المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
بسم الله الرحمن الرحيم
الدَّرْسُ السَّادِسُ وَ الثَّلاثُونَ بَعْدَ المِائَةِ إلى الحَادِي وَ الارْبَعِينَ بَعْدَ المِائَةِ: حديث المنزلة: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة اللهَ على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ، قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي ، وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ، وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً ، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ، قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى.۱
خاطب الله موسى قائلًا: اذهب إلى فرعون! لأنّه طغى بكفره و عناده. فقال له موسى: ربِّ؛ (ها أنت بعثتني بهذه المهمّة) مُنَّ عَلَيّ بشرح الصدر (لئلّا أسأم، و لكي أصبر أمام جفاء الناس و إنكارهم) و يسّر لي عملي (و سهّل لي حزونة المشاكل التي تعترض هذه الرسالة)! و احلل عقدة لساني ليفهموا كلامي و يعوه. و كذلك اجعل لي وزيراً من أهلي؛ كي يعينني! و هو أخي هارون؛ أشدد به أزري! و أشركه معي في أمر الرسالة و الالتزام! حتّى نسبّحك و نمجّدك و نقدّسك دائماً و باستمرار، و نذكرك كثيراً! إنّك كنت بنا و بأحوالنا حقّاً بصيراً، فقال الله لموسى: قد اوتيتَ كلَّ ما طلبته يا موسى.
طلب موسى من الله الوزارة و النبوّة لأخيه هارون
تدور هذه الآيات المباركة حول موسى و أخيه هارون على نبيّنا و آله و عليهما الصلاة و السلام. و لكي ينجح موسى في تبليغ الرسالة و أداء الأمانة الإلهيّة في بعثه إلى قوم مشركين: فرعون المجرم المحترف، و وزيره هامان، و سائر العادين الذين كانوا معه، و كافّة القوم الذين اتّبعوا شهواتهم و ميولهم النفسانيّة، كان طلبه من الله هو أن يُشرك معه أخاه هارون في أمر النبوّة و الرسالة، و ينصبه في مقام النبوّة و الرسالة، لكي يسيرا معاً في هذا الطريق، و يتلقّيا الوحي من الله، و يتعاضدا في تبليغ الرسالة.
و كان لموسى مقام النبوّة و الرئاسة العامّة على بني إسرائيل و الأسباط؛ و كلّف بإرشاد و هداية الفراعنة و الأقباط؛ و كان لهارون مقام النبوّة و الوزارة، و فوّض إليه إعانة أخيه على اموره.
و بصورة عامّة، ليتعاونا و يتآزرا كلاهما كلمة كلمة، و خطوة خطوة، و يداً بيد؛ ليتلقّيا معاً الوحي من الله، أحدهما بوصفه أميراً، و الثاني وزيراً.
و لكي يسبّحا الله كثيراً و ينزّهاه و يقدّساه، و يطهّراه، من شوائب الفقر و الفاقة، و الحاجة إلى امور عالم الكثرة، و الاستمداد من الأشياء، و المصالح الذاتيّة في الامور، و يذكرا الله كثيراً، لأنّه سبحانه بصير بأحوال العباد، مطّلع على نهجهم و مسلكهم، خبير بنيَاتهم و سرائرهم.
و جاء الخطاب من الله لموسى عليه السلام: قد اجيب دعاؤك، و نُفّذ مرادك، و لقد جعلنا أخاك هارون شريكاً لك في أمر النبوّة، و صيّرناه معينك و ناصرك و وزيرك في أمر الإمارة و الولاية! فاذهبا إلى فرعون الطاغي و ادعواه إلى دين التوحيد و السير على صراط الاستقامة و العدالة! و ورد تعيين هارون في منصب الوزارة صريحاً في القرآن الكريم من خلال قوله
تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً.۱
و نفس هذا الأمر المتعلّق بموسى، و إنابته الى الله، و دعائه لاستخلاف هارون، و قضاء حاجته بنصب هارون أخيه في مقام النبوّة و الخلافة و الوزارة، نجده عند الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و إنابته إلى الله، و دعائه لاستخلاف عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و قضاء حاجته بنصب عليّ في مقام الخلافة و الوزارة و الولاية و الوصاية و الاخوّة.٢
دعاء النبيّ لشفاء عليّ صلوات الله عليهما
و روى سُليم بن قَيْس عن المقداد بن الأسود، في جواب سؤال سأله به سُلَيم عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: كنّا نسافر مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قبل أن يأمر نساءه بالحجاب؛ و كان عليّ عليه السلام يخدم رسول الله، ليس له خادم غيره؛ إلى أن قال: كان رسول الله يقوم و يصلّي [في جوف الليل].
فأخذت عليّاً عليه السلام الحمّى [الشديدة] ليلة فأسهرته، فسهر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لسهره. فبات ليله مرّة يصلّي، و مرّة يأتي عليّاً عليه السلام يسلّيه، و ينظر إليه.
حتّى أصبح، فلما صلّى بأصحابه الغداة، قال: اللَهُمَّ اشْفِ عَلِيَّاً وَ عَافِهِ فَإنَّهُ قَدْ أسْهَرَني مِمَّا بِهِ مِنَ الوَجَعِ.
فعوفي [عليّ عليه السلام بعد دعاء رسول الله]، فكأنّما نشط من عقال ما به من علّة. ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أبْشِرْ يَا أخِي. قال ذلك و أصحابه حوله يسمعون.
فقال عليّ عليه السلام: بَشَّرَكَ اللهُ بِخَيْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ وَ جَعَلْني فِداكَ.
قال: إنِّي لَمْ أسْألِ اللهَ شَيئاً إلَّا أعْطَانِيهِ! وَ لَمْ أسْألْ لِنَفْسي شَيْئاً إلَّا سَألْتُ لَكَ مِثْلَهُ! إنِّي دَعَوْتُ اللهَ أنْ يُوَاخِيَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ فَفَعَلَ.
وَ سَألْتُهُ إذا ألْبَسَنِي ثَوْبَ النُّبُوَّةِ وَ الرِّسَالَةِ أن يُلْبِسَكَ ثَوْبَ الوَصيَّةِ وَ الشَّجَاعَةِ، فَفَعَلَ.
وَ سَألْتُهُ أنْ يَجْعَلَكَ وَصِيِّي، وَ وَارثِي، وَ خازِنَ عِلْمِي، فَفَعَلَ.
وَ سَألْتُهُ أن يَجْعَلَكَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِنْ موسى وَ أنْ يَشُدَّ بِكَ أزْرِي وَ يُشْرِكَكَ في أمْرِي فَفَعَلَ؛ إلَّا أنَّهُ لَا نبَيّ بَعْدي، فَرَضِيتُ الحديث۱.
و روى الحاكم الحسكانيّ بسنده المتّصل عن أنس بن مالك [أنّ] النبيّ [الأكرم] صلّى الله عليه و آله و سلّم بعث مصدّقاً إلى قوم، فعدوا على المصدّق، فقتلوه. فبلغ ذلك النبيّ، فبعث عليّاً. فقتل المقاتلة و سبى الذرّيّة. فبلغ ذلك النبيّ فسرّه. فلمّا بلغ عليّ أدنى المدينة، تلقّاه رسول الله فاعتنقه، و قبّل بين عينيه، و قال: بِأبي أنْتَ وَ امِّي مَنْ شَدَّ اللهُ عَضُدِي بِهِ كَمَا شَدَّ عَضُدَ موسى بِهَارُونَ٢. و هذا الكلام مأخوذ من القرآن إذ خاطب الله موسى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ٣.
دعاء النبيّ لتكون جميع الكمالات لعليّ عليه السلام بما فيها النبوّة
و أخرج العلّامة الأمينيّ عن «المناقب» لأحمد بن حنبل، و «الرياض النضرة» ج ٢، ص ۱٦٣، عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يَقُولُ: اللَهُمَّ إنِّي أقُولُ كَمَا قَالَ أخِي موسى: اللهم اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي: أخِي عَلِيَّاً اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً ، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً٤.
و نظير هذا المفاد الذي استثنى أمير المؤمنين عليه السلام من النبوّة
و بيّن لنا أنّ أحداً من الناس لا يفوقه، و أنه متّصف بجميع الصفات الكمالية و المناصب الإلهيّة، حديث رواه أبو نعيم الأصفهانيّ بسنده المتّصل عن مَعَاذ بن جَبَل، قال:
قَالَ النَّبِيّ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: يَا عَلِيّ! أخْصِمُكَ بِالنُّبُوَّة وَ لَا نُبُوَّةَ بَعْدَي! وَ تَخْصِمُ النَّاسَ بِسَبْعٍ! وَ لَا يُحَاجُّكَ فِيهَا أحَدٌ مِنْ قُرَيشٍ!
أنْتَ أوَّلُهُمْ إيمَانَاً بِاللهِ! وَ أوْفَاهُمْ بِعَهْدِ اللهِ! وَ أقْوَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ! وَ أقْسَمُهُمْ بِالسَّوِيَّةِ! وَ أعْدَلُهُمْ في الرَّعِيَّةِ! وَ أبْصَرُهُمْ بِالقَضِيَّةِ! وَ أعْظَمُهُمْ عِنْدِ اللهِ مَزِيَّةً!۱.
و نلاحظ هنا أن رسول الله قد استثنى بصراحة الإمام عليّ بن أبي طالب من النبوّة فقط، و لكن اعتبره أعلى و أرفع من كلّ ما في الكون، و خصّه بجميع الكمالات إلّا النبوّة. و على هذا فالإمام عليّ عليه السلام حائز جميع الصفات و المناصب، لأنّ معنى كلامه صلّى الله عليه و آله: أوفاهم بعهد الله و أقومهم بأمر الله و أبصرهم بالقضيّة و أعدلهم في الرعيّة و أقسمهم بالسويّة و أعظمهم عند الله مَزِيّةً، قائم على أساس كماله و سعة وجود نفسه و إحاطته النورنيّة و الإلهيّة التي منحها إيّاه ربّه سبحانه و تعالى، و رفعه إلى هذه الدرجة و المقام.
و كذلك روى أبو نعيم الأصفهانيّ بسنده المتّصل الآخر عن سعيد بن المُسَيِّب، عن أبي سعيد الخُدري، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه و آله
و سلّم لِعَلِيّ -وَ ضَرَبَ بَيْنَ كِتْفَيْهِ- يَا عَلِيّ! لَكَ سَبْعُ خِصَالٍ لَا يُحَاجُّكَ فِيهِ أحَدٌ يَوْمَ القِيَامَة! أنْتَ أوَّلُ المُؤْمِنِينَ بِاللهِ إيمَانَاً! وَ أوْفَاهُمْ بِعَهْدِ اللهِ! وَ أقْوَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ! وَ أرْأفُهُمْ بِالرَّعِيَّةِ! وَ أقْسَمُهُمْ بِالسَّوِيَّةِ! وَ أعْلَمُهُمْ بِالقَضيَّةِ! وَ أعْظَمُهُمْ مَزِيَّةً يَوْمَ القِيَامَةِ۱.
كانت وزارة الإمام عليّ و خلافته منذ اليوم الأوّل لنبوّة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم
و نلاحظ في الحديث أيضاً أنّه لم يعتبر عليّاً أفضل من قريش فحسب، بل أفضل من جميع الخلائق يوم القيامة أيضاً. و لذا قال في آخره: قيمتك و مزيّتك أعظم من الجميع يوم القيامة.
و قد قال رسول الله هذا الكلام، و هو يضرب بيده على ظهر عليّ.
و على أساس وحدة النفس هذه، و اتّحاد روح رسول الله و روح أمير المؤمنين، الذي كان قائماً منذ اليوم الأوّل الذي كُلِّف فيه رسول الله بدعوة عشيرته و قبيلته، و ذلك قبل أن يُكَلَّف بالتبليغ العامّ، و الإعلان العامّ، و قبل أن تنزل الآية: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ٢.
و حين نزلت الآية الشريفة: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ٣، و امر النبيّ بدعوة كبار بني هاشم و رجالهم، و قال لعليّ: اطبخ لنا رِجل شاةٍ! و أحضر لنا قعباً من لبن! و ادع أربعين من بني عبد المطّلب، و كان عددهم بهذا المقدار آنذاك!
و دعا عليّ عليه السلام بني عبد المطّلب كافّة؛ و أكلوا كلّهم من ذلك الطعام، و شبعوا؛ و شربوا جميعهم من ذلك القعب، و ارتووا؛ خاطبهم النبيّ
الأكرم قائلًا: يا قوم! بُعثت إليكم و إلى العرب و الناس كافّة بالنبوّة! و هذا حمل ثقيل، و هذه مهمّة عظيمة. أيّكم يؤازرني في أمر الرسالة هذا؟ و يعينني عليه؟ و هو أخي، و وصيّي، و خليفتي في امّتي، و ولييّ كلّ مؤمن بعدي؟ فلم يجبه أحد. فقام عليّ، و قال: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ.
و أجلسه الرسول، إذ كان طفلًا لم يبلغ الحلم؛ ثمّ كرّر دعوته قائلًا: أيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أنْ يَكُونَ أخِي وَ صَاحِبِي وَ وَارِثِي وَ وَلِيَّكُمْ بَعْدِي؟! و لم يجبه أحد، و قام عليّ و قال: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ!
فقال الرسول: اجلس. ثمّ كرّر دعوته ثالثاً قائلًا: أيُّكُمْ يَنْتَدِبُ أنْ يَكُونَ أخِي، وَ وَزِيرِي، وَ وَصِيِّي، وَ خَليِفَتِي في امَّتِي، وَ وَلِيّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي؟!
و لم يجبه أحد، و قام عليّ، و قال: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ!
فأخذ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم رأس عليّ في حجره، و ألقى في فمه من بصاقه، و قال: اللَهُمَّ امْلأ جَوْفَهُ عِلْمَاً وَ فَهْمَاً وَ حُكْمَاً! و قال: إنَّ هَذَا أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَليِفَتِي فِيكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أطِيعُوا!۱.
ثمّ قال لعمّه أبي طالب: يَا أبَا طَالِبٍ! اسْمَعِ الآنَ لِابْنِكَ! وَ أطِعْ! فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مِنْ نَبِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى!
و خلاصة الأمر فإنَّ الواضح من هذا الموضوع أنّ النبيّ هو الذي أعدّ ذلك المجلس ليعيّن له ناصراً و معيناً، و وزيراً، و أخاً، و مواسياً في المحن، و البلايا و الشدائد، و ثقل عبء النبوّة، و تبليغ الرسالة في حياته، و حراسة الوحي الإلهيّ، و حفظ دين الله، و إمامة الامّة الإسلاميّة بعد مماته.
تماماً كما أنّ موسى رأى نفسه وحيداً على أثر الخطاب الإلهيّ،
و شعر أنّه محتاج إلى أخ مثل هارون، ليكون له عضداً و مؤازراً، و شريكاً في حمل أعباء النبوّة و أداء الرسالة إلى فرعون و الفراعنة، فكذلك رسول الله، رأى نفسه وحيداً على أثر الوحي الإلهيّ في حمل الرسالة و إبلاغها إلى سكّان العالم و المشركين و الكفّار، و كذلك في الصراع العلميّ و العمليّ ضدّ المناوئين و المنافقين و طلّاب الدنيا الذين كانوا دائماً سدّاً محكماً و حصناً حصيناً للحؤول دون نيل الأنبياء أهدافهم. و أعلن أنّه يريد خليفةً، و وزيراً، و معيناً، و ناصراً، و أخاً له يؤازره في هذا الأمر، و يشاركه في أداء الرسالة، و يكون حاميه و وزيره و أخاه في شتّى المشاكل و البلايا و المصائب و المحن، و عراقيل المتعدّين و المتجاوزين، و الصراع مع الجائرين و الظالمين، و قطع دابر الفاجرين و المجرمين، و إيصال نداء التوحيد إلى آذان المستضعفين و المغلوبين على أمرهم، و أسرى النفس الأمّارة، و طواغيت الزمان. و يرافقه خطوة خطوة في السرّاء و الضرّاء، و الليل و النهار، و السلم و الحرب. و يحمل عبء الخلافة و الإمامة و الوزارة كما حمل صلّى الله عليه و آله عبء الرسالة. و يكون معه في كافّة مراحل و منازل السير المعنويّ و الروحيّ.
و في ذلك اليوم نُصب عليّ من قبل الله سبحانه و تعالى في مقام الإمامة و الولاية و الخلافة و الوراثة و الاخوّة. فنبوّة رسول الله غير منفصلة عن ولاية عليّ؛ و اقيم الإسلام منذ اليوم الأوّل على قاعدتي النبوّة و الإمامة؛ و رُفِعَ السقف على هاتين الدعامتين؛ و أنّه لينهار إذا كان على قاعدة واحدة دون اخرى، و يتصدّع و يتشذّر، و لا يبقى منه إلّا الاسم.
إنّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يَدعُ عشيرته و قومه إلى الإسلام فحسب، و ذلك أنّ قبول أصل الإسلام لم يكن مهمّاً لكثير منهم؛ كما أنّ حمزة اعتنق الإسلام، و أصبح من طلائع المسلمين السبّاقين في هذا
الطريق. و كان إسلام أبي طالب خفية، و كانت مساعدته للنبيّ إلى درجة أنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم سمّى العام الذي توفي فيه هو و خديجة: عام الحُزْن لشدّة الحزن الذي نزل به؛ و اعتنق العبّاس الإسلام أيضاً.
و إنّما كانت دعوة النبيّ في ذلك المجلس لطلب الوزير، و قبول المعاون، و الخليفة، و الوصيّ في كافّة الشؤون المتعلّقة بالامّة الإسلاميّة. و لمّا كان قبول هذا الأمر عسيراً جدّاً، و قاصماً للظهر، فلهذا صمت الجميع، و امتنعوا عن الإقرار به.
اجتماع نبوّة النبيّ و وزارة عليّ عليه السلام معاً
و قد تحدّثنا مفصّلًا عن آية الإنذار و حديث العشيرة في المجلس الخامس من الجزء الأوّل، من هذا الكتاب؛ و عرضنا مدارك متقنة و قويّة في دلالة هذا الحديث المبارك و سنده، فلهذا أحجمنا هنا عن ذكر المدارك، و دللنا على وجود لفظ: وَ خَليفَتِي فِيكُمْ في ذلك الحديث، و هو ما يثّاقل منه العامّة.
رواية سُلَيمْ حول حديث العشيرة و آية الإنذار
و نذكر فيما يأتي أيضاً فقرات ممّا يستخلص من حديث العشيرة عن بعض المصادر الاخرى:
تحدّث سُلَيْم بن قيس عن الحوار الذي جرى بين معاوية و قيس بن سعد بن عبادة -في سفر معاوية إلى الحجّ و دخوله المدينة بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام، و بعد صلح الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أو بعد استشهاده- و انتفاض قيس في تلك المناظرة، و استدلاله على بطلان خلافه معاوية و حقّانيّة عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام؛ و أدان معاوية. و ذكر سُليم أنّ من جملة ما قاله قيس بن سعد لمعاوية:
إنّ الله بعث محمّداً صلّى الله عليه و آله و سلّم رحمة للعالمين. فبعثه إلى الناس كافّة، و إلى الجنّ و الإنس، و الأحمر، و الأسود، و الأبيض، اختاره لنبوّته؛ و اختصّه برسالته.
و كان أوّل من صدّقه، و آمن به ابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
و أبو طالب عمّه يذبّ عنه، و يمنعه، و يبعد عنه الأخطار، و يهتمّ في حفظه و حراسته، و يحول بين كفّار قريش و بين أن يردعوه، أو يؤذوه، أو يحولوا دون دعوته؛ فأمره أن يبلّغ رسالة ربّه.
و لم يزل النبيّ ممنوعاً من ضيم قريش و أذاهم، حتّى مات عمّه أبو طالب؛ و أمر ابنه عليّاً. بمؤازرته؛ فوازره و نصره؛ و جعل نفسه دونه في كلّ شديدة و كلّ ضيق، و كلّ خوف. و اختصّ الله بذلك عليّاً عليه السلام من بين قريش؛ و أكرمه من بين جميع العرب و العجم.
و جمع رسول الله جميع بني عبد المطّلب؛ فيهم أبو طالب، و أبو لهب. و هم يومئذٍ أربعون رجلًا؛ فجمعهم رسول الله، و خادمه عليّ؛ و رسول الله في حجر عمّه أبي طالب.
فَقَالَ: أيُّكُمْ يَنْتَدِبُ أنْ يَكُونَ أخِي، وَ وَزِيرِي، وَ وَصِيِّي، وَ خَلِيفَتِي في امَّتِي، وَ وَلِيّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي؟! فسَكَتَ القَوْمُ حتّى أعَادَهَا ثَلَاثَاً.
فَقَالَ عَلِيّ عَلِيهِ السَّلَامُ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ صلّى الله عَلَيْكَ!
فَوَضَعَ رَأسَهُ في حِجْرِهِ وَ تَفَلَ في فِيهِ، وَ قالَ: اللَهُمَّ امْلأ جَوْفَهُ عِلْمَاً وَ فَهْمَاً وَ حُكْمَاً. ثمَّ قَالَ لأبِي طَالِبٍ: يَا أبَا طَالِبٍ! اسْمَعِ الآنَ لِابْنِكَ وَ أطِعْ فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مِنْ نَبِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى الحديث۱.
و في «غاية المرام» عن محمّد بن عبّاس بن ماهيار، في «تفسير
القرآن فيما نَزَلَ في أهلِ البيت» عليهم السلام، بسنده المتّصل عن محمّد بن عبد الله بن أبي رافع۱، غلام رسول الله، عن أبيه، عن جدّه أبي رافع، قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم جميع بني عبد المطّلب في الشِّعْب، و كان بنو عبد المطّلب (جدّ رسول الله) أربعين رجلًا؛ و طبخ لهم رِجل شاةٍ، و فتّ لهم الخبز، و صبّ عليه المرق؛ و قدّم لهم ذلك الثريد٢ و اللحم. فأكلوا جميعهم و شبعوا.
ثمّ سقاهم عسّاً واحداً فشربوا كلّهم منه حتّى رووا. فقال أبو لهب: و الله إنّ منّا لنفراً يأكل الرجل منهم الجفنة، فما تكاد تشبعه؛ و يشرب الفرق فما يرويه. و إنّ ابن أبي كبشة (لقب كان يذكره أبو لهب لرسول الله) دعانا فجمعنا على رِجل شاة، و عسّ من لبن فشبعنا و روينا منهما. إنّ هذا لهو السحر المبين.
ثمّ دعاهم رسول الله، فقال: إنّ الله تبارك و تعالى أمرني بقوله: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَ رَهْطَكَ الْمُخْلَصْيِنَ.
و أنتم رهطي المخلصين و عشيرتي الأقربين! و إنّ الله لم يبعث رسولًا إلّا جعل من أهله أخاً و وزيراً و وارثاً و وصيّاً. فَأيُّكُمْ يَقُومُ يُبايِعُني أنَّهُ أخي وَ وَزيري، وَ وارثي دُونَ أهْلي، وَ وَصيّي وَ خَليفَتي في أهْلي،
وَ يَكونُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، غَيْرَ أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟!
فسكت القوم.
و قال النبيّ: و الله ليقومنّ قائمكم، أو يكون في غيركم، ثمّ لتندمنّ.
قال أبو رافع: فقام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام، و هم ينظرون كلّهم إليه، فبايعه، و أجابه إلى ما دعاه.
فقال له النبيّ: ادن منيّ يا عليّ! فدنا منه. فقال: افتح فاك! ففتح فاه. فمجّ فيه من ريقه؛ و تفل فيه بين كتفيه، و بين ثدييه.
فقال أبو لهب للنبيّ: لبئس ما حبوتَ به ابن عمّك! إذ جاءك فملأتَ فاه بزاقاً۱!
فقال النبيّ: بَلَى! مَلأتُهُ عِلْمَاً وَ حُكْمَاً وَ فِقْهَاً.٢
روايات الحاكم الحسكانيّ في حديث العشيرة و آية الإنذار
و روى الحاكم الحسكانيّ، عن أبي القاسم القرشيّ بسنده المتّصل عن عبد الله بن عبّاس، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال: لمّا انزلت هذه الآية: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ على رسول الله، دعاني رسول الله صلّى الله عليه و آله، فقال: يا عليّ! إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، و عرفت أنّي مهما أمرتهم بهذا الأمر، أرى منهم ما أكرهُ!
فصمتُّ حتّى جاءني جبرئيل، فقال: يَا مُحَمَّدُ! إنّك إن لم تفعل ما امرتَ به، يعذّبك ربّك، فاصنع ما بدا لك!
يا عليّ! اصنع لنا صاعاً من طعام! و اجعل لي فيه رِجْلَ شاةٍ؛ و املأ لنا عُسّاً من لبن؛ ثمّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتّى أكلّمهم، و ابلّغهم ما امرت به. و يستطرد في الحديث إلى أن يقول:
فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبْ! إنِّي وَ اللهِ مَا أعْلَمُ بِأحَدٍ مِنَ العَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بِأفْضَلَ مِمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ! إنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِأمْرِ الدُّنْيا وَ الآخِرَةِ؛ وَ قَدْ أمَرَنِيَ اللهُ أنْ أدْعُوَكُمْ إلَيْهِ.
فَأيُّكُمْ يُوَازِرُنِي عَلَى أمْرِي هَذَا، على أنْ يَكُونَ أخِي وَ وَصِيِّي وَ وَلِيِّي وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ؟
فأحجم القوم عنها جميعاً.
فقلت و إنّي لأحدثهم سنّاً، و أرمضهم عيناً، و أعظمهم بطناً، و أحمشهم ساقاً۱: أنَا يَا نَبِيّ اللهِ؛ أكُونُ وَزِيرَكَ عَلَيهِ!
فقام القوم يضحكون، و يقولون لأبي طالب: قَدْ أمَرَكَ أنْ تَسْمَعَ وَ تُطِيعَ لِعَليّ!٢
و روى الحاكم الحسكانيّ أيضاً عن ابن فنجويه بسنده المتّصل عن البراء بن عازب قال: لمّا نزلت الآية: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، جمع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بني عبد المطّلب؛ و سرد القصّة، إلى أن قال: فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! إنِّي أنَا النَّذِيرُ إلَيْكُمْ مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ البَشيِرُ لِمَا يَجيءُ بِهِ أحَدُكُمْ، جِئْتُكُمْ بِالدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ، فَأسْلِمُوا وَ أطِيعُونِي تَهْتَدُوا!
وَ مَنْ يُوَاخِينِي [مِنْكُمْ] وَ يُوَازِرُنِي؛ وَ يَكُونُ وَلِيِّي وَ وَصِيِّي بَعْدِي وَ خَليفَتِي في أهْلِي وَ يَقْضِي دَيْنِي؟!
فسكت القوم [كلّهم]؛ و أعاد ذلك ثلاثاً؛ كلّ ذلك يسكت القوم، و يقول عليّ: [قلتُ]: أنا! فقال [النبيّ]: أنت! فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمَّرَهُ عليك۱.
و نقل الشيخ الطبرسيّ هذه الرواية نفسها بدون ذكر السند، و ذلك في تفسير الآية المباركة؛ و قال أيضاً: أورده الثعلبيّ في تفسيره٢.
روايات ابن عساكر حول حديث العشيرة
و نقل ابن عساكر الدمشقيّ ثماني روايات حول آية الإنذار، و جمع العشيرة، و إقامة عليّ عليه السلام في الوزارة، و ذلك في الجزء الأوّل من كتاب أمير المؤمنين عليه السلام، من رقم ۱٣٥ إلى ۱٤٢.
و ذكر الرواية ۱٣٥ بسنده المتّصل عن سالم، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ و بعد بيان القضيّة، قال رسول الله في آخرها: مَنْ يُوَازِرُنِي عَلَى مَا أنَا عَلَيْهِ وَ يُبَايِعُنِي عَلَى أنْ يَكُونَ أخِي وَ لَهُ الجَنَّةُ؟
قلتُ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ! وَ إنِّي لأحْدَثُهُمْ سِنَّاً وَ أحْمَشُهُمْ سَاقَاً. فسكت القوم ثمّ قالوا: يا أبا طالب! أ لا ترى ابنك؟ قال أبو طالب: دعوه، فلن يألو من ابن عمّه خيراً۱.
و نقل الرواية ۱٣٦ بسنده المتّصل عن ربيعة بن ناجذ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم دعا بني عبد المطّلب، و ذكر الرواية بالإعجاز الذي حصل في ذلك المجلس إذ شبع الجميع من رِجْل الشاةِ، و ارتووا من قعب اللبن دون أن ينقص منهما شيء؛ ثمّ قال النبيّ:
يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! إنِّي بُعِثْتُ إلَيكُمْ خَاصَّةً وَ إلى النَّاسِ عَامَّةً وَ قَدْ رَأيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ مَا رَأيْتُمْ! فَأيُّكُمْ يُتَابِعُنِي على أنْ يَكُونَ أخِي وَ صَاحِبِي؟! يقول عليّ عليه السلام: لم يقم إليه أحد؛ فقمت إليه، و كنت أصغر القوم. قال: فقال [رسول الله]: اجلس! و فعل [رسول الله] ثلاث
مرّات كذلك؛ و أنا في كلّ ذلك أقوم إليه، فيقول لي: اجلس حتّى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي [للبيعة]۱.
و روى الرواية ۱٣۷ بسنده المتّصل عن عبّاد بن عبد الله الأسديّ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قريشا، ثمّ قال: لَا يُؤَدِّي أحَدٌ عَنِّي دَيْنِي إلَّا عَلِيّ٢.
و نقل الرواية ۱٣۸ بسند متّصل آخر عن عبّاد بن عبد الله الأسديّ أيضاً، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: لمّا نزلت الآية: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، دعا رسول الله رجالًا من أهل بيته، و بعد بيان شبعهم من رِجل الشاة، و ارتوائهم من قعب اللبن، قال لهم:۱۰
عَلِيّ يَقْضِي دَيْنِي٣؛ وَ يُنْجِزُ مَوْعِدِي٤.
و أخرج الرواية ۱٣٩ بسند متّصل آخر عن عبّاد بن عبد الله، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: يا عليّ! اجمع بني هاشم؛ و طبخت صاعاً من الطعام و شاة ثلاث مرّات، و أعددت قعباً من لبن. و كانوا يأكلون و يشبعون؛ و قالوا مرّتين: ما رأينا كاليوم في السحر! و في الثالثة بَدَرَهُم
رسول الله بالكلام، فقال: أيُّكُمْ يَقْضِي دَيْنِي وَ يَكُونُ خَليِفَتِي وَ وَصِيِّي مِنْ بَعْدِي؟!
قال: فسكت العبّاس مخافة أن يحيط ذلك أي [دَين رسول الله] بماله؛ فأعاد رسول الله الكلام على القوم؛ و سكت العبّاس [أيضاً] مخافة أن يحيط ذلك بماله. فأعاد رسول الله الكلام الثالثة. قال [أمير المؤمنين عليه السلام]: و إنِّي يومئذٍ لأسوأهم هيئة، إنِّي يَوْمَئِذٍ أحْمَشُ السَّاقَيْنِ؛ أعْمَشُ العَيْنَيْنِ، ضَخْمُ البَطْنِ؛ فقلت: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ!
قال النبيّ: أنْتَ يَا عَلِيّ! أنْتَ يَا عَلِيّ!!۱
و نقل الرواية ۱٤۰ بسنده المتّصل، عن عبد الله بن عبّاس، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. و هذه الرواية بعباراتها نفسها هي الرواية التي ذكرناها عن الحاكم الحَسْكانيّ أولًا.٢
و أخرج الرواية ۱٤۱ بسنده المتّصل عن أبي رافع. و هذه الرواية عينها هي الرواية التي نقلناها سابقاً عن كتاب «غاية المرام» عن محمّد بن عبّاس بن ماهيار، عن تفسير القرآن فيما نزل في أهل البيت عليهم السلام.٣
و ذكر الرواية ۱٤٢ بسنده المتّصل عن عمر بن عليّ بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ أبي طالب، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين، عن أبي رافع، قال: كنت قاعداً بعد ما بايع الناس أبا بكر فسمعت أبا بكر يقول
للعبّاس:
انْشِدُكَ اللهِ! هَلْ تَعْلَمُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ جَمَعَ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ وَ أوْلَادَهُمْ، وَ أنْتَ فِيهِمْ، وَ جَمَعَكُمْ دُونَ قُرَيشٍ. فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! إنَّهُ لَمْ يَبْعَثِ اللهُ نَبِيَّاً إلَّا جَعَلَ لَهُ مِنْ أهْلِهِ أخاً وَ وَزِيرَاً وَ وَصِيّاً وَ خَلِيفَةً في أهْلِهِ! فَمَنْ مِنْكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أنْ يَكُونَ أخِي، وَ وَزِيرِي، وَ وَصِيِّي، وَ خَلِيفَتِي في أهْلِي؟! فَلَمْ يَقُمْ مِنْكُمْ أحَدٌ!
فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! كُونُوا في الإسْلَامِ رُؤُوسَاً وَ لَا تَكُونُوا أذْنَاباً. وَ اللهِ لَيَقُومَنَّ قَائِمُكُمْ، أوْ لَتَكُونَنَّ في غَيْرِكُمْ ثُمَّ لَتَنْدَمُنَّ!
فَقَامَ عَلِيّ مِنْ بَيْنِكُمْ فَبايَعَهُ على مَا شَرَطَ لَهُ وَ دَعَاهُ إلَيْهِ.
أ تَعْلَمُ هَذَا لَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ؟! قَالَ: نَعَمْ۱
رواية أحمد بن حنبل حول حديث العشيرة
و روى أحمد بن حنبل بسنده عن المنهال، عن عبّاد بن عبد الله الأسديّ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: لمّا نزلت الآية: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، جمع النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أهل بيته؛ فاجتمع ثلاثون شخصاً منهم، فأكلوا، و شربوا، قال: فقال لهم:
مَنْ يَضْمَنُ عَنِّي دَيْني، وَ مَوَاعِيدي؛ وَ يَكُونُ مَعِي في الجَنَّةِ؛ وَ يَكُونُ خَلِيفَتِي في أهْلِي؟! فَقَالَ رَجُلٌ لَمْ يُسَمِّهِ شَرِيكٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! أنْتَ كُنْتَ بَحْرَاً مَنْ يَقُومُ بِهَذَا؟! قَالَ: ثمَّ قَالَ الآخَرُ قَالَ: فَعَرَضَ ذَلِكَ على أهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَا٢.
ذكر ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» في ذيل كلام الإمام في الخطبة القاصعة: أنَا وَضَعْتُ في الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ العَرَبِ، وَ كَسَرْتُ نَواجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ، قال: روى عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال:
كَانَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ يَرَى مَعَ رَسُولِ اللهُ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَبْلَ الرِّسَالةِ الضَّوءَ وَ يَسْمَعُ الصَّوْتَ؛ وَ قَالَ لَهُ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ: لَوْ لا أنِّي خَاتَمُ الأنْبِيَاءِ لَكُنْتَ شَرِيكاً في النُّبُوَّةِ! فَإنْ لَا تَكُنْ نَبِيّاً فَإنَّكَ وَصِيّ نَبِيّ وَ وَارِثُهُ! بَلْ أنْتَ سَيِّدُ الأوْصِيَاءِ وَ إمَامُ الأتْقِيَاءِ!
ثمّ نقل ابن أبي الحديد قصّة آية الإنذار و حديث العشيرة عن الطبريّ في تأريخه بنحو مفصّل، و هو ما أوردناه في الجزء الأوّل من كتابنا هذا: «معرفة الإمام» في المجلس الخامس، عن الطبريّ. و كذلك أوردناه في هذا الجزء في أوّل رواية الحاكم الحسكانيّ. و فيه تصريح على أنّ النبيّ قال: هَذَا أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أطيِعُوا!
ثمّ قال: و يدلّ على أنّه وزير رسول الله من نصّ الكتاب و السنّة قول الله تعالى: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.
و قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في الخبر المجمع على روايته
بين سائر فرق الإسلام: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
و على هذا أثبت النبيّ لعليّ جميع مراتب و مقامات هارون من موسى. فإذاً هو وزير رسول الله، و شادّ أزره؛ و لو لا أنّه خاتم النبيّين، لكان شريكاً في أمره.
الروايات الواردة حول حديث العشيرة
و روى أبو جعفر الطبريّ أيضاً في تاريخه أنّ رجلًا قال لعليّ عليه السلام:
يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! بِمَ وَرِثْتَ ابْنَ عَمِّكَ دُونَ عَمِّكَ؟!
فقال عليّ عليه السلام: هاؤُم! ثلاث مرّات حتّى اشرأبَّ الناس، و نشروا آذانهم، ثمّ قال:
جمع رسول الله صلّى الله عليه و آله بني عبد المطّلب بمكّة، و هم رهطه، كلّهم يأكل الجَذَعَة، و يشرب الفِرْق۱، فصنع مُدّاً من طعام، حتّى أكلوا و شبعوا، و بقي الطعام كما هو، كأنّه لم يمسّ. ثمّ دعا بغُمَر٢، فشربوا و رووا، و بقي الشراب كأنّه لم يشرب؛ ثمّ قال: يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! إنِّي بُعِثْتُ إلَيكُمْ خَاصَّةً؛ وَ إلى النَّاسِ عَامَّةً، فأيُّكُمْ يُبَايِعُنِي على أنْ يَكُونَ أخِي وَ صَاحِبِي وَ وَارِثِي؟! فلم يقم إليه أحد، فقمت إليه، و كنت من أصغر القوم. فقال النبيّ: اجلس. ثمّ قال ذلك ثلاث مرّات؛ كلّ ذلك أقوم إليه، فيقول: اجلس، حتّى كان في الثالثة، فضرب بيده على يدي فعند ذلك ورثت ابن
عمّي دون عمّي۱.
و روى الملّا عليّ المتّقي عن ابن مَرْدَوَيْه قصّة دعوة بني عبد المطّلب في تفسير آية الإنذار، إلى أن قال: ثُمَّ قَالَ لَهُمْ وَ مَدَّ يَدَهُ مَنْ يُبَايِعُنِي على أنْ يَكُونَ أخِي، وَ صَاحِبِي، وَ وَلِيَّكُمْ مِنْ بَعْدِي؟! و أنا يومئذ أصغر القوم، عظيم البطن و مددت يدي و قلت: أنَا ابَايِعُكَ! فبايعني رسول الله على ذلك. قال: و ذلك الطعام أنا صنعته٢.
و نلاحظ في هذا الحديث أنّه و إن لم يرد فيه لفظ: خَلِيفَتِي، و لكن ورد لفظ: وَ وَلِيَّكُمْ مِنْ بَعْدِي. و لا شكّ أنّ المراد من الولاية هنا منصب الإمامة و الخلافة لسببين: الأوّل: قرينة تشكيل ذلك المجلس، و حضور الأعمام و بني عبد المطّلب، و دعوة النبيّ تلك، إذ لا مناسبة لأيّ معنى آخر هنا غير هذا المعنى. الثاني: قرينة: مِنْ بَعْدِي، إذ إنّ إمامة أمير المؤمنين عليه السلام و خلافته كانت بعد رسول الله. و أمّا سائر أقسام الولاية و معانيها منحصرة بما بعد وفاة الرسول الأعظم فليست له بزعم الخصم.
و نقل ابن أبي الحديد عن شيخه أبي جعفر الإسكافيّ٣ أنّه قال: و قد
روى في الخبر الصحيح أنّ النبيّ كلّف عليّاً في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام و انتشارها بمكّة أن يصنع له طعاماً، و أن يدعو له بني عبد المطّلب. فصنع له الطعام، و دعاهم له. فخرجوا ذلك اليوم، و لم ينذرهم صلّى الله عليه و آله و سلّم لكلمة قالها عمّه أبو لهب؛ فكلّفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام، و أن يدعوهم ثانية، فصنعه، و دعاهم فأكلوا.
ثمّ كلّمهم صلّى الله عليه و آله فدعاهم إلى الدين، و دعا عليّاً معهم لأنّه من بني عبد المطّلب؛ ثمّ ضمن لمن يؤازره منهم و ينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين، و وصيّه بعد موته، و خليفته من بعده. فأمسكوا كلّهم و أجابه عليّ وحده، و قال: أنَا أنْصُرُكَ على مَا جِئْتَ بِهِ؛ وَ اوازرُكَ وَ ابَايِعُكَ.
فقال لهم [النبيّ] لمّا رأى منهم الخذلان، و منه النصر؛ و شاهد منهم المعصية، و منه الطاعة؛ و عاين منهم الإباء، و منه الإجابة:
هَذَا أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي.
فقاموا يسخرون، و يضحكون، و يقولون لأبي طالب: أطِعِ ابْنَكَ! فَقَدْ أمَّرَهُ عَلَيْكَ۱.
و كم أرى من المناسب هنا أن أنقل حكايتين لطيفتين و ظريفتين في هذا الموضوع. و هما في كتاب «المناقب» لابن شهرآشوب. قال: ذكر ذلك ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» بل روته الامّة بأجمعها عن أبي رافع و غيره
أنّ عليّاً نازع العبّاس إلى أبي بكر في بُرد النبيّ أو ردائه، و سيفه، و فرسه. فقال أبو بكر: أيْنَ كُنْتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ حِيْنَ جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ وَ أنْتَ أحَدُهُمْ فَقَالَ: أيُّكُمْ يُوَازِرُنِي فَيَكُونَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي في أهْلِي وَ يُنْجِزَ مَوْعِدِي وَ يَقْضِي دَينِي؟
فقال له العبّاس: فَمَا أقْعَدَكَ مَجْلِسَكَ هَذَا؟ تَقَدَّمْتَهُ وَ تَأمَّرْتَ عَلَيهِ؟
فقال أبو بكر: أ غَدْرَاً يَا بنِي عَبْدِ المُطَّلِب؟
أمّا الحكاية الثانية فقد قال متكلّم لهارون الرشيد: اريد أن اقرّر هشام بن الحكم بأنّ عليّاً كان ظالماً. فقال له هارون: إن فعلت فلك كذا و كذا! و أمر به. فلمّا حضر، قال المتكلّم لهشام: يا أبا محمّد! روت الامّة بأجمعها أنّ عليّاً نازع العبّاس إلى أبي بكر في بُرد النبيّ أو ردائه و سيفه و فرسه. قال: نعم! قال المتكلّم: فأيّهما الظالم لصاحبه؟ فخاف هشام من الرشيد (لأنّ العبّاس جدّه) فقال: لم يكن فيهما ظالم. قال المتكلّم: فيختصم اثنان في أمر و هما محقّان؟ قال: نعم. اختصم الملكان إلى داود في النعاج و ليس فيهما ظالم، و إنما أرادا أن ينبّهاه على الحكم؛ كذلك عليّ و العبّاس تحاكما إلى أبي بكر في ميراث رسول الله ليعرّفاه ظلمه۱.
تحريف علماء العامّة و إسقاطهم مناصب عليّ في يوم العشيرة
أجل إنّ العامّة و متعصّبيهم جهدوا في إخفاء الحقائق، و إظهار الأباطيل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، و أغضَوا عن هذا الحديث المبارك الذي يمثّل نصّاً صريحاً على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام و خلافته بلا فصل، إذ ذكروا بعض فقراته في كتبهم، و أحجموا عن ذكر فقراته الاخرى.
و ذكرنا في الدرس الخامس من دروس الجزء الأوّل من كتابنا هذا
«معرفة الإمام» أنّ الحلبيّ الذي روى هذا الحديث في سيرته، قد بلغ به إلىقوله: قَالَ عَلِيّ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَ أنَا أحْدَثُهُمْ سِنَّاً، وَ سَكَتْ القَوْمُ.
و لم يقل شيئاً عن سؤال النبيّ، و جوابه المتعلّق بمقامات أمير المؤمنين، و حذف قوله صلّى الله عليه و آله: على أنْ يَكُونَ أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي و كذلك جوابه صلّى الله عليه و آله: فَأنْتَ أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَليِفَتِي مِنْ بَعْدِي. و بلغ به الخزي أن قال: أضاف بعضهم كلمة أخِي وَ وَصِيِّي وَ وَارِثِي، وَ وَزِيرِي، وَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي۱.
و على الرغم من أنّ الطبريّ ذكر في تاريخه جملة: وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ٢ بَيْدَ أنّه أورد هذا الحديث بحذافيره سنداً و متناً في تفسيره؛ و نقل جميع القصّة بنحو مفصّل، إلّا أنّه وضع لفظ كذا و كذا مكان وَصِيِّي وَ خَليِفَتِي فِيكُمْ٣، فمسخ الحديث و شوّه صورته بهذا العمل.
و عبارته هي: قَالَ: فَأيُّكُمْ يُوَازِرُنِي على هَذا الأمْرِ على أنْ يَكُونَ أخِي وَ كَذَا وَ كَذا. و قال أيضاً في كلام رسول الله الأخير: ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا أخِي وَ كَذَا وَ كَذَا.
و تبعاً لهذه الجناية و الخيانة، أورد ابن كثير الدمشقيّ أيضاً في «البداية و النهاية»٤ و كذلك في تفسيره٥ لفظ كَذَا وَ كَذَا بدل لفظ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ.
لاحظوا هؤلاء الأعلام في التأريخ، و الحديث، و التفسير كيف تجنّوا
على الأجيال البشريّة و أعقابها و أخلافها عبر هذه السرقات المكشوفة؟ و كيف حجبوا وجه الحقيقة؟ إنّهم أرادوا وضع مذهب مزيّف في مقابل مذهب أهل البيت عبر الأساليب الملتوية المتمثّلة بالتزوير و الخداع و الحيلة.
