المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
الدَّرسُ السَّادِسُ وَ العُشرُونَ بَعْدَ المائتَين إلى الارْبَعينَ بَعْدَ المائَتَين: تَقَدُّمُ الشِّيعَةِ وَ تَأسِيسُهُمْ جَمِيعِ العُلُومِ مِنْ عَهْدِ الإمامِ البَاقِرِ إلى زَمَانِ الإمَامِ العَسكَرِيّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوة إلّا بالله العليّ العظيم
عظمة الكلمات الآفاقيّة و الانفسيّة
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ (بِيَدِ الكُتّاب) وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ (تكون حِبراً، و يريد الناس أن يحصوا كلمات الله و موجوداته فإنّهم لا يستطيعون، (لأنّه) ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.۱
قال سماحة استاذُنا الأكرم العلّامة الطباطبائيّ في تفسير هذه الآية المباركة: و الظاهر أنّ المراد بالسبعة التكثير دون خصوص هذا العدد.
و الكلمة هي اللفظ الدالّ على معنى. و قد اطلق في كلامه تعالى على الوجود المفاض بأمره تعالى. و قد قال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.٢ و قد اطلق على المسيح عليه السلام الكلمة في قوله: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ.٣
فالمعنى: و لو جعل جميع أشجار الأرض أقلاماً و اخذ البحر و اضيف
إليه سبعة أمثاله، و جُعل المجموع مداداً فكتب كلمات الله - بتبديلها ألفاظاً دالّة عليها - بتلك الأقلام من ذلك المداد لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات الله، لكونها غير متناهية.۱
و مع أنّ هذه الآية الكريمة الشريفة كانت في مقام عظمة و كثرة الكلمات الآفاقيّة و الأنفسيّة الإلهيّة المعبَّر عنها بعالم الكون و الوجود، بَيدَ أنّ استعمال لفظ القلم للكتابة، و البحر مداداً لإحصاء موجودات العالم الزاخر بالابّهة و الجلالة، و المليء بعجائب الخلقة و أسرارها اللامتناهية يجعلنا ندرك أهمّيّة القلم و الكتابة بوضوح، و نقف على عظمة و جلال و عمق أئمّة الشيعة و المجتمع الشيعيّ، إذ نهضوا بالأمر منذ البداية و قاموا بتدوين السنّة النبويّة عملًا بكلام رسول الله صلّى الله عليه و آله، على الرغم من الأجواء المشاكسة المناوئة.
و كان أئمّة الشيعة روّاد مدرسة العلم و القلم و التدوين. و لم يتحفوا شيعتهم فقط بنور العلم، بل أتحفوا العالم الإسلاميّ كلّه، بل العالم البشريّ بجميع ملله و نحله. و قالوا و كتبوا و بثّوا شعاع العِلم في أقطار العالم عبر المَحبرة و القلم و الكتابة على صفحات الورق الواسعة، و الألواح، و جلود الحيوانات، و جريد النخل (العُسُب)، و عظام الجمال و الأبقار و الأغنام.
كلمات قصار للعلماء في عظمة القلم و الكتابة
و يحسن بنا - قبل أن ندخل في الحديث حول تدوين آل محمّد عليهم السلام و تصنيفهم - أن نذكر مطالب رائعة أخّاذة للعالم النحرير الشيخ الحسين بن عبد الصمد عزّ الدين الحارثيّ الهمدانيّ العامليّ، الوالد الجليل لشيخنا الأعظم بهاء الدين العامليّ، نقلها في كتابه النفيس في الأخلاق، باب الكتابة. ثمّ ندخل في بحثنا.
قال: قال بعض العلماء في مدح الكتب: الكُتُبُ بَسَاتينُ العُقَلَاءِ.
أي: أنّ جميع الناس غير العقلاء يظنّون أنّ الرياض و الحدائق و البساتين تنحصر بالأراضي المفروشة بالورود و السنابل و الرياحين و الارجوان، في حين يرى العقلاء أنّ رياضهم و حدائقهم الحقيقيّة التجوّل بين الكتب و تصفّحها و النظر في مطالبها البديعة المتنوّعة.
و قال بعض البلغاء: الكِتَابُ وِعَاءٌ مَلِيّ عِلْمًا، وَ ظَرْفٌ مَلِيّ ظَرْفاً.
و قال بعض الفصحاء: الكُتُبُ أصْدافُ الحِكَمِ تَنْشَقُّ عَنْ جَوَاهِرِ الكَلِمِ.
و قال بعضهم: الكِتَابُ بُسْتَانٌ يُحْمَلُ في رُدْنٍ،۱ وَ رَوضَةٌ تُقْلَبُ في حِجْرِ، يَنْطِقُ عَنِ المَوْتَى، وَ يُتَرْجِمُ عَنِ الأحْيَاءِ.
و قال الشاعر:
ولى جُلَسَاءٌ لَا يُمَلُّ حَدِيثُهُمْ | *** | ألِبَّاءُ مَأمونُونَ غَيْباً وَ مَشْهَدا |
يُفيدُونَني مِنْ عِلْمِهِمْ عِلْمَ مَنْ مَضَى | *** | وَ عَقْلًا وَ تَأديباً وَ رأياً مُسَدَّدا |
فالحاصل: أنّ المرء يظهر في كتابه مكنون علمه، و يعبِّئ فيه موقر رويّته و فهمه. فيتأتّى له فيه كثير ما لم يتأتَ على لسانه، و لا يتيسّر له أن يعرب عنه ببلاغته و بيانه، لأنّه في الأغلب يكون منفرداً في خلوته، فيكون متفرّغاً لاستعمال بصيرته و فكرته.
و لهذا قال بعض الحكماء: كِتَابُ المَرْءِ عُنْوانُ عَقْلِهِ وَ لِسَانُ فَضْلِهِ.
و قال بعض العلماء: لَا يَزَالُ المَرْءُ تَحْتَ سِتْرٍ مِنْ عَقْلِهِ حتى يُؤَلِّفَ كِتَاباً أوْ شِعْراً.
و قال بعضهم: مَا قَرَأتُ كِتابَ رَجُلٍ إلَّا عَرَفْتُ مِقْدارَ عَقْلِهِ.
و قال بعض الملوك: ثَلَاثَةٌ تدلّ على عُقُولِ أرْبَابِهَا: الهَدِيَّةُ، وَ الكِتَابُ، وَ الرَّسُولُ.
و قال علي بن أبي طالب عليه السلام: عَقْلُ الكَاتِبِ قَلَمُهُ.
و قال مسعدة: الأقْلَامُ مَطَايَا الفِطَنِ.
و قال بعضهم: عُقُول الرِّجَالِ تَحْتَ أسِنَّةِ أقْلَامِهِمْ.
و على كلّ حال، فالخطّ من أكبر المهمّات الدينيّة و الدنيويّة، و عليه مدار أكثر الامور الدنيّة و العليّة. و لهذا كانت الكتّاب سامتة الملك، و عمّار المملكة، و خزنة الأموال.
و ممّا يدلّ على شرفه أنّ الله تعالى أقسم ببعض أدواته و هو القلم، كما أقسم به في قوله تعالى: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ.۱
و عدّده الله من نعمه في قوله تعالى: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.٢ فوصف نفسه بأنّه عَلَّمَ بِالقلم، كما وصف نفسه بالكَرَم.
و في «منثور الحِكَم»: الدَّوَاةُ مِنْ أنْفَعِ الأدَوَاتِ، وَ الحِبْرُ أجْدَى مِنَ التِّبْرِ.
و قال بعض الفضلاء: القَلَمُ أحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَ حُسْنُ الخَطِّ أحَدُ الفَصَاحَتَيْنِ.
و قال بعض الحكماء: صُورةُ الخَطِّ في الأبْصَارِ سَوَادٌ، وَ في البَصَائِرِ
بَيَاضٌ.
و قال بعضهم: القَلَمُ رُوحُ اليَدِ، وَ لِسَانُ الفِكْرِ.
و قال اقليدس: الخَطُّ هَنْدسَةٌ رُوحَانِيَّةٌ وَ إن ظَهَرتْ بِآلَةٍ جَسَدَانِيَّةٍ.
و قال بعض العلماء: القَلَمُ صَانِعُ الكَلَام.
و قال بعضهم: لَمْ أرَ بَاكِياً أحْسَنَ تَبَسُّماً مِنَ القَلَمِ.
و قالوا: جَهْلُ الخَطِّ الزَّمَانَةُ الخَفِيَّةُ.
و قال ابن مُقْلَةَ: لَا دِيَةَ عِنْدَنَا لِيَدٍ لَا تَكْتُبُ.
و قال ابن البوّاب: اليَدُ التي لَا تَكْتُبُ رِجْلٌ.
و قال جعفر بن يحيى: الخَطُّ سِمْطُ الحِكْمَةِ، بِهِ تُفَصَّلُ شُذُورُهَا، وَ يَنْتَظِمُ مَنْثُورُهَا.
و قال ابن المُقَفّع: اللِّسَانُ مَقْصُورٌ عَلَى الحَاضِرِ، وَ القَلَمُ عَلَى الشَّاهِدِ وَ الغَابِرِ.۱
و قال بعض العلماء: لَا شَيْءَ أفْضَلُ مِنَ القَلَمِ، لأنَّ مُدَّةَ عُمْرِ الإنسَانِ لَا يُمْكِنُ أنْ يُدْرِكَ فِيهَا بِفِكْرِهِ مَا يُدْرِكُ بِقَلَمِهِ.
و عن ابن عبّاس في قوله تعالى: «أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ»٢ يَعْنِي الخَطَّ.
و عن مجاهد في قوله تعالى: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ».٣ قَالَ:
الخَطُّ. و أيضاً: «مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً». يَعْنِي الخَطَّ.
و قال بعض الحكماء: القَلَمُ وَ السَّيْفُ حَاكِمَانِ في جَمِيعِ الأشْيَاء،
وَ لَوْ لا هُمَا مَا قَامَتِ الدُّنْيَا.۱
أي: ينبغي إقامة العالم بالقلم و الكتابة و بيان العلوم، و أيضاً بالسلطة العادلة الفاضلة.
أجل، استبان ممّا ذكرناه أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله لم يحظر الكتابة، بل كان جادّاً في تدوين السُّنّة، و كان يأمر المؤهَّلين بالكتابة، و يأذن لمن يستأذن فيها.٢
روى الخطيب البغداديّ في كتاب «تقييد العلم» بسنده المتّصل عن فايد غلام عبيد الله بن أبي رافع، عن عبيد الله بن أبي رافع قَالَ: كَانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَأتِي أبَا رَافِعٍ فَيَقُولُ: مَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَوْمَ كَذَا؟! مَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و آلِهِ يَوْمَ كَذَا؟! وَ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ ألْوَاحٌ يَكْتُبُ فِيهَا.٣
و روى بسنده المتّصل عن أبار: أبي حفص، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عبّاس قال: قَيِّدُوا العِلْمَ! وَ تَقْييدُهُ كِتابُهُ.٤
و روى بسنده المتّصل الآخر عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبّاس قال: خَيْرُ مَا قُيِّدَ بِهِ العِلْمُ الكِتَابُ.۱
كلام أبي سعيد في رواية الحديث
و روى بسنده الآخر عن أبي المتوكّل قال: سألتُ أبا سعيد الخُدريّ عن التشهّد، فقال: التَّحِيَّاتُ، الصَّلَوَاتُ، الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ. السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيّ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ. السَّلَامُ عَلَيْنَا وَ عَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ. أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَ أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ.
قال أبو سعيد: وَ كُنَّا لَا نَكْتُبُ إلَّا القُرْآنَ وَ التَّشَهُّدَ.٢
نلحظ هنا أنّ أبا سعيد يقول: و كان دأبنا ألّا نكتب إلّا القرآن و التشهّد، من جانب الآخر نجد في حديث يلي الحديث المتقدّم أنّ الخطيب يقول بعد روايته إيّاه عن أبي سعيد: و أبو سعيد هو الذي رُوي عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: لَا تَكْتُبُوا عَنِّي سِوَى القُرْآنِ، وَ مَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ القُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ!
و نلحظ هنا من جهة اخرى أنّه يخبر أنّهم كانوا يكتبون التشهّد أيضاً مع القرآن. و هذا دليل على أنّ المراد من النهي عن كتابة غير القرآن هو ما بيّناه سلفاً. أي: شيء يكون نظيراً للقرآن، فيُعرض الناس عن القرآن و يهتمّون به.
بَيدَ أنّ أبا سعيد لمّا رأى نفسه آمناً من هذا الخطر، و شعر بالحاجة الماسّة إلى كتابة العلم، لم يَرَ في نفسه كراهة في كتابة العلم كما أنّ الصحابة
لم يكرهوا كتابة التشهّد. و لا يُلحظ بين التشهّد و غير التشهّد فرق عن كافّة العلوم في أنّها جمعياً ليست قرآناً. و العلوم التي دوّنها الصحابة في كتبهم و أمروا بكتابتها كانت على سبيل الاحتياط، كما أنّ كراهتهم الكتابة كانت كذلك. و الله أعلم.
الصحابة يكتبون جميع ما يسمعونه من النبيّ صلّى الله عليه و آله
و روى الخطيب أيضاً بسنده عن هُبَيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، أو عن رجل آخر أنّه قال: كُنَّا إ ذَا أتَيْنَا أنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَ كَثُرْنَا عَلَيْهِ، أخْرَجَ إلَيْنَا مَجَالَ۱ مِنْ كُتُبٍ، فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبٌ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ قَرَأنَاهَا عَلَيْهِ.٢
و بعد أن ذكر الخطيب حديثين آخرين بهذا المضمون، أورد حديثاً آخر عن هُبيرة بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك: إنَّهُ كَانَ إ ذَا حَدَّثَ فَكَثُرَ النَّاسُ عَلَيْهِ لِلْحَدِيثِ، جَاءَ بِصِكَاكٍ٣ فَألْقَاهَا إلَيْهِمْ فَقَالَ: هَذِهِ أحَادِيثُ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ كَتَبْتُهَا وَ عَرَضْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.٤
و روى أيضاً بسند آخر عن عبد الله بن المثنّى قال: حدّثني عمّاي النضر و موسى ابنا أنس عن أبيهما أنس: إنَّهُ أمَرَهُمَا بِكِتَابَةِ الحَدِيثِ
وَ الآثَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ تَعَلُّمِهَا. وَ قَالَ أنَسٌ: كُنَّا لَا نَعُدُّ عِلْمَ مَنْ لَمْ يَكْتُبْ عِلْمَهُ عِلْماً.۱
ثمّ نقل الخطيب سبعة أحاديث اخرى عن أنس، و حديثاً عن أبي امامة الباهليّ. و بعد ذلك ذكر حديثاً يدلّ على أنّ الصحابة كان دأبهم في زمن النبيّ صلّى الله عليه و آله أن يكتبوا جميع ما سمعوه من نبيّهم.
فقد روى بسنده عن عبد الله بن عمرو أنّه قال: أتيتُ النبيّ صلّى الله عليه و آله مع قومٍ أنا أصغرهم، فسمعته يقول: مَن كَذَبَ عَلَيّ. قال إسحاق [راوي الحديث] و حسبتُه قال: مُتَعَمِّداً، فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ. فأقبلتُ على صاحبي فقلتُ: كَيْفَ تَجْتَرونَ عَلَى الحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ قَدْ سَمِعْتُمْ مَا قَالَ؟!
قَالُوا: يَا بْنَ اخْتِنَا! إنَّا لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئاً إلَّا وَ هُوَ عِنْدَنَا في كِتَابٍ.٢
و ذكر الخطيب هذا المضمون بسند آخر أيضاً، و فيه: مَنْ كَذَبَ عَلَيّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.٣
و بعد أن يُثبت الخطيب أنّ الكتابة كانت متداولة عند بعض الصحابة و التابعين، و هو لم يسمع كلامهم في منع الامّة منها، و فتح فصلًا في رواية التابعين و كتابتهم تحت عنوان «الرواية عن الطبقات الاخرى من التابعين في ذلك». روى فيه بسنده عن أبي المليح، عن أيّوب أنّه قال: يَعِيبُونَ
عَلَيْنَا الكِتَابَ ثُمَّ تَلَا: عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي في كِتَابٍ»۱
و روى بسنده أيضاً عن بَقِيَّة أنّه كان يقول: ربّما سمع مِنّي أرطاة الحديث، و نحن نمشي في السوق، فيقول: أمْلِهِ عَلَيّ! فأقول: في وَسَطِ الطَّرِيقِ؟ فيقول: أ وَ في غَيْرِ اللهِ نَحْنُ؟!٢
و روى بسنده عن مَعْمَر قال: حدّثتُ يحيى بن أبي كثير بأحاديث فقال لي: اكتب لي حديث كذا و كذا! فقلتُ: إنَّا نَكْرَهُ أنْ نَكْتُبَ العِلْمَ يَا أبَا نَصْرٍ! فقال: اكْتُبْ لي، فَإن لَمْ تَكُنْ كَتَبْتَ، فَقَدْ ضَيَّعْتَ؛ أوْ قَالَ: عَجَزْتَ.٣
و جملة القول: استبان ممّا ذكرناه مفصّلًا في الجزء الرابع عشر من هذا الكتاب، و أعقبناه بشرح في الجزء الخامس عشر منه أنّ التدوين كان شائعاً غير محظور في عصر النبيّ صلّى الله عليه و آله. و بعده كان الخلاف فيه شديداً بين عمر و بعض الصحابة من جهة، و بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و بعض الصحابة الآخرين من جهة اخرى. فكان عمر يقول: إذا دُوِّنت السنّة فإنّ الناس يُقبلون عليها و ينشغلون بقراءتها فيُهْجَر كتاب الله، أو تشتبه السنّة بالقرآن في التدوين و يحدث خلط بينهما.
و كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: لا خطر في ذلك أبداً.
فتدوين السنّة منفصل عن تدوين القرآن. و لا بدّ أن تُدَوَّن السنّة، و إلّا يبقى
القرآن بلا ترجمان و بلا بيان و تفسير. لهذا كان عليه السلام دائم الاشتغال في التدوين، و كان يأمر به مؤكِّداً.
خلاف العامّة في صيغة التشهّد
و قد قالوا، و كتبوا، و نشروا فلم يحدث خطر قطّ، و ظلّت السنّة حيّةً صريحةً عند أتباعه و مواليه. أمّا عند الطرف المخالف، حيث تُركت السُّنّة بلا تدوين، فإنّ الفقر العلميّ قد عمّ الأرجاء. و بعد موت الصحابة و مجيء التابعين لم يكن هناك من ينقل السنّة للُامّة، اللهمّ إلّا محفوظات كان التابعون قد أخذوها من الصحابة، و مُنيت بضروب من الخطأ و الخلط و النسيان بسبب طول المدّة. يضاف إليه أنّهم لمّا أجازوا النقل بالمعنى في الأحاديث، و لم يكن هناك تدوين، فإنّهم نقلوا الموضوع الواحد بألفاظ متفاوتة، حتى أنّ العامّة رووا التشهّد بتسعة ألفاظ،۱ و اختلفوا في صلاة
...۱
...۱
...۱
...۱
الميِّت و لم يعلموا كم تكبيرة واجبة فيها،۱ مع أنّهم كانوا ملازمين للنبيّ صلّى الله عليه و آله و يأتمون به في الصفّ الأوّل. أو أنّهم كانوا يصلّون مع
نبيّهم على موتى المسلمين مراراً. و لكن لمّا لم يكن هناك باعث على الحفظ أو التدوين، أو أنّ الصَّفْقَ في الأسْوَاقِ قد شغلهم، لذا لم يبق عندهم مجال لتنظيم شئونهم العباديّة و الدينيّة و ضبطها و تثبيتها.
أجل، لقد سلك العامّة و أهل السنّة مسلكهم، و قصّروا، بل تقاعسوا و تكاسلوا في أمر التدوين حتى رأوا أنّ السيفَ قد سبق العَذَل، و أنّ سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله التي خالوا أنّهم اولو الأمر عليها قد اندثرت. لهذا اجبروا وفقاً لضرورة التأريخ على اتّباع الشيعة في تدوين السنّة و التصنيف فيها. و قد تأخّر هذا الموضوع، كما رأينا أنّهم قد اشتغلوا فيه إبّان منتصف القرن الثاني الهجريّ. أي: تأخّروا عن تدوين الكتب الاولى للسنّة قرناً و نصف، لذلك تخلّف العامّة عن الخاصّة قرناً و نصف في تدوين السُّنّة و العلوم النبويّة. و قد أدّى هذا التخلّف و التأخير في التدوين و ما نتج عنه من آثار سيّئة ذميمة إلى اختلاف مذاهب العامّة حتى اضطرّوا إلى حصرها و تصفيدها في أربعة مذاهب.
تدوين الشيعة الحديث اقتداءً بأئمّتهم
قال العالم الخبير و الباحث الجليل القدير آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ:
۱ - إن اولي الألباب ليعلمون بالضرورة انقطاع الشيعة الإماميّة خلفاً عن سلف في اصول الدين و فروعه إلى العترة الطاهرة. فرأيهم تَبَع لرأي الأئمّة من العترة في الفروع و الاصول و سائر ما يؤخذ من الكتاب و السُّنّة أو يتعلّق بهما من جميع العلوم لا يعوّلون في شيء من ذلك إلّا عليهم، و لا يرجعون فيه إلّا إليهم، فهم يدينون الله تعالى، و يتقرّبون إليه سبحانه بمذهب أئمّة أهل البيت، لا يجدون عنه حِوَلًا و لا يرتضون بدلًا.
على ذلك مضى سلفهم الصالح من عهد أمير المؤمنين و الحسن و الحسين و الأئمّة التسعة من ذرّية الحسين عليه السلام إلى زماننا هذا. و قد
أخذ الفروع و الاصول عن كلّ واحد منهم جمّ من ثقات الشيعة و حفّاظهم وافر، و عدد من أهل الورع و الضبط و الإتقان يربو على التواتر. فرووا ذلك لمن بعدهم على سبيل التواتر القطعيّ، و من بعدهم رواه لمن بعده على هذا السبيل. و هكذا كان الأمر في كلّ خلف و جيل، إلى أن انتهى الينا كالشمس الضاحية ليس دونها حجاب. فنحن الآن في الفروع و الاصول على ما كان عليه الأئمّة من آل الرسول، روينا بقضّنا و قضيضنا مذهبهم عن جميع آبائنا. و روى جميع آبائنا ذلك عن جميع آبائهم. و هكذا كانت الحال في جميع الأجيال إلى زمن النَّقِيَّينِ العَسْكَريَّينِ، وَ الرِّضَاءَيْنِ الجَوَادَيْنِ، وَ الكَاظِمَيْنِ الصَّادِقَيْنِ، وَ العَابِدَيْنِ البَاقِرَيْنِ، وَ السِّبْطَيْنِ الشَّهِيدَيْنِ، وَ أميرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
أئمّة العامّة الاربعة من الناس العاديّين في أعصارهم
فلا نحيط الآن بمن صحب أئمّة أهل البيت من سلف الشيعة، فسمع أحكام الدين منهم، و حمل علوم الإسلام عنهم. و إن الوسع ليضيق عن استقصائهم و عددهم. و حسبك ما خرج من أقلام أعلامهم من المؤلَّفات الممتعة التي لا يمكن استيفاء عدّها في هذا الإملاء! و قد اقتبسوها من نور أئمّة الهدى من آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم و اغترفوها من بحورهم، سمعوها من أفواههم، و أخذوها من شفاههم. فهي ديوان علمهم، و عنوان حكمهم، الِّفت على عهدهم فكانت مرجع الشيعة من بعدهم. و بها ظهر امتياز مذهب أهل البيت على غيره من مذاهب المسلمين. فإنّا لا نعرف أنّ أحداً من مقلّدي الأئمّة الأربعة مثلًا ألَّف على عهدهم كتاباً في أحد مذاهبهم. و إنّما ألّف الناس على مذاهبهم فأكثروا بعد انقضاء زمنهم و ذلك حيث تقرّر حصر التقليد فيهم، و قصر الإمامة في الفروع عليهم، و كانوا أيّام حياتهم كسائر مَن عاصرهم من الفقهاء و المحدّثين، لم يكن لهم امتياز على من كان في طبقتهم. و لذلك لم يكن
على عهدهم من يهتمّ بتدوين أقوالهم، اهتمام الشيعة بتدوين أقوال أئمّتها المعصومين - على رأيها - فإنّ الشيعة من أوّل نشأتها لا تبيح الرجوع في الدين إلى غير أئمّتها، و لذلك عكفت هذا العكوف عليهم، و انقطعت في أخذ معالم الدين إليهم. و قد بذلت الوسع و الطاقة في تدوين كلّ ما شافهوها به، و استفرغت الهمم و العزائم في ذلك بما لا مزيد عليه، حفظاً للعلم الذي لا يصحّ - على رأيها - عند الله سواه.
و حسبك ممّا كتبوه أيّام الصادق عليه السلام تلك الاصول الأربعمائة، و هي أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف، كتبت من فتاوى الصادق على عهده. و لأصحاب الصادق غيرها هو أضعافها، كما ستستمع تفصيله قريباً إن شاء الله تعالى.
أمّا الأئمّة الأربعة فليس لهم عند أحدٍ من الناس منزلة أئمّة أهل البيت عند شيعتهم، بل لم يكونوا أيّام حياتهم بالمنزلة التي تبوّأوها بعد وفاتهم، كما صرّح به ابن خلدون المغربيّ في الفصل الذي عقده لعلم الفقه من مقدّمته الشهيرة. و اعترف به غير واحد من أعلامهم.
و نحن مع ذلك لا نرتاب في أنّ مذاهبهم إنّما هي مذاهب أتباعهم التي عليها مدار عملهم في كلّ جيل. و قد دوّنوها في كتبهم، لأنّ أتباعهم أعرف بمذاهبهم، كما أنّ الشيعة أعرف بمذهب أئمّتهم الذي يدينون الله بالعمل على مقتضاه، و لا تتحقّق منهم نيّة القربة إلى الله بسواهُ.
٢ - و إن الباحثين ليعلمون بالبداهة تقدّم الشيعة في تدوين العلوم على من سواهم، إذ لم يتصدّ لذلك في العصر الأوّل غير عليّ و اولي العلم من شيعته. و لعلّ السرّ في ذلك اختلاف الصحابة في إباحة كتابة العلم و عدمها.
فكرهها - كما عن العسقلانيّ في مقدّمة «فتح الباري» و غيره - عمر بن الخطّاب و جماعة آخرون، خشية أن يختلط الحديث في الكتاب. و أباحه
عليّ و خلفه الحسن السبط المجتبى و جماعة من الصحابة. و بقي الأمر على هذه الحال حتى أجمع أهل القرن الثاني في آخر عصر التابعين على إباحته.
و حينئذٍ ألّف ابن جريح كتابه في الآثار عن مجاهد و عطاء بمكّة.
و عن الغزّاليّ أنّه أوّل كتاب صُنّف في الإسلام. و الصواب أنّه أوّل كتاب صنّفه غير الشيعة من المسلمين. و بعده كتاب معتمر بن راشد الصنعانيّ باليمن. ثمّ «موطّأ مالك». و عن مقدّمة «فتح الباري» أنّ الربيع بن صبيح أوّل من جمع. و كان في آخر عصر التابعين. و على كُلٍّ، فالإجماع منعقد على أنّه ليس لهم في العصر الأوّل تاليف.
أمّا عليّ و شيعته، فقد تصدّوا لذلك في العصر الأوّل. و أوّل شيءٍ دوّنه أمير المؤمنين كتاب الله عزّ و جلّ.
و أسهب السيّد شرف الدين هنا في الحديث عن قرآن أمير المؤمنين، و مصحف فاطمة،۱ و صحيفة الديات التي دُوّنت بيده المباركة. و بعد ذلك ذكر مؤلّفي الشيعة في عصره كسلمان، و أبي ذرّ الغفاريّ على ما نقل ابن شهرآشوب. كما ذكر أبا رافع، و عليّ بن أبي
رافع، و عبيد الله بن أبي رافع، و ربيعة بن سميع، و عبد الله بن الحرّ الفارسيّ، و الأصبغ بن نباتة، و سُلَيم بن قيس الهلاليّ.۱
تدوين الشيعة التابعين للحديث
ثمّ دخل في الحديث عن المؤلّفين من الطبقة الثانية، فقال:
٣ - و أمّا مؤلِّفوا سلفنا من أهل الطبقة الثانية - طبقة التابعين - فإنّ مراجعتنا هذه لتضيق عن بيانهم. و المرجع في معرفتهم و معرفة مصنّفاتهم و أسانيدها إليهم على التفصيل إنّما هو فهارس علمائنا و مؤلّفاتهم في تراجم الرجال.
سطع - أيّام تلك الطبقة - نور أهل البيت، و كان قبلها محجوباً بسحائب ظلم الظالمين، لأنّ فاجعة الطفّ فضحت أعداء آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم، و أسقطتهم من أنظار اولي الألباب، و لفتت وجوه الباحثين إلى مصائب أهل البيت منذ فقدوا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و اضطرّت الناس بقوارعها الفادحة إلى البحث عن أساسها، و حملتهم على التنقيب عن أسبابها، فعرفوا جذرتها و بذرتها. و بذلك نهض اولو الحميّة من المسلمين إلى حفظ مقام أهل البيت و الانتصار لهم، لأنّ الطبيعة لبشريّة تنتصر بجبلّتها للمظلوم، و تنفر من الظالم. و كأنّ المسلمين بعد تلك الفاجعة دخلوا في دور جديد، فاندفعوا إلى موالاة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين، و انقطعوا إليه في فروع الدين و اصوله، و في كلّ ما يؤخذ من الكتاب و السنّة من سائر الفنون الإسلاميّة، و فزعوا من بعده إلى ابنه الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام.
و كان أصحاب هذين الإمامين «العابِدَيْنِ الباقِرَين» من سلف الإماميّة الوفاً مؤلَّفة لا يمكن إحصاؤهم، لكن الذين دوّنت أسماؤهم و أحوالهم في كتب التراجم من حملة العلم عنهما يقاربون أربعة آلاف بطل، و مصنّفاتهم تقارب عشرة آلاف كتاب أو تزيد، رواها أصحابنا في كلّ خَلَفٍ عنهم بالأسانيد الصحيحة. و فاز جماعة من أعلام اولئك الأبطال بخدمتهما و خدمة بقيّتهما الإمام الصادق عليه السلام. و كان الحظّ الأوفر لجماعة منهم فازوا بالقِدح المعلّى علماً و عملًا.
فمنهم: أبو سعيد أبان بن تَغْلِب بن رِباح الجريريّ القارئ الفقيه المحدِّث المفسِّر الاصوليّ اللغويّ المشهور. كان من أوثق الناس. لقي الأئمّة الثلاثة (السجّاد، و الباقر، و الصادق عليهم السلام) فروى عنهم علوماً جمّة، و أحاديث كثيرة. و حسبك أنّه روى عن الصادق خاصّة ثلاثين ألف حديث،۱ كما أخرجه الميرزا محمّد في ترجمة أبان من كتاب «منتهى المقال» بالإسناد إلى أبان بن عثمان عن الصادق عليه السلام. و كان له عندهم حظوة و قدم.
قال له الباقر عليه السلام، و هما في المدينة الطيّبة: اجْلِسْ في المَسْجِدِ وَ أفْتِ النَّاسَ! فإنّي احِبُّ أنْ يُرَى في شِيعَتِي مِثْلُكَ!
و قال له الصادق عليه السلام: نَاظِرْ أهْلَ المدينَةِ! فإنّي احِبُّ أنْ يَكُونَ مِثْلُكَ مِنْ رُوَاتِي وَ رِجَالِي!
و كان إذا قدم المدينة تقوّضت إليه الخلق، و اخليت له سارية النبيّ صلّى الله عليه و آله. و قال الصادق عليه السلام لسليم بن أبي حبّة: إئْتِ أبَانَ بْنَ تَغْلِبَ فَإنَّهُ سَمِعَ مِنِّي حَدِيثاً كَثِيراً! فَمَا رَوَي لَكَ فَارْوِهِ عَنِّي! و قال
عليه السلام لأبان بن عثمان: إن أبَانَ بْنَ تَغْلِبَ رَوَى عَنِّي ثَلاثِينَ ألْفَ حَدِيثٍ فَارْوِهَا عَنْهُ.
و كان إذا دخل أبان على الصادق يعانقه و يصافحه، و يأمر بوسادة تثني له، و يُقبل عليه بكلّه. و لمّا نُعي إليه قال عليه السلام: أمَا وَ اللهِ لَقَدْ أوْجَعَ قَلْبِي مَوْتُ أبَانٍ. و كانت وفاته سنة إحدى و أربعين و مائة.
و لأبان روايات عن أنس بن مالك، و الأعمش، و محمّد بن المنكدر، و سَمّاك بن حرب، و إبراهيم النخعيّ، و فضيل بن عمرو، و الحكم. و قد احتجّ به مسلم و أصحاب السنن الأربعة كما بيّناه، إذ أوردناه في المراجعة ۱٦. و لا يضرّه عدم احتجاج البخاريّ به، فإنّ له اسوةً بأئمّة أهل البيت، الصادق، و الكاظم، و الرضا، و الجواد التقيّ، و الهادي النقيّ، و الحسن العسكريّ الزكيّ، إذ لم يحتجّ بهم، بل لم يحتجّ بالسبط الأكبر سيّد شباب أهل الجنّة.
نعم، احتجّ بمروان بن الحكم، و عمران بن حطّان، و عكرمة البربريّ، و غيرهم من أمثالهم فَإنَّا لِلَّهِ وَ إنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
و لأبان مصنّفات ممتعة، منها كتاب تفسير «غريب القرآن الكريم» أكثر فيه من شعر العرب شواهد على ما جاء في الكتاب الحكيم. و قد جاء فيما بعد عبد الرحمن بن محمّد الأزديّ الكوفيّ، فجمع من كتاب أبان، و محمّد بن السائب الكلبيّ، و ابن روق عطيّة بن الحارث، فجعله كتاباً واحداً بيّن ما اختلفوا فيه، و ما اتّفقوا عليه. فتارة يجيء كتاب أبان مفرداً، و تارةً يجيء مشتركاً على ما عمله عبد الرحمن. و قد روى أصحابنا كلًّا من الكتابين بالأسانيد المعتبرة، و الطرق المختلفة. و لأبان كتاب «الفضائل»، و كتاب «صفّين». و له أصل من الاصول التي تعتمد عليها الإماميّة في أحكامها الشرعيّة، و قد روت جميع كتبه بالإسناد إليه و التفصيل في كتب
منزلة أبي حمزة الثماليّ
الرجال.
و منهم: أبو حمزة الثماليّ ثابت بن دينار. كان من ثقات سلفنا الصالح و أعلامهم، أخذ العلم عن الأئمّة الثلاثة: الصادق، و الباقر، و زين العابدين عليهم السلام. و كان منقطعاً إليهم، مقرّباً عندهم. أثنى عليه الصادق، فقال عليه السلام: أبُو حَمْزَةَ في زَمَانِهِ مِثْلُ سَلْمَانَ الفَارِسِيّ في زَمَانِهِ. و عن الرضا عليه السلام: أبُو حَمْزَةَ في زَمَانِهِ كَلُقْمَانَ في زَمَانِهِ.
له كتاب تفسير القرآن. رأيتُ الإمام الطبرسيّ ينقل عنه في تفسيره «مجمع البيان».۱ و له كتاب «النوادر»، و كتاب «الزهد»، و رسالة الحقوق.٢ رواها عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام. و روى عنه دعاءه في السحر، و هو أسنى من الشمس و القمر. و له رواية عن أنس، و الشعبيّ. و روى عنه وكيع، و أبو نعيم، و جماعة من أهل تلك الطبقة من أصحابنا و غيرهم، كما بيّناه في أحواله في المراجعة ۱٦.
و هناك أبطال لم يدركوا الإمام زين العابدين، و إنّما فازوا بخدمة الباقرَين الصادَقين عليهما السلام.
منزلة بُريد، و زرارة، و محمّد بن مسلم، و أبي بصير
فمنهم: أبُو القَاسِمِ بُرَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَة العِجْلِيّ، وَ أبُو بَصِيرٍ الأصغْرِ ليْثُ بْنُ مُرَادٍ البَخْتَرِيّ المُرَادِيّ، وَ أبُو الحَسَنِ زُرَارَةُ بْنُ أعْيَن،٣ وَ أبُو جَعْفَرٍ
...۱
مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِم بْنَ رَبَاحٍ الكُوفِيّ الطَّائِفِيّ الثَّقَفَيّ، و جماعة من أعلام الهدى و مصابيح الدّجى، لا يسع المقام استقصاءهم.
أمّا هؤلاء الأربعة فقد نالوا الزلفى، و فازوا بالقِدح المعلّى، و المقام الأسمى، حتى قال فيهم الصادق عليه السلام و قد ذكرهم:
هَؤْلَاءِ امَنَاءُ اللهِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ. وَ قَالَ: مَا أجِدُ أحَداً أحْيَا ذِكْرَنَا إلَّا زُرَارَةُ، وَ أبُو بَصِيرٍ لَيْثٌ، وَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَ بُرَيْدٌ. وَ لَوْ لا هَؤلَاءِ مَا كَانَ أحَدٌ يَسْتَنْبِطُ هَذَا. ثُمَّ قَالَ: هَؤلاءِ حُفَّاظُ الدِّينِ وَ امَنَاءُ أبي عَلَى حَلَالِ اللهِ وَ حَرَامِهِ، وَ هُمُ السَّابِقُونَ إلَيْنَا في الدُّنْيَا، وَ السَّابِقُونَ إلَيْنَا في الآخِرَةِ.
و قال عليه السلام: بَشِّرِ المُخْبِتِينَ بِالجَنَّةِ - ثُمَّ ذَكَرَ الأرْبَعَةَ.
و قال في كلام طويل ذكرهم فيه: كَانَ أبي ائتَمَنَهُمْ عَلَى حَلَالِ اللهِ وَ حَرَامِهِ، وَ كَانُوا عَيْبَةَ عِلْمِهِ، وَ كَذَلِكَ اليَوْمَ هُمْ عِنْدِي مُسْتَوْدَعُ سِرِّي، وَ أصْحَابُ أبي حَقَّاً، وَ هُمْ نُجُومُ شِيعَتِي أحْيَاءً وَ أمْوَاتاً. بِهِمْ يَكْشِفُ اللهُ كُلَّ بِدْعَةٍ، وَ يَنْفُونَ عَنْ هَذَا الدِّينِ انْتِحَالَ المُبْطِلِينَ وَ تَأوِيلَ الغَالِبِينَ - انتهى.
إلى غير ذلك من كلماته الشريفة التي أثبتت لهم من الفضل و الشرف و الكرامة و الولاية ما لا تسع بيانه عبارة. و مع ذلك فقد رماهم أعداء أهل البيت بكلّ إفك مبين. كما فصّلناه في كتابنا «مختصر الكلام في مؤلّفي الشيعة من صدر الإسلام». و ليس ذلك بقادحٍ في سموّ مقامهم، و عظيم خطرهم عند الله و رسوله و المؤمنين، كما أنّ حسدة الأنبياء ما زادوا أنبياء الله إلّا رفعةً، و لا أثروا في شرائعهم إلّا انتشاراً عند أهل الحقّ، و قبولًا في نفوس اولي الألباب.
كلام الشهرستانيّ في تبجيل الإمام الصادق عليه السلام
و قد انتشر العلم في أيّام الصادق عليه السلام بما لا مزيد عليه، و هرع إليه شيعة آبائه عليهم السلام من كلّ فجٍّ عميق. فأقبل عليهم بانبساطه، و استرسل إليهم بانسه، و لم يأل جهداً في تثقيفهم، و لم يدّخر وسعاً في إيقافهم على أسرار العلوم، و دقائق الحكمة، و حقائق الامور، كما اعترف به أبو الفتح الشهرستانيّ في كتابه «الملل و النحل»، حيث ذكر الصادق عليه السلام،۱ فقال:
وَ هُوَ ذُو عِلْمٍ غَزِيرٍ في الدِّينِ، وَ أدَبٍ كَامِلٍ في الحِكْمَةِ، وَ زُهْدٍ بَالِغٍ فِي الدُّنْيَا، وَ وَرَعٍ تَامٍّ عَنِ الشَّهَوَاتِ.
قَالَ: وَ قَدْ أقَامَ بِالمَدِينَةِ مُدَّةً يُفِيدُ الشِّيعَةَ المُنْتَمِينَ إلَيْهِ، وَ يُفِيضُ عَلَى المُوَالِينَ لَهُ أسْرَارَ العُلُومِ. ثُمَّ دَخَلَ العِرَاقَ وَ أقَامَ بِهَا مُدَّةً. مَا تَعَرَّضَ لِلإمامةِ - أي: للسَّلْطَنَةِ - قَطُّ، وَ لَا نَازَعَ أحَداً في الخِلافَةِ.
قَالَ: وَ مَنْ غَرِقَ في بَحْرِ المَعْرِفَةِ لَمْ يَطْمَعْ في شَطٍّ، وَ مَن تَعَلَّى إلى ذِرْوَةِ الحَقِيقَةِ لَمْ يَخَفْ مِنْ حَطٍّ - إلى آخِرِ كَلَامِهِ.٢
و هنا قال آية الله السيّد شرف الدين بالمناسبة: وَ الحَقُّ يُنْطِقُ مُنْصِفاً وَ عَنِيداً.
نبغ من أصحاب الصادق عليه السلام جمّ غفير، و عدد كثير، كانوا
أئمّة هُدى، و مصابيح دجى، و بحار علم، و نجوم هداية. و الذين دوِّنت أسماؤهم و أحوالهم في كتب التراجم منهم أربعة آلاف رجل من العراق و الحجاز و فارس و سوريا. و هم اولو مصنّفات مشهورة لدى علماء الإماميّة، و من جملتها الاصول الأربعمائة، و هي - كما ذكرناه سابقاً - أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف كُتبت من فتاوى الصادق عليه السلام على عهده. فكان عليها مدار العلم و العمل من بعده، حتى لخّصها جماعة من أعلام الامّة، و سفراء الأئمّة في كتب خاصّة، تسهيلًا للطالب، و تقريباً على المتناول.
و أحسن ما جُمع منها الكتب الأربعة التي هي مرجع الإماميّة في اصولهم و فروعهم من الصدر الأوّل إلى هذا الزمان، و هي «الكافي»، و «التهذيب»، و «الاستبصار»، و «من لا يحضره الفقيه». و هي متواترة و مضامينها مقطوع بصحّتها. و «الكافي» أقدمها و أعظمها و أحسنها و أتقنها.
و فيه ستّة عشر ألف و مائة و تسعة و تسعون حديثاً، و هي أكثر ممّا اشتملت عليه الصحاح الستّة بأجمعها، كما صرّح به الشهيد في «الذِّكري»، و غير واحد من الأعلام.
و ألّف هشام بن الحكم من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السلام كتباً كثيرةً، اشتهر منها تسعة و عشرون كتاباً، رواها أصحابنا بأسانيدهم إليه. و تفصيلها في كتابنا «مختصر الكلام في مؤلّفي الشيعة من صدر الإسلام». و هي كتب ممتعة باهرة في وضوح بيانها، و سطوع برهانها، في الاصول و الفروع، و في التوحيد و الفلسفة العقليّة، و الردّ على كُلٍّ من الزنادقة، و الملاحدة، و الطبيعيّين، و القدريّة، و الجبريّة، و الغلاة في على و أهل البيت. و في الردّ على الخوارج و الناصبة، و منكري الوصيّة إلى عليّ و مؤخِّريه و محاربيه، و القائلين بجواز تقديم المفضول و غير ذلك.
و كان هشام من أعلم أهل القرن الثاني في علم الكلام، و الحكمة الإلهيّة، و سائر العلوم العقليّة و النقليّة، مبرّزاً في الفقه و الحديث، مقدَّماً في التفسير، و سائر العلوم و الفنون. و هو ممّن فتق الكلام في الإمامة، و هذّب المذهب بالنظر. يروى عن الصادق و الكاظم، و له عندهم جاه لا يحيط به الوصف. و قد فاز منهم بثناءٍ يسمو به في الملأ الأعلى قدره. و كان في مبدأ أمره من الجهميّة. ثمّ لقى الصادق فاستبصر بهديه و لحق به، ثمّ بالكاظم ففاق جميع أصحابهما.
و رماه بالتجسيم و غيره من الطامّات مريد و إطفاء نور الله من مشكاته، حسداً لأهل البيت و عدواناً. و نحن أعرف الناس بمذهبه، و في أيدينا أحواله و أقواله. و له في نصرة مذهبنا من المصنّفات ما أشرنا إليه، فلا يجوز أن يخفى علينا من أقواله - و هو من سلفنا و فرطنا - ما ظهر لغيرنا، مع بعدهم عنه في المذهب و المشرب!
