ينقل القندوزيّ هذه الرواية عن ابن المغازليّ، يقول: خرّج الحموينيّ كذلك هذا الحديث في «فرائد السمطين».
و في «ينابيع المودّة» ص ٤٣٤ أيضاً يروي القندوزيّ الحنفيّ عن عَباية بن ربعيّ، عن أبي أيّوب الأنصاريّ أنّه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ لِفاطَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها: «مِنّا خَيرُ الأنبياءِ وَ هُوَ أبُوكِ، وَ مِنّا خيرُ الأوصياءِ وَ هُوَ بَعلُكِ، وَ مِنّا خيرُ الشُّهَداءِ وَ هُوَ عَمُّ أبيكِ حَمزَةُ، وَ مِنّا مَن لَهُ جَنَاحانِ يَطيرُ بِهِما في الجَنَّةِ حَيْثُ يَشاءُ وَ هُوَ ابنُ عَمِّ أبيكِ جَعفَرٌ، وَ مِنّا سِبْطا هَذِهِ الامّةِ وَ سَيِّدا شَبابِ أهلِ الجَنَّةِ الحَسَنُ وَ الحُسَينُ وَ هُما ابْنَاكِ، وَ مِنّا المَهْدِيّ وَ هُوَ منْ وُلْدِكِ».
ثمّ يقول: و خرّج الطبرانيّ هذا الحديث في «الأوسط».
و يذكر ابن صبّاغ المالكيّ أيضاً في «الفصول المهمّة» ص ٢٧٨ طبع النجف رواية مفصّلة يماثل أغلب عباراتها الرواية المفصّلة التي نقلناها عن
الكنجيّ الشافعيّ، و جاء فيها أنّ رسول الله قال لفاطمة: «وَ وَصِيُّنا خَيرُ الأوْصياءِ وَ هُوَ بَعْلُكِ»
و يقول المولى علي المتّقي الحنفيّ أيضاً في «كنز العمّال» ج ٦ ص ١٥٣، الحديث المرقّم ٢٥٤١: أخرَجَ الطَّبَرانِيّ في «المُعْجَمِ الكَبِير»: أنّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] و سَلَّم قَالَ لِابنَتِهِ فَاطِمَةَ: «أ مَا عَلِمْتِ أنّ اللهَ عَزّ و جَلَّ اطَّلَعَ عَلَى أهلِ الأرْضِ فَاخْتارَ مِنهُم أباكِ فَبَعَثَهُ نَبِيّاً، ثُمَّ اطَّلَعَ الثَّانِيَةَ فَاخْتارَ بَعلَكِ فَأوْحَى إلى فَأنكَحْتُهُ إِيَّاكِ وَ اتَّخَذْتُهُ وَصِيّاً»
و هذا الحديث عينه كالحديث الذي نقله الكنجيّ الشافعيّ في «كفاية الطالب» ص ١٦١ تحت عنوان «تخصيص عليّ بكونه من المختارين عند ربّ العالمين» بإسناده عن الأعمش، عن عباية بن ربعيّ، عن أبي أيّوب الأنصاريّ، و لا فرق بينه و بين ذلك الحديث إلّا في كلمة واحدة موجودة فيه و غير موجودة في ذلك الحديث و هي: لابنَتِهِ. فقد جاء فيه: قالَ لِابنَتِهِ فاطِمَةَ، و جاء هناك: قالَ لِفَاطِمَةَ.