و رأينا جنايات محمّد حسنين هيكل، وزير المعارف السابق في مصر و رئيس تحرير صحيفة «الأهرام» في الطبعة الاولى من كتابه: «حياة محمّد» و كذلك في الطبعة الثانية۱.
و نستخلص من هنا أنّ أهل السنّة يعتقدون بحكّام الجور. و التثريب على هؤلاء الرجال من حملة لواء العلم، و هؤلاء الرؤساء الدينيّين و الوطنيّين الذين قلّدوا اولئك الجانين في أفكارهم و آرائهم وفقاً للقانون الطبيعيّ: النَّاسُ على دِينِ مُلُوكِهِمْ٢.
تحريف علماء اليهود لكلام الله
وهنا تنطبق الآيات الواردة في ذمّ علماء اليهود و النصارى -الذين حرّفوا التوراة و الإنجيل، و سحقوا الحقّ و الحقيقة من أجل الرئاسة و التحكّم في رقاب عوامّ الناس- على علماء العامّة تماماً.
ورد في القرآن الكريم عن اليهود قوله تعالى:
وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ۱.
«و اذكر عند ما قلنا ادخلوا هذه القرية (بيت المقدس)! و كلوا ما شئتم من نعمها الكثيرة الطيّبة! و ادخلوا الباب سجّداً! و قولوا: اللهمّ اغفر ذنوبنا، حتّى نغفر خطاياكم و نزيد المحسنين!
و بعد خطابنا هذا، بدّل الظالمون كلام الله و حكمه غير ما قيل لهم، فأنزلنا عليهم من السماء أشياء قد أزعجتهم و آذتهم بسبب ظلمهم و عصيانهم و مخالفتهم و انحرافهم و فسقهم!»
و ورد قريب من هذا المضمون أيضاً:
وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ٢.
و ورد أيضاً عن تغيير و تبديل الكلمات و العبارات التي تخلّ بالمعنى الأصليّ و المقصود الحقيقيّ قوله:
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا٣.
و قال في بني إسرائيل الذين جعل لهم اثني عشر نقيباً، و أمرهم بالصلاة و الزكاة و الإيمان بالأنبياء، ثمّ وعدهم بالجنّة، و عدّ كفران هذه النعم ضلالة عن الصراط المستقيم، إذ نقضوا الميثاق:
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ۱.
و لمّا نقض بنو إسرائيل ميثاقهم، لعنّاهم و أبعدناهم من رحمتنا، و جعلنا قلوبهم قاسية (بحيث إنّ المواعظ و الوعد و الوعيد لم تؤثّر فيهم) إنّهم يحرّفون كلام الله عن موضعه. و نسوا قسطاً مهمّاً من الحظّ الذي ذكّروا به على أثر كلمات التوراة و كلام الله؛ و لا تزال تطّلع على الخونة منهم إلّا قليلًا منهم.
فاعف عنهم! و اصفح عن خطاياهم إنّ الله يحبّ المحسنين.
و قال في بني إسرائيل أيضاً:
أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ٢.
هل تنتظرون معاشر المسلمين أن يعتنق اليهود دينكم، و يؤمنوا بالله لمصلحتكم، و قد كان فريق منهم قد سمعوا كلام الله ثمّ حرّفوه من بعد ما عقلوه و هم يعلمون حقيقة معناه.
إنّ هذه الآيات و إن كانت نزلت في اليهود، و لكنّ روحها تشمل جميع الذين يحرّفون آيات الله مهما كان دينهم و قوميّتهم. و تعمّ العلماء
و الرؤساء الذين يغيّرون في كلمات الله و القوانين و الآداب و التقاليد الإلهيّة؛ أو يحاولون إسقاط لفظ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي أو خَلِيفَتِي فِيكُمْ أو خَلِيفَتِي و أمثالها من أجل تغيير الإمارة و الخلافة عن مقرّها المُستقرّ و مكانها المكين: قطب العالم و إمام زمانه: مولى الموالى أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين، ثمّ تحويلها إلى أمثال أبي بكر، و عمر، و عثمان، و معاوية، و هلم جرّاً إلى سلسلة ملوك بني اميّة و بني العبّاس.
ما أعظمها من خيانة! و ما أشدّه من ذنب لا يغتفر! أي استباق هذا في القرآن للقرآن نفسه؟ و أي ضرب هذا من النفع للدين و الشريعة؟ و ما هو هذا النمط من حماية البشر و البشريّة؟
كلام أبي جعفر الإسكافيّ في تحريف الروايات الواردة في عليّ عليه السلام
ينقل الشارح المعتزليّ ابن أبي الحديد كلاماً لُاستاذه و شيخه أبي جعفر الإسكافيّ في تفضيل مولى الموالى أمير المؤمنين عليه صلوات الله الملك القيّوم ردّاً على كتاب «العثمانيّة» للجاحظ. و هو جدير بالإمعان و التدقيق. و بعد أن أبطل ابن أبي الحديد على لسان الإسكافيّ أدلّة الجاحظ في أفضليّة أبي بكر و سبقه إلى الإسلام، و أثبت أنّ الروايات الواردة في هذا المجال موضوعة، نقل في ختام حديثه مطلباً هو كالآتي:
قال شيخنا أبو جَعْفَر الإسْكَافِيّ: لو لا ما غلب على الناس من الجهل و حبّ التقليد، لم نحتج إلى نقض ما احتجّت به العثمانيّة، فقد علم الناس كافّة أنّ الدولة و السلطان لأرباب مقالتهم؛ و عرف كلّ أحد علوّ أقدار شيوخهم و علمائهم و أمرائهم، و ظهور كلمتهم، و قهر سلطانهم و ارتفاع التقيّة عنهم و الكرامة؛ و الجائزة لمن روى الأخبار و الأحاديث في فضل أبي بكر.
و ما كان من تأكيد بني اميّة لذلك؛ و ما ولّده المحدّثون من الأحاديث طلباً لما في أيديهم، فكانوا لا يألون جهداً في طول ما ملكوا أن يُخْمِلوا
ذكر عليّ عليه السلام و ولده، و يطفئوا نورهم، و يكتموا فضائلهم، و مناقبهم، و سوابقهم، و يحملوا على شتمهم و سبّهم و لعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم، مع قلّة عددهم و كثرة عدوّهم.
فكانوا بين قتيل، و أسير، و شريد، و هارب، و متخفٍّ ذليل، و خائف مترقّب، حتّى أنّ الفقيه و المحدّث و القاضي و المتكلّم ليُتقدّم و يُتوعّد بغاية الإيعاد و أشدّ العقوبة، ألّا يذكروا شيئاً من فضائلهم.
و لا يرخّصوا لأحد أن يُطيف بهم، و حتّى بلغ من تقيّة المحدّث أنّه إذا ذكر حديثاً عن عليّ عليه السلام، كنّى عن ذكره، فقال: قال رجل من قريش، و فعل رجل من قريش، و لا يذكر عليّاً عليه السلام و لا يتفوّه باسمه.
ثمّ رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله، و وجّهوا الحيل و التأويلات نحوها، من خارجيّ مارق، و ناصب حَنِق، و ثابت على مسبّتهم، و ناشئ معاند، و منافق مكذّب، و عثمانيّ حسود، يعترض فيها و يطعن، و معتزليّ قد نقض في الكلام، و أبصر علم الاختلاف، و عرف الشبه، و مواضع الطعن، و ضروب التأويل. قد التمس الحيل في إبطال مناقب عليّ؛ و تأوّل مشهور فضائله.
فمرّة يتأوّل فضائل عليّ بما لا يحتمل؛ و مرّة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض.
سبّ أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر ثمانين سنة
و لا يزداد مع ذلك إلّا قوّة و رفعة، و وضوحاً و استنارة. و قد علمت أنّ معاوية و يزيد و من كان بعدهما من بني مروان أيّام ملكهم -و ذلك نحو ثمانين سنة- لم يَدَعُوا جهداً في حمل الناس على شتمه و لعنه، و إخفاء فضائله، و ستر مناقبه و سوابقه.
اللعن و التحريف جعلا مقام أمير المؤمنين أسطع و ألمع من ذي قبل
روى خالد بن عبد الله الواسطيّ، عن حصين بن عبد الرحمن، عن
هلال بن يَسَاف، عن عبد الله بن ظالم، قال: لمّا بويع لمعاوية، أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليّاً عليه السلام. فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل: أ لا ترون إلى هذا الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنّة؟!
روى سليمان بن داود، عن شُعْبة، عن الحُرّ بن الصبّاح، قال: سمعت عبد الرحمن بن الأخنس يقول: شهدت المُغِيرة بن شعبة خطب فذكر عليّاً عليه السلام، فنال منه.
روى أبو كُرَيب، قال: حدّثنا أبو اسامة، قال: حدّثنا صدقة بن المثنّى النخعيّ، عن رياح بن الحارث، قال: بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر، و عنده ناس إذ جاءه رجل يقال له: قَيْس بن عَلْقَمَة، فاستقبل المغيرة، فسبّ عليّاً عليه السلام.
روى محمّد بن سعيد الأصفهانيّ، عن شريك، عن محمّد بن إسحاق، عن عمرو بن عليّ بن الحسين، عن أبيه عليّ بن الحسين عليه السلام، قال: قال لي مروان بن الحكم:
مَا كَانَ في الْقَوْمِ أدْفَعُ عَنْ صَاحِبِنَا (عثمان) مِنْ صَاحِبِكُمْ! (عليّ) قُلْتُ: فَمَا بَالُكُمْ تَسُبُّونَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ؟! قال إنَّهُ لَا يَسْتَقيُمُ لَنَا الأمْرُ إلَّا بِذَلِكَ۱.
روى مالك بن إسماعيل أبو غَسَّان النَّهْدِيّ، عن ابن أبي سَيْف، قال:
خطب مروان، و الحسن عليه السلام جالس فنال من عليّ عليه السلام. فقال الحسن عليه السلام: وَيْلَكَ يَا مَرْوَانُ! أ هَذَا الذي تَشْتُمُ، شَرُّ النَّاسِ؟! قَالَ: لَا، وَ لَكِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ.
و روى أبو غسّان أيضاً، قال: قال عمر بن عبد العزيز: كَانَ أبي يَخْطُبُ فَلَا يَزَالُ مُسْتَمِرَّاً في خُطْبَتِهِ؛ حتّى إذَا صَارَ إلى ذِكْرِ عَلِيّ وَ سَبِّهِ تَقَطَّعَ لِسَانُهُ وَ اصْفَرَّ وَجْهُهُ وَ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، فَقُلْتُ لَهُ في ذَلِكَ.
فَقَالَ: أ وَ قَدْ فَطَنْتَ لِذَلِكَ! إنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ يَعْلَمُونَ مِنْ عَلِيّ مَا يَعْلَمُهُ أبُوكَ مَا تَبِعَنَا مِنْهُمْ رَجُلٌ.
و روى أبو عثمان، قال: حدّثنا أبو اليقظان، قال: قام رجل من ولد عثمان إلى هشام بن عبد الملك يوم عَرَفة، فقال: إنَّ هَذَا يَوْمٌ كَانَتِ الخُلَفَاءُ تَسْتَحِبُّ فِيهِ لَعْنَ أبي تُرَابٍ.
و روى عمرو بن القنّاد، عن محمّد بن فُضَيل، أنّ أشعث بن سَوّار، قال: سبّ عديّ بن أرطاة عليّاً عليه السلام على المنبر، فبكى الحسن البصريّ و قال: لَقَدْ سُبَّ هَذَا اليَوْم رَجُلٌ إنَّهُ لأخُو رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ في الدُّنْيا وَ الآخِرَةِ.
و روى عديّ بن ثابت، عن إسماعيل بن إبراهيم، قال: كنت أنا و إبراهيم بن يزيد جالسين في الجمعة ممّا يلي أبواب كندة، فخرج المغيرة فخطب، فحمد الله، ثمّ ذكر ما شاء أن يذكر، ثمّ وقع في عَلِيّ عليه السلام، فضرب إبراهيم على فخذي أو ركبتي، ثمّ قال: أقْبِلْ عَلَيّ! فحدّثني! فإنّا لسنا في جمعة! أ لا تسمع ما يقول هذا؟!
و روى عبد الله بن عثمان الثَّقفيّ، قال: حدّثنا ابن أبي سيف، قال: قال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير لولده: لَا تَذْكُرْ يَا بُنَيّ عَلِيَّاً إلَّا بِخَيْرٍ فَإنَّ بَني امَيَّةَ لَعَنُوهُ عَلَى مَنَابِرِهِمْ ثَمانِيْنَ سَنَةً فَلَمْ يَزِدْهُ اللهُ بِذَلِكَ إلَّا رِفْعَةً. إنَّ
الدُّنْيَا لَمْ تَبْنِ شَيْئاً قَطُّ إلَّا رَجَعَتْ عَلَى مَا بَنَتْ فَهَدَمَتْهُ. وَ إنَّ الدِّينَ لَمْ يَبْنِ شَيْئاً قَطُّ وَ هَدَمَهُ۱.
و روى عثمان بن سعيد، قال: حدّثنا مُطّلب بن زياد، عن أبي بكر بن عبد الله الأصبهانيّ، قال: كان دعيّ لبني اميّة لا يزال يشتم عليّاً عليه السلام، فلمّا كان يوم جمعة، و هو يخطب الناس، قال: وَ اللهِ إنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ لَيَسْتَعْمِلُهُ وَ إنَّهُ لَيَعْلَمُ مَا هُوَ؛ وَ لَكِنَّهُ كَانَ خَتَنَهُ.
و قد نعس سعيد بن المسيّب ففتح عينيه، ثمّ قال: و يحكم! ما قال هذا الخبيث! رأيت القبر انصدع و رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: كَذِبْتَ يَا عَدُوَّ اللهِ.
و روى القَنَّاد قال: حدّثنا أسباط بن نَصْر الهَمْدانيّ، عن السُّدّيّ، قال: بينما أنا بالمدينة عند أحجار الزيت، إذ أقبل راكب على بعير؛ فوقف، فسبّ عليّاً عليه السلام؛ فخفّ به الناس ينظرون إليه، فبينما هو كذلك إذ أقبل سعد بن أبي وقّاص، فقال: اللهمّ إن كان سبّ عبداً لك صالحاً، فَأرِ المسلمين خزيه، فما لبث أن نَفَرَ به بعيره فسقط، فاندقّت عنقه.
و روى عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن موسى، عن فُطْر بن خليفة، عن أبي عبد الله الجدليّ، قال: دخلت على امّ سلمة رحمها الله فقالت لي: أ يُسَبُّ رسول الله فيكم و أنتم أحياء؟!
قلت: و أنّى يكون هذا؟!
قالت: أ ليس يسبّ عليّ عليه السلام و من يحبّه؟!
و روى العبّاس بن بكّار الضبّيّ، قال: حدّثني أبو بكر الهُذَليّ، عن الزُّهريّ، قال: قال ابن عبّاس لمعاوية: أ لَا تَكُفُّ عَنْ شَتْمِ هَذَا الرَّجُلِ؟!
قال معاوية: مَا كُنْتُ لأفْعَلَ حتّى يَرْبُوَ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ وَ يَهْرَمُ فِيهِ الكَبِيرُ.
فلمّا وُلِّيَ عُمَرُ بن عبد العزيز كفّ عن شتمه؛ فقال الناس: تَرَكَ السُّنَّةَ.
و قد روى ابن مسعود (إمّا موقوفاً عليه أو مرفوعاً۱)قال: كَيْفَ أنْتُمْ إذَا شَمَلَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو عَلَيْهَا الصَّغِيرُ وَ يَهْرَمُ فِيهَا الكَبِيرُ، يَجْرِي عَلَيْهَا النَّاسُ فَيَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً، فَإذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيءٌ، قيلَ: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ!
بدعة الحكّام تصبح بين الناس سنّة تدريجيّاً
بعد ذلك قال أبو جعفر الإسكافيّ: و قد تعلمون أنّ بعض الملوك ربّما أحدثوا قولًا، أو ديناً لهوي فيحملون الناس على ذلك؛ حتّى لا يعرفوا غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجّاج بن يوسف الثقفيّ بقراءة عثمان، و ترك قراءة عبد الله بن مسعود، و أبي بن كعب، و توعّد على ذلك بدون ما صنع هو و جبابرة بني اميّة و طغاة مروان بِوُلْد عليّ عليه السلام و شيعته، و إنّما كان سلطانه نحو عشرين سنة.
فما مات الحجّاج، حتّى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان، و نشأ أبناؤهم و لا يعرفون غيرها، لإمساك الآباء عنها؛ و كفّ المعلّمين عن تعليمها؛ حتّى لو قرأت عليهم قراءة ابن مسعود، و أبي ما عرفوها، و لظنّوا بتأليفها الاستكراه و الاستهجان، لإلف العادة و طول الجهالة، لأنّه إذا
استولت على الرعيّة غلبة الحكّام و الرؤساء، و طالت عليهم أيّام التسلّط، و شاعت فيهم المخافة، و شملتهم التقيّة، اتّفقوا على التخاذل و التساكت. فلهذا لا تزال الأيّام تأخذ من بصائرهم و تنقص من ضمائرهم، و تنقض من مرائرهم، حتّى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنّة التي كانوا يعرفونها.
و لقد كان الحجّاج بن يوسف، و من ولّاه كعَبد الملك بن مَرْوان، و الوليد، و من كان قبلهما و بعدهما من فراعنة بني اميّة على إخفاء محاسن عليّ عليه السلام و فضائله و فضائل ولده و شيعته، و إسقاط أقدارهم، أحرص منهم على إسقاط قراءة ابن مَسْعُود و ابن كعب، لأنّ تلك القراءات لا تكون سبباً لزوال ملكهم، و فساد أمرهم، و انكشاف حالهم؛ و في اشتهار فضل عليّ عليه السلام و ولده و إظهار محاسنهم بوارُهم، و تسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم؛ فحرصوا و اجتهدوا في إخفاء فضائله عليه السلام و حملوا الناس على كتمانها و سترها.
و مع ذلك أبي الله أن يزيد أمره و أمر ولده إلّا استنارة و إشراقاً، و حبّهم، إلّا شغفاً و شدّة، و ذكرهم إلّا انتشاراً و كثرة، و حجّتهم إلّا وضوحاً و قوّة، و فضلهم إلّا ظهوراً، و شأنهم إلّا علوّاً، و أقدارهم إلّا إعظاماً، حتّى أصبحوا بإهانتهم إيّاهم أعزّاء؛ و بإماتتهم ذكرهم أحياء، و ما أرادوا به و بهم من الشرّ تحوّل خيراً.
(و من هذا المنطلق)، انتهى إلينا من ذكر فضائله و خصائصه و مزاياه و سوابقه ما لم يتقدّمه السابقون، و لا ساواه فيه القاصدون، و لا يلحقه الطالبون. و لو لا أنّها كانت كالقبلة المنصوبة في الشُّهرة، و كالسُّنن المحفوظة في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد، إذا كان
الأمر كما وصفناه۱.
لقد أسهبنا في الحديث نوعاً ما عن تجبّر حكّام الجور و تفرعنهم و سلطتهم القاهرة التي فُرضت على الناس من قبل العلماء و الخطباء، و جهد أصحابها في تحريف فضائل و مناقب أمير المؤمنين عليه و على آله أفضل صلوات المصلّين. و ذلك كي يتّضح لقرّاء العلوم و المعارف الإسلاميّة، و الباحثين عن سبل السلام مدى المحاولات المحمومة التي بذلت في إخفاء اسم الإمام و أثره. حتّى أنّهم لم يكتفوا بمحو فضائل و مناقب أمير المؤمنين و أهل البيت عليهم السلام، بل اختلقوا فضائل و نسبوها إلى أبي بكر، و عُمَر، و عثمان، و معاوية. و كان الخطباء يقرأون ذلك على المنابر في الجُمَع و الأعياد، و يغسلون أدمغة الناس كي لا تدرك الحقائق.
و لنتطرّق الآن إلى وزارة الإمام عليه السلام و ولايته و خلافته المستفادة من الآية الشريفة.
الروايات الواردة في تطبيق الآية: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي
نقل الحكام الحسكانيّ في كتابه المناقبيّ النفيس: «شواهد التنزيل» ثماني روايات تحت عنوان ما نزل في أمير المؤمنين عليه السلام في الآية: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. و فيما يأتي بعضها:
روى بسنده المتّصل عن حُذَيفة بن اسيد قال: أخَذَ النَّبِيّ بِيَدِ عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ؛ فَقَالَ: أبْشِرْ وَ أبْشِرْ! إنَّ موسى دَعَا رَبَّهُ أنْ يَجْعَلَ لَهُ وَزيِراً مِنْ أهْلِهِ هَارُونَ؛ وَ إنِّي أدْعُو رَبِّي أنْ يَجْعَلَ لي وَزيرَاً مِنْ أهْلِي عَلِيّ أخِي!
اشْدُدَ بِهِ ظَهْرِي وَ أشْرِكْهُ في أمْرِي!۱
و روى بسنده المتّصل الآخر عن أسماء بنت عُمَيْس قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول: اللَهُمَّ إنِّي أقُولُ كَمَا قَالَ أخِي موسى: اللهم اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي عليا أخي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً!
و رواه أيضاً الصبّاح بن يحيى المزنيّ عن الحرث كما في كتاب العيّاشيّ، و كتاب فرات. و رواه أيضاً حصين عن أسماء٢.
و روى بسنده المتّصل عن أنس بن مالك أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: إنَّ أخِي، وَ وَزيِرِي، وَ خَلِيفَتِي في أهْلِي، وَ خَيْرَ مَنْ أتْرُكُ بَعْدِي، يَقْضِي دَيْنِي، وَ يُنْجِزُ مَوعُودِي عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ.۱
و روى ابن المغازليّ بسنده المتّصل عن عِكْرَمَة، عن ابن عبّاس قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بيدي و أخذ بيد عليّ، فصلّى أربع ركعات، و رفع يده إلى السماء، فقال: اللَهُمَّ سَألَكَ موسى بْنُ عِمْرانَ وَ إنَّ مُحَمَّدَاً سَألَكَ أنْ تَشْرَحَ لي صَدْرِي وَ تُيَسِّرَ لي أمْرِي وَ تُحَلِّلَ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اجْعَلْ لي وَزِيرَاً مِنْ أهْلِي عَلِيَّاً اشْدُدْ بِهِ أزْرِي وَ أشْرِكْهُ في أمْرِي!
قال ابن عبّاس: سمعت منادياً ينادي: يا أحمد! قد اوتيت ما سألتَ٢!
فقال النبيّ: يا أبا الحسن! ارفع يدك إلى السماء و ادع ربّك و سله، يعطيك!
فرفع عليّ يده إلى السماء و هو يقول: اللَهُمَّ اجْعَلْ لي عِنْدَكَ عَهْداً وَ اجْعَلْ لي عِنْدَك وُدَّاً.
فأنزل الله على نبيّه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ
لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا۱.
فتلاها النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم على أصحابه فعجبوا من ذلك عجباً شديداً، فقال النبيّ صلّى الله عليه و آله: مِمَّ تعجبون؟! إنّ القرآن أربعة أرباع: فربع فينا أهل البيت خاصّة [و ربع في أعدائنا]، و ربع حلال و حرام، و ربع فضائل و أحكام وَ اللهُ أنْزَلَ في عَلِيّ كَرَائِمَ القُرْآنِ٢.
أشعار الشعراء في فضل وزارة أمير المؤمنين عليه السلام
و قال ديك الجنّ في «الكاملة»:
إن النَّبِيّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ | *** | وَ الخَيْرُ مَا فَاهَ بِهِ الرَّسُولُ |
إنَّكَ مِنَّي يَا أخِي وَ يَا عَلى | *** | بِحَيْثُ مِنْ موسى وَ هَارُونَ النَّبِيّ |
لَكِنَّهُ لَيْسَ نَبِيّ بَعْدِي | *** | فَأنْتَ خَيْرُ العَالَمِينَ عِنْدِي٣ |
و قال ابن مكّيّ:
أ لَمْ تَعْلَمُوا أنَّ النَّبِيّ مُحَمَّداً | *** | بِحَيْدَرَةٍ أوْصَى وَ لَمْ يَسْكُنِ الرَّمْسا |
وَ قَالَ لَهُمْ وَ القَوْمُ في خُمِّ حُصَّرَاً | *** | وَ يَتْلُوا الذي فِيهِ وَ قَدْ هَمَسُوا هَمْسا |
عَلِيّ كَزِرِّي مِنْ قَمِيصِي وَ إنَّهُ | *** | نَصِيرِي وَ مَنِّي مِثْلُ هَارُونَ مِن مُوسَى۱ |
و قال العونيّ:
هَذَا أخِي مَوْلاكُمُ وَ إمَامُكُمْ | *** | وَ هُوَ الخَليفَةُ إنْ لَقيْتُ حِمَامَا |
مِنِّي كَمَا هَارُونَ مِنْ موسى | *** | فَلَا تَألُوا لِحَقِّ إمَامِكُمْ إعْظَامَا |
إنْ كَانَ هَارُونُ النَّبِيّ لِقَوْمِهِ | *** | مَا غَابَ موسى سَيِّداً وَ إمَامَا |
فَهُوَ الخَليفَةُ وَ الإمَامُ وَ خَيْرُ مَنْ | *** | أمْضَى القَضَاءَ وَ خَفَّفَ الأقَلَامَا٢ |
و قال العونيّ أيضاً:
أ مَا رُوِيتَ يَا بَعيدَ الذِّهْنِ | *** | مَا قَالَهُ أحْمَدُ كَالمُهَنِّى |
أنْتَ كَهَارُونَ لِمُوسَى مِنِّي | *** | إذْ قَالَ موسى لأخِيهِ اخْلُفْنِي |
فَاسْألْهُم لِمْ خَالَفُوا الوَصِيَّا٣
و قال ابن الأطْيَس:
مَنْ قَالَ فِيهِ المُصْطَفَى مُعْلِنَا | *** | أنْتَ لَهُ الحَوْضُ لَدَى الحَشْرِ |
أنْتَ أخِي أنْتَ وَصِيِّي كَمَا | *** | هَارُونَ مِنْ موسى في الأمْرِ۱ |
و قال منصور النمريّ:
رَضِيتُ حُكْمَكَ لَا أبْغِي بِهِ بَدَلًا | *** | لأنَّ حُكْمَكَ بِالتَّوْفِيقِ مَقْرُونُ |
آلُ الرَّسُولِ خِيَارُ النَّاسِ كُلِّهِم | *** | وَ خَيْرُ آلِ رَسُولِ اللهِ هَارُونُ٢ |
و قال أبان اللاحقيّ:
أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا | *** | الخَالِقُ الرَّازِقُ الكَبِيرُ |
مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَ رَسُولُ | *** | جَاءَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ نُورُ |
وَ إنَّ هَارُونَ مُرْتَضَانَا | *** | في العِلْمِ مَا إنَّ لَهُ نَظِيرُ۱ |
و قال الصاحب بن عبَّاد:
وَ صَيَّرَهُ هَارُونَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ | *** | كَهَارُونَ موسى فَابْحَثُوا وَ تَتَدَلُّوا٢ |
و قال الصاحب أيضاً:
حَالُهُ حَالُ هَارُونَ | *** | لِمُوسَى فَافْهَمَاها٣ |
و قال زيد بن عليّ بن الحسين عليه السلام:
وَ مِنْ شَرَفِ الأقْوَامِ يَوْماً تُرَابُهُ | *** | فَإنَّ عَلِيَّاً شَرَّفَتْهُ المَنَاقِبُ |
وَ قَولُ رَسُولِ اللهِ وَ الحَقُّ قَوْلُهُ | *** | وَ إنْ رَغَمَتْ مِنْهُ انُوفٌ كَوَاذِبُ |
بأنَّكَ مِنِّي يَا عَلِيّ! مُعَالِناً | *** | كَهَارُونَ مِنْ موسى أخٌ لي وَ صَاحِبُ٤ |
و قال الصنوبريّ:
أ لَيْسَ مَنْ حَلَّ مِنْهُ في اخُوَّتِهِ | *** | مَحَلَّ هَارُونَ مِنْ موسى بْنِ عِمْرَانِ٥ |
و قال ابن شهرآشوب أيضاً: أورد أبو بكر الشيرازيّ في كتابه المسمّى «فيما نَزَلَ مِنَ القُرآنِ في أمير المؤمنين» عن مقاتل، عن عطاء في تفسير الآية: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، قال:
كَانَ في التَّورَاةِ: يَا موسى إنِّي اخْتَرْتُكَ، وَ وَزِيرَاً هُوَ أخُوكَ يَعْنِي هَارُونَ لأبِيكَ وَ امِّكَ! كَمَا اخْتَرْتُ لِمُحَمَّدٍ إلْيَا هُوَ أخُوهُ وَ وَزِيرُهُ وَ وَصِيُّهُ و الخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِهِ. طُوبَى لَكُمَا مِنْ أخَوَيْنِ! وَ طُوبَى لَهُمَا مِنْ أخَوَيْنِ؛ إلْيَا أبُو السِّبْطَينِ الحَسَنِ وَ الحُسَيْنِ وَ مُحْسِنٍ الثَّالِثِ مِنْ وُلْدِهِ كَمَا جَعَلْتُ لأخِيكَ هَارُونَ شُبَّراً وَ شُبَّيْراً وَ مُشَبِّراً۱.
و ورد في تفسير القطّان، و وكيع بن الجَرّاح، و عطاء الخراسانيّ، و أحمد في «الفضائل» أنّ ابن عبّاس قال: سمعت أسماء بنت عُمَيْس تقول: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول:
اللَهُمَّ إنِّي أقُولُ كَمَا قَالَ موسى بْنُ عِمْرَانَ: اللَهُمَّ اجْعَلْ لي وَزيِراً مِنْ أهْلِي يَكُونُ لي صِهْرَاً وَ خَتَنَاً.
و روى السَّمعَانيّ في «فضائل الصحابة» بإسناده عن مَطَر، عن أنَس أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: إنَّ خَلِيلِي وَ وَزِيرِي وَ خَليفَتِي في أهْلِي وَ خَيْرَ مَنْ أتْرُكَ بَعْدِي، مَنْ يُنْجِزُ مَوْعِدِي، وَ يَقْضِي دَيْنِي عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ٢.
و في أمالى أبي الصَّلْت الأهوازيّ بإسناده عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: إنَّ أخِي، وَ وَزِيرِي، وَ وَصِيِّي، وَ خَلِيفَتِي
في أهْلِي عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ. و في خبرٍ: أنْتَ الإمَامُ بَعْدِي، وَ الأمِيرُ، وَ أنْتَ الصَّاحِبُ بَعْدِي، وَ الوَزِيرُ، وَ مَا لَكَ في امَّتِي مِنْ نَظِيرٍ۱.
وَ الوَزِيرُ مِنَ الوَزَرِ، وَ هُوَ المَلْجَا، وَ بِهِ سُمِّيَ الجَبَلُ العَظِيمُ. وَ مِنَ الأوْزَارِ، وَ هِيَ الأمْتِعَةُ وَ الأسْلِحَةُ، لأنَّهُ مُقَلِّدُ خَزَائِنِ المَلِكِ. وَ مِنَ الوِزْرِ الذي هُوَ الذَّنْبُ، لأنَّهُ يَتَحَمَّلُ أثْقَالَ المَلِكِ. وَ مِنَ الأزْرِ، وَ هُوَ الظَّهْرُ مَعْنَاهُ اشْدُدْ بِه ِ ظَهْرِي٢.
و قال ابن الحجّاج:
أنَا مَوْلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلِيّ | *** | و الإمَامَيْنِ شُبَّرٍ و شُبَيْرِ |
أنَا مَوْلَى وَزِيرَ أحْمَدَ يَا مَنْ | *** | قَدْ حَبَا مُلْكَهُ بِخَيْرِ وَزِيرِ٣ |
و قال الحميريّ:
وَ كَانَ لَهُ أخاً وَ أمِينَ غَيْبٍ | *** | عَلَى الوَحْيِ المُنزَّل حِينَ يُوحَى |
وَ كَانَ لأحْمَدَ الهَادِي وَزِيرَاً | *** | كَمَا هَارُونَ كَانَ وَزِيرَ مُوسَي٤ |
و قال الاستاذ أبو العبّاس الضَّبِّيّ:
لِعَلِيّ الطُّهْرِ الشَّهِيرِ مَجْدٌ أنَافَ عَلَى ثَبير | *** | صِنْوُ النَّبِيّ مُحَمَّدٍ وَ وَصِيُّهُ يَوْمَ الغَدِيرِ٥ |
و قال شاعر آخر:
مَنْ كَانَ صَاهَرَهُ وَ كَانَ وَزِيرَهُ | *** | وَ أبَا بَنِيهِ مُحَمَّدَاً مُخْتَارا٦ |
معنى الوزير مستفاد من حديث المنزلة
و قال علاء الدين أبو المكارم السِّمنانيّ البياضيّ المكّيّ المتوفّى في
سنة ۷٣٦ ه في كتاب «العروة الوثقي»: و قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السلام و سلام الملائكة الكرام: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن موسى إلَّا أنّه لَا نَبِيّ بَعْدِي. و قال في غدير خمّ بعد حجّة الوداع على ملأ من المهاجرين و الأنصار آخذاً بكتفه: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. اللَهُمَ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ. و هذا حديث متّفق على صحّته.
و على هذا صار سيّد الأولياء، و كان قلبه على قلب محمّد عليه التحيّة و السلام.
و إلى هذا المعنى أشار ... أبو بكر صاحب غار النبيّ صلّى الله عليه و آله حين بعث أبا عبيدة بن الجرّاح إلى عليّ لاستحضاره للبيعة بقوله: يَا أبَا عُبَيْدَةَ! أنْتَ أمِينُ هَذِهِ الامَّةِ أبْعَثُكَ إلى مَنْ هُوَ في مَرْتَبَةِ مَنْ فَقَدْنَاهُ بِالأمْسِ، يَنْبَغِي أنْ تَتَكَلَّمَ عِنْدَهُ بِحُسْنِ الأدَبِ۱.
و قال أبو مشكور محمّد بن عبد السعيد بن محمّد الكشيّ السالميّ الحنفي في «التَّمهيد في بَيان التَّوحيدِ»: قالت الروافض: الإمامة منصوصة من قبل النبيّ لعليّ بن أبي طالب بدليل أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم جعله وصيّاً لنفسه، و جعله خليفة من بعده حيث قال: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!
ثمّ هارون عليه السلام كان خليفة موسى عليه السلام، فكذلك عليّ خليفة رسول الله.
هذا من جهة، و من جهة اخرى، إنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله جعله وليّاً للناس لمّا رجع من مكّة و نزل في غدير خمّ؛ فأمر النبيّ أن يجمع رحال الإبل، فجعلها كالمنبر و صعد عليها فقال: أ لَسْتُ أوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ
أنْفُسِهِمْ؟! فَقَالُوا: نَعَمْ! فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيّ مَوْلَاهُ! اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ! وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ. و الله جلّ جلاله يقول:
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ. و هذه الآية نزلت في شأن عليّ، و هي تدلّ على أنّه كان أولى الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
و قال في الجواب عمّا ذكر بعد بيان أدلّة الشيعة: و أمّا قول الشيعة إنّ النبيّ جعله وليّاً، قلنا: أراد به في وقته، يعني بعد عثمان، و في زمن معاوية، و نحن كذا نقول. و كذا الجواب عن قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا - الآية.
فنقول: إنّ عليّاً رضيّ الله عنه كان وليّاً و أميراً بهذا الدليل في أيّامه و وقته، و هو بعد عثمان. و أمّا قبل ذلك، فلا۱. تلاحظون أنّ هذا الرجل لم يستطع أن يشكّك في صحّة سند هذه الأدلّة أو في دلالتها على ولاية الإمام و إمامته قطّ، فحملها على معنى لو قيل للناشئين، لعرفوا بطلانه بوضوح.
بيان بعض أعلام العامّة في حديث المنزلة
و روى الشيخ سليمان القُنْدُوزيّ الحنفي عن كتاب «مودّة القربي»، عن أنس بن مالك مرفوعاً أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: إنَّ اللهَ اصْطَفَانِي عَلَى الأنْبِيَاءِ فاخْتَارَنِي وَ اخْتَارَ لي وَصِيّاً، وَ اخْتَرْتُ ابْنَ عَمِّي وَصِيِّي، يُشَدُّ عَضُدِي كَمَا يُشَدُّ موسى بِأخِيهِ هَارُونَ، وَ هُوَ خَلِيفَتِي وَ وَزِيرِي، وَ لَو كَانَ بَعْدِي نَبِيّ لَكَانَ عَلِيّ نَبِيَّاً، وَ لَكِنْ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي٢.
و كذلك نقل مير سيّد عليّ الهمدانيّ في كتاب «مَودّة القُرْبى» عن أبي موسى الحميديّ أنّه قال:
كنت مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و أبو بكر، [و عمر]، و عثمان، و عليّ. فالتفت (رسول الله) إلى أبي بكر، فقال: يا أبا بكر! (إنّ) هذا الذي تراه وزيري في السماء؛ و وزيري في الأرض؛ يعني: عليّ بن أبي طالب. (يا أبا بكر)، إن أحببتَ أن تلقى الله و هو عنك راضٍ، فأرضِ عليّاً! فإنّ رضاه رضا الله و غضبه غضب الله۱.
و في المودّة السابعة عن الإمام الصادق، عن آبائه عليهم السلام: لَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لِعَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ في عَشَرَةِ مَوَاضِعَ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَي٢.
و كذا في «ينابيع المودّة» عن أحمد بن حَنْبَل في مسنده، بسنده عن عَطِيَّة العَوْفيّ، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لعليّ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي٣.
و أخرج أحمد بن حَنْبل أيضاً عن سعد بن أبي وقّاص، و عن أسماء بنت عُمَيْس، و عن سعيد بن زيد الترمذيّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لعليّ عليه السلام: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى. و قال أحمد بن حنبل: هذا
حديث صحيح۱.
و أخرج عن موفّق بن أحمد الخوارزميّ بسنده، عن مخدوج بن زيد الهاني، و بسند آخر عن يحيى، و مجاهد أنّهما رويا عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال: هَذَا عَلِيّ لَحْمُهُ لَحْمِي وَ دَمُهُ دَمِي وَ هُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي٢.
و روي عن أحمد بن حَنْبَل، و موفّق بن أحمد بسنديهما عن زيد بن أبي أوفى أنّه قال: دخلتُ على رسول الله صلّى الله عليه و آله في مسجده، و قد آخى بين أصحابه. فقال عليّ عليه السلام: يا رسول الله! فعلتَ بأصحابك! و ما فعلتَ بي! فقال [رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم]: وَ الذي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيَّاً أخَّرْتُكَ لِنَفْسِي فإنَّكَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! فَأنْتَ أخِي وَ وَارِثِي! وَ أنْتَ مَعِي في قَصْرِي في الجَنَّةِ مَعَ ابْنَتِي فَاطِمَةَ وَ أنْتَ رَفِيقِي! ثُمَّ قَرَأ: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ المُتَحَابُّونَ في اللهِ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ٣.
و أخرجها ابن المغازليّ و الحمّوئيّ عن زيد بن أرقم٤.
و روى أبو المؤيّد موفّق بن أحمد الخوارزميّ المكّيّ بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: يَا عَلِيّ!
إنَّهُ يَحِلُّ لَكَ في المَسْجِدِ مَا يَحِلُّ لي وَ إنَّكَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! وَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّكَ تَذُودُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ القِيَامَةِ رِجَالًا، كَمَا يُذادُ البَعِيرُ الأجْرَبُ عَنْ الماءِ بِعَصَاً لَكَ مِنْ عَوْسَجٍ۱؛ كَأنِّي أنْظُرُ إلى مَقَامِكَ مِنْ حَوْضِي٢.
و في «زوائد مسند عبد الله بن أحمد بن حَنْبَل» عن يحيى بن عيسى، عن الأعْمَش، عن عباية الأسديّ، عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لُامّ سَلَمَة رضي الله عنها: يَا امَّ سَلَمَة! عَلِيّ مِنِّي وَ أنَا مَنْ عَلِيّ! لَحْمُهُ مَنْ لَحْمِي، وَ دَمُهُ مِنْ دَمِي؛ وَ هُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن موسى! يَا امَّ سَلَمَة! اسْمَعِي وَ اشْهَدِي! هَذَا عَلِيّ سَيِّدُ المُسْلمِينَ٣.
الخصال المجتمعة في أمير المؤمنين عليه السلام
و ذكر في «المناقب» عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول في عليّ خصالًا لو كانت واحدة منها في رجل اكتفى بها فضلًا و شرفاً.
قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ.
و قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: عَلِيّ مِنّي كَهَارُونَ مِنْ موسى.
و قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: عَلِيّ مِنِّي وَ أنَا مِنْهُ.
و قوله: عَلِيّ مِنِّي كَنَفْسِي؛ طَاعَتُهُ طَاعَتِي، وَ مَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَتي.
و قوله: حَرْبُ عَلِيّ حَرْبُ اللهِ، وَ سِلْمُ عَلِيّ سِلْمُ اللهِ.
و قوله: وَليّ عَلِيّ وَليّ اللهِ، وَ عَدُوُّعَلِيّ عَدُوُّ اللهِ.
و قوله: عَلِيّ حُجَّةُ اللهِ على عِبَادِهِ.
و قوله: حُبُّ عَلِيّ إيمَانٌ وَ بُغْضُهُ كُفْرٌ.
و قوله: حِزْبُ عَلِيّ حِزْبُ اللهِ، وَ حِزْبُ أعْدَائِهِ حِزْبُ الشَّيْطانِ.
و قوله: عَلِيّ مَعَ الحَقِّ وَ الحَقُّ مَعَهُ لَا يَفْتَرِقَانِ.
و قوله: عَلِيّ قَسِيمُ الجَنَّةِ وَ النَّارِ.
و قوله: مَنْ فَارِقَ عَلِيَّاً فَقَدْ فَارَقَنِي، وَ مَنْ فَارَقَنِي فَقَدْ فَارَقَ اللهِ.
و قوله: شِيعَةُ عَلِيّ هُمُ الفَائِزُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ۱.
و ها نحن قد نقلنا هذا الحديث المبارك عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، كما نرى من المناسب أن نذكر كلمات نطق بها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مصدّرة بلفظ: عليّ، و رواها السيوطيّ في «الجامع الصغير». فقد أخرج السيوطيّ عن الطبرانيّ، عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
عَلِيّ أخِي في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ.
و عن الطبرانيّ، و ضياء عن عبد الله بن جعفر، عن رسول الله، قال:
عَلِيّ أصْلِي، وَ جَعْفَرٌ فَرْعِي.
و عن الحاكم في «المستدرك»، عن جابر بن عبد الله:
عَلِيّ إمَامُ البَرَرَةِ وَ قَاتِلُ الفَجَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ
خَذَلَهُ.
و عن الدارقُطْنيّ في «الأفراد»، عن عبد الله بن عبّاس، قال: قال رسول الله:
عَلِيّ بَابُ حِطَّةٍ، مَنْ دَخَلَ مِنْهُ كَانَ مُؤْمِنَاً، وَ مَنْ خَرَجَ مِنْهُ كَانَ كَافِراً.
و عن ابن عَديّ في «الكامل»، عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله: عَلِيّ عَيْبَةُ عِلْمِي.
و عن الطبرانيّ في «الأوْسَط»، و عن الحاكم في «المستدرك»، عن أمّ سَلَمَة، قالت: قال رسول الله:
عَلِيّ مَعَ القُرْآنِ و القُرْآنُ مَعَ عَلِيّ، لَنْ يَفْتَرِقَا حتّى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.
و عن مسند أحمد بن حَنْبَل، و الترمذيّ، و النسائيّ، و ابن ماجة، عن حُبشي بن جُنَادة: عَلِيّ مِنِّي وَ أنَا مِنْ عَلِيّ وَ لَا يُؤَدِّي عَنِّي إلَّا أنَا أوْ عَلِيّ.
و عن الخطيب في «تاريخ بغداد»، و عن الديلميّ في «مسند الفردوس» عن ابن عبّاس: عَلِيّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ رأسِي مِنْ بَدَنِي.
و ذكر أبو بكر المطيريّ في جزئه، عن أبي سعيد الخدريّ: عَلِيّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
و نقل عن البيهقيّ في «فضائل الصحابة»، و عن الديلميّ في «مُسنَد الفردوس» عن أنس: عَلِيّ يَزْهَرُ في الجَنَّةِ كَكَوْكَبِ الصُّبْحِ لأهلِ الدُّنْيَا.
و روى عن المحامليّ في أماليه، عن ابن عبّاس: عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ مَوْلَى مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ.
و عن ابن عديّ في «الكامل» عن عليّ بن أبي طالب: عَلِيّ يَعْسُوبُ المُؤْمِنِينَ، وَ المالُ يَعْسُوبُ المُنَافِقِينَ.
و عن البزّاز، عن أنس: عَلِيّ يَقْضِي دَيْنِي۱.
و ذكر الإمام عبد الرءوف المناويّ، عن عبد الرزّاق في «الجامع» أنّ
رسول الله قال: أبْشِرْ يَا عَلِيّ! حَيَاتُكَ وَ مَوْتُكَ مَعِي٢.
قال المجلسيّ: و يؤيّد هذه الأخبار التي جعلته بمنزلة هارون من موسى ما رواه السيّد الرضيّ رضي الله عنه في «نهج البلاغة» في باب اختصاصه بالرسول صلّى الله عليه و آله أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم له: إنَّكَ تَسْمَعُ مَا أسْمَعُ، وَ تَرَى مَا أرَى، إلَّا أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَ لَكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَ إنَّكَ على خَيْرٍ٣.