دفاع الشهرستانيّ عن هشام بن الحكم
على أنّ ما نقله الشهرستانيّ في «الملل و النحل» من عبارة هشام لا يدلّ على قوله بالتجسيم. و اليك عين ما نقله. قال:
وَ هِشَامُ بْنُ الحَكَمِ صَاحِبُ غَوْرٍ في الاصُولِ، لَا يَجُوزُ أنْ يُغْفَلَ عَنْ إلزَامَاتِهِ عَلَى المُعْتَزِلَةِ، فَإنَّ الرَّجُلَ وَرَاءَ مَا يُلْزِمُهُ عَلَى الخَصْمِ، وَ دُونَ مَا يُظْهِرُهُ مِنَ التَّشبِيهِ. وَ ذَلِكَ أنَّهُ ألْزَمَ العَلَّافَ فَقَالَ: إنَّكَ تَقُولُ: البَارِي عَالِمٌ بِعِلْمٍ وَ عِلْمُهُ ذَاتُهُ، فَيَكُونُ عَالِماً لَا كَالعَالِمِينَ، فَلِمَ لَا تَقُولُ: هُوَ جِسْمٌ لَا كَالأجْسَامِ؟! - انتهى.
و لا يخفى أنّ هذا الكلام إن صحّ عنه فإنّما هو بصدد المعارضة مع العلّاف، و ليس كلّ من عارض بشيءٍ يكون معتقداً له، إذ يجور أن يكون قصده اختبار العلّاف، و سبر غوره في العلم، كما أشار الشهرستانيّ إليه بقوله: فإنّ الرجل وراء ما يلزمه على الخصم، و دون ما يظهر من التشبيه.
على أنّه لو فُرض ثبوت ما يدلّ على التجسيم عن هشام، فإنّما يمكن ذلك عليه قبل استبصاره، إذ عرفتَ أنّه كان ممّن يرى رأي الجهميّة، ثمّ استبصر بهدي آل محمّد، فكان من أعلام المختصّين بأئمّتهم، لم يعثر أحد من سلفنا على شيء ممّا نسبه الخصم إليه. كما أنّا لم نجد أثراً ما لشيء ممّا نسبوه إلى كلِّ من زرارة بن أعين، و محمّد بن مسلم، و مؤمن الطاق، و أمثالهم، مع أنّا قد استفرغنا الوسع و الطاقة في البحث عن ذلك. و ما هو إلّا البغي و العدوان، و الإفك و البهتان، وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ.
أمّا ما نقله الشهرستانيّ عن هشام من القول بإلهيّة عليّ، فشيء يُضحك الثكلى. و هشام أجلّ من أن تُنسب إليه هذه الخرافة و السخافة.
و هذا كلام هشام في التوحيد ينادي بتقديس الله عن الحلول، و علوّه عمّا يقوله الجاهلون. و ذاك كلامه في الإمامة و الوصيّة يعلن بتفضيل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على عليّ، مصرِّحاً بأنَّ عليّاً من جملة امّته و رعيّته، و أنّه وصيّه و خليفته. و أنّه من عباد الله المظلومين المقهورين، العاجزين عن حفظ حقوقهم، المضطرّين إلى أن يضرعوا لخصومهم، الخائفين المترقّبين الذين لا ناصر لهم و لا معين.
و كيف يشهد الشهرستانيّ لهشام بأنّه صاحب غورٍ في الاصول، و أنّه لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة، و أنّه دون ما أظهره للعلّاف من قوله: فَلِمَ لا تقول: إن الله جسم لا كالأجسام؟ ثمّ ينسب إليه القول بأنّ عَليَّاً عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ اللهُ تَعَالَى؟ أ ليس هذا تناقضاً واضحاً؟!
و هل يليق بمثل هشام على غزارة فضله أن تنسب إليه الخرافات؟
كلّا. لكن القوم أبوا إلّا الإرجاف جسداً و ظلماً لأهل البيت و من يرى رأيهم. وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ.
المدوّنون من أصحاب الإمام الكاظم حتى العسكريّ عليهم السلام
و قد كثر التأليف على عهد الكاظم، و الرضا، و الجواد، و الهادي، و الحسن الزكيّ العسكريّ عليهم السلام بما لا مزيد عليه، و انتشرت الرواة عنهم، و عن رجال الأئمّة من آبائهم في الأمصار، و حسروا للعلم عن ساعد الاجتهاد، و شمّروا عن ساق الكدّ و الجدّ، فخاضوا عباب العلوم، و غاصوا على أسرارها، و أحصوا مسائلها، و محصوا حقائقها، فلم يألوا في تدوين الفنون جهداً، و لم يدّخروا في جمع أشتات المعارف وسعاً.
قال المحقّق الحلّيّ أعلى الله مقامه في «المعتَبر»: و كان من تلامذة الجواد عليه السلام فضلاء كالحسين بن سعيد، و أخيه الحسن، و أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، و أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ، و شاذان، و أبي الفضل العُمَيّ،۱ و أيّوب بن نوح، و أحمد بن محمّد بن عيسى، و غيرهم ممّن يطول تعدادهم. قال أعلى الله مقامه: و كتبهم إلى الآن منقولة بين الأصحاب دالّة على العلم الغزير - انتهى.
قال السيّد شرف الدين هنا: قلتُ: و حسبُك أنّ كتب البرقيّ تربو على مائة كتاب. و للبَزَنْطيّ الكتاب الكبير المعروف بـ «جامع البزنطيّ».
و للحسين بن سعيد ثلاثون كتاباً. و لا يمكن في هذا الإملاء إحصاء ما ألّفه تلامذة الأئمّة الستّة من أبناء الصادق عليه السلام. بَيدَ أنّي احيلك على كتب التراجم و الفهارس، فراجع منها أحوال محمّد بن سنان، و عليّ بن مهزيار، و الحسن بن محبوب، و الحسن بن محمّد بن سماعة، و صفوان بن يحيى، و عليّ بن يقطين، و عليّ بن فضال، و عبد الرحمن بن نجران، و الفضل بن شاذان - فإنّ له مائتي كتاب - و محمّد بن مسعود العيّاشيّ - فإنّ كتبه تربو على المائتين - و محمّد بن عمير، و أحمد بن محمّد بن عيسى، فإنّه روى
عن مائة رجل من أصحاب الصادق عليه السلام، و محمّد بن عليّ بن محبوب، و طلحة بن طلحة بن زيد، و عمّار بن موسى الساباطيّ، و عليّ بن النعمان، و الحسين بن عبد الله، و أحمد بن عبد الله بن مهران المعروف بابن خانة، و صدقة بن المنذر القمّيّ، و عبيد الله بن عليّ الحلبيّ الذي عرض كتابه على الصادق عليه السلام فصحّحه و استحسنه، و قال: أ ترى لهؤلاء مثل هذا الكتاب؟، و أبي عمرو الطبيب، و عبد الله بن سعيد الذي عرض كتابه على أبي الحسن الرضا عليه السلام، و يونس بن عبد الرحمن الذي عرض كتابه على الإمام أبي محمّد الحسن الزكيّ العسكريّ عليه السلام.
و مَن تتبّع أحوال السلف من شيعة آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم، و استقصى أصحاب كلّ من الأئمّة التسعة من ذرّيّة الحسين، و أحصى مؤلّفاتهم المدوَّنة على عهد أئمّتهم، و استقرأ الذين رووا عنهم تلك المؤلّفات، و حملوا عنهم حديث آل محمّد في فروع الدين و اصوله من الوف الرجال، ثمّ ألَمَّ بحملة هذه العلوم في كلّ طبقة طبقة، يداً عن يد من عصر التسعة المعصومين إلى عصرنا هذا، يحصل له القطع الثابت بتواتر مذهب الأئمّة، و لا يرتاب في أنّ جميع ما ندين الله به من فروع و اصول، إنّما هو مأخوذ من آل الرسول. لا يرتاب في ذلك إلّا مكابر عنيد، أو جاهل بليد (الذي لا يقبل كلام الطرف المقابل من وحي زهوه الوهميّ الخياليّ، و هو من أهل العناد و الخصومة، أو هو جاهل قليل الفهم و سفيه سقيم الذهن). وَ الحَمْدُ لِلَّهِ الذي هَدَانَا لِهَذَا وَ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أنْ هَدَانَا اللهُ، وَ السَّلَامُ.۱
كلام عبد الحليم الجنديّ في تدوين الشيعة للسنّة النبويّة
قال المستشار المصريّ عبد الحليم الجنديّ في كتابه الثمين «الإمام جعفر الصادق»: و لا مرية كان منهج عليّ و من تابعه في التدوين خيراً كبيراً للمسلمين منع المساوئ المنسوبة إلى بعض الروايات، و أقفل الباب دون افتراء الزنادقة و الوضّاعين. فَالسَّبْقُ في التَّدْوِينِ فَضِيلَةُ الشِّيعَةِ. و لمّا أجمع العلماء بعد زمان طويل على الالتجاء إليه كانوا يسلّمون بهذه الفضيلة - بالإجماع - لعليّ و بنيه.
و السنّة شارحة للكتاب العزيز، و هو مكتوب بإملاء صاحب الرسالة. فهي كمثله حقيقةٌ بالكتابة.
و بعد أن ذكر أنّ التدوين لم يتحقّق عند العامّة حتى قرنين أو قرنين و نصف، و أنّ الناس كانوا مجبورين على الرحلة إلى أقطار العالم لتلقّي الحديث على العلماء، و بعد أن تحدّث عن هذا الموضوع، قال:
كان تلاميذ الصادق من كبار المدوِّنين، فلقد عاشوا في عصر نهضة علميّة كبرى اعجب بها العالم. تبارت فيها يراعات المدوِّنين. و دارت عجلات التدوين كهيئة ما دارت عجلات الطباعة عند ظهور المطبعة. بدأها عمر بن عبد العزيز على رأس القرن، إذ أمر بتدوين السنّة. و تابعها علماء الامّة من أهل السُّنّة.
و من بعد وفاة الصادق في عام ۱٤۸ هـ دوّن أربعة آلاف من تلاميذه في كلّ علومه، و من جملتها ما يُسمّى (الاصول الأربعمائة). و هي أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف من فتاوى الصادق. و عليها مدار العلم و العمل من
بعده. و خير ما جمع منها كتب أربعة هي مرجع الإماميّة في اصولهم و فروعهم إلى اليوم. و هي «الكافي»، و «من لا يحضره الفقيه»، و «التهذيب»، و «الاستبصار».
و «الكافي» - للكلينيّ أبي جعفر محمّد بن يعقوب الكلينيّ (٣٢٩) - أعظمها و أقومها، و أحسنها و أتقنها، فيه ۱٦۱٩۰ حديثاً ألّفه الكلينيّ في عشرين سنةً.
و أمّا كتاب «من لا يحضره الفقيه» فوضعه ابن بابويه القمّيّ محمّد بن عليّ بن موسى بن بابويه القمّيّ۱ الملقّب بالصدوق. دخل بغداد سنة ٣٥۰ و مات بالريّ سنة ٣۸۱ هـ، و فيه ٥٩٦٣ حديثاً. و هذا الكتاب أهمّ مؤلّفاته، مع أنّه ألّف ثلاثمائة كتاب.
الشيخ الطوسيّ و الشريفان المرتضى و الرضيّ
و أمّا «التهذيب»، و «الاستبصار» فوضعهما بعد نحو قرن محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ (٤٦۰) الملقّب (شيخ الطائفة). و كان فقيهاً في مذهبَي الشيعة و أهل السُّنّة. و في «التّهذيب» ۱٣٥٩۰ حديثاً، و في «الاستبصار» ٥٥۱۱ حديثاً.
دخل الطوسيّ بغداد سنة ٤۰۸ هـ، و استقرّ بها في أيّام الشيخ المفدى محمّد بن محمّد بن النعمان (٣٣٦ - ٤۱۱ هـ) صاحب «شرح عقائد الصدوق»، و «أوائل المقالات»، و نحو مائتي مؤلَّف.
و تتلمذ الطوسيّ بعد موت الشيخ المفيد للشريف المرتضى، فنجب في مدرسة الشرف، و في «دار العلم» التي أنشأها. و كان يجري عليه اثني عشر ديناراً في الشهر طوال ملازمته له حتى وفاة المرتضى. و انتفع بكتب
المرتضى و الكتب التي حوتها مكتبته. فألّف في كلّ علوم الإسلام، و اجتهد الاجتهاد المطلق، فكان حجّةً في فقه الشيعة و السنّة.
و من أجلّ آثاره تدريسه في مجالسه، و أماليه بالنجف الأشرف في جوار مشهد أمير المؤمنين عليّ. و بهذا افتتح عصر العلم بالنجف الأشرف، فصار صنواً للأزهر الأغرّ - الذي أقامته دولة من دول الشيعة - و المعهدان هما اللذان حفظا علوم الإسلام.
فالطوسيّ، و الشريفان الرضيّ و المرتضى، و الشيخان المفيد و الصدوق، و الكلينيّ، قد وصلوا ما انقطع من التاليف منذ عصر الإمام الصادق حتى منتصف القرن الخامس، ليستمرّ التيّار في التدفّق.
و الشريفان في مدرسة جدّهما صنوان. أبوهما أبو أحمد الموسويّ (نسبة إلى جدّه الإمام موسى الكاظم). و فيه قول ابن أبي الحديد شارح «نهج البلاغة» للشريف الرضيّ: كان أبوه أبو أحمد جليل القدر عظيم المنزلة في دولة بني العبّاس و بني بويه، و لُقِّبَ بـ «الطاهر ذي المناقب». و لقّبه أبو نصر بن بويه بـ «الطاهر الأوحد». ولى نقابة الطالبيّين عدّة مرّات، كما ولى النظر في المظالم، و حجّ بالناس مراراً على الموسم.
عاش أبو أحمد طوال القرن الرابع (٣۰٤ - ٤۰۰ هـ)، و كان يستخلف على الحجّ و لدَيه: الرضيّ و المرتضى.
و الشريف الرضيّ (٣٥٩ - ٤۰٦ هـ) هو شاعر العربيّة الشهير، و جامع «نهج البلاغة» الأشهر، من خطب أمير المؤمنين عليّ. تولّى نقابة الطالبيّين في حياة أبيه و من بعده. و تولّى النيابة عن الخليفة العبّاسيّ. فهذه ولاية ينفرد بها في التأريخ، تجمع بين نقابة الطالبيّين و بين نيابة الخلافة السنّيّة.
و للشريف الرضيّ تاليف عظيمة في تفسير القرآن منها:
۱ - «تلخيص البيان في مجازات القرآن»۱.
٢ - «حقائق التأويل و متشابه التنزيل».
٣ - «معاني القرآن».
٤ - «مجازات الآثار النبويّة».
٥ - «خصائص الأئمّة».
أمّا الشريف المرتضى (٤٣٦ هـ) فيقول عنه الثعالبيّ في «يتيمة الدهر» - و هما متعاصران-:
انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد و الشرف و العلم و الأدب و الفضل و الكرم. و له شعر نهاية في الحسن. و مؤلّفاته كثيرة، منها:
«أمالي المرتضى»، «الشاقي»، «تنزيه الأنبياء»، «المسائل الموصليّة الاولى»، «مسائل أهل الموصل الثانية»، «مسائل أهل الموصل الثالثة»، «المسائل الديلميّة»، «المسائل الطرابلسيّة الأخيرة»، «المسائل الحلبيّة الاولى»، «المسائل الجرجانيّة»، «المسائل الصيداويّة»، و تاليف اخرى كبيرة في الفقه و القياس و رفضه. و قد شرح تلميذه الطوسيّ أكثر من مؤلَّف له.
و من أعظم آثاره إنشاء «دار العلم» ببغداد، و رصده الأموال عليها و إجزاؤه العطاء على التلاميذ و إطعامهم و إسكانهم، و كان يتبع «دار العلم» هذه مكتبته التي تحوي أكثر من ثمانين ألف مجلّد. و حسبه أن يكون الطوسيّ من تلاميذه. و في آثار هذا السلف العظيم تتابع ركب العلماء و المؤلّفين الفحول يخلّدون فقه الإسلام.
السبّاقون في التدوين هم شيعة عليّ من الصحابة و التابعين
مَشيَخة العلماء:
كان مع الكتب التي آلت عن عليّ و معاصريه مؤلّفات كبيرة أو صغيرة، وضعها من جاءوا بعده. و سير لهذا الثبت الضخم من شيعته من الصحابة، و التابعين، و تابعي التابعين. فهذا هو التراث التأريخيّ للشهداء و أشياع الشهداء. لا تكفّ الامّة عن ترديده، جهرةً و خفيةً، يتصدّرهم الصحابة العظماء. و اليك بعض الأسماء:
سلمان الفارسيّ (الذي يُطلق عليه سلمان المحمّديّ)، و أبو ذرّ (أصدق الناس لهجةً)، و عمّار الذي (تقتله الفئة الباغية) و هو في التسعين يحارب مع عليّ، و العبّاس بن عبد المطلّب، و أبو أيّوب الأنصاريّ، و المقداد بن الأسود الكنديّ الذي قال لعليّ يوم بيعة السقيفة: إن أمَرْتَنِي ضَرَبْتُ بِسَيْفِي، وَ إن أمَرْتَنِي كَفَفْتُ. قَالَ: اكْفُفْ! و خزيمة ذو الشهادتين، و أبو التَّيِّهان، و عبد الله و الفضل ابنا العبّاس، و بلال بن رباح، و هاشم بن عُتْبَة المِرْقَال، و أبان و خالد ابنا سعيد بن العاص، و أبي بن كعب سيّد القرّاء، و أنس بن الحرث بن نبيه، و عثمان و سهل ابنا حنيف، و بريدة، و حذيفة، و قيس بن سعد بن عبادة رئيس الأنصار، و هند بن أبي هالة - امّه امّ سلمة۱ امّ المؤمنين - و جُعدة بن هبيرة المخزوميّ - امّه امّ هاني ابنة أبي طالب - و جابر بن عبد الله الأنصاريّ.
و سيجري في آثار الصحابة التابعين لهم و تابعي التابعين. فيضيفون إلى التراث العظيم آثار رجال عظماء منهم، من أشياع عليّ، الأحنف بن قيس، سويد بن غفلة، الحكم بن عيينة، سالم بن أبي الجعد، عليّ بن أبي
الجعد، السعيدان: ابن جُبير، و ابن المسيّب،۱ و يحيى بن نظير العدوانيّ، و الخليل بن أحمد الفراهيديّ مؤسّس علم العروض، و أبو مسلم معاذ بن مسلم الهراء مؤسّس علم الصرف.
و في مدرسة التابعين هذه برز أبو هاشم (عبد الله بن محمّد ابن الحنفيّة ابن أمير المؤمنين) و أبو هاشم أوّل من تكلّم في علم الكلام. و من بعده نشأت مدرسة المعتزلة بزعامة واصل بن عطاء، و عمرو بن عبيد.
و بأبي هاشم تبدأ مدرسة المتكلّمين من الشيعة.
و من جيل التابعين هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ، و أبو مخنف الأزديّ المؤرِّخان.
و يتوالى موكب العلم العظيم من عهد عليّ. و تتعالى أصوات الدعاة العظماء للمذهب الشيعيّ، كالنابغة الجعديّ، شهد صفّين مع أمير المؤمنين، و له فيها أشعاره المشهورة و كان معه عروة بن زيد الخيل، و لبيد بن ربيعة، و كعب بن زهير صاحب قصيدة «بانت سعاد».
و من بعدهم الفرزدق، و كثير عزّة من شعراء القرن الأوّل، ثمّ الكميت، و قيس بن ذريح، و السيّد الحميريّ، و دعبل الخزاعيّ، و أبو تمّام، و البحتريّ، و ديك الجنّ، و الحسين بن الضحّاك، و ابن الروميّ،
و الأشجع السلميّ.۱
دَعوتُ فلبّاني مِنَ القوم عُصْبَةٌ | *** | فوارِسُ مِنْ هَمْدان غير لئام |
فوارِسُ من هَمْدان ليسوا بعزّل | *** | غداة الوغى من شاكرٍ و شبام |
لهمدان أخلاقٌ و دينٌ يزينهم | *** | و بأسٌ إذا لاقوا و جدّ خصام |
جزى الله همدان الجنان فَإنّها | *** | سمام العدى في كلّ يوم رجام |
فلو كنتُ بوّاباً على باب جَنَّةٍ | *** | لقلتُ لِهَمْدانَ ادخلوا بسلام |
لِمَن رايَةٌ حمراءُ يخفق ظلُّها | *** | إذا قيل: قدّمها حضين تَقَدَّمَا |
و يدنو بها في الصفّ حتى يزيرها | *** | حياض المنايا تقطر الموت و الدما |
تراهُ إذا ما كان يوم كريهة | *** | أبي فيه إلّا عزَّةً و تكرّما |
جزى الله عنّي و الجزاء بكفِّه | *** | ربيعة خيراً ما أعفَّ و أكرما |
و علم أهل البيت علم كلّ الامّة. فأمير المؤمنين عليّ في قمّة السند عند الجميع من سنّة و شيعة. لكن الذين ينقلون عنه - من الشيعة أو أهل السنّة - محلّ تفاوت.
شروط الشيعة في قبول الحديث ممّن يرويه
فالشيعة لا يقبلون كلمةً ممّن حارب عليّاً أو ظلمه من الصحابة أو التابعين. و أهل السنّة، مع اختلافهم من ناحية شروط الرواية و الراوي، لا يقبل بعضهم ما لا يصل إليه بطريقته، و يتشكّك بعضهم في بعض ما يرويه الشيعة لُامور تتعلّق بالسند أو بالمتن أو برواية من الشيعة.۱
الشيعة يروون عن أهل السنّة أيضاً
و ينبغي التنبيه على أنّ الشيعة لا يشترطون في قبول الرواية و الخبر الذي يصل إليهم من النبيّ أو الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم
أجمعين أن يكون الراوي شيعيّاً. بل يكفي أن يكون ثقة سواء كان سنيّاً أشعريّاً أم معتزليّاً، أو تابعاً لمذهب غير مذهب أهل البيت في الفروع.
ذلك أنّ مناط الخبر الصحيح و الموثّق و معيارهما عند الشيعة وثوقه و الاطمئنان إلى صدوره. من هنا نلحظ مثلًا أنّهم يعملون بموثّقة عبد الله بن بُكَيْر مع أنّه فطحيّ المذهب، لأنّه ليس من أهل الكذب في مذهبه و كلامه، و يسرد مرويّاته مستنداً مراعياً الأمانة في النقل و الكلام.
نعم، يرفض الشيعة رواية الخوارج و النواصب، لأنّهم يعادون الأئمّة عليهم السلام و يُسيئون إليهم.
و على هذا الأساس نجد أنّ كثيراً من علماء الشيعة و محدّثيهم و مفسّريهم و مؤرّخيهم منذ عصر الأئمّة عليهم السلام ينقلون و يروون أحاديث كثيرة عن رواة العامّة أو كتبهم، و أدّت هذه النقطة المهمّة إلى ما يأتي: ۱ - نقل و رواية كثير من أحاديث العامّة بتفضل الشيعة و بركاتهم، و عدم انقطاع مسلسل الرواية، و بقاء رواية السنّة النبويّة حيّة في كلّ زمان و مكان. ٢ - نتيجة لثقة العامّة و اطمئنانهم إلى علماء الشيعة العظام الذين لهم منزلتهم العلميّة عندهم و يعرفون بالصدق لديهم، فقد رووا عنهم. و كان بين رواة كثير من الأحاديث الواردة في صحاح العامّة و مسانيدهم و سننهم، بل القسم الأعظم منها شيعة كانوا حملةً للدين و أعلاماً في الحديث و الخبر و التفسير، حتى أنّه لو لم يأخذ العامّة هذه الأحاديث من الشيعة لضاع و اندثر مقدار عظيم من كتبهم.
من هنا قال الذهبيّ: لو أسقطنا رواة الشيعة من سلسلة السند، لضاع ثلث السنّة.
و قد ناقش آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ هذا الموضوع في كتاب «المراجعات». و تحدّث عنه في المراجعة (۱٤) جواباً
عن المراجعة (۱٣) للشيخ سليم البشريّ المصريّ - و اعترض فيها بأنّ الذين رووا نزول تلك الآيات في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - فيما قلتم - إنّما هم رجال الشيعة، و رجال الشيعة لا يحتجّ أهل السنّة بهم و لا يقبلون كلامهم - و حدّد الجواب في ثلاثة امور هي: ۱ - بطلان قياس المعترض. ٢ - المعترض لا يعلم حقيقة الشيعة. ٣ - امتيازهم في تغليظ حرمة الكذب في الحديث.
۱ - الجواب: أنّ قياس هذا المعترض باطل، و شكله عقيم، لفساد كلّ من صغراه و كبراه.
أمّا الصغرى، و هي قوله: «إن الذين رووا نزول تلك الآيات إنّما هم من رجال الشيعة» فواضحة الفساد. يشهد بهذا ثقات أهل السنّة الذين رووا نزولها فيما قلناه، و مسانيدهم تشهد بأنّهم أكثر طرقاً في ذلك من الشيعة كما فصّلناه في كتابنا «تنزيل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة».
و حسبك «غاية المرام» المنتشر في بلاد الإسلام.
و أمّا الكبرى، و هي قوله: «إن رجال الشيعة لا يحتجّ أهل السنّة بهم» فأوضح فساداً من الصغرى. تشهد بهذا أسانيد أهل السنّة و طرقهم المشحونة بالمشاهير من رجال الشيعة. و تلك صحاحهم الستّة و غيرها تحتجّ برجال من الشيعة. و صمهم الواصمون بالتشيّع و الانحراف، و نبزوهم بالرفض و الخلاف، و نسبوا إليهم الغلوّ و الإفراط و التنكّب عن الصراط. و في شيوخ البخاريّ رجال من الشيعة نُبزوا بالرفض، و و صموا بالبغض، فلم يقدح ذلك في عدالتهم عند البخاريّ و غيره، حتى احتجّوا بهم في الصحاح بكلّ ارتياح. فهل يصغي بعد هذا إلى قول المعترض: «إن رجال الشيعة لا يحتجّ أهل السنّة بهم؟» كلّا.
رواة الشيعة أفذاذ في الحفظ و الإتقان و الورع
٢ - و لكنّ المعترضين لا يعلمون و لو عرفوا الحقيقة لعلموا أنّ الشيعة
إنّما جروا على منهاج العترة الطاهرة، و اتّسموا بسماتها، و أنّهم لا يطبعون إلّا على غرارها، و لا يضربون إلّا على قالبها، فلا نظير لمن اعتمدوا عليه من رجالهم في الصدق و الأمانة، و لا قرين لمن احتجّوا به من أبطالهم في الورع و الاحتياط، و لا شبيه لمن ركنوا إليه من أبدالهم في الزهد و العبادة و كرم الأخلاق، و تهذيب النفس و مجاهدتها و محاسبتها بكلّ دقّة آناء الليل و أطراف النهار. لا يُبارَون في الحفظ و الضبط و الإتقان، و لا يجارَون في تمحيص الحقائق و البحث عنها بكلّ دقّة و اعتدال. فلو تجلّت للمعترض حقيقتهم - بما هي في الواقع و نفس الأمر - لناط بهم ثقته، و ألقى إليهم مقاليده، لكن جهله بهم جعله في أمرهم كخابط عشواء، أو راكب عمياء في ليلةٍ ظلماء. يتّهم ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكلينيّ، و صدوق المسلمين محمّد بن عليّ بن بابويه القمّيّ، و شيخ الامّة محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ. و يستخفّ بكتبهم المقدّسة - و هي مستودع علوم آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم - و يرتاب في شيوخهم أبطال العلم و أبدال الأرض الذين قصروا أعمارهم على النصح للّه تعالى و لكتابه و لرسوله صلّى الله عليه و آله و سلّم و لأئمّة المسلمين و عامّتهم.
٣ - و قد علم البرّ و الفاجر حكم الكذب عند هؤلاء الأبرار، و الالوف من مؤلّفاتهم المنتشرة تلعن الكاذبين، و تعلن أنّ الكذب في الحديث من الموبقات الموجبة لدخول النار. و لهم في تعمّد الكذب في الحديث حكم قد امتازوا به حيث جعلوه من مفطّرات الصائم، و أوجبوا القضاء و الكفّارة على مرتكبه في شهر رمضان كما أوجبوهما بتعمّد سائر المفطّرات.
و فقههم و حديثهم صريحان بذلك. فكيف يُتَّهمون بعد هذا في حديثهم، و هم الأبرار الأخيار، قوّامون الليل صوّامون النهار؟ و بما ذا كان الأبرار من شيعة آل محمّد و أوليائهم متّهمين، و دعاة الخوارج و المرجئة و القدريّة
غير متّهمين لو لا التحامل الصريح، أو الجهل القبيح؟!
نعوذ بالله من الخذلان، و به نَستجير من سوء عواقبِ الظُّلم و العدوان، و لا حول و لا قوّة إلّا باللهِ العليّ العظيم. و السلام.۱
و واصل الفقيه المحدِّث العالم الشيعيّ الكبير السيّد شرف الدين كلامه في كتابه المبارك المذكور. فصرّح أنّ الميزان في صحّة الرواية عند العامّة قبول الأحاديث الموثوق بها سواء كان راويها من العامّة أم من الشيعة. و أورد أسماء مائة من أعاظم الشيعة و مشاهيرهم الذين اعترف السنّة أنفسهم بتشيّعهم، و أنّهم من المبرّزين في الفقه و الحديث و رواية السنّة، و أنّهم كانوا في ذروة الورع و التقوى و الزهد. و أحصاهم حسب الترتيب الهجائيّ. و ذكر لهم ترجمة موجزة، و نبّه على أنّهم كانوا من مشايخ الرواية في جميع الصحاح الستّة أو بعضها.
تنبيهاً لإخواننا العامّة و إيقاظاً لهم نكتفي فيما يأتي بذكر أسمائهم و كناهم و تأريخ حياتهم و مَن روى عنهم مِن مشايخ العامّة.
مائة من مشايخ الشيعة كانوا من شيوخ العامّة في الرواية
حرف الهمزة (أ)
۱ - أبَانُ بْنُ تَغْلِبَ بْنِ رِبَاحِ القَارِئ الكُوفِيّ. احتجّ به مسلم في صحيحه و أصحاب السنن الأربعة (أبو داود، و الترمذيّ، و النسائيّ، و ابن ماجة). مات سنة ۱٤۱.
٢ - إبراهيم بن يزيد بن عمرو بن الأسود بن عمرو النخعيّ الكوفيّ الفقيه. احتجّ به البخاريّ و مسلم. ولد سنة ٥۰، و مات سنة ستّ أو خمس و تسعين بعد موت الحجّاج بأربعة أشهر.
٣ - أحمد بن المُفَضَّل ابن الكوفيّ الحفريّ. احتجّ به أبو زرعة و أبو حاتم و أبو داود و النسائيّ.
٤ - إسماعيل بن أبان الأزديّ الكوفيّ الورّاق. شيخ البخاريّ في صحيحه. احتجّ به البخاريّ و الترمذيّ و يحيى و أحمد. مات سنة ٢۸٦ لكن القيسرانيّ ذكر أنّ وفاته كانت سنة ٢۱٦.
٥ - إسماعيل بن خليفة الملّائيّ الكوفيّ أبو إسرائيل. احتجّ به الترمذيّ و كثير من أرباب السنن.
٦ - إسماعيل بن زكريّا الأسديّ الخَلْقَانِيّ الكوفيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة.
۷ - إسماعيل بن عَبَّاد بن عبّاس الطالقانيّ أبو القاسم المعروف بالصاحب بن عبّاد. احتجّ بن أبو داود الترمذيّ.۱ توفّي ليلة الجمعة ٢٤
من صفر سنة ٣۸٥ بالري عن ٥٩ سنة.
۸ - إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الكوفيّ المفسّر المشهور بالسُّدِّيّ. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن الأربعة، و وثّقه أحمد، و أخذ عنه الثوريّ و أبو بكر بن عيّاش. مات سنة ۱٢۷.
٩ - إسماعيل بن موسى الفَزاريّ الكوفيّ. احتجّ به الترمذيّ و أبو داود. مات سنة ٢٤٥.
حرف التاء (ت)
۱۰ - تَلِيدُ بْنُ سُلَيمَان الكُوفِيّ الأعْرَج. احتجّ به أحمد و ابن نمير.
حرف الثاء (ث)
۱۱ - ثابت بن دينار المعروف بأبي حمزة الثماليّ. احتجّ به الترمذيّ و وكيع و أبو نُعيم. مات سنة ۱٥۰.
۱٢ - ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة أبو الجهم الكوفيّ مولى امّ هاني ابنة أبي طالب، أخذ عنه سفيان الثوريّ و شعبة، و أخرج له الترمذيّ في صحيحه.
حرف الجيم (ج)
۱٣ - جابر بن يزيد بن الحارث الجُعفيّ الكوفيّ. أخذ عنه شعبة و أبو عوانة، و احتجّ به النسائيّ و أبو داود و الترمذيّ. مات سنة ۱٢۷ أو ۱٢۸.
۱٤ - جرير بن عبد الحميد الضبّيّ الكوفيّ. احتجّ به جميع أهل الصحاح السّتة. مات سنة ۱۸۷.
۱٥ - جعفر بن زياد الأحمر الكوفيّ. احتجّ به الترمذيّ و النسائيّ.
مات سنة ۱٦۷.
۱٦ - جعفر بن سليمان الضَّبُعيّ البَصْريّ. أبو سليمان. احتجّ به مسلم و النسائيّ. مات سنة ۱۷۸.
۱۷ - جَمِيعُ بن عُمَيْرَة بن ثَعْلَبَة الكوفيّ التيميّ. له في السنن ثلاثة أحاديث، و حسّن الترمذيّ له.
حرف الحاء (ح)
۱۸ - الحارث بن حصيرة، أبو النُّعْمَان الأزديّ الكوفيّ. احتجّ به
النسائيّ.
۱٩ - الحارث بن عبد الله الهَمْدَانيّ صاحب أمير المؤمنين و خاصّته. احتجّ به النسائيّ.
٢۰ - حبيب بن أبي ثابت الأسديّ الكوفيّ الكاهليّ التابعيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة. مات سنة ۱۱٩.
٢۱ - الحسن بن حيّ، و اسم حيّ صالح بن صالح الهَمْدَانيّ. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن. ولد سنة ۱۰۰، و ما سنة ۱٦٩.
٢٢ - الحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةِ الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم. مات سنة ۱۱٥ عن خمس و ستين سنة.
٢٣ - حَمَّاد بن عيسى الجُهَنِيّ، غريق الجُحْفَة. احتجّ به الترمذيّ، و ابن ماجة القزوينيّ. مات سنة ٢۰٩.
٢٤ - حُمْرَانُ بْنُ أعْيَن أخو زُرارة. احتجّ به الدارقطنيّ.
حرف الخاء (خ)
٢٥ - خالدُ بنُ مخلَّد القطوانيّ أبو الهيثم الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم و جميع أصحاب السنن.
حرف الدال (د)
٢٦ - داود بن أبي عَوْف أبو الحجاف. احتجّ به أبو داود و النسائيّ.
حرف الزاي (ز)
٢۷ - زبيد بن الحارث بن عبد الكريم الياميّ الكوفيّ أبو عبد الرحمن. احتجّ به أصحاب الصحاح و أرباب السنن كافّة. مات سنة ۱٢٤.
٢۸ - زيد بن الحباب أبو الحسين الكوفيّ التميميّ. احتجّ به مسلم.
حرف السين (س)
٢٩ - سالم بن أبي الجَعْد الأشجعيّ الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم و النسائيّ و أبو داود. توفّي ٩۷ أو ٩۸ و قيل: في سنة ۱۰۰ أو ۱۰۱.
٣۰ - سالم بن أبي حَفْصَة العِجْليّ الكوفيّ. احتجّ به الترمذيّ، و أخذ عنه السفيانان: سفيان الثوريّ و سفيان بن عُيَيْنة، كما أخذ عنه محمّد بن فضيل. مات سنة ۱٣۷.
٣۱ - سعد بن طريف الإسكاف الحنظليّ الكوفيّ. احتجّ به الترمذيّ و ابن ماجة القزوينيّ.
٣٢ - سعيد بن أشْوَع. احتجّ به البخاريّ و مسلم. توفّي في ولاية خالد بن عبد الله.
٣٣ - سعيد بن خيثم الهلاليّ. احتجّ به النسائيّ و الترمذيّ.
٣٤ - سَلِمَة بن الفَضْل الأبْرَش، قاضي الري. احتجّ به أبو داود و الترمذيّ. مات سنة ۱٩۱.
٣٥ - سَلِمَة بن كُهَيْل بن حَصِين بن كادح بن أسد الحضرميّ أبو يحيى. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات يوم عاشوراء سنة ۱٢۱.
٣٦ - سليمان بن صُرَد الخزاعيّ الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم.
قُتل مستهلّ ربيع الثاني سنة ٦٥ عن ٩٣ سنة بينما كان يقود جيش التوّابين (الذين ثأروا لدم الحسين عليه السلام).
٣۷ - سليمان بن طاخان التيميّ البصريّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ۱٤٣.
٣۸ - سليمان بن قرم بن معاذ أبو داود الضبِّيّ الكوفيّ. احتجّ به مسلم و النسائيّ و الترمذيّ و أبو داود.
٣٩ - سليمان بن مهران الكاهليّ الكوفيّ الأعمش. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ۱٤۸.
حرف الشين (ش)
٤۰ - شَريك بن عبد الله بن سِنان بن أنس النَّخَعيّ الكوفيّ. القاضي. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن الأربعة. مات سنة ۱۷۷ أو ۱۷۸.
٤۱ - شُعبة بن الحجّاج أبو الوَرْد العتكيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. ولد سنة ۸٣، و مات سنة ۱٦۰.
حرف الصاد (ص)
٤٢ - صَعْصَعَة بن صُوحان بن حُجْر بن الحارث العَبْديّ. احتجّ به النسائيّ.
حرف الطاء (ط)
٤٣ - طاووس بن كيسان الخَوْلانيّ الهَمْدَانيّ أبو عبد الرحمن. احتجّ به أرباب الصحاح الستّة و غيرهم. توفّى حاجّاً بمكّة قبل يوم التروية بيوم، و ذلك في سنة ۱۰٤ أو ۱۰٦.
حرف الظاء (ظ)
٤٤ - ظالم بن عمرو بن سفيان، أبو الأسود الدؤليّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة. مات سنة ٩٩ و عمره ۸٥ سنة.
حرف العين (ع)
٤٥ - عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو الليثيّ أبو الطُّفَيل. احتجّ به مسلم. وُلدَ عام احد. مات سنة ۱۰۰، و قيل: سنة ۱۰٢، أو ۱۰۷، أو ۱۱۰. و أرسل ابن القيسرانيّ أنّه مات سنة ۱٢۰.
٤٦ - عَبَّاد بن يعقوب الأسديّ الرَّواجِنيّ الكوفيّ. أخذ عنه الأئمّة الستّة كالبخاريّ و الترمذيّ و ابن ماجة و ابن خزيمة و ابن أبي داود. فهو شيخهم و محلّ ثقتهم. و مات في شوّال سنة ٢٥۰.
٤۷ - عبد الله بن داود أبو عبد الرحمن الهَمْدَانيّ الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ. مات في سنة ٢۱٢.
٤۸ - عبد الله بن شَدَّاد بن الهاد. احتجّ به أصحاب الصحاح كلّهم و سائر الأئمّة.
٤٩ - عبد الله بن عمر بن محمّد بن أبان بن صالح بن عُمَير القُرَشيّ الكوفيّ الملقّب مُشْكَدَانَة، شيخ مسلم و أبي داود و البغويّ، و خلق من طبقتهم أخذوا عنه، احتجّ به مسلم و أبو داود. مات في سنة ٢٣۷ أو ٢٣۸ أو ٢٣٩.
٥۰ - عبد الله بن لُهَيْعَة بن عَقَبَة الحضرميّ قاضي مصر و عالمها، احتجّ به الترمذيّ و أبو داود و ابن ماجة القزوينيّ. مات منتصف ربيع الثاني سنة ۱۷٤.
٥۱ - عبد الله بن ميمون القدّاح المكّيّ. من أصحاب الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام. احتجّ به الترمذيّ.
٥٢ - عبد الرحمن بن صالح الأزديّ أبو محمّد الكوفيّ. احتجّ به النسائيّ و عبّاس الدوريّ و الإمام البغويّ. مات سنة ٢٣٥.
٥٣ - عبد الرزّاق بن همّام بن نافع الحِمْيَريّ الصنعانيّ. كان من
أعيان الشيعة و خيرة سلفهم الصالحين. و هو مصنّف «الجامع الكبير». احتجّ به أصحاب الصحاح و المسانيد جميعهم. أدرك من أيّام الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام اثنتين و عشرين سنة عاصره فيها. و مات في أيّام الإمام أبي جعفر الجواد عليه السلام قبل وفاته بتسع سنين. لأنّه ولد سنة ۱٢٦ و مات سنة ٢۱۱.
٥٤ - عبد الملك بن أعْيَن أخو زُرارة و حُمران و بُكَير و عبد الرحمن، و مَلِك و موسى و ضُرَيس، و امّ الأسود بني أعين، حدّث عنه السفيانان (الثوريّ و ابن عُيَيْنَة). و قال ابن القيسرانيّ: كان شيعيّاً. و سمع أبا وائل في التوحيد عند البخاريّ، و في الإيمان عند مسلم، و روى عنه سفيان بن عُيَيْنَة.
٥٥ - عبيد الله بن موسى العَبْسيّ الكوفيّ. شيخ البخاريّ في صحيحه. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. كانت وفاته مستهلّ ذي القعدة سنة ٢۱٣.
٥٦ - عثمان بن عُمَير أبو اليقظان الثقفيّ الكوفيّ البَجَليّ. يقال له: عثمان بن أبي زرعة. احتجّ به أبو داود و الترمذيّ و غيرهما.
٥۷ - عَديّ بن ثابت الكوفيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة، و أجمعوا على الإخراج عنه.
٥۸ - عَطِيَّة بن سَعْد بن جُنَادَة العَوْفيّ الكوفيّ أبو الحسن التابعيّ الشهير. احتجّ به أبو داود و الترمذيّ. توفّى سنة ۱۱۱.
٥٩ - العلاء بن صالح التيميّ الكوفيّ. احتجّ بن أبو داود و الترمذيّ.
٦۰ - عَلْقَمَة بن قيس بن عبد الله النَّخَعيّ أبو شبل. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ٦٢.
٦۱ - عليّ بن بَديمَة. أخرج عنه أصحاب السنن.
٦٢ - عَليّ بن الجَعْد أبو الحسن الجوهريّ البغداديّ. مولى بني هاشم، أحد شيوخ البخاريّ و احتجّ به. توفّى سنة ٢٣۰ و هو ابن ٩٦ سنة.
٦٣ - عليّ بن زيد بن عبد الله بن زهير بن أبي مليكة بن جَذْعان أبو الحسن القُرشيّ التيميّ البصريّ. احتجّ به مسلم. توفّي سنة ۱٣۱.
٦٤ - عليّ بن صالح أخو الحسن بن صالح. احتجّ به مسلم. ولد سنة ۱۰۰، و مات سنة ۱٥۱.
٦٥ - عليّ بن غُراب أبو يحيى الفَزَاريّ الكوفيّ. احتجّ به النسائيّ و ابن ماجة القزوينيّ. مات سنة ۱۸٤ أيّام هارون.
٦٦ - عليّ بن قادِم أبو الحسن الخُزاعيّ الكوفيّ. احتجّ به الترمذيّ و أبو داود. مات سنة ٢۱٣.
٦۷ - عليّ بن المنذر الطرائفيّ. شيخ الترمذيّ و النسائيّ و ابن صاعد و عبد الرحمن بن أبي حاتم، و غيرهم من طبقتهم أخذوا عنه و احتجّوا به، و احتجّ به الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة القزوينيّ في سننهم. مات سنة ٢٥٦.
٦۸ - عليّ بن هاشم بن البريد أبو الحسن الكوفيّ الخزّاز العائذيّ. أحد مشائخ الإمام أحمد. احتجّ به الخمسة (أصحاب الصحاح و السنن ما عدا البخاريّ). مات سنة ۱۸۱.
٦٩ - عمّار بن زُرَيق الكوفيّ. احتجّ به مسلم، و أبو داود و النسائيّ.
۷۰ - عمّار بن معاوية أو ابن أبي معاوية. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن الأربعة. توفّي سنة ۱٣٣.
۷۱ - عمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعيّ الهمدانيّ الكوفيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. ولد لثلاث سنين بقين من خلافة عثمان، و توفّي سنة ۱٢۷، أو ۱٢۸، أو ۱٢٩، أو ۱٣٢.
۷٢ - عوف بن أبي جميلة البصريّ أبو سهل، يُعرَف بالأعرأبي. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ۱٤٦.
حرف الفاء (ف)
۷٣ - الفضل بن دُكَين المُلائيّ الكوفيّ أبو نعيم. شيخ البخاريّ في صحيحه. احتجّ به أرباب الصحاح الستّة. كان مولده سنة ۱٣۰، و وفاته سنة ٢٢۰ أيّام المعتصم.