و قصارى القول: أنّ هذا الحديث الشريف الذي نقلناه عن كبار علماء السنّة، مع ما في فقراته من الاختلاف فيما بينها بَيدَ أنّها تتّفق جميعها على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام وصيّ رسول الله أو أنّه خير الأوصياء و أنّ مقام وصايته منصوص عليه صراحة في هذه الروايات كلّها. و لمّا ذكره الطبرانيّ في معجمه الكبير، و قال بأنّه لا يذكر إلّا الأحاديث الصحيحة، لذلك لا يبقى أي مجال للشبهة و التشكيك في صحّة سنده. و في ضوء ذلك ينبغي عدم الاكتراث بكلام السيوطيّ أو المولى عليّ المتّقي في تضعيف عَباية بن ربعيّ على أنّه شيعيّ غالٍ في تشيّعه، و بالتّالي عدم الأخذ بكلامه؛ لأنّ عَباية بن ربعيّ كان شيعيّاً معتدلًا غير مغالٍ في تشيّعه، و من الموالين لأهل البيت، و كان رجلًا عظيماً للغاية، و كانت له إمامة الحَرَم
و ورد مدحه و الثناء عليه في كتب الرجال، لكنّه و بسبب نقله غالباً الروايات الخاصّة بفضائل أهل البيت و خلافة أمير المؤمنين و وصايته عليه السلام و هذا يتنافى مع اصول المذهب السنّيّ، لذلك يتّهمه أمثال المولى عليّ المتّقي و جلال الدين السيوطيّ بالغلوّ في تشيّعه، فلا يأخذوا بأحاديثه. بينما لا تشمّ منه رائحة الغلوّ في أي رواية من الروايات التي نقلها. و هذه تهمة باطلة لا مبرّر لها، و مصدرها واضح لا غبار عليه.
أجل، فهذه إضمامة من الأحاديث المأثورة عن رسول الله و هي تخصّ كلامه- عند مرضه الذي مات فيه- لابنته فاطمة بشأن وصاية عليّ بن أبي طالب.
و أمّا في غير ذلك المرض، فقد نقل الخوارزميّ أيضاً رواية في كتاب «مقتل الحسين» طبع النجف ج ١، ص ٦٧، جاء فيها: «فَاخْتَارَ مِنهُم زَوجَكِ عَلِيّاً فَجَعَلَهَ لِي أخاً وَ وَصِيّاً».
و جاء في هذا الكتاب في الجزء الأوّل ص ٩٦ منه أيضاً ضمن حديث المعراج أنّ رسول الله قال لأبي سعيد الخدريّ: خاطبني الله بقوله: «يا مُحَمّدُ إِنّكَ أفْضَلُ النَّبِيّينَ وَ عَلِيّاً أفْضَلُ الوَصِيّينَ».
نزول النجم الدالّ على الوصاية في بيت أمير المؤمنين عليه السلام
و منها: الأحاديث التي نقلوها عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم إذ قال: كلّ من انقضّ هذا النجم في داره، فهو وصيّي، فكان كلّ واحد يتوقّع أنّ ينقضّ ذلك النجم في داره، لا سيّما العبّاس بن عبد المطّلب إذ كان يتوقّع ذلك أكثر من الآخرين. لكنّ ذلك النجم انقضّ في منزل عليّ ابن أبي طالب.
و ينبغي أن نعرف بأنّ المقصود من النجم نور خاصّ على شكل نجم يراه الجميع، كما أنّ بعض أرباب السلوك يشاهدون في بداية أمرهم أنواراً
على شكل نجوم.
لقد نقل جمع غفير من علماء الإماميّة هذه الروايات عن علماء العامّة في كتبهم المؤلّفة في التفسير و الحديث و التاريخ. و من بين هؤلاء: العلّامة البحرانيّ في «غاية المرام» إذ نقل في ص ٤٠٩ منه حديثين عن العامّة، و في ص ٤٠٩ حتى ص ٤١١ نقل أحد عشر حديثاً عن الخاصّة في هذا الموضوع.
نزول النجم الدالّ على الوصاية في بيت أمير المؤمنين
ذكر ابن المغازليّ عليّ بن محمّد الشافعيّ حديثين في هذا المجال.