و قال ابن أبي الحديد في شرحه بعد نقل الأخبار المؤيّدة لذلك: و يدلّ على أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام وزير رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من نصّ الكتاب و السنّة قول الله: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.
و قول رسول الله في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!
ذلك أنّه أثبت لعليّ جميع مراتب هارون و منازله من موسى؛ فإذاً هو
وزير رسول الله، و شادّ أزره. و لو لا أنّه خاتم النبيّين، لكان شريكاً في أمره۱. و قال ابن أبي الحديد في موضع آخر أيضاً: قال عليّ يوم الشورى:
أ فِيكُمْ أحَدٌ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلِيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي غَيْرِي؟! قَالُوا: لَا٢!
حديث المنزلة و مناقب عليّ على لسان رسول الله في فتح خيبر
و روى الكَراجكيّ في «كنز الفوائد» بسنده المتّصل عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال: لمّا فتح عليّ عليه السلام خيبراً، و قدم عند رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال له النبيّ:
لَوْ لا أنْ تَقُولَ فِيكَ طَائِفَةٌ مِنْ امَّتِي مَا قَالَتِ النَّصَارَى في المَسِيح ابْنِ مَرْيَمَ، لَقُلْتُ فِيكَ اليَوْمَ مَقَالًا لَا تَمُرُّ بِمَلأٍ إلَّا أخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ وَ مِنْ فَضْلِ طَهُورِكَ فَاسْتَشْفَوا بِهِ؛ وَ لَكِنْ حَسْبُكَ أنْ تَكُونَ مِنِّي وَ أنَا مِنْكَ! تَرِثُنِي وَ أرِثُكَ!
وَ أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! وَ إنَّكَ تُبْرِيءُ ذِمَّتِي، وَ تُقَاتِلُ على سُنَّتِي! وَ إنَّكَ غَدَاً في الآخِرَةِ أقْرَبُ النَّاسِ مِنِّي! وَ إنَّكَ أوَّلُ مَنْ يَرِدُ عَلَيّ الحَوْضَ وَ إنَّكَ على الحَوْضِ خَليفَتِي! وَ إنَّكَ أوَّلُ مَنْ يُكْسَى مَعِي! وَ إنَّكَ أوَّلُ دَاخِلِ الجَنَّةِ مِنْ امَّتِي! وَ إنَّ شِيعَتَكَ على مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ مُبْيَضَّةً وُجُوهُهُمْ حَوْلي؛ أشْفَعُ لَهُمْ وَ يَكُونُونَ غَدَاً في الجَنَّةِ جِيِرَانِي! وَ إنَّ حَرْبَكَ حَرْبِي! وَ إنَّ سِلْمَكَ سِلْمِي! وَ إنَّ سَرِيرَتَكَ سَرِيرَتِي! وَ عَلَانِيَتَكَ عَلَانِيَتِي! وَ إنَّ وُلْدَكَ وُلْدِي!
وَ إنَّكَ مُنْجِزٌ عِدَاتِي! وَ إنَّكَ عَلِيّ! وَ لَيسَ أحَدٌ مِنَ الامَّةِ يَعْدِلُكَ
عِنْدِي!
وَ إنَّ الحَقَّ على لِسَانِكَ، وَ في قَلْبِكَ، وَ بَيْنَ عَيْنَيْكَ! وَ إنَّ الإيمَانَ خَالَطَ لَحْمَكَ وَ دَمَكَ، كَمَا خَالَطَ لَحْمِي وَ دَمِي! وَ إنَّهُ لَا يَرِدُ الحَوْضَ مُبْغِضٌ لَكَ! وَ لَا يَغِيبُ مُحِبٌّ لَكَ غَدَاً عَنِّي حتّى يَرِدَ عَلَيّ الحَوْضَ مَعَكَ يَا عَلِيّ!
فَخَرَّ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ سَاجِدَاً؛ ثُمَّ قَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي مَنَّ عَلَيّ بِالإسْلَام؛ وَ عَلَّمَنِي القُرْآنَ؛ وَ حَبَّبَنِي إلى خَيْرِ البَرِيَّة: خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، إحْسَانَاً مِنْهُ إلَيّ وَ فَضْلًا مِنْهُ عَلَيّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلِيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: يَا عَلِيّ! لَوْ لا أنْتَ لَمْ يُعْرَفِ المُؤْمِنُونَ بَعْدِي۱.
إنّ الحديث النبويّ الشريف: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُون مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي المشهور بين علماء الشيعة و العامّة بحديث المنزلة هو من الأحاديث المسلّم صدورها عن رسول الله، و ذهب الفريقان إلى تواتره. و يمكن أن نعتبره في مصافّ عدّة معدودة من الأحاديث المتواترة اللفظيّة لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و لا يلاحظ كتاب من الكتب، سواء في حقل التفسير، أو الحديث، أو التأريخ، أو السيرة، أو السنن، إلّا و قد روى صاحبه هذا الحديث عن رسول الله في مواطن عديدة من كتابه.
و نقل السيّد هاشم البَحْرانيّ في الباب الثالث و الثمانين من كتاب «غاية المرام» أحد عشر حديثاً من طريق العامّة، و في الباب الرابع و الثمانين واحداً و عشرين حديثاً من طريق الخاصّة إنَّ عَلِيَّاً عَلَيهِ السَّلَامُ وَزِيرُ رَسُولِ اللهِ وَ وَارِثُهُ. كما نقل في الباب العشرين مائة حديث من العامّة، و في الباب الحادي و العشرين سبعين حديثاً مع ذكر السند و المصدر و اتّصال الرواة على أنّ رسول الله قال لعليّ: أنْتَ منِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!
أعيان العامّة يروون حديث المنزلة
و نكتفي فيما يأتي بذكر عدد من الأحاديث التي رواها العامّة، و عدداً من الأحاديث التي نقلها الخاصّة.
روى عبد الله بن أحمد بن حنبل بسنده المتّصل عن موسى الجُهَنيّ قال: دخلت على فاطمة عليها السلام (بنت أمير المؤمنين عليه السلام)، فقال رفيقي أبو مهدي: كم لك؟! فقلت: ستّ و ثمانون سنة! قال موسى الجهنيّ: قال رفيقي: سمعتَ من أبيك شيئاً؟! قلت: قال أبي: حدّثتني فاطمة أنّ أسماء بنت عُمَيْس حدّثتها أنّ رسول الله قال لعليّ: أنْتَ مِنِّي
بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدي۱.
و روى عبد الله بن أحمد بن حنبل بسنده المتّصل عن سعيد بن المُسيِّب، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وَقّاص قال إنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لعليّ: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!؟
قال سَعيد بن المُسَيِّب: لمّا سمعت هذا الحديث من ابن سَعْد، أحببتُ أن اشافه بذلك سعداً فلقيته، فذكرت له ما ذكره لي عامر. قلت: هل أنت سمعت من رسول الله؟! فوضع سعد إصبعيه في اذنيه و قال: استكّتا إن لم أكن سمعته من النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم٢.
و روى البُخاريّ مضمون هذا الحديث في الربع الأخير من صحيحه، بسنده المتّصل عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقّاص۱.
و روى البخاريّ في صحيحه أيضاً، في الكرّاس السادس منه، و هو نصف الجزء، في الخبر الخامس، بسنده المتّصل عن مَصْعَب بن سَعْد، عن أبيه سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم خرج إلى تبوك، و استخلف عليّاً على المدينة. فقال عليّ: أ تخلفني في الصبيان و النساء؟!
فقال النبيّ: ألَا تَرضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَيْسَ نَبِيّ بَعْدِي٢!
و في «الجمع بين الصحاح الستّة» لمؤلّفه رزين، في الجزء الثالث من الثلث الأخير منه، في باب مناقب أمير المؤمنين عليه السلام، من «صحيح أبي داود» و هو كتاب «السُّنَن»؛ و «صحيح الترمذيّ» عن أبي سريحة، و زيد بن أرقم أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. و عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لعليّ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! قال ابن المسيِّب: أخبرني بهذا الحديث عامر بن سعد عن أبيه، فأحببتُ أن اشافه به سعداً فلقيته، فقلتُ: أنت سمعتَ هذا من رسول الله؟!
فَوَضَعَ إصْبَعَهُ في اذُنَيْهِ فَقَالَ: نَعَمْ! وَ إلَّا فَاسْتَكَّتَا۱.
و نقل عن ابن المغازليّ الشافعيّ بسنده المتّصل عن جابر بن عبد الله أنّ رسول الله غزا غزاة و قال لعليّ: اخْلُفْنِي في أهْلِي! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! يَقُولُ النَّاسُ: خَذَلَ ابْنَ عَمِّهِ. فَرَدَّدَهَا عَلَيهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي٢.
و روى عن ابن المغازليّ أيضاً بسنده المتّصل، عن مصعب بن سعد،
عن أبيه، قال: قال لي معاوية: أ تحبُّ عليّاً؟!
قَالَ سَعْدٌ: قُلْتُ: وَ كَيْفَ لَا احِبُّهُ وَ قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلِّمَ يَقُولُ لَهُ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدي؛ وَ لَقَدْ رأيْتُهُ بَارِزَاً يَوْمَ بَدْرٍ وَ جَعَلَ يُحَمْحِمُ الفَرَسُ وَ يَقُولُ:
بَازِلُ عَامَيْنِ حَديثُ سِنِّي | *** | سَنَحْنَحُ اللَّيْلِ كَأنَّي جِنِّي |
لِمِثْلِ هَذا وَلَدَتْني امِّي
قَالَ: وَ مَا رَجَعَ حتّى خُضِبَ دَماً۱.
و روى عليّ بن أحمد المالكيّ و هو من أعيان علماء العامّة في «الفصول المهمّة» عن كتاب «الخصائص»، عن العبّاس بن عبد المطّلب أنّه قال: سمعت عمر بن الخطّاب يقول: كفّوا عن عليّ بن أبي طالب إلّا بخير! فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول: في عليّ ثلاث خصال؛ وددتُ أنّ لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس؛ و ذاك أنّي كنت أنا و أبو بكر و أبو عبيدة بن الجرّاح و نفر من أصحاب رسول الله، إذ ضرب النبيّ على كتف عليّ و قال:
يَا عَلِيّ! أنْتَ أوَّلُ المُسْلِمينَ إسْلَامَاً وَ أنْتَ أوَّلُ المُؤْمِنِينَ إيمَانَاً وَ أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى! كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أنَّهُ يُحِبُّنِي وَ هُوَ مُبْغِضُكَ!
يَا عَلِيّ! مَنْ أحَبَّكَ فَقَدْ أحَبَّنِي! وَ مَنْ أحَبَّنِي أحَبَّهُ اللهُ تعالى؛ وَ مَنْ
أحَبَّهُ اللهُ أدْخَلَهُ الجَنَّةَ! وَ مَنْ أبْغَضَكَ فَقَدْ أبْغَضَنِي! وَ مَنْ أبْغَضَنِي أبْغَضَهُ اللهُ تعالى، وَ أدخَلَهُ النَّارَ۱.
و روى ابن المغازليّ الشافعيّ بسنده عن خالد بن قيس قال: سأل رجل معاوية عن مسألة، فقال معاوية: سل عنها عليّ بن أبي طالب، فإنّه أعلم!
قال ذلك الرجل: يا أمير المؤمنين قولك فيها أحبّ إليّ من قول عليّ!
فقال معاوية: بئس ما قلت؛ و لؤم ما جئت به! لَقَدْ كَرِهْتَ رَجُلًا كَانَ رَسُولُ اللهُ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَغُرُّهُ العِلْمَ غَرّاً! وَ لَقَدْ قَالَ لَهُ رسُولُ اللهِ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! و لَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ يَسْألُهُ فَيَأخُذُ عَنْهُ؛ وَ لَقَدْ شَهِدْتُ عُمَرَ إذَا أشْكَلَ عَلَيْهِ شَيءٌ قَالَ: هَا هُنَا عَلِيّ.
قُمْ! لَا أقَامَ اللهُ رِجْلَيْكَ! وَ مَحَى اسْمَهُ مِنَ الدِّيوانِ.
وَ مَنَاقِبٌ شَهِدَ العَدُوُّ بِفَضْلِهَا | *** | وَ الفَضْلُ ما شَهِدَتْ بِهِ الأعْدَاءُ۱ |
علماء الشيعة يروون حديث المنزلة عن لسان رسول الله صلى الله على و آله و سلم
و رواه الشيخ الطوسيّ في أماليه بسنده المتّصل عن محمّد بن عمّار بن ياسر، عن أبي ذرّ الغفاريّ جُنْدب بن جُنَادة، قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قد أخذ بيد عليّ و قال:
يَا عَلِيّ! أنْتَ أخِي، وَ صَفِيِّي، وَ وَصِيِّي، وَ وَزِيرِي، وَ أمِينِي! مَكَانُكَ في حَيَاتِي وَ بَعْدَ مَوْتِي كَمَكَانِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ مَعِي! مَنْ مَاتَ وَ هُوَ يُحِبُّكَ خَتَمَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِالأمْنِ وَ الإيمَانِ! وَ مَنْ مَاتَ وَ هُوَ يُبْغِضُكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ في الإسْلَام نَصِيبٌ٢
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام بعد معركة الجمل
و ذكر الشيخ الطبرسيّ في «الاحتجاج» أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا دخل البصرة، و فرغ من معركة الجمل، قال بعض أصحابه: إنّ عليّاً لا يقسّم الفيء فينا بالسويّة، و لا يعدل في الرعيّة، و غير ذلك من المسائل التي أجاب عنها أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة خطبها؛ و هذه الخطبة مرويّة عن يَحْيى بن عبد الله بن الحسن، عن أبيه: عبد الله بن الحسن قال: لمّا دخل أمير المؤمنين عليه السلام البصرة، خطب هذه الخطبة بعد دخوله بأيّام. فقام إليه رجل و قال: يا أمير المؤمنين! أخبرني مَنْ أهل الجماعة؟! و مَنْ أهل الفرقة؟ و مَنْ أهل البدعة؟ و مَنْ أهل السُّنّة؟
قال أمير المؤمنين عليه السلام في جوابه: ويْحَكَ! أما إذا سألتني، فافهم عنّي؛ و لا عليك أن تسال عنها أحداً بعدي!
أمّا أهل الجماعة، فأنا و من اتّبعني، و إن قلّوا. و ذلك الحقّ عن أمر الله تعالى، و عن أمر رسوله! و أمّا أهل الفرقة، فهم المخالفون لي و لمن اتّبعني، و إن كثروا. أمّا أهل السنّة، فهم المتمسّكون بما سنّه الله لهم و رسوله، و إن قلّوا. و أمّا أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله و لكتابه و لرسوله، العاملون برأيهم و أهوائهم، و إن كثروا. و قد مضى منهم الفوج الأوّل و بقيت أفواج؛ و على الله قبضها، و استئصالها عن جُدَدِ الأرض.
فقام إليه عمّار بن ياسر، فقال: يا أمير المؤمنين! إنّ الناس يذكرون الفيء، و يزعمون أنّ من قاتلنا (أصحاب الجمل) فهو و ماله و ولده فيء لنا.
فقام إليه رجل من بكر بن وائل، و يدعى عبَّاد بن قيس، و كان ذا عارضة و لسان شديد، فقال: يا أمير المؤمنين! و الله ما قسمتَ بالسويّة! و لا عدلتَ في الرعيّة!
قال أمير المؤمنين: لِمَ؛ ويحك؟!
قال الرجل: لأنّك قسمتَ ما في العسكر! و تركت الأموال و النساء و الذرّيّة!
قال أمير المؤمنين عليه السلام: أيُّها الناس! من كانت به جراحة فليداوها بالسمن!
فقال عبّاد بن قَيْس: جئنا نطلب غنائمنا، فجاءنا بالتُّرَّهَات۱ (الهراء الذي ليس له معنى).
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إن كنت كاذباً فلا أماتك الله حتّى يدركك غلام ثقيف!٢ قيل: و من غلام ثقيف؟! قال: رجل لا يدع للّه
حرمة إلّا انتهكها.
فقيل له: أ فيموت أو يقتل؟
فقال الإمام: يقصمه قَاصِمُ الجَبَّارِينَ بموت فاحش يحترق منه دبره لكثرة ما يجري من بطنه.
ثمّ قال عليه السلام: يا أخا بكر! أنت امرؤ ضعيف الرأي! أ وَ ما علمتَ أنّا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير؟! و أنّ الأموال كانت لهم قبل الفرقة؛ و تزوّجوا على رشدة، و ولدوا على فطرة! و إنّما لكم ما حوى عسكركم، و ما كان في دورهم فهو ميراث. فإن عدا أحد منهم أخذناه بذنبه؛ و إن كفّ عنّا لم نحمل عليه ذنب غيره.
يا أخا بكر! لقد حكمت فيهم بحكم رسول الله صلّى الله عليه و آله في أهل مكّة، فقسّم ما حوى العسكر، و لم يتعرّض لما سوى ذلك. و إنّما اتّبعت أثره حَذْو النَّعْلِ بِالنَّعْلِ۱.
يا أخا بكر! أ ما علمت أنّ دارَ الحَرْبِ يحلّ ما فيها؟! و أنّ دَارَ الهِجْرةِ يحرّم ما فيها إلّا بالحقّ!
فَمَهْلًا مَهْلًا رَحِمَكُم اللهُ! فإن لم تصدّقوني، و أكثرتم عَلَيّ -و ذلك أنّه تكلمّ في هذا غير واحد- فأيّكم يأخذ عائشة بسهمه؟!
و لمّا بلغ كلامه هذه النقطة، قالوا أجمعهم: يا أمير المؤمنين! أصبتَ و أخطأنا! و علمتَ و جهلنا! فنحن نستغفر الله تعالى! و نادى الناس من كلّ جانب: أصبتَ يا أمير المؤمنين! أصاب الله بك الرشاد و السداد!
فقام عبّاد، فقال: أيّها النَّاسُ! إنّكم و الله لو اتّبعتموه و أطعتموه لن يضلّ بكم عن منهل نبيّكم حتّى قيد شعرة! و كيف لا يكون ذلك، و قد استودعه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم علم المَنَايَا وَ القَضَايَا وَ فَصْلَ الخِطَاب على منهاج هارون و قال له: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! فضلًا خصّه الله به، و إكراماً منه لنبيّه حيث أعطاه ما لم يعط أحداً من خلقه.
ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام: انظروا رحمكم الله ما تؤمرون، فامضوا له!
فإنّ العالم أعلم بما يأتي به من الجاهل الخسيس الأخس. فإنّي حاملكم إنّ شاء الله إن أطعتموني على سبيل النجاة، و إن كانت فيه مشقّة شديدة، و مرارة عديدة. و الدنيا حلوة الحلاوة لمن اغترّ بها من الشقاوة و الندامة عمّا قليل.
حقد عائشة على عليّ عليه السلام
ثمّ إنّي أخبركم أنّ جيلًا من بني إسرائيل أمرهم نبيّهم أن لا يشربوا
من النهر، فلجّوا في ترك أمره فشربوا منه إلّا قليل منهم. فكونوا رحمكم الله! من اولئك الذين أطاعوا نبيّهم، و لم يعصوا ربّهم. وَ أمَّا عَائَشَةُ فَأدْرَكَهَا رَأيُ النِّسَاءِ؛ وَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حُرْمَتُهَا الاولَى؛ وَ الحِسَابُ على اللهِ؛ يَعْفُو عَمَّنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ۱.
و نقل الملا عليّ المتّقى هذه الخطبة كلّها في «كنز العمّال»، لكنّه ذكر أنّ ذلك الرجل الذي قام و قال: أيُّهَا النَّاسُ! إنّكم و الله لو اتّبعتموه و أطعتموه، لن يضلّ بكم عن منهل نبيّكم حتّى قيد شعرة! ذلك أنّه اودع علم المَنَايَا وَ القَضَايَا وَ فَصْلَ الخِطَابِ، و أنّ النبيّ قال له: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي هو عمّار بن ياسر.
و قال: فَقَامَ عَمَّارٌ فَقَالَ: أيُّهَا النَّاسُ! و أنا أرى أنّ هذا هو الصحيح لسببين: الأوّل: أنّ تعريف أمير المؤمنين عليه السلام بهذا النحو من قبل عمّار بن ياسر ذي السوابق الحسنة أقرب إلى الصواب من تعريف رجل مجهول من قبيلة بكر اسمه عبّاد، بخاصّة أنّه قام في البداية و اعترض على الإمام بلسان سليط و نبرة حادّة. الثاني: أنّ لفظ عمَّار يشبه لفظ عبَّاد في الكتابة كثيراً، و أغلب الظنّ أنّ الناسخ قرأ (عبّاد) مكان (عمّار) في الكتابة. و كذا كتب في «الاحتجاج»، و «غاية المرام».
و ورد في «كنز العمّال» حول عائشة قوله:
وَ أمَّا عَائِشَةُ فَقَدْ أدْرَكَهَا رَأيُ النِّسَاءِ؛ وَ شَيءٌ كَانَ في نَفْسِهَا عَلَيّ يَغْلِي في جَوْفِهَا كَالمِرْجَلِ؛ وَ لَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أتَتْ بِهِ إلَيّ
لَمْ تَفْعَلْ؛ وَ لَهَا بَعْدَ ذَلكَ حُرْمَتُها الاولَى؛ وَ الحِسَابُ عَلَى اللهِ؛ يَعْفُو عَمَّن يَشَاءُ؛ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ۱.
و ذكر الشريف الرضي رحمة الله عليه هذه الفقرة من الخطبة بالنحو الآتي: وَ أمَّا فُلَانَةُ فَأدْرَكَهَا رأيُ النِّسَاءِ، وَ ضِغْنٌ غَلَا في صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ القَيْنِ؛ وَ لَوْ دُعِيَتْ لِتَنالَ مِنْ غَيْرِي مَا أتَتْ إلَيّ لَمْ تَفْعَلْ؛ وَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حُرْمَتُهَا الاولَى وَ الحِسَابُ على اللهِ تَعَالَي٢.
أي: أنّ الحقد و الشنآن الذي وقر في صدرها عَلَيّ، و كان دائم الغليان كالحديد المنصهر في أتُّون الحِدادة هو الذي دفعها إلى ذلك العمل، إذ ركبت جَمَلها و تحرّكت تلقاء البصرة على رأس جيش قوامه اثنا عشر ألفاً؛ و رفعت لواء المعارضة، و تأمّرت على الجيش. و لو لا ضغنها عَلَيّ خاصّة، لما قامت بهذا العمل مع شخص آخر على وجه البسيطة.
تعليمات أمير المؤمنين حول كيفيّة تقسيم الغنائم في معركة الجمل
و لمّا انتهت معركة الجمل، نادى منادي أمير المؤمنين عليه السلام: أنْ لَا يُجْهَزْ على جَرِيحٍ، وَ لَا يُتْبَعْ مُوَلٍّ؛ وَ لَا يُطْعَنْ في وَجْهِ مُدْبِرٍ؛ وَ مَنْ ألْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ؛ وَ مَنْ أغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ. ثُمَّ آمَنَ الأسْوَدَ وَ الأحْمَرَ٣
و جاء في «كنز العمّال» بعد هذه الفقرات: وَ لَا يُسْتَحَلَّنَّ فَرْجٌ وَ لَا مَالٌ. وَ انْظُرُوا مَا حَضَرَ بِهِ الحَرْبُ مِنْ آنِيَةٍ فَاقْبِضُوهُ! وَ مَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ؛ وَ لَا تَطْلُبُنَّ عَبْدَاً خَارِجَاً مِنَ العَسْكَرِ! وَ مَا كَانَ مِنْ دَابَّةٍ أوْ سِلَاحٍ
فَهُوَ لَكُمْ! وَ لَيْسَ لَكُمْ امُّ وَلَدٍ؛ وَ المَوَاريثُ على فَرِيضَةِ اللهِ؛ وَ أي امْرَأةٍ قُتِلَ زَوْجُهَا فَلْتَعْتَدَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَ عَشْرَاً.
قَالُوا: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! تُحِلَّ لَنَا دِمَاءَهُم؛ وَ لَا تُحِلَّ لَنَا نِسَاءَهُمْ؟!
فَقَالَ: كَذَلِكَ السِّيرَةُ في أهْلِ القِبْلَةِ! فَخَاصَمُوهُ.
قَالَ: فَهَاتُوا سِهَامَكُمْ؛ وَ اقْرَعُوا عَلَى عَائِشَةَ، فَهِيَ رَأسُ الأمْرِ وَ قَائِدُهُمْ! فَعَرَفُوا وَ قَالُوا: نَسْتَغْفِرُ اللهَ؛ فَحَمَهُمْ عَلِيّ.
وَ قَالَ عَلِيّ يَوْمَ الجَمَلِ: نَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ؛ وَ نُوَرِّثُ الأبْنَاءَ مِنَ الآبَاءِ۱.
أجل، إنّ السبب الذي دعا أصحاب الإمام الذين كانوا معه في ساحة القتال إلى المطالبة بأسر نساء أصحاب الجمل جميعهنّ، و أخذ أموالهم كلّها بوصفها غنائم حربيّة و ذلك بعد انتهاء الحرب و إخماد الفتنة، هو ما شاهدوه خطأ من سيرة أبي بكر الذي كان أوّل من جلس مجلس رسول الله كخليفة له. إذ كانت سيرته قتال كلّ من امتنع عن دفع الزكاة من المسلمين، و لم يفرّق بين هؤلاء و بين المرتدّين في شبه الجزيرة العربيّة، و كان يعاملهم و سائر المشركين باسلوب واحد بعد رسول الله.
و أمّا أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّ له مقام النبوّة لو قدّرت نبوّة بعد رسول الله، و قد طبّق حكم رسول الله عملًا بالحكم الإلهيّ و بمقتضى وزارته و ولايته الإلهيّة. أي: أنّه تعامل مع الأشخاص الذين كانوا مسلمين وفقاً لحكم الإسلام، و بوصفهم كانوا من أهل القبلة، و إن بغوا على إمام زمانهم. و حكم في أموالهم و نسائهم و ذراريهم بحكم الإسلام. فلم يأسر نساءهم، و لم ينظر إليهنّ كغنائم، فيقسّمهنّ على المسلمين المقاتلين، بل
كان لسان حاله أن يُنْظَر إليهنّ كمسلمات مات عنهنّ أزواجهنّ، فيلزمن العدّة، ثمّ يتزوّجن؛ و لم يأسر أولادهنّ. و كان العبيد و الإماء و سائر أموال المقتولين لورثتهم. و كانت الأشياء الموجودة في المعركة لا غير من الغنائم.
و أمّا قتال المشركين و المرتدّين، فلمّا كان حكم دار الحرب سارياً عليهم، فإنّ جميع أموالهم و نسائهم و ذراريهم غنائم ينبغي تقسيمها بين المسلمين.
و لمّا كان عمل الإمام عليه السلام جديداً على الجند، و اعتُبِرَ بدعة بسبب سيرة الخليفة الأوّل، لذلك بيّن لهم سلام الله عليه أنّ تلك السيرة كانت خاطئة. و أنّها كانت بدعة في دين الله. و أنّ رسول الله تعامل مع أهل مكّة الذين كانوا من أهل القبلة بمثل هذا التعامل. و هذه هي السنّة؛ و هذا هو الحكم. و أنّ الصغار لا يزرون وزر الكبار، كما لا يمكن تحميلهم ذنب الكبار. و أنّ ما كان في ساحة الحرب من سلاح و ماشية و سائر الأشياء كالآنية ... فإنّها من غنائم الحرب فحسب. و أمّا النساء فإنّهنّ حُرّات. و الأموال مصونة، و الذراري محترمون. و لا يحقّ لأحد التعرّض لهم.
و أنّ اقتراح القرعة باسم عائشة في مقابل لجّهم في مخالفة هذا الحكم أثبت أنّ كلامهم كان خاطئاً، و إلّا كيف يجوز لهم أخذ عائشة إلى بيوتهم بوصفها أسيرة حرب؟ و كيف يجوز لهم مواقعتها؟ و كيف يسوغ لهم عرضها في السوق للبيع؟
من هنا ينبغي أن نعلم أنّ الأمويّين لمّا قتلوا سيّد الشهداء عليه السلام، فإنّهم تعاملوا مع ذويه على أساس تلك السيرة الخاطئة و الأحكام الجائرة الظالمة للخليفة الأوّل أبي بكر، فسلبوا جميع أموالهم بما فيها الأموال التي كانت في الخيام، و أخذوا ذراري أهل البيت و نساءهم بوصفها
غنائم حربيّة، و سبوا زينب، و امّ كلثوم، و سائر المخدّرات الطاهرات، و أنزلوا بذلك البيت الكريم ما لا يخطر في مخيّلة أي شريف.
و من هنا، إعلم أنّه لو قيل: إنّ السهم الذي وقع في نحر عليّ الأصغر يوم عاشوراء قد خرج من سقيفة بني سَاعِدَة، و أصاب نحره، فقد صدق القائلون و أصابوا. و من يرى نفسه خليفة في مقابل أمير المؤمنين و وزارته و ولايته، و يصدر مثل هذه الأحكام الجائرة، فإنّه يحمل وزر جميع الانحرافات و الجنايات الناتجة عن غصبه الخلافة.
خشت أول چون نهد معمار كج | *** | تا ثريّا مىرود ديوار كج۱ |
ألَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى القَوْمِ الظَّالِمِينَ٢، وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ٣.
رسالة الإمام الهاديّ إلى أهل الأهواز و بيان حديث المنزلة
و من المواطن التي استُشهد فيها على حديث المنزلة استشهاد الإمام أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكريّ٤ المشهور بالإمام عليّ النقيّ عليه السلام في كتاب بعثه إلى أهل الأهواز جواباً عن كتاب لهم كانوا قد أرسلوه إلى الإمام، و سألوه فيه عن الجبر و التفويض.
قال الإمام الهاديّ عليه السلام في هذا الكتاب: اجتمعت الامّة قاطبة
لا اختلاف بينهم في ذلك أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع فرقها. فهم في حالة الإجماع عليه مصيبون؛ و على تصديق ما أنزل الله مهتدون.
و لقول النبيّ صلّى الله عليه و آله: لَا تَجْتَمِعُ امَّتي عَلَى ضَلَالَةٍ.
فأخبر أنّ ما اجتمعت عليه الامّة و لم يخالف بعضها بعضاً هو الحقّ (و معلوم أنّ هذا الأمر مرتكز على أصل الاستناد إلى القرآن).
فهذا معنى الحديث؛ لا ما تأوّله الجاهلون؛ و لا ما قاله المعاندون.
و من إبطال حكم الكتاب و اتّباع حكم الأحاديث المزوّرة، و الروايات المزخرفة، اتّباع الأهواء المرويّة المهلكة التي تخالف نصّ الكتاب، و تحقيق الآيات الواضحات النيّرات.
و نحن نسأل الله أن يوفّقنا للصواب، و يهدينا إلى الرشاد.
ثمّ قال عليه السلام: فإذا شهد الكتاب بتصديق خبر و تحقيقه، فأنكرته طائفة من الامّة، و عارضته بحديث من هذه الأحاديث المزوّرة، صارت بإنكارها و دفعها الكتاب كفّاراً ضلّالًا.
و أصحّ خبر ما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حيث قال:
إنِّي مُسْتَخْلِفٌ فِيكُمْ خَلِيفَتَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي! مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي! وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتّى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.
و كذلك قال صلّى الله عليه و آله و سلّم في عبارة اخرى:
إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي؛ وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتّى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ! مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا!
و هذان الحديثان يترجمان لنا معنى واحداً، و يشعران بموضوع واحد.
و لمّا وجدنا شواهد هذا الحديث نصّاً في كتاب الله مثل قوله:
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ۱.
ثمّ اتّفقت روايات العلماء في ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام أنّه تصدّق بخاتمه و هو راكع، فشكر الله ذلك له، و أنزل الآية فيه.
ثمّ وجدنا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قد أبانه من أصحابه
بهذه اللفظة: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ! اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ!
و قوله: عَلِيّ يَقْضِي دَيْنِي وَ يُنْجِزُ مَوْعِدِي وَ هُوَ خَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ بَعْدِي.
و قوله حين استخلفه على المدينة فقال: يَا رَسُولَ اللهِ أ تُخْلِفُنِي على النِّساءِ وَ الصِّبْيَانِ؟
فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم في جوابه:
أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!
فعلمنا أنّ الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار، و تحقيق هذه الشواهد؛ فلزم الامّة الإقرار بها إذا كانت هذه الإخبار وافقت القرآن، و وافق القرآن هذه الأخبار.
فلمّا وجدنا هذه الأخبار موافقة لكتاب الله، و وجدنا كتاب الله لهذه الأخبار موافقاً، و عليها دليلًا، كان الاقتداء بهذه الأخبار فرضاً لا يتعدّاه إلّا أهل العناد و الفساد٢.
ثمّ شرع الإمام عليه السلام في بيان الجبر و التفويض، و قول الحقّ المتمثّل بالأمْرِ بَيْنَ الأمْرَيْنِ.
استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام بحديث المنزلة عند أبي بكر
و من موارد الاستشهاد بحديث المنزلة احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على أبي بكر بعد بيعة الناس إيّاه. و نقل الطبرسيّ هذا الاحتجاج في كتاب «الاحتجاج» عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، عن أبيه، عن جدّه، قال: لمّا كان من أمر أبي بكر و بيعة الناس له، و فعلهم بعليّ، لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط و يرى منه الانقباض. فكبر ذلك على أبي بكر، و أحبّ لقاءه، و استخراج ما عنده، و المعذرة إليه ممّا اجتمع الناس عليه، و تقليدهم إيّاه أمر الامَّةَ، و قلّة رغبته في ذلك، و زهده فيه.
فلهذا أتاه في وقت غفلة، و طلب منه الخلوة، فقال:
يَا أبَا الحَسَنِ! و الله ما كان هذا الأمر عن مواطاة منّي، و لا رغبة فيما وقعت عليه و لا حرص عليه، و لا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الامَّة، و لا قوّة لي بمال؛ و لا كثرة لعشيرة، و لا استيثار به دون غيري، فما لك تضمر عَلَيّ ما لم أستحقّه منك، و تظهر لي الكراهة لما صرت فيه و تنظر إليّ بعين الشنآن؟!
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فما حملك عليه إذ لم ترغب فيه، و لا حرصت عليه، و لا وثقت بنفسك في القيام به؟
قال أبو بكر: حديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنَّ اللهَ لَا يَجْمَعُ امَّتِي على ضَلَالٍ. و لمّا رأيت إجماعهم، اتّبعت حديث النبيّ (و في نسخة: قول النبيّ)، و أحلت أن يكون إجماعهم على خلاف الهدى من ضلال، فأعطيتهم قود الإجابة، و لو علمت أنّ أحداً يتخلّف، لامتنعتُ.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: أما ما ذكرت من قول النبيّ صلّى الله
عليه و آله و سلّم: إنّ الله لا يجمع امّتي على ضلال؛ فكنت من الامّة، أم لم أكن؟!
قال أبو بكر: بلى، أنت من الامّة. و كذلك العصابة الممتنعة معك، من سَلْمان، و عَمّار، و المقداد، و أبي ذرّ، و ابن عُبَادَة، و مَن معه من الأنصار، كلّ من امّة رسول الله.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فكيف تحتجّ بحديث النبيّ: إنّ الله لا يجمع امّتي على ضلال، و أمثال هؤلاء قد تخلّفوا عنك؟ و ليس للُامّة فيهم طعن، و لا في صحبة الرسول لصحبته منهم تقصير؟!
قال أبو بكر: ما علمت بتخلّفهم إلّا بعد إبرام الأمر؛ و خفتُ إن قعدت عن الأمر أن يرجع الناس مرتدّين عن الدين؛ و كان ممارستهم إن أجبتُهم أهون مئونة على الدين و إبقاء له من ضرب الناس بعضهم ببعض، فيرجعون كفّاراً؛ و علمت أنّك لست بدوني في الإبقاء عليهم! و على أديانهم!
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أجل! و لكن أخبرني عن الذي يستحقّ هذا الأمر بمَ يستحقّه؟!
اعتراف أبي بكر بميزات أمير المؤمنين و حديث المنزلة
قال أبو بكر: بالنصيحة، و الوفاء، و دفع المداهنة، و حسن السيرة، و إظهار العدل، و العلم بالكتاب و السنّة، و فصل الخطاب، مع الزهد في الدنيا، و قلّة الرغبة فيها، و انتصاف المظلوم من الظالم للقريب و البعيد! ثمّ سكت.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: و السابقة و القرابة؟!
قال أبو بكر: و السابقة و القرابة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: انشدك بالله يا أبا بكر: أ في نفسك تجد هذه الخصال أو في؟!
قال أبو بكر: بل فيك يا أبا الحسن!
و هنا يحاجّه الإمام و يناشده بكثير من السجايا و الخصال التي يختصّ بها. منها قوله: انْشِدُكَ بِاللهِ! إلى الوَزَارَةُ مَعَ رَسُولِ اللهِ؛ وَ المِثْلُ مِنْ هَارُونَ مِنْ موسى؛ أمْ لَكَ؟! قَالَ: بَلْ لَكَ!
و يُدان أبو بكر في هذا المجلس، و يُفحَم، فيقول: ابسط يدك يا أبا الحسن ابايعك، و لكن تقرّر أن تكون البيعة علناً في المسجد بعد تلك البيعة في المجلس المذكور. و تمّر ليلة على هذه الحالة، و يطّلع عمر على الأمر، فيصرف أبا بكر عن عزمه بأيّ نحو كان۱.
احتجاج أمير المؤمنين بحديث المنزلة في الشوري
و من موارد الاستشهاد بحديث المنزلة، احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام مع أصحاب الشورى في مجلسهم بعد موت عمر. و هذا الاحتجاج مفصّل؛ و فيه مناقب الإمام و فضائله الخاصّة به دون غيره، التي لا يشترك فيها أحد من المهاجرين و الأنصار؛ و هذا الاحتجاج من الاحتجاجات المعروفة و المشهورة. و نكتفي هنا بذكر مورد الحاجة إليه في الاستشهاد بحديث المنزلة، و وزارة الإمام عليه السلام. قال لهم الإمام بعد بيان فضائله و اعتراف المناوئين و إقرارهم بها:
نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ! هَلْ فِيكُمْ أحَدٌ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟! قَالُوا: لَا!
و قال: نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ! هَلْ فِيكُمْ أحَدٌ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنْتَ أخِي وَ وَزِيرِي وَ صَاحِبِي مِنْ أهْلِي! غَيْرِي؟!
قَالُوا: لَا!
و واصل الإمام هذه الاحتجاجات إلى أن قال: أما إذا أقررتم على أنفسكم، و استبان لكم ذلك من قول نبيِّكم، فعليكم بتقوى الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ! و أنهاكم عن سخطه! و لا تعصوا أمره! و ردّوا الحقّ إلى أهله؛ و اتّبعوا سنّة نبيّكم؛ فإنّكم إن خالفتم، خالفتم الله! فادفعوها إلى من هو أهلها! و هي له!
يقول راوى هذا الحديث و هو الإمام أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام: لمّا انتهى كلام أمير المؤمنين عليه السلام، تغامز أصحاب الشورى فيما بينهم، و تشاوروا؛ و قالوا: قد عرفنا فضائل عليّ، و علمنا أنّه أحقّ الناس بها؛ و لكنّه رجل لا يفضّل أحداً على أحد؛ فإن ولّيتموها إيّاه، جعلكم و جميع الناس فيها شرعاً سواء، و لكن ولُّوها عثمان فإنّه يهوى الذي تهوون؛ فدفعوها إليه۱.
و نقل ابن أبي الحديد احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام يوم الشورى في «شرح نهج البلاغة»، و بلغ به إلى قوله: أ فِيكُمْ أحَدٌ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! غَيْرِي؟! قَالُوا: لا!٢.
و ذكر ابن أبي الحديد أيضاً حديث المنزلة، و آية التطهير كمثالين، عند شرح كلام الإمام لمّا بلغه اتّهام بني اميّة إيّاه بالمشاركة في دم عثمان.
و توضيح ذلك أنّه ورد في «نهج البلاغة» أنّ أمير المؤمنين عليه
السلام لمّا بلغه اتّهام بني اميّة إيّاه بالمشاركة في دم عثمان، قال:
أ وَ لَمْ يَنْهَ امَيَّةَ عِلْمُهَا بي عَنْ قَرْفي؟ أ وَ مَا وَزَعَ الجُهَّالَ سَابِقَتِي عَنْ تُهْمَتِي؟ وَ لَمَا وَعَظَهُمُ اللهُ بِهِ أبْلَغُ مِنْ لِسَانِي؛ أنَا حَجِيجُ المارِقِينَ، وَ خَصِيمُ المُرْتَابِينَ، وَ على كِتَابِ اللهِ تُعْرَضُ الأمْثَالُ؛ وَ بِمَا في الصُّدُورِ تُجَازَى العِبَادُ۱.
قال ابن أبي الحديد في شرح الفقرة الاولى: أ وَ لَمْ يَنْهُ امَيَّةَ عِلْمُهَا بي عَنْ قَرْفي:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: أ ما كان في علم بني اميّة بحالى ما ينهاهم عن [قذفي و] قرفي بدم عثمان؟ و حاله التي أشار إليها و ذكر أنّ علمهم بها يقتضي أن لا يقرفوه بذلك، هي منزلته في الدين التي لا منزلة أعلى منها، و ما نطق به الكتاب الصادق من طهارته، و طهارة بنيه و زوجته في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً٢.
و قول البنيّ [الأكرم] صلّى الله عليه و آله و سلّم: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى!
و هذه التعابير تقتضي عصمته عن الدم الحرام، كما أنّ هارون معصوم عن مثل ذلك؛ و ترادف الأقوال و الأفعال من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في أمره التي يضطرّ معها الحاضرون لها و المشاهدون إيّاها إلى أنّ مثله لا يجوز أن يسعى في إراقة دم أمير مسلم٣.
خطبة زياد في فارس، و الاستشهاد بحديث المنزلة
و من موارد الاستشهاد بحديث المنزلة كلام زياد بن سُميَّة في خطبته التي ذكرها ابن أبي الحديد كالآتي: روى عليّ بن محمّد المدائنيّ، قال: لمّا كان زمن [أمير المؤمنين] عليّ عليه السلام ولّى زياداً فارسَ أو بعض أعمال فارس. فضبطها ضبطاً صالحاً، وجبى خراجَها و حَماها؛ و عرف ذلك معاوية، فكتب إليه: أمَّا بَعْدُ! فإنّه غرّتك قِلاعٌ تأوي إليها ليلًا، كما تأوي الطير إلى و كرها! و أيم الله، لو لا انتظاري بك ما الله أعلم به، لكان لك منيّ ما قاله العبد الصالح: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ۱.
و كتب في أسفل الكتاب شعراً، من جملته:
تَنْسَى أبَاكَ وَ قَدْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ | *** | إذْ يَخْطُبُ النَّاسَ وَ الوَالِي لَهُمْ عُمَرُ |
فلمّا ورد الكتاب على زياد، قام فخطب الناس، و قال:
العَجَبُ مِنِ ابْنِ آكِلَةِ الأكْبَادِ؛ وَ رَأسِ النِّفَاقِ! يُهْدِّدُنِي وَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ وَ زَوْجُ سَيِّدَةِ نِسَاءِ العَالَمِينَ؛ وَ أبُو السِّبْطَيْنِ؛ وَ صَاحِبُ الوَلَايَةِ؛ وَ المنزلَةِ؛ وَ الإخَاءِ؛ في مِائَةِ ألْفٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَ الأنْصَارِ؛ وَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإحْسَانٍ!
أما و الله لو تخطّى هؤلاء أجمعون إليّ، لوجدني أحمر مُخِشّاً٢ ضرّاباً
معرفة الإمام ؛ ج۱۰ ؛ ص۸۱
بالسيف.
ثمّ كتب [زياد بعد هذه الخطبة كتاباً] إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، و بعث بكتاب معاوية في كتابه. فكتب إليه [أمير المؤمنين] عليّ عليه السلام، و بعث بكتابه:
أمَّا بَعْدُ؛ فَإنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ مَا وَلَّيْتُكَ! وَ أنَا أرَاكَ أهْلًا! وَ إنَّهُ قَدْ كَانَتْ مِنْ أبي سُفْيَانَ فَلْتَةٌ في أيَّامِ عُمَرَ مِنْ أمَانِيّ التَّيْهِ وَ كَذِبِ النَّفْسِ؛ لَمْ تَسْتَوْجِبْ بِهَا مِيرَاثاً؛ وَ لَمْ تَسْتَحِقَّ بِهَا نَسَباً. وَ إنَّ مُعَاوِيَةَ كَالشَّيْطانِ الرَّجِيمِ يَأتِي المَرْءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ وَ عَنْ يَمِينِهِ وَ عَنْ شِمَالِهِ؛ فَاحْذَرْهُ، ثُمَّ احْذَرْهُ، ثُمَّ احْذَرْهُ؛ وَ السَّلَامُ۱
قصّة استلحاق معاوية زياداً بأبي سفيان
إن شرح و بيان جواب أمير المؤمنين عليه السلام لزياد بن سميّة يحتاج إلى سرد قصّة تأريخيّة. فنقول: زياد و كنيته أبو المغيرة، امّه سميّة كانت أمَة لأحد دهاقين الفرس٢، و كان يعيش في الطائف. فمرض
الدهقان، فدعا الحَرْثَ بْنَ كَلْدَة الثَّقَفِيّ و كان طبيباً ليعالجه، فعالجه، فبرأ، فوهبه سُميّة جزاءً له على علاجه، فأولدها الحرث نَفِيعَاً و نَافِعَاً. ثمّ زوّجها غلامه الروميّ عُبَيْدَاً. و في تلك الفترة سافر أبو سفيان إلى الطائف. و طلب من الخمّار أبي مَرْيَمَ السَّلُولِيّ بغياً. فأخذ إليه أبو مريم سميّة. و ولدت سميّة زياداً في السنة الاولى من الهجرة، في وقت كانت زوجة لعُبيد.