۷٤ - فُضيل بن مرزوق الأغرّ الرواسيّ الكوفيّ أبو عبد الرحمن. احتجّ به مسلم. مات سنة ۱٥۸.
۷٥ - فطر بن خليفة الحَنَّاط الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ و أرباب السنن الأربعة و غيرهم. مات سنة ۱٥٣.
حرف الميم (م)
۷٦ - مالك بن إسماعيل بن زياد بن دِرْهم أبو غسّان الكوفيّ النهديّ. شيخ البخاريّ في صحيحه. احتجّ به مسلم. مات سنة ٢۱٩.
۷۷ - محمّد بن خازم أبو معاوية الضَّرير التميميّ الكوفيّ. احتجّ به أرباب الصحاح الستّة. مات سنة ۱٩٥.
۷۸ - محمّد بن عبد الله الضبِّيّ الطَّهَانيّ النيسابوريّ أبو عبد الله الحاكم. إمام الحفّاظ و المحدِّثين. ولد سنة ٣٢۱، و مات سنة. ٤۰٥۱
...۱
۷٩ - محمّد بن عبيد الله بن أبي رافع المَدَنيّ. احتجّ به الترمذيّ و ابن ماجة القزوينيّ و الطبرانيّ.
۸۰ - محمّد بن فُضيل بن غزوان أبو عبد الرحمن الكوفيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ۱٩٥، و قيل: سنة ۱٩٤.
۸۱ - محمّد بن مسلم بن الطائفيّ. كان من البارزين في أصحاب الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام. احتجّ به مسلم. مات سنة ۱۷۷. و في
تلك السنة مات سميّه محمّد بن مسلم بن جمّاز بالمدينة.
۸٢ - محمّد بن موسى بن عبد الله الفِطْريّ المدنيّ. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن.
۸٣ - معاوية بن عمّار الدُّهْنِيّ البَجَليّ الكوفيّ. احتجّ به مسلم و النسائيّ. مات سنة ۱۷٥.
۸٤ - معروف بن خَرَّبوذ الكرخيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم و أبو داود. توفّي ببغداد سنة ٢۰۰، و قبره معروف يزار. و كان سَريّ السَّقَطي من تلامذته.۱
ترجمة معروف الكرخيّ و توثيقه (ت)
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
۸٥ - منصور بن المُعْتَمِر بن عبد الله بن ربيعة السَّلْمِيّ الكوفيّ. كان من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السلام. احتجّ به أصحاب الصحاح السّتة و غيرهم. مات سنة ۱٣٢.
۸٦ - المِنْهَال بن عمرو الكوفيّ التابعيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم.
۸۷ - موسى بن قيس الحضرميّ أبو محمّد. جاء حديثه في السنن. مات أيّام المنصور.
حرف النون (ن)
۸۸ - نفيع بن الحارث أبو داود النَّخَعيّ الكوفيّ الهمدانيّ السَّبِيعيّ. احتجّ به الترمذيّ، و أخرج له أصحاب المسانيد.
۸٩ - نوح بن قيس بن رِباح الحدانيّ، و يقال: الطاحيّ البصريّ. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن.
حرف الهاء (هـ)
٩۰ - هارون بن سعد العِجْليّ الكوفيّ. احتجّ به مسلم.
٩۱ - هاشم بن البريد بن زيد أبو عليّ الكوفيّ. احتجّ به أبو داود و النسائيّ.
٩٢ - هُبَيْرة بن بريم الحِمْيَريّ. صاحب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. نظير الحارث في ولائه و اختصاصه. احتجّ به أصحاب السنن.
٩٣ - هشام بن زياد أبو المِقْدَام البصريّ. احتجّ به الترمذيّ و ابن ماجة القزوينيّ.
٩٤ - هشام بن عمّار بن نصير بن مَيْسَرة أبو الوليد، و يقال: الظفريّ الدمشقيّ. شيخ البخاريّ في صحيحه. ولد سنة ۱٥٣، و مات في آخر المحرّم سنة ٢٤٥.
٩٥ - هُشَيم بن بشير بن قاسم بن دينار السَّلْميّ الواسطيّ أبو معاويه. كان حافظاً. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة. مات سنة ۱۸٣، و له ۷٩ عاماً.
حرف الواو (و)
٩٦ - وكيع بن الجَرَّاح بن مَليح بن عَدي أبو سفيان الرَّواسيّ
الكوفيّ، من قيس غيلان. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات بفيد قافلًا من الحجّ في المحرّم سنة ۱٩۷، و له من العمر ٦۸ سنة.
حرف الياء (ي)
٩۷ - يحيى بن الجَزَّار العَرَنيّ الكوفيّ. صاحب أمير المؤمنين عليه السلام. احتجّ به مسلم و أرباب السنن.
٩۸ - يحيى بن سعيد القَطَّان أبو سعيد مولى بني تميم البصريّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ۱٩۸، عن ۷۸ سنة.
٩٩ - يزيد بن أبي زياد الكوفيّ أبو عبد الله مولى بني هاشم. احتجّ به أصحاب السنن الأربعة. مات سنة ۱٣٦، و له ٩۰ سنة تقريباً.۱
۱۰۰ - أبو عبد الله الجَدَليّ، احتجّ به أبو داود و الترمذيّ.
أجل، إذا لاحظنا هؤلاء الأشخاص، و آخرين كثيرين غيرهم - و قد قال آية الله شرف الدين في صدر هذا المقال: ... مقتصراً على ثلّة ... على شرط أن لا أكلّف بالاستقصاء فإنّه ممّا يضيق عنه الوسع في هذا الإملاء - استبان لنا أنّ اصول فقه العامّة و حديثهم و رجالهم هم الشيعة. و إذا أنعمنا النظر، عرفنا أنّ أكثر الرجال المذكورين في سند الروايات التي تنقلها هذه الكتب الضخمة هم من الشيعة، و مشهورون بالصدق و الأمانة في الحديث. و هذه نقطة في غاية الدقّة. و عند ما ندرك أنّنا إذا أسقطنا رجال الشيعة من سند رواياتهم، فحينئذٍ يسقط كثير من رواياتهم، و من ثمّ يصغر حجم كتبهم و تتغيّر أشكالها، و يمكن أن يتحوّل الكتاب الضخم إلى رسالة و كرّاسة.
ذنب المحدِّثين من الشيعة تشيّعهم!
إذا نظرنا في أحوال رواة الشيعة واحداً واحداً، وجدناهم اولي ضبط و ثبت و وثوق و ورع. و ذنبهم الوحيد الذي لا يُغْفَر عند العامّة هو أنّهم شيعة علي بن أبي طالب. و به يُسقطون مزاياهم كلّها. على سبيل المثال، الحارث الهمدانيّ! الجدّ الأعلى للشيخ البهائيّ، نراهم يحطّون من شأنه لتشيّعه الصحيح، مع أنّهم لا يمترون في فقهه و علمه و درايته لكنّهم لا يرعوون عن اتّهامه بالغلوّ، و الرفض، و أحياناً الكذب، ليُسقطوا مقامه و منزلته عند العامّة. ثمّ ذكر المرحوم السيّد شرف الدين ترجمته بما نصّه:
(الحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الهَمْدَانيّ صاحب أمير المؤمنين و خاصّته.
كان من أفضل التابعين، و أمره في التشيّع غنيّ عن البيان. و هو أوّل من
عدّهم ابن قُتيبة في معارفه مِن رجال الشيعة. و قد ذكره الذهبيّ في ميزانه فاعترف بأنّه من كبار علماء التابعين، ثمّ نقل عن ابن حبّان القول بكَونه غالياً في التشيّع، ثمّ أورد من تحامل القوم عليه - بسبب ذلك - شيئاً كثيراً. و مع هذا فقد نقل إقرارهم بأنّه كان من أفقه الناس، و أفرض الناس، و أحسب الناس لعلم الفرائض، و اعترف بأنّ حديث الحارث موجود في السنن الأربعة. و صرّح بأنّ النسائيّ مع تعنّته في الرجال قد احتجّ بالحارث، و قويّ أمره. و أنّ الجمهور مع توهينهم أمره يروون حديثه في الأبواب كلّها، و أنّ الشعبيّ كان يكذّبه، ثمّ يروي عنه. قال في «الميزان»: و الظاهر أنّه يكذّبه في لهجته و حكاياته، و أمّا في الحديث النبويّ، فلا.
قال في «الميزان»: و كان الحارث من أوعية العلم. ثمّ روى في «الميزان» عن محمّد بن سيرين أنّه قال: كان من أصحاب ابن مسعود خمسة يؤخذ عنهم، أدركتُ منهم أربعة، و فاتني الحارث، فلم أره، و كان يفضل عليهم و كان أحسنهم.
قال: و يختلف في هؤلاء الثلاثة أيّهم أفضل، علقمة و مسروق و عبيدة، إلى آخر كلامه.
قلتُ: و قد سلّط الله على الشعبيّ من الثقات الأثبات من كذّبه و استخفّ به جَزَاءً وِفَاقاً، كما نبّه على ذلك ابن عبد البَرّ في كتابه «جامع بيان العلم» حيث أورد كلمة إبراهيم النخعيّ الصريحة في تكذيب الشعبيّ.۱
ثمّ قال: و أظنّ الشعبيّ عوقب لقوله في الحارث الهمدانيّ: حَدَّثَنِي
الحَارِثُ وَ كَانَ أحَدَ الكَذَّابِينَ.
قال ابن عبد البرّ: و لم يبن من الحارث كذب، و إنّما نقم عليه إفراطه في حبّ عليّ، و تفضيله له على غيره. (قال:) و من هاهنا كذّبه الشعبيّ، لأنّ الشعبيّ يذهب إلى تفضيل أبي بكر، و إلى أنّه أوّل من أسلم، و تفضيل عمر ... إلى آخره كلامه.
قلتُ: و أنّ ممّن تحامل على الحارث محمّد بن سعد، حيث ترجمه في [الجزء السادس من] «الطبقات»، فقال: إن له قول سوء. و بخسه حقّه، كما جرت عادته مع رجال الشيعة، إذ لم يُنصفهم في علم، و لا عمل. و القول السيّئ الذي نقله ابن سعد عن الحارث إنّما هو الولاء لآل محمّد، و الاستبصار بشأنهم، كما أشار إليه ابن عبد البرّ فيما نقلناه من كلامه. كانت وفاة الحارث سنة خمس و ستّين رحمه الله تعالى.۱
و نقل أبو إسحاق الجوزجانيّ عبارة فيها من الفظاظة ما جرت به عادة الجوزجانيّ و سائر النواصب، قال: و كان من أهل الكوفة قوم لا يحمد الناس مذاهبهم، هم رؤوس محدِّثي الكوفة، مثل أبي إسحاق و منصور، زُبَيْد الياميّ و الأعمش و غيرهم من أقرانهم. احتملهم الناس لصدق ألسنتهم في الحديث، و توقّفوا عند ما أرسلوا، إلى آخر كلامه الذي أنطقه الحقّ به. وَ الحَقُّ يُنْطِقُ مُنْصِفاً وَ عَنِيداً.
إ ذَا رَضِيَتْ عَنِّي كِرَامُ عَشيِرَتِي | *** | فَلَا زَالَ غَضْبَاناً عَلَيّ لِئَامُهَا٢ |
***
و خصّص المرحوم الصدر الصحيفة السادسة من كتابه في عدد ما صنّفه الشيعة الإماميّة في الحديث من طريق أهل البيت من عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى عهد أبي محمّد الحسن العسكريّ عليه السلام.
قال: فاعلم أنّها تزيد على ستّة آلاف و ستمائة كتاب، على ما ضبطها الشيخ الحافظ محمّد بن الحسن الحرّ صاحب «الوسائل»، و نصّ على ذلك في آخر الفائدة الرابعة من كتابه الجامع الكبير في الحديث المسمّى بـ «وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة». و قد ذكرتُ أنا في كتابي «نهاية الدراية في اصول علم الحديث» ما يؤيّد هذا العدد.۱
تقدّم الشيعة في تأسيس العلوم الإسلاميّة
توسّع المرحوم الصدر في كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» في حديث عن تقدّم الشيعة في تدوين جميع العلوم و تصنيفها، و ذكر أدلّة كثيرة على كلامه. و اختصر ذلك في كتاب «الشيعة و فنون الإسلام»، و اكتفى برءوس المطالب. و ننقل فيما يأتي منتخباً من هذا الكتاب المختصر ليطّلع القرّاء الكرام على شأن الشيعة و منزلتهم البالغة الأهمّيّة في تقدّمهم و سبقهم.
الشيعة هم السبّاقون في العلوم القرآنيّة المتنوّعة
قال المرحوم الصدر: أوّل من صنّف في علم تفسير القرآن سعيد بن جُبَيْر التابعيّ رضي الله عنه. كان أعلم التابعين بالتفسير. كما حكاه السيوطيّ في «الإتقان» عن قتادة. و ذكره ابن النديم في «الفهرست» عند ذكر للكتب المصنّفة في التفسير، و لم ينقل تفسيراً لأحدٍ قبله. و كانت شهادته سنة أربع و تسعين من الهجرة.
و كان ابن جبير من خلّص الشيعة. نصّ على ذلك علماؤنا في كتب
الرجال، كالعلّامة جمال الدين ابن المطهَّر في «الخلاصة»، و أبي عمرو الكشّيّ في كتابه في الرجال. و روى روايات عن الأئمّة عليهم السلام في مدحه و تشيّعه و استقامته. قال: و ما كان سبب قتل الحجّاج له إلّا على هذا الأمر - يعني التشيّع - قتله سنة ٩٤.
ثمّ اعلم أنّ جماعة من التابعين من الشيعة صنّفوا في تفسير القرآن بعد سعيد بن جبير.
منهم: السُّدِّي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفيّ أبو محمّد القُرَشيّ المتوفّى سنة سبع و عشرين و مائة. قال السيوطيّ في «الإتقان»: أمْثَلُ التفاسير تفسيرُ إسماعيل السُّدِّي. روى عنه الأئمّة مثل الثوريّ و شعبة.
قلتُ: و قد ذكره و ذكر تفسيره النجاشيّ، و الشيخ أبو جعفر الطوسيّ في فهرست أسماء مصنّفي الشيعة. و قد نصّ على تشيّعه ابن قتيبة في كتاب «المعارف»، و العسقلانيّ في «التقريب» و «تهذيب التهذيب». و كان من أصحاب عليّ بن الحسين و الباقر و الصادق عليهم السلام.
و منهم: محمّد بن السائب بن بِشْر الكَلْبيّ صاحب التفسير المشهور. و ذكره ابن النديم عند تسمية الكتب المصنَّفة في تفسير القرآن.
و قال ابن عديّ في «الكامل»: للكلبيّ أحاديث صالحة، و خاصّة عن أبي صالح، و هو معروف بالتفسير. و ليس لأحد تفسير أطول منه و لا أشبع. و قال السمعانيّ: محمّد بن السائب صاحب «التفسير»، كان من أهل الكوفة، قائلًا بالرجعة. و ابنه هشام ذو نسب عالٍ، و في التشيّع غالٍ.
قلت: كان من الشيعة المخصوصين بالإمام زين العابدين و ابنه الباقر، و كانت وفاته سنة ستّ و أربعين بعد المائة من الهجرة المباركة.
و منهم: جَابِرُ بْنُ يَزِيد الجُعفِيّ الإمام في التفسير، أخذه عن الإمام
الباقر، و كان من المنقطعين إليه. و صنَّف تفسير القرآن و غيره. و توفّي سنة سبع و عشرين و مائة بعد الهجرة. و هو غير تفسير الإمام الباقر الذي ذكره ابن النديم عند تسمية الكتب المصنَّفة في التفسير.
قال: كتاب الباقر محمّد بن عليّ بن الحسين، رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر رئيس الجاروديّة الزيديّة.
قلتُ: و قد رواه عن أبي الجارود أيّام استقامته قبل تزيّده جماعة من ثقات الشيعة كأبي بصير يحيى بن القاسم الأسديّ و غيره.
إن أوّل من دوّن علم القراءة أبَانُ بْنُ تَغْلِب الربعيّ أبو سعيد. و يقال: أبو اميمة الكوفيّ. قال النجاشيّ في فهرس أسماء مصنّفي الشيعة: كان أبان رحمه الله مقدَّماً في كلّ فنّ من العلم، في القرآن و الفقه و الحديث. و لأبان قراءة مفردة مشهورة عند القرّاء. ثمّ أوصل إسنده عن محمّد بن موسى بن أبي مريم صاحب اللؤلؤ عن أبان في رواية الكتاب.
و قد ذكر ابن النديم في «الفهرست» تصنيف أبان في القراءة. قال: و له من الكتب «معاني القرآن» لطيف، كتاب «القراءة»، و كتاب من الاصول في الرواية على مذهب الشيعة - انتهى.
و بعد أبان، صنّف حَمْزَةُ بْنُ حَبِيب أحد القرّاء السبعة كتاب «القراءة». قال ابن النديم: كتاب «القراءة» لحمزة بن حبيب، و هو أحد السبعة من أصحاب الصادق - انتهى. و قد ذكره الشيخ أبو جعفر الطوسيّ في كتاب «الرجال» في أصحاب الصادق عليه السلام أيضاً. و وجد بخطّ الشيخ الشهيد محمّد بن مكّيّ، عن الشيخ جمال الدين أحمد بن محمّد بن الحدّاد الحلّيّ ما صورته: قرأ الكسائيّ القرآن على حمزة، و قرأ حمزة على أبي عبد الله الصادق، و قرأ على أبيه، و قرأ على أبيه، و قرأ على أبيه، و قرأ على أمير المؤمنين عليّ.
قلتُ: و حمزة على الأعمش أيضاً، و على حمران بن أعين، و هما من شيوخ الشيعة أيضاً. و لم يعهد لأحدٍ قبل أبان، و حمزة تصنيف في القراءات، فإنّ الذهبيّ و غيره ممّن كتب في طبقات القرّاء نصّوا على أنّ أوّل من صنّف في القراءات أبو عبيد القاسم بن سلّام المتوفّى سنة ٢٢٤ هـ. و لا ريب في تقدّم أبان، لأنّ الذهبيّ في «الميزان»، و السيوطيّ في «الطبقات» نصّا على أنّه توفّي سنة ۱٤۱، فهو مُقدَّم على أبي عبيد بثلاث و ثمانين سنة، و كذلك حمزة بن حبيب، فإنّهم نصّوا أنّه تولّد سنة ثمانين، و مات سنة ۱٥٦، و قيل: سنة ۱٥٤، و قيل: سنة ۱٥۸، و أنّ الأخير وَهْمٌ.
و كيف كان فالشيعة أوّل من صنّف في القراءة، و لا يخفى هذا على الحافظ الذهبيّ، و حافظ الشام السيوطيّ، لكن إنّما أرادا أوّل مَن صنّف في القراءات من أهل السنّة، لا مطلقاً.
و قد تقدّم في التصنيف في القراءة على أبي عبيد من الشيعة جماعة آخرون غير من ذكرنا، مثل ابن سَعْدَان: أبي جعفر محمّد سعدان الضرير. و مثل أبي جعفر محمّد بن الحسن بن أبي سارة الرَّوَاسيّ الكوفيّ استاذ الكسائيّ و الفرّاء، من خواصّ الإمام الباقر عليه السلام، و مثل زيد الشهيد، له قراءة جدّه أمير المؤمنين، رواها عنه عمر بن موسى الرَّجهيّ.
في أوّل كتاب قراءة زيد: هذه القراءة سمعتها من زيد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، و ما رأيتُ أعلم بكتاب الله و ناسخه و منسوخه و مشكله و إعرابه منه. و ممّن تقدّم من الشيعة في التصنيف في معان شتّى من القرآن:
أبَانُ بْنُ تَغْلِب، صنّف كتاب «معاني القرآن». و لم أعثر على أحدٍ صنّف فيه قبل أبان.
عبد الله بن عبد الرحمن الأصَمّ المَسْمَعيّ البصريّ، من شيوخ
الشيعة، من أصحاب أبي عبد الله الصادق عليه السلام. و هو أوّل من صنّف كتاباً في الناسخ و المنسوخ. و بعد دارم بن قبيصة بن نَهْشَل بن مجمع أبو الحسن التميميّ الدارميّ، من شيوخ الصدر الأوّل من الشيعة. عمّر حتى أدرك الإمام الرضا عليه السلام، و مات في أواخر المائة الثانية. له كتاب «الوجوه و النظائر»، و كتاب «الناسخ و المنسوخ». و قد ذكرهما النجاشيّ في ترجمته في فهرست أسماء المصنّفين من الشيعة. و صنّف بعدهما في ذلك الحسن بن عليّ بن فَضَّال صاحب الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، و توفّي سنة أربع و عشرين و مائتين. و الشيخ الأعظم أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعريّ القمّيّ، صاحب الرضا أيضاً، و عاش حتى أدرك الإمام أبا محمّد الحسن العسكريّ.
و أوّل من صنّف في نوادر القرآن: عليّ بن الحسين بن فَضَّال، أحد شيوخ الشيعة في المائة الثالثة. قال ابن النديم في «الفهرست»: و كتاب الشيخ عليّ بن إبراهيم بن هاشم في نوادر القرآن، شيعيّ، كتاب عليّ بن الحسن بن فضّال من الشيعة، كتاب أبو النصر (أبو النضر - ظ) العيّاشيّ من الشيعة - انتهى.
و أوّل من صنّف في مُتَشَابِهِ القُرْآنِ: حمزة بن حبيب الزيّات الكوفيّ، من شيعة أبي عبد الله الصادق و صاحبه. المتوفّى سنة ستّ و خمسين بعد المائة بحُلْوان.
و أوّل من صنّف في مَقْطُوعِ القُرْآنِ و مَوْصُولِهِ هو الشيخ حمزة بن حبيب، و قد ذكره محمّد بن إسحاق المعروف بابن النديم في «الفهرست».
و أوّل من وضع نقط المصحف و أعربه و حفظه عن التحريف في أكثر الكتب هو أبو الأسود الدؤليّ، و في بعضها يحيى بن يَعْمُر العدوانيّ تلميذه، و الأوّل هو الأصحّ. و أيّهما كان فالفضل للشيعة، لأنّهما من الشيعة
بالاتّفاق.
و أوّل من صنّف في مَجَازِ القُرْآنِ: الفَرَّاء يحيى بن زياد المتوفّى سنة سبع و مائتين، و الآتي ذكره في أئمّة علم النحو. و قد نصّ المولى عبد الله الأفنديّ في «رياض العلماء» على أنّه من الشيعة الإماميّة. ثمّ قال: و ما قال السيوطيّ من ميل الفرّاء إلى الاعتزال لعلّه مبنيّ على خلط أكثر علماء الجمهور بين اصول الشيعة و المعتزلة، و إلّا فهو شيعيّ إماميّ - انتهى.
و قد كتب في مجازات القرآن جماعة، و أحسن ما صنّف فيه كتاب «مجازات القرآن» للسيّد الشريف الرضيّ الموسويّ أخي السيّد المرتضى.
و أوّل من صنّف في أمثال القرآن هو الشيخ الجليل محمّد بن محمّد ابن الجُنَيد. و قد ذكر ابن النديم في «الفهرست» في آخر تسمية الكتب المؤلّفة في معانٍ شتّى من القرآن ما لفظه «كتاب الأمثال» لابن الجنيد - انتهى. و لم أعثر على أحدٍ صنّف في ذلك قبله.
و أوّل من صنّف في فضائل القرآن: أبي بْنُ كَعْبٍ الأنصَارِيّ الصحابي. نصّ عليه ابن النديم في «الفهرست». و كأنّ الجلال السيوطيّ لم يطّلع على تقدّم أبي في ذلك، فقال: أوّل مَن صنّف في فضائل القرآن الإمام محمّد بن إدريس الشافعيّ المتوفّى سنة أربع و مائتين - انتهى.
ثمّ إن السيّد عليّ بن صدر الدين المدنيّ صاحب «سلافة العصر» قد نصّ على تشيّع أبي بن كعب في كتاب الطبقات أعني «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة». و أكثر من الدلالات و الشواهد على تشيّعه. و قد زدت أنا عليه شواهد و دلالات في الأصل، «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام».
و أوّل من صَنّف في أسباع القرآن۱ كتاباً و كتاباً في حدود آى
القرآن: حمزة بن حبيب الكوفيّ الزيّات، أحد السبعة من الشيعة، كما تقدم النصّ على ذلك من الشيوخ. و قد ذكر كتاب «أسباع القرآن»، و كتاب «حدود آى القرآن» ابنُ النديم فى «الفهرست» لحمزة المذكور. و لا أعلم أحداً تقدّمه فيها.
أئمّة علم القرآن من الشيعة
منهم: عبد الله بن عبّاس، و هو أوّل من أملي في تفسير القرآن من الشيعة. و قد نصّ كلّ علمائنا على تشيّعه. و ترجمه ترجمة حسنة السيّد في كتابه «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة». مات سنة ٦۷ هـ في الطائف. و لمّا حضرته الوفاة قال:
اللَهُمَّ أنّي أتَقَرَّبُ إلَيْكَ بِوَلَائِي لِعَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
و منهم: جابر بن عبد الله الأنصاريّ الصحابي. و هو في الطبقة الاولى من طبقات المفسِّرين لأبي الخير. و قال الفضل بن شاذان النيسابوريّ صاحب الرضا: جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضي الله عنه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. و قال ابن عقدة عند ذكره: منقطع إلى أهل البيت. مات بالمدينة بعد السبعين من الهجرة، و عمره أربع و تسعون سنة.
و منهم: أبي بْنُ كَعْبٍ سَيِّدُ القُرَّاءِ، عدّوه في الطبقة الاولى من الفسِّرين من الصحابة. و هو كما عرفتَ من الشيعة. و ترجمته في «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة».
و بعد هؤلاء: التابعون:
و منهم: سعيد بن جُبير أعلم التابعين بالتفسير - بشهادة قتادة له بذلك - كما في «الإتقان»، و قد تقدّم ذكره و تشيّعه.
و منهم: يحيى بن يَعْمُر التابعيّ، أحد أعلام الشيعة في علم القرآن.
قال ابن خلّكان: هو أحد قرّاء البصرة، و عنه أخذ عبد الله بن إسحاق القراءة. و كان عالماً بالقرآن الكريم، و النحو. و لغات العرب. و أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي. و كان شيعيّاً من الشيعة الاولى القائلين بتفضيل أهل البيت، من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم - انتهى.
و منهم: أبو صالح، مشهود بكنيته، تلميذ ابن عبّاس في التفسير.
اسمه ميزان البصريّ، تابعيّ شيعيّ. نصّ على تشيّعه و ثقته الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان في كتاب «الكَافِئَةُ في إبْطَالِ تَوْبَةِ الخَاطِئَةِ» بعد حديث عنه، عن ابن عبّاس. مات أبو صالح بعد المائة.
و منهم: طاووس بن كيسان أبو عبد الله اليمانيّ، أخذ التفسير عن ابن عبّاس. و عدّه الشيخ أحمد بن تيميّة من أعلم الناس بالتفسير، كما في «الإتقان». و نصّ ابن قتيبة في كتاب «المعارف» على تشيّعه. قال في ص ٢۰٦ من المطبوع بمصر: الشيعة: الحارث الأعور، و صعصعة بن صوحان، و الأصبغ بن نُباتة، و عطيّة العوفيّ، و طاووس، و الأعمش - انتهى. توفّي طاووس بمكّة سنة ستّ و مائة، و كان منقطعاً إلى عليّ بن الحسين السجّاد عليه السلام.
و منهم: الأعمش الكوفيّ: سليمان بن مَهْرَان أبو محمّد الأسديّ، و قد تقدّم نصّ ابن قتيبة على تشيّعه، و كذلك الشهرستانيّ في «الملل و النحل»، و غيرهما. و من علمائنا الشيخ الشهيد الثاني زين الدين في حاشية «الخلاصة»، و المحقّق البهبهانيّ في «التعليقة»، و الميرزا محمّد باقر الداماد في «الرواشح».
و منهم: سعيد بن المُسَيِّب، أخذ عن أمير المؤمنين و ابن عبّاس.
و كان قد ربّاه أمير المؤمنين عليه السلام، و صحبه و لم يفارقه و شهد معه حروبه. و نصّ الإمام الصادق، و الإمام الرضا على تشيّعه، كما في الجزء الثالث من كتاب «قرب الإسناد» للحِمْيَرِيّ. كان إمام القرّاء بالمدينة. و عن ابن المدائنيّ أنّه قال: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه. مات بعد التسعين، و قد ناهز الثمانين.
و منهم: أبو عبد الرحمن السُّلَميّ شيخ قراءة عاصم. قال ابن قُتَيْبة:
كان من أصحاب عليّ عليه السلام، و كان مقرئاً، و يُحمل عنه الفقه.
قلتُ: و قرأ أبو عبد الرحمن على أمير المؤمنين عليه السلام، كما في «مجمع البيان» للطبرسيّ. و عدّه البَرْقيّ في كتاب «الرجال» في خواصّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام من مُضَر. مات بعد السبعين.
و منهم: السُّدِّيّ الكبير صاحب التفسير المتقدّم ذكره.۱
و منهم: محمّد بن السائب بن بِشْر الكَلْبيّ صاحب التفسير الكبير المتقدّم ذكره.
و منهم: حُمْرَان بن أعْيَن، أخو زرارة بن أعين الكوفيّ، مولى آل شيبان، من أئمّة القرآن، أخذ عن الإمام زين العابدين و الباقر عليهما السلام. و مات بعد المائة.
و منهم: أبَانُ بْنُ تَغْلِب المتقدّم ذكره، كان المقدّم في كلّ فنّ من العلم. أخذ القراءة عن الأعمش، و هو من أصحاب الإمام السجّاد عليّ بن الحسين و الباقر عليهما السلام. مات سنة ۱٤۱.
و منهم: عاصم بن بهدلَة، أحد السبعة، قرأ على أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، القارئ على عليّ أمير المؤمنين عليه السلام. و لذا كانت قراءة عاصم أحبّ القراءات إلى علمائنا. و نصّ على تشيّعه الشيخ الجليل عبد الجليل الرازيّ المتوفّى سنة ٥٥٦ هـ في كتابه «نقض الفضائح»، و أنّه كان مقتدي الشيعة.
مات عاصم سنة ثمان و عشرين بعد المائة بالكوفة، و قيل: بالسماوة و هو يريد الشام و دُفن بها. و كان لا يبصر كالأعمش. و نصّ على تشيّعه القاضي نور الله المرعشيّ في كتابه «مجالس المؤمنين». و هو في طبقات الشيعة. و بعد هؤلاء أتباع التابعين:
منهم: أبُو حَمْزَة الثُّمَالِيّ: ثَابِتُ بْنُ دِينَار شيخ الشيعة بالكوفة. قال ابن النديم في «الفهرست»: كتاب تفسير أبي حمزة الثماليّ، و كان من أصحاب عليّ بن الحسين عليه السلام، من النجباء الثقات. و صحب أبا جعفر الباقر - انتهى. و مات أبو حمزة سنة مائة و خمسين.
و منهم: يحيى بن القاسم أبو بصير الأسديّ، كان مُقَدَّماً في الفقه و التفسير، و له فيه مصنَّف معروف. ذكره النجاشيّ، و أوصل إسناده إلى رواية التفسير. مات في حياة أبي عبد الله الصادق عليه السلام المتوفّى سنة ۱٤۸ هـ.
و منهم: البطائنيّ: عليّ بن سالم المعروف بابن أبي حمزة أبو الحسن الكوفيّ مولى الأنصار. له كتاب «تفسير القرآن». يروي فيه عن أبي عبد الله الصادق، و أبي الحسن موسى الكاظم، و أبي بصير المتقدّم ذكره.
و منهم: الحَصِينُ بْنُ مُخَارق: أبُو جُنَادَة السَّلُوليّ. قال ابن النديم: كان من الشيعة المتقدّمين، و له من الكتب كتاب «التفسير»، كتاب «جامع العلوم» - انتهى. و ذكر له النجاشيّ أيضاً كتاب «التفسير و القراءات»، و كتاباً كبيراً.
و منهم: الكِسائيّ أحد السبعة. اجتمع فيه امور: كان أعلم الناس بالنحو، و أوحدهم في الغريب و القرآن. و هو من أولاد الفُرس من سواد العراق. و قد ذكرتُ نسبه في الأصل «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» و من
نصّ على تشيّعه. مات بالري، أو بطوس، و هو في صحبة الرشيد سنة ۱۸٩ هـ، و قيل: سنة ۱۸٣ هـ، و قيل: ۱۸٥ هـ، و قيل: سنة ۱٩٣ هـ، و الأوّل هو الأصحّ.
و بعد هؤلاء طبقة اخرى. و يفصّل المرحوم الصدر هنا الكلام في ترجمتهم، و تصنيفهم في علوم القرآن المتنوّعة، و هم من الشيعة. و يذكرهم واحداً تلو الآخر، من ابن سَعْدان الضرير: أبي جعفر محمّد بن سعدان بن المبارك الكوفيّ، إلى النعمانيّ صاحب التفسير المعروف، و محمّد بن العبّاس بن عليّ بن مروان المعروف بابن الحَجَّام. ثمّ يقول:
و الذين صنّفوا في أنواع علوم القرآن جماعة منهم:
محمّد بن الحسن الشيبان شيخ الشيخ المفيد. صنّف «نهج البيان عن كشف معاني القرآن»، و نوّع علوم القرآن إلى ستّين نوعاً، صنّفه باسم المستنصر العبّاسيّ، و ينقل عنه السيّد المرتضى في كتاب «المحكم و المتشابه».
و الشيخ المفيد: محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف في عصره بابن المُعَلِّم. كان شيخ الشيعة، صاحب كرسيّ. له كتب مذكورة في فهرست مصنّفاته، منها: كتاب «البيان في أنواع علوم القرآن». مات في المحرّم سنة تسع و أربعمائة. ذكره الخطيب في «تاريخ بغداد».
و محمّد بن أحمد بن إبراهيم بن سليم أبي الفَضل الصَّوليّ الجُعْفيّ الكوفيّ المعروف بالصابونيّ، صاحب «الفَاخِرُ في اللُّغَة». له كتاب تفسير عنوانه «معاني تفسير القرآن و تسمية أصناف كلامه المجيد». من شيوخ أصحابنا. سكن بمصر و مات فيها سنة ثلاثمائة.
إن أوّل تفسير جمع فيه كلّ علوم القرآن هو كتاب «الرغيب في علوم القرآن» لأبي عبد الله محمّد بن عمر الواقديّ. ذكره ابن النديم في كتابه
«الفهرست» و نصّ على تشيّعه.۱
...۱
ثمّ كتاب «التبيان الجامع لكلّ علوم القرآن» في عشرة مجلّدات كبار لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ شيخ الشيعة.
كانت ولادته سنة ٣۸٥ هـ. و توفّي في الغريّ سنة ٤٦۰ هـ. ذكر في أوّله أنّه أوّل من جمع ذلك.
و كتاب «حقائق التنزيل و دقائق التأويل»، و هو في كبر «تفسير التبيان» للسيّد الشريف الرضيّ، أخو المرتضى. كشف فيه عن غرائب القرآن و عجائبه و خفاياه و غوامضه، و أبان غوامض أسراره، و دقائق أخباره. و تكلّم في تحقيق حقائقه، و تدقيق تأويله، بما لم يسبقه أحدٌ إليه، و لا حامَ فكر أحد عليه، لكنّه ليس بجامع لكلّ علوم القرآن.
و له كتاب «المُتَشابِهُ في القُرآنِ»، و كتاب «مَجَازات القرآن». هذا و لم يزد عمره على سبع و أربعين سنة، مات سنة ٤۰٦ هـ.
و «رَوْضُ الجِنَانِ وَ رَوحُ الجَنَانِ في تَفْسِيرِ القُرْآنِ» في عشرين جزءاً للشيخ الإمام القدوة أبي الفتوح الرازيّ الحسين بن عليّ بن محمّد بن أحمد الخزاعيّ الرازيّ النيسابوريّ. مات بعد القرن الخامس. و تفسيره الجامع متأخّر على جامع الشيخ الطوسيّ التفسيريّ.
و كتاب «مجمع البيان في علوم القرآن» في عشرة اجزاء للشيخ أمين الدين أبي عليّ الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسيّ، المتوفّى سنة أربعين و خمسمائة، جامع لكلّ ذلك، لكنّه صرّح في أوّله أنّه عيال فيه على تبيان الشيخ الطوسيّ قدّس سرّه.
و «خلاصة التفاسير» في عشرين مجلّداً، للشيخ قطب الدين
الراونديّ، و هو مشحون بالحقائق و الدقائق، من أحسن التفاسير المتأخّرة، عن الشيخ أبي جعفر الطوسيّ.۱
تقدّم الشيعة في علم الحديث
كان ما قيل عن تقدّم الشيعة في جميع علوم القرآن من تفسير و غيره. و أمّا تقدّمهم في علوم الحديث و الرواية، فإنّه ذكر أوّل الجامعين للحديث واحداً تلو الآخر، و مَن بوّب منهم أبوابه، و جمع الروايات في عناوين مستقلّة. و ذكر المبتكرين و المدوّنين للآثار من كبار الصحابة و التابعين و تابعي التابعين، حتى بلغ جميع المدوّنين في القرن الثاني، و أحصى المدوِّنين في القرن الثالث. ثمّ ذكر بعض المتأخّرين عنهم من أئمّة علم الحديث و أرباب الجوامع الكبار التي اليها اليوم مرجع الشيعة في أحكام الشريعة، و قال:
فاعلم أنّ المحمَّدِين الثلاثة الأوائل هم أرباب الجوامع الأربعة، و هم:
۱ - أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكُلَينيّ صاحب «الكافي» المتوفّى سنة ثمان و عشرين و ثلاثمائة. أخرج فيه (۱٦۰٩٩) حديثاً بأسنادها.
٢ - محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّيّ المتوفّى سنة ٣۸۱ هـ. و هو المعروف بأبي جعفر الصدوق. ألّف أربعمائة كتاب في علم الحديث، أجلّها كتاب «مَن لا يحضره الفقيه». و أحاديثه (٩۰٤٤) حديثاً في الأحكام و السنن.
٣ - محمّد بن الحسن الطوسيّ شيخ الطائفة صاحب كتاب
«تهذيبالأحكام»، بوّبه على ثلاثمائة و ثلاثة و تسعين باباً، و أخرج فيه (۱٣٥٩۰) حديثاً. و كتابه الآخر هو «الاستبصار»، و أبوابه تسعمائة و عشرون باباً، أخرج فيه (٥٥۱۱) حديثاً. و هذه هي الكتب الأربعة التي عليها المعوّل، و اليها المرجع للشيعة.
ثمّ المحمَّدِين الثلاثة الأواخر، أرباب الجوامع الكبار، و هم:
۱ - محمّد الباقر بن محمّد التقيّ المعروف بالمجلسيّ، مؤلِّف «بحار الأنوار في الأحاديث المرويّة عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و الأئمّة من آله الأطهار» في ستّة و عشرين مجلّداً ضخماً، و عليه تدور رحى الشيعة، لأنّه لا أجمع منه في جوامع الحديث. و قد أفرد العلّامة النوريّ كتاباً في أحوال هذا العلّامة سمّاه «الفَيض القُدسيّ في أحوال المجلسيّ» و قد طبع مع «البحار» بإيران.
٢ - محمّد بن مرتضى بن محمود المدعوّ بمحسن الكاشانيّ الشيخ المحدِّث العلّامة المتبحّر في المعقول و المنقول، الملقّب بالفيض. له «الوافي في علم الحديث» في أربعة عشر جزءاً، كلّ جزء كتاب على حدة.
يجمع الأحاديث المذكورة في الكتب الأربعة، في الاصول و الفروع و السنن و الأحكام. و له نحو مائتي مصنَّف في فنون العلم. عمّر أربعاً و ثمانين سنة، و توفّي سنة ۱۰٩۱ هـ.
٣ - محمّد بن الحسن الحرّ الشاميّ العامليّ المَشْغَريّ شيخ الشيوخ في الحديث. صاحب «تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل أحاديث الشريعة»۱ على ترتيب كتب الفقه، من أنفع الجوامع في الحديث، أخرجه من ثمانين كتاباً من الجوامع كانت عنده، و سبعين نقل عنها بالواسطة. و قد
طُبع مراراً بإيران، و عليه تدور رحى الشيعة اليوم. ولد في رجب سنة ۱۰٣٣ هـ، و توفّي بطوس من بلاد خراسان في سنة ۱۱۰٤ هـ.
و قد ألّف الشيخ العلّامة ثقة الإسلام الحسين بن العلّامة النوريّ ما فات من صاحب «الوسائل»، و جمعه على أبواب «الوسائل»، و سمّاه «مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل» و هو نحو كتاب «الوسائل». فكان أعظم مصنَّف في أحاديث المذهب، و فرغ منه سنة ۱٣۱٩ هـ. و توفّي في الغريّ، ثامن و عشرين جُمادى الآخرة، سنة عشرين و ثلاثمائة بعد الألف.
و هناك جوامع كبار الأعلام المحدِّثين الأخيار، منها: «العوالم» و هو مائة مجلّد في الحديث للشيخ المحدِّث المتبحّر البارع المولى عبد الله بن نور الله البحرانيّ المعاصر للعلّامة المجلسيّ صاحب «البحار».
و منها: كتاب «شرح الاستبصار في أحاديث الأئمّة الأطهار» في عدّة مجلّدات كبار، نحو «البحار» للشيخ المحقّق قاسم بن محمّد بن جواد المعروف بابن الونديّ، و بالفقيه الكاظميّ المعاصر للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ صاحب «الوسائل». كان ممّن تخرّج على جدّنا العلّامة السيّد نور الدين أخي السيّد محمّد صاحب «المدارك».
و منها: «جامع الأخبار في إيضاح الاستبصار»، و هو جامع كبير يشتمل على مجلّدات كثيرة للشيخ العلّامة الفقيه: عبد اللطيف بن عليّ بن أحمد بن أبي جامع الحارثيّ الهَمْدَانيّ الشاميّ العامليّ. تَخرّج على الشيخ المحقّق المؤسّس المتقن الحسن أبي منصور بن الشهيد الشيخ زين الدين العامليّ صاحب «المعالم»، و «المنتقى» من علماء المائة العاشرة.
و منها: الجامع الكبير المسمّى بـ «الشفا في حديث آل المصطفي»، يشتمل على مجلّدات عديدة للشيخ المتضلّع في الحديث محمّد الرضا بن
الشيخ الفقيه عبد اللطيف التبريزيّ. فرغ منه سنة ۱۱٥۸ هـ.
و منها: «جامع الأحكام» في خمسة و عشرين مجلّداً كبيراً للسيّد العلّامة: عبد الله بن السيّد محمّد الرضا الشُّبَّرِيّ الكاظميّ. كان شيخ الشيعة في عصره، و واحد المصنِّفين في دهره. لم يكن أكثر منه تاليفاً في المتأخّرين عن العلّامة المجلسيّ. مات سنة ۱٢٤٢ هـ في بلدة الكاظميّة.
تقدّم الشيعة في علم الدراية
فأوّل من تصدّى لعلم دراية الحديث و تنويعه إلى الأنواع المعروفة - و التقدّم فيه للشيعة أيضاً - هو أبو عبد الله الحاكم النيسابوريّ المشهور، المتوفّى سنة خمس و أربعمائة. صنّف فيه كتاباً سمّاه «معرفة علوم الحديث» في خمسة أجزاء. و نوّع فيه الحديث إلى خمسين نوعاً. و قد نصّ على تقدّمه في ذلك صاحب «كشف الظنون»، قال: أوّل مَن تصدّى له الحاكم، و تبعه في ذلك ابن الصلاح.
و صنّف بعد الحاكم في علم دراية الحديث جماعة من شيوخ علم الحديث من الشيعة، كالسيّد جمال الدين أحمد بن طاووس، أبو الفضائل. و هو واضح الاصطلاح الجديد للإماميّة في تقسيم أصل الحديث إلى الأقسام الأربعة: الصحيح و الحسن و الموثّق، و الضعيف.
تقدّم الشيعة في علم الرجال
و أوّل من دوّن علم رجال الحديث و أحوال الرواة:
أبو عبد الله محمّد بن خالد البَرْقيّ القمّيّ. كان من أصحاب الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، كما في كتاب «الرجال» للشيخ أبي جعفر الطوسيّ. و ذكر تصنيفه في الرجال الرواة أبو الفرج: ابن النديم في
«الفهرست» في أوّل الفنّ الخامس، في أخبار فقهاء الشيعة من المقالة السادسة.
قال: و له من الكتب كتاب «العويص»، كتاب «التبصرة»، كتاب «الرجال». فيه ذكر من روى عن أمير المؤمنين عليه السلام - انتهى.
ثمّ صنّف بعده أبو محمّد: عبد الله بن جَبَلة بن حَيَّان بن أبْحُرِ الكنانيّ. صنّف كتاب «الرجال». و مات سنة تسع عشرة و مائتين عن عمر طويل.
