المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
المقدَّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
كنّا قد وعدنا أن تبلغ دورة «معرفة الإمام» بحول الباري تعالى شأنه العزيز و قوّته اثني عشر جزءاً تستوعب مائة و ثمانين درساً. و نشكر الله سبحانه إذ مَنّ علينا بإكمال هذه الدروس في اثني عشر جزءاً، و ذلك في العاشر من شهر جُمادى الأولى، سنة ۱٤۰۸ الهجريّة القمريّة.
و لمّا أزمعنا تأليف دورة «معرفة الله»، دار في خلدنا أن نصنّف كتاب «توحيد علميّ و عينيّ» (= التوحيد العلميّ و العينيّ)، يتلوه كتاب «نور ملكوت قرآن» (= نور ملكوت القرآن) من دورة أنوار الملكوت، ثمّ نعرّج على دورة «معرفة الله».
و بدأنا في تأليف كتاب «التوحيد العلميّ و العينيّ» فاستغرق قرابة خمسة أشهر، ثمّ قُمنا بتأليف كتاب «نور ملكوت القرآن» الذي بلغ أربعة أجزاء، فطال زُهاء سنة و سبعة أشهر، و هذا ما أدّى إلى إرجاء تأليف كتاب «معرفة الله» قرابة سنتين.
و لمّا أردت الشروع في تأليف الكتاب المذكور هذا اليوم المصادف الخامس و العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ۱٤۱۰ هـ. ق، جال في ظنّي أن لو أضفت جزءين آخرين إلى أجزاء كتاب «معرفة الإمام»، لكان أفضل و ذلك لما يأتي:
أوّلًا: على الرغم من أنّ كتاب «معرفة الإمام» كتاب جامع و شامل من كلّ الجهات بحمد الله تعالى، إلّا أنّ البحث في حديث الثقلين لم يرد فيه
بنحو مفصّل و وافٍ. و مع أنّ الحديث قد ذُكر في مواطن كثيرة، و ورد مشفوعاً ببعض أسانيده أيضاً، لكنّا لم نفصّل الكلام في سنده و دلالته و هو من أعظم أدلّة الشيعة. فحريّ بنا أن ندرسه بصورة مفصّلة كي يتبصّر إخواننا الشيعة و السنّة على السواء.
ثانياً: ينبغي أن يكون لنا حديث أيضاً في تعريف الشيعة، و حقيقة التشيّع، و مزايا الشيعة على سائر الفرق، و ما يستلزمه التشيّع.
و يتضمّن هذا القسم مسائل من قبيل مسألة الرجعة، و وجود إمام العصر عجّل الله تعالى فرجه، و مسألة البداء، و مسألة التولّي و التبرِّي كليهما، إذ إنّ مَن تولّى آل محمّد و لم يتبرّأ من أعدائهم، فليس شيعيّاً، يُضاف إلى ذلك الانضواء تحت لواء ولايتهم، و النظر إلى أوامرهم على أنّها واجبة الإطاعة.
و من جملة المزايا: أنّ الجمهور -صورة عامّة- يرى أنّ الصلاح و العدالة و الرشاد كلّ ذلك هو العمل الصالح نفسه، نحو: الصلاة، و الصيام، و الصدق في الحديث. و يعتقد أنّ الانضمام إلى راية طاغٍ منتهك، و القتال من أجله، و دعم حكومته، كلّ ذلك ليس جوراً و ظلماً. و على سبيل المثال، يذهب أحمد بن حنبل إلى أنّ خالد بن عُرفطة المذكورة ترجمته في كتاب «الإصابة» رجل صالح، بينما كان على مقدّمة جيش عمر بن سعد يوم عاشوراء. و على هذا المنوال وُثِّق شمرُ بن ذي الجوشن، و عمر بن سعد و أشباههما الواردة سيرتهم في كتب التراجم.
و يرى الشيعة الاثنا عشريّة أنّ الإمام مفترض الطاعة سواء قام بالسيف، أم لم يقم. أمّا الزيديّة فيشترطون فيه قيامه بالسيف.
إن العامّة أو الجمهور مسلمون طاهرون، و لا يمكن الحكم بكفرهم، بَيْدَ أنّهم مفتونون بالدنيا، و كان أمير المؤمنين عليه السلام يُنزلهم بمنزلة
فتنة لا بمنزلة ردّة.
و لا بدّ لنا من التطرّق إلى معنى الإمام و اشتقاقه و اختصاصه في عرف الشيعة و اصطلاحهم، إذ ينطبق على الإمام المعصوم، و لا يراد منه المعنى اللغويّ.
و كذلك التطرّق إلى معنى الغلوّ عند الشيعة -لأنّ كثيراً من علماء الشيعة يُحسبون من الغلاة- و سير الحديث عند الشيعة منذ عصر الرسول الأكرم، و سيره عند العامّة بعد قرن من الزمان؛ و الاجتهاد عند الشيعة، و غلق باب الاجتهاد عند العامّة، و حصر المذاهب في أربعة؛ و ولاية الإمام و حدودها؛ و ولاية الفقيه و حدودها، و الحديث عن مقام الإمام الصادق عليه السلام، و وجه تسمية المذهب الشيعيّ بالمذهب الجعفريّ. و الجهاد و الهجرة إلى الإمام في عصر الإمام وَ لَا يَقَعُ اسمُ الهِجْرَةِ عَلَى أحَدٍ إلَّا بِمَعْرِفَةِ الحُجَّةِ في الأرْضِ. و ما ماثل ذلك من المسائل في الاصول و الفروع، ممّا يميّز الشيعة عن السنّة. فلهذا نبدأ حديثنا فيما يأتي عن هذه المسائل. و ستبلغ أجزاء هذا الكتاب بحول الله و قوّته ثمانية عشر جزءاً بعد تأليف ستّة أجزاء اخرى. ثمّ نأتي على دورة «معرفة الله». وَ مَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إلَيْهِ انِيبُ.
الدَّرْسُ الحادى و الثَّمَانُونَ بَعْدَ المِائَةِ إلى الخَامِس و الثَّمَانِينَ بَعْدَ المائَةِ أمْرُ رَسُولِ اللهِ بِتَدْوِينِ الحَدِيثِ، وَ كِتَابَةِ حَدِيثِ الثَّقَلَيْنِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
آيات سورة آل عمران في الفارّين يوم احد
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.۱
نزلت هذه الآية في غزوة احُد، و هي تتحدّث عن الذين ولّوا هاربين و تركوا النبيّ وحده في تلك المعركة الدامية عند ما شنّ عليهم العدوّ غارة شديدة. و لم يثبت مع رسول الله إلّا أمير المؤمنين عليه السلام، و أشخاص قليلون كأبي دُجانة الأنصاريّ،٢ و سهل بن حنيف، و هم يذبّون عن نفسه القدسيّة، و لم يتركوه فريسةً لسهام العدوّ و أسنّته و سيوفه و حجارته، و لم يُسلموه إلى أعدائه المتعطّشين بأجمعهم إلى قتله.
و تقع هذه الآية بين عدد من الآيات في سورة آل عمران. و هي
تصوّر الوضع تصويراً حسناً.
وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ (و نذيق الناس جميعهم المصائب و نُنزل بهم المشاكل و الحوادث الواحد تلو الآخر) وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ، وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، (فَلِمَ لُذتم بالفرار؟!) وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ، (سيؤجرهم أجراً جميلًا و يثيبهم ثواباً لا يعدّ و لا يحصى) وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ، وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ، فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.۱
قال سماحة استاذنا الأكرم آية الله العلّامة الطباطبائيّ في ذيل الآية: وَ مَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ، في تفسير قوله: أ فَأين ماتَ أوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ:
«المراد به الرجوع عن الدين دون التولّي عن القتال، إذ لا ارتباط للفرار من الزحف بموت النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله أو قتله، و إنّما النسبة و الرابطة بين موته أو قتله و بين الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان.
و يدلّ على أنّ المراد به الرجوع عن الدين ما ذكره تعالى في قوله:
وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.۱ و٢
وصفهم الله تعالى في هذه الآيات بأنّهم يهتمّون بإنعاش أنفسهم و يظنّون ظنّ الجاهليّة. و قد زلّوا في الدين بسبب بعض ممارساتهم الذميمة، و تركوا النبيّ صلى الله عليه و آله وحده في مثل هذه الواقعة الخطرة.
على أنّ نظير ما وقع في احد من فرارهم من الزحف و تولّيهم عن القتال تحقّق في غيره كغزوة حنين و خيبر و غيرهما، و لم يخاطبهم الله
بمثل هذا الخطاب و ما عبّر عن تولّيهم عن القتال بمثل هذه الكلمة، قال تعالى:
وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ.۱ فالحقّ أنّ المراد بالانقلاب على الأعقاب الرجوع إلى الكفر السابق.
فمحصّل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب و التوبيخ: أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله و سلّم ليس إلّا رسولًا من الله مثل سائر الرسل، ليس شأنه إلّا تبليغ رسالة ربّه لا يملك من الأمر شيئاً. و إنّما الأمر للّه و الدِّين دينه باقٍ ببقائه. فما معنى اتّكاء إيمانكم على حياته حيث يظهر منكم أن لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين، و رجعتم إلى أعقابكم القهقرى و اتّخذتم الغواية بعد الهداية؟!
و هذا السياق أقوى شاهد على أنّهم ظنّوا يوم احد بعد حمي الوطيس أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد قُتل فانسلّوا عند ذلك و تولّوا عن القتال. فيتأيّد بذلك ما ورد في الرواية و التأريخ -كما في ما رواه ابن هشام في «السيرة»- أنّ أنَس بن النضر -عمّ أنس بن مالك- انتهى إلى عمر بن الخطّاب، و طلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين و الأنصار -و قد ألقوا بأيديهم- فقال: ما يحبسكم؟!
قالوا: قُتل رسول الله. قال: فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟! فموتوا على ما مات عليه رسول الله. ثمّ استقبل القوم فقاتل حتى قُتل.
معنى الشكر في الآية: وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
و بالجملة: فمعنى هذا الانسلال و الإلقاء بالأيدي أنّ إيمانهم إنّما كان قائماً بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم يبقى ببقائه و يزول بموته. و هو
إرادة ثواب الدنيا بالإيمان. و هذا هو الذي عاتبهم الله عليه. و يؤيّد هذا المعنى قوله بعده: وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. فإنّ الله سبحانه كرّر هذه الجملة في الآية التالية بعد قوله: وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها، حيث قال: وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ فافهم ذلك. لأنّ هذا الموضوع الدقيق جدير بالإمعان.
و قوله: وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. بمنزلة الاستثناء ممّا قبله على ما يعطيه السياق. و هو الدليل على أنّ القوم كان فيهم من لم يظهر منه هذا الانقلاب [و رجوع القهقري] أو ما يشعر به كالانسلال و التولّي، و هم الشاكرون.
و حقيقة الشكر إظهار النعمة، كما أنّ الكفر الذي يقابله هو إخفاؤها و الستر عليها. و إظهار النعمة هو استعمالها في محلّها الذي أراده منعمها و ذكر المنعم بها لساناً و هو الثناء و قلباً من غير نسيان. [و بناءً على هذا] فشكره تعالى على نعمة من نعمه أن يُذكر عند استعمالها و توضع النعمة في الموضع الذي أراده منها و لا يُتعدّى ذلك.
و إن من شيء إلّا و هو نعمة من نعمه تعالى، و لا يريد بنعمة من نعمه إلّا أن تُستعمل في سبيل عبادته. قال تعالى: وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.۱
فشكره على نعمته أن يطاع فيها و يذكر مقام ربوبيّته عندها.
و على هذا فشكره المطلق من غير تقييد، ذكرهُ تعالى من غير نسيان، و إطاعته من غير معصيته. فمعنى قوله: وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ٢:
اذكروني ذكراً لا يخالطه نسيان، و أطيعوا أمري إطاعة لا يشوبها عصيان و لا يُصغي إلى قول مَن يقول: إنّه أمر بما لا يُطاق، فإنّه ناشئٌ من قلّة التدبّر في هذه الحقائق و البعد من ساحة العبوديّة.
و قد عرفتَ فيما تقدّم من الكتاب أنّ إطلاق الفعل لا يدلّ إلّا على تلبّس ما، بخلاف الوصف فإنّه يدلّ على استقرار التلبّس و صيرورة المعنى الوصفيّ مَلَكةً لا تفارق الإنسان. ففرقٌ بين قولنا: الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَ الَّذِينَ صَبَرُوا، وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، والذين يعتدون، و بين قولنا: الْمُشْرِكِينَ، وَ الصَّابِرِينَ، وَ الظَّالِمِينَ، و الْمُعْتَدِينَ.
فالشاكرون هم الذين ثبت فيهم وصف الشكر و استقرّت فيهم هذه الفضيلة. و قد بان أنّ الشكر المطلق هو أن لا يذكر العبد شيئاً، و هو نعمة، إلّا و ذكر الله معه، و لا يمسّ شيئاً، و هو نعمة، إلّا و يطيع الله فيه.
مقام الشاكرين هو مقام المخلَصين الذي لا سبيل للشيطان إليه
فقد تبيّن أنّ الشكر لا يتمّ إلّا مع الإخلاص للّه سبحانه علماً و عملًا، فالشاكرون هم المخلصون للّه، الذين لا مطمع للشيطان فيهم.
و تظهر هذه الحقيقة ممّا حكاه الله تعالى عن إبليس. قال تعالى: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.۱ و قال أيضاً: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ٢. فلم يستثنِ من إغوائه أحداً إلّا المخلَصين، و أمضاه الله سبحانه من غير ردّ.
و قال تعالى: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ.۱
و قوله: وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ بمنزلة الاستثناء. فقد بدّل المخلصين بالشاكرين و ليس إلّا، لأنّ الشاكرين هم المخلَصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم، و لا صنع له لديهم. إنّما صنعه و كيده إنساء مقام الربوبيّة و الدعوة إلى المعصية [و أنّ آلته الحادّة و سلاحه كليلان لا يؤثّران في هؤلاء المخلَصين الغارقين في بحر ذِكر الله و التوجّه إليه، و الذين لا تصدر منهم المعصية كملكة متمكّنة في نفوسهم].
و ممّا يؤيّد ذلك من هذه الآيات النازلة في غزوة احد قوله تعالى فيما سيأتي من الآيات: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.٢ مع قوله في هذه الآية التي نحن فيها: وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ، و قوله فيما بعدها: وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. و قد عرفتَ أنّه في معنى الاستثناء، [فهذه كلّها تدلّ على نفسها بنحو أبلغ].
فتدبّر فيها [أي في الآية] و اقضِ عجباً ممّا ربّما يقال: إنّ الآية، أعني قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ناظرة إلى ما روى أنّ الشيطان نادى يوم احد: «ألَا قد قُتِل محمّد» فأوجب ذلك وهن المؤمنين و تفرّقهم عن المعركة! فاعتبر إلى أيّ مهبط اهبط كتاب الله من أوج حقائقه و مستوى معارفه العالية؟!
فالآية تدلّ على وجود عدّة منهم يوم احد لم يهنوا و لم يفتروا و لم يفرّطوا في جنب الله سبحانه سمّاهم الله شاكرين. و صدّق أنّهم
لا سبيل للشيطان إليهم و لا مطمع له فيهم؛ ليس في هذه الغزوة فحسب، بل هو وصف لهم ثابت فيهم مستقرّ معهم.
و لم يطلق اسم الشاكرين في مورد من القرآن على أحد بعنوان على طريق التوصيف إلّا في هاتين الآيتين. أعني: قوله: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، و قوله: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. و لم يذكر ما يجازيهم به في شيء من الموردَين إشعاراً بعظمته و نفاسته».۱
استبسال عليّ عليه السلام و شجاعته يوم احد
و أجمعت التواريخ الثابتة التي يقرّ بها العامّة على أنّ أبا بكر لم يُجرح في غزوة احد قطّ، و أنّه لجأ إلى الجبل مع عمر، و كلاهما اعتزل القتال، و ظنّا أنّ محمّداً قد قُتل. و فرّ عثمان مختفياً ثلاثة أيّام، ثمّ دخل المدينة. و ما كان إلّا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، و حمزة سيّد الشهداء عليهما السلام، و أبو دُجانة، و سهل بن حُنيف الأنصاريّ، إذ نهضوا بالحرب و بادروا إلى تفريق الجيش و إبادته. و هم الذين ثبتوا مع النبيّ الأعظم من أوّل الحرب حتى اللحظة الأخيرة منها، و فدوه بأرواحهم مستبسلين قُدّامه، ذائدين عن بيضة الإسلام، و عن حياته المقدّسة.
و نقل الواقديّ في مغازيه، و الطبريّ، و ابن الأثير في تأريخيهما أنّ كبش الكتيبة و صاحب الراية في عسكر قريش -و كان من بني عبد الدار، و اسمه طلحة بن أبي طلحة- لمّا وقف أمام عسكر المسلمين، و طلب مبارزاً و قال: يا معشر أصحاب محمّد! إنّكم تزعمون أنّ الله يعجّلنا بسيوفكم إلى النار، و يعجّلكم بسيوفنا إلى الجنّة! فهل أحد منكم يعجّله الله بسيفي إلى الجنّة أو يعجّلني بسيفه إلى النار؟
فمضى إليه أسد الله الغالب ليث التوحيد و الشجاعة أمير المؤمنين
عليه أفضل صلوات المصلّين، و قال: بلى و الله؛ لا افارقك حتى أعجّلك بسيفي إلى النار أو تعجّلني بسيفك إلى الجنّة فضربه عليّ فقطع رِجله، فسقط فانكشفت عورته؛ فكبّر رسول الله صلى الله عليه و آله.۱ ثمّ أخذ لواء المشركين جماعة من بني عبد الدار واحداً بعد الآخر، و قتلهم أمير المؤمنين عليه السلام بأجمعهم، و سقط لواؤهم على الأرض، و لم يحمله أحد منهم.
النداء السماويّ: لَا فَتَى إلَّا عَلِيّ، لَا سَيْفَ إلَّا ذُو الفَقَارِ
و ذكر الطبريّ و ابن الأثير أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام لمّا قتل أصحاب اللواء من المشركين، أبصر النبيّ صلى الله عليه و آله جماعة من المشركين، فقال لعليّ: احمل عليهم، فحمل عليه السلام عليهم ففرّقهم، و قتل عمرو بن عبد الله الجُمَحيّ. ثمّ أبصر رسول الله صلى الله عليه و آله جماعة اخرى، فقال لعليّ عليه السلام: احمل عليهم. فحمل عليهم ففرّق جماعتهم، و قتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي.
فقال جبرئيل: يا رسول الله! إنّ هذه لَلْمواساة!
فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: إنّه منّي و أنا منه.
فقال جبرئيل: و أنا منكما، قال: فسمعوا صوتاً: لَا سَيْفَ إلَّا ذُو الفقار، وَ لَا فتى إلَّا عَلِيّ.٢
حيدر كرّار كو تا بگه كارزار | *** | از گهر لطف او آب دهد ذو الفقار |
و شرح خواند مير هذا الحديث الشريف في كتاب «روضة الصفا». و قال بعد عرض مفصّل في إيثار أمير المؤمنين عليه السلام و مواساته يوم احد، و هو ممّا يثير العجب حقّاً:
روى الحافظ أبو محمّد بن العزيز (الجنابذيّ) في كتاب «معالم العترة النبويّة» مرفوعاً عن قيس بن سعد، عن أبيه قال: سمعتُ عليّاً يقول: أصابتني يوم أحد ستّة عشر ضربة سقطتُ إلى الأرض في أربع منهنّ۱
فجاءني رجلٌ حسن الوجه، طيّب الريح، فأخذ بضبعي فأقامني ثمّ قال: أقبل عليهم فإنّك في طاعة الله و طاعة رسوله و هما عنك راضيان. قال عليّ: فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم فأخبرته، فقال: يا عليّ! أ ما تعرف الرجل؟ قلت: لا، و لكنّي شبّهته بدحية الكلبيّ، فقال: يا عليّ أقرّ الله عينك؛ كان جبرئيل.
و ذكر محمّد بن حبيب في «الأمالى» أنّه لمّا هُزم جُلُّ الجيش الإسلاميّ، توجّهت أفواج الكفّار نحو رسول الله صلى الله عليه و آله كأمواج البحر. و اقترب منه زُهاء خمسين فارساً من بني عبد مناف. و حمل عليّ المرتضى عليه السلام على أولاد صفوان بن عوف، و أبي الشعثاء، و أبي الحمراء، و ستّة آخرين من أولاد أبي سفيان. و قتلهم بسيفه البتّار و أرسلهم إلى دار البوار.
و نقل بعض أصحاب السير أنّ جبرئيل قال لرسول الله بعد ذلك: يَا مُحَمَّدُ! إنَّ هَذِهِ لَلْمَوَاسَاةُ، وَ لَقَدْ عَجِبْتُ لِمُوَاسَاةِ هَذَا الفَتَى. فقال رسول الله: إنَّهُ مِنِّي وَ أنَا مِنْهُ. فقال جبرئيل: وَ أنَا مِنْكُمَا. وَ سُمِعَ في ذَلِكَ اليَوْمِ صَوْتٌ مِنْ قِبَلِ السَّمَاءِ وَ لَا يرى شَخْصُ الصَّارِخِ يُنَادِي مِرَاراً: لَا فتى إلَّا عَلِيّ، لَا سَيْفَ إلأ ذو الفَقَارِ.
و سئل رسول الله صلى الله عليه و آله عن الصارخ، فقال: هو جبرائيل. ثمّ قال محمّد بن حبيب صاحب «الأمالى»: رواه جمع من المحدِّثين. و هو من الأخبار المشهورة. و وجدت بعض نسخ كتاب
«المغازي» لمحمّد بن إسحاق و هي تخلو من هذا الحديث. و سألتُ استاذي و شيخي عبد الوهّاب رحمة الله عليه عن هذا الخبر، فقال: صحيح. فقلتُ: لِمَ لا تذكره كتب الصحاح؟ قال: أ وَ كُلُّ مَا كَانَ صَحِيحاً يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كُتُبُ الصِّحَاحِ مِنَ الخَبَرِ؟۱
و يستبين هنا أنّ ما نقله صاحب «السيرة الحلبيّة» عن أبي العبّاس بن تيميّة في زعمه كذبَ هذا الحديث٢ بعيد عن الإنصاف جدّاً، و فيه خروج عن جادّة الحقيقة. و لا غَرْوَ إذا صدر ذلك عن ابن تيميّة المعروف بعدائه الشديد لأمير المؤمنين عليه السلام، و المعدود في زمرة النواصب لرذالته و خباثته، و المنكر للحكايات و الأخبار الصحيحة بحمله لها على محامل بعيدة. و هو الذي عقد نيّته على العناد و اللجاجة و الخصومة أنّي وجد حديثاً و خبراً في فضيلة سيّد الأولياء. و إنّما العجب من بعض أتباعه إذ يَقبلون كلامه على عميً مع ما يتّصفون به من الاطّلاع و سعة العلم، و قد صدّقوه إذ أوردوه في كتبهم بلا تحقيق حفظاً للسَّلَف!
أمير المؤمنين عليه السلام حامل الراية و اللواء في حرب احد
و نذكر فيما يأتي كلام الشيخ المفيد رضوان الله عليه في كتاب «الإرشاد» حتى تتبيَّن درجة كمال أمير المؤمنين عليه السلام و جهاده في هذه الغزوة، و كذلك نزول جبرائيل على النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم بخبر لَا فتى إلَّا عَلِيّ. قال الشيخ المفيد:
و كانت راية رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم يوم احُد بِيَدِ أمير المؤمنين عليه السلام كما كانت بيده يوم بدر، فصار اللواء إليه يومئذٍ،
فهو صاحب الراية و اللواء جميعاً.۱ و كان الفتح له في هذه الغزاة كما كان له ببدر سواء. و اختصّ بحسن البلاء فيها و الصبر و ثبوت القدم عند ما زلّت من غيره الأقدام. و كان له من العناء برسول الله صلى الله عليه و آله ما لم يكن لسواه من أهل الإسلام، و قتل الله بسيفه رؤوس أهل الشرك و الضلال. و فرّج الله به الكرب عن نبيّه عليه السلام. و خطب بفضله في ذلك المقام
جبرائيل عليه السلام في ملائكة الأرض و السماء. و أبان نبيّ الهدى عليه السلام من اختصاصه به ما كان مستوراً عن عامّة الناس.
فمن ذلك ما رواه يحيى بن عمارة، عن الحسن بن موسى بن رياح مولى الأنصار، عن أبي البختريّ القرشيّ، قال: كانت راية قريش و لواؤها جميعاً بِيَدِ قُصَيّ بن كلاب. ثمّ لم تزل الراية في يد ولد عبد المطّلب يحملها منهم من حضر الحرب حتى بُعِث رسول الله صلى الله عليه و آله فصارت راية قريش و غيرها إلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله فأقرّها في بني هاشم. فأعطاها رسول الله صلى الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب عليه السلام في غزاة ودّان. و هي أوّل غزاة حُمِل فيها راية في الإسلام مع النبيّ صلى الله عليه و آله ثمّ لم تزل معه في المشاهد ببدر، و هي البَطْشَةُ الكبرى. و في يوم احد.
و كان اللواء يومئذٍ -و هو أصغر من الراية- في بني عبد الدار، فأعطاه رسول الله مصعب بن عمير، فاستُشهد. و وقع اللواء من يده، فتشوّفته القبائل، فأخذه رسول الله صلى الله عليه و آله فدفعه إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام۱ فجمع له يومئذٍ الراية و اللواء، فهما إلى اليوم في بني هاشم.
و عقد الشيخ المفيد رضوان الله عليه فصلًا مستقلًّا في مزايا الجهاد العظيم الذي اضطلع به أمير المؤمنين عليه السلام في غزوة احد، و قال:
فَصْلٌ: روى المفضَّل بن عبد الله، عن سِماك، عن عكرمة، عن عبد الله بن عبّاس أنّه قال: لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام
أربع ما هنّ لأحد: هُوَ أوَّلُ عَرَبِيّ وَ عَجَمِيّ صلى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ هُوَ صَاحِبُ لِوَائِهِ في كُلِّ رَجْفٍ،۱ وَ هُوَ الذي ثَبَتَ مَعَهُ يَوْمَ المِهْرَاسِ٢ يَعْنِي يَوْمَ احُدٍ وَ فَرَّ النَّاسُ، وَ هُوَ الذي أدْخَلَهُ قَبْرَهُ.
و روى زيد بن وهب الجهنيّ عن أحمد بن عمّار، عن شريك، عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب قال: وجدنا من عبد الله بن مسعود يوماً طيب نفس فقلنا له: لو حدّثتنا عن يوم احد و كيف كان. فقال: أجل. ثمّ ساق الحديث حتى انتهى إلى ذكر الحرب فقال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: اخرجوا إليهم على اسم الله. فخرجنا و صففنا لهم صفّاً طويلًا. و أقام على الشِّعب خمسين رجلًا من الأنصار، و أمّر عليهم رجلًا منهم، و قال: لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ هَذَا، وَ لَو قُتِلْنَا عَنْ آخِرِنَا. فَإنَّمَا نُؤْتى مِنْ مَوْضِعِكُمْ هَذَا.
و أقام أبو سفيان صخر بن حرب بإزائهم خالد بن الوليد. و كان اللواء من قريش في بني عبد الدار. و كان لواء المشركين مع طلحة بن أبي طلحة، يُدعى كبش الكتيبة.
و دفع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم لواء المهاجرين إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام و جاء حتى وقف تحت لواء الأنصار. و جاء
أبو سفيان إلى أصحاب اللواء فقال: يا أصحاب الألوية! إنّكم قد تعلمون أنّما يؤتي القوم من قبل ألويتهم. و أنّما اوتيتم يوم بدر من قِبَلِ ألويتكم؛ فإن كنتم ترون أنّكم قد ضعفتم عنها فادفعوها إلينا نكفكموها. فغضب طلحة بن أبي طلحة و قال: أ لنا تقول هذا؟ و الله لأوردنّكم بها اليوم حياض الموت.
قال ابن مسعود: و كان طلحة يسمّى كبش الكتيبة، فتقدّم، و تقدّم عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال: من أنت؟! قال: أنا طلحة بن أبي طلحة أنا كبش الكتيبة. فمن أنت؟! قال: أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب. ثمّ تقاربا فاختلفت بينهما ضربتان. فضربه عليّ بن أبي طالب عليه السلام ضربة على مقدّم رأسه، فبدرت عينه و صاح صيحة لم يُسمع مثلها قطّ، و سقط اللواء من يده، فأخذه أخ له يقال له: مصعب. فرماه عاصم بن ثابت بسهم فقتله. ثمّ أخذ اللواء أخ له يقال له: عثمان فرماه عاصم أيضاً بسهم فقتله. فأخذه عبدٌ لهم يقال له: صواب، و كان من أشدّ الناس. فضرب عليّ عليه السلام يده فقطعها، فأخذ اللواء بيده اليُسرى، فضربه عليّ عليه السلام على يده اليُسرى فقطعها، فأخذ اللواء على صدره، و جمع يديه، و هما مقطوعتان عليه، فضربه عليّ عليه السلام على امّ رأسه، فسقط صريعاً، فانهزم القوم، و أكبّ المسلمون على الغنائم.
إخلاء الخندق القتاليّ و هجوم خالد بن الوليد
و لمّا رأى أصحاب الشِّعب الناس يغنمون قالوا: يذهب هؤلاء بالغنائم و نبقى نحن! فقالوا لعبد الله بن عمر بن حزم الذي كان رئيساً عليهم: نريد أن نغنم كما غنم الناس. فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله أمرني أن لا أبرح من موضعي هذا. فقالوا له: إنّه أمرك بهذا و هو لا يدري أنّ الأمر يبلغ إلى ما نرى، و مالوا إلى الغنائم، و تركوه. و لم يبرح هو من موضعه، فحمل عليه خالد بن الوليد فقتله؛ ثمّ جاء من ظهر رسول الله صلى الله عليه
و آله يريده. فنظر إلى النبيّ صلى الله عليه و آله في خفّ من أصحابه، فقال لمن معه: دونكم هذا الذي تطلبون فشأنكم به.
فحملوا عليه حملة رجل واحد ضرباً بالسيوف و طعناً بالرماح، و رمياً بالنبل، و رضخاً بالحجارة. و جعل أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله يقاتلون عنه، حتى قُتل منهم سبعون رجلًا و فرّ الباقون. و ثبت أمير المؤمنين عليه السلام و أبو دجانة، و سهل بن حنيف للقوم يدفعون عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و كثر عليهم المشركون.
صمود أمير المؤمنين و أبي دُجانة و دفاعهما عن نفس النبيّ
ففتح رسول الله صلى الله عليه و آله عينيه، و نظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام -و كان اغمي عليه ممّا ناله- فقال: يا عليّ! ما فعل الناس؟ فقال: نَقَضُوا العَهْدَ وَ وَلَّوُا الدُّبُرَ.
فقال له: فاكفني هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي! فحمل عليهم أمير المؤمنين عليه السلام فكشفهم. ثمّ عاد إليه و قد حملوا عليه من ناحية اخرى، فكرّ عليهم، فكشفهم.
و أبو دجانة، و سهل بن حنيف قائمان على رأسه، بِيَدِ كلّ واحد منهما سيفاً ليذبّ عنه. و ثاب إليه من أصحابه المنهزمين أربعة عشر رجلًا، منهم: طلحة بن عبيد الله، و عاصم بن ثابت، و صعد الباقون الجبل. و صاح صائح بالمدينة: قُتِلَ رَسُولُ اللهِ فانخلعت لذلك القلوب، و تحيّر المنهزمون، فأخذوا يميناً و شمالًا. و كانت هند بنت عتبة جعلت لوحشي جعلًا على أن يقتل رسول الله، أو أمير المؤمنين، أو حمزة بن عبد المطّلب عليهم السلام.
فقال وحشي: أمّا محمّد، فلا حيلة لي فيه لأنّ أصحابه يطيفون به. و أمّا عليّ، فإنّه إذا قاتل، كان أحذر من الذئب. و أمّا حمزة فإنّي أطمع فيه، لأنّه إذا غضب لم يبصر بين يديه. و كان حمزة يومئذٍ قد اعلم بريشة نعامة
في صدره.۱
فكمن له وحشيّ في أصل شجرة، فرآه حمزة، فبرز بالسيف فضربه ضربة أخطأت رأسه. قال وحشيّ: و هززتُ حربتي حتى إذا تمكّنت منه رميته فأصبته في ارْبَته فأنفذته و تركته حتى إذا برد، صرت إليه. فأخذتُ حربتي و شغل عنّي و عنه المسلمون بهزيمتهم. و جاءت هند فأمرت بشقّ بطن حمزة و قطع كبده و التمثيل به. فجدعوا أنفه و اذنيه و مثّلوا به، و رسول الله صلى الله عليه و آله مشغول عنه لا يعلم بما انتهى إليه الأمر.
قال الراوي للحديث و هو زيد بن وهب: قلت لابن مسعود: انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه و آله حتى لم يبق معه إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السلام و أبو دجانة، و سهل بن حنيف؟! فقال: انهزم الناس إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السلام وحده. و ثاب إلى رسول الله نفر. و كان أوّلهم عاصم بن ثابت، و أبو دجانة، و سهل بن حنيف، و لحقهم طلحة بن عبيد الله.٢
فقلت له: وَ أيْنَ كَانَ أبُو بَكْرٍ وَ عُمَرُ؟
قال: كانا ممّن تنحّى. قلتُ: وَ أيْنَ كَانَ عُثْمَانُ؟ قال: جاء بعد ثلاثة من الوقعة.۱ فقال له رسول الله: لَقَدْ ذَهَبْتَ فِيهَا عَرَيضَةٍ.٢ فقلت له: و أين كنتَ أنت؟
قال: كنت ممّن تنحّى. قلتُ له: فمن حدّثك بهذا؟! قال: عاصم، و سهل بن حنيف.
قلتُ له: إنّ ثبوت عليّ عليه السلام في ذلك المقام لعجب، فقال: إن تعجّبت من ذلك، فقد تعجّب منه الملائكة. أ ما علمتَ أنّ جبرئيل قال في ذلك اليوم و هو يعرج إلى السماء: لَا سَيْفَ إلأ ذو الفَقَارِ، وَ لَا فتى إلَّا عَلِيّ؟
قلتُ: فمن أين عُلم ذلك من جبرئيل؟!
قال: سمع الناس صائحاً يصيح في السماء بذلك، فسألوا رسول الله صلى الله عليه و آله عنه، فقال: ذاك جبرئيل.
و جاء في حديث عِمران بن حصين أنّه قال: لمّا تفرّق الناس عن رسول الله صلى الله عليه و آله في يوم احد، جاء عليّ عليه السلام متقلّداً سيفه حتى قام بين يديه. فرفع رسول الله صلى الله عليه و آله رأسه إليه، فقال له: مَا بَالُكَ لَمْ تَفِرَّ مَعَ النَّاسِ؟! فقال عليه السلام: يَا رَسُولَ اللهِ! أرْجِعُ كَافِراً بَعْدَ إسْلَامِي؟!٣ فأشار له رسول الله إلى قوم انحدروا من
الجبل، فحمل عليهم فهزمهم. ثمّ أشار إلى قوم آخر، فحمل عليهم فهزمهم. ثمّ أشار إلى قوم آخرين، فحمل عليهم فهزمهم. فجاء جبرئيل عليه السلام فقال: يَا رَسُولَ اللهِ! لَقَدْ عَجِبَتِ المَلَائِكَةُ وَ عَجِبْنَا مَعَهَا مِنْ حُسْنِ مُوَاسَاةِ عَلِيّ لَكَ بِنَفْسِهِ؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: وَ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ هَذَا وَ هُوَ مِنِّي وَ أنَا مِنْهُ؟
فقال جبرئيل: يَا رَسُولَ اللهِ! وَ أنَا مِنْكُمَا.
أمير المؤمنين عليه السلام يهزم الكتائب وحده
و روى الحكم بن ظهير عن السُّدِّي، عن أبي مالك، عن ابن عبّاس أنّ طلحة بن أبي طلحة خرج يومئذٍ فوقف بين الصفَّين، فنادى: يَا أصْحَابَ مُحَمَّدٍ! إنَّكُمْ تَزْعَمُونَ أنَّ اللهَ يُعَجِّلُنَا بِسِيُوفِكُمْ إلَى النَّارِ، وَ يُعجِّلُكُمْ بِسِيُوفِنَا إلَى الجَنَّةِ، فَأيُّكُمْ يَبْرُزُ إلَيّ؟!
فبرز إليه أمير المؤمنين عليه السلام فقال: و الله لا افارقك اليوم حتى اعجّلك بسيفي إلى النار. فاختلفا ضربتين، فضربه عليّ عليه السلام على رِجلَيه، فقطعهما، فسقط. فانكشف عنه، فقال له: يَا بْنَ العَمِّ! أنشُدُكَ اللهَ وَ الرَّحِمَ. فانصرف عنه إلى موقفه. فقال له المسلمون: ألا أجهزتَ عليه! فقال: ناشدني الله و الرحم. و و الله لا عاش بعدها أبداً.
فمات طلحة في مكانه. و بُشِّر النبيّ صلى الله عليه و آله فسُرَّ به۱
و قال: هذا كبش الكتيبة.۱
و قد روى محمّد بن مروان، عن عمارة، عن عكرمة، قال: سمعت عليّاً عليه السلام يقول لمّا انهزم الناس يوم احد عن رسول الله صلى الله عليه و آله: لحقني من الجزع عليه ما لم يلحقني قطّ و لم أملك نفسي و كنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه. فرجعت أطلبه فلم أره. فقلتُ: ما كان رسول الله ليفرّ و ما رأيته في القتلى. و أظنّه رفع من بيننا إلى السماء. فكسرتُ جفن سيفي و قلت في نفسي: لُاقاتلنّ به عنه حتى اقتل. و حملت على القوم، فأفرجوا عنّي و إذا أنا برسول الله صلى الله عليه و آله قد وقع على الأرض مغشيّاً عليه.
فقمتُ على رأسه، فنظر إليّ فقال: مَا مَنَعَ النَّاسَ يَا عَلِيّ؟! فقلتُ: كَفَرُوا يَا رَسُولَ اللهِ وَ وَلَّوُا الدُّبُرَ مِنَ العَدُوِّ وَ أسْلَمُوكَ!٢
فنظر النبيّ صلى الله عليه و آله إلى كتيبة قد أقبلت إليه، فقال لي: ردّ عنّي يا عليّ هذه الكتيبة! فحملتُ عليها أضربها بسيفي يميناً و شمالًا حتى ولّوا الأدبار. فقال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: أ مَا تَسْمَعُ يَا عَلِيّ مَدِيحَكَ في السَّمَاءِ، إنَّ مَلَكاً يُقَالُ لَهُ رِضْوَانٌ يُنَادِي: لَا سَيْفَ إلَّا ذُو الفَقَارِ، وَ لَا فتى إلَّا عَلِيّ؟! فَبَكيتُ سروراً و حمدت الله سبحانه و تعالى على نعمته.
و قد روى الحسن بن عرفة عن عمارة بن محمّد، عن سعد بن
طريف، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال: نادى ملك في من السماء يوم احُد: لَا سَيْفَ إلأ ذو الفَقَارِ، وَ لَا فتى إلَّا عَلِيّ.۱
و روى مثل ذلك إبراهيم بن محمّد بن ميمون، عن عمرو بن ثابت، عن محمّد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جدّه قال: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُونَ: نَادَى في يَوْمِ احُدٍ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لَا سَيْفَ إلأ ذو الفَقَارِ، وَ لَا فتى إلَّا عَلِيّ.
و روى سلام بن مسكين عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب قال: لَو رَأيْتَ مَقَامَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ احُدٍ لَوَجَدْتَهُ قَائِماً عَلَى مَيْمَنَةَ رَسُولِ اللهِ يَذُبُّ عَنْهُ بِالسَّيْفِ وَ قَدْ وَلَّى غَيْرُهُ الأدْبَارَ.
و روى الحسن بن المحبوب عن جميل بن صالح، عن أبي عُبيدة. عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهم السلام، قال: كان أصحاب لواء المشركين يوم احد تسعة، قتلهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن آخرهم، و انهزم القوم، و طارت مخزوم، فضحها عليّ عليه السلام يومئذٍ.
قال: و بارز عليّ عليه السلام الحكم بن الأخنس، فضربه، فقطع رجله من نصف الفخذ، فهلك منها. و لمّا جال المسلمون تلك الجولة، أقبل اميّة بن أبي حذيفة بن المغيرة، و هو دارع، و هو يقول: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ فعرض له رجل من المسلمين، فقتله اميّة بن أبي حذيفة، و صمد له عليّ بن أبي طالب، فضربه بالسيف على هامته، فنشب في بيضة مغفره،
و ضربه اميّة بسيفه، فاتّقاها أمير المؤمنين عليه السلام بدرقته، فنشب فيها.۱
و نزع أمير المؤمنين عليه السلام سيفه من مغفره، و خلّص اميّة سيفه من درقته أيضاً، ثمّ تناوشا. فقال عليّ عليه السلام: فنظرت إلى فتق تحت إبطه، فضربته بالسيف فيه، فقتلته، و انصرفت عنه.
و لمّا انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه و آله في يوم احُد و ثبت أمير المؤمنين عليه السلام، قال له النبيّ:
مَا لَكَ لَا تَذْهَبُ مَعَ القَوْمِ؟
قال أمير المؤمنين: أذْهَبُ وَ أدَعُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! وَ اللهِ لَا بَرِحْتُ حتى اقْتَلَ أو يُنْجِزَ اللهُ لَكَ مَا وَعَدَكَ مِنَ النُّصْرَةِ.
فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله: أبْشِرْ يَا عَلِيّ! فَإنَّ اللهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ وَ لَنْ يَنَالُوا منّا مِثْلَهَا أبَداً.٢
ثمّ نظر رسول الله إلى كتيبة قد أقبلت إليه، فقال له: لو حملتَ على هذه يا عليّ! فحمل أمير المؤمنين عليه السلام عليها، فقتل منها هِشام بن اميّة المخزوميّ، و انهزم القوم. ثمّ أقبلت كتيبة اخرى، فقال له الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: احمل على هذه! فحمل عليهم، فقتل منها عمرو بن عبد الله الجُمَحيّ، و انهزمت أيضاً. ثمّ أقبلت كتيبة اخرى فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله: احمل على هذه! فحمل عليها، فقتل منها
بُشر بن مالك العامريّ، و انهزمت الكتيبة، و لم يعد بعدها أحد منهم.۱
و تراجع المنهزمون من المسلمين إلى النبيّ الأكرم، و انصرف المشركون إلى مكّة، و انصرف المسلمون مع النبيّ صلى الله عليه و آله إلى المدينة. و استقبلته فاطمه عليها السلام٢ و معها إناء فيه ماء، فغسل به وجهه، و لحقه أمير المؤمنين عليه السلام و قد خضّب الدم يده إلى كتفه، و معه ذو الفقار، فناوله فاطمة عليها السلام، و قال لها: خُذِي هَذَا السَّيْفَ فَقَدْ صَدَقَنِي اليَوْمَ. و أنشأ يقول:
أ فَاطِمُ هَاكِ السَّيْفَ غَيْرَ ذَمِيمِ | *** | فَلَسْتُ بِرِعْدِيدٍ وَ لَا بِمُلِيمِ |
لَعَمْرِي لَقَدْ أعْذَرْتُ في نَصْرِ أحْمَدٍ | *** | وَ طَاعَةِ رَبِّي بِالعِبَادِ عَلِيمِ٣ |
أمِيطِي دِمَاءَ القَوْمِ عَنْهُ فَإنَّهُ | *** | سَقَى آلَ عَبْدِ الدَّارِ كَأسَ حَمِيمٍ٤ |
وَ سَيْفِي بكَفِّي كَالشِّهَاب أهُزُّهـ | *** | أجُذُّ بِهِ مِنْ عَاشِقٍ وَ صَمِيمِ |
فَمَا زِلْتُ حتى فَضَّ رَبِّي جُمُوعَهُمْ | *** | وَ حتى شَفَيْنَا نَفْسَ كُلِّ حَلِيمِ |
و قال رسول الله صلى الله عليه و آله: خُذُيهِ يَا فَاطِمَةُ! فَقَدْ أدى بَعْلُكِ مَا عَلَيْهِ، وَ قَدْ قَتَلَ اللهُ بِسَيْفِهِ۱ صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ.٢
و عقد الشيخ المفيد رضوان الله عليه هنا فصلًا مستقلًّا في أسماء أعلام المشركين الذين قُتلوا على يد أمير المؤمنين عليه السلام في غزوة احُد. و كان جمهورهم قتلاه فحسب. ثمّ قال:
أسماء من قُتل من المشركين بسيف عليّ عليه السلام يوم احُد
فصل: و قد ذكر أهل السير قتلي احُد من المشركين. و كان جمهورهم قتلي أمير المؤمنين عليه السلام.
روى عبد الملك بن هشام عن زياد بن عبد الله، عن محمّد بن إسحاق أنّه قال: كان صاحب لواء قريش يوم احد طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار، قتله عليّ بن أبي طالب عليه السلام،
و قتل ابنه أبا سعيد بن طلحة، و أخاه خالد بن أبي طلحة. و قتل عبد الله بن حميد بن زُهرة بن الحارث بن أسد بن عبد العزّى، و أبا الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفيّ، و الوليد بن أبي حذيفة بن المغيرة، و أخاه: اميّة بن أبي حُذَيْفة بن المغيرة، و أرْطاة بن شرَحْبيل، و هشام بن امَيَّة، و عمرو بن عبد الله الجمحيّ، و بُشر بن مالك، و صواباً مولى بني عبد الدار. هؤلاء كلّهم قتلوا على يد أمير المؤمنين عليه السلام و كان الفتح له يوم احُد.
و رجوع الناس من هزيمتهم إلى النبيّ صلى الله عليه و آله بمقامه عليه السلام يذبّ عنه دونهم. و توجّه العتاب من الله تعالى إلى كافّتهم لهزيمتهم يومئذٍ سواه عليه السلام و من ثبت معه من رجال الأنصار، و كانوا ثمانية نفر. و قيل: أربعة أو خمسة. و في قتله عليه السلام من قتل يوم احُد، و عنائه في الحرب و حُسن بلائه يقول الحجّاج بن عِلّاط السُّلَميّ:
لِلَّهِ أيّ مُذَبِّبٍ عَنْ حَرِيمِهِ | *** | أعْنِي ابْنَ فَاطِمَةَ المُعِمَ۱ المُخْوِلَا٢ |
جَادَتْ يَدَاكَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ | *** | تَرَكَتْ طُلَيْحَةَ لِلْجَبِينِ مُجَدَّلَا |
وَ شَدَدْتَ شِدَّةَ بَاسِلٍ فَكَشَفْتَهُمْ | *** | بِالسَّفْحِ إذْ يَهْوُونَ أسْفَلَ أسْفَلا |
وَ عَلَلْتَ سَيْفَكَ بِالدِّمَاءِ وَ لَمْ تَكُنْ | *** | لِتَرُدَّهُ حَرَّانَ حتى يَنْهَلَا٣ |
و أضاف ابن شهرآشوب إلى هؤلاء الذين ذكرهم الشيخ المفيد في «الإرشاد» في قتلى أمير المؤمنين عليه السلام أشخاصاً آخرين و هم: خالد، و مخلّد، و كَلدة، و محالس أولاد طلحة بن أبي طلحة الأربعة، فصاروا مع ابنه الآخر أبي سعيد خمسة، و الوليد بن أرطاة، و مُسافِع، و قاسِط بن شُرَيح العَبْديّ، و المغيرة بن المغيرة. ما عدا الذين قتلهم بعد الهزيمة.
صمود عليّ عليه السلام و فرار أبي بكر و عمر و عثمان يوم احُد
ثمّ قال ابن شهرآشوب: لا إشكال في هزيمة عمر و عثمان. و إنّما الإشكال في أبي بكر هل ثبت إلى وقت الفرج أو انهزم!۱
أجل، إنّ هدفنا من توسيع رقعة هذا البحث هو موقف الخلفاء المدّعين بالخلافة! إذ تخلّوا عن نبيّهم في أحرج اللحظات و الدقائق بعد ما أحدقت به كتائب العدوّ من كلّ جانب، و كانوا يريدون قتله بل أسره و تعذيبه،٢ فتركوه وحده و اختاروا الفرار على الصمود معه، و رأوا أنفسهم الملوّثة أكرم و أعظم و أعزّ و أحبّ من نفس النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله.
فَوَيْلٌ لَهُمْ ثُمَّ وَيْلٌ.
قلنا: إنّ أبا بكر، و عمر، و عثمان لم يُجرحوا في هذه الغزوة، بل لم يُخدَشوا. و هذا ديدنهم في سائر غزوات رسول الله كبدر، و الأحزاب، و حُنَين. و لم نجد في التأريخ أنّهم جُرحوا في غزوة من الغزوات في حين جُرح أمير المؤمنين عليه السلام في غزوة احُد تسعين جُرحاً و هو القائل: كان ستّة عشر جرحاً منها عميقةً، و تلزمني الأرض و يُغمى عَلَيّ في كلّ منها، و لم أملك نفسي حتى كان جبرئيل يأتيني و يرفعني و هو يقول: قم يا عليّ، فليس لمحمّد غيرك معين! و لمّا وضعت الحرب أوزارها، و عاد رسول الله و أمير المؤمنين بالمسلمين إلى المدينة، لازم أمير المؤمنين عليه السلام الفراش. و وضعوا له فتيلة لمعاجلة جراحة، و ذلك بسبب عمقها.
الجراح التي ألمّت برسول الله صلى الله عليه و آله يوم احُد
و أمّا الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله فقد ضُرب في وجهه بالحجر حتى كُسر عظمه، و سال الدم، و لم ينقطع. و غرزت حلقات الدرع في عظم وجهه و عصت فلم تخرج. و ضُرب على شفتيه المباركتين بالسيف حتى سقطت رباعيّاته.۱ و اغمي عليه مرّات لشدّة ضغط الدرع الثقيل عليه، و سقط في الحفرة التي كان قد حفرها أبو عامر الراهب الفاسق في أرض احُد بمعاضدة المشركين، و اغمي عليه، و لم يتمكّن من الخروج، و بلغ منه العطش مبلغاً إذ حين اتي له بالماء بعد الحرب، و قرّبه من فمه، لم يستطع
أن يشرب.
و الله أعلم كم عانى من النبال و الأحجار و الحِراب و السيوف، ذلك أنّ كتائب من الخيّالة و الرجّالة تتكوّن من ثلاثمائة أو مائتي رجل برئاسة خالد بن الوليد، و عكرمة بن أبي جهل، و ضِرار بن الخطّاب، و عتبة بن أبي وقّاص، و عبد الله بن شهاب و ابن قَميئة، و ابيّ بن خَلَف، كانت تحمل بمجموعها حملة رجل واحد. و لكن لمّا كان صلى الله عليه و آله متدرّعاً بدرعَين، و على رأسه مِغفر،۱ و كان أمامه عدد من أصحابه الأوفياء كأبي دُجانة، و سهل بن حُنيف، و قليل من الصالحين الملتزمين الباذلين مهجهم و هم يحوطونه. و كان أمير الولاية حيدر الكرّار يحمل عليهم كالليث الباسل و هو المدرّب على العرفان و التوحيد، و يفرّق صفوفهم و يمزّقهم و يبعثرهم، و من جهة اخرى كان الله تعالى قد وعده بالنصر، و هو الحافظ لروحه المقدّسة، لذلك لم يستطيعوا قتله.
قال الواقديّ في «المغازي»: و كان أربعة من قريش قد تعاهدوا و تعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و عرفهم المشركون بذلك، عبد الله بن شِهاب، و عتبة بن أبي وقّاص، و ابن قَميئَة، و ابيّ بن
خَلَف.
و رمى عُتبة يومئذٍ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم بأربعة أحجار، وَ كَسَرَ رُبَاعِيتَه -أشْظَى بَاطِنَهَا اليُمْنَى السُّفْلَى- وَ شُجَّ في وَجْنَتَيْهِ۱ (حتى غابَ حَلَقُ المِغْفَرِ في وَجْنَتِهِ) وَ اصِيبَتْ رُكْبَتَاهُ فَجُحِشَتَا.٢ و كانت حفر حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين. و كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم واقفاً على بعضها و لا يشعر به.
قال الواقديّ: و الثابت عندنا أنّ الذي رمى و جنتَي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم ابن قميئة، و هو يقول: دُلّوني على محمّد، فو الذي يُحلَف به، لئن رأيته لأقتلنّه. فعلاه بالسيف، و رماه عتبة بن أبي وقّاص مع تجليل السيف. و كان عليه صلى الله عليه و آله و سلّم درعان. فوقع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم في الحفرة التي أمامه فَجُحِشت رُكبتاه. و لم يصنع سيف ابن قميئة شيئاً إلّا وَهَن الضربة بثِقَل السيف، فقد وقع لها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم.٣ و انتهض رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و طلحة يحمله من ورائه، و عليّ [عليه السلام] آخذ بيده حتى استوى قائماً.٤
و قال الواقديّ أيضاً: و كان أبو سعيد الخُدريّ يحدّث أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم اصيب وجهه يوم احد فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه، فلمّا نُزِعتا جعل الدم يسرب كما يسرُب الشنّ.۱
نقول: في ضوء ما ذكرنا من الخصوصيّات و المواصفات، أ ليس من الإجحاف خذلان النبيّ الذي يزعم الإنسان أنّه يفديه بروحه و ماله و عرضه و ناموسه و كلّ شيء في حياته؟ و بلغ الأمر أنّ الآية القرآنيّة المباركة الآتية تُنبئ المسلمين بهذا الفرار و تعنّفهم على ما ارتكبوه من خطيئة عظيمة:
إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ.٢
هذه هي قصّة المنهزمين الفارّين، إذ تخاطب الآية المسلمين قائلة: ترقون الجبلَ فارّين و الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله يناديكم: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ! أنَا رَسُولُ اللهِ! إلَيّ، إلَيّ، فَلَا يَلْوِي عَلَيْهِ أحَدٌ.
قال الواقديّ في سياق الآيات النازلة في غزوة احد عند تفسير قوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ٣ إنّ إبليس تصوّر يوم احُد في صورة جُعال بن سراقة الثعلبيّ فنادى: إنّ محمّداً قد قُتل، فتفرّق الناس من كلّ وجه.٤
إقرار عمر بفراره في غزوة احُد
يقول عمر: كنت أرقى في الجبل كأنّي ارْوِيّة۱ حتى انتهيت إلى رسول الله صليّ الله عليه و آله و هو ينزل عليه: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (الآية).
و معنى قوله: وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ: يتولّى. وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا.٢
و كذلك روى الواقديّ عن الضحّاك بن عثمان، عن ضمرة بن سعيد، قال: قال رافع بن خَديج: [كنت يوم احُد] إلى جنب أبي مسعود الأنصاريّ و هو يذكر من قُتل من قومه و يسأل عنهم، فيُخبَر برجال منهم سعد بن ربيع و خارجة بن زُهير، و هو يسترجع و يترحّم عليهم، و بعضهم يسأل بعضاً عن حميمه، فهم يخبرون بعضهم بعضاً. فبينا هم على ذلك، ردّ الله المشركين ليذهب بالحزن عنهم، فإذا عدوّهم فوقهم قد علوا، و إذا كتائب المشركين. فنسوا ما كانوا يذكرون.
و نَدَبنا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و حضّنا على القتال، و أنّي لأنظر إلى فلان و فلان في سفح الجبل يعدون.
فكان عمر يقول: لمّا صاح الشيطان: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، أقبلتُ أرقى في
الجبل كأنّي ارويّة، فانتهيتُ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم و هو يقول: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.۱ (الآية). و أبو سفيان في سفح الجبل. قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: اللَهُمَّ لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونَا.٢ فَانْكَشَفُوا.٣
و نقل الواقديّ أيضاً أنّ إبليس لمّا صاح: إنَّ مُحَمَّداً قَدْ قُتِلَ، تفرّق الناس، فمنهم من ورد المدينة، فكان أوّل من دخل المدينة يخبر أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم قد قُتِل سعد بن عثمان أبو عُبادة. ثمّ ورد بعده رجال حتى دخلوا على نسائهم، حتى جعل النساء يقلن: أ عَنْ رَسُولِ اللهِ تَفِرُّونَ؟!
قال يقول ابن امّ مكتوم: أ عن رسول الله تفرّون؟ ثمّ جعل يؤفّف بهم. و كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم خلّفه بالمدينة يصلّي بالناس. ثمّ قال: اعدلوني على الطريق -يعني طريق احُد- فعدلوه على الطريق. فجعل يستخبر كلّ من لقي عن طريق احُد حتى لحق القوم، فعلم بسلامة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم ثمّ رجع.
بعض المسلمين الفارّين في حرب احُد
و كان ممّن ولّى فلان،٤ و الحارث بن حاطب، و ثَعْلَبة بن حاطب،
و سوّاد بن غَزيّة، و سعد بن عثمان، و عُقبة بن عثمان، و خارجة بن عامر بلغ مَلَل،۱ و أوس بن قيظيّ في نفر من بني حارثة بلغوا الشُّقْرة.٢ و لقيتهم امّ أيمن تحثي في وجوههم التراب، و تقول لبعضهم: هَاكَ المَغْزَلَ فَاغزِلْ بِهِ، وَ هَلُمَّ سَيْفَكَ! فوجّهت إلى احُد مع نُسَيَّات معها.٣
و روى الواقديّ أيضاً بسنده المتّصل عن نَمْلَة بن أبي نملة -و اسم أبي نملة عبد الله بن معاذ و كان أبوه مُعاذ أخ للبراء بن معرور لُامّه- فقال: لمّا انكشف المسلمون ذلك اليوم نظرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و ما معه أحد إلّا نُفَير، فأحدق به أصحابه من المهاجرين و الأنصار و انطلقوا به إلى الشِّعب، و ما للمسلمين لواء قائم، و لا فئة، و لا جمع، و إنّ كتائب المشركين لتحوشهم مقبلة و مدبرة في الوادي، يلتقون و يفترقون. ما يرون أحداً من الناس يردّهم.
فاتّبعتُ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم فأنظر إليه و هو يؤمّ أصحابه. ثمّ رجع المشركون نحو عسكرهم و تآمروا في المدينة و في طلبنا. فالقوم على ما هم عليه من الاختلاف. و طلع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم إلى أصحابه، فكأنّهم لم يصبهم شيء حين رأوا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم سالماً.٤
و روى الواقديّ أيضاً بسنده المتّصل عن أبي سفيان مولى ابن أبي
أحمد قال: سمعتُ محمّد بن مَسْلَمة يقول:
سَمِعَتْ اذُنَايَ وَ أبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ وَ قَدِ انْكَشَفَ النَّاسُ إلَى الجَبَلِ وَ هُمْ لَا يَلْوُونَ عَلَيْهِ، وَ إنَّهُ لَيَقُولُ: إلَيّ يَا فُلَانُ! إلَيّ يَا فُلَانُ!۱ أنَا رَسُولُ اللهِ فَمَا عَرَّجَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ عَلَيْهِ وَ مَضَيَا.٢
كلام خالد بن الوليد في فرار عمر
و روى الواقديّ أيضاً عن ابن أبي سَبْرَة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جَهْم، و اسم أبي جهم عُبَيد، قال: كان خالد بن الوليد يُحَدِّث و هو بالشام يقول: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي هَدَانِي لِلإسلامِ! لقد رأيتني و رأيت عمر بن الخطّاب حين جالوا و انهزموا يوم احُد، و ما معه أحَد. و إنّي لفي
كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري. فنكبت عنه و خشيتُ إن أغريتُ به من معي أن يصمدوا له،۱ فنظرتُ إليه موجّهاً إلى الشِّعب.٢
و روى الطبريّ في تاريخه بسنده عن قاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن نجّار، قال: انتهى أنس بن النضر -عمّ أنس بن مالك- إلى عمر بن الخطّاب و طلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين و الأنصار و قد ألقوا بأيديهم. فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتِلَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. قال: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ قُومُوا فَمُوتُوا (كِرَاماً) عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و آله و سلّم، ثمّ استقبل القوم فقاتل حتى قُتل. و به سُمّي أنس بن مالك.٣
و العجيب هنا أنّ بعض هؤلاء العديمي الغيرة الذين كانوا جالسين على الجبل و قد أطلقوا العنان لأنفسهم، قالوا: ليت لنا رسولًا إلى عبد الله بن ابيّ
فيأخذ لنا أمَنَةً من أبي سفيان!
و ذكر الطبريّ في تاريخه أيضاً أنّه لمّا فشا خبر قتل رسول الله صلى الله عليه و آله قال بعض الفارّين إلى الجبل و كانوا على الصخرة:
لَيْتَ لَنَا رَسُولًا إلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ ابَيّ، فَيَأخُذَ أمَنَةً مِنْ أبِي سُفْيَانَ. يَا قَوْمِ! إنَّ مُحَمَّداً قَدْ قُتِلَ! فَارْجِعُوا إلَى قَوْمِكُمْ قَبْلَ أنْ يَأتُوكُمْ فَيَقْتُلُوكُمْ.
قال لهم أنس بن النضر: يَا قَوْمِ! إنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ فَإنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ، فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ. اللَهُمَّ إنِّي أعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤلاءِ وَ أبْرَا إلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤْلَاءِ! ثُمَّ شَدَّ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَ حتى قُتِلَ.۱
و انطلق رسول الله صلى الله عليه و آله يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة (و هم الذين اعتزلوا القتال و ارتقوا الصخرة)، فلمّا رأوه، وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه، فقال: أنا رسول الله.٢
إنّ أنس بن النضر ذلك الرجل الغيور الشهم الوجيه صاحب الحميّة و العزّة و ذو المنطق الرزين، الذي ذكرنا كيفيّة استشهاده قد رُمي بالنبال و ضُرب بالسيوف حتى أنّ اخته لم تستطع أن تعثر على جسده بعد استشهاده، و ما عرفته آخر الأمر إلّا من بنانه أو من ثناياه. و قيل: وجد به
سبعون ضربة في جسده، و لم يسلم موضع من بدنه، و إنّما عرفته اخته من بنانه أو من ثناياه.۱
فرار عثمان و إيواؤه معاوية بن المغيرة
و أمّا عثمان فقد سمعتم الروايات المنقولة فيه عن تواريخ العامّة الموثّقة. و نذكر فيما يأتي وثيقة تأريخيّة مهمّة اخرى عن الطبريّ الذي يعدّ من المؤرّخين الموثّقين عند العامّة:
قال أبو جعفر الطبريّ: و قد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه و آله [يوم احُد] حتى انتهى بعضهم إلى المنقي دون الأعوص. و فرّ عثمان بن عفّان، و عقبة بن عثمان، و سعد بن عثمان (رجلان من الأنصار) حتى بلغوا الجَلْعَب (و هو جبل بناحية المدينة ممّا يلي الأعوص) فأقاموا به ثلاثاً. ثمّ رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فزعموا أنّه قال لهم: لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً.٢
و لم يفرّ عثمان فحسب، بل لمّا قدم المدينة آوى معاوية بن المغيرة
ابن أبي العاص الذي كان من ألدّ أعداء رسول الله صلى الله عليه و آله و قد اشترك في هذه الغزوة. و هو الذي زعم أنّه مثّل بحمزة سيّد الشهداء عليه السلام و شقّ شفتي رسول الله و كسر رباعيّته. و كان رسول الله قد هدر دمه. و لمّا دلّت رقيّة بنت رسول الله الصحابة الذين كانوا يبحثون عنه على مكانه في البيت، ضربها بعصا رحله حتى اعتلّت و لزمت الفراش، ثمّ ماتت بعد ذلك.۱
و نحن نذكر هذه القضيّة عن مغازي الواقديّ الذي يعدّ من أقدم الوثائق التأريخيّة و أوثقها:
قال الواقديّ: و كان معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قد انهزم يومئذٍ، فمضى على وجهه، فنام قريباً من المدينة. فلمّا أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفّان، فضرب بابه، فقالت امرأته امّ كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه و آله: ليس هو هاهنا. هو عند رسول الله صلى الله عليه و آله.
قال [معاوية]: فارسلي إليه فإنّ له عندي ثمن بعير اشتريته عام أوّل فجئته بثمنه، و إلأ ذهبتُ. قال: فأرسلتْ [أمّ كلثوم]٢ إلى عثمان، فجاء.
فلمّا رآه قال: وَيْحَكَ! أهْلَكْتَنِي وَ أهْلَكْتَ نَفْسَكَ. مَا جَاءَ بِكَ؟ قال: يا بن عمّ! لم يكن لي أحد أقرب إليّ منك و لا أحقّ! فأدخله عثمان في ناحية البيت. ثمّ خرج إلى النبيّ صلى الله عليه و آله يريد آن يأخذ له أماناً.
و قد قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم قبل أن يأتيه عثمان: إنّ معاوية قد أصبح بالمدينة فاطلبوه. فطلبوه فلم يجدوه. فقال بعضهم: اطلبوه في بيت عثمان بن عفّان. فدخلوا بيت عثمان، فسألوا امّ كلثوم، فأشارت إليه فاستخرجوه من تحت حِمارة۱ لهم، فانطلقوا به إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و عثمان جالس عند رسول الله صلى الله عليه و آله فلمّا رآه عثمان قد اتي به قال: و الذي بعثك بالحقّ، ما جئتك إلّا أن أسألك أن تؤمّنه! فهبه لي يا رسول الله! فوهبه له و أمّنه و أجّله ثلاثاً، فإن وُجدِ بعدهنّ قُتِل.
قال: فخرج عثمان [من دار الرسول الأكرم] فاشترى له بعيراً و جهّزه. ثمّ قال: ارتحل. فارتحل. و سار رسول الله صلى الله عليه و آله إلى حمراء الأسد.٢ و خرج عثمان مع المسلمين إلى حمراء الأسد [أيضاً]. و أقام معاوية [بن المغيرة في المدينة] حتى كان اليوم الثالث، فجلس على راحلته و خرج حتى إذا كان بصدور العقيق، قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: إنّ معاوية قد أصبح قريباً فاطلبوه. فخرج الناس في طلبه، فإذا
هو قد أخطأ الطريق، فخرجوا في أثره حتى أدركوه في اليوم الرابع.
و كان زيد بن حارثة، و عمّار بن ياسر أسرعا في طلبه. فأدركاه بالجمّاء. فضربه زيد بن حارثة. و قال عمّار: إنّ لي فيه حقّاً. فرماه عمّار بسهم فقتلاه. ثمّ انصرفا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم فأخبراه. و يقال: ادرك بثَنِيَّة الشَّريد على ثمانية أميال من المدينة، و ذلك حيث أخطأ الطريق. فأدركاه، فلم يزالا يرميانه بالنبل، و اتّخذاه غرضاً حتّى مات.۱
و قال المؤرّخون: كان خلال الأيّام الثلاثة التي أقامها في المدينة يتسقّط أخبار النبيّ و المسلمين ليوافي بها كفّار قريش.
قصّة اعتقال معاوية بن المغيرة
قال ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»: روى البلاذريّ أنّ معاوية بن المغيرة هذا هو الذي جدع أنف حمزة سيّد الشهداء و مثّل به يوم احد. روى ذلك عن الكلبيّ و قال: هو ابن عمّ عثمان لحّاً، إذ إنّ عثمان ابن عفّان بن أبي العاص، و هو معاوية ابن المغيرة بن أبي العاص. و لا عقب له إلّا بنت تسمّى عائشة، تزوّجها مروان بن الحكم فولدت له ابنه عبد الملك.٢
مقتل رقيّة ابنة رسول الله بضرب عثمان
و أمّا قصّة مقتل رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله على ما نقله محمّد بن يعقوب الكلينيّ في كتاب «الكافي» فهي كما يأتي: روى بسنده عن يزيد بن خليفة الحاربيّ أنّه قال: سأل عيسى بن عبد الله أبا عبد الله عليه السلام [الإمام الصادق] و أنا حاضر فقال: تخرج النساء إلى الجنازة؟!
و كان متّكئاً فاستوى جالساً، ثمّ قال: إنّ الفاسق عليه لعنة الله٣ آوى
ابن عمّه معاوية بن المغيرة بن أبي العاص و كان ممّن هدر رسول الله دمه. فقال لابنة رسول الله: لا تخبري أباكِ بمكانه! كأنّه لا يوقن أنّ الوحي يأتي محمّداً.
فقالت [رقيّة]: ما كنتُ لأكتم رسول الله صلى الله عليه و آله عدوّه. فجعله بين مشجب له و لحفه بقطيفة. فأتى رسول الله صلى الله عليه و آله الوحيُ فأخبره بمكانه. فبعث إليه عليّاً عليه السلام، و قال: اشتمل على سيفك و ائت بيت ابنة عمّك، فإن ظفرتَ بالمغيرة فاقتله. فأتى [أمير المؤمنين عليه السلام] البيت فجال فيه، فلم يظفر به، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فأخبره. فقال: يا رسول الله! لم أره. فقال [رسول الله]: إنّ الوحي قد أتاني فأخبرني أنّه في المشجب. و دخل عثمان بعد خروج عليّ عليه السلام فأخذ بِيَدِ ابن عمّه، فأتى به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم. فلمّا رآه أكبّ و لم يلتفت إليه. و كان نبيّ الله صلى الله عليه و آله حيّياً كريماً.
فقال [عثمان]: يا رسول الله هذا ابن عميّ معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، و الذي بعثك بالحقّ ما آمنُه. فأعادها ثلاثاً.
و أعادها أبو عبد الله عليه السلام ثلاثاً: كذب عثمان، و الذي بعثه بالحقّ نبيّاً. كان عثمان يأتي عن يمين رسول الله، ثمّ يأتي عن يساره. فلمّا كان في الرابعة، رفع رأسه إليه فقال: قد جعلت لك ثلاثاً، فإن قدرتُ عليه بعد ثلاثة، قتلتُه.
فلمّا أدبر و تولّى، قال رسول الله صلى الله عليه و آله: اللَهُمَّ العَنْ مُعَاوِيَةَ بْنَ المُغيرةِ وَ العَنْ مَنْ يُؤْوِيهِ، وَ العَنْ مَنْ يَحْمِلُهُ، وَ العَنْ مَنْ يُطْعِمُهُ،
وَ العَنْ مَنْ يَسْقِيهِ، وَ العَنْ مَنْ يُجَهِّزُهُ، وَ العَنْ مَنْ يُعْطِيهِ سِقَاءً أو حِذَاءً أو رِشَاءً أو وِعَاءً!
و هو يعدّهنّ بيمينه. و انطلق به عثمان و آواه و أطعمه و سقاه و حمله و جهّزه حتى فعل جميع ما لعن عليه النبيّ صلى الله عليه و آله من يفعله به. ثمّ أخرجه في اليوم الرابع يسوقه.
فلم يخرج من أبيات المدينة حتى أعطب الله راحلته و نقب حذاءه و دميت قدماه، فاستعان بيده و ركبته، و أثقله جهازه حتى وجّر به، فأتى سُمرة فاستظلّ بها. فأتى رسول الله صلى الله عليه و آله الوحي فأخبره بذلك، فدعا عليّاً عليه السلام فقال: خذ سيفك فانطلق أنت و عمّار و ثالث لهم، فإنّ [معاوية] بن المغيرة بن أبي العاص تحت شجرة كذا. فأتاه
أمير المؤمنين عليه السلام، فقتله.۱
فضرب عثمان بنت رسول الله صلى الله عليه و آله [بخشبة المحمل ضرباً كثيراً] و قال: أنتِ أخبرتِ أباكِ بمكانه. فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه و آله تشكو ما لقيت. فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه و آله: اقْنِي حَيَاءَكِ، فَمَا أقْبَحَ بِالمَرْأةِ ذَاتِ حَسَبٍ وَ دِينٍ في كُلِّ يَوْمٍ تَشْكُو زَوْجَهَا. فأرسلت إليه مرّات، كلّ مرّة يقول لهأ ذلك [و يأمرها بالصبر و التحمّل]. فلمّا كان في الرابعة، دعا عليّاً و قال: خذ سيفك و اشتمل عليه ثمّ ائت بنت ابن عمّك فخذ بيدها فإن حال بينك و بينها فأحطمه بالسيف فأقبل رسول الله صلى الله عليه و آله كالواله من منزله إلى دار عثمان. فأخرج عليّ عليه السلام ابنة رسول الله. فلمّا نظرت إليه، رفعت صوتها بالبكاء. و استعبر رسول الله و بكى، ثمّ أدخلها منزله. و كشفت عن ظهرها. فلمّا أن
رأى ما بظهرها قال ثلاث مرّات: قَتَلكِ قَتَلَهُ اللهُ. و كان ذلك يوم الأحد. و بات عثمان متلحّفاً بجاريتها. فمكثت الاثنين و الثلاثاء و ماتت في يوم الأربعاء. فلمّا حضر أن يخرج بها، أمر رسول الله صلى الله عليه و آله فاطمة عليها السلام فخرجت و نساء المؤمنين معها.
و خرج عثمان يشيّع جنازتها. فلمّا نظر إليه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم قال: من أطاف البارحة بأهله أو بفتاته فلا يتّبعن جنازتها. فلم يخرج عثمان، و خرجت فاطمة عليه السلام و نساء المؤمنين و المهاجرين فصلّين على الجنازة.۱
و نطالع في كتاب «الغدير» للعلّامة الأمينيّ ردّاً على كتاب «حياة محمّد» للمستشرق أميل درمنغم، و قد ترجمه الاستاذ الفلسطينيّ مُحَمَّد عَادِل زُعَيْتِر، إذ انتقد العلّامة أصل الكتاب و مترجمه بشدّة. ذلك أنّ مؤلّفه يقول فيه: و كان صهرا النبيّ الأمويّان (عثمان و أبو العاص) أكثر مداراة للنبيّ من عليّ. فقال العلّامة في سياق جوابه عن هذا الموضوع: و إنّي لا يسعني المجال لتحليل كلمة الرجل: و كان صهرا النبيّ الأمويّان: و حسبك في مداراة عثمان حديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه و آله لمّا شهد دفن رقيّة ابنته العزيزة و قعد على قبرها و دمعت عيناه فقال: أيّكم لم يقارف الليلة أهله؟! فقال أبو طلحة [الأنصاريّ]٢: أنا. فأمره أن ينزل
في قبرها.
قال ابن بَطّال: أراد النبيّ صلى الله عليه و آله أن يحرم عثمان النزول في قبرها. و قد كان أحقّ الناس بذلك، لأنّه كان بعلها و فقد منها علقاً لا عوض منه. لأنّه حين قال صلى الله عليه و آله: أيّكم لم يقارف الليلة أهله؟ سكت عثمان و لم يقل: أنا، لأنّه قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه، و لم يشغله الهمّ بالمصيبة و انقطاع صهره من النبيّ صلى الله عليه و آله عن المقارفة. فحرم بذلك ما كان حقّاً له. و كان أولى به من أبي طلحة و غيره.
و هذا بيّن في معنى الحديث. و لعلّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد كان علم ذلك بالوحي، فلم يقل له شيئاً لأنّه فعل فعلًا حلالًا غير أنّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتى حرّم ما حرّم من ذلك بتعريض غير صريح. («الروض الانُف» ج ٢، ص ۱۰۷).۱
اعتراف عثمان بفراره في حرب احُد
و كان عثمان نفسه يعترف أنّه فرّ في معركة احُد ثلاثة أيّام كما أنّ عمر كان يعدّه في الفارّين. قال الواقديّ: كان بين عبد الرحمن بن عوف و عثمان كلام. فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عُقبة فدعاه فقال: اذهب إلى أخيك فبلّغه عنّي ما أقول لك، فإنّي لا أعلم أحداً يبلّغه غيرك. قال الوليد: أفعل.
قال: قل، يقول لك عبد الرحمن: شهدتُ بدراً و لم تشهد! و ثبتُ
يوم احُد و ولّيتَ عنه! و شهدتُ بيعة الرضوان و لم تشهدها! فجاءه فأخبره. فقال عثمان: صدق أخي. تخلّفتُ عن بدر على ابنة رسول صلى الله عليه و آله و سلّم و هي مريضة. فضرب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم بسهمي و أجرى فكنت بمنزلة من حضر. و ولّيتُ يوم احُد فقد عفا الله ذلك عنّي. فأمّا بيعة الرضوان، فإنّي خرجتُ إلى أهل مكّة، بعثني رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: إنّ عثمان في طاعة الله و طاعة رسوله، و بايع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم إحدى يديه الاخرى، فكانت شمال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم خيراً من يميني. فقال عبد الرحمن حين جاءه الوليد بن عُقبة: صدق أخي.
و قال الواقديّ: و نظر عمر بن الخطّاب إلى عثمان بن عفّان فقال: هذا ممّن عفا الله عنه، و الله ما عفا الله عن شيء فردّه، و كان تولّى يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ.
و قال أيضاً: و سأل رجل [عبد الله] بن عمر عن عثمان فقال: إنّه أذنب يوم احُد ذنباً عظيماً، فعفا الله عنه، و هو مِمَّن تَوَلَّى يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، و أذنب فيكم ذنباً صغيراً فقتلتموه!۱
و الآن ينبغي أن نعرف: هل عُفي عن عثمان؟ و هل صفح الله عنه و غفر له كما استفاد ذلك عمر و ابنُه من الآية القرآنيّة الكريمة؟ أم لا.
ليس كذلك، و لا يستفاد من الآية الكريمة المباركة أبداً أنّ الله قد عفا عنه و غفر له؟
و علينا أن نعرف سلفاً أنّ الفرار من ساحة القتال بلا عذر شرعيّ بيّنه الله، كبيرة من الكبائر عموماً، و هو من أشدّ أقسام المعاصي الكبيرة التي أوعد القرآن الكريم عليها جهنّم. قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ، وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ.۱
خلوّ الآية القرآنيّة من الدلالة على العفو عن عثمان بمعنى الغفران
نلاحظ في هذه الآية أنّ المسلم لا يحقّ له أن يولّي العدوّ دبره إلّا في حالتين لا غير: الاولى: إذا أراد مثلًا أن ينتقل من الميمنة إلى الميسرة أومن القلب إلى الجناح لمصلحة قتاليّة. الثانية: إذا أراد أن يلحق بطائفة من المسلمين أو غير المسلمين ليستمدّهم القوّة و العِدّة و العُدّة للقتال. و في غير هاتين الحالتين لا يجوز الفرار من لقاء الكفّار. و مَن فعل فإنّه موعَد بغضب الله و ناره.٢
من خيانات عثمان
و إذا تبيّن هذا الموضوع فإنّا نقول: على ما ذا يُحمل فرار عثمان ثلاثة أيّام في نقطة نائية عن المدينة غير البَوْء بغضب الله و مأواه جهنّم و بئس المصير؟ كيف غفر الله له؟ هل نُسخت الآية النازلة فيه و في أترابه؟ علماً أنّه لم يصلنا عن عثمان نفسه أنّه قد خجل و استحيا من فعله و تاب إلى الله توبةً نصوحاً.
و أمّا من استدلّ على غفرانه بقوله تعالى: وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. فليعلم أنّ هذه الآية لا تدلّ على غفران. فالعفو هنا يعني عدم المؤاخذة الدنيويّة، و عدم إجراء الكفّارة و عدم تنفيذ حكم الإعدام فيه. و إلّا فإنّ حكم الإسلام في المتخلّف عن ساحة القتال مع الكفّار الإعدام. و الله تعالى لم يطبّق هذا الحكم على عثمان و نظائره، إذ ليس إلى ذلك من سبيل لأنّه لو طبّقه لُاعدم أكثر من نصف الجيش الذي شهد احُداً، و هذا ليس في مصلحة الإسلام الفتيّ، و إلّا لا يبقى أحد من المسلمين.
جاء حكم العفو الإلهيّ في آيتين من الآيات الواردة في سورة آل عمران و يختلف العفو في هاتين الحالتين:
الاولى: هذه الآيات: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما
فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ.۱
و نرى في هذه الآيات أنّ طائفة من الذين فرّوا رجعوا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و كانوا عنده، فأثابهم الله غمّاً بغمّ، ثمّ غشاهم الاطمئنان و النعاس. و هؤلاء قد شملهم العفو بمعنى الغفران. و يؤيّد هذا المعنى قوله بعد العفو: وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
أمّا الذين فرّوا و لم يرجعوا إلى النبيّ في ساحة القتال، فهم المعنيّون بقوله تعالى: وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ. إلى قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.٢
و لم يرد غفران و رحمة للذين فرّوا و لم يرجعوا و كانوا يهتمّون بحفظ أنفسهم و حصانتها. و العفو يعني الصفح و عدم المحاكمة في الدنيا. و الدليل على ذلك قوله: أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. و هو صبور على أعمالهم، و لم يقل: «رحيم»، أي: يرحمهم و يعطف عليهم.
إذاً، العفو الأوّل يشمل الذين ندموا على فرارهم و عادوا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و كان هذا في وقت فارق رسول الله صلى الله عليه و آله فيه المشركين و جاء إلى الشِّعب، و إن كان رجوع هذه الطائفة من المؤمنين تدريجيّاً و بعد علمهم بأنّ رسول الله لم يُقتل. و فيهم قال تعالى: وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
أمّا العفو الثاني فيشمل الذين واصلوا فرارهم و ظنّوا بالنبيّ سوءاً، و قالوا: لو كنّا على الحقّ ما قُتِلنا. و فيهم قال سبحانه: أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
و من الطبيعيّ أنّ الكلام يحوم حول المؤمنين من الصحابة إذ كانوا فريقين، و لا علاقة له بالمنافقين، لأنّ الله تبارك و تعالى يبيّن حالة المنافقين كعبد الله بن ابيّ و زمرته في آيات اخرى مستقلّة ستأتي.۱
و اعترف عمر نفسه أنّه فرّ يوم احُد. قال ابن أبي الحديد:٢ و احتجّ من روى أنّ عمر فرّ يوم احُد بما روى أنّه جاءته في أيّام خلافته امرأة تطلب بُرداً من برود كانت بين يديه، و جاءت معها بنت لعمر تطلب بُرداً أيضاً، فأعطى المرأة و ردّ ابنته، فقيل له في ذلك، فقال: إنّ أبا هذه ثبت يوم احُد، و أبا هذه فرّ يوم احُد و لم يثبت.٣
حديث نبويّ صريح في فرار عمر يوم احُد
و من الأدلّة الرصينة على فرار عمر بن الخطّاب رواية ذكرها الواقديّ في مغازيه و هي تدور حول قصّة الحُدَيبيّة، عن أبي سعيد الخُدريّ قال: كنت جالساً يوماً عند عمر بن الخطّاب فقال: لقد دخلني يومئذ من الشكّ، و راجعت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم يومئذٍ مراجعة ما راجعته مثلها قطّ. و لقد عتقتُ فيما دخلني يومئذٍ رقاباً، و صمتُ دهراً و إنّي لأذكر ما صنعتُ خالياً فيكون أكبر همّي.
و ينقل عمر القصّة هنا مفصّلًا، و يستمرّ الراوي فيقول: و قال عمر و رجال معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله: يا رسول الله! أ لم تكن حدّثتنا أنّك ستدخل المسجد الحرام، و تأخذ مفتاح الكعبة و تعرّف مع المعرّفين؟! و هَدْينا لم يصل إلى البيت و لا نحن!
فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: قُلْتُ لَكمْ في سَفَرِكُمْ هَذَا؟! قال عمر: لَا. فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: أمَا إنَّكُمْ
سَتَدْخُلُونَهُ، و آخُذُ مِفْتَاحَ الكَعْبَةِ، وَ أحْلِقُ رَأسِي وَ رُؤُوسَكُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، وَ اعَرِّفُ مَعَ المُعَرِّفِينَ.
ثم أقبل على عمر، فقال: أ نَسِيتُمْ يَوْمَ احُدٍ إذْ تُصْعِدُونَ وَ لَا تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَ أنَا أدْعُوكُمْ في اخْرَاكُمْ؟! أ نَسِيتُمْ يَوْمَ الأحْزَابِ۱ إذْ جَاءُوكُمْ مِن فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَ بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ؟! أ نَسِيتُمْ يَوْمَ كَذَا؟!
وَ جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يُذَكِّرُهُمْ امُوراً - أ نَسِيتُمْ يَوْمَ كَذَا؟
فقال المسلمون: صدق الله و رسوله يا نبيّ الله، ما فكّرنا فيما فكّرت فيه. لأنتَ أعلم بالله و بأمره منّا.
فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم عام القضيّة (عمرة القضاء) و حلق رأسه، قال: «هذا الذي وعدتكم». فلمّا كان يوم الفتح أخذ المفتاح فقال: «ادعوا لي عمر بن الخطّاب، فقال: هذا الذي قلتُ لكم». فلمّا كان في حجّة الوداع بعَرَفة فقال: «أي عمر، هذا الذي قلتُ لكم».٢
يقول المستدلّون على فرار عمر أنّه لو لم يفرّ يوم احُد، لما قال له رسول الله: «أنسيتم يوم احُد إذ تُصعِدون و لا تلوون على أحد»؟۱
لم يشهد رسول الله لأبي بكر بالجنّة
و شهد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم على أنّ جميع المقتولين في غزوة احُد من أهل الجنّة، و أنّ كتاب أعمالهم خُتم بخير، و أنّهم أبلوا بلاءً محموداً، و أنّ السعادة مكتوبة لهم في دار الآخرة.
بَيدَ أنّ هذا لشهداء احُد فحسب، و ليس لكلّ من اشترك و جاهد في احُد. إذ إنّ من الممكن أن تمرّ بلاءات بعد احُد فلا يثبت فيها المغرورون بأنفسهم و مناصبهم، المتظاهرون بالتقوى و الصلاح، و هم ينشدّون إلى عالم الغرور في تلك النكات الدقيقة. و تتجلّى أنفسهم في الامّة بطابع فرعوني مع جميع ما لهم من أرصدة السبق و القِدَم، فينكرون الحقّ و يؤثِرون أنانيّتهم على الحقّ و الانقياد المحض إليه. و حينئذٍ، كيف تكون عاقبتهم خيراً إذا هلكوا و هم على هذه الحالة من الاستكبار و الزهو و العُجب و حبّ الذات، حتى لو كانوا بارزين في الزهد، بارعين في علوم القرآن، متشرّفين بصحبة رسول الله سنين طويلة! كما أنّ شهداء بدر من أهل الجنّة
أيضاً، لا كلّ من شهد بدراً، لأنّه قد يتعرّض للبلاء، فلا يثبت فيه و لا يخرج منه مفلحاً.
إنّ الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن مجاهدي بدر و أصحاب بيعة الرضوان تحت الشجرة أثنت عليهم ثناءً مؤقّتاً كما يتطلّبه موقفهم يومئذٍ، و لم تثن عليهم ثناء مطلقاً إلى الأبد. و في بدر أدلّة، و في احُد أدلّة أيضاً.
كان طلحة بن عبيد الله من الذين ثبتوا و لم يفرّوا يوم احُد. و قد آزر النبيّ كثيراً، لكنّه نكث بيعة أمير المؤمنين عليه السلام في خلافته، فاريقت دماء الآلاف من الأبرياء على أثر ذلك. و كذلك دأب الزبير بن العوّام، و عبد الرحمن بن عوف، و سعد بن أبي وقّاص على اختلاف مراتبهم و درجاتهم.
و ذكر مالك حديثاً عجيباً في «الموطّأ»، و يمكن استنتاج أشياء مفيدة كثيرة منه بالمناط العامّ:
حَدَّثَني عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمْرَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ لِشُهَدَاءِ احُدٍ: هَؤُلَاءِ أشْهَدُ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أ لَسْنَا يَا رَسُولَ اللهِ إخْوَانَهُمْ؟ أسْلَمْنَا كَمَا أسْلَمُوا، وَ جَاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: بلى، وَ لَكِنْ لَا أدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِي؟! فَبَكَى أبُو بَكْرٍ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: أئِنَّا لَكَائِنُونَ بَعْدَكَ؟!۱
يقول محمّد فؤاد عبد الباقي في تعليقته: هذا الحديث مرسل عند جميع الرواة، لكنّ معناه يستند من وجوه صحاح كثيرة. و ذكر السيوطيّ هذا اللفظ نفسه في شرحه.۱
و قال في شرح قوله صلى الله عليه و آله: هَؤُلَاءِ أشْهَدُ عَلَيْهِمْ: يَعْنِي أشْهَدُ لَهُمْ بِالإيمَانِ الصَّحِيحِ وَ السَّلَامَةِ مِنَ الذُّنُوبِ المُوبِقَاتِ وَ مِنَ التَّبدِيلِ وَ التَّغْيِير وَ المُنَافَسَةِ في الدُّنْيَا وَ نَحْوَ ذَلِكَ. قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ البِرِّ.٢
و نفهم من هذا الحديث ما يأتي:
أوّلًا: أنّ الجهاد في احُد لم ينفع أبا بكر شيئاً، و أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله لم يؤيِّد سلامَة دينه، و خلاصَه من الذنوب الموبقة، و من التغيير و التبديل في العقيدة و النيّة، و الحوادث، و التنافس على الرئاسة
و حبّ الجاه، و لم يشهد له بالإيمان الصحيح. و بعبارة موجزة: لم يؤيِّد كونه من أهل الجنّة.
ثانياً: لمّا كان النبيّ صلى الله عليه و آله عالِماً بالغيب، و أنّه أخبر بالوقائع و الحوادث قبل وقوعها و حدوثها بسنين طويلة، فإنّ كلامه: «لا أدري ما تُحدِثون بعدي». بمنزلة قوله: «لأنّي أعلم ما تُظهرون بعدي من البدع و ما تفتعلون من الحوادث». فلهذا أنتم لستم كشهداء احُد الذين رحلوا عن هذه الدنيا طاهرين مطهّرين. فأنتم -لا جرم- ستكونون من أصحاب النار!
ثالثاً: لو كان أبو بكر باحثاً عن الحقّ و الحقيقة، لسأل رسول الله بعد إخباره الصحابة، و بعد بكاء أبي بكر نفسه: و ما ذا نفعل إذاً؟ أرشدنا إلى سبيل النجاة من تلك الحوادث و الكوارث، كي لا نُمني بتلك الذنوب الموبقة المهلكة، و لا نُحدث تلك البدع، و لنظلّ سالمين و نكون من أهل الوجوه المبْيَضَّة شامخين كشهداء احُد! بَيدَ أنّه قطع كلام رسول الله، و حسم الموضوع ببكائه و قوله: أ إنّا لكائنون بعدك.۱
لقاء آية الله المعزّيّ الملايريّ مع العقيد سنبل في جدّة
يحسن بنا و قد بلغنا هذا الموضع أن نذكر آية الله العظمى البروجرديّ تغمّده الله برضوانه و نعيمه فنورد ما نقله عنه صديقنا العزيز الكريم و رفيقنا البرّ الشفيق الذي تربطنا به صحبة يزيد أمدها على أربعين سنة. و هو سماحة آية الله الشيخ إسماعيل المعزّيّ الملايريّ دامت بركاته.
حدّثني هذا الرجل حديثاً قبل ثلاثين سنة تقريباً، ثمّ طلبت منه أن يكتبه. فكتبه و أرسله لي بالبريد من قم إلى طهران، و خطّه الآن بين يديّ. و ها أنا أذكر فيما يأتي كلامه نصّاً.
قال بعد البسملة و التحميد و الصلوات و السلام و السؤال عن الأحوال، و الآداب المألوفة في المجاملات:
«و أمّا الموضوع فهو أنّي تشرّفت بالمثول بين يدي المرحوم آية الله
العظمى السيّد البروجرديّ رضي الله عنه سنة ۱٣۷۸ هـ. ق لُاودّعه قبل سفري إلى حجّ بيت الله الأعظم، و كان كتاب «الموطّأ» لمالك بن أنس في يده، فقلَّبَ عدداً من أوراقه. ثمّ دفعه إليّ و قال: احفظ هذا الحديث فإنّه سينفعك يوماً! ثمّ أردف قائلًا: كان أبو بكر ماكراً إلى درجة أنّه تباكى و قطع الموضوع.
فحفظتُ الحديث. و بعد تشرّفى بزيارة مكّة، قدمنا جدّة لنعود إلى إيران، فراجعنا دائرة شئون الحجّاج، و كان مديرها عقيداً يُدعى «سنبل»، و لمّأ ذهبتُ إليه لتوقيع الجواز، دار بيني و بينه حديث طُرحَتْ فيه مسائل شتّى، و واصلناه حتى سألني قائلًا: هل ترون الشيخين من الذين حضروا بيعة الرضوان.۱
قلت: ورد في بعض الأحاديث أنّهما حضراها و بايعا رسول الله صلى الله عليه و آله أيضاً.
قال: فَلِمَ ترون أنّهما من أهل جهنّم؟!
قلتُ: لا، لا نرى أنّهما كذلك.
قال: فهل تعتقدون أنّهما من أصحاب الجنّة؟
قلتُ: لا. الجنّة و النار للّه تعالى، و نحن لا نعلم من يسوقه الله إلى الجنّة و من يسوقه إلى جهنّم. يَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَآءُ وَ يَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.
قال: أنتم لستم على يقين من ذهاب أحد إلى الجنّة؟
قلتُ: و لِمَ ذلك! نحن على يقين أنّ رسول الله يذهب إلى الجنّة.
قال: كيف تقول ذلك؟
قلتُ: إذا لم يذهب إلى الجنّة و هو صفوة الخلق و نقاوته، فَلِمَ خَلَقَ الله الجنّة!
قال: و هل أنتم على يقين من ذهاب غيره إليها؟
قلتُ: نعم، نحن على يقين من ذهاب الحسن و الحسين عليهما السلام إليها أيضاً.
قال: ما الدليل على ذلك؟
قلتُ: حديث رسول الله صلى الله عليه و آله: الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة.
قال: و هل أنتم على يقين من ذهاب غيرهما إليها؟
قلتُ: نعم، نحن على يقين من ذهاب عليّ بن أبي طالب إليها أيضاً.
قال: ما الدليل على ذلك؟
قلتُ: ما جاء في ذيل الحديث السابق، و هو قوله صلى الله عليه و آله: أبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا، فإذأ ذهب الحسن و الحسين إلى الجنّة، فلا جرم أنّ أباهما، و هو خير منهما، يذهب إليها أيضاً.
قال: و هل تعتقد أنّ شخصاً آخر يذهب إليها حتماً؟
قلتُ: نعم، فاطمة الزهراء عليها السلام.
قال: ما الدليل؟
قلتُ: ما ورد في الحديث، و هو قوله: فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، مَنْ آذَاها فَقَدْ آذَانِي، وَ مَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ ... إلى آخره، فإذا ساق الله فاطمة إلى جهنّم، فقد آذى فاطمة و نبيّه، و الله لا يؤذي نبيّه أبداً.
قال: يا خبيث؛ أراك تشكّ في ذهاب أبي بكر و عمر فحسب إليها.
قلتُ: لا أجد أخبث منّي إلّا أنت! عليك أن تتحدّث بدليل و برهان و تضرب عن التعصّب صفحاً، و إذا كان النبيّ و أبو بكر قد ارتابا في ذهاب أبي بكر إلى الجنّة، فكيف تزعم أنّك على يقين من ذهابه إليها!
قال: أين ورد أنّهما قد ارتابا في ذلك!
فقرأتُ الحديث، و قلتُ: لا يستبين من هذا الحديث شكّ النبيّ فحسب، بل يُشَمُّ منه أيضاً كفر القوم و دخولهم في جهنّم، لأنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال بصراحة: لا أشهد.
على أيّة حال، هذا الحديث وارد، و أنت تقول: أنا على يقين. و إذا لم يشكّ أبو بكر، فَلِمَ سأل ذلك! و إذا لم يشكّ رسول الله، فَلِمَ قال: لا! و يتّضح من هذا الحديث أيضاً أنّ بيعة الرسول، و قتال أعداء الدِّين، و أداء
سائر الفرائض، كلّ ذلك ينفع المرء إذا ظلّ مستقيماً و لم يقترف عملًا مخالفاً للّه و رسوله حتى آخر عمره، و إلّا فيمكن أن تُحبط بعضُ المعاصي أثر العبادات الماضية.
ثمّ قال: أرني هذا الحديث!
قلتُ: هات مُوَطَّأ مالك لُاريك. و عند ما رجعتُ إلى وطني، حدّثتُ المرحوم آية العظمى السيّد البروجرديّ بالحوار المذكور فسُرّ كثيراً».
إلى هنا تنتهي رسالته في شأن هذا الحديث، ثمّ قال: و لمّا تشرّفت بالحجّ من قابلٍ، التقيتُ بالعقيد سنبل و سألته عن أحواله. فقال: وجدتُ الحديث في مُوَطّأ مالك.۱
و من الضروريّ هنا أن نشير إلى بعض النقاط:
الاولى: نقل دِهْخُدا في معجمه اللغويّ (معجم لغويّ فارسيّ)، مادّة (ذو الفقار) عن ترجمة تأريخ الطبريّ أنّ أبا بكر، و عمر جُرحا في غزوة احد و رجعا.۱
لقد بان رجوع أبي بكر، و عمر من الحرب، بَيدَ أنّ جرحهما كذب محض. فأمّا حدث تحريف متعمَّد في ترجمة «تاريخ الطبريّ» أو في النقل عن الترجمة. و على أيّة حال فعندي دورتين مختلفتين من «تاريخ الطبريّ»، و ليس فيهما هذا الموضوع. و كذلك هو لم يرد في تاريخ «البداية و النهاية» لابن كثير الدمشقيّ مع شدّة تعصّبه في تسنّنه، و لم يذكره صاحب «السيرة الحلبيّة»، و لا ابن هشام في سيرته. كما لم يُشَرْ إليه في كتاب «الكامل في التأريخ» لابن الأثير الجزريّ، و «روضة الصفا» لميرخواند، و «حبيب السير» لخواندمير، و «تاريخ المسعوديّ»، و «تاريخ اليعقوبيّ» بل لم يذكر في مغازي الواقديّ الذي يعدّ من أقدم الوثائق التأريخيّة، و لم ينقله ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة».٢
لم يقصد رسول الله القتل يوم احُد
الثانية: أنّنا ذكرنا هنا الآية وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ و شأن نزولها في
غزوة احُد فحسب، و لم نتطرّق إلى مواصفات غزوة احُد و وقائعها كلّها، و هي كثيرة. و مَن وقف على تفاصيل تأريخها، وجد أنّ المشركين لم يحاربوا المسلمين يومئذٍ، بل ذبحوهم و قطّعوهم إرباً إرباً بسواطيرهم. مع ذلك لم يفكّر النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله بإراقة الدماء و ارتكاب المذابح، و لم يحاول التدارك و تسكين الفورات العاطفيّة، بل كان يدافع لا غير. و كان هذا دأبه كلّما حملوا عليه. و لم يأمر بالقتل و السلب و الغارة بعد أن وضعت الحرب أوزارها. إذ إنّ مهمّته الربّانيّة لم تكن القتل و الذبح، بل كانت مهمّته هداية المشركين و ارشادهم إلى الإسلام. و أنّ أخلاقه العظيمة و صفاته الكريمة هي التي دفعتهم إلى الإسلام، و قد أسلم كثير من امراء جيشهم كخالد بن الوليد، و عكرمة بن أبي جهل. فلاحظوا كم كانت مهمّته دقيقة، إذ جمع بين الدفاع و القتل، و بين إمساك يده رجاء إسلامهم و هدايتهم.
و كان اولئك الكافرون من أرحام رسول الله صلى الله عليه و آله، بل كان بعضهم من أرحامه القريبين. و كانوا منه بمنزلة الأبناء، و لكن أيّ أبناء! أبناء متغطرسون و مغرورون قطعوا قرابة خمسمائة كيلومتر من مكّة إلى المدينة لإطفاء النور النبويّ و بتلك الطريقة المعروفة لئلّا تكون الرئاسة و الإمارة للنبيّ صلى الله عليه و آله، و لكي لا ينقادوا لحكمه.
و هذا جهل، و هو جهل عميق مشوب بالكبر و الحسد و الغِلّ و الانتقام و الطمع، بَيدَ أنّ الرسول الكريم صلى الله عليه و آله واجه تلك الأفعال السيّئة القبيحة بدعائه المعروف: اللهُمَّ اهْدِ قَوْمي فَإنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.۱
اي قمر طلعت و مكّى مطلع | *** | مَدَنى مهد و يمانى برقع |
شقّة برقع تو برق افروز | *** | لمعة نور رُخت برقع سوز |
ليلة القدر ز مويت ثارى | *** | وحى منزل ز لبت گفتارى |
با تو آنان كه در جنگ زدند | *** | دُرّ دندان تو را سنگ زدند |
گوهرين جام لبت را خستند | *** | ساغر دولت خود بشكستند |
دُر دندانت به خون پنهان شد | *** | رشته لؤلو تو مرجان شد |
گوئيا صيرفى مُلك و مَلَك | *** | زد از آن سنگ زرت را به محك |
لا جرم حُقّهات از ضربت سنگ | *** | اهد قومى به برون داد آهنگ |
و نقل ابن أبي الحديد عن الواقديّ قوله: و روى سعد بن أبي وقّاص
قال: و لقد حرصتُ على قتل أخي عتبة بن أبي وقّاص حرصاً ما حرصتُ على شيء قطّ، و إن كان ما علمتُ لعاقّاً بالوالد، سيّئ الخُلُق، و لقد تخرّقتُ صفوف المشركين مرّتين أطلب أخي لأقتله، و لكنّه راغ منّي رَوَغان الثعلب. فلمّا كان الثالثة، قال لي رسول الله صلى الله عليه و آله: يَا عَبْدَ اللهِ! ما تُرِيدُ؟! أ تُرِيدُ أنْ تَقْتُلَ نَفْسَكَ؟ فكففتُ. فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: اللهمّ لا تحولنّ الحول على أحدٍ منهم!۱
و نقل ابن أبي الحديد عن الواقديّ قال: [لمّا] رأى رسول الله صلى الله عليه و آله بحمزة مَثْلًا شديداً، حزنه ذلك. فقام أبو قَتادة الأنصاريّ فجعل ينال من قريش لما رأى من عَمّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم. و في كلّ ذلك يشير إليه أن أجلس ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: يَا أبَا قَتَادَةَ! إنَّ قُرَيْشاً أهْلُ أمَانَةٍ، مَنْ بَغَاهُمُ العَوَاثِرَ٢ كَبَّهُ اللهُ لِفِيهِ! وَ عَسَى أنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ أنْ تَحْقِرَ عَمَلَكَ مَعَ أعْمَالِهِمْ، وَ فِعَالَكَ مَعَ فِعَالِهِمْ! لَوْ لا أنْ تَبْطَرَ قُرَيْشٌ لأخْبَرْتَهَا بِمَا لَهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
فقال أبو قتادة: و الله يا رسول الله! ما غضبت إلّا للّه و رسوله حين نالوا منه (من حمزة) ما نالوا. فقال: صدقتَ! بِئْسَ القَوْمُ كَانُوا لِنَبِيِّهِمْ.٣
الثالثة: نقل ابن أبي الحديد عن الواقديّ أنّه قال: إنّ الذي شجّ رسول الله صلى الله عليه و آله في جبهته ابن شهاب، و الذي أشظى رباعيّته و أدمى شفتيه عُتبة بن أبي وقّاص، و الذي أدمى وَجْنَتَيْهِ حتى غاب الحلق فيهما ابن قميئة، و إنّه سال الدم من الشجّة التي في جبهته حتى أخضل
لحيته. و كان سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه و رسول الله صلى الله عليه [و آله] يقول: كَيْفَ يَفْلَحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وَ هُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ تَعَالَى؟! فأنزل الله تعالى قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ.۱ و ٢
و نجد هنا أنّ الذات الأحديّة المقدّسة العزيزة العظيمة لا تُبقى لنبيّها حتى رجاءً واحداً، و تسلب منه الحكم بعدم الفوز و الفلاح، و يقول بجدّ: أنت عبدي و ليس لك أن تتدخّل في أمري! كيف تحكم بعدم فلاحهم؟! إنّي أنا الله، إنّي ذو العزّة و الجلال، و لا يرد في عظمتي حتى رجاء الغير و حكمه، و إن كان صادراً من خاتم الأنبياء و المرسلين.
الرابعة: نقل أمين الإسلام أبو عليّ الفضل بن الحسن في كتاب «إعلام الوري» عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: انهزم الناس عن رسول الله يوم احُد فغضب غضباً شديداً، وَ كَانَ إذَا غَضِبَ انْحَدَرَ مِنْ وَجْهِهِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤِ مِنَ العَرَقِ. فنظر فإذا عليّ عليه السلام إلى جنبه فقال: مَا لَكَ لَمْ تَلْحَقْ بِبَنِي أبِيكَ! فقال عليّ عليه السلام: يَا رَسُولَ اللهِ! أ كُفْراً بَعْدَ الإسْلَامِ؟ إنَّ لي بِكَ اسْوَةً (الحديث).٣
و نحن نعلم مقام مولى المتّقين عليه السلام و عظمته و إيثاره و اخوّته و تضحيته و سوابقه المتألّقة، بَيدَ أنّ المكان هنا هو مكان العزّة، و رسول الله
في مقام الوحدة المنيع لا يستطيع أن يرى شخصاً آخراً غيره حتى لو كان عليّاً. و لهذا قال: «ما لك لم تذهب»؟! إلّا أن يصير عليّ هنا نفس النبيّ، و قد صار كذلك، و قال: أنا معك! «إنّ لي بك اسوة»!
و هذا الخطاب هو ما ينبغي أن يصدر عن رسول الله صلى الله عليه و آله كما ينبغي أن يُلقى مثل ذلك الجواب من أمير الموحّدين، تماماً كخطاب سيّد الشهداء عليه السلام أخاه أبا الفضل و أولاد عقيل ليلة عاشوراء.
الخامسة: ذكر ابن هشام في سيرته قائلًا: لمّا رأى رسول الله صلى الله عليه و آله جسد حمزة و قد مُثِّل به قال: لَوْ لا أنْ تَحْزَنَ صَفِيَّةُ، وَ يَكُونَ سُنَّةَ مِنْ بَعْدِي، لَتَرَكْتُهُ حتى يَكُونَ في بُطُونِ السِّبَاعِ وَ حَوَاصِلِ الطَّيْرِ. وَ لَئِنْ أظْهَرَنِي اللهُ عَلَى قُرَيْشٍ في مَوْطِنٍ مِنَ المَوَاطِنِ لأمْثُلَنَّ بِثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ.۱
و نقل ابن هشام عن ابن إسحاق أنّ هذه الآية نزلت: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ، وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ.٢ و٣
لا يقاوم شيء في مقام العِزّة الربوبيّة
و نلحظ هنا أيضاً أنّ الله جعل نبيّه في ظلّ ذلّ العبوديّة المحضة و خاطبه قائلًا: ليس لك أن تحكم، فالحكم للّه، و هو الذي أمر أن تكون العقوبة على قدر الجريمة، لا أكثر، و في الوقت نفسه، فإنّ رفع اليد عن
العقوبة أفضل، و هو محمود دائماً عند المؤمنين بالله.
و هذه الآية قائمة على أساس قانون العدالة، و قانون الأخلاق الكريمة في آن واحد. و هذان القانونان كلاهما محمودان و مرضيّان. و ينبغي أن يتجلّيا في نبيّ الله المتخلّق بأخلاق الله من طريق أولى، كما ينبغي أن يعمل بهما أفضل من غيره و أكثر. فلهذا، يأمر مقام العبوديّة المطلقة قائلًا: إصبر. و كان صلى الله عليه و آله يصبر في كلّ موطن و موضع، و لم يمارس أعماله من وحي الثأر و الانتقام، و كان يتعامل مع الناس كافّة بالمواساة و المساواة. صلى اللهُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ!
صبر رسول الله صلى الله عليه و آله و إحسانه
و جاء في كتب التأريخ جميعها أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: «لئن أظهرني الله لأمثلنّ بثلاثين منهم»، و انفرد صاحب «روضة الصفا» بقوله: بسبعين منهم.
و لعلّ درجة الإحسان تكون من نصيب المؤمن في مثل هذه المواطن من الصبر و التحمّل، إذ قال تعالى بعد الآيتين المذكورتين: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.۱
و في الخبر أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله سئل عن مقام الإحسان، فقال اعْبُدِ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ!
أجل، إنّ هدفنا من الإسهاب في الحديث عن غزوة احُد هنا عند شرحنا آية الهداية: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ٢ هو أن يعلم الجميع أنّ الفاتح الوحيد و المتحمّس الحميم و المضحّي المتفاني و المولَع برسول الله أيّ ولع، و الحامي الفريد له، و الذابّ الحقيقيّ عن
الإسلام و القرآن هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. و أنّ أبا بكر، و عمر، و عثمان كانوا من الفارّين، و أنّ الآية الكريمة: و ما محمد إلا رسول ... أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، نزلت فيهم و في أترابهم و نظائرهم.
و هؤلاء الذين تحمّسوا من أجل الإسلام بعد وفاة النبيّ و رفعوا عقيرتهم: وا إسلاماه! هم الذين تركوا النبيّ وحده بالأمس، و أودعوه بين الحديد و النار بأيدي المتهوّرين من مشركي قريش، و أنقذوا أنفسهم منهزمين إلى الجبل، و كان أحدهم كالارْويّة على حدّ تعبيره.
و ليس اعتباطاً حين يطلب رسول الله صلى الله عليه و آله كتفاً و دواةً ليُحْكِمَ أمر عليّ بن أبي طالب، أن ينسبه عمر إلى الهَجْر و الهذيان و التخريف. و في الوقت نفسه يتلو رسول الله هذه الآية لفلذّة كبده فاطمة الزهراء عليها السلام و يقول لها: بُنيّتي فاطمة: اقرئي هذه الآية: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ - إلى آخر الآية.
اللحظات الأخيره من عمر رسول الله و وصيّته لفاطمة عليها السلام
قال الشيخ الكبير و المفسّر العظيم أمين الإسلام أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسيّ قدّس الله نفسه صاحب تفسير «مجمع البيان» في كتابه النفيس الممتع «إعلام الوري»: وضع عليّ بن أبي طالب عليه السلام رأس رسول الله صلى الله عليه و آله في حجره، فاغمي عليه، و أكبّت فاطمة تنظر في وجهه و تندبه و تبكي و تقول:
وَ أبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ | *** | ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأرَامِلِ |
ففتح رسول الله صلى الله عليه و آله عينيه و قال بصوت ضئيل: يَا بُنَيَّةُ! هَذَا قَوْلُ عَمِّكِ أبِي طَالِبٍ، لَا تَقُولِيهِ! وَ لَكِنْ قُولِي: «و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم».
فبكت طويلًا فأومأ إليها بالدنو منه. فدنت إليه. فأسرّ إليها شيئاً تهلّل
له وجهها.۱ ثمّ قضى و يد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه، ففاضت نفسه فيها فرفعها إلى وجهه فمسحه بها. ثمّ وجّهه و غمّضه و مدّ عليه إزاره و اشتغل بالنظر إلى أمره.
فسئلت: ما الذي قال لك رسول الله فسرى عنك؟! قالت: أخبرني أنّي أوّل أهل بيته لحوقاً به و أنّه لن تطول المدّة بي بعده حتى أدركه فسرى ذلك عنّي.٢
و من الواضح هنا أنّ رسول الله لم يُرِدْ أن يمنع فاطمة من حقيقة و مفاد الشعر الرفيع الذي أنشده أبو طالب عليه السلام. بل أراد أن يُشعرها بأنّ يوماً عصيباً ينتظرها، و أنّ الراجعين عن الإسلام سوف يقتلونها و يغصبون حقّها و حقّ بعلها، و كلّهم سيعودون إلى البربريّة و الجاهليّة حسب هذه الآية. و أنّها و بعلها عليّ بن أبي طالب من الشاكرين، و أنّ ذيل الآية: وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ تعنيهما.
كيف يمكن أن نتصوّر أنّ رسول الله يمنع بنته من شعر حاميه و معينه و ناصره الوحيد في مكّة في حين أنّه عند ما ذكر شعر أبي طالب سُرَّ سروراً بالغاً حتى ضحك من شدّة السرور و الفرح؟
شعر أبي طالب في مدح رسول الله صلى الله عليه و آله
ذكر عليّ بن عيسى الإربليّ في باب معجزات رسول الله أنّ من معجزاته نزول المطر بدعائه صلى الله عليه و آله، و ذلك حين شكا إليه أهل المدينة فدعا الله، فمطروا حتى أشفقوا من خراب دورها فسألوه في كشفه، فقال: اللهُمَّ حَوَالَيْنَا وَ لَا عَلَيْنَا. فَاسْتَدَارَ حتى صَارَ كَالإكْلِيلِ و الشَّمْسُ طَالِعَةٌ في المَدِينَةِ، و المَطَرُ يَجِيءُ عَلَى مَا حَوْلَهَا يرى ذَلِكَ مُؤْمِنُهُمْ وَ كَافِرُهُمْ.
فضحك صلى الله عليه و آله و قال: لِلَّهِ دَرُّ أبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ حَيَّاً قَرَّتْ عَيْنَاهُ. فقام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام و قال: يا رسول الله! كأنّك تريد قوله:
وَ أبْيَضَ يُسْتَسْقَي الغَمَامَ بِوَجْهِهِ | *** | ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ للأرَامِلِ |
يَطُوفُ بِهِ الهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ | *** | فَهُمْ عِنْدَهُ في نِعْمَةٍ وَ فَوَاضِلِ۱ |
و أخرج البخاريّ في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال: ربّمأ ذكرتُ قول أبي طالب و أنا أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه و آله على المنبر يستسقى. فما ينزل حتى يجيش كلّ ميزاب:
وَ أبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامَ٢ بِوَجْهِهِ | *** | ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأرَامِلِ٣ |
و روى البيهقيّ في «دلائل النبوّة» عن أنس أنّ أعرابيّاً جاء فقال: يا رسول الله! لقد أتيناك مَا لَنَا بعيرٌ يَنَطُّ،۱ وَ لَا صَبِيّ يَصِيحُ. فصعد صلى الله عليه و آله المنبر ثمّ رفع يديه فقال: اللهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيثاً، مَرِيَّاً مَرِيعاً، غَدَقاً طَبَقاً، عَاجِلًا غَيْرَ رَابِثٍ،٢ نَافِعاً غَيْرَ ضَارٍّ! فما ردّ يديه في نحره حتى ألقت السماء بأردافها، و جاءوا يضجّون: الغَرَقَ الغَرَقَ.
فضحك رسول الله صلى الله عليه و آله حتى بدت نواجذه، ثمّ قال: لِلَّهِ دَرُّ أبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ حَيَّاً قَرَّتْ عَيْنَاهُ، مَنْ يُنْشِدُنَا قَوْلَهُ؟ فقام عليّ عليه السلام فقال: يا رسول الله! كأنّك أردت قوله:
وَ أبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامَ بِوَجْهِهِ | *** | ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأرَامِلِ |
يَلُوذُ بِهِ الهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ | *** | فَهُمْ عِنْدَهُ في نِعْمَةٍ وَ فَوَاضِلِ٣ |
و قال السيوطيّ أيضاً: هذا من قصيدة لأبي طالب يمدح بها النبيّ صلى الله عليه و آله و يصف تمالؤ قريش عليه، و أوّلها:
وَ لَمَّا رَأيْتُ القَوْمَ لَا ودَّ فِيهِمُ | *** | وَ قَدْ قَطَعُوا كُلَّ العُرَى وَ الوَسَائِلِ |
إلى أن قال:
كَذَبْتُمْ وَ بَيْتَ اللهِ نُبْزِي مُحَمَّداً | *** | وَ لَمَّا نُطَاعِنْ حَوْلَهُ وَ نُنَاضِلِ |
وَ نُسْلِمُهُ حتى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ | *** | وَ نَذْهَلَ عَنْ أبْنَائِنَا وَ الحَلائِلِ |
و قال:
وَ مَا تَرَكَ قَوْمٌ لَا أبَا لَكَ سَيِّداً | *** | يَحُوطُ الذِّمَارَ في مِكَرٍّ وَ نَائِلِ۱ |
و أضاف العلّامة الأمينيّ بعد البيتين اللذين يبدآن بقوله: و أبيض ... و يلوذ به الهلّاك ... هذا البيت:
وَ مِيزَانُ عَدْلٍ لا يخيسُ شَعِيرَةً | *** | وَ وَزَّانُ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ هَائِلِ٢ |
يستبين من هذه المطالب أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله كان يحبّ السيّد أبا طالب حبّاً شديداً، و كان يهتمّ بشعره اهتماماً تامّاً، بَيدَ أنّه كان يرى في تلك المرحلة العصيبة -و هو على فراش الموت- و قائع مقلقة إلى درجة أنّ شعر أبي طالب يُنسى معها.٣
هل يمكن أن نتصوّر خطراً أكثر من طعن رسول الله بالهذيان و التخريف؟ و من ثمّ عزل وليّ الدين الأعظم عليّ المرتضى سيّد الوصيّين أحد الثقلَين عن رئاسة المسلمين و زعامتهم؟ و التجرّؤ على ساحة الرسول الأكرم بوصفه بالهجر حين طلب كتفاً و دواة ليُحكم أمر عليّ، و يعلن للناس وصايته بتعليمات خطّيّة مؤكّدة، ناهيك عن خطبه و كلماته التي كان يُدلي بها! و إثارة الضجّة برفع الصوت عالياً بكلمة: كَفَانَا كِتَابُ اللهِ، و إكثار اللغط و الجَلَبة و الضوضاء؟ و إيذاء رسول الله و إعناته، ليفارق الدنيا مغموماً مهموماً حزيناً، بعد ثلاث و عشرين سنة من القيام بمهمّة النبوّة؟
أمر رسول الله بسدّ الأبواب و الإتيان بالكتف و الدواة لكتابة الوصيّة
قال مير خواند -و هو سنّيّ المذهب- في «روضة الصفا»: قالت امّ سلمة: شدّ رسول الله على رأسه المبارك عصابة أيّام مرضه، و صعد المنبر، و استهلّ كلامه بالاستغفار لشهداء احُد، ثمّ أمر بسدّ أبواب الصحابة الشارعة في المسجد إلّا باب عليّ. و قال: لا بدّ من صحبته لي و صحبتي له.
قال عمر: يا رسول الله! إئذن لي أن أدع خوخة أرى فيها خروجك من البيت إلى المسجد! فلم يأذن له. فقال أحد الصحابة: يا رسول الله! ما هو المراد من فتح الأبواب؟! و ما سبب سدّها؟ قال: ما بأمري سددتها و لا بأمري فتحتها.
(إلى أن قال): روى علماء السير أنّه لمّا اشتدّت العلّة برسول الله و كان أصحابه مجتمعين حوله في حجرته قال: إئتوني بدواة و صحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده. فاختلفوا، فمن قائل: قرّبوا يكتب لكم. و من قائل: هل هذا كلام من اشتدّ به المرض، أم كلام جِدّ؟ فقال عمر: غلب على رسول الله الوجع. عندنا القرآن حسبنا كتاب الله. فمنهم من أيّد
عمر، و منهم من أصرّ على خلافه و قالوا: قرّبوا له ما أراد، فاختصموا، و علت الأصوات في مجلسه المبارك، و تجاوز الاختلاف حدّ الاعتدال.
فقال النبيّ الأقدس صلى الله عليه و آله: قوموا، لا ينبغي عند نبيّ نزاع! و مع ذلك قال: اوصيكم بثلاث: أخرِجوا المشركين من جزيرة العرب! و أجيزوا الوفد بنحو ما كنت اجيزهم.
روى سليمان هذا عن سعيد بن جبير و قال: لا أعلم، لَمْ يَرَ سعيد بن جبير مصلحة في ذكر الثالثة، أو أنّه ذكرها لكنّ عناكب النسيان نسجت خيوطها في خاطري؟
قال ابن عبّاس: الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله و بين أن يكتب لهم.۱ (إلى أن قال:)
قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: أوصى النبيّ في مرضه الذي مات فيه. و لمّا فرغ، نزلت سورة النصر. قلتُ: يا رسول الله! هذه وصيّة المودّعين؟
قال: نعم يا عليّ! ضاق صدري من هذه الدنيا. ثمّ اتّكأ، و أغمض عينه لحظة. و لمّا أفاق قال: يا جبرئيل! خذني و فِ بما وعدتني! ثمّ دعاني إليه و وضع رأسه المبارك على منكبي، و شحب لون وجهه الميمون، و تصبّب جبينه عرقاً.
حزن فاطمة عليها السلام لفقد أبيها
و لمّا رأت فاطمة ما به، قامت لجزعها، و أخذت
أوْصَى النَّبِيّ فَقَالَ قَائِلُهُمْ | *** | قَدْ ضَلَّ يَهْجُرُ سَيِّدُ البَشَر |
وَ أرَى أبَا بَكْرٍ أصَابَ وَ لَمْ | *** | يَهْجُرُ وَ قَدْ أوْصَى إلى عُمَر |
بأيدي الحسنين و صاحت: يا أبتاه! من يرحم حال ابنتك فاطمة بعدك؟ و من يواسي و لديك الحسنين؟! و من يحفظ أفواج الناس القادمين من أطراف الآفاق؟ يا أبتاه! بنفسي أنتَ! ويل اذُني التي لن تسمع كلامك الطيّب، و ويل عيني التي لن ترى وجهك الحسن!
و لمّا سمع النبيّ الأقدس صلى الله عليه و آله أنين فاطمة، فتح عينيه و دعاها إليه و وضع يده المباركة على صدر ابنته العزيزة و قال: اللهمّ اربط على قلب فاطمة! ثمّ قال لها: أبشري، فأنتِ أوّل أهلي لحوقاً بي!
قال عليّ عليه السلام: قلتُ: يا فاطمة! اسكتي و لا تذرّي الملح على جرح رسول الله! فقال النبيّ: دعها تذرف دموعها على أبيها! ثمّ أغمض عينيه المتعبتين. و قالت فاطمة للحسنين: قوما و ائتيا أبا كما الرحيم! لعلّه ينصحكما بما يسكّن قلبيكما. فامتثل قرّتا عين الزهراء كلام امّهما، و جاءا عند رسول الله. فقال الحسن: يا أبتاه كيف نصبر على فراقك؟! و من الذي نودعه أسرارنا؟! و من يرحمنا أنا و أخي و أبي بعدك؟! ...
قال عليّ بن أبي طالب: فبكيتُ جزعاً ...۱.
و قال رسول الله لعائشة: يا عائشة! عليكِ أن تجلسي في ركن بيتك،
و تمسّكي بعروة الصبر و الستر و الحفظ الوثقى كما قال الحقّ تعالى: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.۱
قال هذا الكلام و بكى بكاءً سجرت به نار المصيبة عند الجميع. قالت امُّ سلمة: ممّ بكاؤك و قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟!
قال: إنَّمَا بَكَيْتُ رَحْمَةً لُامَّتِي. ثمّ بشّر فاطمة، فسألته: أين أجدك يوم الفزع الأكبر؟! قال: تجديني على باب الجنّة تحت لواء الحمد، و أنا مشغول باستغفار الرحمن من ذنوب امَّتي ....
و وقف عزرائيل على باب حجرة رسول الله المباركة بهيئة أعرابيّ، و قال: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أهْلَ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَ مَوْضِعَ الرِّسَالَةِ! أ تأذنوا لي بالدخول رحمكم الله؟!
و كانت فاطمة الزهراء جالسة على فراش أبيها، فقالت: رسول الله مشغول بنفسه فلا تتيسّر زيارته الساعة.
ثمّ استأذن مَلَك الموت ثانية فسمع الجواب نفسه. و في الثالثة رفع صوته عالياً حتى رجف لهيبته كلّ من كان حاضراً في المنزل المقدّس.
و كان رسول الله صلى الله عليه و آله مغميّاً عليه في تلك الساعة، فأفاق، و فتح عينيه المباركتين و سأل: ما خطبكم! فأخبروه. فقال: يا فاطمة! هل علمتِ مع مَن تكلّمتِ! قالت: اللهُ وَ رَسُولُهُ أعْلَمُ.
قال: هَذَا مَلَكُ المَوْتِ، هَادِمُ اللَّذَّاتِ، وَ قاطع الامْنِيَّاتِ، وَ مُفَرِّقُ
الجَمَاعَاتِ، وَ مُرَمِّلُ النِّسَاءِ، وَ مُيَتِّمُ الأوْلَادِ.
و لمّا سمعت فاطمة ذلك قالت: يَا مَدِينَتَاهْ! خَرِبَتِ المَدِينَةُ.
فَأخذ رسول الله يدها و ضمّها إلى صدره المبارك، و لم يفتح عينيه برهة فظنّ الحاضرون أنّ روحه عرجت إلى ذي العرش. فهمست فاطمة في اذُنه قائلة: يَا أبَتَاهْ! فلم تسمع شيئاً، فقالت: روحي لك الفداء! انظر إليّ و حدّثني!
ففتح صلى الله عليه و آله عينيه و قال: يا بُنيّتي! دعي عنكِ البكاء فإنّ حَمَلَة العرش يبكون لبكائكِ. و نَكَفَ الدمع عن وجه عزيزته بيده، و اهتمّ بتسكينها و بشّرها و قال: اللهمّ مُنّ عليها بالصبر لفراقي! و قال لها: إذا قُبضت روحي فقولي: إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. يا فاطمة! إنّ كلّ مَن أصابته مصيبة سيرى عنها عوضاً.
قالت فاطمة: يا رسول الله! من يكون و ما ذا يكون عنك عوضاً؟! ثمّ أغمض عينيه مرّة اخرى، فقالت فاطمة: وَا كَرباه! فقال رسول الله: لا كرب و لا غمّ على أبيكِ بعد اليوم. أي: أنّ الحزن و الاضطراب اللذين يسيطران على الإنسان سببهما التعلّقات الجسمانيّة، و الآن قطعت علائق البشريّة، و تناهى إلى الأسماع النداء المتمثّل بقوله تعالى: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. و ستسرع الروح اللطيفة الوديعة إلى جوار رحمة ربّ العالمين. و قد شوهد الرَّوح و الريحان و جنّة النعيم، فلن تبقى حسرة و حزن و ألم. ۱
حديث العلّامة السيّد شرف الدين في فضيلة الزهراء عليها السلام (ت)
...۱
و يواصل مير خواند الموضوع فيقول: لمّا دُفن رسول الله، و رجع أصحابه من قبره، جاءوا إلى بيت فاطمة الزهراء عليها السلام و عزّوها. فسألتهم قرّة عين النبيّ: دفنتموه؟! قالوا: نعم! قالت: كيف طابت نفوسكم أن تحثوا عليه التراب؟! إنّه نبيّ الرحمة! قالوا: يا بنت رسول الله! نحن أيضاً محزونون لهذا المصاب، و لكن لا بدّ من التسليم لحكم الباري سبحانه و تعالى.