و لمّا حاصر النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم الطائف، جاء نفيع إلى النبيّ، فأعتقه، و لقّبه أبا بَكْرَة. و حينئذٍ خاف الحرث بن كلدة من ذهاب ابنه الآخر نافع إلى النبيّ، فقال له: أنْتَ وَلَدِي! و لهذا قيل لنفيع الملقّب بأبي بكرة: مَوْلَى الرَّسُول، و قيل لنافع: ابن الحَرْث، و قيل لزياد: ابن عُبَيْد. و كان هذا في وقت لم ينسب معاوية زياداً إلى أبي سفيان بعد. لكن لمّا اعتبره معاوية ابنَ أبي سفيان، و أخاه، لذا قيل له: زياد بن أبي سفيان؛ و لمّا انقرضت الدولة الأموّية، قيل لزياد: زياد بن سميّة أو زياد بن أبيه۱.
و روى ابن عبد البرّ عن هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، أنّ عمر بعث [أيّام حكومته] زياداً، [و هو غلام حَدَث] في إصلاح فساد واقع باليمن.
و لمّا رجع زياد من اليمن، خطب عند عمر خطبة لم يُسْمَع مثلها،
و عليّ عليه السلام حاضر، و أبو سفيان، و عمرو بن العاص. فقال عمرو بن العاص: للّه أبو هذا الغلام، لو كان قرشيّاً، لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان: إنّه لقريّش؛ و إنّي لأعرف الذي وضعه في رَحِم امّه! فقال عليّ عليه السلام: و من هو؟ قال أبو سفيان: أنا! فقال عليّ: مَهْلًا يَا أبَا سُفْيَانَ!
فخاطب أبو سفيان أمير المؤمنين عليه اسلام بثلاثة أبيات من الشعر مفادها أنّه لو لم يخف عمر، لبيّن قصّة تولّد هذا الفتى۱.
و روى أحمد بن يحيى البَلاذُريّ مثل هذا المضمون، و قال في آخره: قال عمرو بن العاص لأبي سفيان: فَهَلَّا تَسْتَلْحِقُهُ؟! قَالَ: أخَافُ هَذَا العَيْرَ الجَالِسَ أنْ يَخْرِقَ عَلَيّ إهَابِي.
و روى محمّد بن الواقديّ مثله أيضاً، و قال في آخر كلامه: قال عليّ عليه السلام: مَهْ يَا أبَا سُفْيَانَ! فَإنَّ عُمَرَ إلى المَسَاءَةِ سَرِيعٌ.
عرف زياد ما دار بين عليّ عليه السلام، و بين أبي سفيان فكانت في نفسه٢.
حكم رسول الله: الولد للفراش و للعاهر الحجر
يعود خوف أبي سفيان من عمر في عدم إفصاحه بأنّ زياداً منه، و أنّ نطفته انعقدت بعد أن زنى بامّه، إلى حكم رسول الله صلّى الله عليه و آله: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ. أي: أنّ الولد المولود هو لمن كانت امرأته في فراشه بعقد صحيح، أو مِلك صحيح، أو تحليل جائز. و أمّا الزاني فلا حظّ له من الولد، بل حظّه الحجر الذي يرجم به.
أي: عند ما يولد طفل من امرأة، و لا تقوم أمارة قطعيّة أو حجّة ظنّيّة
على أنّه ابن زنا، فينبغي أن نعتبره من صاحب الفراش، لا من الزاني، حتّى لو كان تولّده مشكوكاً فيه. أو يقوم ظنّ قويّ غير الحجّة على أنّ نطفة هذا الطفل من الزنا، كالتشابه في الوجه، أو قول القافَة، أو تحليل دم الطفل، و أمثال ذلك. و يتّفق الشيعة و العامّة في هذا الحكم على أنّ الزاني لا يستطيع أن يستلحق الطفل المولود منه به. و صدر هذا الحكم عن رسول الله عند ما تنازع سعد بن أبي وقّاص، و عَبد بن زَمْعَة في ولد كان من زمعة.
لمّا ذهب سَعْد بن أبي وقّاص إلى مكّة في عام الفتح، قال له أخوه عُتْبَة بن أبي وقّاص: إنّ ابن زمعة ولد من نطفتي، و هو منّي، فخذه و ائت به! فأخذه سعد في عام الفتح، و قال: هذا ابن أخي، و قد اوصيتُ به. فقام عَبْد بن زَمْعَة، و هو أخو ذلك الولد، و قال: هذا أخي، و قد ولد على فراش أبي.
فتخاصما عند رسول الله. قال سعد: يا رسول الله! هذا الغلام ابن أخي عتبة و قد عهد إليّ أنّه ابنه؛ انظر إلى شبهه. فقال عبد بن زمعة: يا رسول الله! هذا أخي، و قد ولد على فراش أبي، فهو من أولاده. فنظر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى الطفل و رأي شبهه البيّن بعتبة.
ثمّ التفت إلى عَبْد بْنِ زَمْعَة و قال: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ! الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ. وَ احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ! قَالتْ عَائِشَةُ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ۱.
و كتب أمير المؤمنين عليه السلام كتاباً إلى معاوية جواباً على كتاب كان قد بعثه معاوية إليه و قال فيه: يا عليّ! نفيتَ زياد عن أبي سفيان! فقال الإمام: لم أنفه، بل نفاه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إذ قال: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَر۱.
و عند ما كتب زياد كتاباً إلى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، و أساء فيه الأدب بقوله: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن ابن فاطمة، فإنّ الإمام عليه السلام أجابه قائلًا: مِنَ الحَسَنِ ابْنِ فَاطِمَةَ إلى زِيَادِ ابْنِ سُمَيَّةَ. أمَّا بَعْدُ؛ فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ. وَ السَّلَامُ٢.
أجل، لا خلاف بين أهل الإسلام جميعهم أنّ الطفل المولود في الفراش الصحيح يعود إلى صاحب الفراش. أي: أنّ نسبه إلى ذلك الرجل الذي أولده بنكاح شرعيّ صحيح.
هذا الطفل ابنه، و هو أبوه، و إخوته من هذا النكاح هم إخوته، و كذلك علاقته بسائر الأرحام من عمّ و عمّة، و ابن عمّ، و ابن عمّة، و ابن
أخٍ، و ابن اخت، و غيرهم.
و عند ما يحوم الشكّ من خلال عدم قيام أمارة قطعيّة أو حجّة عليه، فلا رحم بين الزاني و بين هذا الطفل. فهو ليس ابنه، و ذاك ليس والده، و أبناء الزاني ليسوا إخوةً لهذا الطفل، و أخو الزاني ليس عمّه، و هكذا۱.
لقد خالف معاوية بن أبي سفيان حكم رسول الله جهراً، و أعلن أنّ زياد بن عُبَيْد هو زياد بن أبي سفيان، و هو أخوه؛ و تصاعدت موجات الاعتراض من جميع أنحاء العالم الإسلاميّ، و من صحابة رسول الله كافّة. و على الرغم من هذا كلّه، فإنّه لم يرتّب أي أثر عليه. و ارتقى منبر الشام، و أجلس زياداً على مرقاة أوطأ منه، و أعلن أنّ هذا الرجل ولد من زنا أبي، أبي سفيان، بسميّة في الطائف، فهو ابن أبي سفيان، و هو أخي. و لا يحقّ لأحد أن يسميّه زياد بن عبيد.
صدر هذا العمل من معاوية كخطّة سياسيّة أراد فيها عطف زياد إليه، لأنّه كان أمير الشام و المسلمين في تلك الأرجاء، و إذا كان زياد أخاه، فهذا يعني أنّه أخو الأمير و ابن أبي سفيان الشخصيّة العربيّة المهمّة، على عكس عبيد الذي كان غلاماً روميّاً، و لا شرف لزياد بالانتساب إليه.
بَيْدَ أنّ زياد المسكين التعس قد استساغ الانتساب إلى أبي سفيان، و اعتبر نفسه ابناً له بالزنا، و نسب إلى امّه السِّفاح، و نفى انتسابه لأبيه عُبَيْد الذي أولده على فراشه بنكاح صحيح من سميّة.
و آثر زياد بنوّة الزنا على النسب الصحيح طلباً للرئاسة. و قدّم نطفة أبي سفيان، و لو كانت نطفة سِفاح، على نطفة عُبَيْد الروميّ، و إن كانت نطفة نكاح صحيح، و اعتبر ذلك من دواعي شرفه. و كان زياد في أوّل أمره رجلًا عاقلًا لبيباً كيّساً، و من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام و أتباعه. و نُصِّب من قبله حاكماً على منطقة من مناطق فارس. و كما رأينا فإنّ معاوية عند ما كتب إليه رسالة، و هدّده فيها، جاء بين الناس و خطب فيهم، و أعلن عن استعداده التامّ لحرب معاوية؛ و اعتبر أمير المؤمنين عليه السلام صاحب الولاية المقصود في الحديث النبويّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ، و صاحب الوزارة و المنزلة: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، و صاحب الاخوّة: أنْتَ أخِي، و هو أبو السبطين: الحسن، و الحسين، و بعل فاطمة سيّدة نساء العالمين، و ابن عمّ رسول الله. و ظلّ زياد حاكماً على فارس ما دام أمير المؤمنين حيّاً؛ و لم يستطع معاوية أن يخدعه أو يكسر شوكته بالتهديد.
و يستفاد من رسالة أمير المؤمنين عليه السلام التي كتبها في جواب رسالته و جاء فيها أنّ ما صدر عن أبي سفيان في زمن عمر كان زلّة من الأماني الشيطانيّة المضلّة، و تسويلات النفس، و لا يثبت فيها نسب، و لا يُسْتَحَقُّ فيه إرث أنّ معاوية قد وجّه نظر زياد إليه في رسالته من خلال استلحاقه بأبي سفيان و بنوّته إيّاه، و أراد أن يخدعه عبر هذا الاسلوب على أنّه أخوه، و ابتغى من ذلك تحريضه على أمير المؤمنين عليه السلام.
رسالة أمير المؤمنين إلى زياد في بطلان تحقّق النسب بالزنا
روى الشريف الرضيّ تلك الرسالة في «نهج البلاغة» بقوله: و من كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه، و قد بلغه أنّ معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه:
وَ قَدْ عَرَفْتُ أنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إلَيْكَ يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ وَ يَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ! فَاحْذَرْهُ فَإنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ، يَأتِي المُؤْمِنَ مِنْ بَيْن يَدَيْهِ؛ وَ مِنْ خَلْفِهِ وَ عَنْ يَمِينِهِ؛ وَ عَنْ شِمَالِهِ، لِيَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ؛ وَ يَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ.
وَ قَدْ كَانَ مِنْ أبي سُفْيَانَ في زَمَنِ عُمَرَ فَلْتَةٌ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَ نَزْعَةٌ مِنْ نَزَعَاتِ الشَّيْطَانِ؛ لَا يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ وَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا إرْثٌ، وَ المُتَعَلِّقُ بِهَا كَالوَاغِلِ المُدَفَّعِ، وَ النَّوطِ المُذَبْذَبِ۱.
فَلَمَّا قَرَأ زِيَادٌ الكِتَابَ؛ قَالَ: شَهِدَ بِهَا وَ رَبِّ الكَعْبَةِ وَ لَمْ تَزَلْ في نَفْسِهِ حتّى ادَّعَاهُ مُعَاوِيَةُ٢.
أي: أنّ معاوية يطلب زلل عقلك و خطأه. و يحاول أن يفلّ حدّك، أي: عزمك.
و ظهرت من أبي سفيان فلتة في كلامه أيّام عمر. و هذه الفلتة كانت من حديث النفس، و كلمة فاسدة من كلمات الشيطان (إذ قال: إنِّي أعْلَمُ مَنْ وَضَعَهُ في رَحِمِ امِّهِ، يقصد نفسه) و حركاته القبيحة التي تفسد المكلّفين. و لا يثبت بواسطة تلك الفلتة و عثرة اللسان نسب، و لا يستحقّ بها إرثٌ. و من أراد أن يثبت له نسباً عن هذا الطريق فمثله مثل من يهجم على الشرب ليشرب و هو ليس منهم، فلا يزالون يدفعونه و يحولون بينه و بين الشرب. و كذلك مثله مثل شيء شدّوه على سرج الحصان، أو رحل البعير كالكأس أو القدح و أمثالهما، فهو يتقلقل باستمرار بواسطة السرعة في
السير و الحركة. و لا يقرّ له قرار أبداً.
و لمّا قرأ زياد كتاب أمير المؤمنين عليه السلام قال: شهد عليّ بها و ربّ الكعبة، بقوله: إنّني وليد أبي سفيان و ظلّت هذه الفكرة في نفسه حتّى قطع معاوية نسبه من عُبَيْد، و نسبه إلى أبي سفيان.
و عند ما استشهد أمير المؤمنين عليه السلام، ظلّ زياد والياً على فارس. و قلق معاوية منه لأنّه كان يعرف ثباته و رسوخ مبدئه و استقامة منهجه. و خاف أن يقترب من الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أكثر، و ينهض لمساعدته و نصرته، فلهذا كتب إليه رسالة بهذا المضمون:
رسالة معاوية النابية إلى زياد، و ردٌ زياد عليه برسالة نابية
من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عُبَيْد.
أمَّا بَعْدُ؛ فإنّك عبد قد كفرتَ النعمة، و استدعيتَ النقمة! و لقد كان الشكر أولى بك من الكفر! و إنّ الشجرة لتضرب بعِرْقِها، و تتفرّع من أصلها. إنّك -لا امّ لك بل لا أب لك- قد هلكتَ و أهلكتَ! و ظننتَ أنّك تخرج من قبضتي، و لا ينالك سلطانيّ! هيهات! ما كلّ ذي لُبّ يصيب رأيه، و لا كلّ ذي رأي ينصح في مشورته.
بالأمسِ عبدٌ، و اليوم أمير! خطّة ما ارتقاها مثلُكَ يا ابن سُميّة!
و إذا أتاك كتابي هذا، فَخُذِ الناس بالطاعة و البيعة! و أسرع الإجابة! فإنّك إن تفعل، فدمك حقنتَ! و نفسك تداركتَ! و إلّا اختطفتُكَ بأضعف ريش (بأضعف قوّة)، و نلتك بأهون سعي.
و اقسم قسماً مبروراً، ألّا اوتَى بك إلّا في زمّارة، تمشي حافياً من أرض فارس إلى الشام حتّى اقيمك في السوق، و أبيعك عبداً، و أردّك إلى حيث كنتَ فيه و خرجتَ منه! و السلام۱.
خديعة معاوية زياداً بتوجيه المغيرة بن شعبة
فلمّا ورد الكتاب على زياد، غضب غضباً شديداً، و جمع الناس، و صعد المنبر. فحمد الله. ثمّ قال: ابن آكلة الأكباد (هند)، و قاتلة أسد الله (حمزة). و ابن أبي سفيان مظهر الخلاف، و مُسِرّ النفاق، و رئيس الأحزاب؛ و من أنفق ماله في إطفاء نور الله. كتب إليّ يُرعد و يبرق عن سحابةٍ جَفْل لا ماء فيها، و عمّا قليل تصيّرها الرياح قزعاً. و الذي يدلّني على ضعفه، تهدّده قبل القدرة. يا معاوية! أ فَمِن إشفاق عَلِيّ تُنْذِر؟ و تُعْذِر؟ كلّا! و لكن اذهب إلى غير مذهب؛ و قعقع لمن رُبِّيَ بين صواعق تِهامة.
كيف أرهبه و بيني و بينه ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و ابن ابن عمّه في مائة ألف من المهاجرين و الأنصار؟!
و الله لو أذِنَ (الإمام الحسن عليه السلام) لي فيه، أو ندبني إليه (معاوية)، لأريته الكواكب نهاراً، و لأسعطته ماء الخردل.
دونه (أي معاوية) الكلام اليوم، و الجمع غداً، و المشورة بعد ذلك إن شاء الله. قال هذا، و نزل من المنبر. و كتب إلى معاوية:
أمَّا بَعْدُ! فقد وصل إليّ كتابك يا معاوية، و فهمت ما فيه؛ فوجدتك كالغريق يغطّيه الموج، فيتشبّث بالطُّحْلُب، و يتعلّق بأرجل الضفادع، طمعاً في الحياة.
إنّما يكفر النعم، و يستدعي النقم من حادّ الله و رسوله؛ و سعى في الإرض فساداً.
فأمّا سبّك لي، فلولا حِلم ينهاني عنك، و خوفي أن ادعى سفيهاً، لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء.
و أ ما تعييرك لي بسُمَيَّة، فإن كنتُ ابن سميَّة، فأنت ابن جماعة (أي: إذا كان قد زنى رجل واحد بامِّي، و أولدني منها، فقد زنى بامّك جماعة، و أنت ابنهم!).
و أمّا زعمك أنّك تختطفني بأضعف ريش، و تتناولني بأهون سعي، فهل رأيتَ بازياً يُفزعه صغير القنابر؟! أم هل سمعت بذئب أكله خروف؟!
فامض الآن لطيَّتك! و اجتهد جهدك! فلست أنزل إلّا بحيث تكره! و لا أجتهد إلّا فيما يسوءك! و ستعلم أيّنا الخاضع لصاحبه الطالع إليه! و السلام۱.
و لمّا ورد كتاب زياد على معاوية، غمّه و أحزنه، و بعث إلى المُغيرة بن شُعْبَة، فخلا به؛ و قال: يا مغيرة! إنّي اريد مشاورتك في أمر أهمّني، فانصحني فيه، و أشر عَلَيّ برأي المجتهد؛ و كن لي، أكن لك! فقد خصصتُك بسرّي، و آثرتك على ولدي!
قال المغيرة: فما ذاك؟! و الله لتجدني في طاعتك أمضى من الماء إلى الحدور! و من ذي الرونق في كفّ البطل الشجاع!
قال معاوية: إنّ زياداً قد أقام بفارس؛ يكشّ لنا كشيش الأفاعي؛ و هو رجل ثاقب الرأي، ماضي العزيمة، جوّال الفكر، مصيب إذا رمى.
و قد خفت منه الآن ما كنتُ آمنه إذ كان صاحبه حيّاً، و أخشى ممالأته حَسَناً. فكيف السبيل إليه؟ و ما الحيلة في إصلاح رأيه؟!
قال المغيرة: أنا له إن لم أمُت! إنّ زياداً رجل يحبّ الشرف، و الذِّكر، و صعود المنابر. فلو لاطفته المسألة، و ألَنْتَ له الكتاب، لكان لك
أميل! و بك أوثق! فاكتب إليه و أنا الرسول.
فكتب معاوية إليه:
من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان:
أمَّا بَعْدُ؛ فإنّ المرء ربمّا طرحه الهوى في مطارح العَطَب؛ و إنّك للمرء المضروب به المثل، قاطع الرحم، و واصل العدوّ! و حملك سوء ظنّك بي، و بغضك لي على أن عققتَ قرابتي، و قطعت رحمي، و تبتّ نسبي و حرمتي، حتّى كأنّك لست أخي، و ليس صخر بن حرب أباك و أبي. و شتّان ما بيني و بينك، أطلب بدم ابن أبي العاص۱ و أنت تقاتلني! و لكن أدركك عِرق الرخاوة من قبل النساء، فكنتَ:
كَتَارِكَةٍ بَيْضَهَا بِالعَرَاء | *** | وَ مُلْحِفَةٍ بَيْضَ اخْرَى جَنَاحَا |
و قد رأيتُ أن أعطفَ عليك، و لا أؤاخذك بسوء سعيك، و أن أصل رحمك، و أبتغي الثواب في أمرك!
فاعلم أبا المغيرة (زياد) أنّك لو خضتَ البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتّى انقطع متنه، لما ازددت منهم إلّا بعداً! فإنّ بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع، و قد اوثق للذبح. فارجع رحمك الله إلى أصلك، و اتّصل بقومك! و لا تكن كالموصول بريش غيره!
فقد أصبحتَ ضالّ النسب! و لعمري ما فعل بك ذلك إلّا اللجاج! فدعه عنك! فقد أصبحتَ على بيّنة من أمرك، و وضوحٍ من حجّتك!
فإن أحببتَ جانبي، و وثقت بي، فإمرة بإمرة! و إن كرهت جانبي،
و لم تثق بقولي، ففعل جميل لا عَلَيّ و لا لي؛ و السلام۱.
فرحل المغيرة بن شعبة بالكتاب حتّى قدم فارس؛ فلما رآه زياد، قرّبه و أدناه، و لطف به٢؛ فدفع إليه الكتاب. فجعل زياد يتأمّله، و يضحك.
فلمّا فرغ من قراءته، وضعه تحت قدمه؛ ثمّ قال: حسبك يا مغيرة! فإنّي أطّلع على ما في ضميرك؛ و قد قدمت من سفرة بعيدة! فقم و أرح ركابك!
قال المغيرة: أجل! فدع عنك اللجاج! يرحمك الله! و ارجع إلى قومك! وصل أخاك! و انظر لنفسك! و لا تقطع رحمك!
قال زياد: إنّي رجل صاحب أناة! ولى في أمري رويّة! فلا تعجل عَلَيّ! و لا تبدأني بشيء حتّى أبدأك!
ثمّ جمع الناس بعد يومين أو ثلاثة؛ فصعد المنبر؛ فحمد الله و أثنى عليه، ثمّ قال: أيُّهَا النَّاسُ! ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم! و ارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم! فقد نظرتُ في امور الناس منذ قُتِل عثمانُ، و فكّرت فيهم فوجدتهم كالأضاحي، في كلّ عيد يذبحون؛ و لقد أفنى هذان اليومان الجمل و صفّين ما ينيف على مائة ألف، كلّهم يزعم أنّه طالب حقّ،
و تابع إمام، و على بصيرة من أمره.
فإن كان الأمر هكذا، فالقاتل و المقتول في الجنَّة. كلّا! ليس كذلك! و لكن أشكل الأمر، و التبس على القوم؛ و إنّي لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ؛ فكيف لامرئ بسلامة دينه؟!
و قد نظرت في أمر الناس، فوجدت إحدى العاقبتين العافية. و سأعمل في اموركم ما تحمدون عاقبته و مغبّته! فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله! ثمّ نزل.
رسالة زياد إلى معاوية و استعداده للتعاون معه
و كتب جواب الكتاب:
أمَّا بَعْدُ! فقد وصل كتابك يا معاوية مع المغيرة بن شُعْبة؛ و فهمتُ ما فيه. فالحمد للّه الذي عرّفك الحقّ، و ردّك إلى الصلة؛ و لستَ ممّن يجهل معروفاً! و لا يغفل حَسَباً!
و لو أردتُ أن اجيبك بما أوجبته الحجّة، و احتمله الجواب؛ لطال الكتاب، و كثر الخطاب!
و لكنّك إن كنتَ كتبتَ كتابك هذا عن عقد صحيح، و نيّة حسنة؛ و أردتَ بذلك برّاً، فستزرع في قلبي مودّة و قبولًا!
و إن كنتَ إنّما أردتَ مكيدةً و مكراً و فساد نيّة، فإنّ النفس تأبي ما فيه العطب!
و لقد قمت يوم قرأت كتابك مقاماً يعبأ به الخطيب المِدْرَة۱. فتركتُ من حضر؛ لا أهل ورد و لا صدر؛ كالمتحيّرين بمهمَةٍ ضلّ بهم الدليل؛
و أنا على أمثال ذلك قدير. و كتب في أسفل الكتاب:
إذَا مَعْشَرِي لَمْ يُنْصِفُونِي وَجَدْتَنِي | *** | ادَافِعُ عَنِّي الضَّيْمَ مَا دُمْتُ بَاقِيَا |
وَ كَمْ مَعْشَرٍ أعْيَتْ قَناتِي عَلَيْهِمُ | *** | فَلَامُوا وَ ألْفَوْني لَدَى العزْمِ مَاضِيَا |
وَ هَمٍّ بِهِ ضَاقَتْ صُدُورٌ فَرَحْبُهُ | *** | وَ كُنْتُ بِطِبِّي لِلرِّجَالِ مُداويَا |
ادَافِعُ بِالحِلْمِ الجَهُولَ مَكِيدَةً | *** | وَ اخْفي لَهُ تَحْتَ العِضَاةِ الدَّوَاهيَا |
فَإنْ تَدْنُ مِنِّي أدْنُ مِنْكَ وَ إنْ تَبِنْ | *** | تَجِدْنِي إذَا لَمْ تَدْنُ مِنِّي نَائِيَا |
فأعطاه معاوية جميع ما سأله، و كتب إليه بخطّ يده ما وثق به. فدخل إليه الشام؛ فقرّبه و أدناه، و أقرّه على ولايته في فارس؛ ثمّ استعمله على العراق۱.
و روى ابن أبي الحديد عن عليّ بن محمّد المدائنيّ قال: لمّا أراد معاوية استلحاق زياد، و قد قدم عليه الشام، جمع الناس، و صعد المنبر، و أصعد زياداً معه فأجلسه بين يديه على المرقاة التي تحت مرقاته.
و حمد الله و أثنى عليه، و قال: أيُّهَا النَّاسُ! إنّي قد عرفتُ نسبنا أهل
البيت في زياد؛ فمن كان عنده شهادة، فليقم بها!
فقام ناس، فشهدوا أنّه ابن أبي سفيان، و أنّهم سمعوا ما أقرّ به أبو سفيان قبل موته.
فقام أبُو مَرْيَمَ السَّلُولِيّ و كان خمّاراً في الجاهليّة فقال: أشهد يا أمير المؤمنين أنّ أبا سفيان قدم علينا بالطائف، فأتاني فاشتريت له لحماً و خمراً و طعاماً، فلمّا أكل، قال: يا أبا مريم! أصب لي بغيّاً! فخرجت فأتيت سُمَيَّة، فقلت لها: إنّ أبا سفيان ممّن قد عرفت شرفه وجوده! و قد أمرني أن اصيب له بغيّاً! فهل لكِ؟!
فقالت: نعم! يجيء الآن عبيد بغنمه (و كان راعياً)، فإذا تعشّى، و وضع رأسه، أتيته.
فرجعتُ إلى أبي سفيان، فأعلمته. فلم نلبث أن جاءت تجرّ ذيلها، فدخلتْ معه؛ فلم تزل عنده حتّى أصبحت. فقلت له لمّا انصرفت: كيف رأيت صاحبتك؟! قال: خير صاحبة، لو لا ذَفَرٌ في إبطيها. [الذَّفَر: رائحة نتنة كريهة].
فقال زياد من فوق المنبر: يا أبا مريم! لا تشتم امّهات الرجال، فتُشْتَم امُّك!
فلمّا انقضى كلام معاوية و مناشدته، قام زياد، و أنصت الناس، فحمد الله و أثنى عليه؛ ثمّ قال: أيُّهَا النَّاسُ! إنّ معاوية و الشهود قد قالوا ما سمعتم؛ و لست أدري حقّ هذا من باطله؛ و هو و الشهود أعلم بما قالوا، و إنّما عُبَيْد أب مبرور، و وال مشكور. ثمّ نزل۱.
إنّنا بحمد الله و منّته ذكرنا هنا قصّة معاوية و زياد بالنحو المتقدّم
ليتبيّن أنّ معاوية كان رجلًا متجرّئاً متهوّراً لم يرْعَوِ عن كلّ جناية و خيانة لتحقيق مآربه السياسيّة المتمثّلة بالتحكّم في رقاب المسلمين و إلصاق نفسه بأهل البيت.
إنّه استطاع تذليل زياد الذي كان رجلًا جموحاً شموساً بأساليب ما كرة. و زياد هذا كان قد كتب في رسالة يخاطب بها معاوية قائلًا: «و ستعلم أيّنا الخاضع لصاحبه، الطالع إليه!» و إذا هو يذهب إلى الشام بمكيدة معاوية، و تزوير خدينه و شريك سرّه المغيرة بن شعبة. و حضر مجلس معاوية راغباً، و وضع في عنقه طوق العبوديّة و الذلّ بمرأى الحاضرين، و جعل بنوّة الزنا لقباً يفخر به. و ظفر معاوية بامنيته عن هذا الطريق.
و من هو معاوية؟ إنّه الشخص الذي كان يقول: لا شغل لنا بكلام الناس ما لم يمسّ إمارتنا و حكومتنا.
و كان يقول: لَوْ أنَّ بَيْنِي وَ بَيْنَ النَّاسِ شَعْرَةً مَا انْقَطَعَتْ أبَدَاً.
قِيلَ لَهُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟! قَالَ: إذَا مَدُّوَهَا أرْخَيْتُهَا، وَ إذَا أرْخَوْهَا مَدَدْتُهَا۱.
جلب معاوية زياداً إلى الشام و وضع وسام الفخر ببنوّة الزنا في عنقه
و كان معاوية يرى أنّ زياداً سياسيّ محنّك و والٍ قويّ. و لو ظلّ واليا على فارس من قبل أمير المؤمنين عليه السلام، أو من قبل الإمام الحسن عليه السلام، و هو من شيعة أهل البيت و أنصارهم، لكان خطر الثورة على حكومته شديداً. و لمّا شعر بعقم تهديده زياداً، انتهج سبيلًا آخر، فناشده بصلة الرحم، و سمّاه أخاه، و ابنَ أبيه، إلى أن أوقعه في الفخّ آخر الأمر. و لم يبال بسحق الحكم الثابت لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: الوَلَدُ لِلفِرَاشِ وَ لِلعَاهِرِ الحَجَرُ، بل نسخه و أبطله بكلّ قبح و وقاحة. و أعلن على
رؤوس الأشهاد أنّ زياداً وليد من نطفة أبيه أبي سفيان؛ فهو أخوه و ابن أبي سفيان.
بينما يعلم المسلمون جميعهم أنّ الطفل المتولّد في الفراش من نكاح صحيح يعود إلى صاحب الفراش، لا إلى الشخص الزاني.
نقول هنا: أوّلًا: إنّ زنا أبي سفيان بسميّة غير ثابت. و كان ذلك الكلام قد صدر من أبي سفيان، و اعتبره أمير المؤمنين من أمَانِيّ التَّيْهِ وَ كَذِبِ النَّفْسِ. و ما يدرينا لعلّ قوله في مجلس عمر: أنَا وَضَعْتُهُ في رَحِمِ امِّهِ كان كذباً و بهتاناً. إذ عند ما أثنى عمرو بن العاص على خطبة زياد، و قال: لو كان هذا الغلام من قريش. فأراد أبو سفيان أن ينسب هذه الفضيلة إلى نفسه، و هو من قريش، و ذلك من منطلق حبّ الشرف القبليّ.
و الدليل على هذا الكلام رواية نقلها ابن أبي الحديد عن أبي عثمان. قال: كتب زياد إلى معاوية يستأذنه في الحجّ. فكتب إليه معاوية: أنّي قد أذنتُ لك، و استعملتك على الموسم، و أجزتُك بألف ألف درهم!
فبينا هو يتجهّز، إذ بلغ ذلك أبا بكرة أخاه و كان مصارماً له منذ لجلج في الشهادة على المغيرة بن شعبة أيّام عمر لا يكلّمه، قد لزمته أيمان عظيمة ألّا يكلّمه أبداً فأقبل أبو بكرة يدخل القصر يريد زياداً. فبَصُر به الحاجب، فأسرع إلى زياد قائلًا: أيُّهَا الأمِيرُ! أخوك أبو بكرة قد دخل القصر!
قال زياد: ويحك! أنت رأيته؟!
قال الحاجب: ها هو ذا قد طلع؛ و في حجر زياد بُنَيّ يلاعبه.
و جاء أبو بكرة حتّى وقف عليه، فقال للغلام:
كيف أنت يا غلام؟! إنّ أباك ركب في الإسلام عظيماً: زنَّى امَّهُ، و انتفى من أبيه. و لا و الله ما علمت سُميّة رأت أبا سفيان قطّ.
ثمّ أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك. يوافي الموسم غداً، و يوافي امّ حبيبة بنت أبي سفيان (زوجة رسول الله)۱ و هي من امّهات المؤمنين. فإن جاء يستأذن عليها، فأذنت له، فأعظم بها فِرْية على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و مصيبة! و إن هي منعته، فأعظم بها على أبيك فضيحة!
ثمّ انصرف أبو بكرة بعد أن تحدّث مع الغلام.
قال زياد: جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيراً! ساخطاً كنتَ أو راضياً! ثمّ كتب إلى معاوية: إنّي قد اعتللت عن الموسم، فليوجّه إليه أمير المؤمنين من أحبَّ. فوجّه معاوية عتبة بن أبي سفيان٢.
و ذكر ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» لمّا ادّعى معاوية زياداً في سنة أربع و أربعين (من الهجرة) و ألحقه به أخاً، زوّج ابنته من ابنه محمّد بن زياد ليؤكّد بذلك صحّة الاستلحاق.
و كان أبو بكرة أخا زياد لُامّه، امّهما جميعاً سُمَيَّة. فحلف (أبو بكرة) ألّا يكلّم زياداً أبداً و قال: هذا زَنّى امَّهُ، و انتفى من أبيه. و لا و الله ما علمتُ سميّة رأت أبا سفيان قبل. ويلَهُ! ما يصنع بامّ حبيبة؟ أ يريد أن يراها؟ فإن حجبته، فضحته. و إن يراها، فيا لها من مصيبة يهتك من رسول الله صلّى الله عليه و آله حرمةً عظيمة.
و حجّ زياد مع معاوية؛ و دخل المدينة؛ فأراد الدخول على امّ حبيبة،
ثمّ ذكر قول أبي بكرة، فانصرف عن ذلك. و قيل: إنّ امّ حبيبة حجبته و لم تأذن له في الدخول عليها. و قيل: إنّه حجّ و لم يرد المدينة من أجل قول أبي بكرة. و إنّه قال: جزى الله أبا بكرة خيراً فما يَدَع النصيحة في حال۱.
إنّ الوثيقة التأريخيّة الوحيدة لزنا أبي سفيان بسميّة كلام أبي مريم السلوليّ. و هي شهادة رجل خمّار و فاسق. و ما يدرينا لعلّه افترى ذلك في مجلس الشام إرضاءً لمعاوية؟
و حينئذٍ تلد سميّة المسكينة طفلًا و هميّاً بعد سنين طويلة في التأريخ؛ و تتّهم بمثل هذه التهمة. يقول ابن أبي الحديد: و ممّن عيّر معاوية بهذا عبد الرحمن بن الحَكَم بن أبي العاص أخو مروان، و هو من بني اميّة. فقد دخل يوماً على معاوية مع جماعة من بني اميّة، و قال: يَا مُعَاوِيَةُ! لَوْ لَمْ تَجِدْ إلَّا الزَّنْجَ لَاسْتَكْثَرْتَ بِهِمْ عَلَيْنَا قِلَّةً وَ ذِلَّةً! فقال معاوية لمروان: أخرج عنّا هذا الخليع المتهتّك الصلف فأخرجه مروان. و شرح ذلك مفصّل.
أشعار عبد الرحمن بن الحكم في هجاء معاوية
و عبد الرحمن بن الحكم هو الذي أنشد الأبيات الآتية في هجاء معاوية و زياد:
ألَا أبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ | *** | لَقَدْ ضَاقَتْ بِمَا يَأتِي اليَدَانِ |
أ تَغْضَبُ أنْ يُقَالُ: أبُوكَ عَفٌ | *** | وَ تَرْضَى أنْ يُقَالَ: أبُوكَ زَانِ |
فأشْهَدُ أنَّ رِحْمَكَ مِنْ زِيَادٍ | *** | كَرِحْمِ الفِيلِ مِنْ وَلَدِ الأتَانِ |
وَ أشْهَدُ أنَّهَا حَمَلَتْ زِيَاداً | *** | وَ صَخْرٌ مِنْ سُمَيَّةَ غَيْرُ دَانِ۱ |
للفراش أمارة لصحّة النسب
يقول في البيت الثالث أن لا نسب و لا قرابة بين معاوية و زياد كما لا نسب بين الفيل و ولد الأتان (انثى الحمار). و يقول لمعاوية: أنت في الشرف كالفيل الضخم، و زياد في الوضاعة كولد الأتان.
ثانياً: لو فرضنا أنّ أبا سفيان زنى بسميّة، فمن أين نعلم أنّ زياداً قد صُوِّر من نطفة أبي سفيان؟ بل المورد هو المقصود من كلام رسول الله:الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ٢. أي: عند عدم وجود دليل قطعيّ عقليّ، كأن يكون الزوج قد سافر مثلًا قبل مدّة الحمل، أو كان في السجن، و حملت المرأة. و عند عدم وجود دليل قطعيّ شرعيّ، كأن تكون مدّة الحمل بين المواقعة و تولّد الطفل أقلّ من ستّة أشهر، و بصورة عامّة، عند عدم وجود حجّة عقليّة و شرعيّة، ينبغي أن يُلْحَق الطفل بصاحب الفراش فيما لو ولد من الزنا، و احتملنا ولادته بسبب الزنا. أي: يلحق بزوج تلك المرأة، لا بالزاني. و للفراش الصحيح أمارة لصحّة النسب.
ثالثاً: لو تيقّنّا أنّ زياداً كان من نطفة أبي سفيان، كأن يقوم دليل عقليّ أو حجّة شرعيّة على أنّ زياداً لا يمكن أن يكون ابن عُبَيْد، كأن تكون مدّة الحمل منذ مواقعةِ عبيدٍ سُمَيَّةَ أقلّ من ستّة أشهر، أو أكثر من مدّة الحمل المعهودة (تسعة أشهر أو عشرة أو سنة على حسب اختلاف الأقوال) أو كان عُبَيْد غائباً، و أمثال ذلك، و بصورة عامّة، لو ثبت عقلًا
و شرعاً أنّ زياداً ولد بسبب زنا أبي سفيان بامّه، فلا يمكن أن نعتبره ابناً لأبي سفيان.
حكم الإسلام الضروريّ في عدم تحقّق النسب بالزنا
ذلك أنّ النسب لا يتحقّق في الشرع الإسلاميّ بالزنا. و لا توجد علاقات بُنُوَّة بين الطفل و بين الأب أو الامّ الزانية. و لا بدّ من مواقعة شرعيّة لتحقّق البنوّة. و هذا الأمر من الامور المعلومة بل من ضروريّات الإسلام، و لا شبهة و لا تردّد فيه أبداً.
قال صاحب كتاب «جواهر الكلام»: و كيف كان فلا يثبت النسب مع الزنا إجماعاً بقسميه، بل يمكن دعوى ضروريّته فضلًا عن دعوى معلوميّته من النصوص أو تواترها فيه. فلو زنى [رجل] فانخلق من مائه ولد على الجزم، لم ينسب إليه شرعاً على وجه يلحقه الأحكام؛ و كذا بالنسبة إلى امّه۱.
و عبّرت الروايات عن هذه النطفة المنعقدة من الزنا المسلّم باللُّغْيَة أي: إنّ هذا الطفل المولود من الزنا ملغى و باطل. و قال في «مجمع البحرين»: لُغْيَة بضمّ اللام، و سكون الغين المعجمة و فتح الياء التحتانيّة هو المُلْغى، أي: الطفل المولود من الزنا٢.
يقول محمّد بن الحسن القمّيّ: كتب بعض أصحابنا على يدي إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام يسأله عن هذه المسألة بقوله:
ما تقول في رجل فجر بامرأة، فحبلت؛ ثمّ إنّه تزوّجها بعد الحمل
فجاءت بولد، و هو أشبه خلق الله به؟!
فكتب بخطّه و خاتمه: الوَلَدُ لُغْيَةٌ لا يُورَثُ۱.
على ضوء ذلك، لا يتحقّق النسب الشرعيّ للطفل المولود من الزنا سواءً كان من طرف الأب، أم من طرف الامّ. كما لا يتحقّق عنوان النسبيّات السبع، من الامّ، و البنت، و الاخت، و العمّة، و الخالة، و بنت الأخ، و بنت الاخت بينه و بين هؤلاء، و لا توارث بينه و بينهم. و بصورة
عامّة، لا ينطبق أي حكم من الأحكام الواردة في النسب الصحيح على ولد الزنا إلّا في نكاح هذه العناوين السبعة الثابتة حرمتها، و ذلك لا من منطلق صدق عنوان الابُوَّة وَ البُنُوَّة و الاخُوَّة و أمثالها، بل من منطلق الصدق اللُّغوي للولد، الذي يتبعه في النكاح؛ فَالإنْسَانُ لَا يَنْكَحُ بَعْضُهُ بَعْضَاً.
إذاً، ينبغي أن نقول بصورة عامّة: لا يتحقّق أي حكم من أحكام النسب إلّا حرمة نكاح المحارم؛ و لا يبعد جواز النظر إلى المحارم أيضاً، لأنّ حرمة نكاح المحارم، و جواز النظر إليها شيء واحد٢.
و يمكن استفادة عدم تحقّق النسبة أيضاً من عنوان: وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ لأنّ قضيّة الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ و إن كانت تحوم حول تنازع و تخاصم صاحب الفراش و الزاني، بَيْدَ أنّ كلّ فقرة من هاتين الفقرتين مستقلّة، و تفيد حكماً منفرداً وحدها، و لها معنى يخصّها نفسها. و تشعر عبارة وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ أنّ الزاني لا حظّ له من النَّسَب و الولد، و ينبغي أن يرجم بالحجر في مقابل ادّعائه، و لا جواب له إلّا الحجر بديلًا عن الولد.
و خال البعض أنّ المراد من الحَجَر هو الرجم الذي يستحقّه الزاني الذي زنى محصناً. أي: أنّ جوابه و جزاءه الرجم، و القتل و الدفن تحت وابل الحجارة. إلّا أنّ هذا الظنّ ضعيف.
ذلك أنّ الزنا حينئذٍ يتخصّص بالزنا المحصن، و يكون القصد من العاهر: العاهر المُحْصن؛ و ينبغي تخصيص الفراش بالفراش الذي تحقّق فيه نزاع الزنا المحصن، بالاستفادة من قرينة المقابلة. و هذا التخصيص بلا وجه و لا مُخَصِّص. فالفراش باقٍ على إطلاقه، و العاهر يشمل كلّ عاهرٍ محصناً كان أو غير محصن.
و استبان من محصّل البحث في هذا القسم أيضاً عدم تحقّق أيّة رابطة
من روابط النَّسَب بين زياد و أبي سفيان حتّى لو فرضنا فقدان فراش عبيد، و تيقّنّا ولادة زياد من أبي سفيان. و حينئذٍ لا يكون معاوية أخاً لزياد.
و أنّ إعلان معاوية بنوّة زياد لأبيه أبي سفيان تمرّد مكشوف على حكم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، بل تمرّد مكشوف على الإسلام، و على شخص الرسول المبارك. و لهذا جُوبِهَ باحتجاج المسلمين كافّة.
و لم يعبأ معاوية الصفيق المتهتّك بهذا الاحتجاج. إذ ظلّ يدعو زياداً بابن أبي سفيان حتّى آخر عمره، و طلب في الخطب أن يُدعى بابن أبي سفيان. و كان يكتب في رسائله: زياد بن أبي سفيان.
و أدّى إلحاق معاوية زياداً بأبي سفيان إلى شهرة الحديث القائل: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ. و كان هذا الكلام كسائر كلام رسول الله قد صدر في قضيّة شخصيّة كانت بين سَعْد بن أبي وقّاص و ابن زَمْعَة. و ينبغي أن يكون في عداد أخبار الآحاد ككثير من كلامه، لكنّه صار من الأحاديث المستفيضة و المشهورة بين المحدّثين و المؤرّخين. ذلك أنّ قضيّة الإلحاق، و هي من الأعمال العجيبة لمعاوية، قد وقعت في حياة كثير من الصحابة. و قد طعنوا كلّهم عليه، لأنّهم كانوا قد سمعوا هذا النصّ الصريح من رسول الله، و هذا الطعن أحد الطعون الأربعة، المعروفة بين جميع المسلمين، على معاوية. و هي:
۱ ظلمه و بغيه على أمير المؤمنين عليه السلام.
٢ قتله حجرَ بن عَدِيّ و أصحابه في مرج عذراء بدمشق، و كان حجر من صحابة النبيّ الأبرار.
٣ إلحاق زياد بأبي سفيان.
٤ نصب يزيد حاكماً على المسلمين.
قال ابن أبي الحديد: قال الحسن البصريّ: ثَلَاثٌ كُنَّ في مُعَاوِيَةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ فيهِ إلَّا واحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَكَانَتْ مُوبِقَةً: انْتِزاؤُهُ عَلى هَذِهِ الامَّةِ بِالسُّفَهاءِ حتّى ابْتَزَّها أمْرَهَا، وَ اسْتِلْحَاقُهُ زِيَاداً مُرَاغَمَةً لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ»، وَ قَتْلُهُ حِجْرَ بْنَ عَدِيّ؛ فَيَا وَيْلَهُ مِنْ حِجْرٍ وَ أصْحابِ حِجْرٍ۱.
تباهي زياد ببنوّته أبي سفيان من الزنا
و من هنا يتّضح أي أشخاص رَقوا منبر النبيّ. ذلك المنبر الذي ينبغي أن يرتقيه عليّ و أولاده، و أن يكون مناراً لتعريف القرآن، و أحكام
الإسلام، و ترويج الحقّ، و القضاء على الباطل. و إذا هو محلّ لإلحاق أولاد الزنا بحكّام الجور و الظلم، و يصعد عليه أمثال معاوية ليدعوا الناس إلى إضفاء الطابع الرسميّ على الزنا؛ و تحقّقت رؤيا النبيّ الأكرم المتمثّلة بنزو القردة على منبره، و هذه القردة هم بنو اميّة. و هم الشجرة الملعونة الوارد ذكرها في القرآن الكريم:
و إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس و الشجرة الملعونة في القرآن و نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا٢.
أجمعت الروايات في تفسير هذه الآية المباركة على أنّ المراد من الشجرة الملعونة أي: المغضوب عليها، البعيدة من رحمة الله بنو اميّة الذين صعدوا على منبر النبيّ ثمانين سنة، و دعوا الناس إلى الضلالة.
و ليعلم ثانياً أنّ زياد بن عُبَيد -مع ما كان يتمتّع به من الشجاعة و المتانة و الرزانة و الدراية- قد رضي أن يدعو نفسه ابن أبي سفيان من
الزنا، و يتباهى بذلك حبّاً للرئاسة؛ ذلك أنّ العصر كان عصر الأمويّين. و كان معاوية بن أبي سفيان يُذكَر في الخطب و الرسائل في أرجاء العالم الإسلاميّ على أنّه أمير المؤمنين. و كان لأبي سفيان، والد مثل هذه الشخصيّة، مقام سامق و كريم عند عامّة الناس. و كان الفخر ببنوّة مثل هذا الرجل أخ السلطان و الحاكم يومئذٍ و إن كان فيه و صمة عار الزنا نقطة انعطاف في حياة زياد المتهافت على الدنيا، الطالب إيّاها، من أجل بروز و ظهور ما يخفيه في ضميره، و ما تنطوي عليه نفسه.
و زياد هذا هو الذي قال لأبي مريم السَّلوليّ من على المنبر: لا تشتم امّهات الرجال! و قال في أبيه عُبَيْد: أبٌ مَبرُورٌ وَ وَالٍ مَشْكُور. و هو الذي كان يكتب في رسائله: مِنْ زِيَادِ بْنِ أبي سُفْيَانَ إلى فُلَانٍ ... و بلغ تعدّيه و انتهاكه المنطلِق من حبّ الحكومة و الرئاسة أنّه سمّى أمير المؤمنين عليه السلام فاسقاً، و خاطب الإمام الحسن بالحسن ابن فاطمة امتهاناً له. و أساء الأدب في رسالة بعثها إلى الإمام حتّى أنّ معاوية تعجّب و غضب لمّا أرسل إليه الإمام تلك الرسالة، فأرسل إلى زياد رسالة نابية يعنّفه فيها على ما كتب به إلى الإمام الحسن عليه السلام۱.
و يتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الإنسان ينبغي أن يراقب أعماله دائماً، و يواظب على محاسبة نفسه الأمّارة، ذلك أنّ الاختبار يكشف الذهب الخالص من الزائف. وَ عِنْدَ الامْتِحَانِ يُكْرَمُ الرَّجُلُ أوْ يُهَانُ.
خوش بود گر محك تجربه آيد به ميان | *** | تا سيه روى شود هر كه در او غشّ باشد۱ |
إنّ قصّة طلحة و الزبير مع سوابقهما، و حربهما أمير المؤمنين عليه السلام كلّ ذلك يدعو إلى التفكّر و التأمّل و التمعّن. و نقل المؤرّخون ما آل إليه عبد الله بن عبّاس الذي كان واليا على البصرة من قبل أمير المؤمنين، سرق المجوهرات من بيت المال، و فرّ إلى الحجاز، و اشترى ثلاث جوارٍ حِسان بثلاثة آلاف دينار. و ذكر المؤرّخون تعنيف أمير المؤمنين عليه السلام إيّاه و مؤاخذته له، و أجوبته التافهة بل المسيئة عن رسائل أمير المؤمنين عليه السلام. كلّ ذلك نقله المؤرّخون في كتبهم٢.
و نفهم من هذا أنّ التشيّع ليس مجرّد كلام لفظيّ و اعتراف لسانيّ. و إلّا فقد كان طلحة، و الزبير، و زياد، و ابن عبّاس من شيعة الإمام و أنصاره و لكن عند ما انهالت الصفراء، و طرق الأسماع صهيل الخيول، و همهمة الغزاة، و قعقعة رايات الرئاسة و الحكومة، فإنّهم تغيّروا، و عند ذاك يُعْرَفُ من يثبت ممّن ينهار، و تغور قدمه في حفرة الشهوات، و يلقى في جهنّم. و أنّ حبّ الرئاسة، و حسّ الاستعلاء، و الخيلاء، و التعلّق بالمال و الذهب الأحمر، و اجتماع الغواني، و سماع الأغاني، كلّ ذلك يُعمي و يُصمّ. حُبُّ الشَّيءِ يُعْمي وَ يُصِمُّ.
و كم هو لطيف و جميل تعبير القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بصورة عامّة.
لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون۱.
(و حياتك أيّها النبيّ! إنّ قوم لوط و أهل الدنيا ضالّون في سكرة الحيرة و الغفلة و أهوائهم النفسانيّة).
سجود معاوية عند ما نُعي إليه الإمام الحسن عليه السلام
يقول ابن عبد ربّه الأندلسيّ: لمّا بلغ معاوية موت (الإمام) الحسن (المجتبى) بن عليّ (بن أبي طالب)، خرّ ساجداً للّه؛ ثمّ أرسل إلى ابن عبّاس و (مَن) كان معه في الشام، فعزّاه و هو مستبشر (بموت الإمام الحسن عليه السلام).
و قال (معاوية لابن عبّاس): ابن كم سنة مات أبو محمّد (الإمام الحسن)؟
فقال (ابن عبّاس) له: سنّه كان يسمع في قريش؛ فالعجب من أن يجهله مثلك.
قال (معاوية): بلغني أنّه ترك أطفالًا صغاراً.
قال (ابن عبّاس): كلّ ما كان صغيراً يكبر؛ و إنّ طفلنا لكهل؛ و إنّ صغيرنا لكبير. ثمّ قال: ما لي أراك يا معاوية مستبشراً بموت الحسن بن عليّ؟ فو الله لا ينسأ في أجلك! و لا يسدّ حفرتك! و ما أقلّ بقاءك و بقاءنا بعده! ثمّ خرج ابن عبّاس، فبعث إليه معاوية ابنه يزيد، فقعد بين يديه، فعزّاه و استعبر لموت الحسن؛ فلمّا ذهب أتبعه ابن عبّاس ببصَره و قال: إذا ذهب آل حرب، ذهب الحلُم من الناس٢.
أجل، إنّ حديث المنزلة الذي نقلنا بعض رواياته في هذا البحث يمنح مقام الوزارة و الخلافة لأمير المؤمنين عليه السلام بالنصّ الصريح،
و يجعله كالنبيّ. و لو لم تُخْتَم النبوّة برسول الله، لحاز أمير المؤمنين منصب النبوّة أيضاً بلا شكّ و شبهة. بَيدَ أنّ كافّة المناصب من خلافة و إمارة و إمامة و وصاية و اخوّة ثابتة للإمام بمقتضى هذا الحديث.
و نقل المرحوم السيّد هاشم البَحْرانيّ في «غاية المرام» عن ابن أبي الحديد عين الاستدلال الذي أتى به الشيعة على ولاية الإمام مستنبَطاً من الآية القرآنيّة و حديث المنزلة، و قد نقله بحذافيره قائلًا:
قال ابن أبي الحديد: «و الذي يدلّ على أنّ عَلِيَّاً عَلِيْهِ السَّلَامُ وزير رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من نصّ الكتاب و السنّة قول الله تعالى:
وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي۱.
و قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام:
أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
و على هذا ثبت لأمير المؤمنين عليه السلام جميع مراتب هارون و منازله من موسى، فإذَاً عَلِيّ وَزِيرُ رَسُولِ اللهِ. و لو لا أنّه خاتم النبيّين، لكان شريكاً له في أمره انتهى كلام ابن أبي الحديد.
ثمّ قال المحدّث البحرانيّ رحمة الله عليه: انظر إلى ما رواه المخالفون في النصّ من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بعده بالنصّ المجمع على روايته بين فرق الإسلام كما ذكره ابن أبي الحديد، و ذكره غيره أيضاً. و هذا صريح من المخالفين
أنّ رسول الله ما مات حتّى نصّ على عليّ بأنّه الإمام و الخليفة و الوزير. و هذا عين ما تقوله الشيعة.
لذلك نجد أنّ إنكار النصّ من بعض المخالفين كابن أبي الحديد في بعض المواضع من شرحه على نهج البلاغة باطل، لقيام البرهان على خلافه، و اعترافه بالنصّ كما ذكرناه نحن من كلامه هذا من أنّ جميع مراتب هارون و منازله من موسى هي ثابتة لعليّ عليه السلام، ما عدا النبوّة. لأنّ رسول الله خاتم الأنبياء، و إلّا كان شريكاً له في النبوّة.
و هذا يقتضي بالصريح من النصّ على عليّ عليه السلام بالإمامة و الخلافة و الوزارة التي هي مراتب هارون من موسى. و هذا واضح بيّن لا خفاء فيه و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وَ أعُوذُ بِاللهِ سُبْحَانَهُ وَ تعالى مِنَ الضَّلَالَةِ بَعْدَ تَبَيُّنِ الهُدَى وَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ۱.
وصيّة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم للأنصار، و بيان حديث المنزلة
و روى في «غاية المرام» أيضاً عن السيّد الأجلّ أبي القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن طاووس في «الطرائف الثلاث و الثلاثين» في النصّ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بالإمامة و الخلافة و الوصيّة. قال: الطرفة العاشرة في تصريح رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عند الوفاة بخلافة عليّ عليه السلام على الصغار و الكبار، و جميع أهل الأمصار بمحضر الأنصار، عن أبي الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه عليهما السلام، قال: لمّا حضرت رسول الله الوفاة دعا الأنصار، و قال:
يَا مَعَاشِرَ الأنْصَارِ! قد حان الفراق؛ و قد دُعيت، و أنا مجيب الداعي! و قد جاورتم فأحسنتم الجوار! و نصرتم فأحسنتم النصر! و واسيتم في الأموال، و وسعتم في المسكن! و بذلتم للّه مهج النفوس! و الله مجزيكم بما
فعلتم الجزاء الأوفى.
و بقيت واحدة، و هي تمام الأمن، و خاتمة العمل، العمل معها مقرون جميعاً.
إنّي أرى أن لا أفرّق بينهما جميعاً. لو قيس بينهما بشعرة ما انقاست.
من أتى بواحدة، و ترك الاخرى، كان جاحداً للُاولى. و لا يقبل الله منه عملًا من الأعمال.
قال الأنصار: يا رسول الله! أبِنْ لنا نعرفها؛ و لا نمسك عنها فنضلّ، و نرتدّ عن الإسلام، و النعمة من الله و رسوله علينا؛ فقد أنقذناه الله بك من الهلكة! يا رسول الله! قد بلّغتَ! و نصحتَ! و أدّيتَ! و كنتَ بنا رؤوفاً رحيماً شفيقاً مشفقاً! فما هي يا رسول الله؟!
قَالَ لَهُمْ: كِتَابُ اللهِ وَ أهْلُ بَيْتِي! فَإنَّ الكِتَابَ هُوَ القُرْآنُ؛ فَفِيهِ الحُجَّةُ وَ النُّورُ وَ البُرْهَانُ؛ كَلَامُ اللهِ جَدِيدٌ غَضٌّ طَرِيّ وَ شَاهِدٌ وَ حَاكِمٌ عَادِلٌ قَائِدٌ بِحَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ وَ أحْكامِهِ يَقُومُ بِهِ غَدَاً فَيُحَاجُّ بِهِ أقْوَامَاً فَتَزِلُّ أقْدَامُهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ.
فَاحْفَظُوا مَعاشِرَ الأنْصَارِ في أهْلَ بَيْتِي فَإنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ قَالَ: إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتّى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. ألَا وَ إنَّ الإسْلَام سَقْفٌ تَحْتَهُ دِعَامَةٌ؛ وَ لَا يَقُومُ المُسَقَّفُ إلَّا بِهَا فَلَوْ أنَّ أحَدَكُمْ أتَى بِذَلِكَ السَّقْفِ مَمْدُودَاً لَا دِعَامَةَ تَحْتَهُ، لأوْشَكَ أنْ يَخِرَّ عَلَيْهِ سَقْفُهُ لَهَوَى في النَّارِ.
أيُّهَا النَّاسُ! الدِّعَامَةُ دِعامَةُ الإسْلَام، وَ ذلِكَ قَوْلُ اللهِ تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ». فَالعَمَلُ الصَّالِحُ طاعَةُ الإمَامِ وَلِيّ الأمْرِ وَ التَّمَسُّكُ بِحَبْلِ اللهِ!
ألَا فَهِمْتُمْ؟! اللهَ اللهَ في أهْلِ بَيْتِي! مَصَابِيحُ الظَّلَامِ، وَ مَعَادِنُ العِلْمِ،
وَ يَنَابِيعُ الحِكَمِ، وَ مُسْتَقَرُّ المَلَائِكَةِ؛ مِنْهُمْ وَصِيِّي، وَ أمِينِي، وَ وَارِثِي مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!
وَ اللهِ يَا مَعاشِرَ الأنْصَارِ! ألَا اسْمَعُوا! ألَا إنَّ بَابَ فَاطِمَةَ بَابِي؛ وَ بَيْتُهَا بَيْتِي! فَمَنْ هَتَكَهُ هَتَكَ حِجابَ اللهِ!
يقول عيسى راوي هذا الحديث عن موسى بن جعفر عليهما السلام: فَبَكَى أبُو الحَسَنِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ طَوِيلًا وَ قُطِعَ عَنْهُ بَقِيَّةُ الحَدِيثِ؛ وَ أكْثَرَ البُكَاءَ، وَ قَالَ: هُتِكَ حِجَابُ اللهِ؛ هُتِكَ وَ اللهِ حِجَابُ اللهِ؛ هُتِكَ وَ اللهِ حِجَابُ اللهِ؛ يَا امّةَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ۱.
بَيدَ أنّ الإمام الصادق عليه السلام بيّن كيفيّة هتك الحجاب، و لم يُقْطَع الحديث.
روى الطبريّ في «دلائل الإمامة» عن محمّد بن هارون بن موسى التلعكبريّ، عن أبيه، عن محمّد بن همّام، عن أحمد البرقيّ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن ابن سنان، عن ابن مُسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال:
قُبِضَتْ فَاطِمَةُ في جُمَادَى الآخِرَةِ يَوْمَ الثلَاثَاءِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْهُ سَنَةَ إحْدَى عَشَرَ مِنَ الهِجْرَةِ؛ وَ كَانَ سَبَبُ وَفَاتِهَا أنَّ قُنْفُذَ مَوْلَى عُمَرَ نَكَزَها٢ بِنَعْلِ٣ السَّيْفِ بِأمْرِهِ؛ فَأسْقَطَتْ مُحْسِنَاً وَ مَرِضَتْ مِنْ ذَلِكَ مَرَضَاً شَدِيداً
وَ لَم يَدَعْ أحَداً ممَّنْ آذَاهَا يَدْخُلُ عَلَيْها الحديث۱.
و ذكر سليم بن قيس أنّ عمر عند ما ضغط الباب على الجدار للمرّة الثانية نَادَتْ يَا أبَتَاهْ! هَكَذَا يَفْعَلُ بِحَبِيبَتِكَ! وَ اسْتَعَانَتْ (بِفِضَّةَ) جَارِيَتِها، وَ قَالَتْ: لَقَدْ قُتِلَ مَا في بَطْنِي مِنْ حَمْلٍ٢.
و خرج أمير المؤمنين عليه السلام فألقى عليها مُلاءة٣ فأسقطت حملًا لستّة أشهر سمّاه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم محسناً - الحديث٤.
و من كان له اطّلاع على جوامع الحديث، و معرفة بكتب السير و التواريخ، فإنّه لا يشكّ أنّ عمر قد حمل الحطب إلى باب فاطمة لإحراق بيتها، و كان عمله هذا منطلقاً إمّا من الجدّ أو من التهديد٥.
خطبة الوسيلة و بيان حديث المنزلة بعد اسبوع من وفاة رسول الله
و خطب أمير المؤمنين عليه السلام في المدينة المنوّرة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عند ما فعل غاصبو الخلافة ما فعلوا، و أنزلوا بالإسلام و أهل بيت النبوّة ما أنزلوا من المصائب. و تعرف تلك الخطبة ب خطبة الوسيلة. و هي خطبة مفصّلة و في الإمام فيها و أحسن و أجمل بذكر المواعظ و النصائح و الحكم و بيان الحقيقة، و الدلالة على طريق السعادة، و التمتّع بجميع المواهب الإلهيّة الدنيويّة و الاخرويّة، الجسميّة و الروحيّة، الظاهريّة و الباطنيّة، و بيان منزلته و مرتبته و موقعه و درجته التي لا يبلغها نبيّ مرسل و ملك مقرّب. و لا يمكن أن يدور في مخيّلتهما الوصول إلى تلك الذروة العليا و السنام الأعلى.
و لو لم يكن للشيعة غير هذه الخطبة، لكفى بها في تعريف مدرسته و بيان عظمتها. و لو عرف أهل المدينة يومذاك معناها و مغزاها و حقيقتها، و تركوا شيطنة رؤسائهم، و أنكروا ذواتهم بالتضحية و الإيثار، و أجابوا دعوة الإمام، و وضعوا حكّام الجور و الامراء و الحكّام المنحرفين و المنتهكين في مواضعهم، و ولّوا الإمام عليهم، لنزلت النعمة و البركة و الرحمة و العافية و السعادة عليهم من السماء، و تفجّرت من الأرض، و غمرتهم من أربع جهات. و لاتّخذ التأريخ و الإسلام و الإمامة و القيادة طابعاً آخر. و لنظر الناس إلى أنفسهم في الجنّة. و لكن يا للأسف و الخسارة
و الضياع فإنّ الطبيعة الشرِّيرة للإنسان المتوحّش و الظالم لا تدعه يخرج من جهنّم، و يضع قدمه في مرحلة الحياة الخالدة. و قال اولئك العرب الضيّقي الافق للصدّيقة الكبرى: إنّ ما تقولينه صحيح، و هذه المقامات ثابتة لعليّ، و لكن مضت بيعتنا لهذا الرجل (أبو بكر) و لا يمكننا أن نرجع عنها۱.
و روى المرحوم محمّد بن يعقوب الكلينيّ هذه الخطبة كلّها في «روضة الكافي» عن محمّد بن عليّ بن معمر، عن محمّد بن عليّ بن عكاية التميميّ، عن الحسين بن نصر الفهريّ، عن أبي عمرو الأوزاعيّ، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد. قال: دخلت على الإمام الباقر عليه السلام و قلت: يا ابن رسول الله! قد أوجعني و آلمني اختلاف الشيعة في آرائها و مذاهبها!
فقال الإمام: أ لا تحبّ أقفك على معنى اختلافهم من أين اختلفوا، و من أي جهة تفرّقوا؟! قلت: بلى يا ابن رسول الله! قال: فلا تختلف إذا اختلفوا!
يَا جَابِرُ! إنَّ الجَاحِدَ لِصَاحِبِ الزَّمَانِ كَالجَاحِدِ لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ في أيَّامِهِ.
يا جابر: اسمع و عِ! قال جابر: إذا شئتَ٢!
قال الإمام: اسمع و عِ و بلّغ حيث انتهت بك راحلتك!
خطبة الوسيلة و بيان الانحراف عن استخلاف رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيّام
من وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و ذلك حين فرغ من جمع القرآن و تأليفه، فقال: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي مَنَعَ الأوْهَامَ أنْ تَنَالَ إلَّا وُجُودَهُ وَ حَجَبَ العُقُولَ أنْ تَتَخَيَّلَ ذَاتَهُ. و بعد الحمد البليغ و الثناء الجميل، و الصلوات على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و بيان الآيات القرآنيّة الدالّة على إمامته. قال:
فَإنَّ اللهَ تَبَارَكَ اسْمُهُ امْتَحَنَ بي عِبَادَهُ، وَ قَتَلَ بِيَدِي أضْدَادَهُ، وَ أفْنَى بِسَيْفي حُجَّادَهُ؛ وَ جَعَلَنِي زُلْفَةً لِلْمُؤمِنِيْنَ؛ وَ حِيَاضَ مَوْتٍ على الجَبَّارِينَ، وَ سَيْفَهُ على المُجْرِمِينَ؛ وَ شَدَّ بي أزْرَ رَسُولِهِ؛ وَ أكْرَمَنِي بِنَصْرِهِ وَ شَرَّفَنِي بِعِلْمِهِ؛ وَ حَبَانِي بِأحْكَامِهِ، وَ اخْتَصَّنِي بِوَصِيَّتِهِ؛ وَ اصْطَفَانِي بِخَلَافَتِهِ في امَّتِهِ، فَقَالَ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، وَ قَدْ حَشَدَهُ المُهَاجِرُونَ وَ الأنْصَارُ وَ انْغَصَّتْ بِهِمُ المَحَافِلُ:
أيُّهَا النَّاسُ! إنَّ عَلِيَّاً مِنِّي كَهَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! فَعَقَلَ المُؤمِنُونَ عَنِ اللهِ نُطْقَ الرَّسُولِ، إذْ عَرَفُونِي أنِّي لَسْتُ بِأخِيهِ لأبِيهِ وَ امِّهِ؛ كَمَا كَانَ هَارُونُ أخَا موسى لأبِيهِ وَ امِّهِ؛ وَ لَا كُنْتُ نَبِيَّاً فَاقْتَضَى نُبُوَّةً وَ لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِخْلَافاً لي كَمَا اسْتَخْلَفَ موسى هَارُونَ عَلَيْهمَا السَّلَامُ، حَيْثُ يَقُولُ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} ۱.
ثمّ سرد أمير المؤمنين قصّة حجّة الوداع و غدير خمّ و بيان حديث مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ، و نزول آية إكمال الدين و إتمام النعمة. و قال بعد بيان تسلّط الشيطان و إغوائه مفصّلًا:
حَتَّى إذَا دَعَا اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ نَبِيَّهُ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ رَفَعَهُ إلَيْهِ
لَمْ يَكُ ذَلِكَ بَعْدَهُ، إلَّا كَلَمْحَةٍ مِنْ خَفْقَةٍ، أوْ وَمِيضٍ مِنْ بَرْقَةٍ إلى أنْ رَجَعُوا عَلَى الأعْقَابِ؛ وَ انْتَكَصُوا على الأدْبارِ؛ وَ طَلَبُوا بِالأوْتَارِ؛ وَ أظْهَرُوا الكَتَائِبَ، وَ رَدَمُوا البَابَ؛ وَ فَلُّوا الدِّيَارَ، وَ غَيَّرُوا آثَارَ رَسُولِ اللهِ؛ وَ رَغِبُوا عَنْ أحْكَامِهِ؛ وَ بَعُدُوا مِنْ أنْوارِهِ، وَ اسْتَبْدَلُوا بِمُسْتَخْلَفِهِ بَدِيلًا اتَّخَذُوهُ وَ كَانُوا ظَالِمِينَ.
وَ زَعَمُوا أنَّ مَنِ اخْتَارُوا مِنْ آل أبي قُحَافَةَ أوْلى بِمَقَامِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مِمَّنِ اخْتَارَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لِمَقَامِهِ؛ وَ أنَّ مُهَاجِرَ آل أبي قُحَافَةَ خَيْرٌ مِنَ المُهَاجِرِيّ الأنْصَارِيّ الرَّبَّانِيّ نامُوسِ هاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
ألَا وَ إنَّ شَهَادَةِ زُورٍ وَقَعَتْ في الإسْلَامِ شَهَادَتُهُمْ أنَّ صَاحِبَهُمْ مُسْتَخْلَفُ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيْه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ.
و واصل الإمام خطبته حتّى بلغ قوله:
ألَا وَ إنِّي فِيكُمْ أيُّهَا النَّاسُ كَهَارُونَ في آل فِرْعَوْنَ وَ كَبَابِ حِطَّةٍ في بَنِي إسرَائِيلَ وَ كَسَفِينَةِ نُوحٍ في قَوْمِ نُوحٍ!
إنِّي النَّبَا العَظِيمُ، وَ الصِّدِّيقُ الأكْبَرُ وَ عَنْ قَلِيلٍ سَتَعْلَمُونَ مَا تُوعَدُونَ!
وَ هَلْ هِيَ إلَّا كَلُعْقَةِ الآكِلِ، وَ مَذْقَةِ الشَّارِبِ، وَ خَفْقَةِ الوَسْنَانِ؟! ثُمَّ تَلْزَمُهُمُ المَعَرَّاتُ خِزْيَاً في الدُّنْيَا وَ يَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أشَدِّ العَذَابِ؛ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. فَمَا جَزَاءُ مَنْ تَنَكَّبَ مَحَجَّتَهُ؛ وَ أنْكَرَ حُجَّتَهُ وَ خَالَفَ هُدَاتَهُ، وَ حَادَ عَنْ نُورِهِ، وَ اقْتَحَمَ في ظُلَمِهِ، وَ اسْتَبْدَلَ بِالمَاءِ السَّرَابَ؛ وَ بِالنَّعيمِ العَذَابَ، وَ بِالفَوزِ الشَّقَاءَ، وَ بِالسَّرَّاءِ الضَّرَّاءِ، وَ بِالسَّعَةِ الضَّنْكَ، إلَّا جَزَاءُ اقْتِرَافِهِ وَ سُوْءِ خِلَافِهِ؛ فَلْيُوقِنُوا بِالوَعْدِ عَلى حَقيقَتِهِ! وَ لْيَسْتَيْقِنُوا بِمَا يُوعَدونَ!
يَوْمَ تَأتِي الصَّيْحَةُ بِالحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ؛ {إنا نحن نحيي و نميت
و إلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير نحن أعلم بما يقولون و ما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}۱
الخطبة الطالوتيّة و استياء أمير المؤمنين عليه السلام من تقاعس الناس
و خطب أمير المؤمنين عليه السلام خطبة اخرى بالمدينة أيّام وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و تعرف بالخطبة الطالوتيّة لورود كلمة طالُوت فيها.
و روى الكليني هذه الخطبة أيضاً بسنده المتّصل الآخر عن أبي الهَيْثَمَ بْنِ التَّيِّهان، قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب الناس، فقال: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ كَانَ حَيَّاً بِلَا كَيْفٍ. و واصل خطبته في ذكر صفات الربّ، و هي رائعة جدّاً. و يشهد الإمام فيها على وحدانيّة الله، و رسالة نبيّه محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم. حتّى بلغ قوله:
أيَّتُهَا الامَّةُ التي خُدِعَتْ فَانْخَدَعَتْ، وَ عَرَفَتْ خَدِيْعَةَ مَنْ خَدَعَهَا؛ فَأصَرَّتْ على مَا عَرَفَتْ، وَ اتَّبَعَتْ أهْواءَهَا؛ وَ ضَرَبَتْ في عَشْوَاءِ غَوَائِهَا، وَ قَدِ اسْتَبَانَ لَهَا الحَقُّ، فَصَدَّتْ عَنْهُ، وَ الطَّرِيقُ الوَاضِحُ فَتَنَكَّبَتْهُ.
أمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرَأ النَّسَمَةَ لَوِ اقْتَبَسْتُمُ العِلْمَ مِنْ مَعْدِنِهِ؛ وَ شَرِبْتُمُ المَاءَ بِعُذُوبَتِهِ؛ وَ ادَّخَرْتُمُ الخَيْرَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَ أخَذْتُمُ الطَّرِيقَ مِنْ واضِحِهِ وَ سَلَكْتُمْ مِنَ الحَقِّ نَهَجَهُ، لَنَهَجَتْ بِكُمُ السُّبُلُ، وَ بَدَتْ لَكُمُ
الأعْلامُ؛ وَ أضَاءَ لَكُمُ الإسلام؛ فَأكَلْتُمْ رَغَدَاً، وَ مَا عَالَ فِيكُمْ عَائِلٌ؛ وَ لَا ظُلِمَ مِنْكُمْ مُسْلِمٌ وَ لَا مُعَاهِدٌ؛ وَ لكِنْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَ الظَّلَامِ؛ فَأظْلَمَتْ عَلَيْكُمْ دُنْيَاكُمْ بِرَحْبِهَا وَ سُدَّتْ عَلَيْكُم أبْوابُ العِلْمِ، فَقُلْتُمْ بِأهْوائِكُمْ وَ اخْتَلَفْتُمْ في دِينِكُمْ، فَأفْتَيْتُمْ في دِينِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَ اتَّبَعْتُمُ الغُوَاةَ فَأغْوَتْكُمْ وَ تَرَكْتُمُ الأئِمَّةَ فَتَرَكُوكُمْ.
فَأصْبَحْتُمْ تَحْكُمُونَ بِأهْوَائِكُمْ، إذَا ذُكِرَ الأمْرُ سَألْتُمْ أهْلَ الذِّكْرِ، فَإذَا أفْتَوْكُمْ قُلْتُمْ هُوَ العِلْمُ بِعَيْنِهِ، فَكَيْفَ وَ قَدْ تَرَكْتُمُوهُ، وَ نَبَذْتُمُوهُ، وَ خَالَفْتُمُوهُ!
رُوَيْدَاً عَمَّا قَلِيلٍ تَحْصُدُونَ جَمِيعَ مَا زَرَعْتُمْ! وَ تَجِدُونَ وَخِيمَ مَا اجْتَرَمْتُمْ! وَ مَا اجْتَلَبْتُمْ! وَ الَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرَأ النَّسَمَةَ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أنِّي صَاحِبُكُمْ وَ الَّذِي بِهِ امِرْتُمْ، وَ أنِّي عَالِمُكُمْ، وَ الَّذِي بِعِلْمِهِ نَجَاتُكُمْ؛ وَ وَصِيّ نَبِيِّكُمْ، وَ خِيَرَةُ رَبِّكُمْ، وَ لِسَانُ نُورِكُمْ وَ العالِمُ بِمَا يُصْلِحُكُمْ؛ فَعَنْ قَلِيلٍ رُوَيْدَاً يَنْزِلُ بِكُمْ مَا وُعِدْتُمْ وَ مَا نَزَلَ بِالامَمِ قَبْلَكُمْ وَ سَيَسْألُكُمُ اللهُ عَزَّ وَ جلَّ عَنْ أئِمَّتِكُمْ؛ مَعَهُم تُحْشَرُونَ وَ إلى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ غَدَاً تَصِيرُونَ.
أمَا وَ اللهِ لَوْ كانَ لي عِدَّةُ أصْحَابِ طَالُوتَ؛ أوْ عِدَّةُ أهْلِ بَدْرٍ، وَ هُمْ أعْدَادُكُمْ لَضَرَبْتُكُمْ بِالسَّيْفِ حتّى تَئُولُوا إلى الحَقِّ وَ تُنِيبُوا لِلصِّدْقِ؛ فَكَانَ أرْتَقَ لِلْفَتْقِ، وَ آخَذَ بِالرِّفْقِ. اللَهُمَّ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَ أنْتَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ.
و أتمّ الإمام خطبته حتّى هذا الموضع، ثمّ خرج من المسجد، فمرّ بصِيرَة۱ فيها نحو من ثلاثين شاة، فقال: لو أنّ لي رجالًا ينصحون للّه عزّ و جلّ و لرسوله بعدد هذه الشياه، لأزلت ابن آكلة الذُّبَّان عن مُلكه٢.
وصيّة النبيّ لأمير المؤمنين عليه السلام بالصبر و تحمّل أذى قريش
قال أبو هيثم بن التيهان راوي هذه الرواية: فلمّا أمسى، بايعه ثلاثمائة و ستّون رجلًا على الموت، لا يتركون نصرته. فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: اغدوا بنا إلى أحجار الزَّيت۱ دار عين أو محلّقين رؤوسكم٢.
و لبس الإمام حَلْقته أو حلق رأسه. و لم يواف من القوم محلّقاً إلّا أبو ذرّ، و المقداد، و حذيفة بن اليمان، و عمّار بن ياسر، و جاء سلمان في آخر القوم.
فقال الإمام: اللهمّ اشهد أنّ هؤلاء القوم استضعفوني كما استضعف بنو إسرائيل هارون.
اللَهُمَّ فَإنَّك تَعْلَمُ مَا نُخْفي وَ مَا نُعْلِنُ وَ مَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيءٌ في الأرْضِ وَ لَا في السَّماءِ٣ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ٤.
أما و ربّ البيت الحرام، و ربّ المفضي إلى البيت -المفضي إلى البيت يعني ماسّه بيده و هو النبيّ الأكرم- و الخفاف و الأقدام إلى التجمير
بمنى، لو لا عهد عهده إليّ النبيّ الامّيّ، لأوردتُ المخالفين خِلج المنيّة، و لأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت. و عن قليل سيعلمون۱.
و من هنا يستبين جيّداً أنّ سبب عدم قيام أمير المؤمنين عليه السلام لأخذ الولاية بعد وفاة رسول الله يتمثّل في وصيّة رسول الله الأكيدة له إذ أوصاه أن لا يشهر سيفه عند عدم وجود الناصر و المعين، و عند غلبة العدوّ، ذلك أنّ المعارضين مصرّون على استلاب حقوقه، و عزله عن الإمامة و الولاية. و إذا ما نشبت الحرب بين الطرفين، فسيقتل عدد كبير منهما. و حينئذٍ ينتكس الإسلام لا محالة. فلهذا ما عليه إلّا الصبر و التحمّل عند فقدان الناصر و المعين.
روى الشيخ الصدوق في كتاب «كمال الدين و تمام النعمة» عن ابن الوليد، عن ابن الحسن الصفّار، عن يعقوب بن يزيد، عن حمّاد بن عيسى، عن عمر بن اذَيْنَة، عن أبان بن أبي عيّاش، عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ، عن سُلَيم بن قَيْس الهِلِاليّ، قال: سمعت سلمان الفارسيّ يقول: كنت جالساً بين يدي رسول الله في مرضه الذي قبض فيه، فدخلت فاطمة عليها السلام، فلمّا رأت ما بأبيها من الضعف، بكت حتّى جرت دموعها على خدّيها.
فقال لها رسول الله: ما يبكيكِ؟ قالت: يا رسول الله أخشى على نفسي و ولدي الضيعة بعدك! فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء، ثمّ قال: يا فاطمة! أ ما علمتِ أنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا؟ و أنّه حتم الفناء على جميع خلقه.
ثمّ فصّل الكلام حول خلق أهل البيت، و مقاماتهم و درجاتهم.
و مقامات فاطمة و درجاتها و ميزاتها التي خصّها الله بها، و منها وجود الأئمّة الأحد عشر من نسلها، و آخرهم مهديّ هذه الامّة.
ثُمَّ أقْبَلَ على عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا أخِي! إنَّكَ سَتَبْقَى بَعْدِي وَ سَتَلْقَى مِنْ قُرَيْشٍ شِدَّةً مِنْ تَظَاهُرِهِمْ عَلَيْكَ وَ ظُلْمِهِمْ لَكَ! فَإنْ وَجَدْتَ أعْوَانَاً فَجَاهِدْهُمْ وَ قَاتِلْ مَنْ خَالَفَكَ بِمَنْ وَافَقَكَ! وَ إنْ لَمْ تَجِدْ أعْوَانَاً فَاصْبِرْ وَ كُفَّ يَدَك وَ لَا تُلْقِ بِهَا إلى التَّهْلُكَةِ!
فَإنَّكَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، وَ لَكَ بِهَارُونَ اسْوَةٌ حَسَنَةٌ إذِ اسْتَضْعَفَهُ قَوْمُهُ وَ كادُوا يَقْتُلُونَهُ؛ فَاصْبِرْ لِظُلْمِ قُرَيْشٍ إيَّاكَ وَ تَظَاهُرِهِمْ عَلَيْكَ فَإنَّكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ وَ مَنْ تَبِعَهُ؛ وَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ العِجْلِ وَ مَنْ تَبَعَهُ. إلى آخر الحديث۱.
يتحصّل من هذه القرائن القطعيّة أنّ مناوئي عليّ و المبادرين إلى سقيفة بني ساعدة، الذين نسوا النبيّ و وفاته، و تجهيزه و تكفينه، و سارعوا إلى السقيفة طلباً للرئاسة، لم يتورّعوا عن ارتكاب أي جناية و خيانة من أجل تحقيق مآربهم، و لو أدّى ذلك إلى قتل عدد كبير من المسلمين و إراقة دمائهم؛ و ضياع الإسلام و القرآن، و محو اسم الله و رسوله.
فلهذا نرى أنّ القوم زحفوا على بيت النبوّة لأخذ البيعة من عليّ بن أبي طالب و مرافقيه الذين اعتصموا في بيت فاطمة الزهراء. و انتهك المهاجمون حرمة الزهراء، فصفعوا وجهها، و ضربوا متنها بالسوط، و ضغطوها بين الباب و الجدار، حتّى انكسر ضلعها، و سقط جنينها،
و وقعت على الأرض، ثمّ فارقت الحياة بعد مدّة. و فعلوا ما فعلوه لأنّ السيّدة الصدّيقة حالت بينهم و بين أخذ عليّ إلى المسجد للبيعة.
مرثيّة آية الله الكمبانيّ بالفارسيّة في مصيبة فاطمة الزهراء
و ما أروع ما أنشده فخر الفلاسفة و الحكماء المتألّهين و شيخ الفقهاء و العلماء المعاصرين، المرحوم الشيخ محمّد حسين الإصفهانيّ المعروف بالكمبانيّ طاب ثراه، في هذا المجال، فقال:
وَ لِلسِّياطِ رَنَّةٌ صَدَاها | *** | في مَسْمَعِ الدَّهْرِ فَما أشْجاهَا |
وَ الأثَرُ البَاقِي كَمِثْلِ الدُّمْلجِ | *** | في عَضُدِ الزَّهْرَاءِ أقْوَى الحُجَجِ |
وَ مِنْ سَوادِ مَتْنِهَا اسْوَدَّ الفَضَا | *** | يَا سَاعَدَ اللهُ الإمامَ المُرْتَضَى |
وَ لَسْتُ أدْرِي خَبَرَ المِسْمَارِ | *** | سَلْ صَدْرَهَا خَزَانَةَ الأسْرَارِ |
وَ في جَنِينِ المَجْدِ مَا يُدْمِي الحَشَا | *** | وَ هَلْ لَهُمْ إخْفاءُ أمْرٍ قَدْ فَشَا |
وَ البَابُ وَ الجِدَارُ وَ الدِّمَاءُ | *** | شُهُودُ صِدْقٍ مَا بِهِ خَفَاءُ |
لَقَدْ جَنَى الجَانِي عَلَى جَنِيْنِها | *** | فَانْدَكَّتِ الجِبَالُ مِنْ حَنِينِهَا |
وَ رَضَّ تِلْكَ الأضْلُعِ الزَّكِيَّهْ | *** | رَزِيَّةٌ مَا مِثْلُهَا رَزِيَّهْ |
وَ مِنْ نُبُوعِ الدَّمْعِ مِنْ ثَدْيَيْهَا | *** | يُعْرَفُ عَظْمُ مَا جَرَى عَلَيْهَا |
وَ جَاوَزَ الحَدَّ بِلَطْمِ الخَدِّ | *** | شَلَّتْ يَدُ الطُّغْيَانِ و التَّعَدِّي |
فَاحْمَرَّتِ العَيْنُ وَ عَيْنُ المَعْرِفَهْ | *** | تَذْرِفُ بِالدَّمْعِ على تِلْكَ الصِّفَهْ |
وَ لَا يُزيِلُ حُمْرَةَ العَيْنِ سِوَى | *** | بِيض السُّيُوفِ يَوْمَ يُنْشَرُ اللِّوَا |
فَإنَّ كَسْرَ الضِّلْعِ لَيْسَ يَنْجَبِرْ | *** | إلَّا بِصَمْصَامِ عَزِيزٍ مُقْتَدِرْ |
أ هَكَذَا يُصْنَعُ بِابْنَةِ النَّبِي | *** | حِرْصَاً عَلَى المُلْكِ فَيَا لِلْعَجَبِ۱ |
و كذلك نظم آية الله الأصفهانيّ الكمبانيّ قصيدة رائعة في رثاء السيّدة الصدّيقة سلام الله عليها. و هي قصيدة رائعة جدّاً و تحتوي على حقائق مختلفة. و هذه القصيدة مذكورة في ديوان شعره الفارسيّ. و نكتفي هنا بذكر البندين الأوّلين منها:
تا درِ بيت الحرام از آتش بيگانه سوخت | *** | كعبه ويران شد، حريم از سوز صاحبخانه سوخت |
جوهرة القدس من الكنز الخفيّ | *** | بَدَت فأبدت عاليات الأحرفِ |
شمع بزم آفرينش با هزاران اشك و آه | *** | شد چنان، كز دودِ آهش سينه كاشانه سوخت |
آتشى در بيتِ معمورِ ولايت شعله زد | *** | تا أبد زان شعله، هر معمور و هر ويرانه سوخت۱ |
آه از آن پيمانشكن كز كينه خمّ غدير | *** | آتشى افروخت تا هم خمّ و هم پيمانه٢ سوخت |
ليلى حسن قِدَم، چون سوخت از سر تا قدم | *** | همچو مجنون، عقلِ رهبر را دل ديوانه سوخت |
گلشن فرّخ فر توحيد، آن دم شد تباه | *** | كز سُمُومِ شرك، آن شاخ گل فرزانه سوخت |
گنج علم و معرفت شد طعمة أفعى صفت | *** | تا كه از بيداد دونان گوهر يكدانه سوخت |
حاصل باغ نبوّت، رفت بر باد فنا | *** | خرمنى در آرزوى خامِ آب و دانه سوخت |
كَرْكَسِ دون، پنجه زد بر روى طاوس أزل | *** | عالمى از حسرت آن جلوة مستانه سوخت٣ |
آتشى آتش پرستى در جهان أفروخته | *** | خرمن إسلام و دين را تا قيامت سوخته |
سينهاى كز معرفت گنجينه اسرار بود | *** | كى سزاوار فشارِ آن در و ديوار بود؟ |
طور سيناى تجليّ، مشعلى از نور شد | *** | سينة سيناى وحدت، مشتعل از نار بود |
نالة بانو زد أندر خرمن هستى شَرَرْ | *** | گوئى اندر طور غم، چون نخل آتشبار بود |
آنكه كردى ماهِ تابان پيش او پهلو تهى | *** | از كجا پهلوى او را تاب آن آزار بود |
گردش گردون دون بين، كز جفاى سامرى | *** | نقطة پرگار وحدت، مركز مسمار بود۱ |
صورتش نيلى شد از سيلى، كه چون سيل سياه | *** | روى گيتى٢ زين مصيبت، تا قيامت تار بود |
شهريارى شد به بند بندهاى از بندگان | *** | آنكه جبريل أمينش بندة دربار بود |
از قفاى شاه، بانو با نواى جانگداز | *** | تا توانائى به تن تا قوّت رفتار بود |
گر چه بازو خسته شد، وز كار دستش بسته شد | *** | ليك پاى همّتش بر گنبد دوّار بود |
دست بانو گر چه از دامان شه كوتاه شد | *** | ليك برگردون بلند از دست آن گمراه شد۱ |
جاء في «مروج الذهب» ما نصّه: وَ لَمَّا قُبِضَتْ فَاطِمَةُ، جَزَعَ عَلَيْهَا بَعْلُهَا عَلِيّ جَزَعَاً شَدِيداً وَ اشْتَدَّ بُكَاؤهُ، وَ ظَهَرَ أنِينُهُ وَ حَنِينُهُ، وَ قَالَ في ذَلِكَ:
لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ خَليلَينِ فُرْقَةٌ | *** | وَ كُلُّ الذي دُونَ المَمَاتِ قَليلُ |
وَ إنَّ افْتِقَادِي فَاطِماً بَعْدَ أحْمَدِ | *** | دَلِيلٌ على أنْ لَا يَدُومَ خَلِيلُ٢ |
الدَّرْسُ الثَّانِي وَ الأرْبَعُونَ بَعْدَ المِائَةِ إلَى الثَّامِن وَ الأرْبَعِينَ بَعْدَ المِائَةِ: المقَامَاتُ وَ المَوَاطِنُ التي خاطَبَ فِيها رَسوُلُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ أمِيرَ المُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَدِيثِ المَنْزِلَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ۱.
جاء في تفسير «مجمع البيان»: المراد من عدم اتّباع سبيل المفسدين هو أن لا تسلك طريقة العاصين! و لا تكن عوناً للظالمين! و إنّما أراد بذلك إصلاح قومه؛ و إن كان المخاطب به أخاه٢.
استخلاف موسى أخاه هارون للإمامة
و لكن قال العلّامة الطباطبائيّ في تفسير «الميزان»: و هارون نبيّ مرسل معصوم لا تصدر عنه المعصية، و لا يتأتّى منه اتّباع أهل الفساد في دينهم، و موسى أعلم بحال أخيه؛ فليس مراده نهيه عن الكفر و المعصية؛ بل أن لا يتّبع في إدارة امور قومه ما يشير إليه و يستصوبه المفسدون من القوم أيّام خلافته ما دام موسى غائباً.