و قال السيوطيّ في كتاب «الأوائل»: أوّل من تكلّم في الرجال شُعْبة، و هو متأخّر عن ابن جَبَلة. فإنّ شعبة مات سنة (٢٦۰).۱ بل تقدّمه منّا بعد
...۱
ابن جبلة أبو جعفر اليقْطِينِيّ صاحب الإمام الجواد محمّد بن عليّ الرضا، فإنّه صنّف كتاب «الرجال» كما في فهرست النجاشيّ، و فهرست ابن النديم. و كذلك الشيخ محمّد بن خالد البرقيّ. كان من أصحاب الإمام موسى بن جعفر، و الرضا. و بقي حتى أدرك الإمام أبا جعفر محمّد بن الرضا عليه السلام، و كتابه موجود بأيدينا. فيه ذكر من روى عن أمير المؤمنين عليه السلام، و من بعده. و فيه الجرح و التعديل كسائر الكتب المذكورة.۱
تقدّم الشيعة في علم الفقه
تحدّث آية الله السيّد حسن الصدر بعد هذا البحث عن أوّل مَن صنّف في طبقات الرواة، و ذكر أنّ أوّل مصنّف كان شيعيّاً، و هو أبو عبد الله محمّد بن عمر الواقديّ. ثمّ فتح فصلًا في تقدّم الشيعة في علم الفقه، و عدّ عليّ بن أبي رافع غلام رسول الله صلّى الله عليه و آله أوّل مصنّف فيه، و أضاف أنّ النجاشيّ قال بعد وصف هذا التدوين: و كانوا (الشيعة) يعظّمون هذا الكتاب (كتاب ابن أبي رافع).
ثمّ قال: فهو (عليّ بن أبي رافع) أوّل مَن صنّف فيه (في الفقه) من الشيعة. و ذكر الجلال السيوطيّ أنّ أوّل من صنّف - يعني من أهل السنّة - في الفقه الإمام أبو حنيفة، لأنّ تصنيف عليّ بن أبي رافع في ذلك أيّام أمير المؤمنين عليه السلام قبل تولّد الإمام أبي حنيفة بزمان طويل.
ثمّ عقد بحثاً في مشاهير الفقهاء من الشيعة في الصدر الأوّل. و ذكر أسماءهم حسب ما أوردها الشيخ أبو عمرو الكشّيّ في كتابه المعروف بـ «رجال الكشّيّ»، و كان معاصراً لأبي جعفر الكلينيّ من علماء المائة الثالثة. و قال ما نصّه:
تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السلام:
أجمعت العصابة (جماعة من أركان الشيعة كلامهم حجّة على غيرهم) على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السلام و انقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأوّلين ستّة: زُرَارة،۱ و مَعروف
ابن خَرَّبُوذ، و بُرَيْد، و أبُو بَصير الأسديّ، و الفُضَيْل بن يَسَار، و محمّد بن مُسْلِم الطائفيّ.
قالوا: أفقه الستّة زرارة. قال بعضهم: مكان أبي بصير الأسديّ أبو بصير المراديّ، و هو ليث بن البختريّ.
ثمّ قال: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام:
أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء و تصديقهم لما يقولون، و أقرّوا لهم بالفقه من دون أولئك الستّة الذين عددناهم و سمّيناهم، و هم ستّة نفر:
جَمِيل بن دُرَّاج، و عبد الله بن مُسْكَان، و عبد الله بن بُكَيْر، و حَمَّاد ابن عيسى، و حَمَّاد بن عثمان، و أبَان بن عثمان.
قالوا: و زعم أبو إسحاق الفقيه، و هو ثعلبة بن ميمون، أنّ أفقه هؤلاء جميل بن دُرّاج. و هم أحدث أصحاب أبي عبد الله عليه السلام.
ثمّ قال الكشّيّ: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم و أبي الحسن عليهما السلام:
أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء و تصديقهم و الإقرار لهم بالفقه و العلم. و هم ستّة نفر آخرون. دون الستّة النفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله عليه السلام، منهم:
يونس بن عبد الرحمن، و صَفْوَان بن يحيى بَيَّاع السابِريّ،
و محمّد ابن أبي عُمَيْر، و عبد الله بن المُغِيرَة، و الحسن بن محبوب، و أحمد بن محمّد بن أبي نَصْر، و قال بعضهم مكان الحسن بن محبوب، الحسن بن عليّ بن فضّال، و فُضَالَة بن أيُّوب، و قال بعضهم مكان فُضَالَة، عثمان بن عيسى.
و أفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن و صفوان بن يحيى - انتهى كلام الكشّيّ.
تقدّم الشيعة في علم الكلام
أوّل من صنّف و دوّن في علم الكلام عيسى بن رَوْضَة التابعيّ الإماميّ المصنّف في الإمامة. بقي إلى أيّام أبي جعفر المنصور، و اختصّ به، لأنّه مولى بن هاشم.۱ و هو الذي فتق بابه و كشف نقابه. و ذكر كتابه أحمد بن أبي طاهر في كتاب «تاريخ بغداد» و وصفه و ذكر أنّه رأى الكتاب كما في فهرست كتاب النجاشيّ.
ثمّ صنّف أبو هاشم بن محمّد بن علي بن أبي طالب عليه السلام كتباً في الكلام. و هو مؤسّس علم الكلام من أعيان الشيعة. و لمّا حضرته الوفاة، دفع كتبه إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس الهاشميّ التابعيّ، و صرف الشيعة إليه، كما في معارف ابن قتيبة. و هما مقدّمان على أبي حُذَيْفَة: واصِل بن عَطَاء المعتزليّ، الذي ذكر السيوطيّ أنّه أوّل من صنّف في الكلام.
و أوّل من ناظر في التشيُّع من الإماميّة أبو ذرّ الغفاريّ
قال أبو عثمان الجاحظ: أوّل من ناظر في التشيّع الكُمَيْت بن زَيْد الشاعر، أقام فيه الحجج. و لولاه لما عرفوا وجوه الاحتجاج عليه.
قلت: بل تقدّمه في ذلك أبو ذرّ الغفاريّ الصحابي رضي الله عنه.
أقام يبثّ مدّة في دمشق دعوته و ينشر مذهبه في العلويّة و آراءه الشيعيّة.
فاستجاب له قوم في نفس الشام. ثمّ خرج إلى صرفند و ميس - و هما من أعمال الشام من قري جبل عامل - فدعاهم إلى التشيّع فأجابوا. بل في كتاب «أمل الآمل»: لمّا اخرج أبو ذرّ إلى الشام بقي أيّاماً فتشيّع جماعة كثيرة.
ثمّ أخرجه معاوية إلى القرى، فوقع في جبل عامل، فتشيّعوا من ذلك اليوم.
و أوّل طبقة من مشاهير أئمّة علم الكلام من الشيعة تضمّ كُمَيْل بن زياد نزيل الكوفة. تخرّج على عليّ أمير المؤمنين عليه السلام في العلوم، و أخبره أنّ الحجّاج يقتله، فقتله الحجّاج بالكوفة سنة ثلاث و ثمانين تقريباً.
و سُلَيْم بن قَيْس الهِلَاليّ التابعيّ. طلبه الحجّاج أشد الطلب و لم يظفر به. و مات في أيّام الحجّاج. كان من خواصّ عليّ عليه السلام.
و الحارث الأعْوَر الهَمْدَانيّ صاحب «المناظرات في الاصول» أخذ من أمير المؤمنين عليه السلام، و تخرّج عليه. و مات سنة ٦٥ هـ.
و جابر بن يزيد بن الحارث الجُعفيّ: أبو عبد الله الكوفيّ، مُتبحِّر في الاصول و سائر علوم الدين. تخرّج على الباقر عليه السلام.
و بعد هؤلاء طبقة اخرى مثل قَيْس بن الماصِر، من أعلام علماء علم الكلام في عصره. تعلّم الكلام من الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام.
و شهد له الإمام أبو عبد الله الصادق بالحذاقة فيه، قال: أنْتَ
وَ الأحْوَلُ قَفَّازَانِ حَاذِقَانِ! و الأحوال هو أبو جعفر محمّد بن عليّ بن النعمان بن أبي طريفة البَجَليّ۱ الأحول. كان دكّانه في طاق المحامل بالكوفة. يُرجع إليه بالنقد فيردّ ردّاً و يخرج كما يقول، فقيل له: شَيْطَانُ الطَّاقِ.
تعلّم من الإمام زين العابدين عليه السلام، و صنّف كتاب «افعل و لا تفعل»، و كتاب «الاحتجاج في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام»، و كتاب «الكلام على الخوارج»، و كتاب «مجالسة مع الإمام أبي حنيفة و المرجئة»، و كتاب «المعرفة»، و كتاب «الردّ على المعتزلة».
و حُمْران بن أعْين أخو زرارة بن أعين. تعلّم الكلام من الإمام زين العابدين عليه السلام. و هشام بن سالم من شيوخ الشيعة في الكلام.
و يونس بن يعقوب ماهر في الكلام. قال له الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام: تَجْرِي بِالكَلَامِ عَلَى الأثَرِ فَتُصِيبُ!
وَ فَضَّال بن الحسن بن فَضَّال الكوفيّ المتكلّم المشهور. ما ناظر أحداً من الخصوم إلّا قطعه، و حكى السيّد المرتضى في «الفصول المختارة»٢ بعض مناظراته مع الخصوم. و كلّ هؤلاء كانوا في عصر واحد،
و ماتوا في أثناء المائة الثانية.
و بعد هؤلاء في الطبقة هِشام بن الحَكَم.۱ قال الصادق عليه السلام فيه: هَذَا نَاصِرُنَا بِقَلْبِهِ وَ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ!
ناظر كلّ أهل الفرق و أفحمهم. و له مجالس مع الخصوم. صنّف في الكلام، و حسده الناس لشدّة صولته و علوّ درجته، فرموه بالمقالات الفاسدة، و هو بريء منها و من كلّ فاسد. مات سنة ۱۷٩ هـ.
ثمّ السَّكَّاك محمّد بن خليل أبو جعفر البغداديّ، صاحب هشام بن الحكم و تلميذه. أخذ عنه الكلام، و له كتب في الكلام.
و أبو مالِك الضَّحَّاك الحَضرميّ إمام في الكلام، أحد أعلام الشيعة.
أدرك الصادق و الكاظم عليهما السلام.
و منهم آل نوبخت. قال ابن النديم في «الفهرست»: آل نوبخت معروفون بولاية عليّ و ولده. و قال في «رياض العلماء»: بنو نوبخت طائفة معروفة من متكلّمي علماء الشيعة.
قلتُ: أمّا نوبخت، فهو فارسيّ فاضل في علوم الأوائل. صحب المنصور لحذاقته باقتران الكواكب. و لمّا ضعف عن الصحبة قام مقام ابنه أبو سهل، اسمه كنيته. و نشأ لأبي سهل المذكور الفضل بن أبي سهل بن نوبخت، فتقدّم في الفضل و العلم. قال بعض الفضلاء من أصحابنا عند ذكره: هُوَ الفيلسوف المتكلّم، و الحَكيم المتألِّه، وَحِيدٌ في علوم الأوَائل، كَانَ مِنْ أرْكَان الدَّهْر.
نقل كثيراً من كتب البهلويّين الأوائل في الحكمة الإشراقيّة من الفارسيّة إلى العربيّة، و صنّف في أنواع الحكمة. و له كتاب في الإمامة، كبير. و صنّف في فروع علم النجوم لرغبة أهل عصره بذلك. و هو من علماء عصر الرشيد هارون بن المهديّ العبّاسيّ. و كان على خزانة الحكمة للرشيد. و له أولاد علماء أجلّاء.
و قال القفطيّ۱ في كتاب «أخبار الحكماء»: الفضل بن نوبخت أبو سهل الفارسيّ، مذكور مشهور من أئمّة المتكلّمين. و ذكر في كتب المتكلّمين. و استوفى نسبه من ذكره كمحمّد بن إسحاق النديم، و أبي عبد الله (أبي عبيد الله - ظ) المرزبانيّ. كان في زمن هارون الرشيد، و ولّاه القيام بخزانة كتب الحكمة.
قلتُ: و من أولاده البارعين في العلوم إسحاق بن أبي سهل بن
نوبخت، تخرّج على أبيه في العلوم العقليّة و سائر علوم الأوائل. و قام مقام أبيه في خزانة كتب الحكمة لهارون. و له أولاد علماء متبحّرون في الكلام كأبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، صاحب كتاب «الياقوت في الكلام» الذي شرحه العلّامة ابن المطهَّر الحلّيّ. قال في أوّله:
لشيخنا الأقدم و إمامنا الأعظم أبي إسحاق بن نوبخت.
و هنا ذكر باحثنا القدير المرحوم الصدر عدداً كبيراً من العلماء، و واصل حديثه إلى أن قال: و منهم: شَيْخُ الشِّيعَةِ وَ مُحْيِي الشَّرِيعَةِ شَيْخُنَا المُفِيدُ أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النُّعْمان المعروف بابن المعلِّم. قال ابن النديم: انتهت رئاسة متكلّمي الشيعة إليه. مقدّم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه، دقيق الفطنة، ماضي الخاطر. شاهدته، فرأيته بارعاً، و له كتب - انتهى.
قلتُ: و هو إمام عصره في كلّ فنون الإسلام. كان مولده سنة ٣٣۸ هـ، توفّي سنة ٤۰٩ هـ.
تقدّم الشيعة في علم مكارم الاخلاق
إن أوّل من صنّف فيه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. كتب كتاباً فيه عند منصرفه من صفّين، و أرسله إلى ولده الحسن أو محمّد ابن الحنفيّة. و هو كتاب طويل جمع فيه جميع أبواب هذا العلم، و طرق سلوكه، و مكارم الملكات، و كلّ المنجيات و المهلكات، و طرق التخلّص من تلك الهلكات.
رواه علماء الفريقين و أثنوا عليه بما هو له أهل. رواه الكلينيّ منّا في كتاب «الرسائل» من عدّة طرق. و رواه الإمام أبو محمّد الحسن بن عبد الله ابن سعيد العسكريّ، و أخرجه بتمامه في كتاب «الزواجر و المواعظ». قال:
و لو كان من الحكمة ما يجب أن يكتب بالذهب لكانت هذه. قال: و حدّثني بها جماعة. ثمّ ذكر طرقه في رواية الكتاب.۱
و أوّل من صنّف فيه من الشيعة إسماعيل بن مهران بن أبي نصر أبو يعقوب السَّكُونيّ، و سمّاه كتاب «صفة المؤمن و الفاجر». و له جمع خطب أمير المؤمنين عليه السلام و أمثاله.
ذكرهما أبو عمر الكشّيّ، و أبو العبّاس النجاشيّ في فهرست أسماء المصنّفين من الشيعة، و ذكروا أنّه روى عن عدّة من أصحاب أبي عبد الله الصادق عليه السلام، و عمّر حتى لقي الإمام الرضا عليه السلام، و روى عنه. و هو من علماء المائة الثانية.
و قد صنّف فيه من القدماء الشيعة كأبي محمّد الحسن بن عليّ بن
الحسن بن شُعْبَة الحَرَّانيّ رضي الله عنه من علماء المائة الثالثة، صنّف كتاب «تحف العقول فيما جاء في الحكم و المواعظ و مكارم الأخلاق عن آل الرسول». و هو كتاب جليل لم يُصَنَّف مِثلُه. و قد اعتمده شيوخ علماء الشيعة، كالشيخ المفيد ابن المعلِّم، ينقل عنه و غيره حتى قال بعض علمائنا: هو كتاب لم يسمح الدهر بمثله.۱
تقدّم الشيعة في الجغرافيّة في صدر الإسلام
إن هشام بن محمّد الكلبيّ من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام صنّف فيه كتاب «الأقاليم»، و كتاب «البلدان» الكبير، و كتاب «البلدان» الصغير، و كتاب «تسمية الأرضين»، و كتاب «الأنهار»، و كتاب «الحيرة»، و كتاب «منازل اليمن»، و كتاب «العجائب الأربعة»، و كتاب «أسواق العرب»، و كتاب «الحيرة»٢، و «تسمية البيع و الديارات»، كما نصّ على كلّ ذلك أبو الفرج، و ابن النديم في «الفهرست» عند ذكره أنواع ما صنّفه الكلبيّ.
و العجب من الحمويّ في «معجم البلدان» حيث لم يزد على قوله:
«و هشام بن محمّد الكلبيّ وقفت له على كتاب سمّاه «اشتقاق البلدان»، مع أنّه بزعمه استقصى طبقة الإسلاميّين المصنّفين في ذلك، من الذين قصدوا ذكر البلاد و الممالك، و عيّنوا مسافة الطرق و المسالك. و كلّهم متأخّرون عن هشام بن محمّد الكلبيّ، و الذين قصدوا ذكر الأماكن العربيّة و المنازل البدويّة من طبقة أهل الأدب، كلّهم أيضاً متأخّرون عن هشام بن محمّد
الكلبيّ، كما لا يخفى على مثله.
تقدّم الشيعة في علم الأخبار و التواريخ و الآثار، و مزيّتهم على الآخرين
قال ابن النديم: «قرأتُ بخطّ أحمد بن الحارث الخزاعيّ: «قالت العلماء: أبو مِخْنَف بأمر العراق و أخبارها و فتوحها يزيد على غيره.
و المدائنيّ بأمر خراسان و الهند و فارس. و الواقديّ بالحجاز و السيرة، و قد اشتركا في فتوح الشام» - انتهى.
قلتُ: و الشيعة من هؤلاء أبو مِخْنَف، و الواقديّ. و قد تقدّم نصّ ابن خلّكان أنّ هشام بن محمّد الكلبيّ أعلم الناس بالأنساب، و قد تقدّمت ترجمته. فنذكر ترجمة أبي مخنف، و الواقديّ، و أمثالهما ممّن فاق أقرانه، فنقول:
أبو مخنف الأزديّ الغامديّ شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة من الشيعة و وجههم. اسمه لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سالم، أو سليمان، أو سليم. و كان أبوه يحيى من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، و جدّه مخنف صحأبي، روى عن رسول الله صلّى الله عليه و آله، و صحب أمير المؤمنين عليه السلام بعده، و كانت راية الأزد بصفّين معه. و استُشهد بعين الوردة سنة ٦٤ هـ كما في «التقريب».
و أبو مخنف صاحب الترجمة روى عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام. و قيل: روى عن الباقر عليه السلام. و الشيوخ لا تصحّح ذلك. و قد و هم من قال فيه: إنّه من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّه لم يلقه.
و صنّف من الكتب كتاب «الرَّدّة»، كتاب «فتوح الشام»، كتاب «فتوح العراق»، كتاب «الجمل»، كتاب «صفّين»، كتاب «أهل النهروان
و الخوارج»، كتاب «الغارات»، كتاب «الحرث بن راشد و بني ناجية»، كتاب «مقتل عليّ عليه السلام». و أحصى المرحوم السيّد حسن الصدر له ثلاثة و ثلاثين كتاباً آخراً، ذكرها بأسمائها.
و منهم: الواقديّ. و هو أبو عبد الله محمّد بن عمر مولى الأسلَمين من سَهْم بن أسْلَم. كان من أهل المدينة. انتقل إلى بغداد و ولى القضاء بها للمأمون بعسكر المهديّ. عالماً بالمغازي و السير و الفتوح، و اختلاف الناس في الحديث و الفقه و الأحكام و الأخبار.
قال ابن النديم: و كان يتشيّع، حسن المذهب، يلزم التقيّة. قال:
و هو الذي روى أنّ عليّاً عليه السلام كان من معجزات النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم كالعصا لموسى عليه السلام، و إحياء الموتى لعيسى ابن مريم، و غير ذلك من الأخبار - انتهى. كان تولّده سنة ۱۰٣، و وفاته سنة ٢۰۷ هـ و له ثمان و سبعون سنة.۱ و له من الكتب كتاب «التاريخ و المغازي و المبعث»، كتاب «أخبار مكّة»، كتاب «الطبقات»، كتاب «فتوح الشام»، كتاب «فتوح القرآن». و ثلاثة و عشرون كتاباً آخراً ذكرها المرحوم الصدر كلّها.
قال ابن النديم: خلّف الواقديّ بعد وفاته ستمائة قِمْطَر كتباً (القمطر صندوق للكتب)، كلّ قمطر منها حِمْل رجلين. قال: و كان له مملوكان
يكتبان الليل و النهار. و قبل ذلك بيع له كتب بألفي دينار.۱
تقدّم الشيعة في علم اللغة
أوّل من جمع كلام العرب و حصره و زمّ جميعه، و بيّن قيام الأبنية من حروف المعجم و تعاقب الحروف، و أسّس ذلك بنظر صائب لم يتقدّمه أحد فيه هو الحبر العلّامة شيخ العالم حجّة الأدب، ترجمة لسان العرب المولى أبو الصَّفاء الخليل بن أحمد الأزْديّ اليَحْمُدِيّ الفراهيديّ رضي الله عنه.٢
و إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد | *** | ذخراً يكون كصالح الأعمال |
و هذا ممّا لا خلاف فيه بين أهل العلم و الأدب. إلى أن قال: قال شيخ الشيعة جمال الدين بن المطهّر في «الخلاصة»: الخليل بن أحمد كان أفضل الناس في الأدب، و قوله حجّة فيه. اخترع العروض. و فضله أشهر من أن يذكر. كان إماميّ المذهب.
و قال المولى عبد الله أفندي في «رياض العلماء»: و الخليل جليل القدر، عظيم الشأن، أفضل الناس في علم الأدب. كان إماميّ المذهب و إليه ينسب علم العروض. و كان في عصر مولانا الصادق، بل الباقر عليهما السلام أيضاً - انتهى.۱
و من مشاهير أئمّة اللغة من الشيعة ممّن يزيد على غيره ابن السِّكِّيت. قال أبو العبّاس ثعلب: أجمع أصحابنا أنّه لم يكن بعد ابن
لو كنتَ تعلم ما أقول عذرتَني | *** | أو كنتَ تعلم ما تقول عذلتكا |
لكن جهلت مقالتي فعذلتني | *** | و علمتُ أنّك جاهل فعذرتُكا |
الأعرابي أعلم باللغة من ابن السِّكِّيت.
قتله المتوكّل لأجل التشيّع، و أمره مشهور. عَمَّرَ ثماني و خمسين سنة، و استشهد ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة ٢٤٤، و قيل: سنة ٢٤٦، و قيل: سنة ٢٤٣.
و له من الكتب «إصلاح المنطق» الذي قال المُبَرَّد فيه: ما عبر على جسر بغداد كتاب في اللغة مثل «إصلاح المنطق». و له كتاب «الألفاظ»، و كتاب «الزبرج»، و كتاب «الأمثال»، و كتاب «المقصور و الممدود»، و كتاب «المذكّر و المؤنّث»، و كتاب «الأجناس» - و هو كتاب كبير - و كتاب «الفِرَق»، و كتاب «السَّرج و اللِّجام»، و كتاب «الوحوش»، و كتاب «الإبل»، و كتاب «النوادر»، و كتاب «معاني الشِّعر» الكبير، و آخر صغير، و كتاب «سرقات الشعراء»، و كتاب «فَعَلَ و أفْعَلَ»، و كتاب «الحشرات»، و كتاب «الأصوات»، و كتاب «الأضداد»، و كتاب «الشجر و الغابات».
فتأمّل هذه المصنَّفات في هذا العمر القصير! هذا مضافاً إلى ما رواه عن الرضا و الجواد و الهاديّ عليهم السلام.
و منهم: أبو بَكر بن دُرَيد الأزْدِيّ إمام اللغة. كان صدراً في العلم ستّين سنة. ولد بالبصرة سنة ثلاث و عشرين و مائتين، و نشأ بها. و لمّا فتحها الزنج هرب إلى عمان، و أقام اثنتي عشرة سنة، ثمّ رجع إلى وطنه، ثمّ رحل إلى فارس، إلى بني ميكال، فعلا عندهم قدره. و تولّى نظارة الديوان.
و لمّا خُلع بنو ميكال، جاء إلى بغداد سنة ثمان و ثلاثمائة، و اتّصل بابن الفرات وزير المقتدر بالله. فقرّ به المقتدر، و عيّن له وظيفة نحو خمسين ديناراً في كلّ شهر. و ما زال مكرّماً معظّماً حتى جاء أجله في شعبان سنة إحدى و عشرين و ثلاثمائة، و قد عمّر ثماني و تسعين سنةً. و قد
صنّف كتاب «السرج و اللجام»، و كتاب «المقتبس»، و كتاب «زوّار العرب»، و كتاب «اللغات»، و كتاب «السلاح»، و كتاب «غريب القرآن»، و كتاب «الوِشاح»، و كتاب «الجمهرة» في اللغة، في ستّة أجزاء كلّ جزء في مجلّد.
و له مقاطيع محبوكة الطرفين، و قصيدة في المقصور و الممدود. و له القصيدة المقصورة ذات الحكم و الآداب، أكبّ على شرحها العلماء.
و عدّه الشيخ رشيد الدين بن شهرآشوب المازندرانيّ في «معالم العلماء» في شعراء أهل البيت المجاهدين فيهم. و من شعره في ولاء أهل البيت عليهم السلام:
أهْوَى النَّبِيّ مُحَمَّداً وَ وَصِيَّةُ | *** | وَ ابْنَيْهِ وَ ابْنَتَهُ البَتُولَ الطَّاهِرَهْ |
أهْلَ الوَلَاءِ فَإنَّنِي بِوَلَائِهُمْ | *** | أرْجُو السَّلَامَةَ وَ النَّجَا في الآخِرَهْ |
وَ أرَى مَحَبَّةَ مَنْ يَقُولُ بِفَضْلِهِمْ | *** | سَبَباً يُجِيرُ مِنَ السَّبِيلِ الجَائِرَهْ |
أرْجُو بِذَاكَ رِضَا المُهَيْمِنِ وَحْدَهُ | *** | يَوْمَ الوُقُوفِ عَلَى ظُهُورِ السَّاهِرَهْ |
و نصّ على تشيّعه في «رياض العلماء»، و «معالم العلماء»، و «أمل الآمل»، و «طبقات الشيعة» للقاضي نور الله المرعشيّ.
و منهم: أبو عمرو الزاهد، قال التنوخيّ: لم أر قطّ أحفظ منه. أملي من حفظه ثلاثين ألف ورقة. ولد سند إحدى و ستّين و مائتين، و مات سنة خمسين و أربعين و ثلاثمائه. و له من الكتب كتب «مناقب أهل البيت»، اختصره السيّد ابن طاووس. و أخرج في «سعد السُّعُود» جملة من أحاديث أبي عمرو الزاهد في مناقب أهل البيت.
و كذلك صاحب «تحفة الأبرار» السيّد الشريف الحسين بن مساعد الحسينيّ الحائريّ، روى عن أبي عمرو الزاهد اللغويّ النحويّ من كتابه في مناقب أهل البيت، و نصّ على تشيّعه. إلى أن قال:
و نصّ في «رياض العلماء» على أنّه من علماء الإماميّة، و أنّ له كتاب
«اللباب». و ينقل عن كتبه ابن طاووس في كتبه كثيراً من الأخبار. و كتاب «المناقب»، و ينقل بعض المتأخّرين في كتبهم بعض الأخبار في فضائل أهل البيت عليهم السلام عنه.
قلتُ: لا ريب في تشيّع أبي عمر و المذكور.
و منهم: أحمد بن فارس بن زكريّا بن محمّد بن حبيب أبو الحسين اللغويّ المعروف، الكوفيّ المذهب، صاحب «المجمل» في اللغة، و «فقه اللغة»، المعروف بالصاحبيّ. صنّفه للصاحب بن عبّاد. له ترجمة في «وفيّات الأعيان»، و «بغية الوعاة».
و منهم: الصاحب بن عَبَّاد وزير فخر الدولة الديلميّ.۱ كان كافي
قَالَتْ: تُحِبُّ مُعَاوِيَه | *** | قُلْتُ: اسْكُتِي يَا زَانِيَهْ |
قَالَتْ: أسَأتَ جَوَابَنَا | *** | فَأعَدْتُ قَوْلِي ثَانيَهْ |
يَا زَانِيَه يَا ابْنَةَ ألْفَي زَانِيَه | *** | أ احِبُّ مَنْ شَتَمَ الوَصِيّ عَلَانِيَهْ |
فَعَلَى يَزِيدٍ لَعْنَةٌ | *** | وَ عَلَى أبِيهِ ثَمَانِيَهْ |
و قائلٌ لي عليّ كان وارثه | *** | بالنَّصِّ منه فهل أعطوه أو منعوا |
فقلتُ كَأنْتَ هناك لستُ اذكرها | *** | يجزي بها الله أقواماً بما صَنَعوا |
هُمُ رجالٌ إذا سَمَّيتَهُمْ عُرِفوا | *** | لَهُمْ وجوهٌ من الشحناء تمتَقِعُ |
ما زِلتُ مُذْ يَفَعَتْ سِنِّي ألوذ بكم | *** | حتى محا حقّكم شكّي فأنتجعُ |
الكُفاة. صنّف في علم اللغة «المحيط باللغة» في عشرة أجزاء، رتّبه على حروف المعجم، كثّر فيه الألفاظ و قلّل الشواهد. و «جوهرة الجمهرة». و له في الأدب كتاب «الأعياد»، كتاب «الوزارء»، كتاب «الكشف عن مساوئ المتنبّي»، و رسائل في فنون الكتابة، رتّبها على خمسة عشر باباً، و له ديوان شعر. و له في علم الكلام كتاب «أسماء الله تعالى و صفاته»، و كتاب «الأنوار» في الإمامة، و كتاب «الإبانة عن الإمام». و هو أوّل من سُمِّي الصاحب من الوزراء. مُدِح بمائة ألف قصيدة عربيّة و فارسيّة، و اليتيمة في شعرائه.
و حكى الحسن بن عليّ الطبرسيّ في كتابه «الكامل البهائيّ» أنّ للصاحب بن عبّاد عشرة آلاف بيت شعر في مدح أهل البيت عليهم السلام.۱
تقدم الشيعة في علم الإنشاء و الكتابة
بعد أن ذكر المرحوم الصدر هنا ابن العميد، و الصاحب بن عَبَّاد، و أبا بكر الخوارزميّ، أضاف قائلًا: و أوّل مَن كتب لأمير المؤمنين عليّ
ابن أبي طالب عليه السلام عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. قال ابن قتيبة في كتاب «المعارف»: فلم يزل كاتباً لعليّ ابن أبي طالب خلافته كلّها.
و قال: و منهم (الوزارء الكتّاب): بنو سَهْل وزراء المأمون. أوّلهم الفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ ذَوْ الرِّئاسَتَيْنِ لجمعه بين السيف و القلم. و لمّا نقل المأمون الخلافة إلى بني عليّ، كان الفضل بن سهل هو القائم بهذا الأمر و المحسِّن له. و لمّا رأى المأمون إنكار العبّاسيّين ببغداد لذلك حتى خلعوه و بايعوا إبراهيم عمّه، قام و قعد و دسّ جماعة على الفضل بن سهل فقتلوه في الحمّام، ثمّ قتل الإمام الرضا عليه السلام بالسمّ، و كتب إلى بغداد أنّ الذي أنكرتموه من أمر عليّ بن موسى قد زال. و كان ذلك سنة ٢۰٤.
ثمّ استوزر المأمون الحسن بن سَهل. ثمّ عرضت له سوداء كان أصلها جزعه على أخيه. فانقطع بداره ليتطبّب و استخلف أحد كتّابه. و مات الحسن بن سهل في سنة ستّ و ثلاثين و مائتين في أيّام المتوكّل.
و منهم: أبو الفَضْل جعفر بن محمود الإسكافيّ وزير المعتزّ و المهتدي.
و منهم: أبو المَعَالي هِبَةُ الله بن محمّد بن المُطَّلِب وزير المستظهر.
كان من علماء الوزراء و أفاضلهم و أخيارهم. نصّ على تشيّعه في «جامع التواريخ». قال: و لهذا لم يرض بوزارته محمّد بن ملكشاه السلجوقيّ! فكتب إلى الخليفة: كيف يكون وزير خليفة الوقت رافضيّاً؟! و كرّر الكتابة في ذلك، فعزله المستظهر.
فذهب أبو المعالي إلى السلطان محمّد بن ملكشاه و توسّل إليه بواسطة سعد الملك الأوْجي وزيره فاسترضاه. و اشترط عليه السلطان أن لا يخرج عن مذهب أهل السنّة و الجماعة في وزارته. و كتب السلطان إلى
المستظهر، فأعاده إلى الوزارة. ثمّ تغيّر عليه الخليفة، فذهب إلى أصفهان.
و كان في ديوان السلطان محمّد ملك شاه حتى مات.
و منهم: مُؤيِّد الدِّين أبو طالب محمّد بن أحمد بن العَلْقَميّ الأسَديّ وزير المستعصم. صنّف له الصغانيّ اللغويّ «العباب»، و هو كتاب جليل في اللغة. و صنّف له عزّ الدين بن أبي الحديد «شرح نهج البلاغة» فأثابهما و أحسن جائزتهما، و مدحه الشعراء و انتجعه الفضلاء. و ظلمه العامّة حيث نسبوا إليه الغدر و الخيانة، و هو بريء من كلّ خيانة.
قال ابن الطقطقيّ، و هو من أهل ذلك العصر و أشراف ذلك الزمان، في مقام بيان إهمال المستعصم و عدم التفاته و تفريطه ما لفظه:
و كان وزيره مؤيِّد الدين بن العلقميّ يعرف حقيقة الحال في ذلك، و يكاتبه بالتحذير و التنبيه، و يشير عليه بالتيقّظ و الاحتياط و الاستعداد، و هو لا يزداد إلّا غفولًا. و كان خواصّه يوهمونه أنّه ليس في هذا كبير خطر و لا هناك محذور. و أنّ الوزير إنّما يعظّم هذا لينفق سوقه و لتبرز إليه الأموال ليجنّد بها العساكر، فيقطع منها لنفسه ... إلى آخر كلامه.
و منهم: أبو الحسن جعفر بن محمّد بن فَطير الكاتِب الوزير المشهور. ذكره ابن كثير، و ذكر أنّه من الوزراء الكتّاب الشيعة بالعراق.
قال: و لمّا كان تشيّعه شائعاً، جاءه رجل فقال له: أنّي رأيتُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في المنام، و قال لي: امضِ إلى ابن فطير و قل له يعطيك عشرة دنانير. فقال له: متى رأيتَه؟ قال: في أوّل الليل.
فقال: صدقتَ! فإنّي رأيتُه عليه السلام في آخر الليل. و أمرني أن إذا جاءك سائل كذا صفته و سألك شيئاً فأعطه ... إلى آخر القصّة. و قد نقلتها بالواسطة عن تاريخ ابن كثير من كتاب طبقات القاضي المرعشيّ بالفارسيّة.
و منهم: آل جُوَيْن، منهم: الصاحب الأعظم شمس الدين محمّد
الجُوَيْنيّ الملقَّب بصاحب الديوان للسلطان محمّد خوارزم شاه، و للسلطان جلال الدين، و كذلك أخوه علاء الدين عطاء الملك الجُوَيْنيّ، و كذلك الصاحب المعظّم الأمير الرشيد بَهَاء الدين محمّد بن صاحب الديوان، و قد صنّف المحقّق الشيخ ميثم البحرانيّ «شرح نهج البلاغة» باسمه. و صنّف الحسن بن عليّ الطبرسيّ كتاب «الكامل في التاريخ» باسمه، فسمّاه «الكامل البهائيّ»، ثمّ الصاحب شرف الدين هارون أخوه ابن صاحب الديوان الجوينيّ كان جامعاً لجميع العلوم حتى الموسيقى، كما في «مجالس المؤمنين» للمرعشيّ. و قام مقام أخيه في الوزارة.
و منهم: أحمد بن محمّد بن ثوابة بن خالد الكاتب: أبي العبّاس.
كان أيّام المهديّ. و نصّ ياقوت في «معجم الادباء» على تشيّعه. مات أبو العبّاس سنة ٢۷۷ هـ، و قيل: سنة ٢۷٣ هـ.
و منهم: أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مُصْعَب بن زُرَيْق بن مَاهَا الخُزَاعِيّ الأمير البغداديّ الإماميّ. كان ولى بغداد و خراسان. و كان عالماً فاضلًا و شاعراً بارعاً و كاتباً ماهراً، و لا عجب فإنّه ابن أبيه (عبد الله الشاعر و الأديب) و حفيد طاهر.
قال الخطيب عند ذِكره لأبي أحمد المذكور: كان فاضلًا أديباً شاعراً فصيحاً. و كان أبوه عبد الله شاعراً مجيداً و جواداً سخيّاً. و جدّه طاهر لا يحتاج إلى وصف بالكمال. و هو أحد الثلاثة الذين قال المأمون فيهم:
هم أجلّ ملوك الدنيا و الدين - قاموا بالدول - و هم الإسكندر، و أبو مسلم الخراسانيّ، و طاهر. قال: و كان متشيّعاً كحفيده المذكور، إلى أن قال:
مات أبو أحمد ليلة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوّال سنة ثلاثمائة. حكاه عن الخطيب ضياء الدين في «نسمة السَّحَر».
و منهم: أحمد بن عَلَوِيَّة المعروف بأبي الأسود الكاتب الكرانيّ
الأصفهانيّ. قال ياقوت: كان صاحب لغة يتعاطى التأديب و يقول الشِّعر الجيّد. و كان من أصحاب لفذة؛ ثمّ صار من ندماء أحمد أبي دُلَف. إلى أن قال: و له «رسائل مختارة»، و «رسالة في الشيب و الخضاب»، و قصيدة شيعيّة على ألف قافية. عُرضت على أبي حاتم السجستانيّ فاعجب بها و قال: يَا أهْلَ البَصرةِ! غَلَبَكُمْ أهْلُ إصْفَهَانَ. عمّر نيّفاً و مائة سنة، و توفّي سنة نيّف و عشرين و ثلاثمائة.
و منهم: الإسكافيّ محمّد بن أبي بكر هَمَّام بن سَهْل المشهور بالكاتب الإسكافيّ، من شيوخ الشيعة، مقدّم في كلّ فنون العلم. صنّف في الكلّ. له ترجمة طويلة في الكتب الموضوعة في أحوال الرجال لأصحابنا.
كان تولّده في يوم الاثنين سابع ذي القعدة من شهور سنة ثمان و خمسين و مائتين، و توفّي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة من جمادى الآخرة سنة ستّ و ثلاثين و ثلاثمائة.
و منهم: الشيخ أبو بكر الخوارَزميّ محمّد بن العبّاس۱ شيخ
و لقد بكيت لقتل آل محمّدٍ | *** | بالطفِّ حتى كلّ عضو مَدْمَعُ |
و حريمُ آل محمّد بين العِدَا | *** | نَهبٌ تقاسِمُه اللِّئامُ الرُّضَّعُ |
تاللهِ لا أنْسَى الحسينَ و شِلْوَهُ | *** | تحت السنابك بالعَراء مُوَزَّعُ |
مُتَلَفِّعاً حُمْر الثِّيابِ و في غدٍ | *** | بالخضر من فردوسه يتلفَّعُ |
تَطَا السنابك صدره و جبينه | *** | و الأرض ترجف خيفة و تضعضعُ |
الأدب و علّامة عصره في علوم العرب. قال الثعالبيّ في «اليتيمة» عند ذكره: نابغة الدهر، و بحر الأدب، عَلَم النظم و النثر، و عالم الظرف و الفضل. كان يجمع بين الفصاحة و البلاغة، و يحاضر بأخبار العرب و أيّامها و دواوينها، و يُدَرِّس كتب اللغة و النحو و الشعر، و يتكلّم بكلّ نادرة، و يأتي بكلّ درّة، و يبلغ في محاسن الأدب كلّ مبلغ ... إلى آخر كلامه الحسن.
توفّي أبو بكر في شهر رمضان سنة ٣۸٣ هـ. و من شعره المحكيّ في «معجم البلدان» في لفظة (آمل):
بِآمُلَ مَوْلِدِي وَ بَنُو جَرِيرٍ | *** | فَأخْوَالِي وَ يَحْكِي المَرْءُ خَالَهْ |
فَهَا أنَا رَافِضِيّ عَنْ تُرَاثٍ | *** | وَ غَيْرِي رَافِضِيّ عَنْ كَلَالَهْ |
و منهم: أبو الفَضْل بَديع الزَّمان أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهَمَدَانيّ أحد أركان الدهر. و شهرته تُغني عن نقل ما ذكره العلماء في ترجمته. نصّ الشيخ أبو عليّ في «منتهى المقال» على أنّه من الشيعة الإماميّة، و أنّه أوّل من أسّس وضع المقامات. مات سنة ٣۷۸.۱
ثمّ تحدّث المرحوم الصدر مفصّلًا عن تقدّم الشيعة في علم المعاني
و البيان و الفصاحة و البلاغة، و كتبهم المصنّفة في هذا المجال. و كذلك تقدّمهم في علم البديع، و العروض، و فنون الشعر، و علم الصرف و النحو في فصول و صحائف عديدة. ثمّ عرّج على تحقيق السبب الذي دعا أمير المؤمنين عليه السلام إلى اختراع اصول علم النحو و تحديد حدوده، و تحقيق السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو الذي كان تعلّمه من الإمام عليه السلام.۱ و بعد ترجمة اولئك الرجال الذين صنّفوا في علم النحو من مشاهير الشيعة و أئمّة العربيّة و آدابها كعطاء بن أبي الأسود، و الفرّاء النحويّ المشهور و غيرهما، و بعد نقله مطالب رائعة و ثمينة، قال:
و منهم: قُتَيْبَة النحويّ الجُعْفيّ الكوفيّ من أئمّة علم النحو و اللغة.
و وصفه النجاشيّ في فهرست أسماء مصنّفي الشيعة بالأعشى المؤدِّب، و كنّاه بأبي محمّد المُقْري مَوْلَى الأزْد. و ذكره السيوطيّ في «الطبقات»، و حكي عن الزبيديّ ذِكره في أئمّة نحاة الكوفيّين. و أنّه قال: وقّع كاتب المهديّ: قرًى عربيَّةٌ، فنوّن قرًى، فأنكره شبيب بن شيبة، فسأل قتيبة هذا، فقال: إن اريد قرى الحجاز فلا تنوّن، لأنّها لا تنصرف، أو قرى السودان نُوِّنت لأنّها تنصرف.٢
و قال: و منهم: الأخفش الأوّل المتوفّى قبل الخمسين و مائتين، و اسمه أحمد بن عِمْران بن سَلَامة الإلْهَانيّ. يكنّى أبا عبد الله النحويّ.
قال ياقوت بعد ترجمته: و له أشعار كثيرة في أهل البيت، منها:
إن بني فَاطِمَةَ المَيْمُونَهْ | *** | الطَّيِّبِينَ الأكْرَمِينَ الطِّينَهْ |
رَبِيعُنَا في السَّنَةِ المَلْعُونَهْ | *** | كُلُّهُمُ كَالرَّوْضَةِ المَهْتُونَهْ |
و ذكره السيّد بحر العلوم الطباطبائيّ في كتاب «الرجال»، و ذكر أنّه من شعراء أهل البيت عليهم السلام، خالص الودّ لآل البيت، أصله من الشام، و هاجر للعلم بالعراق، ثمّ رحل إلى مصر، ثمّ إلى طبريّة. صحب إسحاق بن عَبْدُوس، و كان يؤدِّب ولده بطبريّة.۱
***
أجل، تبيّن ممّا ذكرنا كالشمس الساطعة أنّ الشيعة وحدهم كانوا منذ عصر صاحب الرسالة الخاتمة قد وقفوا على أهمّيّة العلم و الحديث و السنّة و الخبر، و كانوا مجدّين و ساعين إلى تدوين الكتب و تصنيف الأسفار، و كانوا يعدّون ذلك من أهمّ واجباتهم في وقت كان المعارضون لنشر العلم و الكتابة و التدوين يجلدون رواة الحديث و يعذّبونهم و يسجنونهم و ينفونهم، و ينهون نهياً أكيداً بليغاً عن تفسير القرآن و كتابة و بيان الحديث و السنّة النبويّة. و ما جرى على الشيعة الملتزمين الغيورين الناطقين بالحقائق في القرن الأوّل، و الثاني، حيث كانت الحكومات الجائرة الغاصبة تبذل قصارى جهدها لإخفاء الحقائق و الصدق و الأمانة، لأنّ أركان عروشها المُمَوَّهة قائمة على ممارساتها القمعيّة المتمثّلة بكمّ الأفواه، و القتل، و السلب، و النهب.