و جاء في «مقصد أقصي» (= المقصد الأقصى): كلّما نظرت فاطمة إلى الحسن و الحسين، تحسّرت و تأوّهت لِيُتم ولديها حتى تشبّ النار من قلبها، و يبكي الناس دماً لمصابها، و كان الأحباب و الأصحاب جميعهم يبكون معها و ينشدون هذه الأبيات في مخاطبة سيّد الكائنات و خلاصة
الموجودات:
اى خواجه! زين شكسته دلان تا چه ديدهاى | *** | كز ما رميده جاى دگر آرميدهاى! |
نشناختيم قدر تو أي ساية خداى | *** | زان روى سايه از سر ما در كشيدهاى |
اين تنگناى فرش چو در خور تو نبود | *** | مسكن فراز عرش مُعلّا گزيدهاى |
بى بدرقه به كوى وصالش گذشتهاى | *** | بى واسطه به حضرت خاصش رسيدهاى |
تو مرغ آشيانه قدسى! غريب نيست | *** | گر باز ازين قفس سوى گلشن پريدهاى |
ما را شمامهاى بفرست أي گل اميد | *** | زان شمّه كز رياض حقايق شنيدهاى۱ |
در كام جان تشنه دلان جرعهاى بريز | *** | زان خمرِ بى خمار كه از حقّ چشيدهاى۱ |
أهمّيّة مقام ولاية رسول الله و خلافته
أجل، إنّ محنة رسول الله في مرضه الذي مات فيه يعود معظمها إلى رحمته بالمسلمين، إذ كان يرى امّته بلا راعٍ، و كان يدرك و يفهم جيّداً الخطط المدروسة المدبّرة لعزل أمير المؤمنين عليه السلام، و ترك الامّة بلا إمام و ولى.
و كان صلى الله عليه و آله يرى كالشمس الساطعة أنّ خلود نبوّته و حراستها و تثبيت القرآن و تعزيزه منوطان بوجود عليّ بن أبي طالب. و إذا كبراء القوم و رموزهم قد شدّوا عقد مآزرهم بخطط مريبة لاقتلاع هذه الشجرة و التربّع على مسند الإمامة. و الويل للُامّة التعِسة إذا ولى امورها إنسان غير بصير و غير مطّلع.
و إذا حلّ الغراب و الحدأة محلّ البلبل في روضة النور و الوحدة و العرفان و المعرفة، و يسجن الطائر الغرِّيد المحلّق في روضة العلم و الدراية و البصيرة في القفص مهيض الجناح. و يجلس الجلّادون و الصيّادون المتربّصون على أريكة الأمر و النهي و الحكومة باسم النصراء و الحماة و الناصحين و المتحمّسين و الأحمّاء، و يبدّلون النبوّة إلى حكومة و رئاسة ظاهريّة.
و كان أبو بكر، و عمر، و عثمان، و عبيدة بن الجرّاح، و المغيرة بن شُعبة، و اسيد بن حُضَير، و خالد بن الوليد، و قُنفذ بن عُمير، و سالم مولى أبى حذيفة من الأشخاص المعروفين الذين تخبّطوا كالمجانين لإطفاء نور
الولاية.۱
قال ابن أبي الحديد: و ممّن دخل بيت فاطمة مع عمر و عصابته: اسَيْد بن حُضَيْر، و سَلَمَة بن سَلَامَة بن قُرَيش، و قيس بن شمّاس، و عبد الرحمن بن عوف، و محمّد بن مَسْلَمة و هو الذي كسر سيفَ الزبير.٢
و كان هؤلاء رجالًا معروفين مشهورين بارزين خُدع عوامّ الناس بإجرائهم المذكور فساروا خلفهم كالدهماء. و تمّ التحرّك نحو الكفر و الضلال و الارتداد عن محور الولاية التي تمثّل روح النبوّة و حقيقتها من قبل شر ذمة قليلة، و سلك سائر الناس مسلكهم كالهمج الرعاع.
أمر رسول الله بخروج وجوه المهاجرين و الأنصار في جيش اسامة
و عقد النبيّ صلى الله عليه و آله -و هو على فراش الاحتضار- لواء الحرب لشابٍّ يدعى اسامة، و أمره بالخروج من المدينة فوراً. و أصدر
أمراً جازماً جادّاً يقتضي خروج جميع الوجوه المعروفة -الذين ذكر أسماءهم واحداً بعد آخر- تحت لواء اسامة. و كان هدف رسول الله -و هو يرى دنوّ أجله- من ذلك التأكيد و الإبرام و الإصرار بعد الإصرار، و لعن المتخلّفين عن جيش اسامة بذلك التعجيل و التشديد، إخلاء المدينة من شرّ وجود اولئك المدّعين الأظآر،۱ و تمهيد الأرضيّة لاستقرار حكومة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ليتحقّق أمر الخلافة بلا منازع ينازعه، و لا تكن هناك عقبة في طريقة.
و هل يُرتجى هدف غير هذا من وراء تعبئة ذلك الجيش العظيم بقيادة شابّ كاسامة، و أمر المشيخَة أن ينضووا تحت لوائه و يعملوا بأوامره و التعجيل في تحرّكه و خروجه؟!٢
قال ابن سعد في «الطبقات الكبرى»: لمّا كان يوم الأربعاء في أواخر صفر من السنة العاشرة من الهجرة بُدئ برسول الله صلى الله عليه و آله فحُمّ و صُدّع: فلمّا أصبح يوم الخميس عقد لُاسامة لواءً بيده ثمّ قال: اغز باسم الله في سبيل الله فقاتِل من كفر بالله!
فخرج بلوائه معقوداً و عسكر بالجُرْف. فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين و الأنصار إلّا انتدب في تلك الغزوة فيهم أبو بكر، و عمر بن الخطّاب، و أبو عبيدة الجرّاح، و سعد بن أبي وقّاص، و سعيد بن زيد،
و قُتادة بن النعمان، و سَلمة بن أسلم بن حريش. فتكلّم قوم و قالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين. فغضب رسول الله صلى الله عليه و آله غضباً شديداً فخرج و قد عصب على رأسه عصابة و عليه قطيفة. فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه، ثمّ قال:
أمّا بعد؛ أيّها الناس! فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة. و لئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه! زيد بن حارثة من قبله! و أيم الله إن كان للإمارة لخَليقاً و إنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة، و إن كان لمن أحبّ الناس إليّ. و أنّهما لمُخيلان لكلّ خير. و استوصوا به خيراً فإنّه من خياركم.۱
قال هذا ثمّ نزل من المنبر، و ذلك يوم السبت ....
و ثقل رسول الله فجعل يقول: أنْفِذُوا بَعْثَ اسَامَة.٢
ذكر ابن هشام في سيرته أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله استبطأ الناس في بعث اسامة [بن زيد] و هو في وجعه. فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر. و قد كان الناس قالوا في إمرة اسامة: أمّر غلاماً حَدَثاً
على جِلّة المهاجرين و الأنصار. فحمد الله و أثنى عليه بما هو له أهل، ثمّ قال: أيّها الناس! انفذوا بعث اسامة! فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. و إنّه لخليق للإمارة و إن كان أبوه لخليقاً لها.۱
ثمّ نزل رسول الله صلى الله عليه و آله و انكمش (أسرع) الناس في جهازهم.٢
خطبة رسول الله في التمسّك بالثقلين
روى ابن سعد بسنده عن أبي سعيد الخُدريّ عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنّه قال: إنِّي اوشِكُ أن ادْعَى فَاجيبَ، و إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي، كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. و إنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ أخْبَرَنِي أنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تُخَلِّفُونِّي فِيهِمَا!٣
وَ لَا كَانَ في بَعْثِ ابن زِيدٍ مُؤَمَّرا | *** | عَلَيْهِ لِيُضْحِى لإبْنِ زَيْدٍ مُؤَمَّرا |
وَ لَا كَانَ يَوْمَ الغَارِ يَهْفُوا جَنَانُهـ | *** | حِذَاراً وَ لَا يَوْمَ العَرِيشِ تَسَتَّرَا |
وَ لَا كَانَ مَعْزُولًا غَدَاةَ بَرَاءَةٍ | *** | وَ لَا في صَلَاةٍ امَّ فِيهَا مُؤَخَّرَا |
فتى لَمْ يُعَرِّقْ فِيهِ تَيْمُ ابْنُ مُرَّةٍ | *** | وَ لَا عَبَدَ اللَّاتَ الخَبِيثَةَ أعْصُرَا |
إمَامُ هُدى بِالقُرْصِ آثَرَ فَاقْتَضَى | *** | لَهُ القُرْصُ رَدَّ القُرْصِ أبْيَضَ أزْهَرَا |
يُزَاحِمُهُ جِبرِيلُ تَحْتَ عَبَاءَةٍ | *** | لَهَا قِيلَ: كُلّ الصَّيْدِ في جَانِبِ الفَرَا |
قال الشيخ المفيد في «الإرشاد»: ثمّ كان ممّا أكّد له رسول الله صلى الله عليه و آله من الفضل و تخصّصه منه بجليل رتبته ما تلا حجّة الوداع من الأمور المتجدّدة لرسول الله صلى الله عليه و آله و الأحداث التي اتّفقت بقضاء الله و قدره. و ذلك أنّه تحقّق من دنوّ أجله ما كان قدّم الذكر به
لُامّته. فجعل يقوم مقاماً بعد مقام في المسلمين يحذّرهم الفتنة بعده و الخلاف عليه و يؤكّد وصايته بالتمسّك بسنّته و الإجماع عليها و الوفاق، و يحثّهم على الاقتداء بعترته و الطاعة لهم و النصرة و الحراسة و الاعتصام بهم في الدين، و يزجرهم عن الاختلاف و الارتداد. و كان فيمأ ذكره من ذلك صلى الله عليه و آله ما جاءت به الرواية على اتّفاق و اجتماع من قوله:
أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي فَرُطُكُمْ وَ أنْتُمْ وَارِدُونَ عَلَيّ الحَوْضَ. ألَا وَ إنِّي سَائِلُكُمْ عَنِ الثَّقَلَيْنِ!
فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا، فَإنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ نَبَّأنِي أنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَلْقَيَانِي. وَ سَألْتُ رَبِّي ذَلِكَ فَأعْطَانِيهِ. ألَا وَ إنِّي قَدْ تَرَكْتُهُمَا فِيكُمْ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، لَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَفَرَّقُوا، وَ لَا تَقْصُرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا، وَ لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإنَّهُمْ أعْلَمُ مِنْكُمْ.
أيُّهَا النَّاسُ! لَا الْفِيَنَّكُمْ بَعْدِي تَرْجِعُونَ كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ! فَتَلْقَوْنِي في كَتِيبَةٍ كَبَحْرِ السَّيْلِ الجَرَّارِ! ألَا وَ إنَّ عَلِيّ بْنَ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أخِي وَ وَصِيِّي، يُقَاتِلُ بَعْدِي عَلَى تَأوِيلِ القُرْآنِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ.
وَ كَانَ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُومُ مَجْلِساً بَعْدَ مَجْلِسٍ بِمِثْلِ هَذَا الكَلَامِ وَ نَحْوِهِ.
ثُمّ إنّه عقد لُاسامة بن زيد بن حارثة الأمرة، و أمره و ندبه أن يخرج بجمهور الامّة إلى حيث اصيب أبوه من بلاد الروم، و اجتمع رأيه عليه السلام على إخراج جماعة من مقدّمي المهاجرين و الأنصار في معسكره، حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الرئاسة و يطمع في التقدّم على الناس بالإمارة، و يستتبّ الأمر لمن استخلفه من بعده، و لا ينازعه في حقّه منازع. فعقد له الإمرة على ما ذكرناه، و جدّ صلى الله
عليه و آله و سلّم في إخراجهم، و أمر اسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف، و حثّ الناس على الخروج إليه و المسير معه، و حذّرهم من التلوّم و الإبطاء عنه.
استغفار رسول الله لموتى البقيع و إخباره بإقبال الفتن
فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفّي فيها. فلمّا أحسّ بالمرض۱ الذي عراه، أخذ بِيَدِ عليّ عليه السلام و اتّبعه جماعة من الناس و توجّه إلى البقيع. فقال للذي اتّبعه: إنّي قد امرت بالاستغفار لأهل البقيع، فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم و قال: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أهْلَ القُبُورِ، لِيَهْنِئْكُمْ مَا أصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا فِيهِ النَّاسُ! أقْبَلَتِ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ يَتْبَعُ أوَّلَهَا آخِرُهَا.
ثمّ استغفر لأهل البقيع طويلًا. و أقبل على أمير المؤمنين عليه السلام
فقال له: إنّ جبرائيل كان يعرض عَلَيّ القرآن في كلّ سنة مرّة، و قد عرضه عَلَيّ العام مرّتين و لا أراه إلّا لحضور أجلي. ثمّ قال: يا عليّ! إنّي خُيِّرتُ بين خزائن الدنيا و الخلود فيها أو الجنّة، فاخترت لقاء ربّي و الجنّة. فإذا أنا متُّ فاغسلني و استر عورتي، فإنّه لا يراها أحد إلّا أكمه. ثمّ عاد إلى منزله، فمكث ثلاثة أيّام موعوكاً، ثمّ خرج إلى المسجد معصوب الرأس معتمداً على أمير المؤمنين عليه السلام بيُمنى يديه، و على الفضل بن العبّاس باليد الاخرى حتى صعد المنبر فجلس عليه ثمّ قال:
مَعَاشِرَ النَّاسِ! قَدْ حَانَ مِنِّي خُفُوقٌ مِنْ بَيْنِ أظْهُرِكُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدِي عِدَةٌ فَلْيَأتِنِي اعْطِهِ إيَّاهَا! وَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيّ دَيْنٌ فَلْيُخْبِرْنِي بِهِ! مَعَاشِرَ النَّاسِ! لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَ بَيْنَ أحَدٍ شَيءٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْراً أو يَصْرِفُ عَنْهُ بِهِ شَرّاً إلَّا العَمَلُ! أيُّهَا النَّاسُ! لَا يَدَّعِي مُدَّعٍ وَ لَا يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَ الذي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيّاً لَا يُنْجِي إلَّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ، وَ لَوْ عَصَيْتُ لَهَويْتُ. اللَهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟!۱
ثمّ نزل صلى الله عليه و آله فصلّى بالناس صلاة خفيفة. ثمّ دخل بيته، و كان إذ ذاك في بيت امّ سلمة رضي الله عنها فأقام به يوماً أو يومين. فجاءت عائشة إليها تسألها أن تنقله إلى بيتها لتتولّى تعليله، و سألت أزواج النبيّ في ذلك، فأذِنَّ لها، فانتقل إلى البيت الذي أسكنه عائشة، و استمرّ به المرض فيه أيّاما و ثقل. فجاء بلال عند صلاة الصبح و رسول الله صلى الله عليه و آله مغمور بالمرض فنادى: الصَّلَاةُ يَرْحَمُكُمُ اللهُ. فاوذن رسول الله بندائه فقال: يصلّي بالناس بعضُهم فإنّي مشغول بنفسي، فقالت عائشة: مُروا أبا بكر. و قالت حفصة: مروا عمر. فقال رسول الله صلى الله عليه و آله حين سمع كلامهما و رأى حرص كلّ واحدة منهما على التنويه بأبيها و افتتانهما بذلك و رسول الله حيّ! اكْفُفْنَ فَإنَّكُنَّ صُوَيْحَبَاتُ يُوسُفَ!
ثمّ قام صلى الله عليه و آله مبادراً خوفاً من تقدّم أحد الرجلين و قد كان أمرهما بالخروج مع اسامة و لم يكن عنده أنّهما قد تخلّفا. فلمّا سمع من عائشة و حفصة ما سمع علم أنّهما متأخّران عن أمره. فبدر لكفّ الفتنة و إزالة الشبهة. فقام -و أنّه لا يستقلّ على الأرض من الضعف- فأخذ بيده عليّ بن أبي طالب عليه السلام و الفضل بن العبّاس فاعتمد عليهما و رِجلاه
تخطّان الأرض من الضعف.
فلمّا خرج إلى المسجد، وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب فأوما إليه بيده أن تأخّر عنه! فتأخّر أبو بكر، و قام رسول الله مقامه فكبّر و ابتدأ الصلاة التي كان قد ابتدأها أبو بكر و لم يبن على ما مضى من فعاله. فلمّا سلّم، انصرف إلى منزله و استدعى أبا بكر و عمر و جماعة ممن حضر بالمسجد من المسلمين ثمّ قال: أ لَمْ آمُرْكُمْ أنْ تُنْفِذُوا جَيْشَ اسَامَةَ؟! فقالوا: بلى يَا رَسُولَ اللهِ. قال: فَلِمَ تَأخَّرْتُمْ عَنْ أمْرِي؟! قال أبو بكر: إنّي خرجت ثمّ رجعتُ لُاجدّد بك عهداً! و قال عمر: يا رسول الله! إنّي لم أخرج لأنّني لم احبّ أن أسأل عنك الركب!
فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: نَفِّذُوا جَيْشَ اسَامَةَ! نَفِّذُوا جَيْشَ اسَامَةَ! يكرّرها ثلاث مرّات. ثمّ اغميَ عليه من التعب الذي لحقه و الأسَف الذي ملكه۱ فمكث هُنيئة مُغميً عليه. و بكى المسلمون، و ارتفع النحيب من أزواجه و ولده و نساء المسلمين و جميع من حضر من المسلمين.
منع عمر جلب الكتف و الدواة و قذفه النبيّ بالهجر
فأفاق رسول الله صلّى الله عليه و آله فنظر إليهم ثمّ قال: إئْتُونِي بِدَوَاةٍ وَ كَتِفٍ
لأكْتُبَ لَكُمْ كِتَاباً لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَداً!
ثمّ اغمي عليه. فقام بعض من حضره يلتمس دواة و كتفاً. فقال له عمر: ارْجِعْ فَإنَّهُ يَهْجُرُ. فرجع و ندم مَن حضر على ما كان منهم من التضييع في إحضار الدواة و الكتف و تلاوموا بينهم و قالوا: إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. لقد أشفقنا من خلاف رسول الله. فلمّا أفاق صلى الله عليه و آله قال بعضهم: ألّا نأتيك بدواة و كتف يا رسول الله؟! فقال: أ بَعْدَ الذي قُلْتُمْ؟! لَا، وَ لَكِنِّي اوصِيكُمْ بِأهْلِ بَيْتِي خَيْراً. و أعرض بوجهه عن القوم فنهضوا و بقي عنده العبّاس، و الفضل بن العبّاس، و عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و أهل بيته خاصّة.
فقال له العبّاس: يا رسول الله إن يكن هذا الأمر فينا مستقرّاً من بعدك فبشّرنا، و إن كنت تعلم أنّا نغلب عليه فاقض بنا. فقال: أنْتُمُ المُسْتَضْعَفُونَ مِنْ بَعْدِي. و صمت.۱
فنهض القوم و هم يبكون قد يئسوا من النبيّ صلى الله عليه و آله.٢
إنّ ما أوردناه هنا نقلناه عن العالم البصير الفقيه و المتكلّم الإماميّ أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان، الشيخ المفيد المولود سنة ٣٣٦
أو ٣٣۸ هـ، و المتوفّى سنة ٤۱٣ هـ. و هو على درجة لا توصف من العظمة و الجلالة.
يقول علماء الشيعة: كان عمر يعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله أراد أن يوصي لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و الأئمّة من ذرّيّته حتى قائمهم صلوات الله عليهم أجمعين خطّيّاً، فلهذا حال دون إحضار الدواة و الكتف، و أخلّ بنظم المجلس و نسب إلى رسول الله الهجر، و من أجل ذلك ظلّ في المدينة و تخلّف عن الخروج في جيش اسامة، و نقض سنّة رسول الله بصراحة، و لم يعمل بقوله صلى الله عليه و آله: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، بل بذل هو و أعوانه قصارى جهودهم من أجل طمس ذلك.
و ها نحن نذكر فيما يأتي بحول الله و قوّته هذه المطالب نقلًا عن أوثق كتب أهل السنّة و صحاحهم و نُثبت أنّ هذه المطالب و القضايا كلّها منقولة على لسان أهل السنّة أنفسهم، و مع ذلك يتعصّبون تعصّباً جاهليّاً فيتّبعونه عُمياً على غير بصيرة، و ينكّلون بالشيعة ظالمين لهم حتى ظهور إمام الحقّ الإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف. إذَنْ يبتني إثباتنا معرفةَ الإمام على أساس قول إجماعيّ اتّفاقيّ لا على أساس خصوص أقوال علماء الشيعة و أحاديث أئمّتهم عليهم السلام و منهاجهم.
و سنستعرض هذا الموضوع باسلوب يُقنع كلّ عالِم متتبّع من أهل السنّة و يدفعه إلى التشيّع و الإمامة شاء أم أبى، ذلك أنّ البحث الاجتهاديّ القائم على اسسهم الثابتة في اصول العقائد مُلزم لهم.
روى ابن سعد في طبقاته بسنده عن أبى مُوَيْهِبَة غلام رسول الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله من جوف الليل: إنّي قد امرتُ أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي! فخرج و خرجت معه حتى جاء البقيع
فاستغفر لأهله طويلًا ثمّ قال (لهم مخاطباً): لِيَهْنِئْكُمْ مَا أصْبَحْتُمْ مِمَّا أصْبَحَ النَّاسُ فِيهِ! أقْبَلَتِ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضاً، يَتْبَعُ آخِرُها أوَّلَهَا، الآخرةُ شَرٌّ مِنَ الأولى.۱
و هذا الدعاء و الاستغفار هو نفسه الذي ذكره الشيخ المفيد إلّا أنّ الشيخ ذكر أنّه ذهب إلى البقيع مع عليّ بن أبي طالب، و جاء هنا أنّه ذهب مع أبي مُوَيْهِبةَ. و لا فرق بينهما في أصل الموضوع، و هو الإخبار عن الفتن المظلمة.
نقل الحاكم في مستدركه بسنده عن جماعة، عن عائشة أنّها قالت: إنّ رسول الله بدأه مرضه الذي مات به في بيت ميمونة، فخرج عاصباً رأسه فدخل عَلَيّ بين رَجلينِ تخطّ رجلاه الأرض. عن يمينه العبّاس، و عن يساره رجل.
قال عبيد الله (راوي الحديث) أخبرني ابن عبّاس أنّ الذي عن يساره
عليّ.۱
اتّكاء رسول الله على عليّ و العبّاس، و دخوله حجرة عائشة
و روى الطبريّ في تاريخه بسنده عن عائشة قالت: تتامّ برسول الله وجعه و هو يدور على نسائه حتى استُعِزَّ به و هو في بيت ميمونة فدعا نساءه فاستأذنهنّ أن يُمَرَّض في بيتي.٢ فأذِنَّ له فخرج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم بين رَجلين من أهله، أحدهما الفضل بن العبّاس و رجل آخر، تخطّ قدماه الأرض عاصباً رأسه حتى دخل بيتي. قال عبيد الله: فحدّثتُ هذا الحديث عنها عبد الله بن عبّاس فقال: هل تدري من الرجل! قلتُ: لا. قال: عليّ بن أبي طالب، و لكنّها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير. و هي تستطيع أن تقول: بين الفضل بن العبّاس و عليّ بن أبي طالب.٣
و تحمل هذه الروايات أيضاً مضمون ما رواه الشيخ المفيد إلّا أنّ الفارق الوحيد فيها هو أنّ عائشة لم تقدر على النطق باسم عليّ، فقالت: رجل آخر.
الروايات الواردة في منع عمر كتابة رسول الله في مرض الموت
الروايات الواردة في منع عمر النَّبيّ صلى الله عليه و آله أن يكتب كتاباً في المرض الذي توفّي فيه
۱- روى البخاريّ في صحيحه بسنده عن عبيد الله بن عبد الله، عن
ابن عبّاس أنّه قال: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ في البَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، قَالَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: هَلُمَ۱ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ!
فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ النَّبِيّ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ، وَ عِنْدَكُمُ القُرْآنُ. حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، فَاخْتَلَفَ أهْلُ البَيْتِ فَاخْتَصَمُوا، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمُ النَّبِيّ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَهُ عُمَرُ.
فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغْوَ وَ الاخْتِلَافَ عِنْدَ النَّبِيّ، قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: قُومُوا.
فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ بَيْنَ أنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الكِتَابَ مِن اخْتِلَافِهِمْ وَ لَغَطِهِمْ.٢ و٣
و هذا الحديث من الأحاديث التي لا شكّ في صحّتها و صدورها عند العامّة،٤ لأنّ البخاريّ رواه عن إبراهيم بن موسى، عن هشام، عن مُعَمَّر،
و كذلك عن عبد الله بن محمّد، عن عبد الرزّاق، عن مُعَمَّر، عن الزُّهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس. و لا شبهة عند العامّة في توثيق هؤلاء و تعديلهم.
٢- و كذلك روى البخاريّ في صحيحه عن يحيى بن سليمان، عن ابن وَهَب، عن يونس بن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس أنّه قال: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَجَعُهُ قَالَ: إئْتُونِي بِكِتَابٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ! قَالَ عُمَرُ: إنَّ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ غَلَبَهُ الوَجَعُ وَ عِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا. فَاخْتَلَفُوا وَ كَثُرَ اللَّغَطُ.
قَالَ: قُومُوا عَنِّي وَ لَا يَنْبَغي عِنْدِيَ التَّنَازُعُ. فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ بَيْنَ كِتَابِهِ.۱
و هذا الحديث أيضاً من الأحاديث الصحيحة عند العامّة و لا شبهة و لا شكّ في رواته.
٣- و كذلك روى البخاريّ عن قَبِيصَة، عن ابن عُيَيْنَة، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عبّاس أنّه قال:
يَوْمُ الخَمِيسِ وَ مَا يَوْمُ الخَمِيسِ؟ ثُمَّ بَكَى حتى خَضَبَ دَمْعُهُ الحَصْبَاءَ. فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَجَعُهُ يَوْمَ الخَمِيسِ، فَقَالَ: إئْتُونِي بِكِتَابٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَداً. فَتَنَازَعُوا -وَ لَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيّ تَنَازُعٌ- فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
قَالَ: دَعُونِي! فَالَّذِي أنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إلَيْهِ. وَ أوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: أخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَ أجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ اجِيزُهُمْ، وَ نَسِيتُ الثَّالِثَةَ.۱
و ذكر مسلم في صحيحه أيضاً، في آخر كتاب الوصايا ثلاثة أحاديث في هذا الشأن. يحمل الأوّل بعينه مضمون هذا الحديث الثالث الذي نقلناه عن البخاريّ لكنّه يختلف عنه فيما يأتي: أوّلًا: جاء مكان قوله: فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ، قوله: وَ قَالُوا: مَا شَأنُهُ؟ أ هَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ!
ثانياً: ذكر بدل قوله: وَ نَسِيتُ الثَّالِثَةَ، قوله: وَ سَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ، أوْ قَالَهَا فَانسِيتُهَا.
و يحمل الثالث نفسه مضمون الحديث الأوّل الذي نقلناه عن البخاريّ.
و من الجدير ذكره أنّ هذين الحديثين أوردهما مسلم بأسناد اخرى غير أسناد البخاريّ، و يتماثلان في المضمون فحسب. و روى الثاني عن
إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن مالك بن المِغْوَل، عن طلحة بن مُصَرّف، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عبّاس أنّه قال: يَوْمُ الخَمِيسِ وَ مَا يَوْمُ الخَمِيسِ؟ ثُمَّ جَعَلَ تَسِيلُ دُمُوعُهُ حتى رَأيْتُ عَلَى خَدَّيْهِ كَأنَّهَا نِظَامُ اللُّؤْلُؤ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إئْتُونِي بِالكَتِفِ وَ الدَّوَاةِ (أوِ اللَّوْحِ وَ الدَّواة)۱ اكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَداً، فَقَالُوا: إنَّ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَهْجُرُ.٢
و روى أحمد بن حنبل الأحاديث الثلاثة التي نقلناها عن البخاريّ بنفس الأسناد و الألفاظ في ص ٣٢٥ و ٢٢٢ و ٣٥٥ من الجزء الأوّل من مسنده بالتسلسل.
أجل، إنّ حديث طلب الدواة و الكتف، و منع عمر، و قذف رسول الله بالهجر و الهذيان، و رزيّة يوم الخميس التي كان يبكي منها ابن عبّاس كلّما ذكرها، كلّ ذلك من القضايا المشهورة و المعروفة عند أصحاب السِّير و السُّنن و الأخبار. نقلها كبار العامّة في كتبهم و أقرّوا بها.٣
ذكر ابن سعد في طبقاته تسعة أحاديث في هذا المجال. و أورد الحديث الأوّل و الثالث -اللذين نقلناهما عن البخاريّ- عن مسلم، و عن يحيى بن حمّاد بسنده عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبّاس، و فيه: فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ: إنَّ نَبِيّ اللهِ لَيَهْجُرُ.
و أورد حديثاً عن محمّد بن عبد الله الأنصاريّ بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، و حديثاً عن حفص بن عمر الحوضيّ بسنده عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و حديثاً عن محمّد بن عمر بسنده عن جابر، بحديثين آخرين: الأوّل: عن محمّد بن عمر، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسْلَم، عن أبيه، عن عمر بن الخطّاب أنّه قال:
كُنَّا عِنْدَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ النِّسَاءِ حِجَابٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: اغْسِلُونِي بِسَبْعِ قِرَبٍ وَ أتُونِي بِصَحِيفَةٍ وَ دَوَاةٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَداً! فَقَالَ النِّسْوَةُ: إئْتُوا رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِحَاجَتِهِ! قَالَ عُمَرُ: فَقُلْتُ: اسْكُتْنَ فَإنَّكُنَّ صَوَاحِبُهُ. إذَا مَرِضَ عَصَرْتُنَّ أعْيُنَكُنَّ. وَ إذَا صَحَّ أخَذْتُنَّ بِعُنُقِهِ!۱ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: هُنَّ خَيْرٌ مِنْكُمْ!
و أخرجه الطبرانيّ أيضاً في أوسطه عن عمر.٢
الثاني: عن محمّد بن عمر بسنده عن عكرمة، عن ابن عبّاس أنّه قال: إنَّ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فِيهِ: إئْتُونِي
بِدَوَاةٍ وَ صَحِيفَةٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَداً! فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: مَنْ لِفُلَانَةَ وَ فُلَانَةَ مَدَائِنِ الرُّومِ؟ إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَيْسَ بِمَيِّتٍ حتى نَفْتَحَهَا، وَ لَوْ مَاتَ لَا نتَظَرْنَاهُ كَمَا انْتَظَرَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ موسى. فَقَالَتْ زَيْنَبُ زَوْجُ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أ لَا تَسْمَعُونَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَعْهَدُ إلَيْكُمْ؟! فَلَغَطُوا، فَقَالَ: قُومُوا! فَلَمَّا قَامُوا قُبِضَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مَكَانَهُ!۱
مقدّمة عمر للحؤول دون كتابة رسول الله
و الآن -بعد أن تحدّدت مصادر هذا الحديث في هذه الرزيّة من كتب الصحاح و السنن الموثوقة من الدرجة الأولى لأهل السنّة-٢ نعرض فيما يأتي عدداً من الأبحاث حول مفاد ما تقدّم:
البحث الأوّل: يستفاد من هذه الأحاديث و الروايات أنّ هذه الواقعة لم تكن مفاجئة، حيث ينكر القوم ابتداءً تخطيط الرسول الأعظم للكتابة،
بل تدلّ القرائن المشهودة على أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله كان يعلم بتآمرهم على حكومة عليّ عليه السلام، لذلك أنفذ جيش اسامة. و كان قد أدرك جيّداً الخطط المدبّرة من خلال الأخبار المبثوثة داخل بيته من قبل حزب النساء المعارضات، و كذلك من خلال الأخبار التي تناهت إلى سمعه من خارج البيت و دارت حول تأخير جيش اسامة و تخلّف أبي بكر، و عمر عن اللحاق به، فلهذا طلب الدواة و الكتف في مثل هذا الظرف على أساس تلك الشواهد و المشهودات.
و لم يجتمع عمر و شر ذمته في ذلك المجلس صدفة و بغتة، بل كانوا يجتمعون مراراً في مجالس سابقة و يخطّطون لغصب ولاية المسلمين و إمارتهم. و كان اجتماعه الأخير مع زمرته و أترابه مخطَّطاً له من قبل. و كيف يمكن أن نتصوّر أنّ حضور عمر مع جميع أعوانه -الذين كان عددهم من الكثرة بحيث أوجدوا جبهتين في مجلس الرسول الأكرم و صاحوا و قالوا: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، و بلغ الذمر أنّهم تميّزوا عن الصحابة المؤمنين المطيعين الذين كانوا في حجرة نبيّهم، و زاد لَغَطُهم حتى غلبوهم- كان صدفة، و قد تحقّق بصورة تلقائيّة اعتياديّة! كيف يتسنّى لنا تصوّر ذلك في مجلس زعيم الحاضرين و متكلّمهم فيه عمر الذي حاكاه رفقاؤه في كلامه فاعترضوا على كلام رسول الله؟۱
رأينا في الحديث الأوّل الذي نقله البخاريّ أنّ ابن عبّاس يقول: اختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمُ النَّبِيّ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ. و منهم من يقول ما قاله عمر. أي: أنّ رسول الله يهجر. و يتبيّن هنا أنّ عمر كان إمام المعترضين و زعيمهم، و أوّل من نطق بهجر رسول الله.
البحث الثاني: لا شكّ و لا شبهة أنّ الجملة التي تفوّه بها عمر هي قوله: إنَّ رَسُولَ اللهِ يَهْجُرُ. بَيدَ أنّ أصحاب السنن و الأخبار لمّا رأوا أنّ كلمته مستهجنة جدّاً، أرادوا أن يخفّفوا من استهجانها، و يدافعوا عن أدب عمر فاستبدلوا بها كلمتهم: إنَّ النَّبِيّ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ.
نسبة عمر الهجر إلى رسول الله صلى الله عليه و آله
و الدليل على كلامنا رواية ذكرها ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» بتخريج أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ في كتاب «السقيفة» بإسناده إلى ابن عبّاس أنّه قال: لَمَّا حَضَرَتْ رَسُولُ اللهِ الوَفَاةُ وَ في البَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ: إئْتُونِي بِدَوَاةٍ وَ صَحِيفَةٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ (قَالَ): فَقَالَ عُمَرُ كَلِمَةً مَعْنَاهَا أنَّ الوَجَعَ قَدْ غَلَبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، ثُمَّ قَالَ: عِنْدَنَا القُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ.
فَاخْتَلَفَ مَنْ في البَيْتِ وَ اخْتَصَمُوا فَمِنْ قَائِلٍ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمُ النَّبِيّ، وَ مِنْ قَائِلٍ: مَا قَالَ عُمَرُ. فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغَطَ وَ اللَّغْوَ وَ الإخْتِلَافِ
غَضِبَ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَقَالَ: قُومُوا! إنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ أنْ يُخْتَلَفَ عِنْدَهُ هَكَذَا. فَقَامُوا، فَمَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في ذَلِكَ اليَوْمِ.
فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ مَا حَالَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ كِتَابِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، يَعْنِي الاخْتِلَافَ وَ اللَّغَطَ.
يقول ابن أبي الحديد: هذا الحديث قد خرّجه الشيخان: محمّد بن إسماعيل البخاريّ، و مسلم بن الحجّاج القُشَيْريّ في صحيحيهما. و اتّفق كافّة المحدّثين على روايته.۱
و نكتفي هنا بذكر النكتة الآتية التي تمثّل الدليل على ما نقول:
يقول هنا: قال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول الله. و هذا صريح أنّ كلمة عمر كانت شيئاً آخراً. و لمّا لم يرغب القوم في ذكر كلمته نصّاً، استبدلوا بها مفادها و معناها. و تلك الكلمة هي الهَجْر.٢
و دليلنا الآخر هو عقد مقارنة بين الروايات المذكورة، إذ لو وضعناها جنباً إلى جنب و وازنّا بينها، لتبيّن لنا بلا مراء أنّ كلمة عمر كانت قوله: إنَ النَّبِيّ يَهْجُرُ.
إنّ البخاريّ الذي ذكر في الصحيحتين الأولى و الثانية اسم المعترض بصراحة -و هو عمر- قال: كانت كلمته: قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ، بَيدَ أنّه لم يصرّح باسمه في صحيحته الثالثة، و كذلك لم يفعل مسلم في صحيحته، بل قالا بنحو عامّ: قَالُوا، و أوردا كلمة عمر نفسها: يَهْجُر. فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ. فَقَالُوا: إنَّ رَسُولَ اللهِ لَيَهْجُرُ.٣ و قال ابن سعد في طبقاته في
الرواية التي نقلناها عن سعيد بن جُبَيْر: فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ: إنَّ نَبِيّ اللهِ لَيَهْجُرُ. و هنا لمّا لم يتعيّن قائل كلمة: يَهْجُرُ بنفسه، و ذُكر بلفظ: قَالُوا، أو: قَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ، فإنّ الإتيان بكلمة هَجَرَ و يَهْجُرُ لم تُسْتَهْجَنْ بل ذُكرت كما هي.
و لكنّنا عند ما نوازن بين هذه الروايات، يستبين لنا جيّداً أنّ قائل كلمة يَهْجُرُ في قولهم: قَالُوا، أو: بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ هو عمر نفسه، بَيْدَ أنّ هؤلاء المحرّفين و المبدّلين و حماة أريكة الاستبداد و الظلم استبدلوا بها في تلك الروايات كلمتهم: قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ حماية لعمر و لشأنه.
تغيير لفظة الهجر من قبل أنصار عمر
و قد لاحظنا في إحدى روايات مسلم بن الحجّاج أنّه ذكر عمر بكلامه: أ هَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ! و من الواضح أنّ لفظ عمر لا يحمل الاستفهام و الشكّ و قد قال ما قال جازماً، إذ تفوّه بكلمته: هَجَرَ. و إذا بعض المدافعين عنه قالوا: لعلّه قال: هَجَرَ على سبيل الاستفهام، و لا فرق بينهما في الكتابة. ثمّ جاء بعض آخر فأراد أن يثبّت هذا الاستفهام و يؤيّده، فوضع همزة الاستفهام في أوّل الكلمة و قال: أ هَجَرَ؟ ثمّ أضاف مدافعون آخرون جملة: اسْتَفْهِمُوهُ، لتثبيت كلمتهم: أ هَجَرَ؟
و نجد في الروايات كثيراً من هذه التصرّفات التي تتّضح للشخص الخبير مواضع التغيير و التحريف فيها. و قد استبان جيّداً من خلال بحثنا هذا، و من خلال عقد المقارنة بين روايات البخاريّ، و مسلم، و ابن سعد أنّ كلمة عمر كانت هَجَرَ و يَهْجُرُ، و لا ريب أنّ التغييرات الواردة في ألفاظ
الروايات المختلفة نابعة من تدخّل الرواة و المحدِّثين و تحريفهم.
البحث الثالث: ما ذا كان يقصد رسول الله صلى الله عليه و آله من الكتابة؟ و ما هو الشيء الذي أراد أن يكتبه فلا تضلّ امّته بعده أبداً؟
و يمكننا أن نستخرج الجواب ابتداءً من كلام عمر نفسه: عِنْدَكُمُ القُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ و هو الوارد في صحيحة البخاريّ الأولى. و كذلك من كلامه الآخر: عِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا، و هو المأثور في صحيحته الثانية. أي: أنّنا نستطيع أن نفهم ما ذا أراد الرسول الأعظم أن يكتب عند ما طلب دواة و كتفاً، و ذلك من خلال كلام عمر نفسه، بلا رجوع إلى الأخبار و الشواهد التأريخيّة، و الروايات و القرائن الموجودة. و لمّا كان عمر في مقام الاعتراض على كتابة رسول الله. قال: حَسْبُنَا كتاب الله و كَفَانَا كتاب الله. و ينكشف لنا أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله كان يريد أن يلحق بالقرآن شيئاً آخراً، أو يجعله حجّة للمسلمين، بَيدَ أنّ عمر منع من إلحاقه بالقرآن أو إفراده بالحجّيّة و الولاية. و ليس هذا الشيء إلّا العترة الطاهرة المتمثّلة بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و أبنائه المعصومين.
و ذلك هو ما جاءت به الأحاديث المتواترة -بل التي فاقت حدّ التواتر- و هي التي ذكرها الشيعة و العامّة في كتبهم بمئات الأسانيد، و فيها أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله خطب في مواطن عديدة، منها في مرضه الذي مات فيه، حيث ذهب إلى المسجد، فقال: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. و نحن قد ذكرنا في بحثنا هذا خطبة رسول الله -حين مرضه- في المسجد حول حجّيّة القرآن و العترة و خلافتهما باللفظ المذكور نقلًا عن الشيخ المفيد في «الإرشاد»،۱ و ابن سعد
في «الطبقات الكبرى».۱
قصد رسول الله من الكتابة الوصيّة لعليّ
و لكنّ القوم لمّا حالوا دون تطبيق تلك الخطب الشفويّة عمليّاً، و حاولوا معارضة ذلك و طمسه، و كان رسول الله يعرف هذا الموضوع، لذلك أراد أن يثبّته و يعزّزه خطّيّاً و هو على فراش المرض، و في يوم الخميس الذي سمّاه ابن عبّاس يوم الرزيّة، أثار عمر الخلاف بجلبته و ضجيجه و لغطه و صياحه و لغوه فجرح مشاعر رسول الله، حتى أعرض صلى الله عليه و آله بوجهه الكريم عنهم و قال لهم: قوموا!
فلهذا لمّا قالوا: نأتيك بالدواة و الكتف! قال: أ بَعْدَ الذي قُلْتُمْ؟ لَا، وَ لَكِنِّي اوصِيكُمْ بِأهْلِ بَيْتِي خَيْراً. و يتبيّن أنّ موضوع كتابته هم أهل البيت، بَيدَ أنّه لمّا تعذّرت عليه الوصيّة الخطّيّة، اجتزأ بالوصيّة الشفويّة.