و الدليل على هذا المعنى قوله: وَ أصْلِحْ فإنّه يدلّ على أنّ المراد بقوله: وَ لَا تَتَّبِعْ سَبيلَ الْمُفْسِديِنَ أن يصلح أمرهم و لا يسير فيهم سيرة هي سبيل المفسدين التي يستحسنونها و يشيرون إليه بذلك.
و من هنا يتأيّد أنّه كان في قوم موسى يومئذٍ جمع من المفسدين يفسدون و يقلبون عليه الامور و يتربّصون به الدوائر؛ فنهى موسى أخاه أن يتّبع سبيلهم فيشوّشوا عليه الأمر و يكيدوا و يمكروا به، فيتفرّق جمع بني إسرائيل و يتشتّت شملهم بعد تلك المحن و المشاكل التي كابدها في إحياء كلمة الاتّحاد بينهم۱.
ثمّ قال صاحب «مجمع البيان» فيه: و إنّما أمر موسى عليه السلام أخاه هارون بأن يخلفه و ينوب عنه في قومه مع أنّ هارون كان نبيّاً مرسلًا، لأنّ الرئاسة كانت لموسى عليه و على امّته. و لم يكن يجوز أن يقول هارون لموسى مثل ذلك. و في هذا دلالة على أنّ منزلة الإمامة منفصلة عن النبوّة و غير داخلة فيها.
و إنّما اجتمع الأمران لأنبياء مخصوصين، لأنّ هارون لو كان له القيام بأمر الامّة من حيث كان نبيّاً، لما احتاج فيه إلى استخلاف موسى إيّاه و إقامته مقامه.
و نحن نجد عين هذا الاستخلاف و تنصيب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام خليفة من قبل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في حديث المنزلة، لأنّ قول النبيّ الأعظم: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي الذي قاله في مقامات و مواطن عديدة يدلّ على أنّ مرتبة أمير المؤمنين و مقامه و منزلته من رسول الله صلّى الله عليه و آله
و سلّم هي نفس ما كان لهارون من موسى. و تدلّ هذه المنزلة بنحو مطلق و عامّ على أنّ جميع المناصب و المقامات التي كانت لهارون هي لأمير المؤمنين أيضاً، كالوصاية، و الوزارة، و الخلافة، و المشاركة في أمر التبليغ، و الاضطلاع بحمل المهمّة الخطيرة، و مسؤوليّة حفظ الدين و الامّة و حراستهما.
إن المنصب الوحيد الذي استثني من مناصب هارون هو منصب النبوّة إذ ليس لأمير المؤمنين عليه السلام هذا المنصب، و لو لم تختم النبوّة بمحمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، لاستحقّها أمير المؤمنين بعده. و لكن لمّا كان صلّى الله عليه و آله خاتم النبيّين، فلهذا لم يكن لعليّ بن أبي طالب منصب النبوّة.
لقد استقصيت حديث المنزلة: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي فوجدت أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قاله في أربعة عشر موطناً لم يرتبط أحدهما بالآخر على ما يبدو. و أراد النبيّ في هذه المواطن العديدة أن يبيّن لجميع الامّة ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام الكلّيّة و منصبه في الخلافة و الإمامة بعده، كما أراد أن يبيّن مقامه الوزاريّ في جميع الامور، و هو لا يزال على قيد الحياة.
أمّا المقام و الموطن الأوّل۱ الذي قال فيه النبيّ هذا الحديث، فقد كان عند ما عزم صلّى الله عليه و آله و سلّم على التحرّك إلى غزوة تبوك، و استخلف أمير المؤمنين على المدينة ليقوم بشؤون أهلها طول غيبته.
و روى هذا الحديث مختلف الأشخاص من صحابة رسول الله، منهم سعد بن أبي وَقَّاص الذي قال له معاوية: لم لا تسبّ عليّ بن أبي طالب؟
فأجاب قائلًا: سمعت من رسول الله أشياء في عليّ بن أبي طالب، فلن أسبّه.
و روى علماء الشيعة و العامّة في كتب التواريخ و السير هذا الحديث عن سعد بأسناد مختلفة و مضامين متنوّعة؛ و لا نجد كتاباً في أحوال عليّ بن أبي طالب أو في ترجمة سعد إلّا و تحدّث فيه صاحبه عن لقاء معاوية سعداً، و روى فيه حديث المنزلة بشأن أمير المؤمنين.
اعتراض سعد بن أبي وقّاص على معاوية في دار الندوة
و روى المؤرّخ الشهير و المحدّث الأمين المسعوديّ عن أبي جعفر محمّد بن جرير الطبريّ، عن محمّد بن حميد الرازيّ، عن أبي مجاهد، عن محمّد بن إسحاق، عن أبي نجيح، قال: لمّا حجّ معاوية، طاف بالبيت و معه سعد (بن أبي وقّاص)؛ فلمّا فرغ، انصرف معاوية إلى دَارِ النَّدْوَةِ۱، فأجلسه معه على سريره؛ و وقع معاوية في عليّ، و شرع في سبّه.
فزحف سعد ثمّ قال: أجلستني معك على سريرك، ثمّ شرعتَ في سبّ على! و الله لان يكون في خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
و الله لئن أكون صهراً لرسول الله، و أنّ لي من الولد ما لعليّ أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
و الله لئن يكون رسول الله قال لي ما قاله يوم خيبر: لُاعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدَاً رَجُلًا يُحِبُّهُ اللهُ وَ رَسُولُهُ، وَ يُحِبُّ اللهَ وَ رَسُولَهُ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ يِفَتْحُ اللهُ على يَدَيْهِ. أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
و الله لئن يكون رسول الله قال لي ما قاله في غزوة تبوك: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي أحبّ إليّ من
أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
(قال سعد هذه الكلمات، و نهض، و قال لمعاوية): و أيم الله لا دخلتُ لك داراً ما بقيت!
و قال المسعوديّ بعد هذه الرواية: و وجدت في وجه آخر من الروايات -و ذلك في كتاب عليّ بن محمّد بن سليمان النوفليّ في الأخبار- عن ابن عائشة و غيره، أنّ سعداً لمّا قال هذه المقالة لمعاوية و نهض ليقوم، ضَرَطَ له معاوية، و قال له: اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت!
ما كنتَ عندي قطّ ألأم منك الآن، فهلّا نصرتَه؟ و لِمَ قعدتَ عن بيعته؟! فإنّي لو سمعتُ من النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم مثل الذي سمعتَ فيه، لكنتُ خادماً لعليّ ما عشت!
فقال سعد: و الله إنّي لأحقّ بموضعك منك!
فقال معاوية: يأبى عليك ذلك بنو عُذْرَة! و كان سعد فيما يقال رجلًا من بني عذرة. قال النوفليّ: و في ذلك يقول السيّد ابن محمّد الحِمْيَريّ:
سَائِلْ قُرَيْشاً بِهَا إنْ كُنْتَ ذَا عَمَةٍ | *** | مَنْ كَانَ أثْبَتَهَا في الدِّينِ أوْتَادَا |
مَنْ كَانَ أقْدَمَهَا سِلْمَاً وَ أكْثَرَهَا | *** | عِلْمَاً وَ أطْهَرَهَا أهْلًا وَ أوْلَادَا |
مَنْ وَحَّدَ اللهَ إذْ كَانَتْ مُكَذِّبَةً | *** | تَدْعُو مَعَ اللهِ أوْثَانَاً وَ أنْدَادَا |
مَنْ كَانَ يُقْدِمُ في الهَيْجَاءِ إنْ نَكَلُوا | *** | عَنْهَا وَ إنْ بَخِلُوا في أزْمَةٍ جَادَا |
مَنْ كَانَ أعْدَلَهَا حُكْمَاً وَ أقْسَطَهَا | *** | حِلْمَاً وَ أصْدَقَهَا وَعْدَاً وَ إيعَادَا |
إنْ يَصْدُقُوكَ فَلَمْ يَعْدُو أبَا حَسَنٍ | *** | إنْ أنْتَ لَمْ تَلْقَ لِلأبْرَارِ حُسَّادَا |
إنْ أنْتَ لَمْ تَلْقَ مِنْ تَيْمٍ أخَا صَلَفٍ | *** | وَ مِنْ عَدِيّ لِحَقِّ اللهِ جُحَّادَا |
أوْ مِنْ بَنِي عَامِرٍ أوْ مِنْ بَني أسَدٍ | *** | رَهْطِ العَبِيدِ ذَوِي جَهْلٍ وَ أوْغَادَا |
أوْ رَهْطِ سَعْدٍ وَ سَعْدٌ كَانَ قَدْ عَلِمُوا | *** | عَنْ مُسْتَقِيمِ صِرَاطِ اللهِ صَدَّادَا |
قَوْمٌ تَدَاعَوا زَنِيمَاً ثمَّ سَادَهُمُ | *** | لَوْ لا خُمُولُ بَنِي زُهْرٍ لَمَا سَادَا۱ |
يمدح السيّد الحِمْيَريّ أمير المؤمنين عليه السلام في هذه القصيدة، و يعرّض و يذمّ الذين توقّفوا عن بيعته، و قعدوا عن نصرته٢.
إذَا أتَى مَعْشَرَاً يَوْمَاً أنَامَهم | *** | إنَامَةَ الرِّيحِ في تَدْمِيرِهَا عَادَا |
الأصحاب الذين لم يبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام
و من الذين لم يبايعوا الإمام عليه السلام في خلافته الظاهريّة بعد مقتل عثمان: سَعْد بن أبي وقَّاص. و أجمعت كتب التأريخ و السِّيَر على أنّ سعداً لم يبايع الأمام.
و ورد في «سفينة البحار» في مادّة رَبَعَ عند ترجمة رَبيع بن خُثَيْم، نقلًا عن تلميذ المجلسيّ رضوان الله عليه: و هو الفاضل الخبير الميرزا عبد الله الأصفهانيّ الأفنديّ في كتاب «رياض العلماء» أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الذين تخلّفوا عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام كانوا سبعة، و هم: عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَر، صُهَيْبُ الرُّومِيّ غُلَامُ عُمَر، مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَة، سَعْدُ بنُ أبي وَقَّاص، سَعِيدُ بْنُ مَالِك، اسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، و سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَة. و من التابعين ثلاثة هم: رَبِيعُ بْنُ خُثَيم، مَسْروقُ بْنُ أجْدَع، وَ أسْوَدُ بْنُ زَيْدٍ۱.
كان سعد بن أبي وقّاص من المتخلفين عن بيعة أمير المؤمنين
و قال المسعوديّ في «مروج الذهب»: و قعد عن بيعته جماعة عثمانيّة لم يروا إلّا الخروج عن الأمر. منهم سعد بن أبي وقّاص، و عبد الله بن عُمَر، و بايع يزيد [بن معاوية] بعد ذلك، (ثمّ بايع) عبد الملك بن مروان؛ و منهم: قدامة بن مظعون، و أهْيَان بن صَيْفِي، و عبد الله بن سَلَام، و المُغِيرَة بن شُعْبَة الثَّقَفيّ. و ممّن اعتزل من الأنصار: كَعْب بن مَالِك، وَ حَسَّان بن ثَابِت، و كانا شاعرين، و أبو سَعِيد الخُدْرِيّ، و محمّد بن مُسْلَمَة حليف بني عبد الأشهل، [و يزيد بن ثابت، و رافع بن خُدَيْج، و النُّعْمان بن بشير۱] وَ فَضَالَة بن عُبَيْد، وَ كَعْب بن عُجْرَة، وَ مُسْلَمَة بن خَالِد في آخرين لم نذكرهم من العثمانيّة من الأنصار و غيرهم من بني اميّة و سواهم٢.
و أشار ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» طبعة بيروت ۱٣۸٥، ج ٣، ص ۱٩۱ إلى أنّه لمّا قتل عثمان، بايع جميع المهاجرين و الأنصار
أمير المؤمنين عليه السلام. و تخلّف عن البيعة من المهاجرين سعد بن أبي وقّاص، و ابن عمر، و من الأنصار، حسّان بن ثابت، و كعب بن مالك، و مَسلَمَة بن مخلَّد. و أبو سعيد الخُدريّ، و محمّد بن مَسْلَمَة، و النعمان بن بشير، و زيد بن ثابت، و رافع بن خديج، و فضالة بن عُبَيْد، و كعب بن عُجْرَة، و تخلّف عن بيعته أيضاً عبد الله بن سلام، و صُهَيب بن سنان، و سَلَمة بن سلامة بن وَقْش، و اسامة بن زيد، و قدامة بن مظعون، و المغيرة بن شعبة.
و لكن قال ابن سعد في طبقاته ج ٣، ص ٣۱: لمّا قتل عثمان و بويع لعليّ بن أبي طالب بالمدينة الغد من يوم قتل عثمان، بايعه جميع من كان في المدينة، و منهم طلحة، و الزبير، و سعد بن أبي وقّاص، و سعيد بن زيد بن عَمْرو بن نُفَيْل، و عمّار بن ياسر، و اسامة بن زيد، و سهل بن حُنَيف، و أبو أيّوب الأنصاريّ، و محمّد بن مَسلَمة، و زيد بن ثابت، و خزيمة بن ثابت، و جميع أهل المدينة. ثمّ ذكر طلحة و الزبير أنّهما بايعا كارهين غير طائعين. و خرجا إلى مكّة و بها عائشة. ثمّ خرجا من مكّة و معهما عائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان.
و كان سعد بن أبي وقّاص أحد السابقين إلى الإسلام، و هو سابع من أسلم۱. و شهد بدراً، و احداً، و الخندق، و المشاهد كلّها مع رسول الله. و أبلى يوم احد بلاءً عظيماً؛ و أنّه أوّل من أراق دماً في سبيل الله؛ و أوّل من رمى بسهم في سبيل الله. و قال العامّة: هو من سادات الصحابة، و من العشرة المبشّرة، و أحد الذين شهد لهم النبيّ بالجنّة؛ و أحد الستّة أصحاب الشورى الذين أخبر عمر بن الخطّاب أنّ رسول الله توفّي، و هو عنهم
راضٍ۱.
و لكنّه مع ذلك كانت له رغبة في الخلافة يوم الشورى. ثمّ انحاز إلى عثمان قوميّاً على الرغم من احتجاجات مولى الموالى أمير المؤمنين عليه السلام و استشهاده بالنصوص الكثيرة الواضحة الماثورة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في حقّانيّته و تعيّن ولايته و إمامته و خلافته. و صوّت لمصلحة عثمان؛ و لم يبايع أمير المؤمنين عليه السلام بعد عثمان، و اعتزل و لم ينصره في الجمل و صفيّن، و النهروان.
يقول المسعوديّ: و كان سعد، و اسامة بن زيد، و عبد الله بن عمر، و محمّد بن مسلمة ممّن قعد عن عليّ بن أبي طالب [عليه السلام]، و أبَوا أن يبايعوه هم و غيرهم ممّن ذكرنا من القعّاد عن بيعته، و ذلك أنّهم قالوا: إنّها فتنة.
و منهم من قال لعليّ: أعْطِنَا سُيُوفَاً نُقَاتِلُ بِهَا مَعَكَ! فَإذَا ضَرَبْنَا بِهَا المُؤْمِنِينَ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِمْ، وَ بَنَتْ عَنْ أجْسَادِهِمْ؛ وَ إذَا ضَرَبْنَا بِهَا الكَافِرِينَ سَرَتْ في أبْدَانِهِمْ! فَأعْرَضَ عَنْهُمْ عَلِيّ وَ قَالَ: «وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ»٢.
إن قائل هذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السلام هو سعد بن أبي وقّاص، و يريد منه أنّ المسلمين و المؤمنين قد اختلطوا، و أنّ جنود الإمام، و جنود الجبهة المقابلة كلّهم مسلمون. و أنّه لا يستطيع أن يقاتل إلى جانب الإمام مؤازراً له، فيقتل أعداءه! و زعم أنّه يقاتل الكافرين لا المسلمين من أمثال طلحة، و الزبير، و عائشة، و أصحاب معاوية بن أبي سفيان، فهؤلاء
جميعاً مسلمون، و لا يصحّ قتل المسلم!
و ذكر كبار المؤرّخين أنّ سعد بن أبي وقّاص هو الذي تفوّه بذلك الكلام. و من هؤلاء المؤرّخين ابن سعد في طبقاته، فقد روى بسنده عن أيّوب بن محمّد أنّه قال: نُبِّئتُ أنّ سعداً كان يقول: ما أزعم أنّي بقميصي هذا أحقّ منّي بالخلافة قد جاهدت إذ أنا أعرف الجهاد. وَ لَا أبْخَعُ نَفْسِي إنْ كَانَ رَجُلٌ خَيْرَاً مِنِّي؛ لَا اقَاتِلُ حتّى تَأتُونِي بِسَيْفٍ لَهُ عَيْنَانِ وَ لِسَانٌ وَ شَفَتَانِ فَيَقُولُ: هَذَا مُؤْمِنٌ وَ هَذَا كَافِرٌ۱.
و روى ابن سعد أيضاً بسنده عن يحيى بن الحُصين [أنّه] قال: سمعت الحيّ [كانوا] يتحدّثون أنّ أبي قال لسعد: ما يَمْنَعُك من القتال؟!
قال (سعد): حتّى تجيئوني بسيف يَعْرِفُ المؤمنَ من الكافر٢.
و قال ابن عبد البرّ: و رامه ابنه عمر بن سعد أن يدعو لنفسه بعد قتل عثمان، فأبى. و كذلك رامَه أيضاً ابن أخيه هاشم بن عتبة، فلمّا أبى عليه، صار هاشم إلى عليّ [بن أبي طالب].
و كان سعد ممّن قعد و لزم بيته في الفتنة [في ثورة المصريّين و قتل عثمان]. و أمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشيء، حتّى تجتمع الامّة على إمام.
فطمع معاوية فيه، و في عبد الله بن عمر، و محمّد بن مسلمة. فكتب إليهم يدعوهم إلى عونه على الطلب بدم عثمان. و يقول لهم: إنّ قاتله و خاذله سواء. (و إنّهم لمّا لم ينصروا عثمان، فهم بحكم قاتليه. و كفّارة جرمهم -بزعمه- أن ينهضوا لنصرته (معاوية) على عليّ بن أبي طالب).
و في نثر و نظم كتب [معاوية] به اليهم، و [قد] تركتُ ذكره. فأجابه كلّ واحد منهم بردّ عليه ما جاء به من ذلك و ينكر مقالته، و يعرّفه بأنّه ليس بأهل لما يطلبه؛ و أنّ في جواب سعد بن أبي وقّاص قال:
مُعَاوِيَ دَاؤُكَ الدَّاءُ العَيَاءُ | *** | وَ لَيْسَ لِمَا تَجيءُ بِهِ دَوَاءُ |
أ يَدْعُونِي أبُو حَسَنٍ عَلِيّ | *** | فَلَمْ أرْدُدْ عَلَيْهِ مَا يَشَاءُ |
وَ قُلْتُ لَهُ أعْطِنِي سَيْفَاً بَصِيراً | *** | تَمِيزُ بِهِ العَدَاوَةُ وَ الوَلَاءُ |
فَإنَّ الشَرَّ أصْغَرَهُ كَبِيرٌ | *** | وَ إنَّ الظَّهْرَ تُثْقِلُهُ الدِّمَاءُ |
أ تَطْمَعُ في الذي أعْيَا عَلِيَّاً | *** | على مَا قَدْ طَمِعْتَ بِهِ العَفَاءُ |
لَيَوْمٌ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْكَ حَيَّاً | *** | وَ مَيْتَاً أنْتَ لِلْمَرْءِ الفِدَاءُ |
فَأمَّا أمْرُ عُثْمَانٍ فَدَعْهُ | *** | فَإنَّ الرَّأيَ أذْهَبَهُ البَلَاءُ۱ |
و قال ابن عبد البرّ أيضاً: قال أبو عمر: سُئِلَ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ الَّذِينَ قَعَدُوا عَنْ بَيْعَتِهِ وَ نُصْرَتِهِ وَ القِيَامِ مَعَهُ. فَقَالَ: اولَئِكَ قَوْمٌ خَذَلُوا الحَقَّ وَ لَمْ يَنْصُرُوا البَاطِلَ٢.
و قال أيضاً: بويع لعليّ عليه السلام بالخلافة يوم قتل عثمان؛ و اجتمع على بيعته المهاجرون و الأنصار؛ و تخلّف عن بيعته منهم نفر.
فلم يَهِجْهُم، و لم يكرههم، و سئل عنهم، فقال:
اولَئِكَ قَوْمٌ قَعَدُوا عَنِ الحَقِّ؛ وَ لَمْ يَقُومُوا مَعَ البَاطِلِ٣.
و قال المامقانيّ: قال الكَشيّ: وجدت في كتاب أبي عبد الله الشاذانيّ أنّه كان يقول: حدّثني جعفر بن محمّد المدائنيّ، عن موسى بن قاسم
العِجليّ، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام، عن آبائه، قال:
كَتَبَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى وَالِي المَدِينَةِ: لَا تُعْطِيَنَّ سَعْداً وَ لَا ابْنَ عُمَرَ مِنَ الفَيْءِ شَيْئاً! فَأمَّا اسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَإنِّي قَدْ عَذَرْتُهُ في اليَميِنِ التي كَانَتْ عَلَيْهِ۱
عذر سعد بن أبي وقّاص عن عدم بيعته أمير المؤمنين مرفوض
أجل، هذا موقف سعد بن أبي وقّاص، إذ أدّى به إلى الانعزال و سوء الفهم مع سوابقه المشرقة في الإسلام. و مُنيَ بالعجب و الغرور نتيجة للمكانة التي جعلها له عامّة الناس على أساس كلام رسول الله: اللَهُمَّ سَدِّدْ رَمْيَتَهُ، وَ أجِبْ دَعْوَتَهُ٢! و وجد نفسه في مقام تعذّر معه التنازل لأمير المؤمنين، و الانضواء تحت رايته. و تحوّل من التهوّر و الشجاعة النفسانيّة إلى الجبن و الوضاعة، و أسكن نفسه و أخلى وِفاضه بشبهة واهية تتمثّل في أنّ المؤمنين لا يقتتلون و أنّه ليس عنده سيف يميّز المؤمن عن الكافر.
لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام خليفة واجب الإطاعة وفقاً لبيعة المسلمين إيّاه، مضافاً إلى النصوص النبويّة الماثورة الدالّة على خلافته الحقّة و ولايته و إمارته الإلهيّة، و الجاعلة أوامره كأوامر الله و رسوله، و القاضية بوجوب طاعة أوامره و أحكامه في الحرب و السلم، في ضوء قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ٣. و كان على الإمام بحكم القرآن الكريم أن يعاقب كلّ مسلم معتد باغ
لا يبايع و لا يقرّ بالولاية، و ينوي إراقة الدماء و الفساد في الأرض، و إن كان مسلماً، أو كان عدد البغاة بالآلاف.
أ لم يقرأ سعد بن أبي وقّاص هذه الآية في القرآن الكريم، ليعلم أنّ سيف عليّ هو سيف الحقّ، و هو الفارق بين الحقّ و الباطل و المؤمن و الكافر؟
وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ۱.
على ضوء هذه الآية، يحقّ لأمير المؤمنين أن يقاتل البغاة المتمرّدين الذين لا يستسلمون للحقّ و لا يتّبعونه كمعاوية، و أصحاب الجمل، و النهروان، بعد الخطب و الرسائل و إتمام الحجج. و يقف بوجه الفساد، و ينقذ الحكومة المركزيّة من التفرقة، و يقمع المعتدين و أتباعهم، و يقرّ حكومة واحدة للُامّة الإسلاميّة في أرجاء الوطن الإسلاميّ، كما كان ذلك في عهد النبيّ.
إن سعد بن أبي وقّاص مدان في احتجاجه بحكم هذه الآية. و ليس من حقّه أن ينسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام القتال خبط عشواء بلا مراعاة للإيمان و الكفر. و على ضوء هذه الآية القرآنيّة، يجب قتل المسلم المعتدي الذي لا يستسلم للحقّ. و أنّ قيمة الإنسان بشرف تسليمه و اتّباعه الحقّ، لا بإسلامه الظاهريّ. و للكافر المستعدّ لاتّباع الحقّ ميزة على المسلم الذي ليس كذلك. و يسمّى الإسلام إسلاماً بسبب التسليم للحقّ و الابتعاد عن الباطل.
إن سعداً الذي كان أحد السابقين إلى الإسلام، و أحد المهاجرين، و كاتب النبيّ الذي كتب كتابه إلى يهود خيبر۱، و الذي كان أكبر من عليّ بن أبي طالب عليه السلام سنّاً٢، و أحد أعضاء الشورى، لا ينبغي له أن يغتّر و يقول: أنا كذا و كذا، و لا يحضر في جيش عليّ. و هذا ليس احتياطاً، بل هو خدعة نفسانيّة تظهر على شكل انعزال؛ و هو مكيدة شيطانيّة تظهر بطابع التنسّك، و التظاهر بالصلاح، و المبيت في مسجد.
و ذلك سعد الذي كان يعرف عليّاً جيّداً، و كان مطّلعاً على سوابقه. و روى بعض الأحاديث في مدحه و فضله. فلا يحقّ له أن يقف بوجهه. أنّه على خطأ.
جواب أمير المؤمنين لسعد بن أبي وقّاص حول شهادة الإمام الحسين
روى المجلسيّ رضوان الله عليه عن «الأمالي» للصدوق بسنده عن
الأصبغ بن نباته، قال:
بَيْنَا أمير المؤمنين عَلَيهِ السَّلَامُ يَخْطُبُ النَّاسَ وَ هُوَ يَقُولُ: سَلُونِي قَبْلَ أن تَفْقِدُونِي! فَوَ اللهِ لَا تَسْألُونِي عَنْ شَيءٍ مَضَى وَ لَا عَنْ شَيءٍ يَكُونُ إلَّا نَبَّأتُكُمْ بِهِ.
فَقَامَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ أبي وَقَّاصٍ فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين! أخْبِرْنِي كَمْ في رَأسِي وَ لِحْيَتِي مِنْ شَعْرَةٍ؟!
فَقَالَ لَهُ: أمَا وَ اللهِ لَقَدْ سَألْتَنِي عَنْ مَسْألَةٍ حَدَّثَنِي خَلِيلِي رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ و آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنَكَ سَتَسْألُنِي عَنْهَا! وَ مَا في رَأسِكَ وَ لِحْيَتِكَ مِنْ شَعْرَةٍ إلَّا وَ في أصْلِهَا شَيْطأنٌ جالِسٌ! فَإنَّ في بَيْتِكَ لَسَخْلًا۱ يَقْتُلُ الحُسَيْنَ ابْنِي! وَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ يَوْمَئذٍ يَدْرُجُ بَيْنَ يَدَيْهِ٢.
أجل، أعرض سعد عن بيعة الإمام و نصرته و الانضواء تحت رايته، و مُني بطمع معاوية. و امتنع عبد الله بن عمر المتنسّك المتعنّت ذو الافق الضيّق من بيعة الإمام. و بايع يزيد بن معاوية، و عبد الملك بن مروان.
هر كه گريزد ز خراجات شاه | *** | باركش غول بيابان شود۱ |
و كان معاوية بن أبي سفيان يتوقّعه أن يسبّ عليّاً، فيؤاخذ على ذلك.
و كيف يسبّ سعد عليّاً مع سوابقه و معرفته بسوابق رفيقه صاحب الولاية، و الحائز على العلم و الفقه و القرآن و القضاء: أمير المؤمنين عليه السلام ذي السوابق عديمة المثيل. و مع معرفته بسوابق معاوية المشرك و أبيه أبي سفيان رأس الفساد و مجيّش الجيوش على الإسلام، و منبع الخيانة و الجناية، و عفريت النفاق و الازدواجيّة إذ أسلما في فتح مكّة في السنة الثامنة من الهجرة مكرهين مضطرّين؟!
فلهذا كان سعد يعيش في قصره بالعقيق على بعد عشرة أميال عن المدينة مستعليا يرقب الأوضاع مع ما واجه به معاوية من موقف حادّ، و مع سكوته عن جواب معاوية المكّار الغدّار، و مشاهدة الثورة و تشويش الأوضاع بعد استشهاد الإمام المظلوم أمير المؤمنين عليه السلام الذي لم يترك شيئاً بعد استشهاده٢، و مع استبانة مظلوميّته و صيحاته و خطبه التي
ظلّت بلا جواب.
و لمّا رأى معاوية أنّه لا يستطيع أخذ البيعة لابنه يزيد مع وجود سعد بن أبي وقّاص، و مكانته عند الناس، لهذا قتله بالسم مع سبط رسول الله الحسن المجتبى عليه السلام.
ذكر أبو الفرج الأصفهانيّ بسنده المتّصل أنّ معاوية لمّا أراد البيعة لابنه يزيد، وضع سمّاً في طعام خفية، و أطعمه الإمام الحسن عليه السلام و سعداً، فماتا منه و بين موتهما أيّام۱.
و روى بسنده الآخر أيضاً أنّه لمّا فرغ الإمام الحسن عليه السلام من خطبته، انصرف إلى المدينة فأقام بها و أراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل من أمر الحسن بن عليّ و سعد بن أبي وقّاص، فدسّ إليهما سمّاً، فماتا منه٢.
حديث ابن أبي وقّاص في فضائل أمير المؤمنين أواخر أيّام عمر
و كان سعد في الأيّام الأخيرة من حياته ينقل فضائل أمير المؤمنين عليه السلام و يحدّث بمزاياه التي اختصّ بها، و كان قد سمعها من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و لكن ما جدوى ذلك و قد سبق السيف العَذَل إذ فُلقت هامة عليّ عليه السلام في محراب العبادة، و أنشب معاوية مخالبه الدمويّة في أقصى أرجاء البلاد، و ابيحت مكّة قتلًا و سلباً إذ أغار عليها بُسْر بن أرْطَاة، و ذبح هذا المتوحّش وَ لَدَي عبيد الله بن العبّاس. و عُدّ سبّ
عليّ و لعنه و شتمه على المنابر من الواجبات في خطبة الجمعة و العيدين في أنحاء العالم الإسلاميّ. و ما هو تأثير عدّ ابن أبي وقّاص مناقب عليّ لأبنائه و بنته۱، أو لرجلين عراقيّين٢؟
لقد تركتَ عليّاً وحده عند ما كانت السلطة ليست بيد معاوية! و خذلته و لم تنصره! و جعلته يواجه جمّاً غفيراً من المناوئين و الأعداء و طلّاب الدنيا! و الآن إذ بلغ السيل الزُّبى و تفرّق عنه جيشه، و خذله أصحابه، و أرغموا وصيّه الحسن المجتبى على بيعة طاغي زمانه بعد ما تركوه وحده بلا ناصر و لا معين، أنت جالس في قصرك بالعقيق تحدّث بمناقب عليّ! ما جدوى ذلك؟ حدّث و تكلّم بها، لكن ما نفعها و فائدتها؟ و اجلس في بيتك و اعبد، لكن أي عبادة هي؟!
و رحم الله آية الله السيّد محمود الشاهروديّ و تغمّده برضوانه، كان أحد أساتذتيّ في الفقه بالنجف الأشرف، و سمعته يقول أثناء الدرس على المنبر: ثلاثة يصيرون من أهل التنسّك الجافّ و العبادات الشكليّة الفاقدة لمعناها، وهم: ۱ طالب العلوم الدينيّة الكسول. ٢ التاجر المفلس. ٣ الحاكم المعزول.
و كان عبد الله بن عمر أيضاً يتحسّر و يتأوّه في آخر عمره على عدم نصرته أمير المؤمنين عليه السلام في قتاله الفِئَة البَاغِيَة (معاوية و من كان معه).
قال ابن عبد البرّ: روي بطرق مختلفة عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر أنَّهُ قَالَ: مَا آسى على شَيءٍ إلَّا أنِّي لَمْ اقَاتِلْ مَعَ عَلِيّ الفِئَةَ البَاغِيَةَ۱.
و روى الدارقطنيّ أيضاً في «المؤتَلَف و المختَلَف» بسنده عن ابن عمر قال:
مَا آسى على شَيءٍ إلَّا عَلَى ألَّا أكُونَ قَاتَلْتُ الفِئَةَ البَاغِيَةَ على صَوْمِ الهَوَاجِرِ٢.
و روى بسند آخر عنه أيضاً، قال: مَا أجِدُنِي آسى على شَيءٍ فَاتَنِي مِنَ الدُّنْيَا إلَّا أنِّي لَمْ اقَاتِلِ الفِئَةَ البَاغِيَةَ مَعَ عَلِيّ٣.
و روى بسند آخر عنه عند موته أنّه قال: مَا أجِدُ في نَفْسِي مِنْ أمْرِ الدُّنْيَا شَيْئاً، إلَّا أنِّى لَمْ اقَاتِلِ الفِئَةَ البَاغِيَةَ مَعَ عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ٤.
و نقل بسند آخر أيضاً قوله: مَا آسي على شَيءٍ إلَّا تَرْكِي قِتَالَ الفِئَةِ
البَاغِيَةِ مَعَ عَلِيٍ۱.
و مضمون هذه الروايات و مفادها أنّه لم يأسف و يأسَ على شيء فاته من الدنيا إلّا قتال الفئة الباغية مع عليّ بن أبي طالب. بَيْدَ أنّ هذا الرجل يجلس تحت منبر الحجّاج بن يوسف الثقفيّ ليسمع خطبته و يبايع عبد الملك بن مروان. ثمّ يقتل على يد الحجّاج٢.
لقاء سعد بمعاوية، و بيان حديث المنزلة
و نقل الشيخ الطوسيّ لقاء معاوية سعداً بالمدينة. فقد روى في أماليه بسنده عن عِكْرَمَة صاحب ابن عبّاس قال: لمّا حجّ معاوية، نزل المدينة فاستؤذن لسعد بن أبي وقّاص عليه. فقال لجلسائه: إذا أذنت لسعد و جلس، فخذوا من عليّ بن أبي طالب.
فأذن له [و دخل سعد] و جلس مع معاوية على السرير. و شتم القوم أمير المؤمنين عليه السلام. فانسكبت عينا سعدٍ بالبكاء.
فقال له معاوية: ما يبكيك يا سعد؟! أ تبكي إن شتم قاتل أخيك عثمان بن عفّان؟!
قال [سعد]: و الله ما أملك البكاء؛ خرجنا من مكّة مهاجرين حتّى نزلنا هذا المسجد يعني مسجد رسول الله؛ فكان فيه مبيتنا و مقيلنا إذ اخرجنا منه و تُرك عليّ بن أبي طالب فيه فاشتدّ ذلك علينا و هُبنا نبيّ الله أن نذكر ذلك. [فلهذا] أتينا عائشة فقلنا: يَا امَّ المُؤْمِنِينَ! إنّ لنا صحبة مثل عليّ، و هجرة مثل هجرة عليّ! و إنّا قد اخرجنا من المسجد و تُرك فيه فلا يُدرى من سخط من الله أو من غضب من رسوله؟! فاذكري ذلك لرسول الله!
[قالت عائشة]: فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فقال لها: يَا عائِشَةُ! لَا وَ اللهِ مَا أنَا أخْرَجْتُهُمْ وَ لَا أنَا أسْكَنْتُهُ، بَلِ اللهُ أخْرَجَهُمْ وَ أسْكَنَهُ۱!
و غزونا خيبر فانهزم عنها ما انهزم؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: لُاعطِيَّنَ الرَّايَةَ اليَوْمَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ يُحِبُّهُ اللهُ وَ رَسُولُهُ.
فدعاه [رسول الله] و هو أرمد فتفل في عينه و أعطاه الراية ففتح الله له.
و غزونا تبوك مع رسول الله فودّع عليّ النبيّ في ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ و بكى. فقال له النبيّ: ما يبكيك؟!
فقال: كيف لا أبكي و لم أتخلّف عنك في غزاة منذ بعثك الله! فما بالك تخلفني في هذه الغزاة؟!
فقال له الرسول: أ مَا تَرْضَى يَا عَلِيّ أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟! قَالَ عَلِيّ: بَلَى رَضيِتُ۱!
و قال ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»: ذكر أبو أحمد العسكريّ في كتاب «الأمالى» أنّ سعد بن أبي وقّاص دخل على معاوية عام الجماعة فلم يسلّم عليه بإمرة المؤمنين.
فقال له معاوية: لو شئت أن تقول في سلامك غير هذا لقلت!
فقال سعد: نحن المؤمنون و لم نؤمّرك كأنّك بَهَجْتَها أنّك فيها
يا معاوية! و الله ما يسرّني ما أنت فيه و إنّي هرقت محجمة دم!
قال [معاوية]: لكنّي و ابن عمّك عليّاً يا أبا إسحاق قد هرقنا أكثر من محجمة و محجمتين! هلمّ و اجلس معي على السرير!
فجلس سعد معه، فذكر له معاوية اعتزاله الحرب يعاتبه!
فقال سعد: إنّما كان مثلي و مثل الناس كيوم أصابتهم ظلمة، فقال واحد منهم لبعيره: إخْ. فأناخ حتّى أضاء له الطريق!
فقال معاوية: يا أبا إسحاق! ما في كتاب الله إخ. و إنّما فيه:
وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ۱.
فو الله ما قاتلت [الفئة] الباغية و لا المبغي عليها؛ فأفحمه.
حديث المنزلة عند تحرّك رسول الله إلى غزوة تبوك
و زاد ابن ديزيل في [كتاب] «الحنّ» زيادة ذكرها في «كتاب صفّين» قال: فقال سعد بن أبي وقّاص: أ تأمرني أن اقاتل رجلًا قال له رسول الله: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي٢؟!
فقال معاوية: من سمع هذا معك؟! قال سعد: فلان و فلان و امّ سلمة! قال معاوية: لو كنت سمعت هذا لما قاتلته۱.
و قال ابن ديزيل: حدّثني جَعْفر بن مَكِّي، قال: سألت محمّد بن سليمان بن سلمس صاحب الحجاب، و قد رأيت أنا محمّداً هذا و كانت لي به معرفة غير مستحكمة و كان ظريفاً أديباً، و قد اشتمل في الرياضيّات و الفلسفة، و لم يكن يتعصّب لمذهب بعينه. قال جعفر: سألته عمّا عنده في أمر عليّ و عثمان. فقال: هذه عدواة قديمة النسب بين بني شمس و بين بني
هاشم. و قد كان حَرْبُ بْنُ امَيَّة نافر عَبْدَ المُطَّلِبِ بْنَ هَاشِمْ. و كان أبُو سُفْيَانُ يحسد مُحَمَّدَاً و حاربه. و لم يزل البيتان متباغضين. ثمّ ساق حديثاً طويلًا إلى أن قال ما قاله رسول الله في عليّ مثل حديث خَاصِفِ النَّعْلِ۱، و حديث مَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، و حديث مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ و حديث هَذَا يَعْسُوبُ الدِّينِ و حديث لَا فَتَى إلَّا عَلِيّ، و حديث أحَبُّ خَلْقِكَ إلَيْكَ. و ما جرى هذا المجرى في الدلالة على أفضليّة عليّ و مقامه٢.
و نقل السيّد هاشم البحرانيّ في «غاية المرام» أحد عشر حديثاً عن «مسند أحمد بن حنبل»٣، و ثلاثة أحاديث عن «صحيح البخاريّ»٤، و سبعة أحاديث عن «صحيح مسلم»٥ حول حديث سعد بن أبي وقّاص
و غيره، و حول حديث المنزلة عند تحرّك رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى غزوة تبوك، أو بنحو مطلق.
و كذلك روي عن كتاب «الجمع بين الصحاح الستّة» لرزين، في الثلث الأخير من الجزء الثالث في باب مناقب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، عن «صحيح أبي داود» و «صحيح الترمذيّ»، عن أبي سريحة، و زيد بن أرقم أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. و روي عن سعد بن أبي وقّاص أنّه قال: قال رسول الله: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدَي. و قال سعيد بن المسيّب: أخبرني بهذا عامر بن سعد، عن أبيه، فأحببت أن أشافه به سعداً، فلقيته، فقلت: أنت سمعت هذا من رسول الله؟! فوضع سعد إصبعه في اذُنيه، فقال: نعم و إلّا فاستكّتا۱.
و روى في «غاية المرام» أيضاً عن ابن المغازليّ في مناقبه ثلاثة و عشرين حديثاً عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، و عن إبراهيم بن سعد، و عن عائشة بنت سعد، و عن سعيد بن المُسَيِّب، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ، و عن أنس بن مالك، و عن ابن عبّاس، و عن سعيد بن المسيّب، عن سعد، و عن عبد الله بن مسعود، و عن معاوية، و عن عمر بن الخطّاب. كلّها في حديث المنزلة عند الخروج إلى غزوة تبوك، و بنحو مطلق٢. منها ما رواه
عن سعيد بن المسيّب، عن سعد بن أبي وقّاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لعليّ: أقِمْ بِالمَديِنَةِ! قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّكَ مَا خَرَجْتَ في غَزَاةٍ فَخَلَفْتَنِي! فَقَالَ النَّبِيّ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لِعَلِيّ: إنَّ المَدِينَةَ لَا تَصْلَحُ إلَّا بي أوْ بِكَ! وَ أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!
قال سعيد: فقلت لسعد بن أبي وقّاص: أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم؟! قال: نعم! لا مرّة و لا مرّتين يقول ذلك لعليّ عليه السلام۱.
رواية عمر حول حديث المنزلة
و ذكر صاحب «الأربعين عن الأربعين» في حديثه الثاني بسنده المتّصل عن إبراهيم بن سعيد الجوهريّ وصيّ المأمون، عن المأمون بن الرشيد، عن المهدي، عن المنصور، عن أبيه، عن ابن عبّاس، قال:
سمعت عمر بن الخطّاب؛ و عنده جماعة، فتذاكروا المنافقين في الإسلام يقول: أمَّا عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ فسمعت رسول الله يقول فيه ثلاث خصال لوددتُ أنّ لي واحدة منهنّ، و كان أحبّ إليّ من الدنيا و ما فيها. كنت أنا، و أبو بكر، و أبو عبيدة و جماعة من الصحابة إذ ضرب النبيّ بيده على منكب عليّ، فقال: يَا عَلِيّ! أنْتَ أوَّلُ المُؤْمِنِينَ إيمَانَاً؛ وَ أوَّلُ المُسْلِمينَ إسْلَامَاً؛ وَ أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَي٢.
و روى عبد الله بن أحمد بن حَنْبَل عن مسند أبيه أحمد بن حَنْبَل بسنده، قال: ذُكر عليّ عند رجل و عنده سعد بن أبي وقّاص. فقال سعد: أتذكر عليّاً؟!
إنَّ لَهُ مَنَاقِبَ أرْبَعَ لأنْ تَكُونَ لي وَاحِدَةٌ أحَبُّ إلَيّ مِنْ كَذَا وَ كَذَا، وَ ذَكَرَ حُمْرَ النَّعَم: قَوْلُهُ: لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ؛ وَ قَوْلُهُ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى؛ وَ قَوْلُهُ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. وَ نَسِيَ سُفْيَانُ وَاحِدَةٌ۱.
سبب استخلاف أمير المؤمنين في غزوة تبوك على المدينة
و روى أحمد بن حنبل بسنده في مسنده عن ابن عبّاس، قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و خرج الناس في غزاة تبوك؛ فقال عليّ عليه السلام: أخرج معك يا رسول الله؟!
فقال له النبيّ صلوات الله عليه: لا! فبكى عليّ.
فَقَالَ لَهُ: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، إنَّهُ لَا يَنْبَغِي أنْ أذْهَبَ إلَّا وَ أنْتَ خَلِيفَتِي٢!
و روى ابن المغازليّ بإسناده، قال: لمّا خرج رسول الله إلى غزاة تبوك، خلف عليّ بن أبي طالب على أهله، و أمره بالإقامة فيهم.
فأرجف المنافقون، و قالوا: ما أخلفه إلّا استثقالًا، أو تخفيفاً منه. فلمّا قال ذلك المنافقون، أخذ عليّ بن أبي طالب عليه السلام سلاحه، ثمّ خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و هو نازل بالجُرف٣، فقال: يا رسول الله! زعم المنافقون أنّك إنّما خلفتني، تستثقلني؛ أو تخفّف
منيّ!
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: كذبوا! و لكنّي خلفتك لما تركتُ ورائي! فارجع، فاخلفني في أهلي و أهلك! ألا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي. فرجع عليّ عليه السلام إلى المدينة. و مضى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بسفره۱.
أجل، علينا أن نعرف السبب الكامن وراء استخلاف رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السلام على المدينة في هذه الغزوة. و هو الذي شهد المشاهد كلّها مع رسول الله في بدر، و احد، و الأحزاب، و حُنَيْن، و غيرها بلا استثناء. و لم يشترك فيها فحسب، بل كان الفاتح الوحيد في بَدْر، و الأحزاب، و حُنَيْن، و خَيْبر، و كان الحامي الفريد لرسول الله في الأخطار و الخطوب العظيمة كاحُد.
و مبدئيّاً، ما ذا كان معنى الاستخلاف؟ و ما هو دوره الخطير في تلك المهمّة؟ و كيف كان الوضع في المدينة آنذاك، إذ قال رسول الله: يا عليّ! المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك؟! و لما ذا نطق بتلك الجملة التأريخيّة في حديث المنزلة؟
لا بدّ لنا في البداية أن نلقي نظرة مجملة، ثمّ نظرة مفصّلة على أوضاع المدينة يومئذٍ، و نتحدّث في مجال المتطلّبات، و الكيفيّات، و العلاقات العامّة للناس وقتذاك و ذلك من أجل أن تستبين هذه الحقيقة.