الأوّل: و هو الحديث الذي ذكره في «المناقب» بإسناده عن أنس بن مالك. و رواه العلّامة البحرانيّ عنه أيضاً في «غاية المرام» ص ١. ٤٠٩۱ عَن أنَسٍ قالَ: انقَضَّ كَوكَبٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّم: فَقَالَ رَسُولُ اللهَ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّم: «مَنِ انْقَضَّ هَذَا النًّجْمُ في دارِهِ فَهُوَ الْخَلِيفَةُ مِن بَعْدِي، فَنَظَرُوا فَإذا هُوَ قَدِ انقَضَّ في مَنزِلِ عليّ، فَأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَ النَّجْمِ إِذا هَوى ، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى ، وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى.}٢
الثاني: و هو الحديث الذي رواه ابن المغازليّ أيضاً في «المناقب» بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس. و روى الكنجيّ الشافعيّ في«كفاية الطالب» ص ١٣١ هذا الحديث نفسه و بإسناده و عباراته ذاتها. و رواه أيضاً ابن عساكر في «تاريخ دمشق الكبير» في الجزء الخاصّ بفضائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب. و هذه النسخة لم تطبع بعد و هي موجودة في مكتبات العالم المختلفة. و قد تمّ تصوير النسخة
المخطوطة الموجودة في المكتبة الظاهريّة بدمشق. و هذه النسخة المصوّرة مثبتة فعلًا في مكتبة أمير المؤمنين بالنجف الأشرف في الورقة ١٠١. رواه ابن عساكر بإسناده عن أبي غالب بن البنّاء، عن ابن عبّاس. و رواه أيضاً العلّامة البحرانيّ في ص ٤٠٩ من «غاية المرام» عن ابن المغازليّ. عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كُنْتُ جالِساً مَعَ فِتيَةٍ مِن بَني هاشِمٍ عِندَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم إذَا انْقَضّ كَوكَبٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم: «مَنِ انقَضّ هَذَا النَّجمُ في مَنزِلِهِ فَهُوَ الوَصِيّ مِن بَعْدِي. فَقَامَ فِتْيَةٌ مِن بَني هاشِمٍ فَنَظَرُوا فَإذا الكَوكَبُ قَدِ انْقَضَّ في مَنزِلِ عليّ بنِ أبي طالِبٍ». قالُوا يا رَسولَ اللهِ غَوَيتَ في حُبِّ عليّ، فأنزل الله: {وَ النَّجْمِ إِذا هَوى ، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى}، إلى قَولِهِ:-{بِالْأُفُقِ الْأَعْلى}.۱
و هذه الآيات في شأن نزول الكوكب في بيت عليّ تعريف غيبيّ بوصايته و خلافته.
و روى الشيخ سليمان القندوزيّ الحنفيّ أيضاً في «ينابيع المودّة» ص ٢٣٩، و كذلك الشيخ عبيد الله الحنفيّ في كتابه «أرجح المطالب» طبع باكستان الغربيّة ص ٧٢، عن ابن عبّاس أنّه قالَ: كُنّا جُلُوساً بِمَكَّةَ مَعَ طَائِفَةٍ مِن شُبّانِ قُرَيشٍ وَ فِينا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم إذَا انْقَضَّ نَجْمٌ فَقَالَ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم: «مَنِ انْقَضَّ هَذَا النَّجْمُ في مَنْزِلِهِ فَهُوَ وَصِيِّي مِن بَعْدِي»، فَقَامُوا وَ نَظَروا وَ قَدِ انْقَضَّ في مَنزِلِ عليّ، فَقَالوا: قَد ضَلَلتَ بِعَلِيّ، فَنَزَلَت: {وَ النَّجْمِ إِذا هَوى ، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى}.
و منها بالأحاديث التي تدلّ على أنّ أوصياء رسول الله صلى الله عليه
و آله و سلّم و خلفاءه اثنا عشر شخصاً. أوّلهم عليّ بن أبي طالب، و آخرهم المهديّ قائم آل محمّد. هذه الأحاديث كثيرة للغاية و قد نقلت بأسانيد مختلفة و ثبّتها الكبار من محدّثي الشيعة و السنّة في كتبهم. و نحن ننقل هنا عدداً منها عن طريق العامّة كمثال على ما نقول.