و لم يكن للشيعة من سبيل إلّا نشر العلم، ذلك أنّهم أرسوا دعائم منهجهم على الحقّ و الصدق. و هذا المنهج لم يسمح لم قطّ أن يستسلموا لحكّام الجور و امراء الظلم، أو يركعوا لهم من أجل المحافظة على أرواحهم
و أموالهم أو رغبة في إعلاء منزلتهم و مكانتهم. لهذا راضوا أنفسهم على الفقر و التشريد و النكبات في جميع العهود الرهيبة، كي يُبيِّضُوا كرّاساتهم المُسَوَّدَة، و يرووا للآخرين كتبهم المرويّة، من أجل أن لا تنقطع سلسلة الحقّ، و لا ينفصم عقد الفهم و الدراية و العلم. و ليصونوا كلام رسول الله الذي أخذوه من رسول الله حتى عصر بقيّة الله أرواحنا فداه.
لقد قام الشيعة بالكتابة و التدوين و التصنيف منذ عصر رسول الله.
و كانوا يحذون حذوه و يتّبعون هَدْيَهُ. و كانت الدعوة إلى الإسلام و الدعوة إلى التشيّع على حدٍّ سواء، إذ تمثّلا في آية الإنذار و حديث العشيرة. فكان التشيّع روح الإسلام، و الإسلام بلا تشيّع كجيفة نتنة تزكم الانوف و تزعج عالم الشرف و الضمير و الإنسانيّة، و تشكّل عبثاً ثقيلًا على كاهله.
الاحاديث النبويّة في لزوم التشيّع
و كانت دعوة رسول الله إلى القرآن، و دعوته إلى ولاية مولى المتّقين و سيّد الأحرار و أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دعوة واحدة.
و كان لزوم اتّباعه عليه السلام من اللوازم التي لا تتجزّأ عن الإسلام. و كان شيعته في عصر الرسول الأكرم معروفين بارزين لا معين. و كان الحزب المخالف منذ ذلك العصر معروفاً بتخطيطه، و عرقلته للأمور، و مخالفته للحقّ، و وقوفه أمام الصواب و الحقّ.
قال ابن الأثير: و في حديث عليّ عليه السلام قال النبيّ صلّى الله عليه و آله:
سَتَقْدَمُ عَلَى اللهِ أنْتَ وَ شِيعَتُكَ رَاضِينَ مَرْضِيِّينَ، وَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ عَدُوُّكَ غِضَاباً مُقْمَحِينَ! ثُمَّ جَمَعَ يَدَهُ إلى عُنُقِهِ يُرِيهِمْ كَيْفَ الإقْمَاحُ؟!
ثمّ قال (ابنُ الأثير): أقْمَحَهُ الغُلُّ: إ ذَا تَرَكَ رَأسَهُ مَرْفُوعاً مِنْ ضِيقِهِ.
وَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالى: «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُم
مُقْمَحُونَ».۱
و في «غاية المرام» عن المغازليّ بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: يَدْخُلُ مِنْ امَّتي الجَنَّةَ سَبْعُونَ ألْفاً٢ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ الْتَفَتَ إلى عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: هُمْ شِيعَتُكَ وَ أنْتَ إمَامُهُمْ.٣
و فيه عنه أيضاً بسنده عن كثير بن زيد قال: دخل الأعمش على المنصور، و هو جالسٌ للمظالم. فلمّا بصر به قال له: يا سليمان! تَصَدَّرْ! قال: أنا صَدْرٌ حيث جلستُ! إلى أن قال في حديثه: قال:
حدّثني رسول الله صلّى الله عليه و آله، قَالَ:
أتَانِي جَبْرَئيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ آنِفاً، فَقَالَ: تَخَتَّمُوا بِالعَقِيقِ فَإنَّهُ أوَّلُ حَجَرٍ شَهِدَ لِلَّهِ بِالوَحْدَانِيَّةِ، وَ لِي بِالنُّبُوَّةِ، وَ لِعَلِيّ بِالوَصِيَّةِ، وَ لِوُلْدِهِ بِالإمَامَةِ، وَ لِشِيعَتِهِ بِالجَنَّةِ.٤
و يستفاد من هذه الأحاديث الكثيرة و ما يماثلها أنّ لفظ الشيعة استعمله صاحب الشريعة فيمن تولّى عترته و آله. فمن يومه كان هذا اللفظ إذا اطلق عند الاستعمال، يُفهَم منه أنّ المعنيّ به مَنْ والى عليّاً و بنيه عليهم السلام.
و كانت الدعوة إلى التشيّع لأبي الحسن عليه السلام من صاحب الرسالة تواكب دعوتَه للشهادتين. و من ثمّ كان أبو ذرّ الغفاريّ شيعة عليّ
عليه السلام، و هو رابع الإسلام أو سادسهم.۱
و لقد كفانا مئونة التدليل على ما نريد محمّد كُرْدعلى في كتابه ( «خطط الشام» ج ٥، ص ٢٥۱ إلى ٢٥٦).
قال: عُرِفَ جماعة من كبار الصحابة بموالاة عليّ في عصر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، مثل سلمان الفارسيّ القائل: بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ عَلَى النُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ وَ الإئتِمَامِ بِعَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ وَ المُوَالاةِ لَهُ.
و مثل أبي سعيد الخُدريّ الذي يقول: امِرَ النَّاسُ بِخَمْسٍ، فَعَمِلُوا بِأرْبَعٍ وَ تَرَكُوا وَاحِدَةً. وَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الأرْبَعِ قَالَ: الصَّلَاةُ، وَ الزَّكَاةُ، وَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَ الحَجُّ.
قِيلَ: فَمَا الوَاحِدَةُ التي تَرَكُوهَا؟! قَالَ: وِلَايَةُ عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ!
قِيلَ لَهُ: وَ إنَّهَا لَمَفْرُوضَةٌ مَعَهُنَّ؟! قَالَ: نَعَمْ! هِيَ مَفْروضَةٌ مَعَهُنَّ.
و مثل أبي ذرّ الغفاريّ، و عمّار بن ياسر، و حُذيفة بن اليمان، و ذي الشهادتين خُزَيمة بن ثابت، و أبي أيّوب الأنصاريّ، و خالد بن سعيد بن العاص، و قيس بن سعد بن عبادة.
و أمّا ما ذهب إليه بعض الكتّاب من أنّ مذهب التشيّع من بدعة عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، فهم وَهْمٌ، و قلّة معرفة بحقيقة مذهبهم. و مَن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة و براءتهم منه و من أقواله و أعماله، و كلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلافٍ بينهم، عَلِمَ مبلغ هذا القول من الصواب. لا ريب في أنّ أوّل ظهور الشيعة كان في الحجاز بلد المتشيّع له. و في دمشق يرجع عهدهم إلى القرن الأوّل للهجرة.
إن محمّد كُردعلي ليس من الشيعة، و لا من أنصارهم، غير أنّه رأى أنّ من الأمانة إبداء هذه الحقيقة ناصعة دون أن يشوبها بغرض، و دون أن يركن إلى النزعات المذهبيّة التي أضاعت الحقّ و شوّهت الحقيقة.
فهذا كُردعلى بوجيز كلامه و استدلاله على نبوغ التشيّع أيّام صاحب الشريعة أغنانا عن المضيّ في التدليل على هذا الأمر!۱
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر رسول الله
تبيّن من جميع المطالب المتقدّمة كالآيات القرآنيّة، و حديث الغدير، و حديث الثقلين، و حديث العشيرة، و حديث الطير المشويّ، و قبول الإسلام بشرط قبول الولاية و أمثالها، أنّ نفس رسول الله صلّى الله عليه و آله كان يدعو الامّة إلى اتّباع أمير المؤمنين عليه السلام، و أنّ التشيّع له كان منذ ذلك العصر، و أنّ رجالًا من الصحابة من اولي العلم و الفهم و الحكمة اتّبعوه و رضوه وليّاً لهم، فعرفوا بشيعته منذ ذلك الحين. و هو عليه السلام و شيعته هؤلاء هم الذين تولّوا أمر الكتابة و التدوين و التصنيف في عصر الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله.
و بعد وفاة رسول الله، و وقوع الحوادث الاليمة، و إقالة مولى الموالي، و الاغتصاب الصريح لمقام الإمامة، و الخلافة، و إمارة الامّة، و منع التدوين و التصنيف و بيان الأخبار و الأحاديث و السنّة النبويّة و التفسير و معنى الآيات القرآنيّة المباركة بعنفٍ شديد، و تحكّم تامّ، انعزل الشيعة و مولاهم. و أمّا اولئك فإنّهم مع رواج سوقهم، و حروبهم و غاراتهم و فتحهم
الأمصار و اجتذاب قلوب العامّة بزخارف الدنيا و حطامها، و التبرّع بالمناصب، لم يسمحوا لأمير المؤمنين عليه السلام أن يدخل معهم بوصفه أعلم الامّة، و لم ينضووا تحت لواء آرائه و أفكاره و توجيهاته في حين كانوا هم المتربّعين على أريكة الحكم. و عند ما كانوا يستشيرونه في بعض المواطن القليلة، فإنّ هذه الاستشارة ليست من منطلق لزوم اتّباع الجاهل للعالم، بل من منطلق الاسترشاد برأيه في مقام الاستشارة.
و لا يمكن للإمام عليه السلام طبعاً و عقلًا مع سعة علمه و درايته أن يخضع لفهمهم القاصر و نظرتهم الضيّقة. لهذا لم يجد بدّاً من أن يحمل المسحاة و المعول، و يزرع، و يُجري القنوات خمساً و عشرين سنة. هذا و هم يعتبون عليه أنّه لم يذهب إلى الحرب! و يتساءلون:
لما ذا لم يستعدّ أن نعقد له لواءً للحرب؟ و لما ذا لم يتوجّه إلى القتال كسائر القادة و الامراء أمثال سعد بن أبي وقّاص و خالد بن الوليد، فيقتل، و يقمع، و يفتح، و يوسّع أرض المسلمين كما في عصر رسول الله؟! و لما ذا لم يرحل معنا في سفرنا إلى الشام؟!
افٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَقُولُونَ وَ تَتَوَّهَمُونَ وَ مَا تَصِيِرُونَ إلَيْهِ وَ تَزْعُمُونَ!
كيف يكون العُقاب المحلِّق في السماء خاضعاً لأمر الغراب و الحدأة؟! و أنتم الذين كسرتم جناحه، بَيدَ أنّه ظلّ عقاباً محلِّقاً، فلا هو بحاجةٍ إلى دنياكم، و لا هو يطمع في الإمارة عليكم!
هو عقاب، و هو ليث العلم و الحلم و الفهم و التمكين. فكيف ينقاد لأوامركم و نواهيكم؟! لهذا ترك أمير المؤمنين عليه و على أولاده و أبنائه الطيّبين أفضل السلام و الصلاة من الحيّ القيّوم ربّ العالمين الحسّاد و شأنهم، و أكبّ هو و شيعته على التفسير و التدوين، و كَتَبَ السنّة النبويّة للُامّة و الأجيال القادمة. أمّا اولئك الثمالى بخمرة النزعات و الغرور، فقد
اقتنعوا بظاهر من الإسلام، و خالوا أنفسهم على سطح القمر و الشمس.
و لكن شتّان بين ذلك و هؤلاء!
نه هر كه چهره بر افروخت دلبري داند | *** | نه هر كه آينه سازد سكندري داند |
نه هر كه طَرْف كُلَه كج نهاد و تند نشست | *** | كلاهدارى و آئين سروري داند |
هزار نكتة باريكتر ز مو اينجاست | *** | نه هر كه سر نتراشد قلندرى داند |
تو بندگى چو گدايان به شرط مزد مكن | *** | كه خواجه خود روش بنده پروري داند |
غلام همّت آن رِند عافيت سوزم | *** | كه در گدا صفتي كيمياگرى داند |
وفا و عهد نكو باشد ار بياموزي | *** | و گرنه هر كه تو بيني ستمگرى داند۱ |
به قدُّ و چهره، هر آنكس كه شاه خوبان شد | *** | جهان بگيرد اگر دادگستري داند |
به قدر مردم چشم من است غوطة خون | *** | درين محيط نه هر كس شناورى داند |
بباختم دل ديوانه و ندانستم | *** | كه آدمي بچهاى شيوة پرى داند |
مدار نقطة بينش ز خال توست مرا | *** | كه قدر گوهر يكدانه گوهرى داند |
ز شعر دلكش حافظ كسي بود آگاه | *** | كه لطف نكته و سِرِّ سخنوري داند۱ |
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر أمير المؤمنين عليه السلام
قال المحقّق الخبير و العالم المتضلّع الشيخ محمّد حسين المظفّر: فلو كان الأمر بعد الرسول لعليّ عليهما و آلهما السلام، لكان الناس كلّهم شيعة عليّ بعد البيعة٢ بيعة الغدير)، و بعد تلك الآيات النازلة و الروايات الواردة
في فضله.
و لمّا أن حالت الحوائل دون انتهاء الخلافة إليه، و فوجئ الناس بأمر لم يحتسبوه. فما عتّم الأمر إلّا و أبو بكر خليفة، كيف ننتظر من الناس اتّباع السلطان أن يبقوا على الولاء و التشيّع لأهل البيت؟! أجل، غير فئة تعدّ بالأصابع لم يغير ذلك الزلزال المفاجئ ثباتها على الولاء و الإمامة.
فانقبع التشيّع بانقباع أبي الحسن في بيته. و ما كان انتشاره بعدئذٍ في البلاد العريضة إلّا كدبيب النمل على الصفا من دون حسٍّ أو جلبة. فلم تبق قبيلة أو بلد إلّا و ألقى التشيّع بجرانه فيها و هو هادئ وديع.
لا يرى الشيعة خلافة إلهيّة لغير عليّ و بنيه عليهم السلام. فمن ثمّ لا تسمح السلطات بانتشاره، و لا ترى أن ينتشق النسيم الطلق فهي تخنقه ما استطاعت، لأنّ بظهوره و قوّته الخوف على عروشهم.
أشغلت الدنيا عثمان و بني اميّة عن الحيلولة دون ظهور التشيّع، فوجد أنصاره فسحة الدعوة إليه و تذكير الناس بيوم الغدير و فضائل المرتضى و أهل بيت النبوّة عليهم السلام، و القلوب يومئذٍ حاقدة على عثمان و رهطه باستنثاره بالفيء، و تأميرهم، و إقطاعهم الضياع، و إيثارهم بالخمس و الصفايا.
و متى كان يتسنّى لأمثال أبي ذرّ رضي الله عنه أن يذكّر الناس معلناً بولاء المرتضى و يطوف على بيوت المدينة صائحاً:
أدِّبُوا أوْلَادَكُمْ على حُبِّ عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ! وَ مَنْ أبى فَانْظُرُوا في شَأنِ امِّهِ!
و على منواله ينسج جابر بن عبد الله الأنصاريّ. و متى كان أبو ذرّ و غيره يطيقون إنكار المنكر و الفساد في الأرض، فكان ذلك منه عاملًا في نفي أبي ذرّ إلى الشام. فدأب في الشام على سيرته، و لم يثنه الوعد و لا الوعيد عن خطّته، فكان الصراخة في الشام أثر محمود. و خشى معاوية أن تنقلب عليهم الشام و تذهب أمانيه العِذاب سدى، إن استمرّ أبو ذرّ على هتافه. فأعاده إلى المدينة على أخشن مركب مجدّين به السير، و هو شيخ ضعيف القوى، فتناثر لحم فخذيه.
فلمّا لم يجد عثمان حيلة في سكوته من نفي أو إغراء بالمال أو ترهيب، نفاه إلى الربذة - داره قبل الإسلام - حتى مات جوعاً.۱
اللهُ أكْبَرُ! ما يفعل قول الحقّ بالمرء؟! و ما يلاقيه من جرّاء الأمر بالمعروف و الردع عن المنكر؟!
و لا بِدع، فإنّ من يريد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وطّن نفسه على احتمال المكاره و التنكيل و التعذيب، وَ ذَلِكَ في ذَاتِ اللهِ قَلِيلٌ.
حقّاً إنّه لقليل، فقد لاقى رسول الله صلّى الله عليه و آله قبله ما هو أنكى و أشدّ، و الحسين عليه السلام بعده ما هو أوجع و أفجع. و هكذا كلّ من أراد إحقاق الحقّ و إبطال الباطل. و ما خلّد ذكر اولئك الأبطال إلّا تلك
التضحية الغالية. و إنّهم لنا أحسن قدوة و مثال، لا سيّما في هذا الوقت الذي انتشرت فيه الموبقات و الضلالة، وَ لَكِنْ أيْنَ العَامِلُونَ؟!
فكان التجاهر بالتشيّع أيّام عثمان. و لم يطق أن يمحقه بتسفير أبي ذرّ، و بعقاب عمّار و كسر أضلاعه. و لهما أمثال في الناس. و كيف يزال و قد ثبتت قدمه راسخةً، لا سيّما في المدينة و مصر و الكوفة.۱
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام
عرفنا في المباحث السابقة أنّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام كان أحد الذين دعوا إلى كتابة الحديث و تدوين السنّة النبويّة. و كان هذا مشهوراً و مشهوداً بين المخالفين و لكن من المؤسف أنّنا لا نلحظ له، و لا لسيّد الشهداء عليهما السلام في باب الفقه، و التفسير، و السنّة إلّا أحاديث معدودة.
هل يتسنّى لنا أن نقول: لم يصدر من الإمام المجتبى عليه السلام حديث بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام إلى يوم استشهاده، في حين دامت تلك المدّة عشر سنين؟! و كذلك الأمر بالنسبة إلى سيّد الشهداء عليه السلام الذي عاش عشر سنين اخرى. فصار المجموع إلى يوم وقعة الطفّ عشرين سنة، فهل كان مثله مثل أخيه لم يصدر منه حديث، و هما اللذان كانا مرجعَي الناس و إمامَي الامّة؟!
لا! لا نحتمل هذا أبداً. و ما نظنّه ظنّاً قريباً من اليقين هو أنّ الحكم خلال تلك الفترة كلّها كان لمعاوية بن أبي سفيان عليه الهاوية و الخذلان،
و هو الذي تحدّثت عنه كتب التأريخ جميعها أنّه قد ضيّق الخناق على المسلمين لئلّا يجرؤ أحد على نقل الحديث و بيانه، فضلًا عن تدوينه و كتابته.
و في سفره إلى المدينة حاور قيس بن سعد بن عبادة، و عبد الله بن عبّاس، و بعد هذا الحوار أمر أن يؤذّن مؤذّن في المدينة أن: بَرِئَتْ ذمّة (الخليفة) مِن كلّ مَن نقل حديثاً أو رواية في فضل أبي تراب. و أنّ دمه و ماله و عِرضه حلال. من هنا، لم يجرؤ أحد على نقل الحديث و روايته.
يضاف إلى ذلك أنّه كتب إلى جميع عمّاله و ولاته و أئمّة الجمعة و الجماعة أن لا يتحدّثوا بشيء من فضل علي بن أبي طالب، و ليت الأمر اقتصر على ذلك، فقد فرض على الجميع سبّه بعد كلّ صلاة.
و تحدّث المرحوم المظفّر عن أساس حكومة معاوية، و ما ارتكبه من ظلم بحقّ الإمام الحسن عليه السلام، فقال:
ما انقضت على الشيعة تلك الأيّام الغضّة الجميلة، المشرقة بنور الحقّ، حتى فأجاهم عصر الظلم و الظلمة عصر معاوية. فما رأت الشيعة فيه إلّا الجور و الاعتساف و الاضطهاد. فكأنّما تأمّر ليقضي عليهم، و كأنّما تشيّعوا ليستقبلوا بنحورهم سهام جوره. فاضطرّ أبو محمّد الحسن عليه السلام لموادعة معاوية حين خذله الناس. يقول الباقر عليه السلام كما في «شرح النهج» ج ٣، ص ۱٥:
وَ مَا لَقِينَا مِنْ ظُلْمِ قُرَيْشٍ إيَّانَا وَ تَظَاهُرِهِمْ عَلَيْنَا؟! وَ مَا لَقِيَ شِيعَتُنَا وَ مُحِبُّونَا مِنَ النَّاسِ؟! إن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قُبِضَ وَ قَدْ أخْبَرَ أنَّا أوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ. فَتَمَالأتْ عَلَيْنَا قُرَيْشٌ حتى أخْرَجَتِ الأمْرَ عَنْ مَعْدِنِهِ، وَ احْتَجَّتْ على الأنْصَارِ بِحَقِّنَا وَ حُجَّتِنَا. ثُمَّ تَدَاوَلَتْهَا قُرَيْشٌ وَاحِداً بَعْدَ آخَرَ حتى رَجَعَتْ إلَينَا. فَنَكَثتْ بَيْعَتَنَا، وَ نَصَبَتِ الحَرْبَ لَنَا،
وَ لَمْ يَزَلْ صَاحِبُ الأمْرِ في صَعُودٍ كَؤُودٍ حتى قُتِلَ.
فَبُويعَ الحَسَنُ سَلَامُ اللهِ عَلَيْهِ، وَ عُوهِدَ ثُمَّ غُدِرَ بِهِ وَ اسْلِمَ، وَ وَثَبَ عَلَيْهِ أهْلُ العِرَاقِ حتى طُعِنَ بِخَنْجَرٍ في جَنْبِهِ، وَ نُهِبَ عَسْكَرُهُ، وَ عُولِجَتْ خَلَالِيلُ امَهَّاتِ أوْلَادِهِ، فَوَادَعَ مُعَاوِيَةَ، وَ حَقَنَ دَمَهُ وَ دِمَاءَ أهْلِ بَيْتِهِ، وَ هُمْ قَلِيلٌ حَقَّ قَلِيلٍ.
و حين وادعه أبو محمّد عليه السلام، اشترط عليه شروطاً كثيرة، منها: أن يكفّ عن سباب من قام الإسلام بحسامه، و تأسّست بقوائمه قواعد الحكم لمعاوية و غيره؛ و أن لا ينال شيعته بسوء. فلمّا وصل معاوية النخيلة أو دخل الكوفة و اعتلى المنبر، قال: ألَا أنّي قَدْ مَنَّيْتُ الحَسَنَ بْنَ عَلِيّ شُرُوطاً، وَ كُلُّهَا تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ!۱
يقول أبو الفرج في «المقاتل»: صلّى معاوية الجمعة بالنخيلة، ثمّ خطب، فقال: أنّي مَا قَاتَلْتُكُمْ لِتُصَلُّوا، وَ لَا تَصُومُوا، وَ لَا لِتَحُجُّوا، وَ لَا لِتُزكُّوا! إنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ! إنَّمَا قَاتَلْتُكُمْ لأتَأمَّرَ عَلَيْكُمْ وَ قَدْ أعْطَانِيَ اللهُ ذَلِكَ وَ أنْتُمْ كَارِهُونَ!
قال شريك في حديثه: هَذَا هُوَ التَّهَتُّكُ!
إن أبا محمّد عليه السلام ليعلم أنّ معاوية لا يفي بشيء من الشروط، و لكن ما اشترط عليه إلّا ليتجلّى للناس غدره و نكثه بالعهود.
فكأنّما صالحه على أن يجتهد في سبّ المرتضى و تتبّع شيعته ما استطاع. و ما اكتفى بسبّه بنفسه حتى كتب إلى عمّاله أن يسبّوه على المنابر
و دبر كلّ صلاة. و لمّا عوتب على ذلك، قال: لَا وَ اللهِ حتى يَرْبُو عَلَيْهِ الصَّغِيرُ وَ يَهْرَمُ الكَبِيرُ.
فما زال سبّ أمير المؤمنين عليه السلام سنّة في دولة بني اميّة إلى أن انقرضت، سوى أيّام الخليفة ابن عبد العزيز في بعض البلاد. و زاد معاوية على السبّ أن كتب لعمّاله: برئت الذمّة ممّن روى حديثاً في فضل أبي تراب.۱
و ما زال متتبّعاً أثر شيعته حتى انتهك منهم كلّ حرمة و ارتكب كلّ محرّم. يقول المدائنيّ كما في «شرح نهج البلاغة» ج ٣، ص ۱٥: و كان أشدّ الناس بلاءً أهل الكوفة لكثرة من فيها من شيعة عليّ عليه السلام، فاستعمل عليهم زياد بن أبيه و ضمّ إليه البصرة. فكان يتبع الشيعة و هو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيّام عليّ عليه السلام، فقتلهم تحت كلّ حجر و مدر، و أخافهم، و قطع الأيدي و الأرجل، و سمل العيون، و صلبهم على جذوع النخل، و طردهم و شرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.
هذه بعض سيرة معاوية مع الشيعة. فكان لا يجهر أحد بالولاء لأبي الحسن و لآل محمّد الأطهار إلّا حمل خشبة الصلب على عاتقة، و سنّ الحسام لعنقه بيده. و ما حيلة البعض منهم، و هو جهير بالتشيّع معروف فيه لا يستطيع كتمه و لا دفعه، أمثال حجر بن عديّ و أصحابه، و عمرو بن الحمق الخزاعيّ و أضرابه؟!
و ما وقف معاوية عند هذا الحدّ من شقائه حتى أراد أن يقتل إمام الشيعة أبا محمّد الحسن عليه السلام فدسّ إليه السمّ على يدي زوجته جعدة
ابنة الأشعث، فنال بذلك منه ما أراد.۱
و حسب معاوية أن بمطاردة الشيعة و القضاء عليهم و القتل لإمامهم يغالب القدر، فيمحو ذكر أهل البيت و يقضي على شريعة الرسول صلّى الله عليه و آله خصمه الألدّ، و لكن يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ.٢ فإنّه بالرغم من تلك الجهود العظيمة التي كانت لمعاوية و من جرى على سيرته في حرب أهل البيت، كان شأن أهل البيت لا يزداد إلّا رفعة و سناءً كما تراه اليوم.
فإنّ أيّام معاوية في سلطانه بلغت عشرين عاماً و قضاها مجدّاً بالقضاء على أهل البيت و شأوهم الرفيع حتى خُيِّل لمن لا يعرف عواقب الامور أنّ رعاة الدين لم يبق منهم نافخ ضرمة. و أنّ المنكر قد تغلّبت رجاله حتى لم يبق من رجال المعروف أحد يُعرف، و لكن ما مضت الأيّام إلّا و انهار كلّ ما بناه معاوية و أسّسه غيره، و شاده أعقابه، و علا الحقّ مرتفعاً في حجّته و آثاره، وَ الحَقُّ يَعْلُو وَ لَوْ بَعْدَ حِينٍ.
و هذا أمر بارز للعيان ينتبه إليه أهل البصائر في كلّ أوان و قد أخبروا عنه أهل العصور الاوَل. يقول الشعبيّ لولده، و هو المتّهم بالانحراف عن عليّ عليه السلام:
يَا بني! مَا بني الدِّينُ شَيئاً فَهَدَمَتْهُ الدُّنْيَا، وَ مَا بَنَتِ الدُّنْيَا شَيئاً إلَّا وَ هَدَمَهُ الدِّينُ. انْظُرْ إلى عَلِيّ وَ أوْلَادِهِ! فَإنَّ بني امَيَّةَ لَمْ يَزَالُوا يَجْهَدُونَ في كَتْمِ فَضَائِلِهِمْ وَ إخْفَاءِ أمْرهِمْ وَ كَأنَّمَا يَأخُذُونَ بِضِبْعِهِمْ إلى السَّمَاءِ. وَ مَا زَالُوا يَبْذُلُونَ مَسَاعِيَهُمْ في نَشْرِ فَضَائِلِ أسْلَافِهِمْ وَ كَأنَّمَا يَنْشُرُونَ مِنْهُمْ جِيفَةً!
و يقول عبد الله بن عروة بن الزبير لابنه: يَا بني! عَلَيْكَ بِالدِّينِ، فَإنَّ الدُّنْيَا مَا بَنَتْ شَيئاً إلَّا هَدَمَهُ الدِّينُ. وَ إ ذَا بني الدِّينُ شَيئاً لَمْ تَسْتطِعِ الدُّنْيَا هَدْمَهُ. ألَا تَرَى عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ وَ مَا يَقُولُ فِيهِ خُطَبَاءُ بني امَيَّةَ مِنْ ذَمِّهِ وَ عَيْبِهِ وَ غِيبَتِهِ! وَ اللهِ لَكَأنَّمَا يَأخُذُونَ بِنَاصِيَتِهِ إلى السَّمَاءِ!
ألَا تَرَاهُمْ كَيْفَ يَنْدُبُونَ مَوْتَاهُمْ وَ يَرْثِيهِمْ شُعَرَاؤُهُمْ! وَ اللهِ لَكَأنَّمَا يَنْدُبُونَ جِيَفَ الحُمُرِ!۱
و لا غرابة فإنّ الله لا يُخزي أولياءه و قد ضحّوا بنفوسهم و نفيسهم في ذاته. و كيف ينصر أعداءه و هم حرب له و لأوليائه؟ إن اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.٢
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر سيّد الشهداء عليه السلام٣
كان عصر إمامته عليه السلام، بعد سمّ أخيه الإمام الممتحن المجتبى
عليه السلام و استشهاده، عصيباً مضطرباً حتى عشر سنين كان معاوية فيها حيّاً قد تربّع على العرش و تسلّط غاصباً بكلّ ما اوتي من اقتدار. و كانت الغنائم و الأموال تنهال على دمشق، و معاوية يصرفها لإشباع أطماعه.
و لم يدّخر وسعاً من أجل تثبيت حكومته و استقرارها. و كان يمنح الجوائز و الصلات الكثيرة لمن يشاء، و بالعكس فقد ترك بني هاشم و ذراري رسول الله - على أساس تلك السياسة - جياعاً عطاشى عراة، دون أن يقيم لهم وزناً، إلى درجة أنّ بناتهم حين كنّ يبلُغنَ لم يستطعن الزواج، و كذلك شبابهم فإنّهم كانوا غير قادرين على الزواج. و كان فتيانهم يمضون أعمارهم عمّالًا، و فتياتهم حوائك خلف عيدان الحياكة و النسيج. و كان التحدث بفضائل أمير المؤمنين عليه السلام جرماً لا يُغتفر. فلا رواية و لا تفسير، و لا علم و لا دراية. و كان زمام الامور بيدِ حكّام المدينة، و الولاة و أئمّة الجمعة و الجماعة الذين كان يعيّنهم بنفسه. و كان سبّ أبي تراب و لعنه و شتمه اموراً مألوفة تشجّع الحكومة عليها. و تُمضيها السياسة العامّة يومئذٍ، و سياسة المدينة المنوّرة بخاصّة. و كان مروان بن الحكم، و أبو هُريرة يتسابقان في تنفيذ مآرب معاوية. أمّا عبد الله بن عمر، و عبد الله بن زبير فقد كانا يجهدان بشكل غريب في إخفاء مناقب عليّ و أهل بيته. و أمّا عائشة فقد بذلت قصارى جهدها في كتمان فضائلهم و دفنها، و تناسب الأخبار و الأحاديث التي كانت قد سمعتها من الرسول الأكرم و استظهرتها، و هي لا تعدّ و لا تُحصى، لقد سكتت عنها و لجّت في عدائها لبني هاشم و حقدها عليهم و حسدها إيّاهم، و أصرّت على أفكارها الجاهليّة الجهلاء.
كما أنّ سعد بن أبي وقّاص الذي كان أحد الفاتحين، و الذي اعترف بسماعه أحاديث في هذا الشأن على لسان النبيّ الأكرم، فقد شيّد له قصراً
عالياً خارج المدينة، ليستمتع بجواريه الحسان و يلهو و يتنعّم و ....
الويل لهذه الامّة الخائبة الضائعة بلا راعٍ إذ غزتها الأفكار الشيطانيّة من كلّ جانب، و أفلت عنانها، و انقلب دينها، و صار الشيطان إلهاً، و إبليس مَلَكاً، و عمى بصرها و بصيرتها، و صُمَّ سمعها. و ما أسرع فقدانها لقابليّة السماع و الاستماع! و أصبح الجميع منقادين لحاكم لعوب ممثّل ظهر على المسرح، و تفوّق على علي بن أبي طالب و ابنه الإمام الحسن، و أرسلهما إلى ديار العدم. و ها هو يخطب مستقبلًا قبلة رسول الله، و يقف في محرابه، و ينزو على منبره، و أخضع الجميع لسيطرته و هيمنته!
هنا سبق السيف العَذَل، و فقد الحديث و الرواية رونقهما، فلم يعدْ يُنتظر من الكتابة و التدوين و التصنيف شيئاً، فقد دوّى صوت معاوية، و ملأ الجبال و السهول و الصحارى و الأجواء و البحار بنحو كان ينافس فيه الأباطرة الجبّارين الهتّاكين في العالم على مرّ التأريخ. و لو ظلّ على تلك الوتيرة، لاستمرّ ألف سنة أو أكثر. و هنا عادت النصيحة و بيان الموعظة و الآداب غير مجدية. و أضحت الدعوة الانفراديّة و تشكيل جلسات الدرس، و سرد السنّة و الآثار النبويّة أمراً غير مُجدٍ بأيّ وجه من الوجوه بعد أخذ البيعة من الناس بولاية العهد ليزيد الزاني الجافي الخمّار الهتّاك شاعر الشراب و حليف المغنيّات و القردة، و المستهزئ بالدين و المبدأ و المعاد و حجّ بيت الله الحرام.
و هنا تحتاج الامّة إلى الحسين ليقذف مِشْرَطَهُ من أرض كربلاء إلى قلب الشام، و يفجّر تلك القرحة و ذلك الدُّمّل، و يذر أبا سفيان، و معاوية، و يزيد و أسرته رماداً بشرارة واحدةٍ.
و لقد قام الحسين بذلك و أفلح.
و ما أكثر ما قيل و كُتب حول شهادته و أسرارها العجيبة! بَيدَ أنّا
نكتفي هنا بموجزٍ من كلام العالم الجليل المظفَّر. فقد قال بعد شرح له في هذا المجال: فما أصدق القائل: إن الإسْلَامَ عَلَوِيّ، وَ التَّشَيُّعَ حُسَيْنِيّ. فإنّ سيف أمير المؤمنين عليه السلام الذي ضرب به خراطيم الناس حتى قالوا:
لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، هو الذي نشرت به رايات النصر، و رفعت به أعلام الفتح، و أخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
و كان عليّ عليه السلام في كلّ حرب حضرها لرسول الله صلّى الله عليه و آله هو الفاتك الفاتح.
كما أنّه لو لا قيام الحسين بتلك التضحية الكريمة، لكان الدين كلّه أمويّاً بسعي ملوك اميّة. و ما هو إذ ذاك إلّا فساد في الأرض و ارتكاب لكلّ منكر، و هتك للحرمات، و فسق بالأعراض، و سفك للدماء، و نهب للأموال، إلى غير هذا ممّا جاء الدين لاستئصال شأفته، و قلع جرثومته، و تطهير جسم المجتمع من أمراضه الفتّاكة.
و هذا أبو عثمان الجاحظ يقول: وَ تَفْخَرُ هَاشِمٌ عَلَى بني امَيَّةَ بِأنَّهُمْ لَمْ يَهْدِمُوا الكَعْبَةَ، وَ لَمْ يُحَوِّلُوا القِبْلَةَ، وَ لَمْ يَجْعَلُوا الرَّسُولَ دُونَ الخَلِيفَةِ، وَ لَمْ يَخْتِمُوا في أعْنَاقِ الصَّحَابَةِ، وَ لَمْ يُغَيِّرُوا أوْقَاتَ الصَّلَاةِ، وَ لَمْ يَنْقُشُوا أكُفَّ المُسْلِمِينَ، وَ لَمْ يَأكُلُوا الطَّعَامَ، وَ يَشْرَبُوا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ لَمْ يَنْهَبُوا الحَرَمَ، وَ لَمْ يَطاوا المُسْلِمَاتِ في دَارِ الإسْلَامِ بِالسِّبَاءِ.۱
و هذا بعض ما ذكره أبو عثمان، و ما يذكره أرباب التأريخ من أعمالهم.
و لو استقامت تلك الأعمال من دون نكر يطهّرها من على وجه
الأرض لأصبحت عرفاً بين الناس. و متى تعود الناس إلى العمل بالشريعة و قد استقبلوا هذه البدع و الموبقات تُرتكب جهراً، و لا يُخشى الله في اقترافها إعلاناً و سرّاً؟!
فنهضة الحسين هي التي أبانت ضلال القوم و جُرْأتَهم على الشريعة، و انتهاكهم لحرمات الدين، و خروجهم عنه، بل عليه أقوالًا و أعمالًا. فكان بزوغ بدر آل البيت بعد أن أفل أو كاد من أسرار شهادته التي ما زال الكثير منها مجهولًا. و ما تجلّي إلّا شطر منها حتى كاد أن يلمسها بيده حتى الغربيّ. و عسى أن يكشف لنا المستقبل شطراً آخراً محجوباً حتى اليوم عن البصائر و الأبصار.
إن الذي يرشدك إلى أنّ شجرة التشيّع كان نموّها و إفراعها ممّا استقته من تلك الدماء الطاهرة هو أنّ أنصار الأمويّين تكاد أن تتقطّع قلوبهم غيظاً من هاتيك النهضة الحسينيّة. و ما زالوا ينسجون الحجب بشتّى الأساليب فيضعونها على شمس تلك التضحية، زعماً منهم أنّ عين الشمس تُحجب بالغربال. و هَيْهَات الذي دبّروه من تمويه و خداع. فإنّ أنوار تلك الشهادة قد استضاء منها الافق الإسلاميّ، و مزّقت ظلام تلك الأضاليل الأمويّة، و نبّهت الحواسّ إلى الفوائد الملموسة من ذلك القربان، و خسران اميّة فيما جنته، و إن هزّتهم نشوة الظفر أيّاماً معدودة. و ما زال أنصار أميّة مجدّين في كتمان الحقّ ظنّاً منهم أنّ الباطل يعلو بالأراجيف، و تستر عيوبه نسائج الأوهام و أسلاك الهباء، و لا يفضحه قمر الحقّ الطالع!
و ما دعاهم إلى بخس حقّ تلك النهضة الشريفة هو ما شاهدوه و لمسوه من آثارها في انتشار التشيّع و نموّه حيناً بعد آخر، و افتضاح سلفهم بما جنوه على أنفسهم، و اكتسبته أيديهم. و كفى بافتضاحهم اعترافهم بالفضيحة.
فهذا عبيد الله بن زياد طالَبَ عمر بن سعد بالكتاب الذي كتبه له في قتل الحسين، فقال: مَضَيْتُ لأمْرِكَ وَ ضَاعَ الكِتَابُ! قال: لَتَجِيئَنَّ بِهِ!
قال عمر: تُرِكَ وَ اللهِ يُقْرَا عَلَى عَجَائِزِ قُرَيْشٍ اعْتِذَاراً إلَيْهِنَّ بِالمَدِينَةِ.
أمَا وَ اللهِ لَقَدْ نَصَحْتُكَ في حُسَيْنٍ نَصِيحَةً لَوْ نَصَحْتُهَا أبي: سَعْدَ بْنَ أبي وَقَّاصٍ كُنْتُ قَدْ أدَّيْتُ حَقَّهُ!
قال عثمان بن زياد، أخو عبيد الله: صَدَقَ وَ اللهِ؛ وَدِدْتُ أنَّهُ لَيْسَ مِنْ بني زِيَادٍ رَجُلٌ إلَّا وَ في أنْفِهِ خِزَامَةٌ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ وَ إن حُسَيْناً لَمْ يُقْتَلْ!
قَالَ: فَوَ اللهِ مَا أنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عُبَيْدُ اللهِ.۱
و أنّى لهم اليوم بستر تلك التضحية و قد ملأت البلاد طولًا و عرضاً ذكراها و الإشادة بها على المنابر. و ما زالت الصحف و الكتب تندب ذلك القربان و تبكي تلك الفاجعة الموجعة، في كلّ زمان و مكان.
و لما ذا تذهب يميناً و شمالًا و هذه عاصمة اميّة - الشام - التي اتّخذت يوم قتل الحسين عيداً و استقبلت الرءوس و السبي بالدفوف و الطبول، و بقيت أيّاماً و عليها منشورة معالم الزينة و الفرح! أصحبت و المآتم تقام فيها نادبة للحسين باكية عليه، لاعنة مَن اجترح منه ذلك الذنب العظيم! و هذا اسم الحسين مكتوب على مسجدها الأعظم و قد وضع ثوب السواد شعار الحزن على موضع صلب الرأس من ذلك المسجد. و هاتيك القبور من أهل البيت و ما اكثرها في ذلك البلد - دمشق - معمورة بالقباب و بالزائرين، و قد فرشت بأنفس السجّاد و اضيئت بأجمل المصابيح. و أين قبر معاوية و يزيد من عاصمتهم الشام؟! و أين الزائر لهما من أشياعهم و من سائر
الناس؟!۱
هذا هو شأن الحقّ و أهله لا تميته الأيّام، و لا يظفر به الباطل و أشياعه. و لا ينخدع ببهرجة الدنيا و أربابها إلّا من نسي الله فأنساه ذكره.
فأنّى لُامّية و أنصارها أن تطاول الحقّ فتمحي شخصه الكريم من الوجود!٢
صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ يَا أبَا عَبْدِ اللهِ وَ عَلَى الْمُسْتَشْهَدِينَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام زين العابدين عليه السلام
كان دأب أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه و آله بعد حادثة كربلاء
نشر ما حلّ بقتلى الطفّ، و ما جرى من فزع و دهشة و سلب و ضرب و سبي. فإنّ زين العابدين عليه السلام قضى سني حياته كلّها بالبكاء على أبيه.۱ فإنّه ما قُدِّم له طعام أو شراب إلّا و مزجه بدموع عينيه. و على هذا المنوال نسج الأئمّة من أولاده، بل ما زالوا يعقدون مآتم العزاء للبكاء و استماع المراثي و التعازي.
و لربّما ضربوا الأستار و جعلوا خلفها بنات الرسالة ليستمعن شجي المراثي، فيبكين على صرعى الطفّ و سبي العقائل. بل كان شعارهم حثّ المؤمنين على نصب مآتم الحزن للبكاء على ذلك الحدث الجلل، و على زيارته و لو على الخشب (إشارة منهم إلى الصلب الذي ينتظر مَن يزوره).
و قد لبّى المؤمنون تلك الدعوة، فما زالت مآتمهم قائمة، و زيارتهم دائمة. و لقد لاقوا من أجل ذلك فنون الأذى و التنكيل أيّام بني أميّة، و شطراً من دولة بني العبّاس خصوصاً في عهد المتوكّل، حتى أدركوا الأمل فصارت المآتم تقام علناً، و الزيارة تفعل جهرة، إلى أن بلغت إلى ما تشاهده اليوم!
و ما زال أئمّة أهل البيت يأمرون بنشر الدعوة الحسينيّة بكلّ وسائل النشر. و قد سبقهم إلى ذلك جدّهم المصطفى صلّى الله عليه و آله، فقد بكى ولده الحسين عليه السلام و حضّ على البكاء عليه، و حثّ على نصرته عند نهوضه و على زيارته بعد قتله، و الحسين بعدُ في الأحياء.
و سمع أنس بن الحارث بن نبيه رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: إن ابنِي هَذَا - يَعْنِي الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُقْتَلُ بِأرْضٍ يُقَالُ لَهَا: كَرْبَلَا. فَمَنْ شَهِدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَنْصُرْهُ!
فخرج أنس إلى كربلاء، فقُتل مع الحسين عليه السلام.۱
و قال ابن عبّاس: أوْحَى اللهُ تَعَالَى إلى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنِّي قَتَلْتُ بِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا سَبْعِينَ ألْفاً، وَ أنّي قَاتِلٌ بِابْنِ ابْنَتِكَ سَبْعِينَ ألْفاً!٢ و الأحاديث عنه في هذا الشأن كثيرة.٣
أراك وقفتَ على أسرار تلك الأوامر و إقامة هاتيك الشعائر! فإنّهم حاولوا بتلك و هذه لفت الأنظار إلى المصائب التي جرت على قتيل الظلم، و صريع الجور، و التوصّل بذاك إلى إعلاء كلمة الشهادتين، و تنفيذ أحكام الشريعة. فإنّه عليه السلام ما ضحّى بنفسه و نفيسه إلّا لأجل ذلك. و أحسبك خبيراً بنجاح تلك التضحية منه و هاتيك الدعوة منهم.
و لو لم يكن إلّا انعطاف الناس على ما فُجع به ذلك القتيل، و بغضهم لمن اجترأ عليه بذلك الفعل الأشنع، لكان أجراً يستحقّه الإشفاق على المظلوم و إن كان من غير أبناء جلدته و دينه، و الشنآن للظالم و إن كان منه قبيلة و ديناً. و من ثمّ تجد الامم و إن لم تكن مسلمة تنعطف على تلك التضحية، و تقدّر تلك البسالة و الإقدام من سيّد الشهداء عليه السلام، و تعدّ الجرأة على قتله و هو بتلك الحال شناعة و خزياً لا يغسل عارة تطاول السنين و الأعوام.