نظرة مجملة على المدينة في أواخر عمر رسول الله
أمّا النظرة المجملة فنقول: كانت غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة و وقعت بين رجب و رمضان. و لم يكن الوقت بينها و بين وفاة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أكثر من سنة و نصف. و كانت
الأوضاع في المدينة تتأزّم يوماً بعد آخر بسبب وجود المنافقين و مؤامراتهم على رسول الله و المسلمين. و ازداد تصلّبهم و عنفهم على مرّ الأيّام.
و بلغ إيذاؤهم المسلمينَ و رسولَ الله درجة أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم قال فيه: مَا اوذِيَ نَبِيّ مِثْلَ مَا اوذِيتُ قَطُّ.
و تعود هذه الكلمة إلى إيذاء المنافقين كما ذهب إلى ذلك والدنا المعنويّ، و مربّينا الروحيّ، و استاذنا المعظّم: سماحة العلّامة الفقيد آية الله العظمى السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ أعلى الله مقامه الشريف.
ذلك أنّ بعض الأنبياء قد اوذوا أضعاف ما اوذي نبيّنا. فمنهم من نشر بالمنشار من وسط الشجرة. و منهم من القي في الماء المغليّ و الزيت الحارّ؛ و من الطبيعيّ أنّ نبيّنا الكريم لم يتعرّض لهذه الضروب من الأذى. بَيدَ أنّه تجرّع الغصص و عانى من المنافقين ما لم يكن مثله عند أنبياء الامم السالفة.
و عند ما نشط الإسلام، و زادت شوكة المسلمين و قدرتهم، أخذت حروب النبيّ و غزواته بالتناقص. و لم يذق تلك المرارات، و تضاءل حجم القتال مع العدوّ. و لمّا فتحت مكّة و الطائف، و هما خندقان مهمّان للمشركين و قد دمّرا، و لم يجد المشركون ملجاً آخر لهم، آمن كثير منهم بالإسلام إيماناً ظاهريّاً، بَيْدَ أنّهم كانوا مشركين باطنيّاً. و كذلك آمن كثير من أهل الكتاب بخاصّة اليهود إيماناً شكليّاً، لكنّهم ظلّوا على عقيدتهم الاولى في الباطن.
و كان هؤلاء يعيشون بين المسلمين، و قد عاشروهم، و شاركوهم في مراسمهم الدينيّة و العباديّة، و حتّى السياسيّة. بيد أنّهم كانوا في الحقيقة يضعون العقبات و العراقيل في طريقهم. و ما برحوا يثيرون الفتن و القلاقل
و الاضطرابات.
و اتّسع هذا المعنى على كرور الأيّام؛ و ازدادت تنظيمات المنافقين و تكتّلاتهم و توطّدت علاقاتهم مع المشركين و الكافرين و من كان خارج المدينة؛ و إذ بأعداء الإسلام في موقعة احُد، و بَدْر، و الأحزاب قد تقمّصوا الإسلام و تغلغلوا في صفوف المسلمين متردّدين بينهم. و حضروا في مساجدهم و محافلهم. و مارسوا أعمالهم كسائر المسلمين في الظاهر، لكنّهم كانوا في الباطن ينهجون غير سبيل رسول الله تماماً. و كان النبيّ من جهة مكلّفاً أن يقبل إسلام من يشهد الشهادتين و يعتقد بالصلاة و الزكاة ظاهريّاً، و يعدّه مسلماً، و يعامله معاملة المسلمين. و من جهة اخرى لم تكن له قدرة على مواجهة المنافقين و استئصال شوكتهم ما لم تقم حجّة شرعيّة في الظاهر، و ما لم يرتكبوا جريمة في محكمة الإسلام. فلهذا كان أمر المنافقين عويصاً، و أصبحت قضيّتهم معضلة من المعضلات التي واجهها الإسلام.
و كان أبو عامر الراهب الذي لقّبه النبيّ الأكرم بالفاسق من رؤسائهم. فهو من قساوسة النصارى بالمدينة سابقاً، و أسلم، ثمّ فرّ إلى مكّة خائفاً بسبب مؤامراته على رسول الله، و بعد فتح مكّة، هرب إلى الطائف. و بعد فتح الطائف لاذ بالفرار نحو الشام. و كان في صراع دائم مع المسلمين هناك. و تواطأ مع منافقي المدينة و مكّة؛ و كان يدعمهم و يعزّز موقفهم باستمرار، و يعدهم أنّه سيذهب إلى الروم، و يأتي إلى المدينة بجيش غفير من إمبراطور الروم، و يقضي على النبيّ و المسلمين بزعمه.
و كان منافقو المدينة و على رأسهم عبدُ اللهِ بْنُ أبي وَ جَدُّ بْنُ قَيس يمهّدان الأجواء لعودة أبي عامر إلى المدينة من خلال بثّ الأراجيف بين المسلمين، و تخويفهم بجيش الروم الجرّار، و إرعابهم بعسكر الاكَيْدِر
الذي كان يحكم دُومَة الجَنْدَل۱ التي تبعد عن المدينة كثيراً. و شاع في المدينة أيضاً أنّ هرقل سلطان الروم جاء إلى تبوك على رأس أربعين ألف مقاتل؛ و تحالف مع أربع طوائف مهمّة. و هو عازم على التوجّه إلى المدينة بأموال و أثقال و مواشٍ كثيرة لقتل المسلمين، و نهب أموالهم، و سبي نسائهم و أطفالهم. و كانوا يبثّون هذا الخبر في كلّ يوم بنحو يجعل المسلمين في خوف و قلق دائمين و يرون أنفسهم بانتظار هجوم يقوم به الجيش المذكور. و كانت هذه الامور قد غيّرت وضع المسلمين في المدينة.
و في الوقت نفسه كانت الآيات القرآنيّة تنزل بلهجة حادّة تماماً و هي تأمر المسلمين بالتعبئة العامّة، و ترغّبهم في التضحية بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله. و كان النبيّ يتحدّث إلى المسلمين علناً حول حرب الروم ليتجهّزوا و يتهيّأوا في العدّة و العدد. و تأهّب المسلمون كافّة للجهاد، و تحرّكوا مع رسول الله بجيش عظيم.
بناء المنافقين مسجداً بوصفه خندقاً لهم
و لمّا كان الجهاد يشمل المنافقين أيضاً، فكلّ واحد منهم كان يعتذر بعذر معيّن و ينعزل عن القتال، لأنّهم كانوا يدركون مشقّة الجهاد و السفر
إلى الشام. و تحرّك بعضهم من المدينة كعبد الله بن أبي الذي كان يتمتّع بشخصيّة و مكانة عظيمة. فسار مع أعوانه و أنصاره حتّى بلغ الجُرْف۱ حيث مقرّ الجيش الإسلاميّ في أوّل خروجه. و نزل إلى جانب الجيش المذكور في مكان أخفض من المكان الذي يستقرّ فيه المسلمون، و رفع علماً. و قيل: إنّ عسكره ليس أقلّ من عسكر رسول الله٢.
و لمّا تجهّز رسول الله و سار بالناس، تخلّف عبد الله بن أبي و أصحابه و رجعوا إلى المدينة؛ و كانوا يقولون: يحسب محمّد أنّ قتال الروم كقتال العرب؛ و الله سيهلكون في الطريق، و يموتون من الحرّ و انعدام الماء و الطعام؛ و و الله كأنّي أنظر إلى محمّد و أصحابه مقرّنين في الحبال٣.
و جاء المنافقون إلى رسول الله عند خروجه و قالوا: قد بنينا في حيّنا مسجداً قريباً من مسجد قبا لضعفائنا و شيوخنا. و لا نستطيع الذهاب إلى مسجد قبا في ليالى الشتاء المطيرة، و لا نريد أن نصلّي في غير جماعة؛ فنصلّي فيه؛ و إن رأيتَ أن تقصده و تفتتحه بالصلاة فيه!
كان المنافقون يكذبون. و أرادوا أن يكون مسجدهم خندقاً في مقابل المسلمين للتآمر عليهم و تفريق كلمتهم. كما أرادوه أن يكون مقرّاً مركزيّاً لاجتماعهم. و تعاقدوا مع أبي عامر الراهب على أن يعود إلى المدينة في غيبة رسول الله، و يصير إماماً للجماعة و رئيساً. و كانوا يزعمون أيضاً أنّ رسول الله يموت في سفرته هذه. و إذا ما بقي حيّاً فسيخطّطون لقتله في العقبة بواسطة اثني عشر أو أربعة عشر شخصاً منهم، و ينتهي كلّ شيء. و خطّطوا أيضاً للهجوم على نساء و ذراري النبيّ و المسلمين و قتلهم، و أسرهم، و إخراجهم من المدينة، و ذلك عند غياب النبيّ. و على هذا ينتهي عمل رسول الله في داخل المدينة و خارجها، و ينعي الإسلام ناعوه.
نصب رسول الله أمير المؤمنين خليفة على المدينة في غزوة تبوك
و كان رسول الله يعرف حالاتهم و نيّاتهم جيّداً، فرأى أنّه لا بدّ من استخلاف أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في المدينة مكانه ليحول دون فسادهم. و لا أحد يقدر على مواجهة المنافقين و إحباط مؤامراتهم إلّا عليّ بن أبي طالب؛ و بالمال فإنّه لمّا كان يعلم أنّ قتلًا لن يحدث في هذه التعبئة و أنّ الحاجة إلى قوّة عليّ البدنيّة و القلبيّة قائمة إذ هو كالأسد الغضوب يشقّ الصفوف، و يقمع العدوّ، لهذا نصبه في المدينة خليفة له.
فَأوْحَى اللهُ تعالى إلَيْهِ: يَا مُحَمَّدُ! إنَّ العَلِيّ الأعْلَى يَقْرَا عَلَيْكَ السَّلَامَ وَ يَقُولُ لَكَ: إمَّا أنْ تَخْرُجَ أنْتَ وَ يُقيِمَ عَلِيّ؛ وَ إمَّا أنْ يَخْرُجَ عَلِيّ وَ تُقِيمَ أنْتَ!
فقال رسول الله ذاك لعليّ. فقال عليّ: سمعاً و طاعة لأمر الله و أمر رسوله؛ و إن كنت احِبّ أن لا أتخلّف عن رسول الله في حال من الأحوال.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُون مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟ فقال عليّ: رضيت يا رسول الله.
فقال رسول الله: يَا أبَا الحَسَنِ! إنَّ لَكَ أجْرَ خُرُوجِكَ مَعِي في مَقَامِكَ بِالمَدِينَةِ وَ إنَّ اللهِ قَدْ جَعَلَكَ امَّةً وَحْدَكَ كَمَا جَعَلَ إبْرَاهِيمَ امَّةً، تَمْنَعُ جَمَاعَةَ المُنَافِقِينَ وَ الكُفَّارِ هَيْبَتُكَ عَنِ الحَرَكَةِ عَلَى المُسْلِمِينَ!
و لمّا خرج رسول الله من المدينة إلى معسكره و شيّعه عليّ بن أبي طالب، خاض المنافقون و قالوا: إنّما خَلَفه محمّد بالمدينة لبغضه له و ملالته منه. و ما أراد بذلك إلّا أن يبيّته المنافقون فيقتلوه و يحاربوه، فيهلكوه.
فوصل أمير المؤمنين عليه السلام إلى رسول الله و قال: تسمع ما يقولون يا رسول الله؟!
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أ مَا يَكْفِيكَ أنَّكَ جَلْدَة مَا بَيْنَ عَيْنَيّ وَ نُورُ بَصَرِي وَ كَالرُّوحِ في بَدَنِي؟!۱
و قفل أمير المؤمنين عليه السلام إلى المدينة راجعاً، و انبرى إلى صيانة المدينة و حفظها من كيد المنافقين، و اضطلع بمهمّة الحفاظ على عيال رسول الله و أهله، إلى أن عاد النبيّ و المسلمون بعد سفرهم الذي دام شهرين تقريباً.
أمَّا النظرة المفصّلة، فنقول: إنّ الأنباط و هم جمع النَّبَط كانوا من العجم القاطنين بين العراق و الشام. و كانوا يسافرون إلى المدينة في الجاهليّة و الإسلام لشراء أمتعتهم و بيعها كالدَّرْمَك٢ و الزَّيْت (دقيق القمح الأبيض و زيت الزيتون) و كانوا مصدر الأخبار التي تصل من الشام إلى
المسلمين لكثرة تردّدهم عليها فأخبروا المسلمين أنّ هِرْقِل إمبراطور الروم۱ يمتار لجيشه سنة كاملة، و قد اتّحد مع لَخْم و جُذَام و غَسَّان و عامِلَة و هم من نصارى العرب. و هو متأهّب للتحرّك نحو المدينة. و وصلت مقدّمة ذلك الجيش إلى البَلْقَاء٢ و عسكروا بها. و تخلّف هرقل نفسه في حِمْص٣.
من الطبيعيّ أنّ الامور لم تكن كذلك، و إنّما كانت إشاعة فحسبُ بثّت بين المسلمين٤.
و لمّا لم يكن للمسلمين آنذاك عدوّ أخطر و أشدّ من الروم لأنّ المسلمين كانوا يرون التجّار الذين يأتون إلى المدينة للتجارة كيف كانوا ذوي إمكانيّات و أموال و مواشي و تجهيزات كثيرة و عدد كبير فلهذا كان رسول الله يورّي في جميع غزواته و يخفي مكان الحرب ابتداءً؛ بَيدَ أنّه أعلن في هذه الغزوة أنّه عازم على حرب الروم، و ذلك من أجل أن يتهيّأ الناس و يعدّوا أسباب السفر و الخيول و الإبل و المؤن و سائر التجهيزات بنحو كافٍ و وافٍ، و يتأهّبوا لرحلة طويلة.
و كانت تلك الرحلة في حمّارة القيظ؛ و لذلك بيّن للناس أنّ عليهم أن يتحرّكوا بجيش جرّار و أموال طائلة. و أوفد مبعوثين عنه إلى مكّة و القبائل ليتأهبّوا للجهاد.
ترغيب رسول الله الناس في الجهاد في سبيل الله
و كان يحثّ الناس و يرغّبهم في جهاد الكفّار، و يأمر بجمع الصدقات و التبرّعات. حتّى جلب الناس أموالهم، و تهيّأ جيش مجهّز، حتّى اعدّت الخيوط أو السيور التي تشدّ بها فم القربة، أو التي تعلّق بها القِرَب. و أتت النساء بحليّها و جواهرها.
تقول امُّ سِنَانٍ الأسْلَمِيَّة: لقد رأيت ثوباً مبسوطاً بين يدي رسول الله فيه أسورة، و معاضد، و خلاخل، و خواتيم، و أقرطة ممّا يبعث به النساء إليه لتجهيز المسلمين.
و كان ذلك في زمان طابت فيه الثمار، و احبّت الظلال، و الناس حينئذٍ يحبّون المقام في المدينة و يكرهون الشخوص عنها.
و أخذ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يحثّ الناس على الإسراع. و ضرب عسكره بِثَنِيَّةِ الوَدِاع۱. و الناس كثير لا يجمعهم كتاب و لا يأتي عليهم إحصاء٢.
و في هذه الحال تباطأ بعض الناس في التحرّك، و أصابهم فتور، و فتنهم مناخ المدينة، و الجلوس تحت الظلل، و الفواكه التي كانت على و شك النضوج. فنزلت هذه الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ٣.
«أيّها المؤمنون ما لكم إذا قيل لكم اذهبوا في سبيل الله (لجهاد الروم) تثاقلتم. فهل رضيتم بهذه الحياة التافهة بدلًا من الحياة الآخرة؟ و ليس الاستمتاع في هذه الحياة إلّا ضئيل في مقابل الحياة الآخرة (و هي
الحياة العالية الخالدة الثمينة). و إن لم تتحرّكوا، يعذّبكم الله عذاباً أليماً و يستبدل قوماً غيركم (لنصرة دينه و إجابة دعوة نبيّه). و لن تضرّوا الله شيئاً بعدم نصركم للنبيّ. و هو على كلّ شيء قدير».
أيّها المسلمون لا تنصتوا لكلام المنافقين! و لا تقبلوا قولهم المثبِّط عن القتال! و لا تنخدعوا بألسنتهم الحداد و منطقهم الماكر! و لا تسمعوا هذيانهم و أراجيفهم إذ يقولون: ها هي الفواكه قد نضجت و ستتلف؛ و الجوّ حارّ؛ و ليس من الصحيح التحرّك نحو الروم لطول المسافة؛ و لا علم لمحمّد بأهمّيّة القتال، كما أنّه لا يدري أنّ قتال الروم ليس كقتال القبائل العربيّة. لا تسمعوا هذه الأباطيل و اعلموا: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ۱.
«إن لم تنصروه، فقد نصره الله حقّاً عند ما أخرجه الكافرون (من مكّة) و هو أحد اثنين إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إنّ الله معنا! فأنزل الله سكينته على نبيّه، و أيّده بجنود لم تروها، و جعل كلمة الكافرين السفلى (إذ لم يقدروا أن يقبضوا عليه و يقتلوه). و كلمة الله هي العليا فحسب (إذ حفظ الله نبيّه و أوصله إلى المدينة بسلام) و للّه العزّة و التفرّد في الامور، و له مقام الإحكام (لا يغلبه شيء و لا يعتري إحكامه الفتور).
انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ٢.
قال الشيخ الطبرسيّ: قال الحسن، و مجاهد، و عِكْرِمَة، و الضحّاك و غيرهم: المراد من خفافاً و ثقالًا شبّاناً و شيوخاً. و قال ابن عبّاس، و قتادة: نشّاطاً و غير نشّاط. و قال الحكم: مشاغيل و غير مشاغيل. و قال أبو صالح: أغنياء و فقراء. و قال الفرّاء: أراد بالخفاف أهل العسرة من المال و قلّة العيال. و بالثقال: أهل الميسرة في المال و كثرة العيال. و قال أبو عمرو، و عطيّة العوفيّ: ركباناً و مشاة. و قال ابن زيد: ذا صنعة و غير ذي صنعة. و قال يمان: عزّاباً و متأهّلين.
ثمّ قال: و الوجه أن يحمل على الجميع فيقال: معناه: اخرجوا إلى الجهاد خفّ عليكم أو شقّ! على أيّة حالة كنتم لأنّ أحوال الإنسان لا تخلو من أحد هذه الأشياء۱.
و قال العلّامة الطباطبائيّ: الخفاف و الثقال جمعا خفيف و ثقيل. و الثقل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة الصارفة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة المشاغل الماليّة و حبّ الأهل و الولد و الأقرباء و الأصدقاء الذي يوجب كراهة مفارقتهم، و فقد الزاد و الراحلة و السلاح و نحو ذلك؛ و الخفّة كناية عن خلاف ذلك.
فالأمر بالنفر خفافاً و ثقالًا و هما حالان متقابلان في معنى الأمر بالخروج على أي حال، و عدم اتّخاذ شيء من ذلك عذراً يعتذر به لترك الخروج؛ كما أنّ الجمع بين الأموال و الأنفس في معنى الأمر بالجهاد بأيّ وسيلة أمكنت.
و قد ظهر بذلك أنّ الأمر في الآية مطلق لا يأبى التقييد بالأعذار التي يسقط معها وجوب الجهاد كالمرض، و العمى، و العرج، و نحو ذلك. فإنّ
المراد بالخفّة و الثقل أمر وراء ذلك۱.
منع المنافق المعروف الجدّ بن قيس قومه من الجهاد
و قال الواقديّ: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لِجَدّ بن قيس (الذي كان أحد رؤوس النفاق): أبا وهب! هل لك العامَ تخرج معنا لعلّك تحتقب من بنات الأصفر٢.
فقال الجَدُّ بْنُ قَيْس: أو تأذن لي و لا تفتنّي! فو الله، لقد عرف قومي ما أحد أشدّ عجباً بالنساء منّي؛ و إنّي لأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهنّ! فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و قال: قد أذنت لك.
فجاءه ابنه عبد الله بن الجدّ، و كان بدريّاً، و هو أخو مُعَاذ بن جَبَل لُامّه، فقال لأبيه: لِمَ تردّ على رسول الله مقالته؟! فو الله ما في بَنِي سَلِمَة أكثر مالًا منك! و لا تخرج (مع رسول الله)؛ و لا تحمل أحداً (أي و لا تدفع حصانك و بعيرك إلى آخر فيخرج مع رسول الله)؟!
قال (الجدّ): يا بُنيّ! ما لي و للخروج في الريح، و الحرّ، و العسرة إلى بني الأصفر؟ و الله! ما آمن خوفاً من بني الأصفر؛ و إنّي في منزلي بخُرْبَي! فأذهب إليهم فأغزوهم! إنّي و الله يا بنيّ عالم بالدوائر!
فأغلظ له ابنه، فقال: لا و الله، و لكنّه النفاق! و الله لينزلنّ على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فيك قرآن يقرأونه٣. قال: فرفع نعله
فضرب بها وجهه.
فانصرف ابنه و لم يكلّمه. و جعل الخبيث يثبّط قومه، و قال لجَبَّارِ بْنِ صَخْرٍ و نفر معه من بَنِي سَلِمَة: يا بني سلمة! لا تنفروا في الحرّ! يقول: لا تخرجوا في الحرّ زهادة في الجهاد، و شكّاً في الحقّ، و إرجافاً برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فأنزل الله عزّ و جلّ فيه:
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ۱.
و في الجدّ بن قيس نزلت هذه الآية أيضاً:
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ٢.
ذلك أنّ الكذب أوّلًا، و الشكّ في الإيمان ثانياً، و قبول دعوة النبيّ للجهاد القريب و اليسير الذي فيه غنيمة، و ردّ الجهاد البعيد و العسير، كلّ اولئك أكبر فتنة سقط فيها.
و كان هذا الرجل يزعم أنّ نساء الروم تفتنه بجمالها، و تسقطه. إنّه كان يكذب، و كان يتظاهر أنّه يتخلّص من الحرب، و يحفظ نفسه التي كان يحبّها أكثر من نفس رسول الله. و هذا اللون من التفكير أكبر فتنة ارتكس فيها.
و لمّا نزلت هذه الآية، جاء عبد الله إلى أبيه، فقال: أ لم أقل لك إنّه سوف ينزل فيك قرآن يقرأه المسلمون؟! فقال الجدّ لابنه: اسْكُت عَنِّي يَا لُكَعُ وَ اللهِ لَا أنْفَعُكَ بِنَافِعَةٍ أبَدَاً، وَ اللهِ لأنْتَ أشَدُّ عَلَيّ مِنْ مُحَمَّدٍ۱.
روي ابن هشام بسنده عن عبد الله بن حارثة، عن أبيه، عن جدّه، قال:
بلغ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّ ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سُوَيْلِم اليهوديّ و كان بيته عند جاسومَ يُثَبِّطون الناس في غزوة تبوك. فبعث إليهم النبيّ صلّى الله عليه و سلّم طلحة بن عُبيد الله في نفر من أصحابه و أمره أن يخرِّق عليهم بيت سُويلم.
ففعل طلحة فاقتَحم الضحّاك بنُ خليفة من ظهر البيت (و هو أحد المنافقين)، فانكسرت رجله و اقتحم أصحابه فأفلتوا٢.
خطبة رسول الله عند الخروج إلى غزوة تبوك
قال على بن إبراهيم القمّيّ: و أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بعسكره و ضرب في ثَنِيَّة الوَدَاع. و أمر أهل الجدة (الأغنياء) أن يعينوا من لا قوة به. و من كان عنده شيء أخرجه و حملوا و قووا و حثّوا على ذلك. و خطب رسول الله فقال: أيُّهَا النَّاسُ! إنَّ أصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ؛ وَ أوْلَى القَوْلِ كَلِمَةُ التَّقْوَى؛ وَ خَيْرُ المِلَلِ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ؛ وَ خَيْرُ السُّنَنِ سُنَّةُ مُحَمَّدٍ؛ وَ أشْرَفُ الحَدِيثِ ذِكْرُ اللهِ، وَ أحْسَنُ القَصَصِ هَذا القُرْآنُ؛ وَ خَيْرُ الامُورِ عَزَائِمُهَا؛ وَ شرُّ الامُورِ مُحْدَثَاتُهَا؛
وَ أحْسَنُ الهَدْى هَدْيُ الأنْبِياءِ؛ وَ أشرَفُ القَتْلِ قَتْلُ الشُّهَدَاءِ؛ وَ أعْمَى العَمَى الضَّلَالَةُ بَعْدَ الهُدَى؛ وَ خَيْرُ الأعْمَالِ مَا نَفَعَ؛ وَ خَيْرُ الهَدْى مَا اتُّبِعَ، وَ شَرُّ العَمَى عَمَى القَلْبِ؛ وَ اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى؛ وَ مَا قَلَّ وَ كَفى خَيْرٌ ممَّا كَثُرَ وَ ألْهَى؛ وَ شَرُّ المَعْذِرَةِ حِينَ يَحْضُرُ المَوْتُ؛ وَ شَرُّ النَّدَامَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَأتِي الجُمُعَةَ إلَّا نَزْرَاً، وَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَذْكُرُ اللهَ إلَّا هَجْراً؛ وَ مِنْ أعْظَمِ الخَطَايَا اللِّسَانُ الكَذُوبُ؛ وَ خَيْرُ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ؛ وَ خَيْرُ الزَّادِ التَّقْوَى؛ وَ رَأسُ الحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللهِ؛ وَ خَيْرُ مَا الْقِيَ في القَلْبِ اليَقِينُ؛ وَ الارْتِيابُ مِنَ الكُفْرِ؛ وَ النِّيَاحَةُ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ؛ وَ الغُلُول مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ؛ وَ السَّكَرُ جَمْرُ النَّارِ؛ وَ الشِّعْرُ مِنْ إبْلِيسَ؛ وَ الخمْرُ جِمَاعُ الإثْمِ؛ وَ النِّسَاءُ حَبَائِلُ إبْلِيسَ؛ وَ الشَّبَابُ۱ شُعْبَةٌ مِنَ الجُنُونِ؛ وَ شَرُّ المَكَاسِبِ كَسْبُ الرِّبَا؛ وَ شَرُّ المآكِلِ أكْلُ مَالِ اليَتِيمِ؛ وَ السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ؛ وَ الشَّقِيّ مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ امِّهِ؛ وَ إنَّمَا يَصِيرُ أحَدُكُمْ إلى مَوْضِعِ أرْبَعَةِ أذْرُعٍ٢؛ وَ الأمْرُ إلى آخِرِهِ؛ وَ ملاكُ العَمَلِ خَوَاتِيمُهُ؛ وَ أرْبَى الرِّبَا الكَذِبُ؛ وَ كُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ؛ وَ سِبَابُ المُؤْمِنِ فِسْقٌ؛ وَ قِتَالُ المُؤْمِنِ كُفْرٌ؛ وَ أكْلُ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ؛ وَ حُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ؛ وَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ كَفَاهُ؛ وَ مَنْ صَبَرَ ظَفَرَ؛ وَ مَنْ يَعْفُ عَنِ النَّاسِ يَعْفُ اللهُ عَنْهُ؛ وَ مَنْ كَظَمَ الغَيْظَ يَأجُرْهُ اللهُ؛ وَ مَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرَّزِيَّةِ يُعَوِّضْهُ اللهُ؛ وَ مَنْ يَتْبَعِ السُّمْعَةَ يُسَمِّعِ
اللهُ بِهِ؛ وَ مَنْ يَصُمْ يُضَاعِفِ اللهُ لَهُ؛ وَ مَنْ يَعْصِ اللهُ يُعَذِّبْهُ؛ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وَ لُامَّتِي؛ اللَهُمَّ اغْفِرْ لي وَ لُامَّتِي؛ أسْتَغْفِرُ اللهَ لي وَ لَكُمْ۱.
أجل، هذه الخطبة القصيرة للرسول الأعظم كسائر خطبه القصار، و منها خطبته حين التحرّك إلى غزوة احد٢، تحتوي على مضامين عالية و مهمّة و مترعة بالحكم و الأخلاق و المعارف و الآداب. و من الضروريّ حقّاً أن تُشْرَحَ شرحاً وافياً.
مؤاخذة الله نبيَّه الكريم ليست مؤاخذة حقيقيّة
و نزلت هذه الآية في المنافقين الذين استأذنوا رسول الله صلّى الله
عليه و آله و سلّم في عدم الخروج: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ.
نرى هنا أنّ الله يؤاخذ نبيّه الأكرم. و علينا أن نفهم معنى المؤاخذة هنا. هل كانت على سبيل الجدّ و الحقيقة أو على سبيل مخاطبة الآخرين. و قد ورد نظيره في كثير من الأشباه و الأمثال.
جاء في تفسير «نور الثَّقَلين» عن «عيون أخبار الرضا عليه السلام» أنّ الشيخ الصدوق روى بإسناده عن عليّ بن محمّد بن الجَهم، قال: حضرت مجلس المامون و عنده الرضا عليّ بن موسى عليه السلام. فقال له المأمون: يا ابن رسول الله! أ ليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى.
فقال له المأمون -فيما سأله- فأخبرني عن قول الله عزّ و جلّ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ.
قال الرضا عليه السلام: هذا ممّا نزل (على سبيل): إيَّاكِ أعْنِي وَ اسْمَعِي يَا جَارَه۱. خاطب الله تعالى بذلك نبيّه، و أراد به امّته. و كذلك
يا اخت خَير البَدْو و الحضاره | *** | كيف ترين في فتى فزاره؟ |
أصبح يَهْوى حُرَّةَ معطاره | *** | إيَّاكِ أعنِي و اسمعي يَا جَاره |
إنّي أقول يا فتى فزاره | *** | لا أبتغي الزوج و لا الدعاره |
و لا فراق أهل هذي الجاره | *** | فارحل إلى أهلك باستخاره |
قوله عزّ و جلّ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ۱؛ و قوله تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا٢.
قال المامون: صَدَقْتَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ٣.
و نحن لا نرى شرحاً و توضيحاً لجواب الإمام الرضا عليه السلام أفضل ممّا قاله استاذنا العلّامة الفقيد في تفسير «الميزان». قال: الجملة الاولى (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) دعاء للنبيّ بالعفو نظير الدعاء على الإنسان بالقتل في قوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ٤. و قوله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ٥ (المقصود
الوليد بن المغيرة). و قوله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ۱. (قاتل الله اليهود الذين قالوا: عزير بن الله. و قاتل النصارى الذين قالوا: المسيح بن الله).
و جملة العفو متعلّقة بقوله: لِمَ أَذِنْتَ، أي: في التخلّف و القعود؟! و لمّا كان الاستفهام للإنكار أو التوبيخ، كان معناه:
كان ينبغي أن لا تأذن لهم في التخلّف و القعود. و يستقيم به تعلّق الغاية التي يشتمل عليها قوله: حتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ بقوله: لِمَ أَذِنْتَ، فالتعلّق إنّما هو بالمستفهم عنه دون الاستفهام. و الكلام مسوق لبيان ظهور كذبهم. و أنّ أدنى الامتحان كالكفّ عن إذنهم في القعود يكشف عن فضاحتهم.
و معنى الآية: عفا الله عنك لم أذنت لهم في التخلّف و القعود؟! و لو شئت لم تأذن لهم -و كانوا أحقّ به- حتّى يتبيّن لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين! فيتميّز عندك كذبهم و نفاقهم.
و على هذا فالآية في مقام دعوى ظهور كذبهم و نفاقهم، و أنّهم مفتضحون بأدنى امتحان يمتحنون به. و من مناسبات هذا المقام إلقاء العتاب إلى المخاطب، و توبيخه، و الإنكار عليه. كأنّه هو الذي ستر عليهم فضائح أعمالهم و سوء سريرتهم.
و هو نوع من العناية الكلاميّة يتبيّن به ظهور الأمر و وضوحه و بيانه أزيد من ذلك. فهو من أقسام البيان على طريق: إيَّاكِ أعْني وَ اسْمَعِي يَا جَارَه، فالمراد بالكلام إظهار هذه الدعوى: و هي وضوح قبح عملهم و سريرتهم، لا الكشف عن تقصير الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و سوء تدبيره في إحياء أمر الله، و ارتكابه بذلك ذنباً -حاشاه-
و أولويّة عدم الإذن لهم معناها كون عدم الإذن أنسب لظهور فضيحتهم و أنّهم أحقّ بذلك لما بهم من سوء السريرة، و فساد النيّة؛ لا لانّه كان أولى و أحرى في نفسه و أقرب و أمسّ بمصلحة الدين.
لو كان المنافقون خرجوا في غزوةٍ ما، فلا دأب لهم إلّا الفساد
و الدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعد ثلاث آيات:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ۱.
«لو خرج المنافقون معكم أيّها المؤمنون إلى غزوة تبوك، فلا يزيدونكم إلّا خيانة و فساداً و اضطراباً، و يخلّون في عملكم بسرعة، و يخطّطون للفتنة و إثارة الاضطرابات. و فيكم سمّاعون لهم أو بين جنودكم جواسيس منهم و الله عليم بالظالمين. و كان هؤلاء يدبّرون من قبل لإشاعة الفتن و القضاء على الإسلام (في غزوتي احد و الخندق). (و يا رسولنا) إنّهم كانوا يقلّبون لك الامور حتّى انتصر الحقّ، و ظهر أمر الله و هم كارهون»٢.
و لمّا لم يصدر من المنافقين على فرض خروجهم إلّا الضرر، فقد كان الأصلح أن يؤذن لهم في التخلّف ليصان الجمع من الخبال و فساد الرأي
و تفرّق الكلمة؛ و المتعيّن أن يقعدوا فلا يفتنوا المؤمنين بإلقاء الخلاف بينهم و التفتين فيهم. و فيهم ضعفاء الإيمان و مرضى القلوب و هم سمّاعون لهم يسرعون إلى المطاوعة لهم. و لو لم يؤذن لهم فأظهروا الخلاف، كانت الفتنة أشدّ و التفرّق في كلمة الجماعة أوضح و أبين.
و يؤيّد ذلك قوله تعالى بعد آيتين:
وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ۱.
و لذلك كان تخلّفهم و نفاقهم ظاهراً لائحاً من عدم إعدادهم العدّة؛ يتوسّمه في وجوههم كلُّ ذي لبّ؛ فكيف يخفي مثل ذلك على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم؟ و قد نبّأه الله بأخبارهم قَبل نزول هذه السورة (سورة براءة) كراراً. فكيف يصحّ أن يعاتب هاهنا عتاباً جدّيّاً بأنّه لِمَ لم يكف عن الإذن و لم يستعلم حالهم حتّى يتبيّن له نفاقهم و يميّز المنافقين من المؤمنين؟! فليس المراد بالعتاب إلّا ما ذكرناه.
و ممّا تقدّم يظهر فساد قول من قال: إنّ الآية تدلّ على صدور الذنب عنه، لأنّ العفو لا يتحقّق من غير ذنب، و أنّ الإذن كان قبيحاً منه، و من صغائر الذنوب؛ لأنّه لا يقال في المباح: لم فعلتَه؟ لأنّا قد بيّنا مفصّلًا أنّ الآية مسوقة لغرض غير غرض الجدّ في عتاب رسول الله.
النبيّ لا يخطئ، و اجتهاده عين الصواب
و قال العلّامة بعد شرح وجيز: ذكر هذا المتكلّم في كلام له طويل فقال: إنّ ذلك كان اجتهاداً من رسول الله فيما لا وحي فيه من الله و هو جائز و واقع من الأنبياء عليهم السلام. و ليسوا بمعصومين من الخطأ فيه؛ و إنّما العصمة المتّفق عليها خاصّة بتبليغ الوحي ببيانه و العمل به؛ فيستحيل
على رسول الله أن يكذب أو يُخطِئ فيما يبلّغه عن ربّه أو يخالفه بالعمل.
و من هذا الخطأ في الاجتهاد ما جاء في سورة الأنفال، إذ عاتب الله رسوله في أخذ الفدية من اسارى بدر حيث قال:
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ۱.
«لا حقّ لأيّ نبيّ أن يكون له أسرى. و ما عليه إلّا أن يواصل القتال حتّى تتلطّخ الأرض من دم المشركين و الأدناس، و عليه أن يريق دماً كثيراً في الأرض. فأنتم أيّها المؤمنون من أصحاب رسولنا تريدون الدنيا طمعاً في متاعها المؤقّت و حطامها الزائل، و الله يريد لكم نعمة الآخرة الدائمة الخالدة، و الله عزيز حكيم (عمله من وحي الاستقلال و العزّة، و من وحي الحكمة). و لو لم يجر حكم الله الأزليّ في كتاب التقدير من قبل لمسّكم عذاب عظيم في الفدية التي أخذتموها من الأسرى و أطلقتموهم!»
و كلامه هذا ككلامه الآخر فاسد و لا يمكن قبوله، لأنّ الآية بلفظها لا تعاتب على أخذ الفدية من الأسرى، و إنّما تعاتب على نفس أخذ الأسرى، ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ... و لم تنزل آية و ما وردت رواية في أنّ النبيّ كان أمرهم بالأسر؛ بل روايات القصّة تدلّ على أنّ النبيّ لمّا أمر بقتل بعض الأسرى، خاف الأصحاب أن يقتلهم عن آخرهم. فلهذا كلّموه و ألحّوا عليه في أخذ الفدية منهم و قالوا: إنّنا نجهّز جيشنا و نتقوّى على أعداء الدين بالفدية التي نأخذها منهم. فردّ الله عليهم ذلك، و عدّ طلبهم عرضَ الحياة الدنيا؛ و لم يجز أخذ الأسير و إطلاقه بالفدية. و قال:
على النبيّ أن يصبغ الأرض بإراقة دم المشركين فحسب. و هذا من أحسن الشواهد على أنّ العتاب في الآية متوجّه إلى المؤمنين خاصّة من غير أن يختصّ به النبيّ أو يشاركهم فيه؛ و أنّ أكثر ما ورد من الأخبار في هذا المعنى موضوعة أو مدسوسة.
و يضاف إلى ذلك أنّ العتاب في الآية لو اختصّ برسول الله أو شمله و غيره، لم يكن من العتاب على ما ذكره على الذنب بمعناه اللغويّ و هو تفويت المصلحة معنى و وجه. و كيف يمكن حمل ذلك على المعصية الصغيرة و الخطأ المغتفر؟ إذ يقول في ذيل هذا العتاب: لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فلا يرتاب ذو لبّ في أنّ التهديد بالعذاب العظيم لا يتأتّى إلّا مع كون المهدّد عليه من المعصية الكبيرة، لا ترك الأولى أو الذنب و الخطأ الصغير القابل للعفو و الإغماض.
و هذا المعنى أيضاً من الشواهد على أنّ العتاب في الآية متوجّه إلى غير رسول الله.
و بالجملة يظهر من مطالبنا المفصّلة أن لا ذنب و لا خطأ على رسول الله، لا عُرفاً و لا لغة، و ذلك بالدلالة الصريحة المستفادة من الآيات الناطقة بأنّ عدم خروج المنافقين أقرب إلى مصلحة المسلمين الحقيقيّة، و أفضل لاجتماع عسكرهم و جيشهم. إذ إنّه يجعل المسلمين مصونين أكثر من وقوع الفتنة و اختلاف الكلمة.
و هذه العلّة بعينها موجودة لو لم يأذن لهم النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم. ذلك أنّه إذا لم يأذن، و أمر بالخروج، فإنّ المنافقين يظهرون ما كانوا يخفونه من كفرهم و نفاقهم. و هم لم يستعدّوا للخروج قطّ، و عند عدم الإذن، تشتد مخالفتهم و مواجهتهم لرسول الله. و كان النبيّ يعلم أنّهم غير مستعدّين للخروج، و مقام رسول الله و مكانته أجلّ من أن يخفى عليه
هذا المعنى و لا يعلمه، بينما كان المنافقون بمرأى منه و مسمع، و قال الله فيهم:
وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً.
و يضاف إليه أنّ الله خاطب نبيّه لأنّه يعرفهم في لحن قولهم: وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.
و حينئذٍ كيف يخفى عليه مثل قول أحدهم: ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي. أو قول آخر في رسول الله: هُوَ أُذُنٌ. أو قول من يلمزه في الصدقات: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ. و هذا الكلام كلّه من طلائع النفاق يطلع منهم، و ما وراءه إلّا كفر و خلاف.
فقد كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يتوسّم منهم النفاق و الخلاف؛ و يعلم بما في نفوسهم. و مع ذلك فعتابه صلّى الله عليه و آله و سلّم بأنّه لِمَ لم يكف عن الإذن و لم يستعلم حالهم و لم يميّزهم من غيرهم؟ ليس إلّا عتاباً غير جدّيّ للغرض المذكور.
و أمّا قوله الآخر: إنّ الإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية: حتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ. فهو خطأ أيضاً. لأنّ الذي تشتمل عليه الآية من المصلحة هو تبيّن الذين صدقوا للنبيّ و علمه هو بالكاذبين، لا مطلق تبيّنهم و لا مطلق العلم بالكاذبين. و قد ظهر ممّا تقدّم أنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يكن يخفى عليه ذلك؛ و أنّ حقيقة المصلحة إنّما كانت في الإذن، و هي سدّ باب الفتنة و اختلاف الكلمة؛ فإنّه كان يعلم من حالهم أنّهم غير خارجين البتة سواء أذن لهم في القعود أم لم يأذن. فلهذا بادر إلى الإذن حفظاً على ظاهر الطاعة و وحدة الكلمة.
و ليس لك أن تتصوّر أنّه لو بان نفاقهم يومئذٍ و ظهر خلافهم بعدم إذن
النبيّ لهم بالقعود لتخلّص الناس من تفتينهم و إلقائهم الخلاف لما في الإسلام يومئذٍ -و هو يوم خروج النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى غزوة تبوك- من الشوكة و القوّة. و له صلّى الله عليه و آله و سلّم من نفوذ الكلمة.
و هذا التصوّر غير صحيح. فإنّ الإسلام يومئذٍ إنّما كان يملك القوّة و المهابة في أعين غير المسلمين حيث أنّهم كانوا يرتاعون من شوكته، و يعظِّمون سواد أهله؛ و يخافون حدّ سيوفهم؛ و أمّا المسلمون في داخل مجتمعهم و بين أنفسهم، فلم يخلصوا بعد من النفاق و مرض القلوب، و لم تستول عليهم بعدُ وحدة الكلمة و جدّ الهمّة و العزيمة. و الدليل على ذلك نفس هذه الآيات و ما يتلوها إلى آخر سورة براءة. و نزلت سورة براءة في السنة التاسعة من الهجرة.
و قد كان المنافقون تظاهروا بمثل ذلك يوم احُد. و قد هجم عليهم العدوّ في عقر دارهم، فرجع ثلث الجيش الإسلاميّ من المعركة بقيادة المنافق عبد الله بن أبي. و لم يؤثّر فيهم عِظَة و لا إلحاح حتّى قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ۱.
فكان ذلك أحد الأسباب العاملة في انهزام المسلمين٢.
الآيات الواردة في المنافقين المتخلّفين عن غزوة تبوك
أجل، إنّ الآيات القرآنيّة الكريمة تنصّ على أنّ استئذان رسول الله
في التخلّف عن الجهاد يتعلّق بالمنافقين، لا بالمؤمنين، لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ، إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ۱.
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ ، قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ، قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ٢.
(يا نبيّنا)! إذا بلغتك نعمة (كالظفر على العدوّ و الغنيمة) فإنّهم يمتعضون. و إذا نزلت بك مصيبة (كالشدّة و العسرة و البلاء و النقص في النفس و المال) فإنّهم يقولون: نحن صُنّا أنفسنا منذ البداية (و تشبّثنا بعروة الأمان و السلامة بالقعود عن الحرب) و يتولّون و هم فرحون (و يذهبون إلى بيوتهم). قل لن يصيبنا شيء أبداً إلّا ما كتب الله لنا هو مولانا و سيّدنا! و ربّنا و قيّمنا و حارسنا و صاحب اختيارنا و وليّ أمرنا! و على الله فليتوكل المؤمنون (يتّخذوه وكيلًا في شئونهم).
قل: هل تنتظرون بنا إلّا حَسَنتيْن؟ (خصلتان محمودتان و نعمتان عظيمتان) إحداهما: الغلبة و الغنيمة و النصر على الخصم في الدنيا؛ و الاخرى: الشهادة في سبيل الله و الثواب الدائم في القيامة و يوم الجزاء؟! أمّا نحن فننتظر أن يأتيكم العذاب إمّا من الله أو بأيدينا (إمّا يأتي العذاب
منه، أو أنّكم تُقتلون بأيدينا بواسطة ظفرنا و غلبتنا عليكم). فانتظروا هذا العذاب! و نحن ننتظر الشهادة، و الجنّة، و النصر، و الغنيمة؛ و ننتظر لكم الذلّة و النكبة و الموت و القتل بأيدينا ثمّ الدخول إلى جهنّم!.
إدلاء رسول الله بحديث المنزلة لأمير المؤمنين بالجرف
قال الواقديّ: لمّا كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يتجهّز لغزوة تبوك، جاءه خمسة من المنافقين من أصحاب مسجد ضرار و هم: مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيرٍ، وَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَ خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ، وَ أبُو حَبِيبَة بْنُ الأزْعَرِ، وَ عَبْدُ اللهِ بْنُ نَبتَل بْن حَارِث، و قالوا: يا رسول الله! إنّا رُسُل من خلفنا من أصحابنا!
إنّا قد بنينا مسجداً لذي القلّة و الحاجة، و الليلة المَطيرة، و الليلة الشاتية. إذ لا يقدرون على الذهاب إلى مسجد قبا. و نحن نحبّ أن تأتينا فتصلّي بنا فيه. و رسول الله يتجهّز إلى تبوك، فقال لهم: إنّي على جَناح سَفَر و حال شُغل؛ و لو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلّينا بكم فيه. فلمّا نزل بذي أوان۱ راجعاً من تبوك، أمر بهدمه٢.