الأحاديث الدالّة على وصاية أمير المؤمنين عليه السلام و أبنائه
الأوّل: روى الحموينيّ الشافعيّ في أواخر الجزء الثاني من «فرائد السمطين»۱ بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنّه قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّم: «أنّ عليّ بْنَ أبي طالِبٍ إمَامُ امَّتِي وَ خَلِيفَتي عَلَيها مِن بَعْدِي، وَ مِن وُلدِهِ القائمُ المُنَتظَرُ الذي يَمْلَا الأرَضَ قِسْطاً وَ عَدْلًا كَما مُلِئَتْ جَوْراً و ظلماً. و الَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ بَشيراً وَ نَذِيراً أنّ الثَابِتِينَ عَلَى القَولِ بِإمامَتِهِ في زمانِ غَيبَتِهِ لَاعَزُّ مِنَ الكبريتِ الأحْمَرِ». فَقَامَ إلَيْهِ جابِرُ بنُ عَبْد اللهِ الأنصارِيّ فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! وَ لِلْقَائِمِ مِنْ وُلدِكَ غَيْبَةٌ؟ قَالَ: «أي وَ رَبّي لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ. يا جابِرُ؛ أنّ هَذَا الأمرَ مِن أمْرِ اللهِ وَ سِرٌّ مِن سِرِّ اللهِ، عِلَّتُهُ مطْوِيَّةٌ عَن عِبادِهِ،٢ فَإيّاكَ وَ الشَّكَّ فَإنَّ الشَّكَّ في أمرِ اللهِ كُفْرٌ».
الثاني: روى العلّامة الحموينيّ الشافعيّ في «فرائد السمطين» ج ١ الباب الخامس بإسناده عن الحسن بن خالد، عن عليّ بن موسى الرضا. عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام و كذلك ذكر العلّامة البحرانيّ في «غاية
المرام» ص ٣٥ هذا الحديث ذاته بنفس السند و المتن.
قالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهِ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سَلَّم: «مَن أحَبَّ أن يَتَمَسَّكَ بِدِيني وَ يَرْكَبَ سَفِينَةَ النَّجَاةِ بَعدْي فَليَقتَدِ بِعَلِيّ بنِ أبي طالِبٍ، وَ ليُعادِ عَدُوَّهُ، وَ لْيُوالِ وَلِيَّهُ، فَإنَّهُ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي عَلى امَّتِي في حَيَاتِي وَ بَعْدَ وَفَاتِي، وَ هُوَ إمامُ كُلِّ مُسلِمٍ، وَ أمير كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي، قَولُهُ قَولِي، وَ أمْرُهُ أمْرِي، وَ نَهْيُهُ نَهْيي، وَ تابِعُهُ تابِعِي، وَ ناصِرُهُ ناصِري، وَ خاذِلُهُ خاذِلِي ثُمَّ قَال صلى اللهِ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سَلَّم: مَن فَارَقَ عَلِيّاً بَعدِي لَمْ يَرَنِي وَ لَم أرَهُ يَوْمَ القِيامَةِ، وَ موورىَن خالَفَ عَلِيّاً حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَ جَعَلَ مَأواهُ النّارَ وَ مَن خَذَلَ عَلِيّاً خَذَلَهُ اللهُ يَوْمَ يُعْرَضُ عَلَيهِ؛ وَ مَن نَصَرَ عَلِيّاً نَصَرَهُ اللهُ يَوْمَ يَلقَاهُ، وَ لَقَّنَهُ حُجَّتَهُ عِندَ المَسألَةِ، ثُمَّ قالَ صلى اللهِ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سَلَّم: وَ الْحَسَنُ وَ الحُسَينُ إِمَاما امَّتِي بَعدَ أبِيهِما وَ سَيِّدا شَبَابِ أهلِ الْجَنَّةِ، امُّهُما سَيِّدَةُ نِساءِ العَالَمِينَ، وَ أبُوهُما سَيِّدُ الوَصِيِّينَ، وَ مِنْ وُلْدِ الحُسَينِ تِسعَةُ أئمَّةٍ تاسِعُهُمُ القَائِمُ مِنْ وُلْدِي، طَاعَتُهُمْ طاعَتِي وَ مَعْصِيَتُهُمْ مَعْصِيَتِي، إلى اللهِ أشكُو المُنْكِرينَ لِفَضلِهِم وَ المُضِيعِينَ لِحُرمَتِهِمْ بَعْدِي، وَ كَفَى بِاللهِ وَلِيّاً وَ ناصِراً لِعِترَتِي وَ أئِمَّةِ امّتِي، وَ مُنتَقِماً مِنَ الْجاحِدينَ حَقَّهُم {وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
الثالث: الحديث الذي رواه الحموينيّ أيضاً في آخر الجزء الثاني من «فرائد السمطين» بإسناده عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عبّاس، عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم، و رواه عنه العلّامة البحرانيّ أيضاً في ص ٤٣ و ص ٦٩٢ من «غاية المرام».
قَالَ ابنُ عَبّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهِ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم: «أنّ خُلَفَائِي وَ أوصِيائي لاثناعَشَرَ، أوَّلُهُمْ أخِي وَ آخِرُهُمْ وَلَدي»، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله؛ وَ مَن أخوكَ؟ قالَ: «عليّ بنُ أبي طالِبٍ». قِيلَ: فَمَنْ وَلَدُكَ؟
قالَ: «الْمَهْدِيّ الذي يَمْلُاها قِسْطاً وَ عَدْلًا كَما مُلِئَت جَوْراً وَ ظُلماً. وَ الَّذِي بَعَثَني بِالحَقِّ بَشيراً لَو لَمْ يَبقَ مِنَ الدُّنيَا إلَّا يَوْمٌ واحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ ذَلِكَ اليَومَ حتى يَخرُجَ فِيهِ وَلَدي المَهدِيّ فَيَنْزِلُ رُوحُ اللهِ عيسى ابنُ مَريَمَ فَيُصَلّي خَلفَهُ، وَ تُشْرِقُ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَ يَبلُغُ سُلطَانُهُ المَشرِقَ و المَغْرِبَ».
الرابع: الحديث الذي رواه الشيخ سليمان القندوزيّ الحنفيّ في «ينابيع المودّة» ص ٤٤٧ عن الحموينيّ الشافعيّ في «فرائد السمطين» يقول: وَ في هَذَا الكِتابِ يعنِي في «فرائد السمطين» عَن سَعِيدٍ بنِ جُبَيرٍ، عَن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهِ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّم: «أنّ خُلَفائِي وَ أوصِيائِي وَ حُجَجَ اللهِ عَلى الْخَلْقِ بَعْدِي لاثْنَا عَشَرَ، أوَّلُهُم عليّ وَ آخِرُهُم وَلَدِيَ الْمَهْدِيّ، فَيَنْزِلُ رُوحُ الله عيسى ابنُ مَرْيَمَ فَيُصَلّي خَلفَ المَهدِيّ، وَ تُشْرِقُ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّها، وَ يَبلُغُ سُلطانُهُ المَشرِقَ وَ المَغرِبَ»
الخامس: ما رواه الحموينيّ في «فرائد السمطين» بإسناده عن أبان بن أبي عيّاش، عن سليم بن قيس الهلاليّ، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان يوماً في مسجد المدينة أيام عثمام يتحدّث عن فضائله و مناقبه أمام جمع كثير من المهاجرين و الأنصار و كان ينشدهم بها و يأخذ اعترافهم على ذلك. و ممّا جاء فيها قوله: «فَأنشُدُكُمُ اللهَ أ تَعْلَمُونَ حَيثُ نَزَلَت»،