فنجاح هاتيك الشهادة ليس بكثرة الأولياء من المسلمين للحسين عليه السلام و تكثّر الشيعة لأهل البيت في كلّ بلاد خيّم عليها الإسلام فحسب، بل
بالتقدير من العالم كلّه الذي اطّلع على تلك الحادثة لذلك الأبي الباسل الذي صرعه سيف الظلم و العدوان. فإنّ التأريخ لم يقرئهم، و العيان لم يرهم حرباً تقابل فيها الحقّ و الباطل فتغلّب الباطل و انتقم من الحقّ انتقاماً تستنكره الوحوش الكواسر و الامم الجاهليّة التي لم تعرف الدين أو العاطفة أو النظام، فكيف بأمّةٍ تنتسب إلى دين الرحمة و العطف دين العدل و الحقّ. و كان الانتقام نفسه ممّن يدعوهم إلى العمل بذلك الدين و أحكامه، و هم بعد يزعمون أنّهم مستظلّون برواق ذلك الدين، معترفون بأنّ ذلك القتيل داعية الحقّ و ابن صاحب الشريعة.
و لمّا دخل عبيد الله بن زياد الكوفة، و ظفر بمسلم بن عقيل - رسول الحسين عليه السلام و داعيته - أخذ يقتل مَن يظنّ ولاءه لأمير المؤمنين عليه السلام، و يحبس من يتّهمه به، حتى ملأ السجون منهم خشية أن يتسلّلوا لنصرة الحسين عليه السلام. و من ثمّ تجد قلّة في أنصاره مع كثرة الشيعة بالكوفة. و لقد كان في حبسه اثنا عشر ألفاً كما قيل. و ما أكثر الوجوه و الزعماء فيهم، أمثال المختار، و سليمان بن صُرَد الخُزاعيّ، و المُسَيِّب بن نَجَبَة، و رِفَاعَة بن شَدَّاد، و إبراهيم بن مالك الأشتر.
و بعد أن خرجوا من حبسه نهض منهم أربعة آلاف يرأسهم سليمان ابن صرد، و جاءوا لقبر الحسين عليه السلام فنعوه و بكوه، و اشتدّوا لحرب الأمويّين حتى فنى أكثرهم، و لم يحجزهم عن المقاومة تفاني أكثرهم حتى ظهر المختار بالكوفة فالتحقوا به.
و صلب ابن زياد جماعة من الشيعة كان في طليعتهم العبد الصالح ميثم التمّار.۱ و قد أمر به فقُطعت يداه و رجلاه. و بقي و هو بتلك الحال يحدّث
الناس بفضائل أمير المؤمنين عليه السلام كأنّه خطيب على أعواد، فأمر به، فاستلّوا لسانه، و قطعوه، ثمّ بقروا بطنه فمات رحمة الله عليه.
و هذا الفعل القاسي الفظيع نزر ممّا ارتكبه ابن زياد في الشيعة. و لو لم يكن له إلّا قارعة الطفّ و قتل الحسين عليه السلام و رهطه و صحبه، لكفى به حدثاً تهتزّ له السماوات و الأرضون عظماً و جزعاً.
يقول الباقر عليه السلام كما في «شرح نهج البلاغة» ج ٣، ص ۱٥:
ثُمَّ لَمْ نَزَلْ أهْلَ البَيْتِ نُسْتَذَلُّ وَ نُسْتَضَامُ وَ نُقْصَى وَ نُمْتَهَنُ وَ نُحْرَمُ وَ نُقْتَلُ وَ نُخَافُ وَ لَا نَأمَنُ عَلَى دِمَائِنَا وَ دِمَاءِ أوْلِيَائِنَا. إلى أن قال عليه السلام:
وَ كَانَ عِظَمُ ذَلِكَ وَ كِبْرُهُ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مَوْتِ الحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقُتِلَتْ شِيعَتُنَا بِكُلِّ بَلْدَةٍ وَ قُطِّعَتِ الأيْدِي وَ الأرْجُلُ عَلَى الظِّنَّةِ. وَ كَانَ مَنْ يُذْكَرُ بِحُبِّنَا وَ الانْقِطَاعِ إلَيْنَا سُجِنَ أوْ نُهِبَ مَالُهُ أوْ هُدِمَتْ دَارُهُ.
ثُمَّ لَمْ يَزَلِ البَلَاءُ يَشْتَدُّ وَ يَزْدَادُ إلى زَمَانِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيادٍ قَاتِلِ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فهذا الباقر عليه السلام - و هو الصادق الأمين - كيف يحدّثنا بشجيّ اللحن عمّا جرى عليهم و على شيعتهم من المحن و عظيم البلاء أيّام ابن زياد و من قبله، كما سيحدّثنا عمّا جرى عليهم زمن من بعده. و التأريخ أصدق شاهد لحديثه.
ثورة المختار و الثناء عليه
لمّا عاجل الهلاك يزيد و تضعضعت من بعده إمارة الأمويّين أيّاماً، بقيت الشيعة في الكوفة تتطلّب زعيماً يلمّ شملها، و يشفي غيظ صدورها.
فما لبثوا أن وثب بهم المختار وثبة الأسد الغضبان بعد الربض الطويل، فالتفّت الشيعة حوله، و ساروا تحت ركابه، و جعل على الجند إبراهيم بن مالك الأشتر فأوقع بعسكر الشام و مزّقه شرّ ممزّق، و قتل قائده ابن زياد.
و تلك امنية أهل البيت و الشيعة عامّة. و بعث برأسه إلى زين العابدين عليه السلام فسجد للّه شكراً. و عند ذاك خلعت الهاشميّات ثياب الحزن على الحسين عليه السلام.۱
ثورة التوّابين (ت)
...۱
...۱
يك سره مردي ز عرب هوشمند | *** | گفت به عبد الملك از روي پند |
روي همين مسند و اين تكيهگاه | *** | زير همين قبّه و اين بارگاه |
بودم و ديدم برِ ابن زياد | *** | آه چه ديدم كه دو چشمم مباد |
تازه سري چون سپر آسمان | *** | طلعت خورشيد ز رويش نهان |
بعد ز چندى سر آن خيره سر | *** | بد بر مختار به روي سپر |
بعد كه مصعب سر و سردار شد | *** | دستكش او سر مختار شد |
اين سر مصعب به تقاضاي كار | *** | تا چه كند با تو دگر روزگار |
و لمّا انخذل جيش الشام، قويت شوكة المختار و الشيعة، و صار يستأصل قتله الحسين عليه السلام، و ما أبقى أحداً منهم يُعرف إلّا أن يكون قد هرب من بين يديه. فمن ثمّ تحامل عليه مَن ملك قلبه حبّ الأمويّين و قتله السبط الشهيد. فصار يدنّس غايته النزيهة التي وثب من أجلها، و هي الطلب بدم سيّد الشهداء عليه السلام. فوصموه تارة بأنّه أراد الوقيعة بالعروبة فكأنّه لم يكن من العرب. فوجد الفرصة للانتقام من الإسلام و العرب. (و هو ابن أبي عبيدة، من بني ثقيف، من العرب الأقحاح بالطائف). و اخرى أنّه تطلّب بتك النهضة الزعامة.
و لا أدري: لما ذا استقصى اولئك القتلة؛ و ما اكتفى بقتل شطر منهم و تأميل الباقين لينضمّوا إلى لوائه؟! فهذه هي سياسة الملك و الإمرة. فإنّ الاستقصاء يملأ قلوب واتريه حقداً عليه، فيحملهم على الوثبة عليه عند الفرصة.
إن طالب الرئاسة مثل معاوية الذي موّه نهضته في حربه لأمير المؤمنين عليه السلام بالطلب لدم عثمان. و لمّا آل الأمر إليه لم يتعرّض أحداً من قاتليه بسوء، فأغضى إغضاء متجاهل بهم، فكأنّما لم تكن تلك
الحرب الضروس من أجل الطلب بدم عثمان، حتى طالبته ابنة عثمان بالانتقام، فاعتذر.
و لو كان المختار غير صحيح القصد في وثبته، لما روى الكثير من المؤرّخين نهضته، و شعارها الطلب بالثأر. فهذا ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» (ج ٢، ص ٢٣۰) يقول: ثمّ إن المختار لمّا قتل ابن مرجانة و عمر بن سعد جعل يتبع قتلة الحسين بن عليّ و مَن خذله، فقتلهم أجمعين.
و أمر الحسينيّة و هم الشيعة أن يطوفوا في أزقّة المدينة - الكوفة - بالليل و يقولوا: يَا لَثَارَاتِ الحُسَيْنِ!۱
و قال أبو الفداء في حوادث عام ٦٦ من الجزء الأوّل، ص ۱٩٤: و في هذه السنة خرج المختار بالكوفة طالباً بثأر الحسين و اجتمع إليه جمع كثير و استولى على الكوفة و بايعه الناس بها على كتاب الله و سنّة رسوله صلّى الله عليه و آله و الطلب بدم أهل البيت. و تجرّد المختار لقتال قتلة الحسين.
و بمثل هذا ذكر الكثير من أرباب التأريخ سبب قيامه. و لعلّ هذه الغاية الشريفة من نهوضه بغّضته لكثير من الاوَل، فدسّوا الأحاديث في قدحه، و نسبوا له كلّ شناعة في الرأي و المذهب.
و ما ذنب المختار إلّا أنّه طهّر الأرض من فئةٍ حاربت الله و الرسول و الإسلام بحربها للسبط الشهيد و جرأتها على إهراق دمه، و انتقم لأهل البيت. فكيف يهون عليهم أن ينتقم لأهل البيت؟! سُبْحَانَكَ اللَهُمَ
إذا قُتِلْتُ فلا تركَب لتَثأر بي | *** | و إن مرضتُ فلا تَحْسَبْكَ عُوَّادي |
وَ غُفْرَانَكَ! أ هذا النصف و العدل من الإنسان؟!
ظهر عبد الله بن الزبير بمكّة و استتبّ له الأمر في الجزيرة تسع سنين. فاشتغل الأمويّون بابن الزبير و ابن الزبير بالأمويّين. و زين العابدين في عزلة عن هذا التطاحن الدنيويّ. و انصرف شطر من الناس إلى العِلم، و شطر إلى السياسة، و أصبح لكلّ من أمرَي السياسة و العلم شأن في البلاد، و تكاد أن تنفصل كلّ طائفة عن الاخرى.
و ابتدأ في هذا العهد ارتكاز العلم على القواعد و الاصول. و ابتدأت المناظرات و المحاججات، و المذاهب و الطرائق. و كان في هذا العصر الفقهاء السبعة في المدينة، الذين يرجع الناس إليهم في الفقه. و كانوا يفتون على آراء أهل السنّة و اصولهم. فكان في هؤلاء شيعيّان هما القاسم ابن محمّد بن أبي بكر، و كان من حواري زين العابدين عليه السلام، و سعيد بن المُسَيِّب و قد ربّاه أمير المؤمنين عليه السلام. و كانا في الظاهر على رأي أهل السنّة. و من ثمّ تعرف أنّ التقيّة كانت دريئة الشيعة قبل عهد الصادق عليه السلام.
و كانت الشيعة ترجع إلى زين العابدين عليه السلام في ذلك الانعزال و الوحدة و نصبه للمأتم الدائم على أبيه عليه السلام. و تلك هي السياسة الإلهيّة التي اختطّها أبو محمّد عليه السلام لنفسه خدمةً للشريعة. إذ كان الناس قد أشغلها التضارب على الملك. فوجدها فرصة لإبداء مظلوميّة سيّد الشهداء عليه السلام. فكان بكاؤه المستمرّ على شهيد الظلم أكبر ذريعة لإحقاق الحقّ و إبطال شعائر دول الجور، و انصرافه عن السياسة و أهلها نهزة لتوارد الناس عليه دون أن يؤخذوا بذاك.
أذهلت حادثة الطفّ الناس كلّهم، و ما كانوا يحتسبون أن يبلغ بتلك الفئة الأمويّة الغاشمة العتوّ إلى ما كان. و لا الناس في الطاعة لهم و ما آلوا
إليه مع آل الرسول إلى ما وقع. فندم شطر من اولئك المحاربين، و طلبوا من زين العابدين عليه السلام النهوض بهم إلى الانتقام من بني اميّة. فأبي عليهم أشدّ الإباء.
و أسف من تخلّف من الشيعة عن الالتحاق بالحسين، و عن القتل بين يديه. و ما علموا أنّ الناس يبلغون منه ذلك الفعل الأشنع، و قد خيّم عليهم الحزن بعمق و هم بين نادم و آسف. و هذا أحد العوامل على انتفاض الناس على يزيد و وقوع حادثة الحَرَّة. حيث لم تُبق كارثة كربلاء هوى لأكثر الناس في آل أبي سفيان. هذا فوق ما كان عليه يزيد من المجون و التهتّك و الطيش.
فالشيعة بالعراقَين (البصرة و الكوفة) و الحرمَين (مكّة و المدينة) في هذه الفترة هائدة الأعصاب، لم يتفرّغ ابن الزبير لمقاومتهم حتى بعد استيلاء مصعب على الكوفة و قتل المختار. و إن كانت نزعة ابن الزبير شنآن أهل البيت و محاربتهم في خططه و خطبه.
جرائم الحجّاج و عبد الملك ضدّ الشيعة
و ما مضت تلك الليلات القصيرة التي استقلّ فيها آل الزبير بالجزيرة إلّا و عاد الحكم لآل مروان من بني اميّة بعد أن قضوا على آل الزبير. و لمّا بسط عبد الملك نفوذه على البلاد، و قامت دعائم سلطانه، التفت إلى أهل البيت و شيعتهم. و لم تطب نفسه لأنّ يراهم على تلك العزلة و الوداعة.
و كان سيّد آل البيت و إمام الشيعة يومئذٍ زين العابدين عليه السلام، فحمله إلى الشام ليغضّ من مقامه، و ينقص من منزلته. و لكن لم يزدد الإمام بذلك إلّا عزّاً و كرامة، لِما ظهرت له من الفضائل و المعارف.
و كانت الكوفة مغرس دوحة التشيّع، فحاول عبد الملك أن يجتثّها من على الأرض. و أيّ ساعد أقوى من ساعد الحجّاج، و هو صاحب ذلك القلب القاسي الذي لا يعرف الرقّة و اللين؟! و أيّ رجل أبيع لدينه بالثمن
الأوكس - لو كان عنده شيء من الدين - من الحجّاج؟! و إن فعله بالبيت الحرام ليسلّم قصر المُلك لعبد الملك أخسر صفقةً.
و هنا يخبرنا الباقر عليه السلام عن عيان و مشاهدة عمّا كان من الحجّاج مع الشيعة، كما يحكيه شارح «نهج البلاغة» ج ٣، ص ۱٥:
يقول عليه السلام: ثُمَّ جَاءَ الحَجَّاجُ فَقَتَلَهُمْ - يَعْنِي الشِّيعَةَ - كُلَّ قَتْلَةٍ، وَ أخَذَهُمْ بِكُلِّ ظِنَّةٍ وَ تُهْمَةٍ، حتى أنَّ الرَّجُلَ لَيُقَالُ لَهُ زِنْدِيقٌ أوْ كَافِرٌ أحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أنْ يُقَالَ لَهُ: شِيعَةُ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
و يقول المدائنيّ كما في «الشرح» ج ٣، ص ۱٥: و ولى عبد الملك بن مروان فاشتدّ على الشيعة، و ولّى عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب الناس إليه ببغض عليّ عليه السلام، و موالاة أعدائه، و مولاة من يدّعي قوم من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه.
فَأكْثَرُوا في الرِّوايَةِ في فَضْلِهِمْ وَ سَوَابِقِهِمْ وَ مَنَاقِبِهِمْ، وَ أكْثَرُوا مِنَ الغَضِّ عَنْ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ عَيْبِهِ وَ الطَّعْنِ فِيهِ وَ الشَّنَآنِ لَهُ.
و ما ذا يذكر الكاتب عن الحجّاج و أعماله؟! فلقد سوّد صحائف من التأريخ لا تُنسى عمر الدهر. و نربأ بأقلامنا عن ذكرها. و كيف ننشر تلك الفضائح على صحائف بيض تريد الفضيلة بما ترويه و تسطّره؟!
و لو كانت أعماله القاسية مجهولة و لو لبعض الناس لآثرنا للفضيلة استطراء شطر منها رجاء أن ينتهجها من له إمرة و سلطان عند ما يعرف: أنَّ المَرْءَ حَدِيثٌ بَعْدَهُ، وَ أنَّ التَّأرِيخَ يَحْفَظُ عَلَيْهِ الجَمِيلَ وَ القَبِيحَ. و لكنّ الناس كلّهم يعلمون ما ارتكبه ذلك الفظّ الغليظ من الكعبة، و ممّن اتّخذ الكعبة قبلةً دون أن يميّز بين شيعيّ، أو سنّيّ، أو حروريّ، و بين حجازيّ،
أو عراقيّ، أو تهاميّ.۱
كان الكثير من حكّام الجور في بادي أمرهم من أهل الزهد و العباد (ت)
...۱
يَا قَوْمِ لَا تُغْلَبُوا عَنْ رَأيِكُمْ فَلَقَدْ | *** | جَرَّبْتُمُ الغَدْرَ مِنْ أبْنَاءِ مَرْوَانَا |
أمْسَوْا وَ قَدْ قَتَلُوا عَمْراً وَ مَا رَشَدُوا | *** | يَدْعُونَ غَدْراً بِعَهْدِ اللهِ كَيْسَانا |
وَ يَقْتُلُونَ الرِّجَالَ البُزْلَ ضَاحِيَةً | *** | لِكَيْ يُوَلُّوا امُورَ النَّاسِ وِلْدَانَا |
تَلَاعَبُوا بِكِتَابِ اللهِ فَاتَّخَذُوا | *** | هَوَاهُمُ في مَعَاصِي اللهِ قُرْآنَا |
...۱
كَمْ عائِدٍ رَجُلًا وَ لَيْسَ يَعُودُهُ | *** | إلَّا لِيَعْلَمَ هَلْ يَرَاهُ يَمُوتُ؟ |
بِعُمْرِي لَقَدْ عُمِرْتُ في الدَّهْرِ بُرْهَةً | *** | وَ دَانَتْ لي الدُّنْيَا بِوَقَعِ البَوَاتِر |
فَأضْحَى الذي قَدْ كَانَ مِمَّا يَسُرُّنِي | *** | كَلَمْحٍ مَضَى في المُزْمِنَاتِ الغَوَابِرِ |
فَيَا لَيْتَنِي لَمْ اعْنَ بِالمُلْكِ سَاعَةً | *** | وَ لَمْ ألْهُ في لَذَّاتِ عَيْشٍ نَوَاضِرِ |
وَ كُنْتُ كَذِي طِمْرَيْنِ عَاشَ بِبُلْغَةٍ | *** | مِنَ الدَّهْرِ حتى زَارَ ضَنْكَ المَقَابِرِ |
شُمْسُ العَدَوَاةِ حتى يُسْتَافَدَ لَهُمْ ٢ | *** | وَ أعْظَمُ النَّاسِ أحْلَاماً إ ذَا قَدَرُوا |
إ ذَا مَا نَدِيمِي عَلَّنِي ثُمَّ عَلَّنِي | *** | ثَلَاثَ زُجَاجَاتٍ لَهُنَّ هَدِيرُ |
...۱
خَرَجْتُ أجُرُّ الذَّيْلَ تِيهاً | *** | كَأنَّنِي عَلَيْكَ أمِيرَ الْمُؤْمِنِين أمِيرُ |
...۱
مُعَبَّا وَ مُعَصَّا وَ مُعَمَّمْ | *** | براي قتل دين گشته مُصَمَّم ٤ |
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام الباقر عليه السلام۱
قال آية الله الشيخ محمّد حسين المظفّر أعلى الله درجته السامية في كتاب «تاريخ الشيعة»:
ما وجد الشيعة زمن محمّد الباقر عليه السلام تضييقاً شديداً من بني اميّة كما وجدوه فيما سبق على عصره. فكانوا يشدّون الرحال إليه للارتشاف من مناهل معارفه و علومه. و في أيّامه كثرت الرواة و الرواية عنه، و كانت الرواية عنه أكثر من آبائه السابقين عليهم السلام.
فانتشر الحديث الباقريّ في كلّ قطر، حتى أنّ جابر الجُعفيّ و هو من ثقات رواته و أعاظم نَقَلَة الحديث روي سبعين ألف حديث عنه فحسب.
و كان من حملة علوم أهل البيت، وَ عِلْمُهُمْ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا
نَبِيّ أوْ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أوْ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ،۱ كما في نصّ الحديث عنهم.
يقول جابر كما في الحديث عنه: عِنْدِي خَمْسُونَ ألْفَ حَدِيثٍ، مَا حَدَّثْتُ مِنْهَا شَيْئاً كُلُّهَا عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ أهْلِ البَيْتِ.
و روى أيضاً محمّد بن مسلم عن الباقر خاصّة ثلاثين ألف حديث.
فما أعظمكم من رجال! كيف كانت أوعيتكم صالحة لتحمّل تلك المقادير العظيمة من علم أهل البيت ذلك العلم الصعب المستصعب. و لا بِدع فإنّ النَّاسُ مَعَادِنٌ.٢
و نبغ في زمنه من رجال الحديث علماء كان المعوّل على حديثهم بعد حين. و كانوا المقدّمين عند الإمام الصادق عليه السلام. يعطف عليهم،
و يرفق بهم. و جاءت عنه فيهم مدائح جليلة أمثال جابر، و محمّد بن مسلم، و زرارة و حمران ابنَي أعين، و ابن أبي يعفور، و بُريد العِجليّ، و سُدَير الصيرفيّ، و الأعمش، و أبي بصير، و معروف بن خَرَّبُوذ، و كثير غيرهم.
كما نبغ فطاحل من الشعراء بقيت آثارهم خالدة حتى اليوم أمثال الكُميت.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام جعفر الصادق عليه السلام۱
مُنيَ الإمام الصادق عليه السلام بمعاصرة الدولتين المروانيّة و العبّاسيّة و شاهد منهما معاً ضروب الأذى و التضييق. فكم أزعجوه من دار الهجرة (المدينة الطيّبة) يُحمل إلى فرعون أيّامه من دون جرم، سوى أنّه صاحب الخلافة و الإمامة حقّاً. فحُمل مرّة إلى الشام مع أبيه الباقر عليه السلام أيّام بني مروان، و إلى العراق عدّة مرّات في عهد بني العبّاس أبناء عمّه: مرّة في عهد السفّاح إلى الحيرة، و مرّات في عهد المنصور إلى الحيرة و إلى الكوفة و إلى بغداد.
و أحسن أيّام مرّت على الشيعة في عصره في الفترة التي امتزجت من اخريات دولة بني مروان و اوليات دولة بني العبّاس، في اشتغال اولئك بقتل بعضهم لبعض و بانتقاض البلاد عليهم، و هؤلاء بالحرب مع المروانيّين مرّة و بتطهير البلاد منهم و استتباب الأمن اخرى. فانتهز الشيعة هذه
الفرصة - و الوقت فرص - للارتواء من مناهل علمه و عرفانه، فشدّوا الرحال إليه من كلّ حدب و صوب لأخذ أحكام الدين و المعارف عنه.
فَرُوي الحديث عنه في كلّ علم و فنّ، كما تشهد به كتب الشيعة. و لم تقتصر الرواية عنه على الشيعة فحسب، بل روت عنه سائر الفرق، كما تُفصح بذاك كتب الحديث و الرجال من الشيعة و من غيرهم.
و قد أحصى ابن عقدة، و الشيخ الطوسيّ طاب ثراه في كتاب رجاله، و المحقّق رحمه الله في «المعتبر»، و غيرهم مَن روى عنه من الشيعة و من غيرهم، فكانوا أربعة آلاف. و كان أكثر الاصول الأربعمائة مرويّة عنه.
و هذه الاصول هي الأساس لكتب الحديث الأربعة: «الكافي» لثقة الإسلام الكلينيّ،۱ و «من لا يحضره الفقيه» للشيخ الصدوق،٢ و «التهذيب»، و «الاستبصار» لشيخ الطائفة الطوسيّ،٣ طيّب الله مرقده.
و صارت الشيعة في غضون هذه الفترة تنشر الحديث، و تجهر بولاء أهل البيت عليهم السلام. و ربا عددهم في مختلف الجهات على مئات الالوف.
و لمّا قامت دعائم السلطان للمنصور، و عرف كثرة الشيعة في الآفاق،
و تجاهرهم بالولاء لآل محمّد عليه و عليهم السلام، ضيّق على مصدر معارفهم و إمام عصرهم - الصادق - عليه السلام. حين علم أنّه يعسر عليه استئصال الشيعة لكثرتهم و انتشارهم في البلاد، فأراد أن يقطع الأصل، و به يكون جفاف الفرع. فكم حمله إلى العراق، و أوقفه بين يديه، يريد بذلك استنقاصه أمام الناس. و كم خاطبه بما يقصر القلم عن سطره.
و ما كفاه ما ارتكبه منه من تلك الأذايا و المكاره و المواقف التي يهتزّ لها العرش عظماً، دون أن دسّ إليه السمّ على يد عامله على المدينة. فمات روحي فداه قتيلًا بسمّ المنصور.۱
و ما اقتصر المنصور في فظيع أعماله على ما اجترحه من سيّد العلويّين - الصادق - بل سنّ الشفرة للعلويّين كافّة، فصبغ أرض الهاشميّة من دمائهم الطاهرة. و أكثر الفجائع في بغداد من إهلاك تلك الفِتْيَة الفَتِيَّة.
فخافته الشيعة، فانكمشت في بيوتها، و تستّرت بالتقيّة خشية من صارم عقابه. أ تراه يكفّ عن علويّ بعد أن اجترأ على سيّدهم، أو يعف عن شيعيّ بعد أن قضى على إمامهم؟!
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام الكاظم عليه السلام
قضى الإمام موسى الكاظم عليه السلام٢ أيّام إمامته٣ بين سجنين:
سجن داره بعيداً عن الناس خوفاً بني العباس، و سجن بني العبّاس الشديد الظلمة و الظلم. حتى أنّ الراوي إذا روى الحديث عنه لا يسنده إليه بصريح اسمه، بل بكناه مرّةً كأبي إبراهيم، و أبي الحسن، و بألقابه اخرى كالعبد الصالح، و العالم، و أمثالهما. و بالإشارة إليه تارةً كقوله: عن الرجل، إذ قلّما تجد اسمه الشريف صريحاً في حديث لشدّة التقيّة في أيّامه، و لكثرة التضييق عليه ممّن عاصره من العبّاسيّين كالمنصور، و المهدي، و الهادي.
و ما تربّع الرشيد على دست الملك إلّا و زجّه في أطباق السجون.
و بقي سلام الله عليه يحمل إلى السجن مرّةً، و يُطلق منه اخرى أربع عشرة سنةً، و هي مدّة أيّامه مع الرشيد.
و بهذه الأعمال القاسية أرهبوا العلويّة و أخافوا الشيعة. و كانت تطمح عيون الجميع إلى إمامهم السجين. و لم يجد عليه السلام منجى للطالبيّين، و خلاصاً للشيعيّين، أصوب من استسلامه للحكم العبّاسيّ القاسي. و ما كفى الرشيد ما ارتكبه من الإمام حتى دسّ إليه السمّ، و هو في حبس السندي بن شاهك، فمات روحي فداه في السجن قتيل الجور و الاعتساف.
و ذرّ الملح على الجرح أنّه لم يُسمح لأوليائه بتشييعه، بل أمر فحمله الحمّالون فوضعوه على الجسر. و نكأ القرحة بالنداء عليه: هَذَا إمَامُ الرَّافِضَةِ.
تلك أعمال لا تطفئ من العبّاسيّين لهب الحسد، و لا تنقص من شأن الإمام، و إنّما تكشف لنا عن قسوتهم ساعة الانتقام، و ذهولهم عن سياسة الأقلّيّات، و غفلتهم عن شحن القلوب عليهم حقداً و غيظاً، و النار تقدح بالزناد. و ما كانت النار خامدة، و إنّما الجمر تحت الرماد، على أنّ الإمام لا ذنب له عندهم سوى أنّه صاحب المقام حقّاً.
و لمّا شاهد سليمان بن جعفر عمّ الرشيد ما يصنع السنديّ بجنازة الإمام، أمر فأخذوها من أيدي الشرطة، و وضعها في الجانب الغربيّ، و أمر مناديه فنادى بالناس لحضور الجنازة و تشييعها. و أكثر الشيعة في بغداد تقيم في الجانب الغربيّ. و كانت محلّة الكرخ على سعتها كلّها شيعة. فهرع الناس فحملوه على الأعناق حتى أوصلوه إلى تربته الطاهرة من مقابر قريش.
و كانت قلوب الشيعة تغلي كالمراجل غيظاً على ما يصنعه الرشيد.
و لو لا ما كان من سليمان لأوشكت الفتنة أن تقع و أن يأخذوا الجنازة قهراً إلّا أن يكون الرشيد أميناً بضغطه و شدّته من وثبة الشيعة، حتى و إن كثر الضغط و الضرب عليهم.
و لعلّ انتباه سليمان إلى الخطر حمله على ذلك الصنع حتى مشى حافياً حاسراً خلف جنازة الإمام. فإنّ في ذلك إبراداً للغلل، و إطفاءً لللهب، و إخماداً للنائرة لو جار اشتعالها. أو لعلّ الرشيد أو عز إليه سرّاً أن يعمل ذلك بعد ما يقضي إربه. و عسى أن يكون فعل سليمان غَيرةً على ابن عمّه، و استياءً من ذلك الفعل الأشنع.
إن كثرة الشيعة ذلك اليوم في بغداد و سواها من بلاد العراق لجديرة بأن تقف حاجزاً دون إرهاق السلطات لهم و إنزال السوء بهم متوالياً، و لكن هل كانت تلك الضربات المتتابعة على رؤوسهم و شدّة الضغط عليهم أذهبت بقواهم؟ أو لأنّ التقيّة حملتهم على الاستسلام للقسوة؟ أو لأنّ عددهم بلا عدّة؟ أو لأنّ الإمام لا يرضى لهم الثورة لعلمه بأنّها لا تصل بهم إلى الغاية؟ أو لأنّهم بغير سائس و زعيم ينهض بهم فيقتحم بهم الأهوال؟
أحسب أنّ خلوّهم من الرئيس الناهض هو الذي أسلمهم إلى ذلك الخضوع. و من ثمّ تجد العراقين (الكوفة و البصرة) و الحرمَين (مكّة
و المدينة) و اليمن قد تمرّدت على الحكم العبّاسيّ أيّام المأمون عند ما وجد الناس زعماء من العلويّين يثبون بهم في وجوه بني العبّاس، و يحلّون عن عواتقهم نير ذلك الاستعباد.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام الرضا عليه السلام۱
إن السياسة الإلهيّة للأئمّة الأطهار عليهم السلام مع العبّاسيّين قضت بمسالمتهم، و التصبّر على أحكامهم الجائرة، لغاية إذاعة الحقّ. و لا يتسنّى ذلك إلّا إسراراً دون أن تشعر بذلك السلطات. و لا رحمة لهم عند بني العبّاس لو شعروا منهم بتلك الدعوة.
و لو لا تلك المسالمة لقُضي عليهم و على شيعتهم قبل أن تظهر منزلتهم و كراماتهم من فضائل و علوم و معارف. تلك التي نبّهت ذوي البصائر إلى أنّهم خزّان علم الرسالة و أهل بيت النبوّة.
و بهذه السياسة الإلهيّة، و تلك الكرامات الباهرة كثر أولياء أهل البيت. و بتلك المسالمة حُقنت دماؤهم بعض الشيء كما حفظت نفوس شيعتهم قدر الإمكان.
انبسط التشيّع على البلاد، و طمح كثير من الطالبيّين للنهضة، بل وثب محمّد بن إبراهيم من أولاد الحسن عليه السلام بالكوفة، و استفحل أمره حتى دُعي له بالبصرة و مكّة. و إبراهيم بن موسى بن جعفر عليهما السلام باليمن، و استولى على اليمن كلّه. و كان في مكّة الحسين بن الحسن
الأفطس. و بعد موت محمّد بن إبراهيم و داعيتهم أبي السرايا بالكوفة بايع الحسين محمّد بن جعفر الصادق عليه السلام و سمّاه أمير المؤمنين. بل لا تجد قطراً إلّا و فيه علويّ يُمنّي نفسه أو يُمنّيه الناس بالوثبة.
بل امتدّت جذور التشيّع حتى إلى البلاط الملكيّ. فكان الفضل بن سهل ذو الرئاستين وزير المأمون شيعيّاً، و طاهر بن الحسين الخزاعيّ قائد المأمون الذي فتح له بغداد و قتل أخاه الأمين شيعيّاً، و كثير سواهما. حتى أنّ المأمون خشى عاقبة هذين، فقتل الفضل، و ولّى طاهراً إمارة هرات.
و فعل ذلك مع أولاد طاهر فإنّهم بعد القيادة بوليهم إمارة هرات. و كانت الطاهريّة كلّها تتشيّع، كما يقول ابن الأثير في حوادث عام ٢٥۰، ج ۷، ص ٤۰.
و قال في حرب سليمان بن عبد الله الطاهريّ مع الحسن بن زيد الناهض بطبرستان: تَأثَّمَ سُلَيْمَانُ مِنْ قِتَالِهِ لِشِدَّتِهِ في التَّشَيُّعِ.
و بلغ من شأن طاهر أن كان له حرم ببغداد يأمن من دخله. و أن يخاطب دعبل المأمون من أجل ما كان لطاهر من الفتح بقوله:
إنِّي مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ سُيُوفُهُمْ | *** | قَتَلَتْ أخَاكَ وَ شَرَّفَتْكَ بِمَقْعَدِ |
كيف لا يخاف المأمون من طاهر؟!
إن المأمون من رجال الدهاء و السياسة. فلمّا رأى انتشار التشيّع في الآفاق. و ثبات العلويّين في أطراف البلاد، و سريان التشيّع إلى بلاطه، خشى من عقبى هذه النزعة العلويّة على سلطانه. فرأى أن يكيد لهذه الوثبات التي ظهر بها بعض العلويّين، و الكامنة في نفوس الآخرين.
إن الرضا عليه السلام ذلك اليوم إمام الشيعة و سيّد آل أبي طالب، فبعث إليه يستقدمه. و أظهر أنّه يريد أن يتنازل له عن العرش، و جعل
الأمر له في الحلّ و الترحال و اختيار الطريق. فجاء على طريق البصرة، فالأهواز، فنيسابور. و جعل طريقه عدّة شهور، ظهرت له في خلالها الكرامات الدالّة على إمامته. و كانت له من الآثار ما بعضها ماثل إلى اليوم.
فلمّا دخل خراسان و اجتمع به المأمون، أظهر المأمون للإمام أنّه يريد أن يتنازل له عن الخلافة لأنّه وجده أحقّ بها لفضله، فقال له الإمام:
إن كَانَتِ الخِلافَةِ حَقَّاً لَكَ مِنَ اللهِ فَلَيْسَ لَكَ أنْ تَخْلَعَهَا عَنْكَ وَ تُوَلِّيَهَا غَيْرَكَ! وَ إن لَمْ تَكُنْ لَكَ فَكَيْفَ تَهَبُ مَا لَيْسَ لَكَ؟!
فقال: إذَنْ تَقْبَلُ وِلَايَةَ العَهْدِ!
فَأبى عَلَيْهِ الإمَامُ أشَدَّ الإبَاءِ.
فقال له المأمون: مَا اسْتَقْدَمْنَاكَ بِاخْتِيَارِكَ! فَلَا نَعْهَدُ إلَيْكَ بِاخْتِيَارِكَ! فَوَ اللهِ إن لَمْ تَفْعَلْ ضَرَبْتُ عُنُقَكَ!
فلم يجد الإمام بدّاً من الاستسلام، غير أنّه اشترط على المأمون أن لا يتدخّل في شئون الدولة أبداً. فقبل المأمون منه ذلك، و أمر فبايع الناسُ الرضا عليه السلام بولاية العهد. و ضرب السكّة باسمه، و أجرى المراسيم الباهرة. و وفدت الشعراء للتهنئة، و أجزل لهم العطاء، و كتب إلى البلاد كلّها بأخذ البيعة بالولاية للرضا عليه السلام.۱
نجح المأمون بهذا التدبير من العهد للرضا عليه السلام. فهدأت بذلك نفوس الشيعة، و منّت أنفسها بأنّ الأمر سيعود لوليّه إمام الامّة. و قرّت شقشقة العلويّين، و اطمأنّت قلوب أوليائهم من القوّاد و الوزراء غير أهل الرأي و السياسة.
إن الإمام الرضا عليه السلام أخبر المأمون بما يكيده بهذه البيعة.
فاغتاظ لذلك المأمون و قال: مَا زِلْتَ تُقَابِلُنِي بِمَا أكْرَهُ!
إن الفطن من أرباب السياسة لا تخفى عليه المكيدة ذلك اليوم، فكيف بالرضا؟! و لكن ذلك التدبير يجهل مغزاه سواد الناس. و إذا هدأت فورتهم، فبمن ينهض الزعيم الثائر؟!
و لمّا بلغ الخبر العبّاسيّين ببغداد ساءهم فعل المأمون و جهلوا ما يرمي إليه، فاجتمعوا على خلعه، و البيعة لعمّه إبراهيم بن المهدي الشهير بالغناء.
و عند ما بلغ ما أراده المأمون من الكيد و سمّ الرضا، كتب إلى بني العبّاس ببغداد: إن الذي أنْكَرْتُمُوهُ مِنْ أمْرِ عَلِيّ بْنِ موسى قَدْ زَالَ وَ إن الرَّجُلَ قَدْ مَاتَ.۱
...۱
هُم قَتَلوه كيْ يكونوا مَكانَه | *** | كَمَا غَدَرَتْ يوماً بِكِسْرى مَرَازِبُه |
فَإلّا يكونوا قاتليه فإنَّه | *** | سَوَاءٌ عَلينا مُمْسِكاه و ضاربُه |
بَنِي هاشم لا تَعْجَلوا بِإفَادَةٍ | *** | سواءٌ علينا قاتلوه و سَالِبهُ |
و كان المأمون يُحضر للرّضا عليه السلام العلماء ليناظروه. و هكذا كان يعمل مع ابنه الجواد عليه السلام. يظهر بذلك أنّه يريد أن يُعلم الناس ما لهما من فضل، وَ لَكِنَّهُ يَدُسُّ السَّمَّ في العَسَلِ. لأنّه كان يرجو أن يعثرا و لو مرّة في جواب مسألة ليجعله ذريعة للحطّ من كرامتهما و إنقاصهما أمام الناس و الشيعة. و بذلك يرجو أن ينصرفوا عن ولائهما و الحبّ لهما، إلّا أنّهما كانا لا يزدادان إلّا سناءً و مكانة. و ظهر للناس أنّهما معدن العلم و أهل الخلافة، و غصنان من شجرة النبوّة الباسقة.
كان المأمون يريد أن ينقص الرضا بتلك المناظرات، و يحطّ من قدره بولاية العهد، و يرى الناس أنّ الدنيا زاهدة فيه. و أنّه لو كان زاهداً فيها لما قبل العهد بالولاية. فصار الأمر على خلاف ما يحتسبه المأمون.
فإنّ المحاججات رفعت شأو الرضا العلميّ. و تطلّع الناس لليوم الذي يستلم فيه مقاليد الامور.
نجح المأمون في تدبيره السابق، و فشل في تدبيره اللاحق. و خشى أن يستفحل الأمر، و يُصبح أكثر الناس شيعة للرضا، فيكون ملكه عرضة للخطر، فاحتال عليه بالسمّ و دسّه إليه في عنب، فقضى عليه السلام سميماً بطوس، و دفن بها في قبّة هارون أمام قبره، فاندرس قبر هارون، و ظهر قبر الرضا، و صار مقصداً لزوّار الشيعة من أطراف البلاد و شاسع الأمصار.
و في عهد الرضا عليه السلام نشطت الشيعة و جاهروا بالولاء، و علت كلمتهم، لا سيّما أنّ المأمون كان جهيراً به يجمع أرباب الكلام و يناظرهم في خلافة أمير المؤمنين، و يقطع حججهم بصارم براهينه. و لكنّه بعد أن سمّ الرضا، و هدأت أجراس العلويّة و الشيعة، أوصد ذلك الباب كأن لم يكن ذلك الحجاج و تلك الحجج.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام الجواد عليه السلام۱
مات أبو الحسن الرضا عليه السلام، و أبو جعفر الجواد عليه السلام ابن سبع سنين. فتهافتت الشيعة عليه يستقون من سائغ نميره شأنهم مع آبائه. و ما حال صغر السنّ دون ارتشافهم من غامر علمه، لأنّ الإمامة الإلهيّة لا فرق فيها بين ابن سبع أو سبعين ما دامت منابعها تستمدّ من العلّام
جلّ شأنه، كما هو شأن النبوّة. فهذا عيسى كلّم الناس و هو في المهد. و هذا يحيى أخذ الكتاب بقوّة و آتاه الله الحكم، و هو صبيّ.
إن المأمون لا يجهل ذلك الشأن من الإمام و لا رأي الشيعة فيه.
فاقتضت سياسته أن يرفع مكانة أبي جعفر عليه السلام و يعظّم شأنه، كما تظاهر قبل هذا مع أبيه أبي الحسن عليه السلام فاستدعاه من المدينة مكرّماً إلى بغداد و أظهر له من العناية ما استفزّ بني العبّاس حتى خافوا أن يعهد إليه كما عهد إلى أبيه من قبل. و لكنّهم جهلوا ما يقصده وراء ذلك الإكرام، و جهلوا أنّ السياسة ألوان، و أنّ لكلّ عهدٍ عملًا و لوناً، فاستمرّوا في ملامته، و استمرّ في كيده حتى زوّجه بابنته امّ الفضل، و هي التي قتلته بالسمّ بإشارة من المعتصم، فكأنّه ادّخرها للجواد لمثل هذا اليوم.
كثر إلحاح بني العبّاس على المأمون على أن يصرفوه عن تزويجه بابنته، و عن رفع مقامه و هو لا يعبأ بهم، فقالوا: دَعْهُ حتى يَتَأدَّبَ فَإنَّهُ صَبِيّ! فأحضر له العلماء و الفقهاء ليناظروه، فيظهر له من الفضل ما يقطع ألسنتهم. فكان من الجواد مع يحيى بن أكثم ما هو مسطور في كتب التأريخ و الحديث و الفضائل، و ما هو قاطع للحجّة و لذارب الألسنة من بني العبّاس، و ما بلغ أبو جعفر ذلك اليوم العاشرة.
و لا أدري كيف بلغ الجهل ببني العبّاس إلى ذلك الحدّ، فقد سبق من المأمون مع الرضا عليه السلام و منهم في لومه ما دلّ على نجاحه في سياسته و كيده، و خطأهم في تأنيبه. فكيف عادوا إلى تفنيده حين عاد إلى إظهار الإعزاز لأبي جعفر عليه السلام؟! و لا أدري كيف لم ينتبهوا إلى مراميه في أعماله و لها أمثال سابقة؟! و كيف يأملون أن يكشف لهم عن نواياه في فعله؟! و السياسة إن ظهرت للعيان استفزّت من يراد به الكيد، و نبّهت مشاعره. و إذا أخذ الحيطة لنفسه، كيف تعمل فيه تلك المكيدة؟! (هذا على
عكس منهج السياسة تماماً. فقوام السياسة إخفاء المكر و الخديعة). و إذا ظهر للعلويّة و الشيعة القصد من مراميه في إجلاله لأبي جعفر عليه السلام لم يحتفلوا بما يصنع، فلا يثبّطهم عن الوثبة في وجهه.
عاد الجواد عليه السلام إلى المدينة، و بقي بها مقصداً لأوليائه إلى أن اعتلى المعتصم منصّة الحكم سنة ٢۱۸، فاستدعى الجواد و معه زوجته امّ الفضل، و قد علم بانحرافها عن أبي جعفر فأرادها ذريعة لنفوذ تدبيره في أبي جعفر. و لم يكن المعتصم شقيق المأمون في دهائه و لا رضيع لبانه في سياسته. و من ثمّ انتفضت عليه كثير من البلاد، و خلعوا ربقة الطاعة، و استقلّوا بالأمر. فكان لقرب غوره يضيّق على الجواد مرّة، و يوسّع عليه اخرى، و يحبسه مرّة و يطلقه تارة.
و كان يجمع له العلماء ليحاججوه زعماً منه أن يجد له زلّة يؤاخذه فيها أو يسقط مقامه بها. و زوّر عليه مرّة كتباً تتضمّن الدعوة لبيعته، فلا يكون مغبّة ذلك إلّا إعلاء شأن أبي جعفر و إظهار الكرامة و الفضل له.
فكان المعتصم لا يزداد لذلك إلّا حنقاً و غيظاً، و لا يقوى على كتمان ما يسرّه من الحسد و الحقد، فحبسه مرّة. و ما أخرجه من السجن حتى دبّر الأمر في قتله. و ذلك أن قدّم لزوجته ابنة المأمون سمّاً، و حملها على أن تدفعه للإمام فأجابته إلى ما أراد.