لمّا خرج رسول الله من المدينة، و نزل عسكره في الجُرْف و ثَنِيَّة الوَدَاع، نصب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل صلوات الله و ملائكته المقرّبين و أنبيائه المرسلين في المدينة خليفة لأهل المدينة كافّة، و كذلك لأهل رسول الله و عياله و إدارة شئون الامّة.
و عند ما رأي منافقو المدينة عليّاً عليه السلام مكان النبيّ، طفقوا
يبثّون الإشاعات على أنّ النبيّ لم يأخذه معه استثقالًا منه.
جاء في «تفسير عليّ بن إبراهيم» فلمّا اجتمع لرسول الله الخيول، رحل من ثَنِيَّة الوَدَاع و خلّف أمير المؤمنين (عليّ بن أبي طالب عليه السلام) على المدينة فأرجف المنافقون بعليّ و قالوا: مَا خَلَّفَهُ إلَّا تَشَاؤمَاً بِهِ. فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليّاً، فأخذ سيفه و سلاحه، و لحق برسول الله بالجُرْف؛ فقال له رسول الله: يَا عَلِيّ! أ لَمْ اخَلِّفْكَ على المَدِينَةِ؟! قال: نَعَمْ وَ لَكِنَّ المُنَافِقِينَ زَعَمُوا أنَّكَ خَلَّفْتَنِي تَشَاؤُمَاً بي!
فَقَالَ: كَذِبَ المُنَافِقُونَ يَا عَلِيّ! أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ أخِي وَ أنَا أخُوكَ وَ أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟! وَ إنْ كَانَ بَعْدِي نَبِيّ لَقُلْتُ أنْتَ أنْتَ! وَ أنْتَ خَلِيفَتِي في امَّتِي؛ وَ أنْتَ وَزِيرِي وَ أخِي في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ!
فرجع أمير المؤمنين عليه السلام إلى المدينة۱.
و روى جمع عظيم من محدّثي الفريقين و مؤرّخيهم و مفسّريهم في كتبهم هذا الحديث حين خروج رسول الله إلى غزوة تبوك٢.
المستأذنون و المعذّرون في غزوة تبوك
و قال في «إعلام الوري»: هذا الخبر تلقّته الامّة الإسلاميّة بالقبول؛ و رواه الشيعيّ و الناصبيّ. و أجمعت الامّة على قبوله على اختلافها في النحل و تباينها في المذاهب۱.
و لمّا تمّت التعبئة العامّة، و كان عليهم أن يقطعوا تلك المسافة الطويلة في الفيافي القاحلة و الجوّ الحارّ. عرض بعض المنافقين الأثرياء مساعداتهم الماليّة للجيش الإسلاميّ. و فعلوا ذلك ليراهم الناس، و يصل خبر إنفاقهم إلى رسول الله؛ و هكذا أرادوا عدم التحرّك، و المحافظة على أرواحهم من القتل. و نزلت هذه الآيات فيهم:
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ ، وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ ، فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ
وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ۱.
«يا أيّها النبيّ قل للمنافقين سواء أنفقتم رغبة أم قسراً (و أنفقتم على الجيش و الحرب و دعاياتكم الكاذبة) فلن يقبل منكم ذلك أبداً لأنّكم قوم فاسقون (و إنفاقكم من منطلق الرياء!).
و لا مانع من قبول نفقاتهم إلّا أنّهم كفروا بالله و رسوله و لا يأتون الصلاة إلّا و هم كسالى غير راغبين. و لا ينفقون إلّا و هم كارهون أيضاً٢.
فيا أيّها النبيّ لا يعجبك وفور أموالهم و كثرة أولادهم! إنّما يريد الله أن يعذّبهم بها (و يبعدهم عن ساحة قربه) في الحياة الدنيا، و تزهق أنفسهم و هم كافرون».
وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ٣.
«إنّ المنافقين (من أجل أن يخفوا نفاقهم) يقسمون بالله أنّهم منكم و ما هم منكم لكنّهم يخافون من عظمة الإسلام و شوكته.
لو وجد هؤلاء ملجاً أو مغارات أو مدّخلًا (و علموا أنّهم يعيشون فيه مطمئنين و آمنين من نفوذ كلمة المسلمين و القرآن و رسول الله) لتوجّهوا إليه، و رفعوا العقبات من طريقهم بسرعة، و لتحمّلوا المشقّات، و قاوموا
بشدّة حتّى يهربوا من الساحة.
وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ۱.
«و إذا انزلت سورة تدعوهم إلى الإيمان بالله و رسوله استأذنك الأثرياء المتمكّنون من المنافقين أن لا يخرجوا معك. و قالوا لك: دعنا مع النساء و القاعدين بالمدينة (و لا يخرجوا مع المقاتلين لقتال العدوّ و الدفاع عن حريم الدين و الناموس و الشرف) و طبع على قلوبهم فهم لا يفهمون و لا يدركون».
إن المنافقين الذين استأذنوا رسول الله بالقعود هم عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي بن سَلُول، وَ جَدُّ بْنُ قَيْسٍ، و أصحابهم و نظائرهم.
قال الواقديّ: جاء ناس من المنافقين يسأذنون رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من غير علّة و عيب، أو فقر و مسكنة فأذن لهم؛ و كان المنافقون الذين استأذنوا بضعة و ثمانين٢. لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ٣.
و قال الواقديّ: و جاء المعذّرون من الأعراب فاعتذروا إليه،
فلم يعذرهم الله عزّ و جلّ. هم نفر من بني غِفَار منهم خُفَافُ بْنُ إيمَاء بْنُ رَحْضَة. و كانوا اثنان و ثمانون رجلًا۱.
وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ٢.
«و جاء جماعة من الأعراب يعتذرون من الحرب، و يعرضون أعذارهم الحقيقيّة، أو جماعة لم يكن لهم عذر ثابت كما أنّهم لم يعرضوا عذراً مشروعاً مقبولًا، من أجل أن يؤذن لهم بعدم التحرّك. و الذين كذبوا الله و رسوله، قعدوا عن الخروج و القتال. سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم».
قال الشيخ الطبرسيّ في تفسير هذه الآية الكريمة: ... أن يكون المراد المعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن. و إنّما ادغمت التاء في الذال لقرب مخرجهما. أو أنّه أراد المقصّرون من التعذير فالمعذّر المقصّر الذي يريك أنّه معذور و لا عذر له. ففي الآية ثلاثة احتمالات:
الأوّل: المقصّرون الذين يعتذرون و ليس لهم عذر عن أكثر المفسّرين.
الثاني: المعتذرون الذين لهم عذر. و هم نفر من بني غفار عن ابن عبّاس؛ قال: و يدّل عليه قوله: وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ. فعطف الكاذبين عليهم. فدلّ ذلك على أنّ الأوّلين في اعتذارهم صادقون.
الثالث: و قيل: معناه الذين يتصوّرون بصورة أهل العذر و ليسوا
كذلك۱.
بَيدَ أنّ الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ عدّ الاحتمال الثاني منجّزاً و قال: الظاهر أنّ المراد بالمعذّرين هم أهل العذر كالذي لا يجد نفقة و لا سلاحاً بدليل قوله: وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا الآية. و السياق يدلّ على أنّ في الكلام قياساً لإحدى الطائفتين إلى الاخرى، ليظهر به لؤم المنافقين و خسّتهم و فساد قلوبهم و شقاء نفوسهم، حيث إنّ فريضة الجهاد الدينيّة و النصرة للّه و رسوله هيّج لذلك المعذّرين من الأعراب و جاءوا إلى النبيّ يستأذنونه؛ و لم يؤثّر في هؤلاء الكاذبين شيئاً٢.
فلهذا نزلت الآيات الآتية لبيان عدم معصية الضعفاء و المرضى و غير المتمكّنين ماليّاً، إذا كانوا مؤمنين و ساروا على نهج رسول الله:
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ٣.
انهمار دموع البكّائين لعدم تمكّنهم من السفر
جاء في التفاسير و التواريخ أنّ هؤلاء الأشخاص الذين بكوا لعدم تمكّنهم من السفر كانوا سبعة سُمّوا البكّائين. و الروايات في أسمائهم مختلفة اختلافاً كبيراً٤.
قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره: جاء البكّاءون إلى رسول الله و هم
سبعة: مِنْ بَنِي عَمْرِ بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، قد شهدوا بدراً لا اختلاف فيه؛ و من بَنِي وَ اقِف هَرَمِيّ بْنُ عُمَيْر؛ و من بَنِي جَارِيَة عَلِيّةُ بْنُ يَزِيد، و هو الذي تصدَّق بعَرضه۱. و ذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أمر بصدقة؛ فجعل الناس يأتون بها. فجاء عَلِيَّة، فقال: يا رسول الله! و الله ما عندي ما أتصدّق به، و قد جعلت عَرضي حلًّا. فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله: قد قبل الله صدقتك.
و من بَنِي مَازِن أبُو لَيْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن كَعْب؛ و من بَنِي سَلِمَة عَمْرُو بْنُ عَتَمَة؛ و من بَنِي زُرَيْق سَلِمَةُ بْنُ صَخْر؛ و من بَنِي سُلَيْم عِرْبَاضُ بْنُ سَارَيَة السلميّ. هؤلاء جاءوا إلى رسول الله يبكون فقالوا: يا رسول الله! ليس بنا قوّة أن نخرج معك. فأنزل الله هذه الآية٢.
و قال الواقديّ بعد بيان أسماء البكّائين: و لمّا خرج البكّاءون من عند رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، لقي يَاميِنُ بْنُ عُمَيْر أبَا لَيْلَى المَازِنِيّ وَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُقَفَّلِ المُزَنِيّ، و هما يبكيان. فقال: و ما يبكيكما؟
قالا: جئنا إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ليَحْملْنا؛ فلم نجد عنده ما يحملنا عليه؛ و ليس عندنا ما ننفق به على الخروج؛ و نحن نكره أن
تفوتنا غزوة مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
فأعطاهما (يَامِينُ بْنُ عُمَيْر) ناضحاً له، فارتحلاه. و زوّد كلّ رجل منهما صاعين۱ من تمر، فخرجا مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و حمل العبّاس بن عبد المطّلب منهم رجلين. و حمل عثمان منهم ثلاثة. و بالنتيجة خرج السبعة كلّهم مع رسول الله٢.
و تقدّم لنا الآيتان الآتيتان أعلى نموذج للتضحية في سبيل الله و الفناء في إرادة النبوّة و الولاية. و ذلك في الترغيب و التحريض على الجهاد و لزوم الإيثار و التضحية في طريق رسول الله، و ضرورة تحمّل المشاكل و المشقّات و الجوع و العطش و الدخول في أرض الكافرين و إنفاق القليل و الكثير في سبيل الله:
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ٣ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ٤.
و تجهّز الجيش للتحرّك نحو تبوك. و توجّه من الرجال ثلاثون ألفاً
في اثني عشر ألفاً من الخيول، و خمسة عشر ألفاً۱ من الإبل. و كانت المدّة التي أمضوها حتّى وصلوا إلى تلك الأرض عشرين يوماً. و بقي رسول الله هناك عشرة أيّام و نيّف٢. و استمرّت المدّة عشرين يوماً ثمّ رجعوا.
و كان دليل رسول الله إلى تبوك عَلْقَمَةُ بْنُ الفَغْوَاءِ الخُزَاعِيّ. و مضى رسول الله فوصل «ذا خُشُب». و لمّا كان الجوّ حارّاً، لذا كان يبقى نهاره و يسير ليله. و كان يجمع من يوم نزل «ذا خُشُب» بين الظهر و العصر. يؤخّر الظهر (عن وقت الزوال) حتّى يُبرِد، و يعجّل العصر. ثمّ يجمع بينها. فكلّ ذلك فعله حتّى رجع من تبوك إلى المدينة٣.
وفاة أبي ذرّ الغفاريّ غريباً وحيداً بالربذة بعد أن نفاه عثمان إليها
و كان أبو ذرّ الغِفَاريّ (جُندُبُ بنُ جُنَادَة) تخلّف عن رسول الله ثلاثة أيّام، و ذلك أنّ جَمَلَه كان أعجف (و كان يقوّيه بالطعام و العلف تلك الأيّام. ثمّ جاء راكباً عليه مسافة، و أخيراً عجز الجمل عن المسير في منتصف الطريق) فتركه أبو ذرّ و حمل ثيابه على كتفه، و شدّ أثقاله على ظهره، (و سار وحده ليلحق برسول الله).
و لمّا ارتفع النهار، نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: كان أبو ذرّ. فقالوا: هو أبو ذرّ رحمه الله.
قال رسول الله: أدركوه بالماء فإنّه عطشان! فأدركوه بالماء. و وافى أبو ذرّ رسول الله و معه إدَاوَة٤ فيها ماء.
فقال رسول الله: يا أبا ذرّ! معك ماء و عطشت؟!
فقال: نعم يا رسول الله! بأبي أنت و امِّي انتهيت إلى صخرة و عليها ماء السماء فذقته، فإذا هو عذب بارد فقلتُ: لا أشربه حتّى يشربه حبيبي رسول الله. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: رَحِمَكَ اللهُ! تَعِيشُ وَحْدَكَ، وَ تَمُوتُ وَحْدَكَ وَ تُبْعَثُ وَحْدَكَ، وَ تَدْخُلُ الجَنَّةَ وَحْدَكَ! يَسْعَدُ بِكَ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ العِرَاقِ يَتَوَلَّوْنَ غُسْلَكَ وَ تَجْهِيزَكَ وَ دَفْنَكَ۱!
و لمّا نفاه عثمان إلى الربذة٢، مات بها ابنه ذرّ. فوقف أبو ذرّ على قبره فقال: رَحِمَكَ اللهُ يَا ذَرُّ، لَقَدْ كُنْتَ كَريِمَ الخُلْقِ بَارَّاً بِالوَالِدَينِ! وَ مَا عَلَيّ في مَوْتِكَ مِنْ غَضَاضَةٍ؛ وَ مَا لي إلى غَيْرِ اللهِ مِنْ حَاجَةٍ؛ وَ قَدْ شَغَلَنِي الاهْتِمَامُ لَكَ عَنِ الاغْتِمَامِ بِكَ! لَوْ لا هَوْلُ المُطَّلَعِ لأحْبَبْتُ أنْ أكُونَ مَكَانَكَ!
فَلَيْتَ شِعْرِي مَا قَالُوا لَكَ؟ وَ مَا قُلْتَ لَهُمْ؟
ثُمَّ قَالَ: اللَهُمَّ إنَّكَ فَرَضْتَ لَكَ عَلَيهِ حَقَّاً وَ فَرَضْتَ لي عَلَيْهِ حُقُوقَاً فَإنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَهُ مَا فَرَضْتَ لي عَلَيْهِ مِنَ الحُقُوقِ فَهَبْ لَهُ مَا فَرَضْتَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِكَ! فَإنَّكَ أوْلَى بَالحَقِّ وَ الكَرَمِ مِنِّي!
و كانت لأبي ذرّ غنيمات يعيش هو و عياله منها، فأصابها داء يقال له: النُّقار٣، فماتت كلّها. فأصاب أبا ذرّ و ابنته الفقر و العسر و الجوع
الشديد فماتت أهله.
قالت ابنته: يا أبتِ! أصابنا الجوع، و بقينا ثلاثة أيّام لم نأكل شيئاً!
قال أبو ذرّ: يا بنيّة! قومي بنا إلى الرمل نطلب القَتّ۱ (و هو نبت له حبّ) فصرنا إلى الرمل، فلم نجد شيئاً.
قالت البنت: فجمع أبي رملًا، و وضع رأسه عليه، و رأيت عينه قد انقلبت. فبكيت و قلت له: يا أبت! كيف أصنع بك، و أنا وحيدة؟
فقال أبي: يا بنيّتي! لا تخافي، فإنّي إذا متّ جاءك مِن أهل العراق مَن يكفيك أمري. فإنّه أخبرني حبيبي رسول الله في غزوة تبوك، فقال: يا أبا ذرّ! تعيش وحدك، و تموت وحدك، و تبعث وحدك، و تدخل الجنّة وحدك! يسعد بك أقوام من أهل العراق، يتولّون غسلك و تجهيزك و دفنك! فإذا أنا متُّ فمدّي الكساء على وجهي، ثمّ اقعدي على طريق العراق؛ فإذا أقبل ركب، فقومي إليهم و قولي: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله قد توفّي.
قال الراوي: فدخل إليه قوم من أهل الربذة فقالوا: يا أبا ذرّ ما تشتكي؟
قال: ذنوبي! قالوا: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربّي! قالوا: فهل لك بطبيب؟! قال: الطبيب أمرضني.
قالت ابنته: لمّا عاين أبي الموت، سمعته يقول: مرحباً بحبيب أتى على فاقة. لا أفلح من ندم. اللهمّ خنّقني خناقك، فوحقك إنّك لتعلم أنّي احبّ لقاءك.
قالت ابنته: فلمّا مات، مددت الكساء على وجهه، ثمّ قعدت على طريق العراق. فجاء نفر، فقلت لهم: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ! هذا أبو ذرّ
صاحب رسول الله قد توفي.
فنزلوا و مشوا يبكون فجاؤوا، فغسّلوه، و كفّنوه، و دفنوه. و كان فيهم مَالِكُ الأشْتَرِ النَّخَعِيّ. روي أنّه قال: دفنته في حلّة كانت معي قيمتها أربعة آلاف درهم۱.
قالت ابنته: كنت اصلّي بصلاته، و أصوم بصيامه فبينما أنا ذات ليلة نائمة عند قبره، إذ سمعته يتهجّد بالقرآن في نومي كما كان يتهجّد به في حياته٢. فقلت: يا أبه! ما ذا فعل بك ربّك؟!
فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ! قَدِمْتُ عَلَى رَبٍّ كَريِمٍ؛ رَضِيَ عَنِّي وَ رَضِيتُ عَنْهُ وَ أكْرَمَنِي وَ حَبَانِي فَاعْمَلِي وَ لَا تُغَرِّي٣.
و روى كبار الخاصّة و العامّة في كتبهم لقاء أبي ذرّ لرسول الله في
غزوة تبوك. و إخبار النبيّ باستشهاده و موته غريباً، و تجهيزه، و تكفينه من قبل جماعة من أهل العراق.۱
و كان أبو ذرّ الغفاريّ من أعاظم صحابة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم. و قيل: ليس كمثله و مثل سلمان و المقداد بن الأسود الكنديّ أحد في الفقه و الفضل٢.
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
قصّة أبي خيثمة، و لحوقه برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم
و جاء في «تفسير عليّ بن إبراهيم» في ذيل قوله تعالى: وَ لَوْ أَرادُوا
إن اللَّعِينَ أبُوكَ فَارْمِ عِظَامَهُ | *** | أنْ تَرْمِ تَرْمِ مُخَلَّجاً مَجْنُونَا |
يُمْسِي خَميصَ البَطْنِ مِنْ عَمَلِ التُّقَى | *** | وَ يَظَلُّ مِنْ عَمَلِ الخَبِيثِ بَطِينَا |
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً۱ الآية: و تخلّف عن رسول الله قوم من أهل ثبات و بصائر لم يكن يلحقهم شكّ و لا ارتياب؛ و لكنّهم قالوا: نلحق برسول الله. منهم أبُو خَيْثَمَة. ثمّ ذكر قصّته٢. و لكن لمّا ذكرها الواقديّ بصورة أكثر تفصيلًا لذلك ننقلها فيما يأتي: و كان أبو خَيْثَمَة قد تخلّف عن رسول الله. و كان لا يُتّهم في إسلامه و لا يُغمَص عليه؛ فعزم له على ما عزم. فرجع بعد أن سار رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عشرة أيّام، حتّى دخل على امرأتين له في يوم حارّ. فوجدهما في عريشين لهما. (العريش حجيرة يستظلّ بها و هي شبه الخيمة. تصنع من خشب و ورق و غيرهما) قد رشّت كلّ واحدة منهما عريشها و برّدت له فيه ماءً، و هيّأت له فيه طعاماً.
فلمّا انتهى إليهما، قام على العريشين، فقال:
سُبْحَانَ اللهِ! رَسُولُ اللهِ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَ مَا تَأخَّرَ في الضَّحِ٣ وَ الرِّيحِ وَ الحَرِّ يَحْمِلُ سِلَاحَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَ أبُو خَيْثَمَةَ في ظِلَالٍ بَارِدٍ وَ طَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَ امْرَأتَيْنِ حَسْنَاوَيْنِ مُقِيمٌ في مَالِهِ؛ مَا هَذَا بِالنَّصَفِ.
ثمّ قال: و الله، لا أدخل عريش واحدة منكما حتّى أخرج فألحق برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
فأناخ ناضحه و شدّ عليه قَتَبَه، و تزوّد، و ارتحل. فجعلت امرأتاه تكلّمانه و لا يكلّمهما؛ و سار حتّى أدرك عُمَيْرَ بْنَ وَهَبِ الجُمَحِيّ بوادي
القرى يريد النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم. فصحبه فترافقا، حتّى إذا دَنَوا من تبوك. قال أبو خَيْثَمَة: يا عُمَيْرُ! إنّ لي ذنوباً و أنت لا ذنب لك! فلا عليك أن تخلّف عنّي حتّى آتي رسول الله قبلك، فأعتذر إليه و أتوب.
ففعل عمير، فسار أبو خَيْثَمَة حتّى إذا دنا من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و هو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب الطريق.
قال رسول الله: كن أبا خيثمة؛ فقال الناس: يا رسول الله هذا أبوخيثمة.
فلمّا أناخ أبو خيثمة ناضحه، أقبل فسلّم على النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم. فقال رسول الله: أوْلَى لَكَ۱ يَا أبَا خَيْثَمَة.
ثمّ أخبر رسول الله الخبر. فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم خيراً و دعا له٢.
قصّة أبي جلاس المنافق و توبة مخيّش بن حميّر
المؤرّخون قالوا: و كان رهط من المنافقين يسيرون مع النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم في تبوك. منهم: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِت، و الجُلاسُ بْنُ سُوَيد بْن الصَّامِت، وَ مَخْيّش بْنُ حُمَيْرِّ، وَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبْ. (و عند ما كانوا يسيرون). فقال ثعلبة: تحسبون أنّ قتال بني الأصفر (حرب الروم) كقتال
غيرهم؟! و الله لكأنّا بكم غداً مقرّنين في الحبال! (و كان يقول هذا) إرجافاً برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و ترهيباً للمؤمنين (من القتال).
(ثمّ) قال وديعة: ما لي أرى قُرّاءنا هؤلاء أوعَبنا بطوناً، و أ كذَبنا ألسنةً، و أجبنَنا عند اللقاء؟!
و قال الجلاس (بعده: انظروا) هؤلاء سادتنا و أشرافنا و أهل الفضل منّا! و الله لئن كان محمّد صادق، لنحن شرّ من الحمير! و الله، لوددت أنّي أُقاضي على أن يُضرَب كلّ رجل منّا مائةَ جلدة، و أنّا ننفلت من أن ينزل فينا القرآن بمقالتكم! فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لعمّار بن ياسر: أدرك القوم فإنّهم قد احترقوا؛ فسلهم عمّا قالوا؛ فإن أنكرو، فقل: بلى، قد قلتم: كذا و كذا!
فذهب إليهم عمّار، فقال لهم. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يعتذرون إليه.
فقال وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، و رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على ناقته، و قد أخذ بحَقَب (الحزام الذي يشدّ به حقو البعير) ناقة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و رجلاه تنسفان الحجارة، و هو يقول: يا رسول الله! إنّما كنّا نخوض و نلعب! و لم يلتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فأنزل الله عزّ و جلّ فيه:
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ ، وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ، لَا تَعتَذِرُواْ قَد كَفَرتُم بَعدَ إِيمَٰنِكُم إِن نَّعفُ عَن طَآئِفَة مِّنكُم نُعَذِّب طَآئِفَةَ بِأَنَّهُم كَانُواْ
.
مُجرِمِينَ ۱.
قالوا: و كان عُمير ربيب جُلاس، و هو أحد المؤمنين برسول الله. و عند ما قال جُلاس: لَنحن شرّ من الحمير، ردّ عليه عُمَير و قال له: فأنت شرّ من الحمار! و رسول الله الصادق و أنت الكاذب!
و كان للجلاس دية في الجاهليّة على بعض قومه، و كان محتاجاً. فلمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم المدينة، أخذها له فاستغنى بها (و جاء الجُلاس عند رسول الله، و حلف إنّه ما تكلّم بهذا الكلام الذي فيه كفر). فأنزل الله على نبيّه هذه الآية:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا (همّوا بقتل رسول الله، أو إخراجه من المدينة، أو أي ضرب من ضروب الفساد و الفوضى) وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ (في مقابل المحبّة و الإخلاص المحض) فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ٢.
و قال مَخْيّش بْنُ حُمَيِّر: قد و اللهِ يا رسول الله قعد بي، (و منعني من الخيرات) اسمي و اسم أبي.
قصّة نفاق زيد بن اللصيت و عشق ذي البجادين رسول الله
و كان الذي عفي عنه في هذه الآية مخيّش بن حميّر -فسمّاه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عبد الرحمن أو عبد الله- و سأل الله
عزّ و جلّ أن يقتل شهيداً و لا يعلم بمكانه (شهيد مجهول أو بعبارة أفضل شهيد مجهول القبر) فقتل يوم اليَمَامَة، و لم يوجد له أثر۱.
قالوا: و أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كلّ بطن من الأنصار أن يتّخذوا لواءً و راية. و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قد دفع راية بني مالك بن النجّار إلى عُمَارة بْنِ حَزْمٍ. فأدرك رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فأعطاه الراية. قال عُمارة: يا رسول الله! لعلّك وجدتَ عَلَيّ!
قَالَ: لَا وَ اللهِ وَ لَكِنْ قَدِّمُوا القُرْآنَ! وَ كَانَ أكْثَرَ أخْذاً لِلقُرْآنِ مِنْكَ! وَ القُرْآنُ يُقَدِّمُ وَ إنْ كَانَ عَبْدَاً مُجَدَّعَاً٢.
و عند ما أصبح رسول الله في منزل من المنازل في طريق تبوك، ضلّت نَاقَتهُ القَصْوَاء. فخرج أصحابه في طلبها. و عند رسول الله عُمَارَة بْنِ حَزْمٍ و هو عقبيّ بدريّ قتل يوم اليمامة شهيداً و كان في رحله زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ أحد بني قَيْنُقَاع. كان يهوديّاً فأسلم، (و لكنّه) نافق. و كان فيه خبث اليهود و غِشّهم. و كان مُظاهراً لأهل النفاق. فقال زيد و هو في رحل عُمارة، و عُمارة عند النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: أ ليس محمّد يزعم أنّه نبيّ، و أنّه يخبركم عن خبر السماء، و هو لا يدري أين ناقته؟!
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنّ منافقاً يقول: إنّ محمّداً يزعم أنّه نبيّ، و أنّه يخبركم بأمر السماء، و لا يدري أين ناقته!
و إنّي و الله ما أعلم إلّا ما علّمني الله، و قد دلّني عليها، و هي في
.
الوادي في شِعب كذا و كذا -و أشار لهم إليه- حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتّى تأتوا بها. فذهبوا فجاؤوا بها.
فرجع عمارة إلى رَحله، فقال: العجب من شيء، حدّثناه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. أنّها عن مقالة قائل أخبره الله عنه! قال: كذا و كذا، الذي قال زيد.
قال: فقال رجل ممّن كان في رَحل عُمارة، و لم يحضر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: زيد و الله قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علينا (و ما إن سمع عُماره هذا الكلام قام) و أقبل على زيد بن اللُّصَيْت يَجَاه في عنقه. و يقول: و اللهِ، إنّ في رَحلِي لَداهِية و ما أدري. اخرج يا عدوّ الله من رحلي!
(قيل:) و كان الذي أخبر عمارة بمقالة زيد أخوه عَمْرو بن حَزْم. و كان في الرحل مع رهط من أصحابه. و الذي ذهب فجاء بالناقة من الشعب الحَارِثُ بْنُ خَزَمَة الأشْهَلِيّ؛ وجدها و زمامها قد تعلّق في شجرة.
فقال زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْت: لكأنّي لم اسلم إلّا اليوم. قد كنت شاكّاً في مُحَمَّد، و قد أصبحت و أنا فيه ذو بَصيرة. و أشهد أنّه رسول الله. فزعم الناس أنّه تاب. و كان خَارِجَةُ بنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يُنكر توبته و يقول: لم يزل فَسْلًا حتّى مات۱.
و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنّكم ستأتون غداً إن
شاء الله عين تبوك! و إنّكم لن تنالوها حتّى يضحي النهار. فمن جاءها فلا يمسّ من مائها شيئاً حتّى آتي.
قال مُعَاذُ بْنُ جَبَل: فجئناها (مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم) و قد سبق إليها رجلان، و العين مثل الزلال، تَبِضّ بشيء من ماء (تسيل قليلًا قليلًا). فسألهما (رسول الله): هل مَسِسْتُما من مائها شيئاً؟!
قالا: نعم! فسبّهما النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و قال لهما ما شاء الله أن يقول. ثمّ غَرَفُوا بأيديهم قليلًا قليلًا (بأمر النبيّ) حتّى اجتمع في شَنّ (قربة خلقة)، ثمّ غسل النبيّ فيه وجهَه و يديه، ثمّ أعاده فيها، فجاءت العين بماء كثير، فاستقى الناس. ثمّ قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لمعاذ: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد مُلِئ جِناناً۱!
وفاة ذي البجادين في تبوك، و ذهاب النبيّ إلى قبره
و كان عَبْدُ اللهِ ذُو البِجَادَيْنِ من مُزَيْنَة؛ و كان يتيماً لا مال له. قد مات أبوه فلم يورثه شيئاً. و كان عمّه مَيِّلًا فأخذه و كفله حتّى كان قد أيسر، فكانت له إبل و غنم و رقيق. فلمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم
المدينة، جعلت نفسه (تشتاق إلى زيارة رسول الله)، و تتوق إلى الإسلام؛ و لا يقدر عليه من عمّه، حتّى مضت السنون و المشاهد كلّها، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من فتح مكّة راجعاً إلى المدينة.
فقال عَبْدُ اللهِ لعمّه: يا عمّ! قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمّداً! فائذن لي في الإسلام!
فقال عمّه: و الله لئن اتّبعت مُحَمَّدَاً، لا أترك بيدك شيئاً كنت أعطيتكه إلّا نزعته منك حتّى ثوبيك.
فقال عَبْدُ العُزَّى و هو يومئذٍ اسمه: و أنا و الله متّبع محمّداً و مسلم، و تارك عبادة الحجر و الوثن. و هذا ما بيدي فخذه!
فأخذ كلّ ما أعطاه، حتّى جرّده من إزاره.
فأتى عبد الله امّه فقطعت بِجَاداً لها باثنين (البجاد كساء فيه خطوط)۱ فائتزر بواحد، و ارتدى بالآخر. ثمّ أقبل إلى المدينة و كان بوَرِقَان (جبل من حِمى المدينة).
فاضطجع في المسجد إلى السحر. ثمّ صلّى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الصبح. و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يتصفّح الناس إذا انصرف من الصبح، فنظر إليه، فأنكره.
فقال: من أنت؟ فانتسب له، (و قال: اسمي عبد العزّى.) فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أنت عَبْدُ اللهِ ذُو البِجَادَيْنِ! ثمّ قال: انزل منّي قريباً. فجعله من أضيافه، و كان يعلّمه القرآن حتّى قرأ قرآناً كثيراً.
و كان (ذُو البِجَادَيْن) رجلًا صيّتاً، فكان يقوم في المسجد، فيرفع
صوته بالقراءة.
فقال عمر: يا رسول الله، أ لا تسمع إلى هذا الأعرابيّ يرفع صوته بالقرآن حتّى قد منع الناس القراءة؟!
فقال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: دعه يا عمر! فإنّه خرج مهاجراً إلى الله و رسوله!
و لمّا كان الناس يتجهّزون إلى تبوك، جاء إلى النبيّ و قال: يا رسول الله! ادع الله لي بالشهادة.
قال رسول الله: أبلغني لِحاء۱ سمُرَة (قشر شجرة سمرة) فأبلغه لحاءَ سَمُرة. فربطها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على عضده، و قال: اللَهُمَّ إنِّي احَرِّمُ دَمَهُ على الكُفَّارِ! فقال: يا رسول الله! ليس هذا أردت.
قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: (يا ذا البجادين)! إنّك إذا خرجت غازياً في سبيل الله، فأخذتك الحمّى، فقتلتك، فأنت شهيد! وَ وَقَصَتْك دابّتك فأنت شهيد! لا تُبالِ بأيّةٍ كان!
و لمّا نزلوا تبوكاً؛ و أقاموا بها أيّاماً، توفي عبد الله ذو البجادين.
فكان بَلَالُ بْنُ الحَارِثُ يقول: حضرتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و مع بِلَالُ المؤذِّن شُعْلَةٌ من نار عند القبر واقفاً بها. و إذا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في القبر، و إذا أبو بكر، و عمر يدلِّيانه إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و هو يقول: أدْنِيا إليّ أخاكما!
و لمّا هيّأه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لشقّه، قال: اللهمّ إنّي قد أمسيتُ عنه راضياً فارض عنه!
فقال عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُود: يا ليتني كنت صاحب اللحد۱.
و أقام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بتبوك عشرين ليلة يصلّي قصراً، و هرقل يومئذٍ بحمص٢.
و قال رجل من بَنِي سَعْد بن هُذَيْم: جئت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و هو جالس بتبوك في نفر من أصحابه، و هو سابعهم، فوقفت، فسلّمت.
فقال: اجلس! فقلت: يا رسول الله، أشْهَدُ أن لَا إلَهَ إلَّا اللهُ؛ وَ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ. قال: أفْلَحَ وَجْهَكَ. ثمّ قال: يا بلال! أطعمنا! فبسط بلال نطِعاً (بساط من الأديم) ثمّ جعل يخرج من حَميتٍ٣ له، فأخرج خرجات بيده من تمر معجون بالسَّمن و الأقِط. ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: فأكلنا حتّى شبعنا. فقلت: (أنا) يا رسول الله! إن كنت لآكل هذا وحدي!
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: الكَافِرُ يَأكُلُ في سَبْعَةِ أمْعَاءٍ٤ وَ المُؤْمِنُ يَأكُلُ في مِعيٍ وَاحِدٍ. قال: ثمّ جئته من الغد متحيّناً لغدائه، لأزداد في الإسلام يقيناً. فإذا عشرة نفر حوله. قال: هات! أطعمنا يا بلال! فجعل بلال يخرج من جراب تمر بكفّه قبضة قبضة. فقال له رسول الله: أخْرِجْ وَ لَا تَخَفْ مِنْ ذي العَرْشِ إقْتَارَاً! فجاء بلال بالجراب، فنثره. قال: فَحزرتُه مُدَّين. فوضع النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يده على
التمر، ثمّ قال: كُلُوا بِاسْمِ اللهِ! فأكل القوم، و أكلت معهم. و كنت صاحبَ تمرٍ. قال: فأكلت حتّى ما أجد له مسلكاً. و بقي على النِّطع مثل الذي جاء به بلال، كأنّنا لم نأكل منه تمرة واحدة.
ثمّ عدتُ من الغد. و عاد نفر حتّى باتوا، فكانوا عشرة أو يزيدون رجلًا أو رجلين. فقال رسول الله: يا بلال أطعمنا. فجاء بلال بذلك الجراب بعينه أعرفه، فنثره. و وضع رسول الله يده عليه فقال: كُلُوا بِاسْمِ اللهِ. فأكلنا حتّى نهلنا. ثمّ رفع بلال مثل الذي صبّ. ففعل مثل ذلك ثلاثةأيّام۱.
إرسال هرقل رجلًا للتحقيق في علامات النبوّة
و كان هِرْقَل (إمبراطور الروم) قد بعث رجلًا من غسّان إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فينظر إلى صفته و إلى علاماته، إلى حمرة في عينيه، و إلى خاتم النبوّة بين كتفيه، و سأل فإذا هو لا يقبل الصدقة. فوعى (ذلك الرجل) أشياء من حال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، ثمّ انصرف إلى هرقل، فذكر له ذلك. فعلم هرقل أنّه نبيّ حقّ من الله.
فدعا قومه إلى التصديق به. فأبوا حتّى خافهم على ملكه. و هو في موضعه لم يتحرّك، و لم يزحف (لقتال المسلمين). و كان الذي خبّر النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم من بَعْثِه أصحابه و دنوّه إلى أدنى الشام باطلًا. و لم يرد ذلك و لم يهمّ به.
و شاور رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أصحابه في التقدّم فقال عمر بن الخطّاب: إن كنت امرتَ بالمسير، فسر!
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: لو امرتُ به ما استشرتكم فيه!
قال (عمر): يا رسول الله! فإنّ للروم جموعاً كثيرة، و ليس بها أحد من أهل الإسلام؛ و قد دنوت منهم حيث ترى، و قد أفزعهم دنوّك. فلو رجعت هذه السنة حتّى ترى، أو يحدث الله لك في ذلك أمراً۱.و كان عبد الله بن عمر يقول: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بتبوك، فقام يصلّي من الليل. و كان يكثر التهجّد من الليل (يفيق و ينام) و لا يقوم إلّا استاك.
المعجزات التي ظهرت من رسول الله في غزوة تبوك
و كان إذا قام يصلّي، صلّى بفناء خيمته. فيقوم ناس من المسلمين فيحرسونه. فصلّى ليلة من تلك الليالى. فلمّا فرغ أقبل على من كان عنده، فقال: اعْطِيتُ خَمْسَاً مَا اعْطِيهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي: بُعِثْتُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وَ إنَّمَا كَانَ النَّبِيّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ. وَ جُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدَاً وَ طَهُورَاً، أيْنَمَا أدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَ صَلَّيْتُ، وَ كَانَ مَنْ قَبْلِي يُعْظِمُونَ ذَلِكَ، وَ لَا يُصَلُّونَ إلَّا في كَنَائِسِهِمْ وَ البِيَعِ. وَ احِلَّتْ لي الغَنَائِمُ آكُلُهَا، وَ كَانَ مَنْ قَبْلِي يُحَرِّمُونَها. وَ الخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ؟ هِيَ مَا هِيَ؟ هِيَ مَا هِيَ؟ ثَلَاثَاً.
قَالُوا: وَ مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: قِيلَ لي: سَلْ! فَكُلُّ نَبِيّ قَدْ سَألَ! فَهِيَ لَكُمْ وَ لِمَنْ شَهِدَ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ٢.
إنّ ما كان في غزوة تبوك من المصاعب، و المشاكل، و الجوع، و العطش، و عدم وجود الراحلة لجميع الجنود، مع بُعد الطريق، و شدّة الحرّ في الصيف، كلّ ذلك أضفى على هذه الغزوة طابعاً خاصّاً: و سمّي جيشها: جَيْشُ العُسْرَةِ۱. و اتُّخذ هذا الاسم من الآية الآتية:
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ٢.
ذكر الشيخ الطبرسيّ: نزلت في غزاة تبوك و ما لحق المسلمين فيها من العسرة حتّى همّ قوم بالرجوع، ثمّ تداركهم لطف الله سبحانه. قال الحَسَن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثمّ ينزل فيركب صاحبه كذلك. و كان زادهم الشعير
المُسَوَّس، و التمر المُدَوَّد، و الإهَالَةَ السَّخِنَة۱.
و كان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم. فإذا بلغ الجوع من أحدهم، أخذ التمرة فلاكها حتّى يجد طعمها، ثمّ يعطيها صاحبه، فيمصّها، ثمّ يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتّى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة٢.و روي عن أبي سعيد الخدريّ أنّه قال: أصبح رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في طريقه إلى تبوك، و لا ماء مع عسكره. فشكوا ذلك إليه صلّى الله عليه و آله و سلّم و هو على غير ماء. قال عَبْدُ اللهِ بنُ أبي حَدْرَد: رأيت رسول الله استقبل القبلة فدعا، و لا و الله ما أرى في السماء سحاباً. فما برح رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يدعو حتّى أنّي لأنظر إلى السحاب تأتلف من كلّ ناحية. فما رام مقامه حتّى سحّت علينا السماء بالرواء. فكأنّي أسمع تكبير رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في المطر. ثمّ كشف الله السماء عنّا من ساعتها، و إذ الأرض إلّا غُدُرٌ يصبّ بعضها في بعض.
فسُقي الناس و ارتووا عن آخرهم؛ و سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول: أشْهَدُ إنِّي رَسُولُ اللهِ.
فقلت لرجل من المنافقين: وَيْحَكَ! أ بَعْدَ هَذَا شَيءٌ؟ فَقَالَ: سَحَابَةٌ
مَارَّةٌ. و هو أوْسُ بْنُ قَيْظِيّ. و يقال: زَيْدِ بْنُ اللُّصَيْت۱.
يقول قَتَادَة ضمن حديث مفصّل عند الرجوع من تبوك أيضاً: كانت معي إداوَة فيها ماء و رَكْوَةٌ٢ لي أشرب فيها. و توضّأ رسول الله من ماء الإداوة لصلاة الصبح، ففضل فضلة، فقال: احْتَفِظْ بِمَا في الإدَاوَةِ وَ الرَّكْوَة فَإنَّ لَهَا شَأناً.
ثمّ صلّى بنا رسول الله صلاة الصبح، فقرأ سورة المائدة. ثمّ ركب فلحق الجيش عند زوال الشمس و نحن معه. و قد كادت تقطع أعناق الرجال و الخيل عطشاً. فدعا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بالرَّكوة، فأفرغ ما في الإداوة فيها. فوضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه. و أقبل الناس فاستقوا؛ و فاض الماء حتّى تَرَوّوا، و أروَوْا خيلهم و ركابهم. و كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير، و يقال: خمسة عشر ألف بعير، و الناس ثلاثون ألفاً، و الخيل عشرة آلاف. و ذلك قول النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لأبي قتادة: احْتَفِظْ بِمَا في الرَّكْوَةِ وَ الإدَاوَةِ٣.
و روى ابن أبي سَبْرَة، عن موسى بن سعيد، عن عِرْباض بْنِ سَارِيَة قال: كنت ألزم باب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في الحضر و السفر. و قال بعد شرح مفصّل لمعجزاته:
كنّا حول قبّة رسول الله في ليلة من الليالى، و كان من عادة النبيّ أنّه
.
يتهجّد في الليل، فقام تلك الليلة يصلّي. فلمّا طلع الفجر، ركع ركعتي الفجر، و أذّن بلال و أقام، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بالناس. ثمّ انصرف إلى فِناء قبّته، فجلس و جلسنا حوله. و كنّا عشرة مع الفقراء الذين كانوا عنده.
فقال (رسول الله): هل لكم في الغَداء؟ قال عِرباض: فجعلت أقول في نفسي: أي غداء؟ فدعا بلالَ بالتمر، فوضع يده عليه في الصحفة، ثمّ قال: كُلُوا بِاسْمِ اللهِ. فأكلنا، و الذي بعثه بالحقّ حتّى شبعنا، و إنّا لعشرة. ثمّ رفعوا أيديهم منها شبعاً، و إذا التمرات كما هي.
قال رسول الله: لَوْ لا أنِّي أسْتَحْيِي مِنْ رَبِّي لأكَلْنَا مِنْ هَذَا التَّمْرِ حتّى نَرِدَ المَدِينَةَ عَنْ آخِرِنَا.
و طلع غُلَيِّمٌ من أهل البلد، و أخذ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم التمرات بيده فدفعها إليه. فولّى الغلام يلوكُهنَّ.
فلمّا أجمع رسول الله المسير من تبوك، أرمل الناس إرمالًا شديداً. فشخص على ذلك الحال، حتّى جاء الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يستأذنونه أن ينحروا ركابهم، فيأكلوها. فأذن لهم. فلقيهم عمر بن الخطّاب و هم على نحرها؛ فأمرهم أن يمسكوا عن نحرها، ثمّ دخل على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في خيمة له، فقال: أذنتَ للناس في نحر حَمولتهم يأكلونها؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: شَكَوا إلَيّ مَا بَلَغَ مِنْهُمُ الجُوعُ فَأذِنْتُ لَهُمْ، يَنْحَرُ الرُّفْقَةُ البَعِيرَ وَ البَعِيرَيْنِ وَ يَتَعَاقَبُونَ فِيمَا فَضَلَ مِنْ ظَهْرِهِمْ وَ هُمْ قَافِلُونَ إلى أهْلِيهِمْ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَا تَفْعَلْ! فَإنْ يَكُنْ للنَّاسِ فَضْلٌ مِنْ ظَهْرِهِمْ
يَكُنْ خَيْرَاً؛ فَالظَّهْرُ اليوْمَ رِقَاقٌ۱.
و لكن ادع بفضل أزوادهم ثمّ اجمعها فادع الله فيها بالبركة كما فعلتَ في منصرفنا من الحديبيّة حيث أرملنا، فإنّ الله عزّ و جلّ يستجيب لك!
فنادى منادي رسول الله: من كان عنده فضل من زاد فليأت به. و أمر رسول الله بالأنطاع فَبُسِطت. فجعل الرجل يأتي بالمُدّ الدقيق، و السويق، و التمر. و يأتي الآخر بالقبضة من الدقيق، و السويق، و التمر، و الكِسَر. فيوضع كلّ صنفٍ من ذلك على حِدَة