و نقرأ في رواية البخاريّ الثالثة و رواية مسلم الأولى اللتين ذكرناهما هنا أنّ رسول الله يوصي بثلاث. و الراوي هو سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. قال: وَ سَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ أوْ انسِيتُهَا. سكت ابن عبّاس عن الثالثة، أو قال: و أنا سعيد بن جبير راوي هذا الحديث قد نسيتها. و الواضح هو أنّ
تلك الوصيّة هي الأمر بالتمسّك بالعترة، و حجّيّة إمارة و ولاية أمير المؤمنين و ذرّيّته حتى الإمام الثاني عشر عليهم السلام، و هو ما جاء في حديث الثَّقَلَين. و لا جرم أنّ ابن عبّاس لم يسكت، و ابن جبير لم يَنْسَ، و إنّما هي ظُلمة عصر السياسة و الاستبداد التي انتهت بسيف الحجّاج بن يوسف الثَّقَفيّ أنست سعيد بن جبير و منعته من ذكرها.۱
و أمّا الاحتمال القائل إنّ الوصيّة الثالثة هي الوصيّة بجيش اسامة، فليس له محلٌّ من الإعراب هنا، و هو ما ذكره محمّد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على صحيح مسلم نقلًا عن المهلّب. و هذا ليس بِذِي بالٍ فيُسكت ابن عبّاس أو يُنسي ابن جبير.
إنّ الدليل الواضح على أنّ المراد من كتابة رسول الله صلى الله عليه و آله الوصيّة بخلافة أمير المؤمنين عليه السلام هو ما قاله عمر نفسه: إنّي كنتُ أعلم أنّ رسول الله أراد أن يوصي في مرضه لعليّ بن أبي طالب فخالفته و صددته.٢
ذكر ابن أبي الحديد سفر ابن عبّاس مع عمر إلى الشام، و نقل أنّ عمر أخبره في الطريق بعتابه لأمير المؤمنين عليه السلام لعدم اصطحابه في
سفره إلى الشام، و هو يراه واجداً عليه. و بلغ كلامه موضعاً قال فيه: ذُكر جواب عمر لابن عبّاس بطريق آخر و هو قوله: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أرَادَ أنْ يَذْكُرَهُ لِلأمْرِ في مَرَضِهِ فَصَدَدْتُهُ عَنْهُ خَوْفاً مِنَ الفِتْنَةِ وَ انْتِشَارِ أمْرِ الإسْلَامِ، فَعَلِمَ مَا في نَفْسِي وَ أمْسَكَ، وَ أبى اللهُ إلَّا إمْضَاءَ مَا حَتَمَ.۱
و قد ذكرنا تفصيل هذا السفر في الجزء السابع من كتابنا هذا «معرفة الإمام». و تحدّثنا أيضاً في بعض المواضع عن منع عمر رسول الله من الكتابة.٢ و لكنّ حديثنا كان في كلّ موضع حسب مناسبته الخاصّة، و ورد هنا لمناسبة الأمر بالكتابة و حديث الثقلين. لذلك فمضافاً إلى أنّ مطالباً بديعة و واضحة قد مرّت في كلّ موضع، فهذا الموضع أيضاً قد فصّلنا فيه إجمالًا، بَيدَ أنّه ليس فيه تكرار أبداً، بل إنّ المطالب فيه جديدة أيضاً.
قبول القرآن دون قبول كلام الرسول خطأ فادح
البحث الرابع: لو تغاضينا عن الوصاية لأمير المؤمنين عليه السلام، فإنّ كلام عمر: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، وَ عِنْدَكُمُ القُرْآنُ خطأ في حدّ نفسه سواء أوصى النبيّ لأمير المؤمنين بالخلافة أم لم يُوصِ، ذلك أنّ لكلام
رسول الله حُجّيّة في كلّ موضوع حسب ما نصّ عليه القرآن الكريم. قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.۱ و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.٢ و قال: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ.٣ و قال: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.٤ و قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ، وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ.٥
في ضوء هذه الآيات القرآنيّة و آيات كثيرة غيرها، تكون طاعة الرسول واجبة كطاعة الله المتمثّلة في كتاب الله. و أنّ فرز حُجّيّة القرآن عن حُجّيّة كلام الرسول جمع بين المتناقضين.٦
مضافاً إلى ذلك أنّ القرآن نفسه يثبت وجوب قبول قول النبيّ. و أنّ العمل بالكتاب دون طاعة الرسول نقض للعمل بالكتاب. إذن كان عمر أوّل مَن رفض السُّنَّة، أي: أوّل من تجاهل و أهمل قول رسول الله. بل هو لم يعمل حتى بقوله: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، فهو قد رفض الكتاب و السنّة معاً
و نبذهما جانباً. أمّا الشيعة فقد عملوا بالكتاب و السنّة كليهما. فهم السنّة الحقيقيّون حقّاً. أمّا السُّنَّة فلا كتاب لهم و لا سنّة، إذ رفضوا السنّة، و من ثمّ رفضوا الكتاب، مع ذلك فإنّهم وضعوا لهم اسماً بلا مسمّى و لا محتوى، أي: أهل السنّة و التابعين كلام رسول الله، و سمّوا الشيعة رافضةً، في حين هم الرافضة أنفسهم، و الشيعة هم السنّة الحقيقيّون. و هذه مكيدة من مكائدهم إذ يرون أنفسهم محقّين من خلال اسم و نسبة غير صحيحة، و يرون الشيعة مبطلين بلا دليل مقنع.
البحث الخامس: هل توافق القرآن نسبةُ الهجر و الهذيان إلى رسول الله، أو قولُ: قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ، و رفع الصوت عالياً عند رسول الله، و نبذ رأيه و تقديم آرائهم مهما كان المنطلق و النيّة؟ فالقرآن الكريم يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ.۱ لا تُبدوا آراءكم في العمل و الإرادة، و لا تقدّموا آراءكم و عقائدكم بل اتّبعوهما دائماً و اقتفوا أحكامهما!
و يقول أيضاً: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ٢
و يقول بعدها: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ.٣
و حينئذٍ ما هو التناسب بين رفع الصوت و الجَلَبة و اللَّغَط لطمس إمامة عليّ المعصوم و آله الطاهرين. و بين موازين القرآن؟ و أيّ صوت و جلبة و لَغَط؟ إنّه الصوت و الجلبة و اللَّغَط الذي آذى رسول الله!
البحث السادس: كان عمر يعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله هو الاسوة الوحيدة للحقّ و الحقيقة و إقصاء الباطل: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً.۱
و كان يعلم أنّ كلّ دعوة لرسول الله صلى الله عليه و آله هي دعوة إلى الحياة الحقيقيّة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ.٢
و كان يعلم أنّ مصير مَن يخالف رسول الله صلى الله عليه و آله و يخاصمه جهنّم. قال تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً.۱
و كان يعلم قوله تعالى: وَ النَّجْمِ إِذا هَوى ، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى ، وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى.٢
و كان يعلم أنّ قول رسول الله ليس قولًا شعريّاً خياليّاً لفّقه من عنده. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ، وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.٣
كان عمر يعلم ذلك كلّه جيّداً، و هذه آيات كانت تتلى ليل نهار، لعلّ أطفال المدينة كانوا يعلمونها أيضاً. و لا يعقل مسلماً ينسب الهجر أو الكلام الصادر من شدّة الوجع و المحكي عبثاً و لغواً إلى نبيّه أبداً.
كان عمر يعرف ذلك بأسره، و أنّ ما نسبه من الهجر إلى رسول الله
لم يقله صادقاً، إذ إنّه نفسه لم يعتقد أنّ النبيّ يهجر، بَيدَ أنّه تفوّه بذلك اللفظ البذيء لإثارة اللَّغَط و الفتنة و الفوضى. و أراد هو و أعوانه أن يؤذي النبيّ من خلال افتعال ذلك الموقف الشائن، و من ثمّ يحول دون تحقيق هدف النبيّ، و قد بلغ ما أراد.
فلهذا عند ما قال صلى الله عليه و آله: قُومُوا، قاموا قاطبة و ذهبوا و لم يقل أحد منهم إنّ هذا الكلام (قوموا) هَجْر! و ما علينا إلّا الجلوس و عدم الذهاب!
و كان ينبغي أن تكتب رسالة النبيّ الأعظم في وصاية أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين في مثل ذلك المجلس الذي كان يضمّ عُلِّيَّة القوم و وجهاءهم من قريش، و بعبارة اخرى، أهل الحلّ و العقد منهم، لتكون حجّة عليهم، و إلّا كان صلى الله عليه و آله قادراً على أن يكتب ذلك في الخفاء أو بمحضر بعض الصحابة من أولى النُّهَى و البصائر، لكنّهم كانوا سينكرونها، إذ لن يقولوا: هذا ليس إملاء النبيّ و ختمه، بل يقولون: كتب ذلك من وحي الهجر و غلبة المرض. إنّهم بتكتّلهم تقوّلوا على النبيّ الهجر و هو حيّ بين ظهرانيهم، فكيف إذا غاب عنهم؟ أ لا يفعلون في غيابه كما فعلوا في حياته؟
و ما فتئ صلى الله عليه و آله يدعو إلى وصاية عليّ عليه السلام و خلافته طول عصر نبوّته ابتداءً من اليوم الأوّل لدعوته العامّة في دار أبي طالب، إذ أنذر عشيرته الأقربين، حتى اللحظات الأخيرة من حياته المقدّسة. بَيدَ أنّه امر بالتوقّف عند غدير خُمّ لإعلان ذلك رسميّاً، فأوقف الركب كلّه و ألقى خطبته الغرّاء الشاملة الكاملة في الحاضرين.
لكنّه لمّا أحسّ أنّ زاعمي الخلافة و أترابهم لم يهتمّوا بتلك الخطبة، و أنّ روح النبوّة في خطر بسبب عزل عليّ عليه السلام، عزم على تدوين ما
قاله شفويّاً و رأى ذلك لزاماً عليه، فبادر إلى الكتابة و ختمها بختم النبوّة.
تواطؤ عمر و أبي بكر للحؤول دون خلافة عليّ عليه السلام
و كان عمر يتحدّث يوماً في أيّام خلافته مع ابن عبّاس. و دار حديثه حول عليّ بن أبي طالب، و أقرّ في حديثه بأنّ أحداً لا يليق بالخلافة بعد رسول الله غيره، و ذكر بأنّ سبب إقصائه هو حداثة سنّه و حبّه بني عبد المطّلب،۱ و قال بصراحة: كان أبو بكر منذ اليوم الأوّل كارهاً خلافة عليّ.٢
من هذا المنطلق نجد أنّ عمر و أبا بكر كانا مترافقين متعاونين دائماً سواء في حياة رسول الله أو بعد مماته. و قد تاخيا معاً في المؤاخاة التي عقدها رسول الله. و كلاهما تخلّف عن جيش اسامة قبيل رحيل رسول الله، و تباطا و فترا و أتيا بالمعاذير الواهية، إلى أن قُبِض رسول الله فأسرعا إلى السقيفة عاجلًا، وَ كَانَا يَتَسَابَقَانِ على حدّ تعبير ابن أبي الحديد.
و على هذا الأساس قال عمر بمحضر رسول الله في مجلس الرزيّة المعهود: إذا مات النبيّ، فنحن ننتظره حتى يرجع فيفتح حواضر الروم، كأصحاب موسى الذين انتظروه و رجع إليهم. و كان كلام عمر هذا من أجل أن يقول حين وفاة النبيّ أنّه لم يمت. و قد فعل ذلك، و شهر سيفه، و جاب أزقّة المدينة و هو يقول: ما مات رسول الله و مَن قال إنّه مات ضربت عنقه بسيفي هذا. لما ذا كان ذلك؟ كان ذلك لأنّ أبا بكر لم يكن حاضراً في المدينة وقتئذٍ، إذ كان ذهب إلى زوجته في السُّنْح على فرسخ من المدينة.
و ما كان يتمّ أمر الخلافة بدون قدوم أبي بكر، و كان قلقاً من انثيال الناس على أمير المؤمنين فور سماعهم خبر وفاة النبيّ، إذ يبادر المهاجرون و الأنصار إلى بيت رسول الله الذي كان فيه أمير المؤمنين فيبايعونه، و حينئذٍ تبطل خططهم و يُنْقَضُ نسجهم و تذهب جهودهم كلّها أدراج الرياح. فلهذا سلّ سيفه و نادى إنّ رسول الله لم يمت، حتى تزبّد شدقاه، و أراد من ذلك أن يُبقي الناس على ما هم عليه ريثما يعود أبو بكر من السنح.
و ما إن قال أبو بكر: مات النبيّ وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ إلى آخر الآية، قال عمر هذا صحيح، مات رسول الله. و كلاهما لم يأت دار رسول الله، و لم يشهدا جنازته، و لم يصلّيا عليه. بل توجّها إلى سقيفة بني ساعدة، و نصب عمر صاحبه أبا بكر خليفة للمسلمين بمكيدة و كلمات سجّلها التأريخ.
و من الجلاء بمكان أنّ هذا الطريق هو طريق الضلال و الغي، و لو تعبّدوا بنصّ رسول الله، و استجابوا لأمره في الكتابة لأمِنُوا مِنَ الضَّلَالِ، و رتعوا في وادي الأمن و الأمان الخصب، و كانوا على الصراط المستقيم السويّ، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أبَداً.۱ لكنّهم
غرقوا في الضلالة و أوّل درجتها نسبة الهجر و الهذيان إلى رسول الله.
القرآن وحده لا يكفي
وليتهم اكتفوا بعدم امتثال أمر رسول الله، و عدم جلب الدواة و الكتف، و لم يردّوا كلام رسول الله بقولهم: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ. و كأنّ النبيّ لم يعرف منزلة كتاب الله بينهم! أو كانوا أعرف منه بخواصّ الكتاب و فوائده و آثاره و أرادوا أن ينبّهوه على هذه النقطة.
وليتهم اكتفوا بقوله: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، و لم يتفوّهوا بكلمتهم القبيحة: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ بوجه ذلك النبيّ المبعوث رحمةً للعالمين و هو يُحْتَضَر. ما ذا قالوا في وداع النبيّ الأكرم و هو في اللحظات الأخيرة من حياته؟ لقد قاموا من المجلس تاركين له و هم يقولون: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ!
وليتهم أدركوا أنّهم بحاجة ماسّة إلى كتابة رسول الله، و أنّ القرآن وحده لا يكفيهم، لأنّ القرآن هو الذي جعل كلام رسول الله حجّة، و ضمّ في طيّاته قوله: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.۱ وليتهم عرفوا أنّ النبيّ و الإمام هما روح القرآن، و أنّ كلامهما سند القرآن و أنّ القرآن بلا إمام كالقِربة بلا ماء.
وليتهم و آلاف ليتهم كانوا يفهمون، فلم يجرّوا أنفسهم و الامّة وراءهم إلى الضلال حتى يوم القيامة.
و نحن إذا نظرنا في كلام رسول الله صلى الله عليه و آله: إئْتُونِي أكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ. و كلامه الآخر في حديث الثقلين: إنِّي تَارِكٌ
فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي! و وازنّا بينهما، نجدهما ذوَي مفاد واحد، و هو ضمان عدم الضلالة الأبديّة على نهج واحد. فوجودهما معاً (الكتاب و العترة) لازم و ضروريّ. و لا شكّ أنّ ما أراد أن يكتبه رسول الله هو: «عَلَيْكُم بِعَلِيّ بن أبي طالب و وُلْده المعصومين من بعدي إماماً و خليفةً» و أمثال هذه العبارات. و هذه الكتابة في الحقيقة تفصيل إجمال حديث الثَّقَلين، إذ أراد رسول الله أن يعيّن الثقل الآخر باسمه و سِمَته خطّيّاً.۱
سبب إعراض النبيّ عن كتابة الكتاب بعد نسبة الهجر إليه
البحث السابع: سبب عدم كتابة رسول الله صلى الله عليه و آله في وقت كان عمر و مرافقوه لم يقوموا بعد و لم يذهبوا، إذ طلب بعض الحاضرين من النبيّ أن يأتيه بما أراد، فقال: لا! بعد الذي قلتم.
لعلّ شخصاً يقول هنا: ما ضرّ لو أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله كتب ما أراده بعد انصرافهم، و أودعه أمير المؤمنين أو عمّه العبّاس ليكون حجّة قاطعة على الجميع، بخاصّة في مثل هذا الموضوع الخطير الذي يكفل سعادة الامّة و ينقذها من الضلال؟
و جوابه أنّ الظروف كانت بنحو لو أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله كتب فيها ما أراد، لرفع الحزب المعارض عقيرته قائلًا: لقد كتب
رسول الله هذه الورقة من وحي الهجر و خبط الدماغ و العياذ بالله من ذلك، و حينئذٍ تفقد جميع كلماته التي تفوّه بها في مرضه حُجّيّتها. و تدلّ القرائن و الشواهد على أنّ القوم بلغوا هذه المرحلة من انتهاك الحُرمة. و أنّ مَن نسب إلى رسول الله الهجر و الهذيان بمحضر الصحابة و النساء اللائي كُنَّ خلف الستار و رسول الله حيّ، يسهل عليه الإنكار و القذف بالهجر أيضاً، كما نسب أبو بكر الكذب إلى الصِّديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها التي امتلأت مجاميع أهل السُّنَّة و كتبهم بالأحاديث النبويّة في شأنها، و منها أنّ رسول الله قال: «سيّدة نساء أهل الجنّة»، و فيها و في أبيها و بعلها و ولديها الحسنين نزلت آية التطهير في القرآن الكريم. و من المؤلم حقّاً أن يكذّبها أبو بكر، و يطلب منها شاهداً على فدك، و يغصب منها فدكاً بحديث موضوع هو وضعه و نسبه إلى أعرابيّ بَوَّال على عَقِبَيْه: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، و ما ورّثناه صدقة للمسلمين».
و أنّ من وضع الحبل في عنق أمير المؤمنين عليه السلام و قاده إلى المسجد من أجل البيعة، و جرّ صدّيقته معفّرةً بالتراب ملطّخةً بالدم، و أسقط جنينها، و ضربها بالسوط على عضدها حتى ظلّ بادياً كالدملج إلى أن ماتت، فهذا الشخص ممّ يخاف إن أنكر كتابة رسول الله؟ و ممّ يخشى إن تقوّل بالهجر و عدّ كلمات رسول الله في مرضه لغواً و عبثاً؟ إنّ الموضوع المهمّ هنا هو أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله تنازل عن الكتابة احتراماً لسُّنَّته و صوناً لحرمته، و حجّيّة قوله الذي هو عِدل كتاب الله، و أغضى عن هذا الأمر حفظاً لجماعة المسلمين و شوكتهم، و حرصاً على بقاء كتاب الله. كما كان يُرجئ الخطبة الغديريّة التي كُلِّف بإلقائها لتعريف عليّ خوفاً من حدوث الانشقاق بين المسلمين إلى أن هبط جبرائيل مهدّداً
بقوله تعالى: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ.۱
لقد واجه عمر رسول الله في مواطن عديدة، و تصرّف معه بغلظة و فظاظة. و أنّ رزيّة يوم الخميس التي كان يبكي لها ابن عبّاس حتى ابتلّت الأرض من دموع عينيه التي كانت تسيل من وجهه ليست أوّل تصرّف فظّ اجترحه عمر مع رسول الله، فقد سبقه تصرّفه الشائن في صلح الحديبيّة، إذ افتعل تلك الواقعة التأريخيّة، و كان على رأس المناوئين لرسول الله و المتّهمين إيّاه بالكذب،٢ حتى قال هو نفسه من أجل كفّارة ذلك: مَا زِلْتُ أصُومُ وَ أتَصَدَّقُ وَ اصَلِّي وَ اعْتِقُ مَخَافَةَ كَلَامِي الذي تَكَلَّمْتُ بِهِ.٣
و كان تصرّفه قبيحاً فظّاً شاذّاً مع النبيّ عند ما أراد أن يصلّي على جنازة عبد الله بن ابيّ حتى صرفه عن ذلك باعتراضه قائلًا: لِمَ تصلّي على رجل منافق؟ و هذا ما أثبتته كتب التأريخ كلّها.٤
أمّا رزيّة يوم الخميس فقد كانت أشدّ، لأنّه هو و زمرته كانوا جميعهم حاضرين في مجلس رسول الله، و قد أخلّوا بنظم المجلس، و هو نفسه نسب الهجر و الهذيان إلى رسول الله، و دعمه أترابه، أي: كلّهم تقوّلوا بالهجر و الهذيان حتى عطّلوا المجلس و لم يستطع النبيّ أن يحقّق هدفه. فلو كتب النبيّ ورقة في مثل ذلك الجوّ، أ لا يمزّقونها؟ أ لم يمزّق عمر سند فدك الذي كانت فاطمة عليها السلام قد أخذته من أبي بكر؟ و جاء إلى أبي بكر و قال له بفظاظة: كيف تُرجع السند إلى فاطمة في مثل هذه الحالة التي يحتاج فيها المسلمون إلى المال؟!
بيان العلّامة الطباطبائيّ في عدم التصريح باسم عليّ في القرآن
سألتُ سماحة سيّد الأساتذة آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه الزكيّة يوماً فقلتُ له: ما ضرّ لو صرّح الله تعالى باسم عليّ في القرآن كما صرّح باسم محمّد تجنّباً لهذا الخلاف العميق؟ فقال: لو فعل ذلك لحذفوه بسهولة. فلهذا لم يصرّح به حفظاً لكتابه العظيم.
إذن، غياب اسم عليّ عن القرآن لا يضرّ الإسلام و الإيمان و الولاية و المؤمنين، لأنّ الذين اتّبعوا السنّة و اقتفوا كلام نبيّهم كانوا شيعة عليّ الذائبين فيه يوم كان نبيّهم بين ظهرانيهم. و المؤمنون حقّ الإيمان هم شيعته المغرمون به منذ يوم الخميس الذي لم يستطع أن يكتب فيه رسول الله شيئاً إلى يومنا هذا. و ها هو التشيّع اليوم يرتقى في سيره التصاعديّ و تعلو رايته في أرجاء شتّى من العالم، إذ نشهد سنويّاً إقبالًا متعاظماً عليه من أتباع مختلف المذاهب.۱
لما ذا اخترتُ مذهب آل طهـ | *** | و حاربتُ الأقارب في ولاها |
و عفتُ ديار آبائي و أهلي | *** | و عيشاً كان ممتلئاً رفاها؟ |
لأنّي قد رأيتُ الحقّ نصّاً | *** | و ربّ البيت لم يألف سواها |
فمذهبي التشيّع و هو فخرٌ | *** | لمن رام الحقيقة و امتطاها |
و هل ينجو بيوم الحشر فردٌ | *** | مشى في غير مذهب آل طه؟ |
سبب الحئول دون تدوين الحديث النبويّ
البحث الثامن: تزعزع شأن الولاية و فُتح باب الاجتهاد في مقابل النصّ في موقف عمر بتقدّمه على كلام رسول الله صلى الله عليه و آله و سنّته يوم الخميس. و لقد آثر هو و صاحبه أبو بكر رأييهما على سنّة رسول الله مصلحة للمسلمين بزعمهما، و كانت محصّلة ذلك إقصاء السنّة و الكتاب معاً، و تراكم الآراء الفاسدة في مقابل القرآن. و قد ضيّعا الحقائق في كلّ موضوع من الموضوعات بذريعة المصلحة. و فُتح باب الاجتهاد في مقابل كتاب الله و سنّة رسوله بنحو لم يُعْهَدْ مثله حتى ذلك اليوم قطّ. و لوحظ في كلّ يوم موضوع جديد يغاير الكتاب و السنّة، و وقع أصل الدين و حقائقه في الخطر بغلالة ولاية المصلحة التي يتطلّبها الزمان، حتى وصل الدور إلى عثمان الذي قدّم رأيه على كتاب الله بصراحة، و حطّم سنّة رسول الله عمليّاً، و ضرب معاوية على وتر: «أنا ربّكم الأعلى» في الشام. و أخيراً، أغار الأمويّون على الكتاب و السنّة خلال ثمانين سنة من
حكمهم، و جاء بعدهم العبّاسيّون ففعلوا كفعل أسلافهم طول خمسمائة سنة من حكمهم، و جرى كلّ ذلك تحت غطاء الإمارة و الولاية و مصلحة المسلمين. و هُجرت حقيقة الكتاب و الولاية و غُربت. و فُتح هذا الباب حتى قيام قائم آل محمّد صلى الله عليه و آله.
و قد أمضى فقهاء العامّة و قضاتهم من أمثال شُريح جرائم حكّام الجور و امراء الظلم جميعها تحت عنوان: تَأوَّلَ فَأخْطَأ. و أيّدوهم في جرائمهم. و في باب ولاية الفقيه و الحاكم. أحبطوا و خرّبوا أحكام القرآن الثابتة و سنّة رسول الله المقطوع بها، أو نسوا أو تناسوا أنّ ولاية الفقيه في الموضوعات الشخصيّة الاجتماعيّة، لا في تبديل و تغيير الكتاب و أحكام السنّة. و سمّوا امراء الجور خلفاء تجب طاعتهم حسب سنّة عمر و أبي بكر، و أضفوا عليهم لقب اولو الأمر. و أبادوا معارضيهم تحت لظى سياطهم و تعذيبهم و حبسهم و إعدامهم و صلبهم و تخريب بيوتهم على رؤوسهم بتهمة مخالفة رأى الفقيه و الحاكم المفترض الطاعة.
البحث التاسع: من الواضح أنّ الوضع الذي أوجده الحزب المناوئ لأمير المؤمنين عليه السلام منذ ذلك الحين، و ما كان يمارسه هذا الحزب، إذ كان يتبادل الأخبار على شكل شبكة اتّصال بين ما يجري داخل البيت النبويّ (عائشة و حفصة و غيرهما) و بين ما يجري خارج البيت، و قد أتى بعمر إلى الميدان و حطّم السنّة من خلال انتهاك حرمة الرسول الأعظم بنطق الهذيان و الهجر، فذلك الوضع لا يمكن للحزب المنتصر معه أن يعمل حسب نهج رسول الله إذا أراد أن يبقى ممسكاً بزمام الامور، إذ إنّ ذلك النهج كان قراءة كتاب الله و التدبّر فيه، و نقل حديث رسول الله و بيانه، و ذِكره و عرض مواعظه و أحكامه و خطبه في كلّ مجلس و محفل.
أجل، إذا أراد هذا الحزب أن يدع الناس أحراراً في بيان الحديث
و السنّة، فلا شكّ أنّ الحديث سيدور حول مقام و منزلة أهل بيت العترة و علوم أمير المؤمنين عليه السلام اللامتناهية و فضائله و مناقبه، و سيرة الصدِّيقة الكبرى و منهاجها، و طهارة آل العباء و عصمتهم، و أمثال هذه الموضوعات التي كان المؤمنون يسمعونها من رسول الله منذ بداية النبوّة حتى ذلك الحين. و سيحوم الكلام حول مثالب الخلفاء المتحكّمين و سيّئاتهم، و حزبهم في داخل بيت النبيّ (عائشة و حفصة)، و خارجه الذي يُمثّله الفارّون من الحروب، و كذلك يحوم حول انتهاك حرمة الرسول، و قتل ابنته رقيّة على يد عثمان، و مقتل الصدِّيقة الكبرى بعد غارة الحزب المنتصر على بيتها لإخراج المعتصمين فيه، من أجل البيعة و التسليم لذلك النظام الظالم. و سيحوم أيضاً حول تفسير الآيات القرآنيّة التي بيّنها النبيّ كلّها، و هي حافلة بذكر مولى المتّقين و مقامه و شأن نزول الآيات فيه. و سيتناول الحديث حقائق و أسرار لا شأن للحزب المذكور بها طبيعيّاً.
فلهذا، ما إن تصرّمت سنتا أبي بكر، و جاء دور عمر، حتى منع طرح السنّة النبويّة تماماً، فعادت لا تذكر في المساجد و المحافل و المدارس و خطب العيدين و الجمعة على امتداد مائة و خمسين سنة بعد المنع، كما لم يدوّن كتاب في الحديث و السنّة قرابة مائة عام.
أي: أنّ ردّ عمر كلام رسول الله قد هيّأ هذه اللوازم الواسعة، ثمّ تطوّع الوضّاعون من متزلّفي بلاط معاوية كأبي هريرة و أبي الدرداء اللذين كانا من الصحابة، فوضعوا من الأحاديث في مناقب أبي بكر و عمر و عثمان، و عائشة بخاصّة ما ملأ الكتب و طوامير المسانيد و الصحاح، و قلّلوا الأحاديث المأثورة في فضائل أمير المؤمنين و آل العبا إلى درجة أنّك نادراً ما تجد فيها حديثاً بشأنهم.
و عليه، فإنّ الأحاديث الواردة كلّها في هذا المجال موضوعة،
و لا ينظر الشيعة إلى صحّة السند في مثل هذه الحالات، بل يرون المتن دليلًا على كذبه، لأنّه من الواضح أنّ الحزب الذي انتصر و قمع معارضيه بالسيف و الحجر و القتل صبراً، و ارتكب الجرائم النكراء -كجريمته في واقعة الطفّ، و واقعة محمّد و إبراهيم وَلَدَي عبد الله المحض، و واقعة زيد بن عليّ بن الحسين و ابنه يحيى، و واقعة الحسين بن عليّ صاحب فخّ القريبة من المدينة، و هي كواقعة الطفّ، ثمّ تأمير العبّاسيّين أنفسهم و سعيهم في إطفاء نور منافسيهم من أولاد فاطمة عليها السلام و حياتهم و علمهم و حتى حياتهم المادّيّة- سوف لن يتورّع في تحريف السنّة النبويّة و افتراء الأحاديث الكاذبة على رسول الله ممّا يقبله الناس جميعهم.
حديث البخاريّ المنحول في تقليل منزلة عليّ عليه السلام
و من الأحاديث المختلقة التي وضعت بدهاءٍ تامّ، و تبدو عليها آثار الكذب بقرائن و شواهد عديدة، حديث أورده البخاريّ في صحيحه، و نحن نذكره فيما يأتي بسنده ثمّ نناقشه:
حدّثني إسحاق عن بِشر بن شُعَيْب بن أبي حمزة قال: حدّثني أبي عن الزُّهريّ، قال: أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاريّ -و كعب ابن مالك أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم- أنّ عبد الله بن عبّاس أخبره:
إنَّ عَلِيّ بْنَ أبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في وَجَعِهِ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أبَا حَسَنٍ! كَيْفَ أصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؟! فَقَالَ: أصْبَحَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئاً! فَأخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ: أنْتَ وَ اللهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَبْدُ العَصَا!۱ وَ إنِّي وَ اللهِ لأرَى رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ سَوْفَ
يُتَوَفَّى مِنْ وَجَعِهِ هَذَا. إنِّي لأعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ عِنْدَ المَوْتِ، اذْهَبْ بِنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَلْنَسْألْهُ فِيمَنْ هَذَا الأمْرُ؟ إنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَأ ذلِكَ، وَ إنْ كَانَ في غَيْرِنَا، عَلِمْنَاهُ فَأوْصَى بِنَا!
فقال عليّ: إنّا و الله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه و آله فمنعناها لا يُعطيناها الناس بعده، و إنّي و الله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه و آله.۱
الجواب عن حديث البخاريّ المنحول
تفرّد البخاريّ وحده في نقل هذا الحديث، إذ لم يُلْحَظْ في أيّ كتاب من كتب أهل السنّة و صحاحهم، و كلّ مَن جاء بعده من مصنّفي كتب السيرة و التأريخ أخذه منه. و الله أعلم هل وضعه البخاريّ نفسه أو أخذه من وضّاع آخر؟ و لا ريب أنّ البخاريّ كان ضاغناً على أمير المؤمنين عليه السلام، إذ ذكر الأحاديث المرويّة في مناقبه و فضائله مبتورةً، و قد وجدنا عنده حالات كثيرة من هذا القبيل.
و قال ابن كثير الذي نقل هذا الحديث في تأريخه: انْفَرَد بِهِ البُخَارِيّ.٢
و ذكره مير خواند في «روضة الصفا» بنحو يقبله العقل تقريباً. و لعلّ أصل الحديث هو المذكور عنده، ثمّ حُرِّف عند البخاريّ و اتّخذ ذلك الطابع
الذي لا يُعقل.
يقول مير خواند: ينقل أنّ عليّاً عليه السلام خرج يوماً من عند رسول الله في مرضه الذي مات منه، فقال له الصحابة: كيف حال رسول الله هذا اليوم يا أبا الحسن؟! فقال: أصبح بحمد الله على أحسن وجه. فأخذ العبّاس يد عليّ و قال له بصوت خفيض: سينتقل النبيّ إلى جوار رحمة ربّ العالمين بعد ثلاثة أيّام، لأنّي أرى أمارات الموت على وجهه المبارك. و الآن تقتضي المصلحة أن نذهب عنده و نسأله لمن تكون الخلافة بعده؟ فإذا كانت لنا، فيها، و إذا كانت لغيرنا، سألناه أن يوصيه بنا. فامتنع عليّ عليه السلام و قال: و الله لا أسأله و لا أطلب الدنيا.۱
نلاحظ في نحل هذا الحديث أنّ عدداً من النقاط المهمّة قد زُوِّرت و دُسّت في جواب عليّ عليه السلام لابن عبّاس.
الاولى: يُشعرنا الحديث أنّ الإمام عليه السلام لم يعلم بخلافته. و بعامّة لم يُنْصَبْ أحدٌ خليفةً لرسول الله، و كانت هناك حاجة إلى سؤال النبيّ صلى الله عليه و آله. و هذه أهمّ نقطةً دقيقة يتوكّأ عليها الحزب المناوئ، و يريد أن يُثبت أحقّيّته على هذا الأساس.
الثانية: يُحتمل أن يمنع رسول الله صلى الله عليه و آله عليّاً عليه السلام من الخلافة بعد سؤاله رسولَ الله، و حينئذٍ لن تكون الخلافة من نصيبه. و هذه من أبدع مكائد التزوير، إذ تُتيح للحزب المناوئ فرصة أكبر لأن يجول و يصول أنّي شاء، كما تمنحه مجالًا أوسع لتوطيد دعائمه.
الثالثة: يبيّن لنا الحديث أنّ عليّاً عليه السلام رجل محبّ للدنيا
و الرئاسة و الإمارة، فإذا ما منعه رسول الله، فإنّ الناس لن ينصبوه خليفة. فلندع السؤال إذن، إذ يزول عندئذٍ احتمال الرئاسة و الإمارة و إن كان في أعصار بعيدة.
هذه هي الاحتمالات الواردة في الحديث المذكور، و مواطن الدسّ و التزوير واضحة فيه إلى درجة أنّ كلّ من له اطّلاع مجمل على سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و سيرة أمير المؤمنين عليه السلام، و تأريخ ذينك العظيمين، يعلم أنّه كذب و افتراء. فإنّ خلافته قد عُيِّنَتْ من قبل، و أنّ رسول الله يراه خليفته الوحيد الفريد، و كان هو نفسه مطّلعاً على هذا الموضوع، و أنّ أمر سقيفة بني ساعدة و ترشيح أبي بكر للخلافة كان غامضاً لديه و لا يمكن قبوله كما يبدو. و تدلّ على ذلك خطب «نهج البلاغة» و سائر الخطب و الأحاديث المأثورة عن الشيعة و العامّة، و العالم كلّه يعلم بما فيه مؤرّخو اليهود و النصارى، و المستشرقون أنّ عليّاً عليه السلام لم يكن طالب حكم و رئاسة. لقد كان رجلًا إلهيّاً بما لهذه الكلمة من معنى، و لم تزنه الخلافة، بل هو زانها. و نجد أنّ بعض العامّة يقرّون أنّه لم يكن من أهل السياسة، بل كان هو و خاصّة أصحابه كالمسيح و حواريّيه شغلهم الشاغل هو الشؤون المعنويّة و الروحانيّة و الإلهيّة. لقد كان عليه السلام ملاكاً سماويّاً، فما شأنه و الانهماك في الشؤون الدنيويّة و اللعب السياسيّة و مزاولتها؟
إنّ الحديث المذكور و أمثاله على درجة واضحة من النحل و الافتراء بحيث إنّ كلّ من كان له أدنى اطّلاع على الأخبار و التأريخ يحكم بتزويره فور رؤيته. و نحن عند ما امرنا من قِبل رسول الله صلى الله عليه و آله أن نعرض الأخبار على كتاب الله فنقبل منها ما وافقه و نرفض ما خالفه، فإنّنا نرى أنّ معظم الآيات القرآنيّة قد نزلت في شأنه و فضائله. حتى نقل أثباتُ
العامّة و مشاهيرهم مصدِّقين أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: مَا أنْزَلَ اللهُ آيَةً فِيهَا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلَّا وَ عَلِيّ رَأسُهَا وَ أمِيرُهَا.۱
و عند ما نجد أنّ أعيان العامّة رووا فيه أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال للأنصار: يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ! أ لَا أدُلُّكُمْ عَلَى مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَداً؟! قَالُوا: بلى يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: هَذَا عَلِيّ فَأحِبُّوهُ بِحُبِّي وَ أكْرِمُوهُ بِكَرَامَتِي، فَإنَّ جِبْرِيلَ أمَرَني بِالَّذِي قُلْتُ لَكُمْ مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.٢
و عند ما نقرأ أنّهم رووا فيه أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال له: يَا عَلِيّ! أخْصِمُكَ بِالنُّبُوَّةِ وَ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي.٣ و أنت فُقتَ الناس جميعهم بسبع خصال.
و عند ما نجد أنّ الآيات القرآنيّة نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام كما في التفاسير الموثوقة لأهل السنّة كتفسير الثَّعْلَبي، و القُرطبيّ، و «الدرّ المنثور»، علمنا أنّ الحديث المذكور منحول و موضوع.
و يمكننا من خلال الموازنة بين الأحاديث أن نقف على صدقها و كذبها، فنرفضها أو نقبلها.
و كذلك عند ما نجد أنّ القرآن الكريم أحبط عمل الذين يرفعون أصواتهم فوق صوت النبيّ صلى الله عليه و آله، أي: أنّ جميع حسناتهم و أعمالهم الصالحة التي قاموا بها من قبل تُحبَط و تزول فور القيام بالعمل المذكور (و هذا هو معنى حبط الأعمال)، عند ما نجد ذلك، و نلاحظ من جهة اخرى أنّ عمر رفع صوته فوق صوت رسول الله و نسب إليه الهجر، و أعدّ هو و أصحابه مجلس الانتهاك و التعدّي حقّاً، فحينئذٍ نفهم أنّ الأحاديث التي نقرأها في كتب العامّة حول فضائله و مناقبه كلّها منحولة موضوعة. لأنّ رسول الله قال: قيسوا صحّة الحديث بكتاب الله! فإذا جعل كتابُ الله جزاءَ رفع الصوت عند رسول الله حبطاً للأعمال، فكيف يتسنّى لنا إذن أن نسلّم بهذه المناقب المنحولة؟!
كلام أبي الفداء الدمشقيّ الماكر في الجمع بين أحاديث الوصيّة
البحث العاشر: قال أبو الفداء ابن كثير الدمشقيّ في تاريخه بعد إيراد الحديث الأوّل الذي نقلناه عن البخاريّ، ثمّ ذكرناه عن مسلم، و هو أيضاً رواه عنهما، و جاء فيه: مَا شَأنُهُ؟ أ هَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ! وَ هَذَا الحَدِيثُ مِمَّا قَدْ تَوَهَّمَ بِهِ بَعْضُ الأغْبِيَاء مِنْ أهْلِ البِدَعِ مِنَ الشِّيعَةِ وَ غَيْرِهِمْ؛ كُلٌّ مُدَّعٍ أنَّهُ كَانَ يُرِيدُ أنْ يَكْتُبَ في ذَلِكَ الكِتَابِ مَا يَرْمُونَ إلَيْهِ مِنْ مَقَالاتِهِمْ. ثمّ قال: هذا توهّم باطل. و هذا هو التمسّك بالمتشابه و ترك المحكم، و أهل السنّة يأخذون بالمحكَم و يردّون ما تشابه إليه. و هذه هي طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله عزّ و جلّ في كتابه.
ثمّ قال: و هذا الموضع ممّا زلّ فيه أقدام كثير من أهل الضلالات. و أمّا أهل السنّة فليس لهم مذهب إلّا اتّباع الحقّ يدورون معه كيفما دار. و هذا الذي كان يريد رسول الله صلى الله عليه و آله أن يكتبه قد جاء في
الأحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه. فإنّه قد قال الإمام أحمد ابن حنبل عن مؤمّل، عن نافع، عن ابن عمر، و ابن أبي مليكة، عن عائشة أنّها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و اله في مرض موته: ادْعُوا لي أبَا بَكْرٍ وَ ابْنَهُ لِكَي لَا يَطْمَعَ في أمْرِ أبِي بَكْرٍ طَامِعٌ وَ لَا يَتَمَنَّاهُ مُتَمَنٍّ. ثمّ قال: يَأبَى اللهُ ذَلِكَ وَ المُؤْمِنُونَ مَرَّتَيْنِ. انفرد به أحمد من هذا الوجه.
و روى أحمد بن حنبل أيضاً عن أبي معاوية، عن عبد الرحمن بن أبي بكر القرشيّ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: لمّا ثقل رسول الله، قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: ائْتِنِي بِكَتِفٍ أوْ لَوْحٍ حتى أكْتُبَ لأبِي بَكْرٍ كِتَاباً لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ أحَدٌ. فلمّأ ذهب عبد الرحمن ليقوم، قال: أبى اللهُ وَ المُؤْمِنُونَ أنْ يَخْتَلِفَ عَلَيْكَ يَا أبَا بَكْرٍ! انفرد به أحمد من هذا الوجه أيضاً.
و روى أيضاً عن يحيى بن يحيى، عن سليمان بن بلال، عن يحيى ابن سعيد، عن القاسم بن محمّد، عن عائشة أنّها قالت: قال رسول الله: لَقَدْ هَمَمْتُ أن ارْسِلَ إلَى أبِي بَكْرٍ وَ ابْنِهِ فَأعْهَدَ أنْ يَقُولَ القَائِلُونَ أوْ يَتَمَنَّى مُتَمَّنُونَ، فَقَالَ: يَأبَى اللهُ - أوْ يَدْفَعُ المُؤْمِنُونَ، أوْ يَدْفَعُ اللهُ وَ يَأبَى المُؤْمِنُونَ.۱
الأحاديث المتقدّمة من وضع عائشة
لا يداخلنا الريب أنّ هذه الأحاديث من صنع عائشة، إذ وضعتها لتعزيز موقع أبيها و أخيها عبد الرحمن الذي ارصد له العذاب الأبديّ حسب الآيتين الكريمتين: وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ،۱ و عائشة هي التي أو قدت نار الجَمَل، و سبّبت في قتل اثني عشر ألفاً من المسلمين، بعد أن ركبت جملها و تولّت قيادة الجيش من أجل إطفاء نور أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الإمام بالحقّ و الحجّة على الخلق و مركز الولاية و مصدر الصدق و الحقيقة.