فمات قتيلًا بسمّ المعتصم. و عند ما شاهدت أثر السمّ قد بان في بدن الإمام، تركته وحيداً في الدار، حتى قضى نحبه، و احتشدت الشيعة على الدار و استخرجوا جنازته، و السيوف على عواتقهم. و قد تعاقدوا على الموت، لأنّ المعتصم حاول أن يمنعهم عن تشييعه.
و تعرف من مثل هذه الحادثة كثرة الشيعة ذلك اليوم في بغداد، و قوّتهم على المراس. و من كثرة الرواة منهم تعرف كثرة العلم فيهم. و من
كثرة الحجاج و الجدال لا سيّما في الإمامة تعرف قوّة الحجة عندهم، و قوّة الكفاح عن المذهب، و اتّضاح أمرهم.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام عليّ الهاديّ عليه السلام۱
قضى الجواد نحبه، و الهاديّ ابن ستّ أو ثمان كما جاءت الإمامة أباه و هو ابن سبع. فكان موئل الشيعة و مرجعهم و منهل و رّاد العلم و مرتع روّاده، فنهلوا من مشرعته، و رتعوا الخصب من ربيعه، كما كان حالهم مع آبائه الغُرّ. و هذا أمر يسترعي الانتباه، و يستلفت الأنظار.
أ يُحسن ابن هذه السنّ من الناس القراءة و الكتابة دون أن يكون له شيء من معرفة أو علم؟!
فكيف يكون جامعة العلوم لا يُسأل عن شيء إلّا و الجواب لديه حاضر؟ و لا يبتدئ في البيان عن مسألة إلّا و أبهر العقول فيما يبديه! أ يجوز هذا في غير من ألهمه الله العلم و العرفان؟! و لو كان على غير تلك الحال من العلم الإلهيّ، لما انقادت إليه خاضعة شيوخ الفضل و العلم، و أخذت عنه أخذ مأموم عن إمام، و رأت فيه أنّه الحجّة من الله و المعصوم عن الرجس، و العالم بكلّ شيء. و لو لم يكن كما رأوه و شاهدوه لكذّبت الحوادث و الامتحانات ذلك الرأي و العقيدة فيه.
بقي الهاديّ عليه السلام في المدينة، و الشيعة نافرة إليه للتفقّه في الدين و اغتنام محاسن الأخلاق حتى سنة ٢٣٦. و كانت ناصية الحكم يومئذٍ
بِيَدِ المتوكّل، و هو شديد البغض لعليّ و لأهل بيته عليهم السلام. و زاد في الطين بلّة أنّه احيط بندماء قد اشتهروا بالنصب و البغض لعليّ. منهم: عليّ ابن الجَهم الشاعر الشاميّ من بني شامة، و عمرو بن فرُّخ الرَّخجِيّ، و أبو السِّمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني اميّة، و عبد الله بن محمّد بن داود الهاشميّ المعروف بابن اتْرُجَة. و كانوا يخوّفونه من العلويّين، و يشيرون عليه بإبعادهم و الإعراض عنهم و الإساءة إليهم. ثمّ حسّنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علوّ منزلتهم في الدين، و لم يبرحوا به حتى ظهر منه ما هو معروف.
و ممّا ذكره ابن الأثير في حوادث سنة ٢٣٦، في تاريخه، ج ۷، ص ۱۸؛ و ابن جرير في ج ۱۱، ص ٤٤؛ و صاحب «فوات الوفيّات» ج ۱، ص ۱٣٣، فعله بقبر الحسين عليه السلام من الهدم و الحرث و البذر و السقي و منع الناس من زيارته إلى غير ذلك ممّا هو مشهور عنه. و قال صاحب «فوات الوفيّات»: و كان معروفاً بالنصب فتألّم المسلمون لذلك. و كتب أهل بغداد شتمه على الحيطان. و هجاه دِعْبل الخُزاعيّ و غيره. و في ذلك يقول ابن السِّكِّيت، و قيل: هي للبَسَّاميّ:
تَاللهِ إن كَانَتْ امَيَّةُ قَدْ أتَتْ | *** | قَتْلَ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهَا مَظْلُومَا |
فَلَقَدْ أتَتْهُ بَنُو أبِيهِ بِمِثْلِهِ | *** | فَغَدَا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومَا |
أسِفُوا عَلَى أنْ لَا يَكُونُوا شَارَكُوا | *** | في قَتْلِهِ فَتَتَبَّعُوهُ رَمِيمَا |
و ما اقتصر على ما فعله بقبر الحسين عليه السلام من الإساءة لأهل البيت و أوليائهم بل جَدَّ في النيل من العلويّة نسباً و مذهباً. و استقدم أبا الحسن الهاديّ عليه السلام من المدينة إلى سامرّاء في سنة ٢٣٦، و أبقاه في سامرّاء يتعاهده بالأذى و السوء كما يتعاهد المحبّ حبيبه بالتحف و الطرف.
و قد وجد أعداء آل محمّد انحراف المتوكّل عنهم ذريعة للإساءة إلى أبي الحسن عليه السلام، فسعوا به إلى المتوكّل، و أخبروه أنّ في منزله سلاحاً و كتباً و غيرها من شيعته. فوجّه إليه ليلًا من هجم عليه الدار على غرّة، فوجدوه في بيت وحده، و عليه مدرعة من شعر، و على رأسه ملحفة من صوف و لا بساط في البيت إلّا الرمل و الحصى متوجّهاً إلى ربّه يترنّم بآيات من القرآن في الوعد و الوعيد. فاخذ على ما وُجد و حمل إلى المتوكّل.۱
و ما كان ذلك بأوّل سعي و لا أوّل هجوم على داره من المتوكّل.
و كلّما أغراه اولئك النواصب خفّ به بغضه إلى الإجابة لسعيهم، و إن وجد كذب ما قالوه.
فكان المتوكّل دائباً على ذلك الأذى، و تلك الإساءة لأبي الحسن من دون رحمة و لا هوادة، إلى أن قتله ابنه المنتصر انتقاماً لأمير المؤمنين عليه السلام لما شاهده منه و من الفتح بن خاقان و جلسائه من المسّ بكرامة المرتضى عليه السلام و الاستخفاف بحرمته.
و ما زال الهاديّ عليه السلام مقيماً في سامرّاء إلى أن مات مسموماً بها بسمّ المعتزّ العبّاسيّ سنة ٢٥٤. فكانت مدّة إقامته فيها ثمان عشرة سنة يتجرّع غصص الآلام من بني العبّاس، من مَلِكٍ لآخر. و كان أكثر أيّامه سجين الدار لا يصل إليه شيعته إلّا اختلاساً على كثرة الشيعة في هذا العهد، و كثرة احتياجهم إلى رؤية الإمام و أخذ معالم الدين عنه. و كان جلّ استفاداتهم منه بتوسّط رجال معدودين من قوّامه يتردّدون عليه. و ربّما قصدوا الشيعة في بلادهم.
و في هذا العصر كان صوت التشيّع جهيراً، و علماؤه تناضل و تناظر.
و كثرت التاليف في كلّ علم، و اتّسعت في الأخلاق و الكلام خاصّة.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام العسكريّ عليه السلام۱
جاء الحسن العسكريّ عليه السلام من المدينة مع أبيه الهاديّ عليه السلام يوم استقدمه المتوكّل. و ما زال مع أبيه إلى أن التحق أبوه بالرفيق الأعلى. و بقى هو مدّة إمامته القصيرة في سامرّاء. و قضى أيّام حياته التي في سامرّاء في نكد و أذى، فكان شريك أبيه الهاديّ فيما أصابه. و انفرد بعد أبيه فيما قصده به العبّاسيّون من سوء. و كان حالهم معه من الإساءة و الغضّ من مقامه و التضييق عليه و السجن كحالهم مع أبيه، دون أن يلاقي منهم فسحة أو إرفاقاً.
و الشيعة في أيّامه كحالها مع أبيه. و أصبحت قم في عهده و عهد أبيه من قبل عاصمة كبرى من عواصم العلم الشيعيّة. و فيها من رواتهما ما لا عدّ له، و من المؤلّفين في الحديث و فنون العلم جمّ غفير.
و كان في سامرّاء و ما جاورها من الشيعة عدد لا يستهان به. و في بغداد خلق كثير. و كانت المدائن يومئذٍ عامرة، و للتشيّع فيها القِدْحُ المُعَلَّى.٢ و ما زالت المواصلات بينهم و بين الإمام متوالية. و لعلّ سلمان
الفارسيّ أوّل مَن وضع فيها حجر التشيّع. و بني عليه حذيفة بن اليمان.
و لا تسل عن الكوفة في ذلك اليوم، بل و فيما قبله و ما بعده، فإنّها من أكبر مدن الشيعة في الولاء ... و ما زال العبّاسيّون على حالهم مع الإمام العسكريّ عليه السلام إلى أن اغتاله المعتمد العبّاسيّ بالسمّ. و ما زال الشيعة على ذلك الشأن إلى أن قبض الإمام عليه السلام.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام المهديّ عليه السلام
كان مولد الإمام المهديّ عجّل الله فرجه يوم الجمعة في النصف من شعبان سنة ٢٥٥.۱ و كان الإمام العسكريّ عليه السلام يخاف عليه و يحتفظ
به، و لا يسمح لكلّ أحد بمشاهدته. و ما رآه أيّام أبيه إلّا النزر من الشيعة.
و كيف لا يهمّه المحافظة عليه و هو آخرهم، و به إحياء الشيعة، وَ بِهِ يَمْلُا اللهُ الأرْضَ قِسْطاً وَ عَدْلًا؟! و كيف لا يخشى عليه و بنو العبّاس يرتقبون ولادته ليقضوا عليه؟! فكانت غيبته الصغرى من يوم مولده. و هذا لا يختلف فيه اثنان من الشيعة. و أشار إليه بعض أهل السنّة أيضاً مثل ابن الصبّاغ المالكيّ في كتابه «الفصول المهمّة»، في الفصل الحادي عشر في اخريات ترجمة الإمام العسكريّ عليه السلام.
قال: «و خلف أبو محمّد الحسن من الولد ابنه الحجّة القائم المنتظر لدولة الحقّ. و كان قد أخفى مولده و ستر أمره لصعوبة الوقت، و خوف السلطان، و تطلّبه للشيعة و حبسهم و القبض عليهم».
و لمّا قضى أبو محمّد الحسن عليه السلام، جدّ المعتمد العبّاسيّ في العثور على الإمام المهديّ، حتى حبس جواري العسكريّ، و جعل عليهنّ الرصد خشية أن يكون عند إحداهنّ حمل من الإمام، فأخفاه الله عنه و عن أعدائه ليوم يريد به أن يطهّر الأرض من الجور و الطغيان و الشرك،
و يستبدل عنها العدل و الأمن و الإيمان.
و بعد أبيه العسكريّ عليهما السلام جعل بينه و بين الشيعة سفراء أربعة، و هم عثمان بن سعيد العُمَريّ، و كان من وكلاء جدّه و أبيه؛ و ابنه محمّد بن عثمان، و كان من وكلاء أبيه أيضاً؛ و الحسين بن روح النوبختيّ؛ و عليّ بن محمّد السَّمُريّ.۱
و تنتقل السفارة لأحدهم بعد موت الآخر. فكانت لمحمّد بعد أبيه، ثمّ للحسين بعد محمّد، ثمّ لعليّ السمريّ بعد الحسين. و بعد موت السمريّ سنة ٣٢٩ انقطعت السفارة. و كان مسكنهم جميعاً ببغداد، و بها مواضع قبورهم. و هي اليوم معروفة و تُزار.
و كان هؤلاء السفراء وسطاء بين الشيعة و الإمام لحمل أسئلتهم إليه و أخذ الجواب منه بتوقيعه إليهم. و السفير هو استاذ التدريس في وقته، يحمل إلى و رّاد العلم علوم الإمام الغائب. و من بعدهم انقطع الوصول إليه و الأخذ عنه رأساً، و انحصر أخذ الأحكام بالاجتهاد.
و كان للإمام عليه السلام في هذه الغيبة الصغرى وكلاء كثيرون في بغداد و غيرها، غير أنّ السفارة مختصّة بهؤلاء الأربعة المعروفين بالنُّوّاب.
كما ادّعى جماعة الوكالة و النيابة عنه جاء التوقيع منه بتكذيبهم و البراءة منهم. (انظر: «الغيبة» للشيخ الطوسيّ، ص ٢۸٥ إلى ٢۷٢).
و في أيّام الغيبة الصغرى كان التشيّع كنور على عَلَم، لا سيّما في العراق و إيران. و كانت بغداد و قم مهبط طلّاب العلم، و فيهما أساتذة الدراسة و رجال التاليف.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في الغيبة الكبرى
انتهت الغيبة الصغرى بموت السمريّ رضوان الله عليه سنة ٣٢٩.
و بعدها وقعت الغيبة الكبرى، و عنها يخرج عجّل الله فرجه و سهّل مخرجه. و الفارق بين الغيبتَين أنّ الصغرى توفّق لمشاهدته و الاجتماع به خواصّ مواليه. و في هذه الكبرى التي نحن فيها لا يتوفّق لذلك إلّا خواصّ الخواصّ.
وَفَّقَنَا اللهُ تَعَالَى لِمُشَاهَدَةِ تِلْكَ الطَّلْعَةِ الرَّشِيدَةِ، وَ الغُرَّةِ الحَمِيدَةِ، وَ جَعَلْنَا مِنْ أنْصَارِهِ وَ أعْوَانِهِ في غَيْبَتِهِ وَ عِنْدَ ظُهُورِهِ، إنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.۱
الدَّرْسُ الحَادِي وَ الارْبعُونَ بَعْدَ المائَتَين إلى الخَامِسِ وَ الخَمْسِينَ بَعْدَ المَائَتَينَ: مَدْرَسَةُ الإمَامِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ العِلْمِيَّةِ مَصْدَرُ إشْعَاعٍ دَائِمٍ عَلَى المَعْمُورَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوة إلّا بالله العليّ العظيم
الكلمة الطيّبة هي حقيقة الولاية
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ ، تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.۱
قال سماحة استاذنا الأعظم آية الله العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ تغمّده الله أعلى درجات جنانه في تفسيره المبارك: و الذي يعطيه التدبّر في الآيات أنّ المراد بالكلمة الطيّبة التي شُبِّهت بشجرة طيّبة من صفتها كذا و كذا هو الاعتقاد الحقّ الثابت، فإنّه تعالى يقول بعد و هو كالنتيجة المأخوذة من التمثيل:
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ.٢ و القول هو الكلمة و لا كلّ كلمة بما هي لفظ، بل بما هي معتمدة على اعتقاد و عزم يستقيم عليه
الإنسان و لا يزيغ عنه عملًا.
و قد تعرّض تعالى لما يقرب من هذا المعنى في مواضع من كلامه كقوله: إن الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.۱
و قوله: إن الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.٢ و قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.٣
و هذا القول و الكلمة الطيّبة هو الذي يرتّب تعالى عليه تثبيته في الدنيا و الآخرة أهله، و هم الذين آمنوا. ثمّ يقابله بإضلال الظالمين و يقابله بوجه آخر بشأن المشركين. و بهذا يظهر أنّ المراد بالممثّل هو كلمة التوحيد و شهادة أن لآ إلَهَ إلَّا اللهُ حقّ شهادته.
فالقول بالوحدانيّة و الاستقامة عليه هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغيّر و زوال و بطلان، و هو الله عزّ اسمه أو أرض الحقائق.
و له فروع نشأت و نمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقّة فرعيّة و أخلاق زاكية و أعمال صالحة يحيى بها المؤمن حياته الطيّبة و يعمر بها العالم الإنسانيّ حقّ عمارته. و هي التي تلائم سير النظام الكونيّ الذي أدّى إلى ظهور الإنسان بوجوده المفطور على الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.
و الكُمَّل من المؤمنين و هم الذين قالوا: ربّنا الله ثمّ استقاموا فتحقّقوا بهذا القول الثابت و الكلمة الطيّبة مثلهم كمثل قولهم الذي ثبتوا لا يزال
الناس منتفعين بخيرات وجودهم و منعّمين ببركاتهم. و كذلك كلّ كلمة حقّة و كلّ عمل صالح مثله هذا المثل، له أصل ثابت و فروع رشيدة و ثمرات طيّبة مفيدة نافعة.
فالمثل المذكور في الآية يجري في الجميع كما يؤيّده التعبير بكلمة طيّبة بلفظ النكرة، غير أنّ المراد في الآية على ما يعطيه السياق هو أصل التوحيد الذي يتفرّع عليه سائر الاعتقادات الحقّة، و تنمو عليه الأخلاق الزاكية و تنشأ منه الأعمال الصالحة.
ثمّ ختم الله سبحانه الآية بقوله: وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، ليتذكّر به المتذكّر أن لا محيص لمريد السعادة عن التحقّق بكلمة التوحيد و الاستقامة عليها.۱
و قال سماحة العلّامة فيما قاله في البحث الروائيّ: و في «الكافي» بإسناده عن عمرو بن حريث قال: سألتُ أبا عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام عن قول الله: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ، قال:
فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أصْلُهَا، وَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ فَرْعُهَا، وَ الأئمَّةُ مِنْ ذُرِّيَّتِهمَا أغْصَانُهَا، وَ عِلْمُ الأئمَّةِ ثَمَرَتُهَا، وَ شِيعَتُهُمْ المُؤْمِنُونَ وَرَقُهَا. هَلْ في هَذَا فَضْلٌ؟!
قَالَ: قُلْتُ: لَا وَ اللهِ! قَالَ: وَ اللهِ إن المُؤْمِنَ لَيُولَدُ فَتورَقُ وَرَقَةٌ فِيهَا، وَ إن المُؤْمِنَ لَيَمُوتُ فَتَسْقُطُ وَرَقَةٌ مِنْهَا.
قال سماحة العلّامة: أقول: و الرواية مبنيّة على كون المراد بالكلمة الطيّبة هو النبيّ صلّى الله عليه و آله، و قد اطلقت الكلمة في كلامه على
الإنسان كقوله: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.۱
و مع ذلك فالرواية من باب التطبيق (لا من باب تعيين مورد خاصّ). و من الدليل عليه اختلاف الروايات في كيفيّة التطبيق. ففي بعضها أنّ الأصل رسول الله صلّى الله عليه و آله و الفرع عليّ عليه السلام و الأغصان الأئمّة عليهم السلام، و الثمرة علمهم، و الورق الشيعة، كما في هذه الرواية.
و في بعضها: إن الشَّجَرَةَ رَسُولُ اللهِ، وَ فَرْعَهَا عَلِيّ، و الغُصْنَ فَاطِمَةُ، وَ ثَمَرَهَا أولَادُهَا، وَ وَرَقَهَا شِيعَتُنَا، كما فيما رواه الصدوق عن جابر، عن أبي جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام.
و في بعضها: إن النَّبِيّ وَ الأئِمَّةَ هُمُ الأصْلُ الثَّابِتُ، وَ الفَرْعَ الوَلَايَةُ لِمَنْ دَخَلَ فِيهَا، كما في «الكافي» بإسناده عن محمّد الحلبيّ، عن أبي عبد الله عليه السلام.
و في «مجمع البيان» روى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام إن هَذَا - يعني قوله: كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ... إلى آخره - مثل بني اميّة.
و في «تفسير العيّاشيّ» عن عبد الرحمن بن سالم الأشلّ، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليه السلام: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ - الآيتين، قال: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لأهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ لِمَنْ عَادَاهُمْ هُوَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ.
ردّ العلّامة الطباطبائيّ على الآلوسيّ في الدفاع عن بني أُميّة
قال سماحة العلّامة هنا: أقُولُ: قال الآلوسيّ في تفسير «روح المعاني» ما لفظه: و روى الإماميّة - و أنت تعرف حالهم - عن أبي جعفر
رضي الله عنه تفسيرها - يعني الشجرة الخبيثة - ببني اميّة، و تفسير الشجرة الطيّبة برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و عليّ كرّم الله وجهه و فاطمة رضي الله عنها و ما تولّد منهما.
و في بعض روايات أهل السنّة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني اميّة، فقد أخرج ابن مردويه عن عديّ بن حاتم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
إن اللهَ تَعَالَى قَلَّبَ العِبَادَ ظَهْراً وَ بَطْناً، فَكَانَ خَيْرُ عِبَادِهِ العَرَبَ، وَ قَلَّبَ العَرَبَ ظَهْراً وَ بَطْناً فَكَانَ خَيْرُ العَرَبِ قُرَيشاً، وَ هِيَ الشَّجَرَةُ المُبَاركَةُ الَّتي قَالَ اللهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ: «مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ». لأنَّ بني امَيَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ - انتهى موضع الحاجة.
و هو عجيب، فإنّ كون امّة أو طائفة مباركة بحسب طبعهم لا يوجب كون جميع الشعب المنشعبة منها كذلك. فالرواية على تقدير تسليمها لا تدلّ إلّا على أنّ قريشاً شجرة مباركة. و أمّا أنّ جميع الشعب المنشعبة منها مباركة طيّبة كبني عبد الدار مثلًا، أو كون كلّ فرد منهم كذلك كأبي جهل و أبي لهب فلا قطعاً. فأيّ ملازمة بين كون شجرة بحسب أصلها مباركة طيّبة، و بين كون بعض فروعها التي انفصلت منها و نمت نماءً فاسداً، مباركة طيّبة؟!
و قد روى ابن مردويه هذا عن عائشة أنّها قالت لمروان بن الحكم:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ لأبِيكَ وَ جَدِّكَ: إنَّكُمُ الشَّجَرَةُ المَلْعُونَةُ في القُرْآنِ!
و روى أصحاب التفاسير كالطبريّ و غيره عن سهل بن سعد، و عبد الله بن عمر، و يعلى بن مرّة، و الحسين بن عليّ، و سعيد بن المسيِّب أنّهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ۱ (الآية)، و لفظ سعد: رأي رسول الله صلّى الله عليه و آله بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكاً حتى مات، و أنزل الله: وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا (الآية).
و ستأتي الرواية عن عمرو بن عليّ في تفسير قوله: «الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً»٢ إنَّهُمُ الأفْجَرَانِ مِن قُرَيشٍ: بَنُو المُغِيرَةِ وَ بَنُو امَيَّةِ.٣
أجل، يتبيّن ممّا ذكرناه ما يأتي: أولًا: لا تنحصر كلمات الله تعالى بالكلمات اللفظيّة، بل إن جميع الموجودات الكونيّة هي كلماته. إذ إن الكلمة تعني ما يُعْرِبُ عن الضمير. فكافّة المخلوقات في عالم التكوين لمّا كانت مرتبطة بالله سبحانه و منوطة به - بل هي عين الارتباط و الإناطة - فهي تعبّر بوجوداتها عن جماله و جلاله. و كلّها مَعْلَم كاشف عن حقيقة الوجود. و يُعَدُّ كُلٌّ منها بقدر سعته الوجوديّة آيةً و مرآة و كلمة من كلماته.
ثانياً: تنقسم كلمات الله التكوينيّة إلى قسمين هما: الكلمات الحسنة الطيّبة، و الكلمات السيّئة الخبيثة. فالموجودات الشريفة في العالم هي كلماته الطيّبة. أمّا الموجودات الضارّة المفسدة، فهي كلماته الخبيثة.
ثالثاً: أنّ أسمى الكلمات اللفظيّة الطيّبة هي الشهادة بحقّ التوحيد، و حقيقة لآ إلَهَ إلَّا اللهُ. و أنّ أدنى الكلمات اللفظيّة الخبيثة و أشدّها هي إظهار الكفر و الشِّرك بالمعبود، و إنكار الحقائق في عالم الوجود. و أنّ أسمى الكلمات التكوينيّة الطيّبة و أرفعها هي حقيقة وجود ولاية الإنسان
و عروجه إلى درجات القرب، و اشتماله على الأسماء و الصفات الإلهيّة، و الاندكاك و الفناء في الذات الأحديّة. و ذلك أرقى مقام الإمكان. و وصول الممكن إلى هذا المكان هو أحلى ثمار شجرة الوجود و ألذّها. و هو عبارة عن مقام الإنسان الكامل، و حقيقة و سرّ الأنبياء العظام، و الأولياء الكرام، و الذوات المقدّسة للأئمّة المعصومين عليهم أفضل التحيّة و السلام. و أنّ أخبث الكلمات التكوينيّة الخبيثة هي حقيقة نهج الإنسان الناكب عن صراط الحقّ و سلوكه و أخلاقه و عقائده، فقد أفسد ثمرة الشجرة، و أضاع منهجه، و ألقى نفسه في حضيض الهوى، فأصبح بذلك كائناً نتناً. و العيّنة الماثلة لهذا الضرب من البشر هم الملحدون و المعاندون و المنافقون الذين لا يصغون إلى القول السديد الصائب، و يمضون أعمارهم في لجاجة أنفسهم و عُتوّ أفكارهم.
حقيقة الكلمة التكوينيّة الطيّبة وجود سرّ الإنسان الكامل
رابعاً: حقّ الكلمة الطيّبة وجود الإنسان المؤمن المتّصل بالله و معناه و سرّه. و العقائد الحسنة و الصفات الحميدة و الأخلاق و الأعمال الرغيبة هي كلمات طيّبة أيضاً، و هي من آثاره الوجوديّة. و من منظارٍ ما، يمكن أن نسمّيها كلّها كلمات طيّبات إجمالًا. و على العكس فإنّ حقّ الكلمة الخبيثة وجود الإنسان الكافر الجاحد المنافق العنود و معناه و سرّه. و العقائد السيّئة و الصفات الذميمة و الأخلاق و الأعمال غير الرغيبة هي أيضاً كلمات خبيثة من آثاره. و من منظور ما، جاز لنا أن نطلق عليها جميعاً كلمات خبيثات.
هذه رموز و إشارات يتسنّى لنا أن نستنتجها من مدلول الآية المباركة، و نستفيد منها.
و نلحظ في نظرة اخرى أنّ هذه الموجودات الذاتيّة و الكلمات الإلهيّة قد عُبِّرَ عنها بالكتاب. و كأنّ العوالم بأسرها هي كتاب الحقّ المتعال الذي كتبه بيد القدرة و العظمة. و نجد هذا التعبير في مواضع عديدة من القرآن
الكريم، إذ اطلق عنوان الكتاب على الموجودات التكوينيّة.
و من الطبيعيّ أنّ هناك فرقاً بين التعبير عن الموجودات الإلهيّة بالكلمة، و التعبير عنها بالكتاب. و هو أنّ لكلّ موجود وجهتين: وجهة حقّيّة و وجهة خلقيّة، و بعبارة اخرى، وجهة ربِّيَّة و وجهة عبديّة، و بعبارة مستعاضة، وجهة أمريّة و عالم أمريّة و وجهة عالم خلقيّة، و بكلمة بديلة، وجهة ملكوتيّة و وجهة ملكيّة، و بعبارة اخرى، من جهة صدوره و قيامه بذات المبدأ المتعال، و من جهة قبوله.
فتُطلق الكلمة على الموجودات التكوينيّة من الجهة الاولى، و يُطلق الكتاب عليها من الجهة الثانية. لأنّ الأوّل من جهة القيام و الصدور، أي:
مَعْلَم على المبدأ المتعال بواسطة وجوده، و الثاني: القابليّة من جهة الفيض، و الكثرة الماهويّة، و البروز و الظهور في العالم الخارجيّ.
كلام المرحوم الكمبانيّ في الفرق بين الكلمة و الكتاب الإلهيّ
و شرح المرحوم آية الله الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ الغرويّ ذلك في منظومته التي أنشدها في الحكمة و المعقول، فقال:
بَيْنَ الكَلَامِ مِنْهُ وَ الكِتَابِ | *** | فَرْقٌ لَدَى العَارِفِ بِاللُّبَابِ |
فَكُلُّ مَوْجُودٍ مِنَ الكَلَامِ | *** | مِنْ جِهَةِ الصُّدُورِ وَ القِيَامِ |
وَ الكُلُّ مِن حَيْثِيَّةِ القَبُولِ | *** | كِتَابُهُ عِنْدَ اولِى العُقُولِ |
وَ بِاعْتِبَارِ عَالَمِ الأمْرِ فَقَطْ | *** | كَلَامُهُ فَإنَّهُ بِلَا وَسَطْ |
وَ عَالَمُ الخَلْقِ كِتَابٌ مَحْضُ | *** | وَ الجَمْعُ في ذِي الجِهَتَيْنِ فَرْضُ |
وَ لِلْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ الجَمْعِ | *** | وَ الفَرْقِ۱ وَصْفَانِ بِغَيْرِ مَنْعِ |
فَبِاعْتِبَارِ الجَمْعِ بِالْقُرْآن | *** | يُدْعَى كَمَا في الفَرْقِ بِالفُرْقَانِ |
وُجُودُهُ الجَمْعِيّ في أعْلَى القَلَمْ۱ | *** | فِيهِ انْطَوَى كُلُّ العُلُومِ وَ الحِكَمْ٢ |
وُجُودُهُ الفَرْقِيّ وَ التَّفصِيلي٣ | *** | في غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ العُقُولِ |
وَ إن في دَائِرَةِ الوُجُودِ٤ | *** | قَوْسَيْنِ للنُّزُولِ٥ و الصُّعُودِ٦ |
وَ بالنَّبِيّ المُصْطَفَى وَ الآلِ | *** | قَدْ خُتِمَتْ دَائِرَةُ الكَمَالِ |
وَ أوَّلُ۷ المَرَاتِبِ العَقْلِيَّة | *** | هِيَ۸ الحَقِيقَةُ المُحَمَّدِيَّة٩ |
فَمَا وَعَاهُ قَلْبُهُ مِمَّا وَعَى | *** | يَكُونُ قُرْآناً وَ فُرْقَاناً مَعَا |
وَ غَيْرُهُ لَيْسَ عَلَى هَذَا النَّمَط | *** | بَلْ كُلُّ مَا اوتِيَ فُرْقَانٌ فَقَطْ |
وَ لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ كَمَا عُلِمْ | *** | يَقُولُ: اوتِيتُ جَوامِعَ الكَلِمْ۱۰ |
رسول الله و آله لهم المقام الجمعيّ في أعلى القلم
تبيّن ممّا قلناه أنّ حقيقة ذات الرسول الأكرم و آله تشتمل على الكَلِمِ الجَمْعيّ و الفَرْقيّ، أي: الوجود الجمعيّ في أعلى القلم، و هناك تنطوي جميع العلوم و الحِكَم، و ليس لسائر الأنبياء و المرسلين هذه المرتبة من
الوجود، و لم يبلغوا هذه الدرجة من الكمال، بل إن علومهم علوم كلّيّة في عالم الفرق، حيث أصاب كلٌّ منهم حظّاً من تلك العلوم تبعاً لاختلاف مراتبهم و درجاتهم.۱
و في ضوء ما قال محيي الدين بن عربي فإنّ مقام الرسول الأكرم نُقْطَةُ الوَحْدَةِ بَيْنَ قُوْسَي الأحَدِيَّةِ وَ الواحِدِيَّةِ، و نلحظ ذلك في كلامه الآتي:
اللهُمَّ أفِضْ صِلَةَ صَلَوَاتِكَ وَ سَلَامَةَ تَسْلِيمَاتِكَ عَلَى أوَّلِ التَّعَيُّنَاتِ المُفَاضَةِ مِنَ العَمَاءِ الرَّبَّانِيّ، وَ آخِرِ التَّنَزُّلَاتِ المُضَافَةِ إلى النَّوْعِ الإنْسَانِيّ، المُهَاجِرِ مِنْ مَكَّةَ - كَانَ اللهُ وَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيءٌ - ثَانِي إلى المَدِينَةِ وَ هُوَ الآنَ عَلَى مَا كَانَ.
مُحْصِي عَوَالِمِ الحَضَرَاتِ الخَمْسِ في وُجُودِهِ، «وَ كُلُّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ».۱
رَاحِمِ سَائِلِ اسْتِعْدَادَاتِهَا بِنَدَى جُودِهِ، «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ».٢
سِرُّ الهُوِيَّةِ التي هِيَ في كُلِّ شَيْءٍ سَارِيَةٌ وَ عَنْ كُلِّ شَيءٍ مُجَرَّدَةٌ.
كَلِمَةُ الاسْمِ الأعْظَمِ الجَامِعِ بَيْنَ العُبُودِيَّةِ وَ الرُّبُوبِيَّةِ.
نُقْطَةُ الوَحْدَةِ بَيْنَ قَوْسَي الأحَدِيَّةِ وَ الوَاحِدِيَّةِ.٣ الجامعة لمقام التجرّد من الهويّات، و الشاملة لجميع الهويّات.
أجل، يستفاد من مجموع ما أوردناه أنّ رسول الله و الأئمّة الطاهرين عليهم الصلاة و السلام هم أعظم الأسماء الإلهيّة، و هم اولو مقام جمع الجمع الحائزون على التجرّد و الانتشاء في الكثرة، و الجهة الأمريّة و الخلقيّة. و لمّا كانوا - حسب الفرض - أوّل الاسم المشتقّ النازل من مرتبة الذات فلا بدّ أن تكون لهم هذه الخصائص، على عكس سائر الأنبياء و المرسلين المستمتعين بجانب التفصيل و عالم الفرق و نشأة التعيّن فحسب.
الرسول الأكرم و أهل البيت كلّهم هم الكلمة الإلهيّة الطيّبة و كتاب تكوين الحقّ. و كلماتهم و علومهم المترشّحة منهم هي الكلمات اللفظيّة الطيّبة، و وجودهم و حقيقتهم هما الكلمات الكونيّة الطيّبة.
و من جهة عنوان القبول، هم الكتاب الإلهيّ المبارك. كلامهم هو الكتاب اللفظيّ، و وجودهم هو الكتاب الكونيّ. و هو ذلك الكتاب العظيم
الخطير الشامل لمجموع الجمع و الفرق، أي: القرآن و الفرقان الإلهيّ.
إنّهم أصحاب قرآن بنحو الجمع اعطوه في لحظة واحدة و ليلة واحدة، و أصحاب فرقان أيضاً نزل خلال ثلاث و عشرين سنة تدريجيّاً.
و في هذا القرآن و الفرقان الكتابين العظيمين المشتملين على مجمل الحقّ سبحانه و تفصيله نلحظ عنوان اللفظ و وجود المدخليّة. فهم بعلومهم حائزون على القرآن العلميّ من حيث المَلَكَة و بساطة النفس، و بوجودهم حائزون على القرآن التكوينيّ من حيث الصورة الذهنيّة.
و هم بعلومهم أيضاً حائزون على الفرقان العلميّ من حيث المَلَكَة و بساطة النفس، و بوجودهم حائزون على الفرقان التكوينيّ من حيث الصورة الذهنيّة و المثال.
أجل، إن عندهم كلّ شيء. «آنچه خوبان همه دارند تو تنها داري!».۱
وراثة الإمام الصادق العلوم الكلّيّة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله
و يتبيّن في هذا الكتاب المبارك، الذي يتناول علوم الأئمّة و علوم شيعتهم و يتعرّض لتقدّمهم في جميع العلوم و تأسيسهم لها، مدى كُنْه المكنونات العلميّة لُاولئك السادة الكرام و الموالي العظام، و هو فوق فكر الإنسان و عقله و درايته. و قد افيض عليهم من أعلى نقطة القلم البسيط و أرفع ذروة العلم البحت.
و تحدثّنا أخيراً بإجمال عن علوم الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين و تأريخهم. و استعرضنا ذلك بنحو مقتضب اعتباراً من مولى المتّقين و إمام الموحّدين و أمير المؤمنين حتى الإمام السجّاد زين العابدين، و من الإمام محمّد الباقر حتى الإمام الحسن العسكريّ، و المهديّ قائم
آل محمّد عليهم السلام.
بَيدَ أنّه كان مناسباً أن نتوسّع في الحديث عن صادق آل محمّد جعفر بن محمّد عليهم السلام جميعاً، إذ إن بحثنا يحوم حول موضوع العلم، مع اعترافنا و إقرارنا بدءاً أنّنا هيهات أن نقدر على تصفيد ذلك الوجود الملكوتيّ في قالب هذه العبارات الملكيّة! أو نستطيع أن نحيط بوجوده الأمريّ و الخلقيّ بأفكارنا! أو ندنو من أقرب نقطة من نقاط تحليقه و عروجه، على جناح طائر الغيرة العلميّة الطموح!
أ ما تلاحظون أنّنا وضعنا لهذه الدروس في هذه البحوث الشريفة العنوان الآتي: «المدرسة العلميّة الرفيعة للإمام جعفر الصادق عليه السلام مصدر إشعاع دائم على ربوع المعمورة»؟
و لكن هل بمقدور هذا العنوان أن يعطي الإمام حقّه كما ينبغي؟! و هل نستطيع وحدنا أن نضطلع بهذه المهمّة في هذه البحوث؟! هَيْهَات! هَيْهَات!
هل يمكننا أن نقول: إن علوم الإمام الصادق عليه السلام كانت أكثر من علوم سائر الأئمّة؟! أبداً، و حاشا، و كلّا. و لكن لمّا كانت الظروف الزمنيّة و الإمكانات الكثيرة المتاحة تستلزم أن يُظهر الإمام علومه، لهذا كانت علومه أكثر من غيره.
عمر الإمام الصادق الطويل أحد البواعث على ظهور علومه
أولًا: أحد العوامل المهمّة طول عمر الإمام عليه السلام، إذ كان عمره ثماني و ستّين سنةً.۱ فقد ولد عليه السلام سنة ۸۰ هـ،٢ و توفّي
بالمدينة سنة ۱٤۸ هـ بسمّ المنصور الدوانيقيّ.
و هذا العمر المبارك يتيح الفرصة للإمام عليه السلام أكثر حتى يُدرّس و يُعلِّم علومه الباطنيّة. و كانت له مجالس درس و تعليم في المدينة المنوّرة خلال ثلاثين سنة تامّة. و من الواضح أنّ الفترة التي درّس فيها الإمام عليه السلام و تعلّم خلالها الناس كانت فترة طويلة. و أنت خبير بأنّ
الإمام عليه السلام لو لم يُستَشهد في ذلك العمر، و عمّر ثمانين سنة أو تسعين أو أكثر. و واصل نهجه في التفسير و الحديث و العلوم الغريبة و الأسرار الكونيّة و الأحكام و السياسات و المعاملات و التأريخ و الأخلاق و العرفان و غيرها، فما ذا كان سيحدث في العالَم؟! و كم كنّا نرفل في علوم جمّة قد حُرمنا منها بسبب اخترام عمره الشريف!
إن العلوم التي وصلت الينا من الإمام محمّد الجواد عليه السلام قد انتهت بوفاته و هو في الخامسة و العشرين من العمر. فقد وُلد عليه السلام سنة ۱٩٥ هـ، و استُشهد بسمّ المعتصم سنة ٢٢۰ هـ. فهل يتسنّى له خلال هذا العمر القصير أن يدرّس الناسَ العلوم التي درّسها الإمام الصادق عليه السلام في غضون ثلاثين سنة أمضاها في التدريس فحسب؟!
كما أنّ العلوم التي وصلت الينا من الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام قد انتهت بوفاته عليه السلام و هو في الثامنة أو التاسعة و العشرين من العمر. فقد ولد سنة ٢٣۱ أو ٢٣٢، و استشهد بسمّ المعتمد العبّاسيّ سنة ٢٦۰ هـ. فهل كان بمقدوره أن يعلّم و يدرّس خلال ٢۸ أو ٢٩ سنة عاشها من العمر ما تمّ تعليمه و تدريسه خلال ٦۸ سنة؟!
و كذلك فإنّ العلوم التي وصلت الينا من الإمام عليّ الهاديّ عليه السلام قد انتهت بوفاته و هو في الأربعين أو الثانية و الأربعين من العمر. فقد وُلد عليه السلام سنة ٢۱٢ أو ٢۱٤، و استُشهد بسمّ المعتزّ العبّاسيّ سنة ٢٥٤ هـ. فهل تفى ٤۰ أو ٤٢ سنة بعمل ٦۸ سنة؟!
كما أنّ العلوم التي وصلت الينا من الإمام الرضا عليه السلام قد انتهت بوفاته و هو في الخمسين أو الخامسة و الخمسين من العمر. فقد وُلد عليه السلام سنة ۱٤۸ أو سنة ۱٥٣، و استشهد بسمّ المأمون العبّاسيّ سنة ٢۰٣ هـ.
و كذلك كان عمر الإمام محمّد الباقر عليه السلام ٥۷ سنة، أو ٦۰ سنة؛
و عمر الإمام زين العابدين عليه السلام ٥۷ سنة؛ و عمر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ٤۸ سنة؛ و عمر الإمام الحسين عليه السلام ٥۷ سنة.
و أطولهم عمراً - ما عدا الإمام الصادق عليه السلام - هو النبيّ الأكرم و أمير المؤمنين عليهما الصلاة و السلام، إذ عمّر كلٌّ منهما ٦٣ سنة.
يضاف إلى طول عمر الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أنّ في السنين الأخيرة منه خاصّيّة غير موجودة في السنين الاولى أو الوسطى منه.
و هي أنّ السنين الأخيرة من عمر كلّ عالم محقّق متتبّع أكثر قيمة من السنين الاولى، كما أنّها أكثر ثماراً من حيث القدرة على العمل و قيمته.
ذلك أنّها سنون العطاء و الثمر و رجوع الناس إليه و استفادتهم منه. و كلّ عالم خبير بصير قد صنّف كتبه في أواخر عمره، لا في أوائله و لا في أواسطه. و إذا عمّر الكتّاب و المتتبّعون، فإنّ دائرة كتاباتهم تتّسع، و حجم تاليفاتهم يزداد، و نطاق تربيتهم للطّلاب يكبر و يتسامى. مثلًا كان المجلسيّ و السيّد هاشم بن سليمان البحرانيّ و السيّد ابن طاووس من المعمّرين، لذلك كانت كتاباتهم كثيرة. أمّا الشريف الرضيّ فلم يترك آثاراً جمّة تلك العلوم الواسعة، و لو كان قد عمّر كثيراً لبلغت آثاره آثار أخيه الشريف المرتضى.
و قد تربّع الإمام جعفر الصادق عليه السلام على كرسيّ التدريس و التعليم ثلاثين سنةً. أي: منذ الثامنة و الثلاثين حتى الثامنة و الستّين من عمره. و في تلك الفترة بالذات كان الناس يأتون من شتّى الآفاق البعيدة، و يحطّون رِحالهم في المدينة للتزوّد من دروس الإمام عليه السلام، فذاع صيته. و ما هي إلّا السنون الأخيرة المباركة من العمر حيث تؤتي الشجرة المثمرة اكلها.
و ثانياً: كانت حرّيّة القلم و التعبير عن الرأي، و عدم التقيّة النسبيّة
من العوامل المهمّة التي تركت بصماتها على تعاليم الإمام عليه السلام. أمّا في عصور الأئمّة الذين سبقوه أو جاءوا بعده فقد كانت الحكومات متشدّدة إلى درجة أنّها صادرت كلّ ضرب من ضروب الحرّيّة. حتى نلحظ في عصر الإمام محمّد الباقر عليه السلام وجود ضغوط شديدة أيضاً، و لم يبلغ الأب مع بسطته ما بلغه الابن في اتّساع نطاق التعليم.
أسباب تسمية التشيّع بالمذهب الجعفريّ
و كان الشيعة في أغلب أوقات إمامة الصادق عليه السلام يتمتّعون بحرّيّة أكثر نسبيّاً في نقل الحديث و سائر العلوم. و يعود هذا إلى سببين:
الأوّل: ضعف الحكومات المروانيّة التي أشغلها التناحر فيما بينها في مناطق شتّى، فلم تجد فرصة كبيرة للتضييق على القطب الوحيد المناوئ لها، و هم الشيعة.
الثاني: اشتباكات العبّاسيّين مع الأمويّين، و الحروب الطويلة التي دارت بينهما، و انتصارهم عليهم، ثمّ انشغالهم بتوطيد دعائم حكومتهم في نقاط مختلفة من العالم الإسلاميّ. لهذا لم يجدوا مجالًا للاشتباك مع العلويّين و الشيعة الإماميّة. و هذان السببان هما اللذان ساعدا الإمام الصادق عليه السلام على بثّ العلوم المختلفة غير المنشورة و شرحها و تفسيرها و تأويلها ببالٍ رخيّ، و على إتحاف تلاميذه و غيرهم بمطالب بسيطة و مجرّدة، و إغناء طلّاب العلم و اولي الفهم و الكياسة و الدراية بُدرَرٍ ثمينة نفيسة يتيمة لم يظفر بها أحد.
من هنا قال البعض: هذا هو الذي أفضى إلى تمذهب الشيعة بالمذهب الجعفريّ و تسميتهم بهذا الاسم، إذ استطاع الإمام عليه السلام خلال برهة من الزمن أن يبيّن روايات جمّة، و لهذا سمّي المذهب بالمذهب الجَعْفَرِيّ.
و يظهر من التأمّل أنّ هذا الوجه لا ينبغي أن يكون صحيحاً، لأنّ
كثرة الروايات لا تخصّص المذهب. فقد نُقلت عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام روايات كثيرة، فلم يعرف المذهب الشيعيّ بالمذهب الباقريّ.