و هي التي كانت تقول في عثمان: اقْتُلُوا نَعْثَلًا فَقَدْ كَفَرَ. و لكن لمّا بايع الناس أمير المؤمنين عليه السلام، قالت: عليّ قاتل عثمان، و كتبت إلى الأمصار تدعو الناس إلى حرب أمير المؤمنين متذرِّعة بأنّ عثمان قُتل مظلوماً و أنّ عليّاً هو الذي قتله.
و لكن ما عسانا أن نقول لإخواننا السنّة الذين يرون أنّ عائشة هي الصدِّيقة الوحيدة، و قد أضفوا عليها لقب حبيبة رسول الله، و عدّوها طاهرة مطهّرة أمينة صادقة، و صحّحوا الأحاديث المنقولة عنها.
و نحن ندعو القرّاء الكرام إلى مطالعة كتاب «أحاديث امّ المؤمنين عائشة» للعلّامة الجليل المجاهد ابن خالنا المكرّم سماحة آية الله السيّد
مرتضى العسكريّ۱ أطال الله بقاءه، و أمدّ في عمره الشريف و نفع المسلمين بدوام حياته و مؤلّفاته، و ذلك من أجل أن تستبين لهم سيرة عائشة و أحاديثها.
و لا نروم التحدّث عن عائشة و أحاديثها المنحولة الموضوعة هنا أو في مواطن اخرى. و إنّما يحوم حديثنا حول أبي الفداء الدمشقيّ مؤلّف كتاب «البداية و النهاية» الذي عدّ الأحاديث المنقولة عن ابن عبّاس في رزيّة يوم الخميس التي طلب فيها رسول الله الكتف و الدواة متشابهة، و الأحاديث الموضوعة على لسان عائشة محكمة، و أرجع تلك الأحاديث إلى هذه الأحاديث، و تقوّل على الشيعة و قذفهم بالغباء و الحمق، إذ استهدوا بها دليلًا على ولاية أمير المؤمنين و خلافته.
و نكتفي في شرح و توضيح بطلان كلام هذا الرجل المتعصّب بالقول: حسناً، نحن لا نقول شيئاً إذ حسبتَ تلك الأحاديث (الأحاديث المنقولة عن ابن عبّاس) متشابهة، و هذه الأحاديث (المنقولة عن عائشة) محكمة، لكن كيف تنكر الحقيقة و المعالم واضحة دالّة عليها؟ إذا كان مراد رسول الله من كتابته الوصيّة لأبي بكر، فلما ذا زعق عمر و أعوانه؟ و لما ذا نسب الهجر إلى رسول الله؟ و لما ذا أخلّوا بنظم المجلس و كثر اللَّغط و علت الجَلَبة؟ و لما ذا قال رسول الله: هذه النساء خير منكم؟ و قال: قوموا، اذهبوا؟ و لما ذا عدّ ابن عبّاس تلك القضيّة رزيّة؟ و لما ذا ذكر شدّة تلك المصيبة و صعوبتها بقوله: يوم الخميس و ما يوم الخميس؟ و لما ذا بكى
حتّى ابتلّ الحصى بدموع عينيه، و كانت دموعه تسيل كحبّات اللؤلؤ؟
كان عمر النصير الوحيد لأبي بكر، و كان معينه و أخاه و أداته التنفيذيّة! فلا بدّ أن يبتهج إذا ما أراد النبيّ أن يوصي له، و لا بدّ أن يؤيّده، و يرى كلامه و حياً منزلًا! فلما ذا أثار تلك الضجّة مشاقّة لرسول الله، فيقول بعض الحاضرين: ائتوا بالكتف و الدواة كما قال رسول الله، و بعض آخر يرى ما رآه عمر فلا حاجة إلى ذلك؟
هذه كلّها قرائن و أدلّة ساطعة كالشمس، و هي تكشف لنا أنّ المراد من كتابة رسول الله كتابة خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام و تفصيل حديث الثَّقَلَين المتكرّر.
و لو كانت الأحاديث المأثورة عن عائشة صحيحة أيضاً، فعليك أن تعدّها محكمة بهذه القرائن الكثيرة، في الأحاديث العديدة التي ذكرها البخاريّ، و مسلم، و أحمد، و غيرهم، و سندها صحيح أيضاً، و تعدّ أحاديث أحمد متشابهة، و تُرجع تلك إلى هذه، فتكون قد قمت بعمل عقلائيّ، و أرحتَ نفسك و المسلمين و أتباع مذهبك، و نفضتَ عنك غبار الجهل و الإصرار على العناد بشهادة أنَّ عَلِيَّاً أمِيرُ المُؤْمِنِينَ وَ سَيِّدُ الوَصِيِّينَ وَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ! و هذا هو الصراط المستقيم.
بَيْدَ أنّك لم تفعل ذلك! و حسبتَ الشيعة ضالّين إذ وصفتهم بالغباء و الحمق، و ظننتَ أنّ الموضوع قد انتهى عند هذا الحدّ! هَيهاتَ! هَيهاتَ! فإنّ الآيات الظاهرة مَعْلَم على إخفاء الحقيقة. و نحن الشيعة نحمّلكم أنتم العلماء و المصنّفون و المؤلّفون وِزر الامّة المسكينة و إصرها، فإنّكم زوّرتم الحقائق مع علمكم و تدبيركم! إنّكم عجزتم عن أن تفعلوا شيئاً لهذه الأحاديث الصحيحة المرويّة في صحاحكم عن ابن عبّاس و هي أظهر من الشمس في دلالتها! و عجزتم عن أن تقدحوا في صحّتها! و عجزتم عن أن
تتغاضوا عنها فتريحوا أنفسكم من شرّها! عجزتم عن ذلك كلّه و جئتم فحسبتموها متشابهة بهذا التزوير و الدسّ، و خلتم أنفسكم من الراسخين في العلم و جلستم مجلسهم وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ۱ وا حسرتاه، إذ لم تعلموا أنّهم يريدون أن يضلّوكم و ينزلوكم من مجلسكم.
أجوبة علماء العامّة في الاعتذار عن عمل عمر مرفوضة كلّها
البحث الحادي عشر: إنّ الأجوبة التي قدّمها علماء العامّة لهذا الحديث تتمثّل في أنّ مراد رسول الله صلى الله عليه و آله من هذه الكتابة لم يكن الوصيّة لعليّ بن أبي طالب عليه السلام، و تعود محصّلة تلك الأجوبة إلى عدد من الأجوبة، هي:
الأوّل: لعلّ رسول الله حين أمرهم بإحضار الدواة و الكتف لم يكن قاصداً لكتابة شيء من الأشياء، و إنّما أراد بكلامه مجرّد اختبارهم، هل يطيع أحد أمره أم لا؟ كاختبار الله تعالى إبراهيم في ذبح ولده، اذ لم يكن القصد حقيقة الذبح، بل هو اختبار إبراهيم عليه السلام.
و تنبّه عمر الفاروق وحده هنا لهذه النقطة دون غيره من الصحابة، فمنعهم من الإحضار، فيجب -على هذا- عدّ تلك الممانعة في جملة كراماته و موافقاته لربّه تعالى.
و لا يصحّ هذا الجواب، لأنّ قوله: لَا تَضِلُّوا يأبى ذلك، لأنّه جواب ثان لأمر رسول الله: ائْتُونِي، و جوابه الأوّل: أكْتُبْ. فمعناه أنّكم إن أتيتم بالدواة و الكتف، أكتب لكم، و إذا كتبتُ لا تضلّوا بعده! و لا يخفى أنّ الإخبار بمثل هذا الخبر لمجرّد الاختبار إنّما هو نوع من الكذب الواضح الذي يجب تنزيه كلام الأنبياء عليهم السلام عنه، لا سيّما في موضع يكون ترك إحضار الدواة و الكتف أولى من إحضارهما.
مضافاً إلى ذلك، أنّ صريح الحديث يدلّ على أنّ هذه الواقعة إنّما كانت حال احتضار رسول الله، فالوقت لم يكن وقت اختبار، و إنّما كان وقت إعذار و إنذار، و وصيّة بكلّ مهمّة، و نظر في الامور الواجبة الذكر، و نصح تامّ للُامّة.
و المحتضر بعيد عن الهزل و المفاكهة، مشغول بنفسه و بمهمّاته، و مهمّات ذويه، و لا سيّما إذا كان نبيّاً. و إذا كانت صحّته مدّة حياته كلّها لم تسع اختبارهم، فكيف يسعها وقت احتضاره؟
على أنّ قوله صلى الله عليه و آله حين أكثروا اللغو و اللَّغَط و الاختلاف عنده: «قوموا» ظاهر في استيائه منهم. و لو كان الممانعون مصيبين لاستحسن ممانعتهم، و أظهر الارتياح إليها.
و مَن ألَمَّ بأطراف هذا الحديث، و بخاصّة قول عمر: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ يقطع بأنّهم كانوا عالمين أنّه إنّما يريد أمراً يكرهونه، و لذا تجاسروا بكلمة هَجَرَ رَسُولُ اللهِ تلك و أكثروا عنده اللغو و اللغط و الاختلاف كما لا يخفى، و بكاء ابن عبّاس بعد ذلك لهذه الحادثة، و عدّها رزيّة دليل على بطلان هذا الجواب.
و لو كان هذا الأمر للاختبار، فإنّه دليل على ذمّ عمر لا مدحه، لأنّه سقط فيه! و نحن نجد في الأمر الاختباريّ كما في قصّة إبراهيم عليه السلام أنّه عمل حسب الأمر الموجَّه إليه، لكنّ الله حال بينه و بين تنفيذ العمل. أمّا عمر فإنّه لم يأتمر بل خالف منذ البداية. و لو قام و أتى بالكتف و الدواة، و منعه رسول الله صلى الله عليه و آله من ذلك، لكان هذا التسويغ موجّهاً، بَيدَ أنّ الموضوع على عكس ذلك!
الثاني: إنّ أمره صلى الله عليه و آله هنا لم يكن أمر عزيمة و إيجاب حتى لا يجوز ردّه، و يصير الرادّ عاصياً، بل كان أمر مشورة. لأنّ الناس
كانوا يردّون كلام النبيّ في بعض تلك الأوامر، و لا سيّما عمر، فإنّه كان يعلم من نفسه أنّه موفّق للصواب في إدراك المصالح، و كان صاحب إلهام من الله تعالى. و قد أراد التخفيف عن النبيّ إشفاقاً عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض و الوجع، و قد رأى أنّ ترك إحضار الدواة و البياض أولى.
و ربّما خشى أن يكتب النبيّ صلى الله عليه و آله اموراً يعجز الناس فيستحقّون العقوبة بسبب ذلك، لأنّها تكون منصوصة لا سبيل إلى الاجتهاد فيها.
و لعلّه خاف من المنافقين أن يقدحوا في صحّة ذلك الكتاب لكونه في حال المرض فيصير سبباً للفتنة، فقال: حَسبُنَا كِتَابُ اللهِ لقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ.۱ و قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.٢ و كأنّ عمر أ مِنَ من ضلال الامّة حيث أكمل الله لها الدين و أتمّ عليها النعمة، لذا قال: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ.
و هذا الجواب لا يصحّ أيضاً، لأنّ قول رسول الله صلى الله عليه و آله: لَا تَضِلُّوا يفيد أنّ الأمر أمر عزيمة و إيجاب لا أمر مشورة. لأنّ السعي فيما يوجب الأمن من الضلال واجب مع القدرة عليه بلا ارتياب. و استياء النبيّ صلى الله عليه و آله منهم و قوله لهم: قوموا، حين لم يمتثلوا أمره دليل آخر على أنّ أمره إنّما كان للإيجاب لا للمشورة.
و مضافاً إلى ذلك فإنّهم قالوا: إنّ عمر كان موفّقاً للصواب في إدراك المصالح، و كان صاحب إلهام من الله تعالى. و هذا ممّا لا يُصغي إليه في
مقامنا هذا، لأنّه يرمي إلى أنّ الصواب في هذه الواقعة إنّما كان في جانبه لا في جانب النبيّ صلى الله عليه و آله، و أنّ إلهام عمر يومئذٍ كان أصدق من الوحي الذي نطق عنه الصادق الأمين صلى الله عليه و آله.
و إذا قال أحد هنا لردّ الأمر الإيجابيّ: لو كان الإتيان بالدواة و الكتاب واجباً، و كانت الكتابة واجبة على النبيّ، ما تركها بمجرّد مخالفتهم، كما أنّه لم يترك التبليغ بسبب مخالفة الكافرين.
و جوابه: لو تمّ هذا الكلام، فإنّما يفيد كون كتابة ذلك الكتاب غير واجبة على النبيّ صلى الله عليه و آله. و هذا لا يُنافي وجوب الإتيان بالدواة و الكتف عليهم حين أمرهم النبيّ به، و بيّن لهم أنّ فائدته الأمن من الضلال و دوام الهداية لهم. إذ الأصل في الأمر إنّما هو الوجوب على المأمور، لا على الأمر، و لا سيّما إذا كانت فائدته إلى المأمور خاصّة، و الوجوب عليهم هو محلّ الكلام، لا الوجوب عليه. على أنّه يمكن أن يكون واجباً على النبيّ أيضاً، ثمّ سقط الوجوب عنه بعدم امتثالهم، و قولهم: هَجَرَ، حيث لم يبق لذلك الكتاب أثر سوى الفتنة و الفساد.
الثالث: إنّ عمر لم يفهم من كلام رسول الله صلى الله عليه و آله أنّ ذلك الكتاب سيكون سبباً لحفظ كلّ فرد من أفراد الامّة من الضلال، بحيث لا يضلّ بعده منهم أحد أصلًا، و إنّما فهم من قوله: لا تضلّوا، أنّكم لا تجتمعون على الضلال بقضّكم و قضيضكم، و كان يعلم أنّ اجتماعهم على الضلال ممّا لا يكون أبداً، و بسبب ذلك لم يجد أثراً لكتابته. و ظنّ أنّ مراد النبيّ ليس إلّا زيادة الاحتياط في الأمر، لما جُبِل عليه من وفور الرحمة. فعارضه تلك المعارضة بناءً منه على أنّ الأمر ليس للإيجاب.
و هذا الجواب غير سديد أيضاً، لأنّ قوله: لا تضلّوا يفيد أنّ الأمر للإيجاب، و استياءه منهم دليل على أنّهم تركوا أمراً من الواجبات عليهم.
و هذا المعنى هو المتبادر من الحديث إلى أفهام الناس، و فهم القرويّ و الحضريّ على أنّه لو كُتب، لكان علّة تامّة في حفظ كلّ فرد من الضلال. و عمر لم يكن بهذا المقدار من البعد عن الفهم، فيفهم أنّ مراده عدم اجتماع الامّة على الضلال.
و كان عمر يعلم يقيناً أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لم يكن خائفاً على امّته أن تجتمع على الضلال، لأنّه كان يسمع قوله صلى الله عليه و آله: لَا تَجْتَمِعُ امتِي عَلَى ضَلَالٍ. وَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الخَطَأ. و كان يسمع قوله: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ امَّتِي ظَاهِرينَ عَلَى الحَقِّ. و كان يقرأ قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً.۱ إلى كثير من نصوص الكتاب و السنّة الصريحين بأنّ الامّة لا تجتمع بأسرها على الضلال.
فلا يعقل مع هذا أن يسنح في خواطر عمر أو غيره أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حين طلب الدواة و الكتف كان خائفاً من اجتماع امّته على الضلال. و الذي يليق بعمر أن يفهم من الحديث ما يتبادر منه إلى الأذهان، لا ما تنفيه صِحاح السنّة و محكمات القرآن.
على أنّ استياء رسول الله منهم دليل على أنّ الذي تركوه كان من الواجب عليهم. و لو كانت معارضة عمر عن اشتباه منه في فهم الحديث كما زعموا، لأزال النبيّ شبهته، و أبان له مراده منه، بل لو كان في وسع النبيّ أن يقنعهم بما أمرهم به، لما آثر إخراجهم عنه.
و بكاء ابن عبّاس و جزعه من أكبر الأدلّة على ما نقوله. و الإنصاف أنّ هذه الرزيّة من أعظم الرزايا التي حلّت بالنبيّ و الإسلام و الشرف و الإنسانيّة، و هي ممّا يضيق عنها نطاق العذر عن عمر دفاعاً عن ساحته.
و قولهم: خاف عمر من المنافقين أن يقدحوا في صحّة ذلك الكتاب لكونه صلى الله عليه و آله في حال المرض، فيصير سبباً للفتنة، اعتباط و محال، مع وجود قوله صلى الله عليه و آله: لا تضلّوا، لأنّه نصّ بأنّ ذلك الكتاب سبب للأمن عليهم من الضلال، فكيف يمكن أن يكون سبباً للفتنة بقدح المنافقين؟
و إذا كان عمر خائفاً من المنافقين أن يقدحوا في صحّة ذلك الكتاب، فلما ذا بذر لهم بذرة القدح، حيث عارض و مانع و قال: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ.
و أمّا قولهم في تفسير قوله: حسبنا كتاب الله أنه تعالى قال: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» و قال: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» فغير صحيح، لأنّ الآيتين لا تفيدان الأمن من الضلال، و لا تضمنان الهداية للناس. فكيف يجوز ترك السعي في ذلك الكتاب اعتماداً عليهما؟
و لو كان وجود القرآن العزيز موجباً للأمن من الضلال، لما وقع في هذه الامّة من الضلال و التفرّق ما لا يُرجَى زواله.
و لم يكن مراد رسول الله من الكتاب كتابة الأحكام، حتى يقال في جوابه: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ. و لو فرض أنّ مراده كان كتابة الأحكام، فلعلّ النصّ عليها منه كان سبباً للأمن من الضلال، فلا وجه لترك السعي في ذلك النصّ اكتفاءً بالقرآن.
و لو فرضنا أنّه لم يكن لذلك الكتاب أثر إلّا الأمن من الضلال بمجرّده، لما صحّ تركه و الإعراض عنه أيضاً اعتماداً على أنّ كتاب الله جامع لكلّ شيء. و هذا كلام لا يُعقَل.
إنّ الامّة الإسلاميّة بحاجة ماسّة إلى السنّة المقدّسة، و لا تستغني عنها بكتاب الله تعالى و إن كان جامعاً مانعاً، لأنّ الاستنباط منه غير مقدور لكلّ أحد.
و لو كان كتاب الله مغنياً عن بيان الرسول، ما أمر الله نبيّه ببيانه للناس، إذ قال: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.۱
و أجاب البعض عن فعل عمر بأنّه على خلاف سيرة القوم كَفَرْطَةٍ سَبَقَتْ وَ فَلْتَةٍ نَذَرَتْ. و نحن لا نعلم وجه صحّته مفصّلًا.
و هذا غير سديد أيضاً، لأنّ القضيّة لو كانت زلّة مؤقّتة مضت في وقتها و لم تُعْقِب شيئاً، لأمكن التغاضي عنها. بَيدَ أنّها لم تكن كذلك، إذ أعقبت نتائج سيّئة للنبوّة و الولاية و حياة البشريّة و المسلمين حتى قيام قائم آل محمّد صلى الله عليه و آله.
إنّ هذه الفرطة و الفلتة كعمل ضئيل يسير يتمثّل في إصدار قائد الجيش أمراً يُبيد فيه جنوده برمّتهم. و هي كالضغط على زرّ قنبلة هيدروجينيّة أو ذرّيّة، فيحيل الضاغط قارّة بأسرها رماداً على غرّة. و ينبغي أن لا نقول عملًا ضئيلًا يمكن التغاضي عنه، إذ لا بدّ أن نرى مدى
أثره إلى أقصى مداه في العالم. مضافاً إلى ذلك، أنّنا لم نجد أنّ عمر قد ندم على عمله، بل كان يزداد انتهاكاً و تعدّياً على مرِّ الأيّام منذ الوقت الذي رتّب فيه ذلك المجلس المعروف. فهل يمكن التغاضي عن هذا الإصر؟!
جرائم عمر غيّرت مجرى التأريخ
إن جرائم عمر لم تقتصر على أهل بيت النبوّة و بني عبد المطّلب و على رأسهم عليّ بن أبي طالب و بضعة الرسول الكريمة فاطمة الزهراء، بل امتدّت فغيّرت مجرى التأريخ الإسلاميّ. إنّه أساء إلى خطّ النبوّة و انتهك قداسته، و خان إبراهيم و موسى و المسيح، و أضرّ بأصل الإنسانيّة و مسّ شرفها و خلودها. و أغار على موكب السائرين في طريق المعرفة، و ترك الدنيا ناراً مستعرة، و شلّ الخطّة التي أتى بها رسول الله بأمر ربّه من أجل خير الناس و إعدادهم لدخول الجنّة. فلو كانت قضيّة عمر منحصرة في جنايته على أمير المؤمنين و فاطمة الزهراء و حدهما، لأمكن التغاضي عنها.
إنّه حطّم كيان الصدق و الأمانة، و اشتبك مع روح النبوّة من خلال نسبة الهجر إلى القطب الأوّل في عالم الوجود، و تشكيل مشهد المنع، و ردّ الاعتراض. إنّه طَيَّن عين الشمس.
شور بختان به آرزو خواهند | *** | مقبلان را زوال نعمت و جاه |
گر نبيند به روز شبپره چشم | *** | چشمه آفتاب را چه گناه |
راست خواهى هزار چشم چنان | *** | كور، بهتر كه آفتاب سياه۱ |
لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام روح رسول الله صلى الله عليه و آله و سرّه و نفسه النفيسة. و كان عالماً بالكتاب و السنّة، عارفاً بالله و مبدأه و معاده. و لم يكن أحد مثله كما أجمعت على ذلك الامّة بأسرها. أمّا عمر فقد سلّط فأسه على جذر هكذا شجرة، و حاول تنزيله من مقامه الشامخ ليرديه إلى الأرض! لقد عزل أمير المؤمنين، أو حقيقة العلم و المعلّم الثاني للُامّة بعد رسول الله، و لم يعزله خمساً و عشرين سنة فحسب، بل عزله حتى ظهور الإمام المهديّ. و قد طمس معنى القرآن و تفسيره و تأويله، و قدّمه إلى الامّة جسداً بلا روح كالورق. و لو كان عمله جزئيّاً و فلتة و فرطة، فلا معنى عندنا للعمل العامّ و المهمّ.
و هنا يتبيّن كلام رسول الله: مَا اوذِيَ نَبِيّ مِثْلَ مَا اوذِيتُ قَطُّ. إنّه الأذى الروحي الذي عاناه رسول الله صلى الله عليه و آله من مقرّبين كهؤلاء حتى قال و هو يحتضر: قوموا، اذهبوا، و أعرض بوجهه الكريم عنهم، و رأى أنّ أفضل هديّة يقدّمها لابنته فاطمة بعده هي الموت. و لمّا أخبرها أنّها أوّل أهله لحوقاً به، سُرَّتْ و ضحكت. أيّ فاطمة هي؟ إنّها فاطمة التي قال الشاعر في حقّها:
مِشْكَاةُ نُورِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ | *** | زَيْتُونَة عَمَّ الوَرَى بَرَكَاتُهَا |
هي قُطْبُ دَائِرَةِ الوُجُودِ وَ نُقْطَةٌ | *** | لَمَّا تَنَزَّلَتْ أكْثَرَت كَثَراتِهَا |
هي أحْمَدُ الثَّانِي وَ أحْمَدُ عَصْرِهَا | *** | هي عُنْصُرُ التَّوْحِيدِ في عَرَصَاتِهَا۱ |
صبر رسول الله و عليّ عليهما السلام و تحمّلهما أمام المشاكل
و أوصى رسول الله صلى الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب عليه السلام بالصبر و الاستقامة حفظاً للإسلام و بقاءً للشرف الإنسانيّ، و صبر عليه السلام و استقام حتى حار الصبر و الاستقامة منه.
و ينبغي أن لا نتلمّس شجاعة علىّ في السيف يوم احُد، و بدر، و الأحزاب، و حُنَين. بل نتلمّسها هنا، إذ السيف بيده و لم يضرب به، و لم يسفك قطرة دم واحدة حتى لو عصروا فاطمة بين الباب و الجدار. ذلك أنّ حبيبه رسول الله قال له: إن لم تجد ناصراً، فلا تُشهر سيفك!
غير از على، كه لايق پيغمبرى بُدى؟ | *** | گر خواجهء رسل نبُدى ختم أنبياء |
فردا كه هر كسى به شفيعى زنند دست | *** | دست من است و دامن معصوم مرتضي۱ |
يقول القاضي نور الله الشوشتريّ في «مجالس المؤمنين» في باب تشيّع سعدي الشيرازيّ: من جملة أشعار الشيخ العظيم التي تدلّ على صحّة عقيدته البيتان المذكوران اللذان رأيتهما في نسخة قديمة من ديوانه.
و يمكن أن نعد شعره في ديباجة «بوستان» دليلًا آخراً على تشيّعه أيضاً؛ يقول:
خدايا به حقّ بنى فاطمه | *** | كه بر قول ايمان كنم خاتمه |
اگر دعوتم رد كنى يا قبول | *** | من و دست دامان آل رسول٢ |
و يرشدنا البيت الآتي أيضاً بصراحة إلى ولائه لإمامة أمير المؤمنين عليه السلام و ولايته:
سعديا شرمى بدار آخر چه مىترسى بگو | *** | نيست بعد از مصطفى مولاي ما إلّا على۱ |
روى أبو نُعَيم الإصفهانيّ بسنده عن أبي صالح الحنفيّ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أوْصِنِي! قَالَ: قُلْ رَبِّيَ اللهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ! قَالَ: قُلْتُ: اللهُ رَبِّي وَ مَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إلَيْهِ انِيبُ! فَقَالَ: لِيَهنِكَ العِلْمُ أبَا الحَسَنِ لَقَدْ شَرِبْتَ العِلْمَ شُرْباً، وَ نَهِلْتَهُ نَهْلًا.
و نحن لا نجد أحداً من الصحابة مطّلعاً على سرّ عالَم الوجود و سبيل الخير و السعادة و طريق الحصانة من الآفات و العاهات الروحيّة و المعنويّة كأمير المؤمنين عليه السلام، و خطبه و كلماته كخطب رسول الله و كلماته، و كأنّه هو و رسول الله قد تناميا من جذر واحد. فهما عليهما الصلاة و السلام
آسمان را حق بود گر خون ببارد بر زمين | *** | بر زوال ملك مستعصم أمير المؤمنين |
من منظار التحليل العلميّ في خطّ واحد و مسير واحد. لذا يجب أن يكون عليّ خليفة محمّد صلى الله عليهما و سلّم.
كلماتٌ لأمير المؤمنين عليه السلام
انظر في الكلمات الآتية المأثورة عن أمير المؤمنين، فهي في قوّتها و رصانتها ككلمات رسول الله صلى الله عليه و آله:
روى أبو نُعَيم بسنده عن قيس بن أبي حازم أنّه قال: قال عليّ عليه السلام: كُونُوا لِقَبُولِ العَمَلِ أشَدَّ اهْتِمَاماً مِنْكُمْ بِالعَمَلِ! فَإنَّهُ لَنْ يَقِلَّ عَمَلٌ مَعَ التَّقْوَى، وَ كَيْفَ يَقِلُّ عَمَلٌ يُتَقَبَّلُ؟
و روى أيضاً عن عبد خَير، عن عليّ عليه السلام قال: لَيْسَ الخَيْرَ أنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وَ وَلَدُكَ وَ لَكِنَّ الخَيْرَ أنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ، وَ يَعْظُمَ حِلْمُكَ، وَ أنْ تُبَاهِيَ النَّاسَ بِعِبَادَةِ رَبِّكَ. فَإنْ أحْسَنْتَ حَمِدتَ اللهَ، وَ إنْ أسَأتَ اسْتَغْفَرْتَ اللهَ. وَ لَا خَيْرَ في الدُّنْيَا إلَّا لأحَدِ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ أذْنَبَ ذَنْباً فَهُوَ تَدَارَكَ ذَلِكَ بِتَوْبَةٍ، أوْ رَجُلٍ يُسَارِعُ في الخَيْرَاتِ، وَ لَا يَقِلُّ عَمَلٌ في تَقْوَى، وَ كَيْفَ يَقِلُّ مَا يُتَقَبَّلُ؟
و روى أيضاً بسنده عن عِكَرَمة بن خالد أنّه قال، و كذلك بسنده الآخر عن أبي زَغَل أنّه قال: قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: احْفَظُوا عَنِّي خَمْساً! فَلَوْ رَكِبْتُمُ الإبِلَ في طَلَبِهَا لأنْضَيْتُمُوهُنَّ قَبلَ أن تُدْرِكُوهُنَّ: لَا يَرْجُو عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ، وَ لَا يَخَافُ إلأ ذنْبَهُ، وَ لَا يَسْتَحْيِي جَاهِلٌ أن يَسْألَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ، وَ لَا يَسْتَحْيِي عَالِمٌ إذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أن يَقُولَ: اللهُ أعْلَمُ. وَ الصَّبْرُ مِنَ الإيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأسِ مِنَ الجَسَدِ. وَ لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ.
و روى أيضاً بسنده عن المهاجر بن عُمَير أنّه قال: قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: إنَّ أخْوَفَ مَا أخَافُ اتِّبَاعُ الهَوَى وَ طُولُ الأمَلِ. فَأمَّا اتِّبَاعُ الهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الحَقِّ، وَ أمَّا طُولُ الأمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ.
ألَا وَ إنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً. ألَا وَ إنَّ الآخِرَةَ قَدْ تَرَحَّلَتْ مُقْبِلَةً،
وَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَنُونَ. فَكُونُوا مِنْ أبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَ لَا تَكُونُوا مِنْ أبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَ لَا حِسَابٌ، وَ غَداً حِسَابٌ وَ لَا عَمَلٌ.۱
و كذلك روى بسنده عن عاصم بن ضُمَرَة أنّه قال: قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: ألَا إنَّ الفَقِيهَ كُلَّ الفَقِيهَ الذي لَا يُقَنِّطَ النَّاسَ مِن رَحْمَةِ اللهِ، وَ لَا يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَ لَا يُرَخِّصُ لَهُمْ في مَعَاصِي اللهِ، وَ لَا يَدَعُ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلى غَيْرِهِ. وَ لَا خَيْرَ في عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَ لَا خَيْرَ في عِلْمٍ لَا فَهْمَ فِيهِ، وَ لَا خَيْرَ في قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا.٢
و روى أيضاً بسنده عن عمرو بن مُرَّة، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: كُونُوا يَنَابِيعَ العِلْمِ، مَصَابِيحَ اللَّيْلِ، خَلِقَ الثِّيَابِ، جُدُدَ القُلُوبِ، تُعْرَفُوا بِهِ في السَّمَاءِ، وَ تُذْكَرُوا بِهِ في الأرْضِ.٣
و روى بسنده عن أبي أراكة أنّه قال: صلى عَلِيّ الغَدَاةَ ثُمَّ لَبِثَ في مَجْلِسِهِ حتى ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ قَيْدَ رُمْحٍ كَأنَّ عَلَيْهِ كَآبَةً. ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأيْتُ أثَراً مِنْ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَمَا أرَى أحَداً يُشْبِهُهُمْ. وَ اللهِ إنْ كَانُوا لَيُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً صُفْراً، بَيْنَ أعْيُنِهِمْ مِثْلُ رُكَبِ المَعْزَى، قَدْ بَاتُوا يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ أقْدَامِهِمْ وَ جِبَاهِهِمْ (بين السجود و القيام)،٤ إذَأ ذكِرَ اللهُ مَادُوا كَمَا تَمِيدُ الشَّجَرَةُ في يَوْمِ رِيحٍ، فَانْهَمَلَتْ
أعْيُنُهُمْ حتى تَبَلَّ وَ اللهِ ثِيَابُهُمْ، وَ اللهِ لَكَأنَّ القَوْمَ بَاتُوا غَافِلِينَ.۱
و روى بسنده عن نوف البِكاليّ أنّه قال: رأيتُ عليّ بن أبي طالب خرج و نظر في النجوم و قال: يَا نَوْفُ! أ رَاقِدٌ أنْتَ أمْ رَامِقٌ؟! قُلْتُ: بَلْ رَامِقٌ يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: يَا نَوْفُ! طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ في الدُّنْيَا، الرَّاغِبِينَ في الآخِرَةِ، اولَئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الأرْضَ بِسَاطاً، وَ تُرابَهَا فِرَاشاً، وَ مَاءَهَا طِيباً، وَ القُرآنَ و الدُّعَاءَ دِثَاراً وَ شِعاراً، قَرَضُوا الدُّنْيَا عَلَى مِنْهَاجِ المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
يَا نَوْفُ! إنَّ اللهَ تَعَالَى أوْحَى إلَى عيسى أنْ مُرْ بَنِي إسْرَائِيلَ أنْ لَا يَدْخُلُوا بَيْتاً مِنْ بُيُوتِي إلَّا بِقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، وَ أبْصَارٍ خَاشِعَةٍ، وَ أيْدٍ نَقِيَّةٍ، فَإنِّي لَا أسْتَجِيبُ لأحَدٍ مِنْهُمْ وَ لأحَدٍ مِنْ خَلْقِي عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ.
يَا نَوْفُ! لَا تَكُنْ شَاعِراً، وَ لَا عَرِيفاً، وَ لَا شُرْطِيّاً، وَ لَا جَابِياً، وَ لَا عَشَّاراً، فَإنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ في سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: إنَّهَا سَاعَةٌ لَا يَدْعُو عَبْدٌ إلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ فِيهَا، إلَّا أنْ يَكُونَ عَرِيفاً، أوْ شُرطِيّاً، أوْ جَابِياً، أوْ عَشَّاراً، أوْ صَاحِبَ عُرْطُبَةِ -وَ هُوَ الطُّنْبُورُ- أوْ صَاحِبَ كُوبَةٍ -وَ هُوَ الطَّبْل-.٢
هل تعلمون لما ذا لم يَنْقَدْ أبو بكر، و عمر و زمرتهما من قريش لأمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين؟ لأنّهم يعلمون أنّه رجل من هذا الطراز. و هذا هو خطّه و منهجه، و هذه هي علومه و زهده، و هذا هو إنصافه و عدله، و هذه هي كلماته و مواعظه.
إنّ عليهم أن يلملموا رحلهم في ظلّ حكومة عليّ، و عليهم أن يكونوا
مأمورين بالسير في هذه الطرق، بَيدَ أنّهم لا يريدون ذلك، يريدون أن يكونوا امراء، امراء في تعبئة الجيوش، و الانتهاك، و العدوان، و الغارة، و الأسر، لا للّه و لا في الله، بل حبّاً لرئاستهم، و إن اقترنت أعمالهم تلك بضروب الظلم و العدوان، لذلك فهم يهجون حكومة عليّ، و يرونها في غير سَدَد.
و أنا مشغول الآن بكتابة هذه الكلمات، خطر في ذهني معنى لقول عمر: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ. و هو أنّه أراد أن يقول: رئاسة عليّ و إمارته، و حكومته هَجْر و هذيان، كقولنا: إنّ الموضوع الفلانيّ ناتج عن رؤيا مضطربة. أنّه يقول: إنّ كلام رسول الله في أبديّة الثقلين يتعذّر قبوله إلى درجة أنّه عين الهجر و الهذيان.
أمّا عليّ فقد اجتاز أنانيّة الهوى و الهوس، و لَحِقَ بالحقّ، و اندكّ في الذات الأحديّة، و وقّف نفسه فداءً للّه و رسوله، فما علاقته بمكيدة القوم التي استخدموها لإقرار حكومتهم؟
شعر في مدح أمير المؤمنين عليه السلام
و ما أروع الشعر الذي نظمه سماحة استاذنا الأكرم آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه الشريفة! حيث قال:
دامن از انديشة باطل بكش | *** | دست از آلودگى دل بكش |
كار چنان كن كه در اين تيره خاك | *** | دامن عصمت نكنى چاكچاك۱و٢ |
يا به دل انديشة جانان ميار | *** | يا به زبان، نام دل و جان ميار |
پيش نياور سخن گنج را | *** | ور نه فراموش نما رنج را |
يا منگر سوى بتان تيز تيز | *** | يا قدم دل بكش از رستخيز |
روى بتان گر چه سراسر خوش است | *** | كشتهء آنيم كه عاشق كش است |
عشق بلند آمد و دلبر غيور | *** | در أدب آويز رها كن غرور |
چرخ بدين سلسله پا در گل است | *** | عقل بدين مرحله لا يعقل است |
جان و جسد سوخته زين مرهمند | *** | مُلك و مَلَك سوخته اين غمند۱ |
خشت اوّل چون نهد معمار كج | *** | تا ثريّا مىرود ديوار كج |
أجل، إنّ عليّاً هو الذي اجتاز الكون و المكان، و طاطأ رأسه مسلّماً خاضعاً لعبوديّة الحقّ.
صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ يَا أبَا الحَسَنِ وَ عَلَى زَوْجَتِكَ الطَّاهِرَةِ وَ أوْلَادِكَ الطَّاهِرِينَ مَا بَقِيَ اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ.
مهر تو را به عالم امكان نميدهم | *** | اين گنج پر بهاست من ارزان نميدهم |
يك قطره از سرشگ كه ريزم به يادشان | *** | آن قطره را به گوهر غلطان نميدهم |
گر انتخاب جنّت و كوثر به من دهند | *** | كوى تو را به جنّت و رضوان نميدهم۱ |
نام تو را به نزد أجانب نميبرم | *** | چون اسم أعظم است، به ديوان نميدهم |
من را غلامى تو بود تاج افتخار | *** | اين تاج را به افسر شاهان نميدهم |
دست طلب ز دامنشان من نميكشم | *** | دل را به غير عترت و قرآن نميدهم |
درّ ولايتى كه نهفتم ازو به دل | *** | تابنده گوهرى است من ارزان نميدهم |
در عاريت سراى جهان! جان عاريت | *** | جز در ثناى حضرت جانان نميدهم |
آل على است جان جهان و جهان جان | *** | بى مهرشان به قابض جان، جان نميدهم |
جان مىدهم به شوق وصال تو يا على | *** | تا بر سرم قدم ننهى جان نميدهم۱ |
امروز هر كسي به بُتى جان سپرده است | *** | من سر به غير قبلهء ايمان نميدهم۱ |
و روى أبو نعيم الإصفهانيّ بسنديه عن حُذيفة بن اليمان أنّه قال: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أ لَا تَسْتَخْلِفُ عَلِيَّاً؟ قَالَ: إنْ تُوَلُّوا عَلِيَّاً تَجِدُوهُ هَادِياً مَهْدِيَّاً يَسْلُكُ بِكُمُ الطَّرِيقَ المُسْتَقِيمَ.٢
و كذلك روى بسندين عن حُذيفة أنّه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنْ تَسْتَخْلِفُوا عَلِيَّاً -وَ مَا أرَاكُمْ فَاعِلين- تَجِدُوهُ هَادِياً مَهْدِيَّاً يَحْمِلُكُمْ عَلَى المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ.٣
حَفِظْتَ رَسُولَ اللهِ فِينَا وَ عَهْدَهُ | *** | إلَيْكَ وَ مَنْ أولى بِهِ مِنْكَ مَنْ وَ مَنْ |
أ لَسْتَ أخَاهُ في الهُدَى وَ وَصِيَّةُ | *** | وَ أعْلَمَ مِنْهُمْ بِالكِتَابِ وَ بِالسُّنَن٤ |
اى خاك كربلاى تو مهر نماز من | *** | آن مهر را به مهر سليمان نميدهم |
جان مىدهم به شوق وصال تو يا حسين | *** | ... |
وَ إنَّ وَلِيّ الأمْرِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ | *** | عَلِيّ وَ في كُلِّ المَوَاطِنِ صَاحِبُهْ |
وَصِيّ رَسُولِ اللهِ حَقَّاً وَ صِنْوُهُ۱ | *** | وَ أوَّلُ مَنْ صلى وَ مَنْ لَانَ جَانِبُهْ٢ |
الدَّرْسُ السَّادِسُ وَ الثَّمانُونَ بَعْدَ المِائَةِ إلى التِّسْعِينَ بَعْدَ المِائَةِ تواتر حديث الثقلين
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
مهمّة رسول الله في بيان الآيات للناس
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ، بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.۱
شاهِدُنا هنا هو ذيل الآية الثانية: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ. أي: أنّنا أرسلنا القرآن إلى الناس تدريجيّاً، و نزوله الدفعيّ إليك من أجل أن تبيّنه للناس و تشرحه و تفسّره، فأنت نافذة و آية لعبور الوحي إلى الناس؛ و نزل القرآن في الحقيقة إليهم و عليهم عبر مرآة نفسك و آيتها و نافذتها الوحيدة! و هكذا فبيانه و توضيحه و شرحه و تفسيره عليك أنت لا على غيرك!
قال سماحة استاذنا الأكرم آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس سرّه في تفسير هذه الفقرة:
لا شكّ أنّ تنزيل الكتاب على الناس، و إنزال الذكر على النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله واحد، بمعنى أنّ تنزيله على الناس هو إنزاله إليه
ليأخذوا به و يوردوه مورد العمل كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً.۱ و قال: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ.٢
فيكون محصّل المعنى أنّ القصد بنزول هذا الذكر إلى عامّة البشر و أنّك و الناس في ذلك سواء. و إنّما اخترناك لتوجيه الخطاب و إلقاء القول لا لنحمّلك قدرة غيبيّة و إرادة تكوينيّة إلهيّة فنجعلك مسيطراً عليهم و على كلّ شيء! بل لأمرين:
أحدهما: أن تبيّن للناس ما نُزِّل إليهم، لأنّ المعارف الإلهيّة لا ينالها الناس بلا واسطة! فلا بدّ من بعث واحدٍ منهم للتبيين و التعليم. و هذا هو غرض الرسالة ينزل إليه الوحي فيحمله ثمّ يؤمر بتبليغه و تعليمه و تبيينه.
و الثاني: رجاءَ أن يتفكّروا فيك فيتبصّروا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله. فإنّ الأوضاع المحيطة بك و الحوادث و الأحوال الواردة عليك في مدى حياتك من اليُتم، و خمود الذكر، و الحرمان من التعلّم و الكتابة، و فقدان مُرَبّ صالح، و الفقر و الاحتباس بين قوم جهلة أخسّاء صفر الأيدي من مزايا المدنيّة و فضائل الإنسانيّة، كانت جميعاً أسباباً قاطعة أن لا تذوق من عين الكمال قطرة، و لا تقبض من عُرى السعادة على مسكة، لكنّ الله سبحانه و تعالى أنزل إليك ذكراً تتحدّى به الجنّ و الإنس مهيمناً على سائر الكتب السماويّة تبياناً لكلّ شيء و هدى و رحمة و برهاناً و نوراً مبيناً.
(إلى أن قال): و من لطيف التعبير في الآية قوله: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، و: ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ بتفريق الفعلين بالإفعال الدالّ على اعتبار الجملة و الدفعة،
و التفعيل الدالّ على اعتبار التدريج.
و لعلّ الوجه في ذلك أنّ العناية في قوله: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ بتعلّق الإنزال بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله فقط من غير نظر إلى خصوصيّة نفس الإنزال، و لذلك أخذ الذكر جملة واحدة، فعبّر عن نزوله من عنده تعالى بالإنزال.
و أمّا الناس، فإنّ الذي لهم من ذلك هو الأخذ و التعلّم و العمل، و قد كان تدريجيّاً، و لذلك عُني به، و عبّر عن نزوله إليهم بالتنزيل.
و في الآية دلالة على حُجّيّة قول النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله في بيان الآيات القرآنيّة.
و أمّا ما ذكره بعضهم أنّ ذلك في غير النصّ و الظاهر من المتشابهات، أو فيما يرجع إلى أسرار كلام الله و ما فيه من التأويل فممّا لا ينبغي أن يُصغى إليه.
هذا في نفس بيانه صلى الله عليه و آله، و يلحق به بيان أهل بيته لحديث الثقلين المتواتر و غيره. و أمّا سائر الامّة من الصحابة أو التابعين أو العلماء، فلا حجّيّة لبيانهم، لعدم شمول الآية و عدم وجود نصّ معتمد عليه يعطي حجّيّة بيانهم على الإطلاق.
و أمّا قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، فقد تقدّم أنّه إرشاد إلى حكم العقلاء بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم من غير اختصاص الحكم بطائفة دون طائفة.
هذا كلّه في نفس بيانهم المتلقّي بالمشافهة. و أمّا الخبر الحاكي له، فما كان منه بياناً متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعيّة، و ما يلحق به فهو حجّة لكونه بيانهم. و أمّا ما كان مخالفاً للكتاب أو غير مخالف لكنّه ليس بمتواتر و لا محفوفاً بالقرينة، فلا حجّيّة فيه لعدم كونه بياناً في الأوّل،
و عدم إحراز البيانيّة في الثاني. و للتفصيل محلّ آخر.۱
القرآن كلام الله و تجلّيه في هذا اللباس للخلائق قاطبة من جنّ و إنس، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ في كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَكُونُوا رَأوْهُ.٢
و قال الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: لَقَدْ تَجَلَّى اللهُ لِخَلْقِهِ في كَلَامِهِ وَ لَكِنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَ.٣
و من الواضح أنّ معنى التجلّي هو الظهور، و الظهور غير البينونة كما أنّ التجلّي غير التجافي. و يُلحَظُ في التجلّي أنّ المتجلِّي، و المتجلَّى فيه، و حقيقة التجلّي شيء واحد. و كذلك يُلْمَسُ في الظهور أنّ الظاهر، و المَظهَر، و حقيقة الظهور شيء واحد.
إن عالم الوجود بما فيه القرآن الكريم تجلّى الله حسب المنظور القرآنيّ. و هذا الموضوع من الثوابت في مدرسة أهل البيت، و يُعَدُّ من أبجديّتها و ألفبائها. و لا تعني الخلقة بينونة المخلوق عن الخالق و تولّده منه، فللّه سبحانه و تعالى معيّة وجوديّة و ذاتيّة ترافق الموجودات و المخلوقات بأسرها، و حينئذٍ لا يُتَصَوَّرُ الانفصال و البينونة. أمّا الجاهلون بمعارف القرآن و أهل البيت، فإنّهم لم يدركوا هذا المعنى، و كفّروا القائلين بوحدة الوجود، بينما هم منغمسون في الشرك من رأسهم حتى أخمصهم.
إنّهم ظنّوا أنّ معنى وحدة الوجود يتمثّل في لباس الاتّحاد أو الحلول
و أمثال ذلك ممّا يستلزم تكثّر ذات الحقّ المقدّسة. و هذا ليس معنى الوحدة. بل معناها الوحدة في الذات و الاسم و الصفة، و معيّته الحقيقيّة لا الاعتباريّة. و هذه نقطة دقيقة سامية يبتني عليها أصل التوحيد القرآنيّ.
و لمّا كان القرآن تجلّياً للّه، فإنّ الله معه في العوالم الخمسة النازلة المسمّاة الحَضَرات الخَمْس كلّها إلى أن يصل عالم الحسّ و الشهادة هذا.
و كذلك معنى القرآن و حقيقته الحافظة له، و المهيمنة عليه، فهي معه اعتباراً من روح القُدُس الذي هو أعظم الملائكة، إلى هذا العالم، عالم المادّة الذي هو أظلم العوالم. طَرَفٌ منه: وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ،۱ و طرف في هذا العالم المليء بالصخب و الضجيج، و الناس المبتلين بالآفات و العاهات و الغرائز و الحواسّ: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.٢
الإمام مع القرآن في جميع العوالم
إنّ النبيّ و الإمام الحاملَين للقرآن الحافظَين له هما مع القرآن الكريم في المراحل الملكوتيّة و المُلكيّة برمّتها، و هذا الموضوع شرط ولايتهما الكلّيّة، إذ هما مع كلّ موجود في كلّ عالم، و لا يفترقان عنه أبداً.
روى عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره، و المجلسيّ في «بحار الأنوار» عن كتاب «الغيبة» للنعمانيّ، بثلاثة أسناد عن أمير المؤمنين، و الباقر، و الصادق عليهم السلام أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قال في خطبته المشهورة التي ألقاها في حجّة الوداع في مسجد الخيف: إنِّي وَ إنَّكُمْ وَارِدُونَ عَلَى الحَوْضِ، حَوْضاً عَرْضُهُ مَا بَيْنَ بُصْرَي٣ إلى صَنْعَاءَ،
فيه قِدْحَانٌ۱ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَ إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: الثَّقَلُ الأكْبَرُ القُرْآنُ، وَ الثَّقَلُ الأصْغَرُ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، هُمَا حَبْلُ اللهِ مَمْدُودٌ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ، مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا، سَبَبٌ مِنْهُ بِيَدِ اللهِ وَ سَبَبٌ بِأيْدِيكُمْ.٢
و في حديث آخر: طَرَفٌ مِنْهُ بِيَدِ اللهِ وَ طَرَفٌ مِنْهُ بِأيْدِيكُمْ، إنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ قَدْ نَبَّأنِي أنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ، كَإصْبَعَيّ هَاتَيْنِ -وَ جَمَعَ بَيْنَ سَبَّابَتَيْهِ- وَ لَا أقُولُ كَهَاتَيْنِ - وَ جَمَعَ بَيْنَ سَبَّابَتِهِ وَ الوُسْطَى فَتَفْضُلَ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ.
و نقل المجلسيّ عن كتاب «العلل» لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم أنّ العلّة في قوله صلى الله عليه و آله «لن يفترقا حتى يردا عَلَيّ الحوض» أنّ القرآن معهم في قلوبهم في الدنيا، فإذا صاروا إلى عند الله عزّ و جلّ كان معهم. و يوم القيامة يردون الحوض و هو معهم.٣
و الطريف في هذا الخبر قوله: هُمَا حَبْلُ اللهِ مَمْدُودٌ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَ. أي: كما أنّ القرآن من الله لخلقه، و كلام الله الصادر عن عالم التجرّد لكم أيّها البشر في عالم الطبيعة -فهو حبل ممدود من هناك إلى هنا- فكذلك عترة رسول الله، إذ هم من الله، و هم كلمته التكوينيّة الإلهيّة من
عالم التجرّد لكم أيّها الناس المغمورون في عالم الحسّ و الشهادة، و هم الحبل المعنويّ و الحقيقيّ و واسطة الفيض من الله إلى خلقه، و هداية خلق الله إلى الله بأمر الله الملكوتيّ.
و هذا هو المراد من الولاية الكلّيّة و السيطرة التكوينيّة و الوجوديّة لتلك الذوات المقدّسة على عوالم الوجود بأسرها، و هو معنى الولاية نفسه. و كون القرآن معهم، و هم معه في كلّ عالم من هذه العوالم يفيد أنّنا لو أردنا -فرضاً- أن نلقي القرآن في نقطةً من النقاط بدونهم، فهذا يعني أنّنا لا قرآن عندنا، و لو أردنا أن نلقاهم في موطن من المواطن خالين من القرآن فهذا يعني أنّنا لا أئمّة عندنا.
و في ضوء هذا المنطق، نجد أنّ قول القائل: عِنْدَكُمُ القُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ خلاف ضرورة العقل و القواعد القويمة للشرع المبين. و المعادلة التي نستنتجها هي:
كتاب الله -عترة رسول الله = كتاب الله- كتاب الله.
إذ إنّ كتاب الله جعل كلام رسول الله و سنّته حجّة، و كلام رسول الله هو الذي نطق بكتاب الله. و لا شبهة و لا تردّد عند أحد المسلمين في وجوب اتّباع كتاب الله و العمل به. بينما جعل كتابُ الله أمَر رسول الله و نهيه و كلامه و سنّته و خطّه و منهاجه و وصيّته حجّةً، و عليه قدّم رسول الله عترته الذين هم أهل بيته بوصفهم القائمين بالأمر، و الأئمّة، و الامراء، و القادة، و السادة، و الرؤساء، و الحكّام، و حرّاس كتاب الله، و حافظيه، و مُبيّنيه، و مفسّريه، و حامليه، و صائنيه، و العلماء به، و معلّميه. و كما كان واجباً على الناس في عصره أن يرجعوا إليه، و يأخذوا منه كتاب الله علماً و عملًا، و ينظروا إليه على أنّه الإمام و الاسوة و المقتدى و واجب الطاعة، فكذلك عرّف رسول الله عترته بعده بهذه المنزلة و المكانة، و جعل الإمامة فيهم
واحداً بعد آخر حتى مهديّهم و قائمهم عليهم السلام.
النتيجة: العمل بكتاب الله واجب، و العمل بسنّة رسول الله على أساس كتاب الله واجب. و حينئذٍ يكون العمل بمنهاج العترة و خطّها، و اتّباعها على أساس سنّة رسول الله واجباً أيضاً.
مقدّم چون پدر، تالى چون مادر | *** | نتيجه هست فرزند أي برادر۱ |
لو فرضنا هنا أنّنا لا نملك دليلًا روائيّاً و تاريخيّاً و تفسيريّاً من كتب العامّة في وجوب طاعة أهل البيت و إمامتهم و خلافتهم -في حين نجد أنّ كتبهم مشحونة بذلك و قد بلغت في الكثرة مبلغاً أنّنا قد لا نجد مثلها في كتب الشيعة و أثبتنا حقّانيّتهم و وصايتهم و خلافتهم بلا فصل، و لزوم اتّباعهم اعتماداً على كلامهم و كتبهم كـ «الاصول الأربعمائة»، و «نهج البلاغة»، و «الصحيفة السجّاديّة»، و «مصحف فاطمة»، و كتاب عليّ، و الأحاديث المتقنة الموثوقة من طرق الشيعة كسُلَيْم بن قيس الهلاليّ، لكفانأ ذلك، و كانت الحجّة قد تمّت على عامّة المسلمين، و لا يلزم الدَّوْر، فيُقال: إنّ إثبات إمامتهم يبتني على صحّة هذه المطالب، و صحّة هذه المطالب تبتني على إثبات إمامتهم. و هذا هو الدَّوْر.
ذلك أنّنا نثبت مطالبهم و لزوم اتّباعهم من كلام رسول الله، إذ جعلهم حجّة في أحاديثه المتواترة كحديث الغدير، و حديث الثقَلَين، و حديث السفينة، و حديث باب حطّة بني إسرائيل و أمثالها التي وصلت إلينا بالتواتر. و ينبغي أن يعتقد أهل العلم و الاطّلاع من المسلمين جميعهم بتواترها و ثبوتها.
و على هذا فإنّ إثبات كلام أمير المؤمنين في «نهج البلاغة» أو سائر
كلمات الأئمّة و أقوالهم، أو حديث الثقلين محرزٌ، إذ يصدّقه الطرفان. فكيف يستلزم الدَّوْر؟
روايات الشيعة في حديث الثقلين
روى الشيخ الصدوق في كتاب «عيون أخبار الرضا» بثلاثة أسناد عن الرضا، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: كَأنِّي قَدْ دُعِيتُ فَأجَبْتُ، وَ إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أحَدُهُمَا أكْبَرُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابَ اللهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا!۱
...۱
و قال ابن شهرآشوب في مناقبه: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لَمْ يَمُتْ نَبِيّ قَطُّ إلَّا خَلَّفَ تَرِكَتَهُ، وَ قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي.۱
و روى العيّاشيّ في تفسيره عن مسعدة بن صدقة أنّه قال: قال الصادق عليه السلام:
إنَّ اللهَ جَعَلَ وَلَايَتَنَا أهْلَ البَيْتِ قُطْبَ القُرآنِ، وَ قُطْبَ جَمِيعِ الكُتُبِ عَلَيْهَا يَسْتَدِيرُ مُحْكَمُ القُرآنِ، وَ بِهَا يُوهَبُ الكُتُبُ، وَ يَسْتَبِينُ الإيمَانُ، وَ قَدْ أمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنْ يُقْتَدَى بِالقُرآنِ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ في آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: الثَّقَلَ الأكْبَرَ وَ الثَّقَلَ الأصْغَرَ، فَأمَّا الأكْبَرُ فَكِتَابُ رَبِّي، وَ أمَّا الأصْغَرُ فَعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، فَاحْفَظُونِي فِيهِمَا فَلَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا.٢
و قال المجلسيّ في موضع آخر، قد مضى في احتجاج الحسن بن عليّ عليهما السلام و أصحابه على معاوية أنّه عليه السلام قال: نَحْنُ نَقُولُ أهْلَ البَيْتِ: إنَّ الأئِمَّةَ مِنَّا، وَ إنَّ الخِلافَةَ لَا تَصْلَحُ إلَّا فِينَا، وَ إنَّ اللهَ جَعَلَنَا أهْلَهَا في كِتَابِهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، و إنَّ العِلْمَ فِينَا وَ نَحْنُ أهْلُهُ، وَ هُوَ عِنْدَنَا مَجْمُوعٌ كُلُّهُ بِحَذَافِيرِهِ، وَ إنَّهُ لَا يَحْدُثُ شىْءٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ حتى أرْشُ الخَدْشِ إلَّا وَ هُوَ عِنْدَنَا مَكْتُوبٌ بِإمْلَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَطِّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ.٣
جمعُ عليّ عليه السلام القرآن و حمله إلى المسجد
و روى عن مناقب ابن شهرآشوب، عن أبي نُعَيم في حليته، و عن الخطيب في «الأربعين» بإسناده عن السُّدّيّ، عن عبد خَيْر، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أقْسَمْتُ -أوْ حَلَفْتُ- أن لَا أضَعَ رِدَايَ عَلَى ظَهْرِي حتى أجْمَعَ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ. فَمَا وَضَعْتُ رِدَايَ حتى جَمَعْتُ القُرْآنَ.
و في أخبار أهل البيت عليهم السلام: إنَّهُ آلَى أنْ لَا يَضَعَ رِدَاءَهُ عَلَى عَاتِقِهِ إلَّا لِلصَّلَاةِ حتى يُؤَلِّفَ القُرْآنَ وَ يَجْمَعَهُ. فَانْقَطَعَ عَنْهُمْ مُدَّةً إلَى أنْ جَمَعَهُ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِم بِهِ في إزَارٍ يَحْمِلَهُ وَ هُمْ مُجْتَمِعُونَ في المَسْجِدِ، فَأنْكَرُوا مَصِيرَهُ بَعْدَ انْقِطَاعٍ مَعَ التِّيهِ.۱ فَقَالُوا: لأمْرٍ مَا جَاءَ أبُو الحَسَنِ؟!
فَلَمَّا تَوَسَّطَهُمْ وَضَعَ الكِتَابَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ: إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي! وَ هَذَا كِتَابُ اللهِ وَ أنَا العِتْرَةُ.
فَقَامَ إلَيْهِ الثَّانِي فَقَالَ: إنْ يَكُنْ عِنْدَكَ قُرآنٌ فَعِنْدَنَا مِثْلُهُ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُمَا! فَحَمَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الكِتَابَ وَ عَادَ بِهِ بَعْدَ أنْ ألْزَمَهُمُ الحُجَّةَ.٢
و في خبر طويل عن الصادق عليه السلام أنّه حَمَلَهُ و ولّى راجعاً نحو حجرته و هو يقول: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ.٣ و لهذا قرأ ابن مسعود: إنَّ عَلِيَّاً جَمَعَهُ وَ قَرَأ بِهِ وَ إذَا قَرَأ فَاتَّبِعُوا قِرَاءَتَهُ.٤
تعريف رسول الله عليّاً عليهما السلام في الحجرة
و روى الشيخ الطوسيّ في أماليه بسنده عن أبي ثابت غلام أبي ذرّ، عن امّ سلمة رضي الله عنها أنّها قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في مَرَضِهِ الذي قُبِضَ فِيهِ، يَقُولُ وَ قَدِ امْتَلأتِ الحُجْرَةُ مِنْ أصْحَابِهِ: أيُّهَا النَّاسُ! يُوشِكُ أنْ اقْبَضَ قَبْضاً سَرِيعاً فَيُنْطَلَقَ بِي، وَ قَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمْ القَوْلَ مَعْذِرَةً إلَيْكُمْ، ألَا إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ كِتَابَ رَبِّي عَزَّ وَ جَلَّ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي.
ثُمَّ أخَذَ بِيَدِ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَفَعَهَا فَقَالَ: هَذَا عَلِيّ مَعَ القُرْآنِ وَ القُرْآنُ مَعَ عَلِيّ، خَليفَتَانِ بَصِيرَتَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ، فَأسْألُهُمَا مَا ذَا خُلِّفْتُ فِيهِمَا؟۱
و ذكر ابن حجر هذا الحديث في «الصواعق المحرقة» بالألفاظ نفسها،
إلّا أنّ ما جاء في آخره هو قوله: فَاسْألُوهُمَا ما خُلِّفْتُ فِيهِمَا.۱ و كذلك ذكره آية الله السيّد شرف الدين العامليّ في أوّل كتاب «المراجعات».٢
و هذا الحديث أيضاً رائع جدّاً، لأنّ قول امّ سلمة عن رسول الله صلى الله عليه و آله: عَلَيّ مَعَ القُرآنِ وَ القُرآنُ مَعَ عَلِيّ ورد في كثير من الكتب بهذا اللفظ و بلا شيء يُضَمّ إليه. بَيدَ أنّ ذِكره بهذه المواصفات و بيان الثقلينِ، ثمّ الاستشهاد بمعيّة الإمام للقرآن بهذا اللفظ، ناهيك عن رفعه يد الإمام و تقديمه إلى الناس بعينه و بشخصه، و قوله إنّ كلامه آخر حجّة يُلقيها، كلّ اولئك من المزايا و الأدلّة على تأكيد معيّة عليّ و القرآن، و عدم افتراقهما حتى ورودهما على رسول الله الحوض معاً.
و لعلّ ذلك المجلس كان منطلَق الشيخ الطوسيّ، إذ روى في أماليه بسند آخر عن أبي ثابت غلام أبي ذرّ، عن امّ سلمة أنّها سمعت رسول الله يقول: إنَّ عَلِيَّاً مَعَ القُرْآنِ وَ القُرْآنُ مَعَ عَلَيّ، لَا يَفْتَرِقَانِ حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.٣
مقام العترة في بيان الأئمّة عليهم السلام
و جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: ألَا إنَّ العِلْمَ الذي هَبَطَ بِهِ آدَمُ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأرضِ وَ جَمِيعِ مَا فُضِّلْ بِهِ النَّبِيُّونَ إلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عِنْدِي وَ عِنْدَ عِتْرَةِ خَاتَمِ النَّبيِّينَ، فَأيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ بَلْ أيْنَ تَذْهَبُونَ؟٤
و ذكر العيّاشيّ عن مرزام أنّه قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام [الإمام الصادق] يقول: إنَّا أهْلُ بَيْتٍ لَمْ يَزَلِ اللهُ يَبْعَثُ فِينَا مَنْ يَعْلَمُ كِتَابَهُ مِنْ أوَّلِهِ إلَى آخِرهِ. و إنَّ عِنْدَنَا مِنْ حَلَالِ اللهِ وَ حَرَامِهِ مَا يَسَعُنَا مِنْ كِتْمَانِهِ، مَا نَسْتَطِيعُ أنْ نُحَدِّثَ بِهِ أحَداً.۱
و كذلك ذكر العيّاشيّ عن يوسف بن السخت البصريّ أنّه قال: رأيتُ التوقيع بخطّ محمّد بن محمّد بن عليّ٢ فكان فيه:
الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكُمْ وَ لَكُمْ أنْ تَقُولُوا: إنَّا قُدْوَةٌ وَ أئِمَّةٌ وَ خُلَفَاءُ اللهِ في أرْضِهِ، وَ امَنَاؤُهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَ حُجَجُهُ في بِلَادِهِ، نَعْرِفُ الحَلالَ وَ الحَرَامَ، وَ نَعْرِفُ تَأوِيلَ الكِتَابِ وَ فَصْلَ الخِطَابِ.٣
و قال أمير المؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة»:
أيُّهَا النَّاسُ خُذُوهَا عَنْ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ، وَ يَبْلَى مَنْ بلى مِنَّا وَ لَيْسَ بِبَالٍ، فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرِفُونَ، فإنَّ أكْثَرَ الحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ، وَ أعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ أنَا هُوَ. أ لَمْ أعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الأكْبَرِ (كتاب الله) وَ أتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الأصْغَرَ؟٤ وَ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الإيمَانِ؟ وَ وَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الحَلَالِ
وَ الحَرَامِ؟ وَ ألْبَسْتُكُمُ العَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي؟ وَ فَرَشْتُكُمُ المَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَ فِعْلِي؟ وَ أرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الأخْلَاقِ مِنْ نَفْسِي؟! فَلَا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأيَ فِيمَا لَا يُدْرِكُ قَعْرَهُ البَصَرُ، وَ لَا تَتَغَلْغَلُ إلَيْهِ الفِكْرُ.۱
خطب «نهج البلاغة» في لزوم التمسّك بالعترة
و قال عليه السلام في «نهج البلاغة» أيضاً: وَ إنِّي لعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَ مِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي، وَ إنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الوَاضِحِ ألقُطُهُ لَقْطاً.٢
انْظُرُوا أهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ! فَالزَمُوا سَمْتَهُمْ، وَ اتَّبِعُوا أثَرَهُمْ، فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدى، وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ في رَدَى، فَإنْ لَبِدُوا فَالْبُدُوا، وَ إنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا! فَلَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَ لَا تَتَأخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا!٣
و كذلك قال عليه السلام فيه: عِتْرَتُهُ خَيْرُ العِتَرِ، وَ اسْرَتُهُ خَيْرُ الاسَرِ، وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ، نَبَتَتْ في حَرَمٍ، وَ بَسَقَتْ في كَرَمٍ، لَهَا فُرُوعٌ طِوالٌ وَ ثَمَرَةٌ لَا تُنَالُ. فَهُوَ إمَامُ مَنِ اتَّقَى، وَ بَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى.
سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ، وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ، وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ. سِيَرتُهُ القَصْدُ، وَ سُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وَ كَلَامُهُ الفَصْلُ، وَ حُكْمُهُ العَدْلُ.٤
و قال فيه: بِنَا اهْتَدَيْتُمْ في الظَّلْمَاءِ، وَ تَسَنَّمْتُمْ العَلْيَاءَ، وَ بِنَا انْفَجَرْتُمْ عَنِ السِّرَارِ. وَقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الوَاعِيَةَ.٥
يريد الإمام من قوله: بِنَا اهْتَدَيْتُمْ رسول الله و هو نفسه، إذ كان رفيق
دربه في مراحل التعليم و الإرشاد و الهداية و الهجرة و الجهاد و تحمّل المشاكل و المصاعب.
و قال في خطبة بعد بيان فضائل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: أيُّهَا النَّاسُ اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاحِ وَاعِظٍ مُتَّعِظٍ، وَ امْتَاحُوا مِنْ صَفْوِ عَيْنٍ قَدْ رُوِّقَتْ مِنَ الكَدَرِ.۱ و المراد علومه عليه السلام التي تمثّل ينبوع المعارف الزلال الصافي.
و قال في خطبة أيضاً بعد بيان زهد رسول الله و إعراضه عن زينات الدنيا: نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ، وَ مُخْتَلَفُ المَلَائِكَةِ، وَ مَعَادِنُ العِلْمِ، وَ يَنَابِيعُ الحِكَمِ. نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ، وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ.٢
و نقل صاحب «الصواعق المحرقة» فيه عن ابن عبّاس أنّه قال: نَحْنُ أهْلَ البَيْتِ شَجَرةُ النُّبُوَّةِ وَ مُخْتَلَفُ المَلَائِكَةِ وَ أهْلُ بَيْتِ الرِّسَالَةِ وَ أهْلُ بَيْتِ الرَّحْمَةِ، وَ مَعْدِنُ العِلْمِ.٣
و خطب الإمام عليه السلام خطبة تحدّث فيها عن بعثة الأنبياء، و وصف أهل البيت، ثمّ تطرّق إلى فريق آخر فقال: أيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ دُونَنَا، كِذْباً وَ بَغْياً عَلَيْنَا؟ أنْ رَفَعَنَا اللهُ وَ وَضَعَهُمْ، وَ أعْطَانَا وَ حَرَمَهُمْ، وَ أدخَلَنَا وَ أخْرَجَهُمْ.
بِنَا يُسْتَعْطَي الهُدَى، وَ يُسْتَجْلَي العَمَى. إنَّ الأئِمَّةَ مِنْ قُرَيشٍ، غُرِسُوا
فِي هَذَا البَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ، لَا تَصْلَحُ عَلَى سِوَاهُمْ، وَ لَا تَصْلَحُ الوُلَاةُ مِنْ غَيْرِهِمْ.
(مِنْهَا) آثَرُوا عَاجِلًا وَ أخَّرُوا آجِلًا، و تَرَكُوا صَافِياً، وَ شَرِبُوا آجِناً.۱
نلاحظ في هذه العبارات التي يتحدّث فيها الإمام صلوات الله عليه عن الأنبياء، ثمّ عن ولاية و خلافة بني هاشم خاصّة لا قريش كلّها، يتبعه ذمّ الآخرين من غير بني هاشم ممّن ظلموا و غصبوا الخلافة - أنّ الإمام يقصد الخلفاء الثلاثة الماضين الذين أدانوا الأنصار في السقيفة باستدلالهم إنّ الأئمّة من قريش، بَيدَ أنّهم خانوا، إذ لم يذكروا فرع بني هاشم خاصّة، فلهذا عند ما بلغ الإمام استدلالهم، قال: احْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ وَ أضَاعُوا الثَّمَرَةَ.
و قال عليه السلام في سعادة و نجاة المتمسّكين بولاية أهل البيت: فإنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً وَ وَقَعَ أجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَ اسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ، وَ قَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إصْلَاتِهِ لِسَيْفِهِ. وَ إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مُدَّةً وَ أجَلًا.٢
أحاديث «الصواعق المحرقة» في إمامة الأئمّة الطاهرين
و ذكر ابن حجر في «الصواعق المحرقة» هذه الكلمات عن الإمام، و هي قوله: نَحْنُ النُّجَبَاءُ،٣ وَ أفْرَاطُنَا٤ أفْرَاطُ الأنْبِيَاءِ، وَ حِزْبُنَا حِزْبُ اللهِ
عَزَّ وَ جَلَّ، وَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَ مَنْ سَوَّى بَيْنَنَا وَ بَيْنَ عَدُوِّنَا فَلَيْسَ مِنَّا.۱
و قال ابن حجر أيضاً في «الصواعق المحرقة» في تفسير الآية الخامسة من الآيات التي ذكرها في الفصل الأوّل من الباب الحادي عشر في فضائل أهل بيت النبيّ، و هي قوله تعالى: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً٢: ذكر الثعلبيّ في تفسيره عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ دأب الإمام أبي محمّد عليّ بن الحسين زين العابدين و سيّد الساجدين إذا تلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.٣ يدعو الله عزّ و جلّ دعاءً طويلًا يشتمل على طلب اللحوق بدرجات الصادقين و الدرجات العلية، و يتضمّن وصف المحن و ما انتحلته المبتدعة المفارقة لأئمّة الدين، و الشجرة النبويّة. ثمّ يقول: وَ ذَهَبَ آخَرُونَ إلَى التَّقصِير في أمْرِنَا، وَ احْتَجُّوا بِمُتَشَابِهِ القُرْآنِ، فَتَأوَّلُوا بِآرَائِهِمْ، وَ اتَّهَمُوا مَأثُورَ الخَبَرِ فِينَا.
إلى أن قال: فَإلَى مَنْ يَفْزَعُ خَلَفُ هَذِهِ الامَّةِ، وَ قَدْ دَرَسَتْ أعْلَامُ هَذِهِ المِلَّةِ، وَ دَانَتِ الامةُ بِالفُرْقَةِ وَ الاخْتِلَافِ، يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَ اللهُ تَعَالَى يَقُولُ: «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ».٤
فَمَنِ المَوْثُوقُ بِهِ عَلَى إبْلَاغِ الحُجَّةِ، وَ تَأوِيلِ الحُكْمِ إلَّا أعْدَالُ الكِتَابِ وَ أبْنَاءُ أئِمَّةِ الهُدَى، وَ مَصَابِيحُ الدُّجَى، الَّذِينَ احْتَجَّ اللهُ بِهِمْ عَلَى عِبَادِهِ، وَ لَمْ يَدَعِ الخَلْقَ سُدَى مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ. هَلْ تَعْرِفُونَهُمْ أوْ تَجِدُونَهُمْ إلَّا
مِنْ فُرُوعِ الشَّجَرَةِ المُبَارَكَةِ، وَ بَقَايَا الصَّفْوَةِ الَّذِينَ أذهَبَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ، وَ طَهَّرَهُمْ تَطْهِيراً، وَ بَرَّأهُمْ مِنَ الآفَاتِ، وَ افْتَرَضَ مَوَدَّتَهُمْ في الكِتَابِ.۱
و قال ابن حجر أيضاً في «الصواعق المحرقة»: نصّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام عليه أيّام خلافته، لمّا بدره رجل من بني أسد فطعنه بخنجر و هو ساجد -و لم يستشهد الإمام على أثر تلك الطعنة، و عاش بعدها عشر سنوات- فقام خطيباً فقال:
يَا أهْلَ العِرَاقِ اتَّقُوا اللهَ فِينَا! فَإنَّا امَرَاؤُكُمْ وَ ضِيفانُكُمْ وَ نَحْنُ أهْلَ البَيْتِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ فِيهِمْ: «إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا». قَالُوا: وَ لأنْتُمْ هُمْ؟! قَالَ: نَعَمْ!٢
الأحاديث الواردة عن العامّة في التمسّك بالثقلين
و أخرج الترمذيّ في سننه عن زيد بن أرقم أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: إنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي،
أحَدُهُما أعْظَمُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابَ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا.۱
و أخرج الترمذيّ و النسائيّ عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: يَا أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي.٢
و أخرج أحمد بن حنبل من حديث زيد بن ثابت بطريقين صحيحين أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ خَلِيفَتَيْنِ: كِتَابَ اللهِ
حَبْلٌ مَمْدُودٌ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الأرْضِ -أوْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ- وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.۱
و أورد الحاكم في مستدركه أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.٢
و قال الحاكم بعد إيراده هذه الحديث: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين و لم يخرِّجاه. و أورده الذهبيّ أيضاً في «تلخيص المستدرك» معترفاً بصحّة سنده على شرط الشيخين.
و روى الملّا على المتَّقي عن الباورديّ، عن أبي سعيد الخُدْريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ: كِتَابَ اللهِ سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَ طَرَفُهُ بِأيْديكُمْ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.٣
و روى أحمد بن حنبل، و أبو شَيْبة، و أبو يَعْلَى، و ابن سعد، عن أبي سعيد الخُدريّ أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: إنِّي اوشِكُ أنْ ادْعَى فَاجِيبَ وَ إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ عِتْرَتِي. كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ وَ عِتْرَتِي أهْلُ بَيْتِي. وَ إنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ أخْبَرَنِي أنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟٤
و أخرج الحاكم في «المستدرك» بطريقين صحيحين عن زيد بن أرقم أنّه قال: لمّا رجع رسول الله صلى الله عليه و آله من حجّة الوداع، و نزل غدير خمّ، أمر بدوحات فقُممن، فقال: كَأنِّي دُعِيتُ فَأجَبْتُ، إنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أحَدُهُمَا أكْبَرُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابَ اللهِ تَعَالَى وَ عِتْرَتِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا، فَإنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.
ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ مَوْلَايَ وَ أنَا مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ. ثُمَّ أخَذَ بِيَدِ عَلِيّ فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا وَلِيُّهُ. اللَهُمَّ والِ مَنْ وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ. إلى آخر الحديث بطوله.۱
و أخرجه الذهبيّ في «تلخيص المستدرك» معترفاً بصحّة سنده.
و روى الطبرانيّ، و السيوطيّ، و النبهانيّ عن عبد الله بن حنطب أنّه قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ بِالجُحْفَةِ فَقَالَ: أ لَسْتُ أولى بِكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ؟! قَالُوا: بلى يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: فَإنِّي سَائِلُكُمْ عَنِ اثْنَيْنِ: القُرْآنِ وَ عِتْرَتِي.٢
كلام العلّامة السيّد شرف الدين حول حديث الثقلين
قال آية الله السيّد شرف الدين العامليّ بعد ذكر كثير من هذه الأخبار: و الصحاح الحاكمة بوجوب التمسّك بالثقلين متواترة، و طرقها عن
بضع و عشرين صحابيّاً متضافرة. و قد صدع بها رسول الله صلى الله عليه و آله في مواقف له شتّى. تارةً يوم غدير خمّ، و تارةً يوم عَرَفَة في حجّة الوداع، و تارةً بعد انصرافه من الطائف، و مرّة على منبره في المدينة، و اخرى في حجرته المباركة في مرضه، و الحجرة غاصّة بأصحابه.
و قد اعترف بذلك جماعة من أعلام الجمهور. حتى قال ابن حجر -إذ أورد حديث الثقلين- ثُمَّ اعْلَمْ لحديث التمسّك بهما طرقاً كثيرة وردت عن نيف و عشرين صحابيّاً. و مرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشُّبَه.۱
و في بعض تلك الطرق أنّه قال ذلك بحجّة الوداع بعرفة، و في اخرى أنّه قاله بالمدينة في مرضه، و قد امتلأت الحجرة بأصحابه. و في اخرى أنّه قال ذلك بغدير خُمّ، و في اخرى أنّه قال ذلك لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف. و لا تنافي، إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن و غيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز و العترة الطاهرة.٢
و حَسْبُ أئمّة العترة الطاهرة أن يكونوا عند الله و رسوله بمنزلة الكتاب لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ.٣ و كفى بذلك حجّة تأخذ بالأعناق إلى التعبّد بمذهبهم. فإنّ المسلم لا يرتضى بكتاب الله بدلًا، فكيف ينبغي عن أعداله حِوَلًا؟
على أنّ المفهوم من قوله: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي. إنّما هو ضلال من لم يستمسك بهما معاً كما لا يخفى.
و يؤيّد ذلك قوله صلى الله عليه و آله في حديث الثقلين عند الطبرانيّ: فَلَا تَقَدَّمُوهُمَا فَتَهْلِكُوا، وَ لَا تُقْصِرُوا۱ عَنْهُمَا فَتَهْلِكُوا، وَ لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإنَّهُمْ أعْلَمُ مِنْكُمْ.
قال ابن حجر: و في قوله صلى الله عليه و آله: فَلَا تَقَدَّمُوهُمَا فَتَهْلِكُوا، وَ لَا تُقْصِرُوا عَنْهُمَا فَتَهْلِكُوا، وَ لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإنَّهُمْ أعْلَمُ مِنْكُمْ دليل على أنّ من تأهَّلَ منهم للمراتب العليّة و الوظائف الدينيّة كان مقدّماً على غيره.٢
أجل، إنّ حديث الثقلين -كما مرّت الإشارة إليه- من أقوى أسناد الشيعة على إمامة مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه
السلام و خلافته بلا فصل. و قد أورد علماء الشيعة رضوان الله عليهم منذ صدر الإسلام حتى اليوم هذا الحديث المتواتر الصحيح السَّند المقطوع الصدور في كتبهم الكلاميّة، و استدلّوا على مفاده و محتواه، و اهتمّوا به اهتماماً بالغاً إلى عصرنا هذا حيث دوّن المرحوم سماحة آية الله العظمى البروجرديّ رضوان الله عليه كتابه النفيس الممتع: «جامع أحاديث الشيعة» الذي تحدّث في مقدّمته حديثاً وافياً شافياً حول سنده و دلالته.
و إذا كانت هذه المقدّمة قد كتبت بقلم سماحة آية الله الشيخ إسماعيل الملايريّ دامت بركاته و بفضل تتبّعه، و هو من أعزّ أصدقائنا و رفقائنا أيّام دراسة العلوم الدينيّة في حوزة قم المقدّسة، بَيدَ أنّها دُوِّنت جميعها بإرشادات الاستاذ آية الله البروجرديّ الخاصّة و توجيهاته المسدِّدة، و قد أشرف عليها بنفسه.۱ و نلاحظ في هذه المقدّمة أنّه ينسب الحديث المذكور إلى أربعة و ثلاثين صحابيّاً و صحابيّة. لكنّي تتبّعت رواته فوجدتهم أكثر من أربعة و ثلاثين، مع أنّ ابن حجر ذكر في صواعقه عشرين و نيّفاً، و أنّ العلّامة الخبير المتضلّع المتتبّع نحرير البحث و نقّاد الكلام سماحة آية الله مير حامد حسين الكهنويّ الهنديّ النيسابوريّ لم يزد على خمسة و عشرين راوياً كما في كتابه النفيس الثمين «عَبَقَات الأنْوار».
«عبقات الأنوار» و شرح حديث الثقلين
و قد وقّف العالم المذكور رضوان الله عليه الجزءَ الأوّل من الجزء الثاني عشر من عبقاته على البحث في سند الحديث المشار إليه، و تحدّث فيه حديثاً تامّاً وافياً عن مائة و سبعة و ثمانين رجلًا من مشاهير علماء أهل السنّة الذين رووا هذا الحديث أو أثبتوه أو صحّحوه، و شغل حديثُه قَرابة
ألف صفحة من ذلك الجزء.
و أورد السيّد المؤلّف ترجمة هؤلاء العلماء مفصّلًا، و ذكر متن الحديث بألفاظه المختلفة و تعابيره المتباينة مع الكتب التي ادرج فيها، و أسماء الرواة. و أثبت الحديث بنحو رائع جذّاب، و إشارات و تتبّعات جميلة لطيفة متقنة متينة. و بغضّ النظر عن سائر أجزاء هذه الموسوعة المباركة، يمكننا أن نعدّ هذا الجزء وحده (جزء الثقلين) كنزاً من العلم و البصيرة و الخبرة.۱ و نقل الكتاب أسماء علماء السنّة الذين ذكروا الحديث، حسب التسلسل الزمنيّ اعتباراً من القرن الثاني حتى القرن الثالث عشر الهجريّ.
و إذا كان كثير من العلماء الأعلام قد صنّفوا كتباً مستقلّة في هذا الحديث بعد تلك الآية العظمى (المرحوم مير حامد حسين أعلى الله مقامه)، غير أنّهم جميعاً اقتبسوا من مشكاة أنوار هذا المجاهد العظيم و الآية الإلهيّة العلميّة الكبرى، فحقيق أن نقول: كُلُّ الصَّيْدِ في جَوفِ الفَرَا، لأنّ كثيراً من مصادر تحقيقه و تأليفه مخطوطات فذّة فريدة.
و ألّف المرحوم ابن خالى آية الله الميرزا نجم الدين شريف العسكريّ قدّس الله نفسه كتاباً جميلًا لطيفاً تحت عنوان: «مُحَمَّدٌ وَ عَليّ وَ حَدِيثُ الثَّقَلَيْنِ وَ حَدِيثُ السَّفِينَةِ» و هو رائع حقّاً، بَيدَ أنّه كما أشار بل نصّ على أنّه استهدى بـ «العبقات» في معظم المواطن.
إنّ الجزء المذكور من كتاب «عبقات الأنوار» يدور حول حوار
المؤلّف مع صاحب «التُّحْفَة الاثنا عَشَرِيَّة» بخصوص حديث الثقلين. و قد أماط اللثام رحمه الله عن مغالطاته و تخديعاته۱ و تحريفاته العشرة عند نقل الحديث (المقصود مغالطات صاحب التحفة و ...).
و من المناسب -إذ بلغ كلامنا حول الحديث الشريف المذكور هذا الموضع- أن نتوسّع في كلامنا نوعاً ما ليدور حول قوّة سنده و عظمة و إتقان مفاده و معناه، و ذلك لمزيد اطّلاع المؤمنين و استبصار المستبصرين.
مشاهير علماء العامّة الذين رووا حديث الثقلين
فمن جملة مشاهير العلماء و الرواة الذين رووا هذا الحديث أو أثبتوه أو صحّحوه:
۱- ابن راهْوَيه إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ شيخ البخاريّ، رواه عن أمير المؤمنين عليه السلام. و يسمّيه العامّة أمير المؤمنين في فنّ الحديث.
٢- مسلم بن الحجّاج القُشَيْريّ في صحيحه، رواه عن زيد بن أرقم.
٣- أبو عبد الله محمّد بن ماجه القزوينيّ، صاحب السنن، عن زيد ابن أرقم.
٤- أبو داود السجستانيّ، صاحب السنن، عن زيد بن أرقم.
٥- التِّرمَذيّ أبو عيسى محمّد بن عيسى؛ صاحب «الصحيح»، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، و أبي ذرّ، و أبي سعيد الخُدريّ، و زيد بن أرقم، و حُذَيفَة بن اسَيْد.
٦- عبد الله بن أحمد بن حنبل، صاحب «زيادات المسند»، عن
زيد بن أرقم.
۷- النّسَائيّ أبو عبد الرحمن، صاحب «السنن»، عن زيد بن أرقم.
۸- الطبريّ أبو جعفر، صاحب التاريخ، عن أمير المؤمنين عليه السلام، و أبي سعيد، و زيد بن أرقم.
٩- ابن عَبْدِ رَبِّهِ القُرْطُبِيّ الاندلُسيّ، صاحب «العِقْد الفَريد» و بيان مصدر حديثه.
۱۰- ابن عُقْدَة الحافظ أحمد بن محمّد بن سعيد الكوفيّ، عن أمير المؤمنين عليه السلام، و جابر، و أبي ذرّ، و امّ سلمة، و أبي رافع، و امّ هاني، و خُزَيْمَةَ بن ثابت، و ضُمَيْرَة الأسْلَميّ.
۱۱- الطبرانيّ، صاحب «المعجم الكبير و الأوسط و الصغير»، عن أبي سعيد، و زيد بن أرقم، و زيد بن ثابت، و عبد الله بن حَنْطَب.
۱٢- الدارقطنيّ الحافظ أبو الحسن عليّ بن عمر، عن امّ سلمة.
۱٣- الذَّهَبيّ أبو طاهر محمّد بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد.
۱٤- الحاكم النيسابوريّ أبو عبد الله، صاحب «المستدرك على الصحيحين»، عن زيد بن أرقم.
۱٥- الثَّعْلَبي أبو إسحاق أحمد، صاحب تفسير «الكشف و البيان»، عن أبي سعيد.
۱٦- أبو نُعَيْم الإصفهانيّ، صاحب «حِلْيَة الأولياء» في «مَنقَبة المُطَهَّرين»، عن جُبَيْر بن مُطْعم، و أبي سعيد، و زيد بن أرقم، و أنس بن مالك، و البَراء بن عَازِب، و في «حلية الأولياء» مفصّلًا عن حُذَيفة بن اسَيْد.
۱۷- البَيْهَقيّ الحافظ أبو بكر، صاحب «السنن»، عن زيد بن أرقم.
۱۸- القُرطُبيّ الأندُلُسيّ أبو عبد الله بن عبد البرّ، صاحب «الاستيعاب»، و «التمهيد»، و «جامع بيان العلم»، عن زيد بن أرقم.
۱٩- الخطيب البغداديّ، صاحب «تاريخ بغداد»، عن جابر.
٢۰- ابن المغازليّ، صاحب «المناقب» بأسناد عديدة، عن زيد بن أرقم و أبي سعيد.
٢۱- السَّمعانيّ أبو المُظفَّر، صاحب «فضائل الصَّحَابة»، عن أبي سعيد.
٢٢- رَزين بن معاوية العَبْدَريّ، صاحب «الجمع بين الصحاح الستّة»، عن زيد بن أرقم.
٢٣- القاضي عياض اليَحْصُبيّ، صاحب «الشفا بتعريف حقوق المصطفي»، بلا سند.
٢٤- الخوارزميّ: أخطب خوارزم، صاحب «المناقب»، عن زيد بن أرقم.
٢٥- ابن عساكر الحافظ أبو القاسم، صاحب «تاريخ دمشق»، عن حُذَيفة بن اسَيد الغفاريّ، و زيد بن أرقم.
٢٦- أبو الفتوح العِجْلِيّ الإصفهانيّ، صاحب «فضائل الخلفاء»، عن عامر بن ليلى بن ضمرة.
٢۷- ابن الأثير الجَزَريّ مجد الدين، صاحب «جامع الاصول» و «النهاية»، عن جابر و زيد بن أرقم.
٢۸- ابن الأثير الجَزَريّ عزّ الدين، صاحب «اسد الغابة»، و هو أخو مجد الدين، عن زيد بن أرقم، و عبد الله بن حَنْطَب.
٢٩- محمّد بن طلحة الشافعيّ، صاحب «مطالب السَّئول»، عن زيد ابن أرقم.
٣۰- سِبط بن الجوزيّ، صاحب «تذكرة خواصّ الامّة»، عن زيد بن أرقم.
٣۱- محمّد بن يوسف الكنجيّ، صاحب «كفاية الطَّالب»، عن زيد ابن أرقم.
٣٢- محبّ الدين الطَّبريّ، صاحب «ذخائر العُقْبَي»، عن أبي سعيد، و زيد بن أرقم.
٣٣- الحمّوئيّ صدر الدين إبراهيم بن مؤيّد، صاحب «فرائد السِّمْطَيْن»، عن أبي سعيد الخُدْريّ، و حُذَيفة بن اسَيْد الغفاريّ، و زيد بن أرقم.
٣٤- الخازن البغداديّ علاء الدين عليّ، صاحب التفسير، عن زيد ابن أرقم.
٣٥- الذهبيّ شمس الدين محمّد، صاحب «ميزان الاعتدال» تصحيح حديث زيد بن أرقم.
٣٦- الزَّرَنْديّ المَدَنيّ جمال الدين محمّد، صاحب «نظم دُرَر السِّمْطَين»، عن جابر، و زيد بن أرقم.
٣۷- ابن كثير الدمشقيّ إسماعيل بن عمر، صاحب «التفسير»، بأسناد كثيرة في آية التطهير و آية المودّة، عن زيد بن أرقم، و جابر، و أبي سعيد، و أبي ذرّ، و حذيفة بن اسَيد.
٣۸- السيّد عليّ الهمدانيّ بن شهاب الدين، صاحب «مودّة القُربي»، عن أبي سعيد، و جُبَيْر بن مُطْعِم.
٣٩- التفتازانيّ سعد الدين، صاحب «شرح المقاصد»، أثبت الحديث.
٤۰- الهيتميّ نور الدين عليّ، صاحب «مجمع الزَّوائد»، بلا سند.
٤۱- الفيروزآباديّ مجد الدين، صاحب «القاموس» في مادّة ثقل في قاموسه.
٤٢- الخواجة محمّد بارسا، صاحب «فصل الخطاب»، عن جابر، و حُذَيفة بن اسَيْد، و زيد بن أرقم.
٤٣- السخاويّ شمس الدين، صاحب «الضَّوء اللامع» في «استجلاب ارتقاء الغُرَف»، عن جمع كثير من الصحابة.
٤٤- الملّا حسين الواعظ الكاشفيّ، صاحب «التفسير»، بلا سند.
٤٥- السيوطيّ الحافظ جلال الدين عبد الرحمن، في كتب عديدة: «إحياء الميّت بفضائل أهل البيت»، و «نهاية الإفضال في شرف الآل»، و «أساسٌ في مناقب بني العبّاس»، و «إنافَةٌ في رُتبة الخلافة»، و «بُدُور سافِرة عن امور الآخرة»، و «الجامع الصغير»، و «الدُّرّ المنثور»، و «الدُّرّ النَّثير»، عن زيد بن أرقم، و أبي هُرَيرة، و أبي سعيد، و أبي ذرّ، و عبد الله بن حَنطَب، و حنطب والد عبد الله، و زيد بن ثابت، و جابر بن عبد الله الأنصاريّ.
٤٦- ابن حَجَر الهَيْتَمي شهاب الدين، صاحب «الصواعق المحرقة» بسند صحيح، عدد من الأحاديث عن زيد بن أرقم.
٤۷- السمهوديّ نور الدين عليّ شريف، صاحب «جواهر العقدين»، عن أمير المؤمنين عليه السلام، و امّ هاني، و امّ سلمة، و أبي ذرّ، و حُذَيفة بن اسَيْد، و أبي الطُّفَيْل، و زيد بن أرقم، و زيد بن ثابت.
٤۸- روزبهان فضل الله الخنجيّ الشيرازيّ، في شرح الرسالة الاعتقاديّة.
٤٩- القسطلانيّ المدنيّ شهاب الدين أحمد، صاحب «المواهب اللدنيّة»، عن زيد بن أرقم.
٥۰- شاه وليّ الله الدِّهْلويّ، صاحب «إزالة الخَفَاء»، عن زيد بن أرقم.
٥۱- الزبيديّ السيّد محمّد مرتضى، صاحب «تاج العروس» شارح
القاموس، بلا سند.
٥٢- العُجَيْليّ أحمد بن عبد القادر، صاحب «ذَخيرة المآل» في مواضع متعدّدة، عن زيد بن أرقم.
و ننقل فيما يأتي بحول الله و قوّته جميع الأحاديث المأثورة عن خمسة و عشرين صحابيّاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه و آله بطرق العامّة و أسانيدهم المختلفة من غير أن نكرّر المتن، مكتفين منه بالمقدار اللازم من حديث الثقلين. علماً أنّي أحصيتُ زُهاء مائة متن متباين العبارة.
الأوّل: حديث الثَّقَلَيْنِ برواية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام
۱- قال: قَالَ رَسوُلُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنِّي مَقْبُوضٌ، وَ إنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا.۱
٢- قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ: إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَ طَرَفُهُ بِأيْدِيكُمْ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.٢
٣- إنِّي مَقْبُوضٌ، و إنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. وَ إنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا، وَ إنَّهُ لَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حتى يُبْتَغَى
أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَمَا يُبْتَغَى الضَّالَّةُ فَلَا تُوجَدُ.۱
٤- تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ سَبَبُهُ بِيَدِهِ وَ سَبَبُهُ بِأيْدِيكُمْ، وَ أهْلَ بَيْتِي.٢
٥- قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَ طَرَفُهُ بِأيْدِيكُمْ.٣
٦- قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ سَبَبٌ بِيَدِهِ وَ سَبَبٌ بِأيْدِيكُمْ وَ أهْلَ بَيْتِي.٤
۷- إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي، وَ لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.٥
۸- أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ
بِهِمَا، الأكْبَرُ مِنْهُمَا كِتَابُ اللهِ، وَ الأصْغَرُ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ عَهِدَ إلَيّ أنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ كَهَاتَيْنِ -وَ أشَارَ بالسَّبَّابَتَيْنِ- وَ لَا أنَّ أحَدَهُمَا أقْدَمُ مِنَ الآخَرِ، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا، وَ لَا تَقَدَّمُوا مِنْهُمْ، وَ لَا تَخَلَّفُوا عَنْهُمْ، وَ لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإنَّهُمْ أعْلَمُ مِنْكُمْ.۱
٩- إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ، وَ إنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا إنِ اتَّبَعْتُمْ وَ اسْتَمْسَكْتُمْ بِهِمَا.٢
۱۰- إنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: يَعْنِي كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا.٣
۱۱- أيُّهَا النَّاسُ: إنِّي تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: الثَّقَلَ الأكْبَرَ وَ الثَّقَلَ الأصْغَرَ، فَأمَّا الأكْبَرُ هُوَ حَبْلٌ فَبِيَدِ اللهِ طَرَفُهُ، وَ الطَّرَفُ الآخَرُ بِأيدِيكُمْ وَ هُوَ كِتَابُ اللهِ، إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، وَ لَنْ تَذِلُّوا أبَداً، وَ أمَّا الأصْغَرُ فَعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي.
إنَّ اللهَ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ أخْبَرَنِي أنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ، وَ سَألْتُ ذَلِكَ لَهُمَا فَأعْطَانِي. وَ اللهُ سَائِلُكُمْ كَيْفَ خَلَفْتُمُونِّي في
كِتَابِ اللهِ وَ أهْلِ بَيْتِي؟!۱
۱٢- ثُمَّ قَامَ فَحَمِدَ اللهَ وَ أثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أيُّهَا النَّاسُ مَا أنْتُم قَائِلُونَ؟! قَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ! قَالَ: اللَهُمَّ اشْهَدْ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ قَالَ: إنِّي اوشِكُ أنْ ادْعَى فَاجِيبَ، وَ إنِّي مَسْؤُولٌ وَ أنْتُم مَسْؤُولُونَ!
ثُمَّ قَالَ: أيهَا النَّاسُ إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟! وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى - يَرِدا عَلَيّ الحَوْضَ. نَبَّأنِي بِذَلِكَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ.
ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللهَ مَوْلَايَ وَ أنَا مَوْلَى المُؤْمِنِينَ. أ لَسْتُم تَعْلَمُونَ أنِّي أولى بِكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ؟! قَالُوا: بلى ذَلِكَ ثَلَاثاً.
ثُمَّ أخَذَ بِيَدِكَ يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! فَرَفَعَهَا وَ قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيّ مَوْلَاهُ. اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَ عَادِ مَن عَادَاهُ.
فَقَالَ عَلِيّ: صَدَقْتُمْ وَ أنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ!٢
روى أبو نُعَيم في «حلية الأولياء» و غيره عن أبي الطُّفَيل أنّ علياً عليه السلام قام فحمد الله و أثنى عليه. ثمّ قال: انشد الله من شهد يوم غدير خمّ إلّا قام! و لا يقوم رجل يقول: نُبّئتُ أو بلغني إلّا رجل سمعت اذُناه و وعاه قلبُه. فقام سبعة عشر رجلًا منهم: خُزَعْةُ بن ثابت، و سَهْلُ بنُ سَعْدٍ، و عَدِيّ بنُ حاتَم، و عُقبَةُ بنُ عامرٍ، و أبو أيّوب الأنصاريّ، و أبو سعيد الخُدريّ، و أبو شُرَيح الخُزاعيّ، و أبو قُدامة الأنصاريّ، و أبو يَعْلَى الأنصاريّ، و أبو الهَيثَم بن التَّيِّهان، و رجال من قريش. فقال عليّ عليه السلام: هاتوا ما سمعتم!
فقالوا: نشهد أنّا أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه و آله من حجّة الوداع نزلنا بغدير خُمّ، ثمّ نادى بالصلاة فصلّينا معه.۱
۱٣- إنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، لَنْ تَضِلُّوا مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا، لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ؟ قَالُوا: اللَهُمَّ نَعَمْ.٢
۱٤- يَا أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ و عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا! فَإنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ أخْبَرَنِي وَ عَهِدَ إلَيّ أنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.
و فيه: فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ شِبْهَ المُغْضِبِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أ كُلُّ أهْلِ بَيْتِكَ؟! فَقَالَ: لَا، وَ لَكِنْ أوْصِيَائِي مِنْهُمْ، أوَّلُهُمْ أخِي وَ وَزِيرِي وَ خَلِيفَتِي في امَّتِي وَ وَلِيّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي، هُوَ أوَّلُهُمْ، ثُمَّ ابْنِي الحَسَنُ (ثُمَّ ابْنِي الحُسَيْنُ) ثُمَّ تِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ حتى يَرِدُوا عَلَيّ الحَوْضَ، شُهَدَاءُ اللهِ في أرْضِهِ وَ حُجَجُهُ عَلَى خَلْقِهِ وَ خُزَّانُ عِلْمِهِ وَ مَعَادِنُ حِكْمَتِهِ. مَنْ أطَاعَهُمْ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ، وَ مَنْ عَصَاهُمْ فَقَدْ عَصَى اللهَ.۱
۱٥- أيُّهَا النَّاسُ! أ لَسْتُ أولى بِكُمْ مِنْ أنفُسِكُمْ؟! قَالُوا بلى! قَالَ: فَإنِّي كَائِنٌ لَكُمْ عَلَى الحَوْضِ فَرَطاً وَ سَائِلُكُمْ عَنِ اثْنَيْنِ: عَنِ القُرْآنِ وَ عَنْ عِتْرَتِي.٢
۱٦- أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، فَإنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. نَبَّأنِي بِذَلِكَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ. ثُمَّ أخَذَ بِيَدِ عَلَيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ.٣
الثاني: حديث الثقلين برواية السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام
۱۷- قالَتْ: سَمِعْتُ أبِي صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في مَرَضِهِ الذي قُبِضَ فِيهِ يَقُولُ وَ قَدْ امْتَلأتِ الحُجْرَةُ مِنْ أصْحَابِهِ: أيُّهَا النَّاسُ! يُوشِكُ أنْ اقْبَضَ قَبْضاً سَرِيعاً وَ قَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمُ القَوْلَ مَعْذِرَةً إلَيْكُمْ، ألَا إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ كِتَابَ رَبِّي عَزَّ وَ جَلَّ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي!
ثُمَّ أخَذَ بِيَدِ عَلِيّ فَقَالَ: هَذَا عَلِيّ مَعَ القُرْآنِ وَ القُرآنُ مَعَ عَلَيّ لَا يَفْتَرِقَانِ حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ فَأسْألُكُمْ مَا تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا.۱
الثالث: حديث الثقلين برواية امّ هاني اخت أمير المؤمنين عليه السلام
۱۸- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي اوشِكُ أنْ ادْعَى فَاجيبَ وَ قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا أبَداً: كِتَابَ اللهِ حَبْلٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَ طَرَفُهُ بِأيْدِيكُمْ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. اذَكِّرُكُمُ اللهَ في أهْلِ بَيْتِي، ألَا إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.٢
۱٩- أمَّا بَعْدُ أيُّهَا النَّاسُ! فَإنِّي مُوشِكٌ أنْ ادْعَى فَاجِيبَ وَ قَدْ تَرَكْتُ
فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَداً: كِتَابَ اللهِ طَرَفٌ بِيَدِ اللهِ وَ طَرَفٌ بِأيْدِيكُمْ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي ألَا إنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.۱
٢۰- ذكر صاحب «العبقات» هذا المضمون عينه، بَيدَ أنّه أورد كلمة يوشك مكان مُوشكٌ، و أضاف هذه العبارة: اذَكِّرُكُمُ اللهَ في أهْلِ بَيْتِي بعد قوله: وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي.٢
و لا فرق حقّاً بين هذه العبارة و العبارة الواردة في «ينابيع المودّة»، إذ جاء فيها قوله: اوشِكُ مكان يوشِكُ المكسورة الشين.
الرابع: حديث الثقلين برواية امّ المؤمنين امّ سلمةَ
٢۱- قالت امّ سلمة: أخذ رسول الله صلى الله عليه و آله بِيَدِ عليّ عليه السلام بغدير خُمّ فرفعها حتى رأينا بياض إبطه فقال: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. ثُمَّ قَالَ: أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي، وَ لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.٣
٢٢- متن الحديث الوارد عن فاطمة الزهراء عليها السلام في المرض
الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه و آله و الحجرة غاصّة بالناس. و نحن ذكرناه في الرقم ۱۷ بثلاثة فروق مختصرة هي:
۱- أخَذَ بِيَدِ عَلِيّ فَرَفَعَهَا.
٢- قَبْضاً سَرِيعاً فَيَنْطَلَقُ بِي.
٣- فَأسْألُهُمَا مَا خُلِّفْتُ فِيهِمَا.۱
الخامس: حديث الثقلين برواية أبي ذرّ الغفاريّ
٢٣- إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي، فَإنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟٢
٢٤- يَا أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي.٣
٢٥- مَثَلُ أهْلِ بَيْتِي كَمَثَلِ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَ مَنْ تَرَكَهَا هَلَكَ. وَ يَقُولُ: مَثَلُ أهْلِ بَيْتِي فِيكُمْ مَثَلُ بَابِ حِطَّةٍ في بَنِي إسرائيلَ مَنْ
دَخَلَهُ غُفِرَ لَهُ. وَ يَقُولُ: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي، وَ لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.۱
٢٦- يَا أيُّهَا النَّاسُ إنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي.٢
٢۷- إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، فَإنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. ألَا وَ إنَّ أهْلَ بَيْتِي فِيكُمْ مَثَلُ بَابِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَ مَثَلُ سَفِينَةِ نُوحٍ.٣
٢۸- إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي، فَإنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟!٤
السادس: حديث الثقلين برواية ابن عبّاس
٢٩- يَا مَعْشَرَ المُؤْمِنِينَ! إنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أوْحَى إلَيّ أنِّي مَقْبُوضٌ، أقُولُ لَكُمْ قَوْلًا إنْ عَمِلْتُمْ بِهِ نَجَوْتُمْ وَ إن تَرَكْتُمُوهُ هَلَكْتُمْ. إنَّ أهْلَ بَيْتِي وَ عِتْرَتِي هُمْ خَاصَّتِي وَ حَامَّتِي، وَ إنَّكُمْ مَسؤُولُونَ عَنِ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي، إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟۱
السابع: حديث الثقلين برواية جابر بن عبد الله الأنصاريّ
٣۰- يَا أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي.٢
٣۱- أيُّهَا النَّاسُ! قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. فَلَا تَنَافَسُوا وَ لَا تَحَاسَدُوا وَ لَا تَبَاغَضُوا وَ كُونُوا إخواناً كَمَا أمَرَكُمْ اللهُ. ثُمَّ اوصِيكُمْ بِعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، ثُمَّ اوصِيكُمْ بِهَذَا الحَيّ مِنَ الأنصَارِ.٣
٣٢- أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي مَسْئُولٌ وَ أنْتُمْ مَسْؤُولُونَ، فَمَا أنْتُمْ قَائِلُونَ؟! قَالُوا: نَشْهَدُ أنَّكَ بَلَّغْتَ وَ أدَّيْتَ! قَالَ: إنِّي لَكُمْ فَرَطٌ وَ أنْتُمْ وَارِدُونَ عَلَيّ الحَوْضَ! وَ إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.
ثُمَّ قَالَ: أ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنِّي أوْلَى بِكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ؟! قَالُوا: بلى! فَقَالَ آخِذاً بِيَدِ عَلِيّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. ثُمَّ قَالَ: اللَهُمَّ وَالِ مَن وَالاهُ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ.۱
٣٣- أمَّا بَعْدُ، أيُّهَا النَّاسُ! فإنِّي لأرَانِي يُوشِكُ أنْ ادْعَى فَاجِيبَ، وَ إنِّي مَسْؤُولٌ وَ أنْتُمْ مَسْؤُولُونَ، فَمَا أنْتُمْ قَائِلُونَ؟! قَالُوا: نَشْهَدُ أنَّكَ بَلَّغْتَ الرِّسَالَةَ وَ نَصَحْتَ وَ أدَّيْتَ! قَالَ: إنَّنِي لَكُمْ فَرَطٌ وَ أنْتُمْ وَارِدُونَ عَلَيّ الحَوْضَ، وَ إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ (وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي - صح ظ).٢
إذا تأمّلنا متن هذا الحديث، فسيتّضح لنا أنّه نفس الحديث الذي نقلناه عن «ينابيع المودّة» في التسلسل ٣٢، و لكنّ يد التحريف في الأحاديث الواردة في مناقب أهل البيت قد امتدّت إليه فورد أبتراً ناقصاً. و لعلّه وصل السخاويّ ناقصاً أو أنّ النسّاخ بتروأ ذيله بعده.
و هذا المتن الوارد في الحديث الأخير هو أفضل و أعلى مضمون وصل في أحاديث هذا الباب من حيث المحتوى، إذ جاء فيه: وَ إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ فجمع بين لفظ الثقلين، و لفظ التخليف ذي المفاد و المفهوم الذي يوحي بعنوان الخليفة تذكاراً له.
و اللفظ الأكثر تصريحاً و إشراقاً من هذا هو قوله الذي سيأتينا بَعْدُ، و نصّه:
إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ خَلِيفَتَيْنِ.۱
إنّ الحديث الذي أوردناه عن جابر في التسلسل (٣۰) مذكور بنفس اللفظ و المتن و بلا كلمة (بعدي) في «كنز العمّال»،٢ و «جامع الاصول»،٣
و «مصابيح السُّنَّة»،۱ و «استجلاب ارتقاء الغرف»،٢ و «نَظْم دُرَر السِّمْطَيْن»،٣ و ورد في المصادر المشار إليها بهذا اللفظ:
٣٤- إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. و جاء في كتاب «الشفا» مضافاً إليه قوله صلى الله عليه و آله: فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا.٤
٣٥- تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا إن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي.٥
الثامن: حديث الثقلين برواية حُذَيفة بن اليَمَان
٣٦- مَعَاشِرَ أصْحَابِي! اوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَ العَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَ إنِّي ادْعَى فَاجِيب، وَ إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهَا۱ لَنْ تَضِلُّوا، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ؛ فَتَعَلَّمُوا مِنْهُمْ وَ لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإنَّهُمْ أعْلَمُ مِنْكُمْ.٢
قال حذيفة بن اليمان: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و آله الظهر، ثمّ أقبل بوجهه الكريم إلينا، فقال: معاشر أصحابي ....
و العجيب في هذا الحديث أنّه يقول فيه: إن تمسّكتم بأهل البيت، لن تضلّوا، في مقابل بقيّة الأحاديث التي توصي بالتمسّك بهما. و سرّ ذلك أنّ من تمسّك بالعترة فقد تمسّك بكتاب الله لا محالة.
التاسع: حديث الثَّقَلَيْنِ برواية حُذَيفَة بن اسَيْدٍ الغفاريّ٣
٣۷- يَأ أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي قَدْ نَبَّأنِي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ أنَّهُ لَنْ يُعَمَّرَ نَبِيّ إلَّا نِصْفَ عُمْرِ الذي يَلِيهِ مِنْ قَبْلِهِ. وَ إنِّي يُوشِكُ أنْ ادْعَى فَاجِيبَ، وَ إنِّي مَسْؤُولٌ وَ أنْتُمْ مَسْؤُولُونَ، فَمَا ذَا أنْتُمْ قَائِلُونَ؟
قَالُوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَ جَاهَدْتَ وَ نَصَحْتَ!
قَالَ: أ لَيْسَ تَشْهَدُونَ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، وَ أنَّ جَنَّتَهُ حَقٌّ، وَ نَارَهُ حَقٌّ، وَ أنَّ المَوْتَ حَقٌّ وَ أنَّ البَعْثَ حَقٌّ بَعْدَ المَوْتِ، وَ أنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَ أنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ؟!
يَا أيُّهَا النَّاسُ! إنَّ اللهَ مَوْلايَ وَ أنَا مَوْلَى المُؤْمِنِينَ أولى بِهِمْ مِنْ أنفُسِهِمْ، فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا مَوْلَاهُ - يَعْنِي عَلِيَّاً اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ.
يَا أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي فَرَطُكُمْ وَ إنَّكُمْ وَارِدُونَ عَلَيّ الحَوْضَ، أعْرَضُ مَا بَيْنَ بُصْرَى إلَى صَنْعَاء، فِيهِ عَدَدَ النُّجُومِ قِدْحَانٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَ إنِّي سَائِلُكُمْ حِينَ تَرِدُونَ عَلَيّ عَنِ الثَّقَلَيْنِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا، الثَّقَلُ الأكْبَرُ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ - سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَ طَرَفُهُ بِأيْدِيكُمْ، فَاسْتَمْسِكُوا بِهِ لَا تَضِلُّوا وَ لَا تُبَدِّلُوا وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي فَإنَّهُ قَدْ نَبَّأنِي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ أنَّهُمَا لَنْ يَنْقَضِيَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.۱
لُالفينّك بعد الموت تَنْدُبنى | *** | و في حياتى ما زَوَّدْتَنى زادا |
و من الجدير بالذكر أنّ هذا الحديث الشريف أخرجه جماعةٌ من أكابر علماء العامّة في كتبهم بهذه الألفاظ المشار إليها، منهم ابن عساكر الذي قيل فيه إنّه أخذ أحاديثه عن ألف و ثلاثمائة شيخ، و ثمانين و نيّف شيخة. و أخرج هذا الحديث عنه ابن كثير في تاريخه، في محلّ ذِكر الحديث.۱
و منهم: شمس الدين السخاويّ في كتاب «استجلاب ارتقاء
الغُرَف».۱ و منهم: نور الدين السمهوديّ في كتاب «جواهر العقدين».٢ و منهم: الشيخ سليمان القُندوزيّ في كتاب «ينابيع المودّة».٣ و منهم: شيخ الإسلام الحمّوئيّ في «فرائد السمطين».٤
و من الجدير ذكره أيضاً أنّ أبا موسى المدائنيّ صاحب «سِيَر الصحابة» روى حديث الثقلين في كتابه بسنده المتّصل عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن اسيد الفزاريّ، و لا نلاحظ في هذا الحديث الإضافات الموجودة في حديث «كنز العمّال» الذي نقلناه في التسلسل ٣۷. بَيدَ أنّها موجودة تماماً في «غاية المرام» ص ٢۱٤، الحديث ۱٩، عن طريق العامّة. و لا نوردها هنا رغبة منّا في عدم الإطالة، و نكتفي منها بذكر ما يأتي:
٣۸- ألَا وَ إنِّي سَائِلُكُمْ حِينَ تَنْزِلُونَ عَلَيّ عَنِ الثَّقَلَيْنِ! فَانْظُرُوا كَيْفَ
تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا حِينَ تَلْقَوْنِّي؟! قَالُوا: وَ مَا الثَّقَلَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟!
قال: الثَّقَلُ الأكْبَرُ كِتَابُ اللهِ -سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَ طَرَفُهُ بِأيْدِيكُمْ، فَاسْتَمْسِكُوا بِهِ وَ لَا تَضِلُّوا وَ لَا تُبَدِّلُوا- وَ الثَّقَلُ الأصْغَرُ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي.
قَدْ نَبَّأنِي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ أنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَلْقَيَانِّي، وَ سَألْتُ رَبِّي لَهُمَا ذلِكَ فَأعْطَانِي. لَا تُسَابِقُوهُمْ فَتَهْلِكُوا، وَ لَا تُقْصِرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا، وَ لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَهُمْ أعْلَمُ مِنْكُمْ.۱
٣٩- أيُّهَا النَّاسُ! إنَّ اللهَ مَوْلَايَ وَ أنَا أولى بِكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ. ألَا وَ مَنْ كُنتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا مَوْلَاهُ - وَ أخَذَ بِيَدِ عَلِيّ فَرَفَعَهَا حتى عَرَفَهُ القَوْمُ أجْمَعُونَ ثُمَّ قَالَ: اللَهُمَّ وَالِ مَن وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ.
ثُمَّ قَالَ: وَ إنِّي سَائِلُكُمْ حِينَ تَرِدُونَ عَلَيّ الحَوْضَ عَنِ الثَّقَلَيْنِ! فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟! قَالُوا: وَ مَا الثَّقَلَانِ؟!
قَالَ: الثَّقَلُ الأكْبَرُ كِتَابُ اللهِ -سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَ طَرَفُهُ بِأيْدِيكُم- وَ الأصْغَرُ عِتْرَتِي. وَ قَدْ نَبَّأنِي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ أنْ لَا يَفْتَرِقَا حتى يَلْقِيَانِّي، وَ سَألْتُ رَبِّي لَهُمْ ذَلِكَ فَأعْطَانِي، فَلَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَهْلِكُوا، وَ لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإنَّهُمْ أعْلَمُ مِنْكُمْ.٢
إذا ألقينا نظرة خاطفة على مضمون هذه الأحاديث الواردة عن حُذَيفة بن اسَيْد، يتبيّن لنا أنّ حديثه كان واحداً لا أكثر، و يعرض فيه موضوع غدير خُمّ، بخاصّة أنّ راوي حديثه شخص واحد، و هو أبو الطُّفيل عامر بن واثلة. و هذا الحديث هو الذي ذكره المدائنيّ في كتاب «سِيَر الصَّحابة»، و نقله عنه العلّامة البحرانيّ مفصّلًا في كتاب «غاية المرام»، و لكنّ يد التحريف و التبديل أو جزته بتلك الصِّيَغ المتقدّمة. و يماثل أصله جدّاً الحديث المفصّل الوارد عن زيد بن أرقم.
العاشر: حديث الثقلين برواية أبي رافع غلام رسول الله صلى الله عليه و آله
من الجدير بالذكر أنّ العلّامة الكبير السيّد حامد حسين الهنديّ أعلى الله تعالى مقامه الشريف ذكر حديث الثقلين برواية أبي رافع في ثلاثة مواضع من كتابه الكريم: «عبقات الأنوار»، و هي متماثلة تماماً من حيث المضمون و اللفظ، و أخرجها ابن عقدة جميعها في كتابه: «الموالاة».
و يبيّن المؤلّف تخريج ابن عقدة في موضعين عن طريق محمّد بن عُبَيْد الله (عبد الله) بن أبي رافع، عن جدّه أبي رافع غلام رسول الله صلى الله عليه و آله،۱ و في موضع عن طريق سعد بن طَريف، عن الأصبغ بن نُباتة، عن أبي ذرّ، و أبي رافع.٢ و فيما يأتي متن الحديث:
٤۰- قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [و آله] وَ سَلَّمَ وَ رَضِيَ
عَنْهُ عِنْدَ غَدِيرِ خُمّ مَصْدَرِهِ مِنْ حِجَّةِ الوَدَاعِ قَامَ خَطِيباً بالنَّاسِ بِالهَاجِرَةِ فَقَالَ:
أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: الثَّقَلُ الأكْبَرُ وَ الثَّقَلُ الأصْغَرُ، فَأمَّا الثَّقَلُ الأكْبَرُ فَبِيَدِ اللهِ طَرَفُهُ وَ الطَّرَفُ الآخَرُ بِأيديكُمْ وَ هُوَ كِتَابُ اللهِ، فَإنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا وَ لَنْ تَذِلُّوا (تَزِلُّوا) أبَداً. وَ أمَّا الثَّقَلُ الأصْغَرُ فَعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي.
إنَّ اللهَ هُوَ الخَبِيرُ أخْبَرَنِي أنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ، وَ سَألْتُهُ ذَلِكَ لَهُمَا. وَ الحَوْضُ عَرْضُهُ مَا بَيْنَ بُصْرَى وَ صَنْعَاءَ، فِيهِ مِنَ الآنِيَةِ عَدَدَ الكَوَاكِبِ. وَ اللهُ سَائِلُكُمْ كَيْفَ خَلَفْتُمُونِي في كِتَابِهِ وَ أهْلِ بَيْتِي (الحديث).
و أخرجه الشيخ عبيد الله الآمر تسرّي الهنديّ عن ابن عقدة بهذا اللفظ أيضاً.۱
و أمّا الشيخ سليمان القُندوزيّ فقد ذكره في «ينابيع المودّة» بهذا اللفظ و بتخريج ابن عقدة عن طريق سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نُباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام، و عن أبي رافع. و أمّا بتخريج ابن عقدة عن طريق محمّد بن عبد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جدّه، و عن أبي هريرة، فقد جاء باللفظ الآتي:
٤۱- إنِّي خَلَّفْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا أبَداً: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.٢ و إذا لاحظنا متن هذا الحديث الذي ذكرناه، عن طريق محمّد بن عبد الله بن أبي
رافع، يستبين لنا حجم التحريف الذي ناله في هذا الطريق الذي وصل فيه بِيَدِ شيخ الإسلام القُندوزيّ، و يظهر إلى أيّ مدى نُقل فيه هذا الحديث ناقصاً.
الحادي عشر: حديث الثقلين برواية زيد بن ثابت
٤٢- إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ أهْلَ بِيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.۱
٤٣- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ خَلِيفَتَيْنِ: كِتَابَ اللهِ -حَبْلٌ مَمْدُودٌ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الأرض- وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.٢
٤٤- إنِّي لَكُمْ فَرَطٌ، وَ إنَّكُمْ وَارِدُونَ عَلَيّ الحَوضَ، عَرْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إلى بُصْرَى، فِيهِ عَدَدَ الكَوَاكِبِ مِنْ قِدْحَانِ الذَّهَبِ وَ الفِضَّةِ.
فَانظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي في الثَّقَلَيْنِ؟! قِيلَ: وَ مَا الثَّقَلَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟!
قَالَ: الأكْبَرُ كِتَابُ اللهِ، سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَ طَرَفُهُ بِأيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ لَنْ تَزِلُّوا وَ لَا تَضِلُّوا؛ وَ الأصْغَرُ عِتْرَتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. وَ سَألْتُ لَهُمَا ذلِكَ رَبِّي، وَ لَا تَقَدَّموهُما فَتَهْلِكُوا، وَ لَا تُعَلِّمُوهُمَا فَإنَّهُمَا أعْلَمُ مِنْكُمْ.۱
٤٥- إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ما إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ بَعْدِي لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.٢
روى الحمّوئيّ هذا الحديث في «فرائد السِّمطين» عن زيد بن ثابت، بطريق أبى جعفر بن بابويه المتّصل، و لفظه:
٤٦- قَالَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. ألَا وَ هُمَا الخَلِيفَتَانِ مِنْ بَعْدِي، وَ لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.۱
يُعدّ هذا الحديث أعلى و ألطف حديث ورد في هذا الباب من حيث المتن و المضمون، لأنّه جاء بلفظ: تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أوّلًا، و لفظ ألَا وَ هُمَا الخَلِيفَتَانِ مِنْ بَعْدِي ثانياً، فنصّ على خليفته الفذّ الفريد بأبين العبارات و أوضح الدلالات، و نلحظ أنّ صراحة هذا الحديث أكثر من صراحة الحديثين السابقين: إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، وَ إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ خَلِيفَتَيْنِ.
الثاني عشر: حديث الثقلين برواية أبي سعيد الخُدريّ
إنّ طرق الأحاديث الواردة عن أبي سعيد الخُدريّ و مضامينها كثيرة. و نقل إبراهيم بن محمّد الحمّوئيّ ثلاثة أحاديث عنه في «فرائد السِّمطين»:
الأوّل: بسنده المتّصل عن عطيّة العوفيّ، عنه:
٤۷- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ أمْرَيْنِ، أحَدُهُمَا أطْوَلُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابَ اللهِ - حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ، طَرَفٌ بِيَدِ اللهِ وَ عِتْرَتِي. ألَا وَ إنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. فَقُلْتُ: مَنْ عِتْرَتُهُ؟ قَالَ: أهْلُ بَيْتِهِ.٢ و هذا السؤال الأخير سأله عطيّة راوي الحديث أبا سعيد.
الثاني: بسنده المتّصل أيضاً عن أبي سعيد أنّه قال:
٤۸- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أحَدُهُمَا أكْبَرُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابَ اللهِ -حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ- وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.۱
رواه عبد الله بن حنبل بسنده المتّصل عن أبي إسرائيل، عن عطِيّة، عن أبي سعيد في «مسند أحمد بن حنبل».٢
و رواه الطبرانيّ في «المعجم الصغير» بسنده عن كثير النوّاء، عن عطيّة، عن أبي سعيد.٣ و قال: لم يروه عن كثير النوّاء غير المسعوديّ.
و رواه أبو نُعيم الإصفهانيّ في كتاب «مَنْقَبَة المُطَهَّرين» عن زيد بن أرقم و أبي سعيد الخُدريّ. و في آخره قوله: فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟!٤
الثالث: عن الشيخة الصالحة زينب بنت القاضي عماد الدين أبي صالح نصر بن عبد الرزّاق بسنده المتّصل عن محمّد بن طلحة، عن الأعمش، عن أبي سعيد:
٤٩: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنِّي اوشِكُ أنْ ادْعَى فَاجِيبَ، وَ إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ [حَبْلٌ] مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأرْضِ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّ اللَّطِيفَ الخبيرَ أخْبَرَ [نِي]
أنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا۱ حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. فَانْظُرُوا مَا تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟٢
رواه ابن المغازليّ بسنده المتّصل عن محمّد بن طلحة، عن عطيّة، عن أبي سعيد.٣ و ذكره أيضاً أحمد بن حنبل،٤ و ابن سعد الكاتب الواقديّ،٥ و «غاية المرام» عن السمعانيّ في كتاب «فضائل الصحابة»،٦ و أورده نور الدين السمهوديّ في «جواهر العقدين»،۷ و شمس الدين السخاويّ في «استجلاب ارتقاء الغرف»،۸ و السيوطيّ في «إحياء الميّت
بفضائل أهل البيت»،۱ و أبو نُعيم في «منقبة المطهّرين»،٢ و الطبريّ في تاريخه،٣ و القندوزيّ في «ينابيع المودّة».٤
و ذكر الملّا عليّ المتّقي الهنديّ في «كنز العمّال» أربعة أحاديث عن أبي سعيد الخُدريّ: الأوّل:
٥۰- إنّي اوشِكُ أنْ ادْعَى فَاجِيبَ، وَ إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلِيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي؛ كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ خَبَّرَنِي أنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟
رواه عن «مُسنَد ابن أبي شيبة»، و ابن سعد، و أحمد بن حَنبل، و أبي يعلى عن أبي سعيد.٥
و قال العلّامة آية الله مير حامد حسين: قال أحمد بن فضل بن محمّد با كثير في كتاب «وسيلة المآل»: أخرجه أحمد في «المسند»، و الطبرانيّ في «الأوسط»، و أبو يعلي، و غيرهم، و لا بأس بسنده.٦ و رواه العلّامة البحرانيّ
في «غاية المرام» باللفظ نفسه عن السمعانيّ في «فضائل الصحابة».۱
و رواه السيوطيّ في كتاب «إحياء الميّت» باللفظ الآتي:
٥۱- إنِّي اوشِكُ أنْ ادْعَى فَاجِيبَ، وَ إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ خَبَّرَنِي أنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟٢
الثاني:
٥٢- كَأنِّي قَدْ دُعِيتَ فَأَجَبْتُ، إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ، حَبْلٌ مَمْدُودٌ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الأرْضِ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟! ثمّ قال الملّا عليّ: رواه أبو يعلى، و الطبرانيّ عن أبي سعيد.٣
و رواه أيضاً الميرزا محمّد البدخشانيّ في كتاب «مفتاح النجا» بتخريج أبي يعلى، و الطبرانيّ في «معجمه الكبير» عن أبي سعيد الخُدريّ.٤
الثالث:
٥٣- يَا أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي: أمْرَيْنِ، أحَدُهُمَا أكْبَرُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابَ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الأرْضِ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. وَ إنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. قال الملّا عليّ المتّقي هنا: أخرجه أبو يعلى، و الطبرانيّ عن
أبي سعيد.۱
و ذكره السيوطي في «الدرّ المنثور»٢ و الطبرانيّ في «المعجم الكبير»،٣ و العلّامة الميرزا محمّد البدخشانيّ في «مفتاح النجا».٤ و ابن كثير الدمشقيّ في تاريخه،٥ و الترمذيّ في صحيحه.٦
الرابع:
٥٤- إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ: كِتَابَ اللهِ -سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَ طَرَفُهُ بِأيدِيكُمْ- وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. قال الملّا عليّ: أخرجه الباورديّ عن أبي سعيد.۷
حديث أبي جعفر محمّد بن جرير الطبريّ -كما قال العلّامة مير حامد حسين- عن حديث «كنز العمّال» بالنحو الآتي:
٥٥- كَأنْ (كَأنِّي ظ) قَدْ دُعِيتُ فَأجَبْتُ (و ظ) إنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أحَدُهُمَا أكْبَرُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابَ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا؟! فَإنَّهُمَا