و قال بعض آخر: لمّا ارسيت دعائم المذهب الإماميّ الاثني عشريّ في عصر الإمام، و نبغ المتكلّمون في الولاية و إمامة الأئمّة الاثني عشر المعصومين يومئذٍ، و وطّد عليه السلام قواعد الولاية و اسسها، لذا عُرف المذهب بالمذهب الجعفريّ.
و هذا غير سديدٍ أيضاً، إذ إن اصول الولاية حسب الروايات مذكورة في كلّ عصر، و مفصّلة في الروايات. و تفصيلها الأكثر في أيّام الإمام عليه السلام لا يستلزم التسمية بالمذهب الجعفريّ.
و توضيح ذلك: أنّ مذهب اسم مكان و معناه محلّ الذهاب. تقول العرب: المَذْهَبُ إلى المَاءِ وَ إلى الكِلَاءِ. و المَذْهَبُ إلى شَرِيعَةِ الشَّطِّ.
و لمّا كان طريق الوصول إلى الدين الإسلاميّ ذا مسالك مختلفة، و كان كلُّ عالم من علماء العامّة قد تلمّس طريقاً معيّناً نحو الدين كالمذهب الحنفيّ، و المذهب المالكيّ، و المذاهب الحنبليّ، و المذهب الشافعيّ، فإنّ الطريق الذي اختاره الإمام الصادق عليه السلام نحو ذلك الدين القويم عُرف بالمذهب الجعفريّ.
و لم يكن الدين ذا مذاهب مختلفة في عصر الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله. فالجميع كانوا ينهجون نهج رسول الله صلّى الله عليه و آله و يتّبعونه و يكتفون بظاهر الأحكام. و كانت شريحة خاصّة من المسلمين تعرف بالشيعة و تتحرّك في طريق مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه السلام عملًا بأمر رسول الله صلّى الله عليه و آله. و كان هولاء واعين لروح الولاية، واقفين سرّ النبوّة، مطّلعين على حقائق الأحكام الإسلاميّة و أسرارها و رموزها و معانيها مضافاً إلى اطّلاعهم على ظاهرها.
و كانوا عاملين بالسنّة النبويّة الشريفة، حيث أوجب رسول الله صلّى الله عليه و آله اتّباع أمير المؤمنين عليه السلام، و أخبرهم أنّه وصيّه و خليفته.
تعبّد الناس بفقه العامّة حتى عصر الإمام الصادق عليه السلام
و بعد وفاته صلّى الله عليه و آله، و دوران الخلافة حول محور آخر، و عزل أمير المؤمنين عليه السلام، و تربّع القوم على أريكة الحكم، و هم لم يعرفوا إلّا ظاهر الأحكام، و لم يدركوا من الإمامة و الخلافة إلّا الرئاسة و التقدّم الظاهريّ و الإمارة، اتّخذ الدين طابع القوانين و الاصول الظاهريّة المتّسمة بسماتهم، و سار معظم الناس على ذلك النهج حسب قاعدة النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ. أمّا الاصول و الاسس الظاهريّة و الباطنيّة فكانت لأمير المؤمنين عليه السلام. و أتباعه الذين عُرفوا بشيعته كسلمان الفارسيّ، و أبي ذرّ الغفاريّ، و عمّار بن ياسر، و المقداد بن الأسود، و حذيفة بن اليمان و غيرهم. و قد كانوا شيعته حقّاً، و كانوا يسيرون سيرته في الأحكام و التفسير و القرآن و المشورة في مهامّ الامور. و مع أنّ أمير المؤمنين عليه السلام تنازل عن حقّه حفاظاً على كيان الإسلام، إلّا أنّه كان يُنير الطريق للطرف المخالف، و يغيثهم في علاج مشاكلهم العلميّة و الفقهيّة. و كان يحضر في صلاتهم رغبة منه في عدم شقّ عصا المسلمين. و خلاصة الأمر أنّه كان يماشيهم في امورهم برمّتها.
و كان الحجّ، و الجهاد، و الصلاة، و الزكاة، و سائر الامور تُمارس حسب ما يريده الخليفة المتحكّم، و هو الذي يصدر الأوامر و له الفتيا و الرأي الأخير. و هو و أمثاله لم يعلموا بجميع المسائل و خصوصيّاتها. و كم أخطأوا! و كم غيّروا و بدّلوا في موضوعات مختلفة حسب مشتهياتهم.
و لم يعدّوا خلاف العمل بظاهر القرآن منكراً، و كانوا يعملون خلاف السنّة النبويّة، و يجتهدون في مقابل النصّ صريحاً على رؤوس الأشهاد.
و يثبّتون هذه الضروب من الخلاف و يُبقونها بوصفها رأي الخليفة و الإمام.
و لهذا لوحظ رأي الخليفة و قد حلّ محلّ القرآن و تعاليم النبيّ و وصيّته و سنّته و منهاجه. و كان جميع الناس يهملون العمل بالقرآن و السنّة في مواطن التَّرك هذه، و يعملون وفقاً للأوامر الصادرة المقضيّة من مقام الخلافة (الخلافة الجائرة القاهرة الغاصبة المزيّفة).
إن حروب الخلفاء و الغنائم و الأموال الطائلة التي كانوا يأتون بها، و شوكة الحكم، و ابّهة الإمارة، و قعقعة السيوف و الأسلحة، و نظائر الرماح و الأسنّة، و همهمة الغُزاة، و حمحمة الخيول، و إثارة الغبار باهتزاز أعلام الامراء، و رايات القادة، كلّ ذلك قد أعمى الأبصار، و أصمّ الأسماع، و أدهش العقول و سلبها القدرة على التعقّل و الإدراك، و صادر منها التفكير و التدبير.
و مَن يأتي فيقايس أمر الخلاف الصادر من السلطان مالك الرقاب، بالقرآن أو بالسنّة النبويّة؟! أو - في الأقلّ - يقدّم احتمالًا ضعيفاً في بطلانه، و يرى و يسمع و يفكّر و يشهد الخلاف بعين بصيرته؟ و يَدَع الخلاف، و يتحرّك حسب الحقّ و قول الحقّ و أمر الحقّ و سنّته و منهاجه و منهجه؟
و مَن يذهب إلى عليّ عليه السلام؟ و من يبحث عن ذلك الرجل المهيض الجناح، المعتزل في منزله، الحامل معوله و مسحاته، زارع النخل و ساقيه؟ و من يسمع كلامه الذي هو حقّ و عين الحقّ، بل يدور الحقّ حيثما كانت حقّانيّة عليّ؟ و مَن يسترضيه و يستميله؟ و من يقدّم رأيه الحصيف السديد على هذه الكبكبة و الدبدبة؟ و يسمعه يقول: كلّ كلام عدا كلام الله و رسوله باطل، و كلّ أمر صادر من أيّ جهة باطل مرفوض إذا لم يتطابق مع آية من آيات القرآن؟
و لم يكن في المدينة غير الاثني عشر الذين جاءوا إلى المسجد بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه و آله، و تكلّموا و أدانوا أبا بكر،۱ و قليل من أتباعهم.
لقد جرى هذا الأمر بهذا النحو. و ظهر خلال خمس و عشرين سنة من الحكم الأسود المظلم للخلفاء الثلاثة، أي: خلال ربع قرن. و ألِفَ الناس تلك الأحكام و المناهج و مردوا عليها إلى درجة أنّ مولى الموالي الإمام بالحقّ عند ما تقلّد الأمر و أراد أن ينسف تلك البدع الباطلة التي اخترعها عمر عجز عن ذلك، إذ إن عمر كان قد أضفى على أعماله صبغة دينيّة، و كان الناس يقدّسونه كالسامريّ، و يعدّون معارضته معارضة للإسلام و النبيّ. و لم يعلم المساكين أنّ هذا المحتال المتلبّس بجلد الذئب قد جاء لاقتناص الحمل، و قد اتّخذ الدين وسيلة للتربّع على أريكة الخلافة و العرش. و أنّ نداءه الذي عليه مسحة الحقّ هو نداء الشيطان و لا تحمل صحيفة دعوته إلّا عنوان الباطل. و لقد خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أوّل خلافته بالكوفة، و قال كما جاء في خطبة الوسيلة:
) لقد عملت الولاةُ قبلى بامور عظيمة [بدع عمر] خالفوا فيها رسول الله صلّى الله عليه و آله متعمّدين لذلك؛ و لو حملتُ الناس على تركها و حوّلتُها إلى مواضعها التى كانت عليها على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله، لتفرّق عنّى جُندى حتّى أبقى وحدى).
و سارت الامور على هذا المنوال حتى عصر عثمان، ثمّ معاوية و يزيد و مروان و المروانيّين بالشام، حتى وصل الدور إلى العبّاسيّين.
و الجميع كانوا على هذه الوتيرة. و عمل الناس قاطبة بسنّة الخلفاء الاوَل، حتّى نلحظ أنّ جماعة كانت ترى عثمان فاسداً لكنّها ترى أنّ الخليفتَين قبله كانا على الحقّ و أوامرهما واجبه التنفيذ إلى يوم القيامة. و كانت تعتقد بذلك و تعمل به.
و كان بين جند أمير المؤمنين عليه السلام مَن يقال لهم جميعاً شيعة عليّ، سواء في الجمل، أم في صفّين، أم في النهروان. و يراد من ذلك أنّهم كانوا مخالفين لعثمان - أي شيعة عليّ في مقابل شيعة عثمان - و كان معظمهم يعتقد بخلافة أبي بكر و عمر. و يسير على سنّتهما. و لم يستطع أمير المؤمنين عليه السلام أن يعيد الجميع إلى نصاب الحقّ.
و على هذه الشاكلة كان شيعة الإمام الحسن و الإمام الحسين بالكوفة، إذ كانوا يقولون بحقّانيّة عليّ و بطلان عثمان، و يرون عليّاً عليه السلام هو الخليفة الثالث بالحقّ.
و هكذا الأمر في عصر الإمام السجّاد عليه السلام، حتى أنّ الفقهاء السبعة في المدينة كانوا يفتون على فقه السنّة في حين كان اثنان منهم شيعيَّين، و هما سعيد بن المسيِّب، و القاسم بن محمّد بن أبي بكر.
و مع أنّ الحقائق كانت تظهر شيئاً فشيئاً في عصر الإمام محمّد الباقر عليه السلام بسبب اتّساع نطاق الرواية و التفسير و الحديث و العرفان في مدرسته العلميّة، بَيدَ أنّ الامور لم تنكشف فجأة، فيستبين أنّ حقيقة الإسلام و الدين و النبوّة و الخلافة و الإمامة هي شيء آخر لا خلاق للناس منه.
دور الإمام الصادق عليه السلام في عرض الاسس الإسلاميّة
و كان الإمام الناطق بالحقّ جعفر بن محمّد الصادق عليه أفضل الصلاة و السلام أوّل من كشف سرّ الولاية و حقيقة النبوّة لعامّة الناس.
و مُنيَ الناس بالشبهة و الخطأ في أمرين خطيرين بعد وفاة رسول الله
صلّى الله عليه و آله و سلّم و حادثة سقيفة بني ساعدة. و هما:
الأوّل: أمر الإمامة و الولاية و الإمارة، إذ خالوا أنّ كلّ من مسك زمام الامور فهو الوالي الذي تجب طاعته. سواء كان تقلّده الأمر بالتسلّط و الخداع، أم بالاختيار، أم بالوصيّة، أم بالشورى، أم بالأوامر التحكّميّة التعسّفيّة. فلهذا كانوا يرون أنّ يزيد بن معاوية هو الخليفة المنصوب من قبل أهل الحلّ و العقد بنصب معاوية و المُغيرة بن شُعبة و جلاوزتهما، و كانوا يعملون حسب هذا المنطق، و يرتّبون آثاراً شرعيّةً حقيقيّة عليه.
الثاني: في أخذ معالم الدين و السنّة و العلوم الظاهريّة و الباطنيّة و التفسير و العرفان - و الخلاصة جميع المدركات الإنسانيّة و البشريّة - فكانوا يعتقدون أنّ مصدر هذه الأشياء كلّها هم الأمراء الذين تسلّموا مقاليد الامور حتى لو كان ذلك بالقوّة.
و على هذا الأساس كانوا يراجعون حكّام عصورهم لحلّ مسائلهم العلميّة و علاج معضلاتهم و مشكلاتهم. و يأخذون مسائلهم الشرعيّة و صلواتهم و صيامهم و جهادهم و سائر شئونهم الدينيّة و السياسيّة و الاجتماعيّة من تلك المصادر، و يتصرّفون حسب آرائهم و نظريّاتهم.
أي: كان الحكّام يموّنون الامّة في مجالين هما: الإمارة و الحكومة، و العلوم و الأفكار.
و هذان الأمران كلاهما يعاكس النهج الإسلاميّ المبين تماماً. ذلك النهج الذي يدعو إلى الحقّ دائماً على أساس القرآن و السنّة، و يحذّر عامّة الناس من اتّباع الباطل.
أمّا بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه و آله حيث انحرف محور الولاية عن قطبه، و انقلب كلّ شيء، لم يجد المسلمون أميراً بالحقّ، و لم يحظوا بدرس و تعليم مستقيم. و شاع هذا الأمر بين الطبقات و الأجيال المختلفة من
الناس في كلّ زمان و مكان. و استحكم حتى لم يجرؤ أحد على رفيع عقيرته ضدّه.
و بعبارة اخرى: اتّبعت الامّة الباطل سنين طويلة و هي تعتقد أنّه هو الحقّ، و عرفت الباطل على أنّه هو الحقّ. و كانت هاربة من الحقّ باعتقادها الباطل.
مَن كان يستطيع أن يرفع صوته في هذه المصيبة الكبرى، فيعلن بصراحة بطلان جميع الأجهزة و الحكومات؟ إنّه الإمام الحسين عليه السلام الذي توكّأ على السيف و نهض بذلك الوعي، و أنذر بقطع دابر الظلم، و أيقظ العالم، و دوّى صوته بالعدل و الحقّ و الصدق في عالم البشريّة من خلال خطبه و كلماته المتكرّرة. و الآخر هو الإمام الصادق عليه السلام الذي تأسّى بتلك التضحية العظيمة، و مارس دوره على امتداد ثلاثين سنة بعناء لا يوصف، و كشف سرّ تلك التضحية، و أصحر بروح الدين و حقيقة الإسلام التي كانت قد دُفنت تحت ركام الجهل و جباله الراسيات.
و تضافرت تضحية سيّد الشهداء عملًا، و تضحية الإمام الصادق علماً، و تعاضدتا حتى وقفنا هذا اليوم - و للّه الحمد و له الشكر - على حقائق الدين و النبوّة و سرّ القرآن و النبوّة و الولاية. أو بعبارة أصحّ: أنّ تضحية سيّد الشهداء بالسيف، و تضحية الإمام الصادق باللسان عاملان قويّان قد تكاتفا و دعم أحدهما الآخر، حتى أبدى الإسلام وجهه المتألّق الزاهر من بين الغمائم المظلمة السوداء.
لقد نطق آية الله المظفّر حقّاً إذ قال: فما أصدق القائل: إن الإسلَامَ عَلَوِيّ وَ التَّشَيُّعَ حُسَيْنِيّ!۱ أمّا أنا فأقول: إن الإنسَانِيَّةَ وَ الإسْلَامَ وَ التَّشَيُّعَ
حُسَيْنِيّ السَّيْفِ، وَ صَادِقِيّ القَلَمِ وَ البَيَانِ.
عمل الإمام الصادق عليه السلام إبانة الإسلام الحقيقيّ
أجل، إن العمل الذي قام به الإمام الصادق عليه السلام هو أنّه عرّف العالَم الإسلام الحقيقيّ من خلال علومه، و أزاح الصدأ عن وجهه المتغيّر.
و عرض الشريعة الحقّة كما هو حقّها. و يا لصعوبته من عمل! بعد أن تغيّرت الاصول و الفروع و تبدّلت، فألفت ذلك الامّة بأسرها عالمِها و جاهلها، و عاليها و دانيها، و كبيرها و صغيرها، و شيخها و حَدَثها على امتداد قرن من الزمان. و ها هو الإمام عليه السلام يقوم بدوره، و يرشد الجميع بلا استثناء (إلّا شرذمة قليلة) لا عن طريق التعبّد - فالتعبّد هنا لا يُغني شيئاً - بل عن طريق المنطق و البرهان، و القلم و البيان، و الهداية إلى كيفيّة الاستدلال بآيات القرآن و أخذ الأحكام من الفرقان، و يأخذ عليه السلام بأيدي الناس إلى ذلك الدين الأصيل، و يبدّد عَقْدَ الأفكار و المناهج و المذاهب التي كانوا يسلكونها للحصول عليه، و دلّ على أنّ الطريق الوحيد للوصول إلى الدين القويم هو هذا فحسب.
لهذا فإنّ الطريق الذي نهجه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، و أرشد إلى ذلك الدين كالرائد الذي يقود القافلة إلى المكان الخصب و الماء و الكلأ في الصحراء القاحلة هو الطريق الذي هدى به الامّة إلى دين جدّه المصطفى صلّى الله عليه و آله و شريعته المرسلة من الله تعالى.
من هنا، عُرف مذهبه الذي كان أوّل المذاهب بالمذهب الجعفريّ.
و لا يتوهّم الواهمون أنّه عليه السلام قد أسّس ديناً جديداً، أو أضفى على الإسلام طابعاً خاصّاً، كما ذهب إلى ذلك أحمد أمين بك المصريّ مع شدّه احترامه و تقديره للإمام عليه السلام، فإنّه يعتقد أنّه قد أضفى على الإسلام صبغة خاصّة، و المذهب الجعفريّ بمعنى الدين الإسلاميّ مصطبغ بهذه
الصبغة.۱ و هذا وَهْم منه، و قد ذهب مذهباً مغلوطاً في هذا الضرب من
الكلام.
أجل، لمّا كان الإسلام الصحيح عند أحمد أمين هو الإسلام الذي يدين به سلاطين الجور و الطغيان المتربّعون على عرش الاعتساف و العدوان، و أنّه هو المنهاج، فلا جرم أنّه يعتقد بتلوين الإمام الصادق عليه السلام الدين الأصيل و الشريعة المرسلة بصبغة خاصّة و لون مضاف. و يرى
أنّ هذا المذهب غصن مقطوع عن أصل الإسلام بما يحمله من خاصّيّة معيّنة.
بَيدَ أنّ الأمر ليس كذلك، و شتّان ما بين كلامنا و كلامه. فعلوم الإمام عليه السلام التي مضى عليها ثلاثة عشر قرناً، و هي مسطورة في الكتب تدلّ على ما نقول. فكلّ ما قاله الإمام، و كتبه، و درّسه هو تفسير و تبيان للكتاب و السنّة، لم يفرض عليهما شيئاً، و لم ينقص منهماً أو يزيد عليهما شيئاً، و هذا ما تدعمه الأدلّة الداخليّة و الخارجيّة.
هذه هي رسالة الإمام الصادق عليه السلام على امتداد ثلاثين سنة.
و إذا كان قد هدَّم منهاجاً قديماً ينهجه العامّة بما كان يعرضه من تعاليم، فهذا لا يعني إحباطاً لأمر صحيح و إبداءً لأمر باطل و إضفاءً لصبغة جديدة، بل يعني كسراً لكوز متصدّع متلوّث كان يُسقي الناسُ ماءَهُ على أنّه ماء لذيذ طيِّب، و استبداله بكوز جديد فيه ماء زلال بارد لذيذ غير آسن، و سقى الامّة منه.
و محصّلة عمل الإمام عليه السلام إزالة الطرق الباطلة المنحرفة التي فرّقت بين الناس و الدين. و من الطبيعيّ أنّ يبدو عمل الإمام في المنهاج و الاسلوب سواء في تعريف الولاية و مصدر الحكم و الإمارة، أم في تعريف العلوم و الأسرار و الحقائق و الأحكام شيئاً جديداً في أوّل نظرة. و هو الشيء الذي يظنّه أحمد أمين صبغة دينيّة جديدة، و ظنّه خائب. فجِدَّة هذا المنهاج تعود إلى اندراس الطريقة التي اخذ بها الإسلام الصحيح لا غير.
و هو ما يراه العامّة شيئاً جديداً، بَيدَ أنّه ليس إلّا روح رسول الله، و نَفَس القرآن بلا شائبة، و قد تجلّيا في سيرة الإمام الصادق عليه السلام و اسلوبه كلّه.
و بِلُغَة العلم، فقد كان لعمل الإمام عنوان الكشف عن الدين الصحيح،
لا عنوان نقل الإسلام بشيء مضاف و أثر مخصوص.
و هو يماثل بحث الكشف و النقل الذي يتناوله الفقهاء العظام في باب النكاح الفضوليّ، أو البيع الفضوليّ: هل تقرّ إجازة طرف النكاح أو البيع، أو تنقل المال إلى الطرف المعهود، فيتحقّق حينئذٍ عمل إجازة النقل؟ أو أنّ إجازة عمله كشف عن تحقّق النكاح، أو انتقال المال في البيع منذ صدور الصيغة أوّل الأمر؟ يرى القائلون بالكشف أنّ الشقّ الثاني هو الصحيح.
و إنّما ذكرنا هذا التشبيه هنا لمجرّد التنظير لإنارة الأذهان، و إلّا فإنّ هذا الموضوع يختلف كثيراً عن باب الكشف و النقل في المعاملات الفضوليّة.
أجل، يستبين ممّا ناقشناه كم كان جهاد الإمام الصادق عليه السلام في هذا المجال عظيماً! فقد كان مكلّفاً أن يُتمَّ هذه الرسالة الإلهيّة. و هذا يستلزم وقتاً كبيراً يمتدّ شهوراً بل عشرات السنين، إذ كان للإمام عليه السلام أن يكشف عن آيات القرآن كلّها، و يوضّح و يفسّر و يشرح منهج جدّه و سنّته، و يبيّن مواضع الخلاف جميعها، و ينبّه على كافّة ضروب الاعوجاج و الانحراف و الانتهاك التي قام بها اولئك الرجال الذين هم كآظار أعطف من امّهات، و يُفصح عن صواب عمل أجداده الكرام مع تحمّل الشدائد القاصمة للظهر، ليستبين حقّ الموضوع. و هذا مطلب لا ينتهي بحديث واحد و لا بمائة حديث، و لا بمجلس واحد، و لا بمائة مجلس، بل يحتاج إلى جلسات ممتدّة على الشهور و السنين. و كان الإمام عليه السلام ملتفتاً إلى هذه المهمّة و عبء هذه المسئوليّة، فأعدّ نفسه لهذا الأمر الخطير.
و على هذا الأساس لم يقبل عليه السلام الخلافة الظاهريّة التي كانت
عند البيعة من نصيب صاحب القباء الأصفر (المنصور الدوانيقيّ) بعد أخيه عبد الله السفّاح. و مع أنّ ثورة الشيعة كانت من أجل إمارة العلويّين و إمامتهم بَيدَ أنّ العبّاسيّين قبضوا على السلطة، أو بتعبيرنا الصحيح استلبوها أو اختطفوها، و لم يفسحوا المجال للعلويّين. و في ذلك الميدان كان الإمام الصادق عليه السلام هو الشخصيّة البارزة الوحيدة المؤهّلة للخلافة. و قد اعترف الجميع بهذا. و اعتذر عليه السلام عن تقبّل هذا المنصب، و لم يستعدّ لقبول بيعة الناس بالخلافة. و امتنع بشدّة و رفض رفضاً قاطعاً على الرغم من إصرار الامّة و أهل الحلّ و العقد في المدينة على ذلك.
من جهة اخرى، حذق العبّاسيّون و بايعوا عبد الله السفّاح، فتربّع على أريكة الحكم، و عُدَّ الإمام الصادق عليه السلام من رعاياه.
سبب امتناع الإمام عليه السلام عن قبول الخلافة مع أنّه كان حائزاً على مقامات و درجات الإمامة و أعلميّة الامّة
قد يُشكل البعض هنا فيقولون: لما ذا امتنع الإمام الصادق عليه السلام عن قبول البيعة؟! و لما ذا ترك الامّة المسكينة فريسة بِيَدِ الفراعنة و العفاريت و الجبّارين؟! و لِمَ تخلّى عن الاضطلاع بهذه المسئوليّة الإلهيّة؟!
إذا كان شرط الإمامة هو النصّ من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فقد أجمعت الامّة على أنّه منصوص عليه. و إذا كان شرطها وصيّة الإمام السابق، فقد أوصى الإمام محمّد الباقر عليه السلام له بالإمامة. و إذا كان شرطها هو الأعلميّة، فقد كان عليه السلام أعلم الامّة غير منازَع.
و حينئذٍ فالأرضيّة مُمهَّدة، و الامّة مستعدّة للقبول. و قام المسلمون في
خراسان بنسف صرح الاستبداد و الظلم الأمويّ لمصلحة العلويّين، و ألحقوا الهزائم بالأمويّين من خلال حروبهم المتوالية المستمرّة. أي: أنّهم قضوا على عدوّهم الوحيد السفّاك و خصمهم العنيد المستبدّ «بني اميّة» و مَن مَتَّ إليهم بصلة من قرابتهم و أتباعهم و شيعتهم. فهل هناك أفضل من هذه الفرصة؟ و هل ثمّة أنسب من هذا الوضع؟ و هل هناك إمكانيّات متاحة كهذه الإمكانيّات؟
و لو كان الإمام عليه السلام قد تقلّد أمر الخلافة، و أحقَّ الحقوق الضائعة، فهل هناك شيء أفضل من هذا العمل؟ و هل هناك أحسن من بسط العدل و تحرير الامّة الإسلاميّة من نير الطغيان؟ أ ليس من الأولى أن يهتمّ الإمام بشؤون الضعفاء و المعوزين الذين ضاعت حقوقهم خلال قرن من الزمان! أ ليس من الأمثل أن يُخرِج الامّة من نير الاستعباد و الاسترقاق الذي مارسه سلاطين الجور، و يمنّ عليها بالحرّيّة؟ أ ليس من الأفضل أن يجعل الجهاد مبتنياً على أساس جهاد رسول الله، و يصنع من العالَم كلّه عالماً إسلاميّاً؟ و هَلُمَّ جَرّاً فَأحْصِ ما شئتَ أن تحصيه من هذه الأسئلة!
و يبدو الجواب عن هذه الإشكالات و الأسئلة يسيراً نوعاً ما.
أولًا: رفض الإمام عليه السلام الخلافة مع ما كان يتمتّع به من فهم و دراية و كياسة و قدرة علميّة و ذكاء، و رفضه ليس سطحيّاً ساذجاً فيندم عليه، و يقول و هو يرى جرائم المنصور بامِّ عينيه: وَدِدتُ لو كنتُ قبلتُ الخلافة، و لم أدَعِ الامّة تعاني من المشاكل و الآلام.
و كان عليه السلام على تلك السجيّة حتى آخر عمره، و لم يُرَ متأسِّفاً على ما فات، مؤمِّلًا الراحة و الرخاء، مع أنّ المشاكل كانت تتفاقم يوماً بعد آخر في العصر العبّاسيّ، و جرائم المنصور قد فاقت جرائم غيره من الظالمين.
هذا الدليل مهمّ، لأنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان إذا لم ينطلق فيه من تدبّر في عاقبته و تفكير بالمصلحة، فإنّه يندم و يأسف إذا واجه آثاره السلبيّة. بَيدَ أنّ لا ندم على العمل الصحيح على الرغم من ازدياد المشاكل و المشاقّ على مرّ الأيّام.
ثانياً: كان الإمام عليه السلام يعيش في ذلك العصر و ما اتّصف به من خصائص و ما لابسه من أوضاع اجتماعيّة و ما كانت فيه من إمكانيّات و متطلّبات، أمّا الذي نلحظه من ذلك فهو شَبَحٌ لا غير، فقد كان يرى، و نحن نسمع. و هو كان في العين و الشّهود، و نحن في الأثر و الخبر.
و الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الغَائِبُ.
و الحال أشبه بواقف خارج الحلبة و هو ينادي: ابطحه على الأرض!
ثالثاً: كان عليه السلام يدرك جيّداً أنّه لو قبل البيعة فلا يعني ذلك أنّ العالم الإسلاميّ يخضع له و يسلّم و يطيع، و أنّه كان ينتظر أوامره ردحاً من الزمن، بل لكان على العكس من ذلك و لخالفه و حاربه أوّلًا حثالات الأمويّين المنبثّين في أرجاء العالَم، و لضحّوا حتى بآخر قطرة من دمائهم للحؤول دون اعتلاء حكومته.
ثمّ يأتي بعدهم العبّاسيّون ثانياً، الذين يرون أنفسهم أولاد عمّ النبيّ و وارثيه، فقد ظهروا بألف دليل و دليل، و ادّعوا وراثة المحراب و المنبر، و السلاح و السيف، و العصا و النصل، و العلم و الراية، كما رأينا و قرأنا في التواريخ و السير، و شاهدنا في الآثار و الأخبار أنّهم تربّعوا على العرش بهذه العناوين خمسمائة سنة، و أدانوا العلويّين بأباطيلهم و تُرَّهاتهم، و دعموا بيعتهم و إمارتهم و حكومتهم الغاصبة بأدلّة شاعريّة. و كان شعراؤهم ينشدون القصائد على هذا المنوال.
و لَمَا اكتفوا بإقامة الدليل و البرهان، بل لأظهروا طغيانهم بالسيف
و السنان. و حينئذٍ يقف الإمام عليه السلام حياته كلّها على الحروب، و يُمضي عمره و وقته لقمع المعاندين و المعارضين، ثمّ لا يُعْلَم في أيّ حرب يُسْتَشْهَدُ.
و لا ننسى بعض العلويّين المطالبين بالإمارة ثالثاً، فإنّهم يرفعون لواء المعارضة ضدّه. و ما عليه إلّا أن يقاتلهم أو يُسكتهم بتوليتهم الأمصار، أو بتفويض القضاء أو صلاة الجمعة و الجماعة إليهم، أو بجعلهم على بيت المال، و أمثال ذلك مكافأة لسكوتهم.
و لا يمكن أن نتصوّر الخيار الثاني لوليّ الله الذي كان يمارس أعماله على أساس الحقّ، أمّا الخيار الأوّل فإنّه يؤدّي إلى القتل الاعتباطيّ و ارتكاب المذابح في غير موضعها، و إتلاف النفوس في غير المسار الحقيقيّ.
و لو تغاضينا عن ذلك كلّه، فقد كانت للإمام عليه السلام مهمّة إلهيّة خاصّة تتمثّل في إحياء الشريعة المندرسة. و إذا فرضنا أنّه تمكّن من جميع أعدائه و معارضيه، و تقلّد الأمر، فغاية ما يستطيع أن يقوم به هو النظر في الشؤون العامّة، و فصل الخصومات و رفع المنازعات الشخصيّة، و الإفتاء في الحلال و الحرام. أمّا إغاثة الشريعة المندرسة و الدين المنقلب فلا تتحقّق أبداً، إذ ذكرنا أنّ ذلك يحتاج حاجة ماسّة إلى سنين طويلة من التدريس و التربية و التعليم و البحث و النقد و الحلّ و الإبرام. من هنا، لا بدّ أن يشمّر عليه السلام عن ساعد الجدّ و يستفرغ همّته لهذا الأمر الخطير، و يبذل وقته كلّه من أجل ازدهار مدرسة العلم و الفهم و البيان و القلم.
و لا يُقاس هذا الأمر من حيث الأهمّيّة بأمر الخلافة، فهو في درجة عالية من الأهمّيّة. و كان الإمام عليه السلام يرى نفسه بين أمرين: إمّا يقبل الخلافة و النظر في شئون ولاية الناس، و إمّا يرفض البيعة و يهتمّ بإحياء
الإسلام المدمَّر المندرس. فاختار الثاني لعظمته، إذ إنّه بمستوى أصل نبوّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله، و إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، و استشهاد سيّد الشهداء عليه السلام، و هذا الخيار الثاني يُسِرُّ حياة روح النبوّة و الولاية و سرّ الشهادة و إن استلزم مشاقَّ مرهقة و أفضى إلى فَقْدِ الحقوق الظاهريّة و الإمارة الدنيويّة. لكن هل تعلم أنّ تحمّل هذه المشاقّ يصبّ في مجرى المشاقّ التي عانى منها الرسول الأكرم و أمير المؤمنين، و أنّ فقد الخلافة و الإمارة لا يساوي عنده شروي نقير في مقابل المحافظة على ذلك الأمر العظيم بمنظار الإمام الذي لا يرى إلّا الحقّ و الواقع؟!
اختار الإمام عليه السلام الشقّ الثاني، و رفض الخلافة و الإمارة من أجل إقرار هذا الأمر الخطير، و استنكف عن الاقتراب إلى الجهاز الحاكم أيضاً، و خرج من نطاق الحكومة و الإمارة حتى كأنّ هاتين المفردتين لم تَرِدا في قاموسه قطّ، و كأنّ الله لم يمنحه ذلك المقام فيحقّقه عمليّاً إذا تطلّبت المصلحة. كان له بستان واسع في المدينة لاستقبال الوافدين عليه، و للتدريس و الإجابة عن أسئلة المتقاطرين عليه من شتّى الأنحاء. و وقف أيّامه و لياليه على المسائل و المناقشات و المناظرات العلميّة و جميع فروع الدراسة و البحث العلميّ ليتمكّن من القيام بأعباء المسئوليّة العظيمة المتمثّلة بعرض الدين القويم، و إرواء الناس السادرين من المنهل الفرات اللذيذ للآيات القرآنيّة و السنّة النبويّة. و هذا المنهل هو المذهب الجعفريّ، سلام الله على موجده و الذاهب إليه.
و كان هذا العمل مهمّاً خطيراً ذا جوانب متعدّدة إلى درجة أنّ الإمام عليه السلام قد زاوله على امتداد ثلاثين سنة تامّة إلّا الفترة التي جاء بها إلى العراق. يضاف إلى ذلك أنّ أعماله العلميّة الاخرى التي مارسها في رحلاته خارج المدينة كانت قائمة على هذا الأساس أيضاً.
و قد حقّق عليه السلام هدفه عبر تربية أربعة آلاف تلميذ في فنون مختلفة، و تاليف أربعمائة كتاب لأربعمائة مؤلِّف في اصول متنوّعة، و تفصيل حقائق القرآن و السنّة و تفسيرهما و تأويلهما. و سدّ طريق الجور و الاعتساف، الذي سلكه البلاط الحاكم و عملاؤه، من خلاف إراءة الأحكام المستدلّ عليها و القوانين الصحيحة. و فتح الطريق للناس العُمي الصُّمّ المطبوع على قلوبهم نحو ملكوت السماوات عبر الفلسفة الإلهيّة و الحكمة العالية و عرفان عوالم الغيب و التجرّد. و دلّ على طريق العبوديّة لربوبيّة الحقّ عزّ اسمه.
و لحق الناس بعد عصر النبيّ صلّى الله عليه و آله و صحابته اولي البصائر القائمين الليل بصفوف عبّاد الليل علماء النهار. و ها هم يلتقون بعد عصر أمير المؤمنين بأمثال أصحابه الزهّاد العبّاد النسّاك السالكين العارفين كعثمان بن مظعون، و ابن التَّيِّهان و نظائرهما.
و هنا ينطلق اللسان بلا اختيار ليُحيّيه عليه السلام من أعماق القلب و الفكر مترنّماً بقوله تعالى: وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.۱
و أصرّ عليه السلام على صيانة حياته، و تموين كلّ طالب بالعلوم حسب استعداده، و عدم إرباكهم و إحراجهم بإيداعهم السجن أو إبعادهم أو تعذيبهم أو قتلهم بلا مبرِّر ممّا يستبين أنّ ذلك كلّه كان من أجل المحافظة على الحياة و تأمين القوى و العِدّة و العُدّة ابتغاء الوصول إلى تلك الغاية الرفيعة، إذ من الواضح أنّه لو كان قد قُتِل، أو نُهبت أمواله، أو اجتيح مكان درسه، فلا تعليم عندئذٍ، و لا إحياءً للدين بعد ذلك. علماً أنّ داره عليه
السلام قد احرقت، و أمواله قد سُلبت، و ختمت حياته شهيداً بالسمّ.۱
كلام مترجم كتاب «مغز متفكّر جهان شيعة» حول المذهب الجعفريّ
فهو كسيّد الشهداء عليه السلام الذي ما ادّخر وسعاً في سبيل تنفيذ ذلك الأمر المهمّ، و قد أعدّ و استعدّ و تأهّب، و أرسل أصحابه و أهل بيته إلى ميدان القتال فاستشهدوا بأرفع طريقة، و بقي إلى عصر عاشوراء يذود عن حياض الإسلام، و ظلّ حتى آخر رمق من حياته، و لم يهدر دمه اعتباطاً، و إلّا فإنّ قتله كان حتماً مقضيّاً. و كان ممكناً أن يقتل في أوّل هجوم صباح عاشوراء أو ليلة عاشوراء، و يستريح. فالكلام لا يدور حول الخلاص و الاستراحة، بل يدور حول البقاء، و الدفاع عن الحريم حتى آخر قوّة و قدرة.
و حينئذٍ قال: قبول البيعة واجب على الإمام المفترض الطاعة! و يتحقّق اللزوم و الوجوب إذا تهيّأت جميع الإمكانيّات و محاسن القبول، و لا إشكال عنده في البيعة.
و للإمام شأنيّة مقام الإمارة و فعليّته، سواء قَبِلَ الناس أم رفضوا، و بايعوا أم لم يبايعوا. أمّا قبول البيعة فيتوقّف على إقبال الناس و فقدان المحذورات، و هو ما ينبغي أن يكون ثابتاً عند الإمام. و يجب على الناس أن يلتفّوا على الإمام و يطوفوا حوله كطوافهم حول الكعبة، لا أنّ الكعبة تأتيهم فيطوفوا حولها.
عند ما أخذ أصحاب السقيفة البيعة لأبي بكر بعد وفاة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و جاء العبّاس و أبو سفيان إلى أمير المؤمنين عليه السلام ليبايعاه، فإنّه قد رفض البيعة.
و حينما قُتل عثمان و أجمع المهاجرون و الأنصار على بيعته عليه السلام، و انثال الناس على بيته من كلّ حدب و صوب، فإنّه قد رفض أيضاً حتّى مضت ثلاثة أيّام و في آخر اليوم الثالث إذ سئم الناس، و عمّت الجلبة و الضوضاء أجواء المدينة، و توسّط عمّار بن ياسر، و مالك الأشتر، و محمّد بن أبي بكر، و نظائرهم بينه و بين الناس، و امتنع بشدّة، و كلّمه مالك الأشتر، فقال له ما مضمونه: يا عليّ! جميع أهل الحلّ و العقد حتى طلحة و الزبير راغبون في بيعتك، فإن أمسكتَ، و الوقت ضيّق، بايع الناس أحدهما، و ستتأوّه من فعالهم غداً، و تأتينا لدفع الظلم! و ها نحن قد جئناك الآن، فاقبل البيعة لئلّا تبأسَ غداً!
قبل عليه السلام البيعة، فرفع طلحة و الزبير لواء المعارضة، و أوقدا نار الجمل بالبصرة. ثمّ انتهت حرب الجمل بحرب صفّين، و حرب صفّين ولّدت حرب النهروان. ثمّ قتله خوارج النهروان في محراب العبادة. و كان
عليه السلام منهمكاً في مواجهة الفتن الداخليّة على امتداد أربع سنين و أشهر كان فيها إمام المسلمين و خليفتهم، إذ لم يقتنع الناس بحقّهم، و كانوا يتوقّعون منه أشياء كثيرة. و هو رجل الحقّ و عنوان الحقّ.
و كان الإمام جعفر الصادق عليه السلام ابن عليّ هذا. و هو يعلم أنّه لو رضي ببيعة الناس. لتوقّع منه الذين أصرّوا على بيعته أشياء في غير موضعها. و هو ليس كمعاوية و المنصور لينفق بيت المال خدمة لمآربه الخاصّة، أو يولّي من ليس أهلًا للولاية. لهذا فإنّ أنصار اليوم المتدافعين حوله سيكونون من معارضيه و خصومه غداً.
ما هو الأفضل؟ أ قبول مثل هذه الخلافة أم ما اضطلع به الإمام عليه السلام من مهمّة رساليّة؟
و بعد أن استبانت هذه الامور علينا أن نناقش الأحداث الواردة، و العلوم المترشّحة عن الإمام عليه السلام. و هذا ما سنستعرضه في سياق عدد من البحوث بحول الله و قوّته.
البحث الأوّل: يدور حول اتّصالات المنصور الدوانيقيّ و معارضاته، و هو عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، و عبّاس عمّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم.
المنصور هو أخو أبي العبّاس السفّاح، عبد الله بن محمّد. فهما سميّان و أبوهما محمّد. و بويع لأبي العبّاس السفّاح - على ما نقل الطبريّ - في الثامن عشر من ربيع الثاني سنة ۱٣٢ هـ. و كان بالكوفة، و بايعه أهلها.
و نقل الطبريّ هذا القول عن هشام بن محمّد.۱ و لكنّه قال في موضع آخر
من كتابه: «قال الواقديّ: بويع لأبي العبّاس بالمدينة بالخلافة في جمادى الاولى في سنة اثنتين و ثلاثين و مائة.۱
تفصيل مواقف المنصور الدوانيقيّ من الإمام الصادق عليه السلام
و ذكر المحدّث القمّيّ رحمه الله أنّه لمّا كانت الحكومة الأمويّة على و شك الانهيار، اجتمع جماعة من بني العبّاس فيهم أبو العبّاس السفّاح، و أخواه: أبو جعفر المنصور، و إبراهيم بن محمّد، و عمّه صالح بن عليّ، و جماعة من الطالبيّين منهم عبد الله المحض، و ولداه: محمّد، و إبراهيم، و أخوه لُامّه محمّد الديباج و غيرهم بالأبواء (المدينة)، و اتّفقوا على مبايعة أحد وَلَدَي عبد الله المحض. فبايعوا جميعهم محمّداً. لأنّهم كانوا قد سمعوا من بيت الرسالة أنّ مهديّ آل محمّد سميّ رسول الله.٢ ثمّ بعثوا وراء الإمام الصادق عليه السلام، و عبد الله بن محمّد بن عمر بن عليّ عليه السلام لأخذ البيعة منهما.
فلم يبايع الإمام الصادق، و قال: المهديّ ليس هذا، و قد غرّ كم اسمه.
و قال لعبد الله المحض: إذا كانت هذه البيعة للخروج و الأمر بالمعروف، فَلِمَ لا نبايعك و أنت شيخ بني هاشم؟! فقال عبد الله: كلامك غير سديد، و أنت لا تبايع حسداً!
فقام الإمام و وضع يده على ظهر السفّاح، و قال: هذا هو الخليفة، و إخوته و أولاده هما الخلفاء بعده. و وضع يده على كتف عبد الله المحض، و قال: الخلافة ليست لك و لا لولَدَيك و سيُقتلان. و قال لعبد العزيز: سيقتل
صاحبُ الرداء الأصفر (المنصور) عبد الله، و وَلَده محمّداً.
حجّ المنصور سنة ۱٤۰ هـ، ثمّ دخل المدينة و حبس عبد الله و بني الحسن و محمّد الديباج.۱
و ذكر الطبريّ أيضاً٢ أنّ أبا العبّاس السفّاح مات في ۱٣ ذي الحجّة سنة ۱٣٦. و كانت ولايته من لَدُن قُتل مروان بن محمّد إلى أن توفّي أربع سنين. و كان له يوم توفِّي ٣٣ سنة، أو ٣٦ سنة، أو ٣۸ سنة.
و في هذه السنة عقد أبو العبّاس عبد الله بن محمّد بن عليّ لأخيه أبي جعفر المنصور (عبد الله بن محمّد) الخلافة من بعده، و جعله وليّ عهده، و من بعد أبي جعفر عيسى بن موسى بن محمّد بن عليّ. و كتب العهد بذلك، و دفعه إلى عيسى بن موسى. و في هذا السنة بويع لأبي جعفر المنصور بالخلافة.
كان المنصور الدوانيقيّ يعطي الامان و يقتل
و في سنة ۱٣۷ هـ قتل المنصور القائد الكبير أبا مسلم الخراسانيّ الذي مهّد الأمر لبني العبّاس. قتله غيلة بعد ما كاتبه متلطّفاً و آمنه و دعاه.
و ما أن دخل أبو مسلم مجلس المنصور، هجم عليه الغلمان و قطّعوه إرباً إرباً. و كان قتله فتكاً. و ورد ذلك في «تاريخ الطبريّ»، ج ۷، ص ٤۸۸.
و قال السيوطيّ في «تاريخ الخلفاء»: فأوّل ما فعل (المنصور) أن قتل أبا مسلم الخراسانيّ صاحب دعوتهم و ممهّد مملكتهم.٣
و أعطى المنصور الأمان ليزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراقَين، ثمّ
قتله. و ذكر المحدِّث القمّيّ قضيّة معن بن زائدة الشيبانيّ الذي كان معاشراً لابن هُبَيْرة، و كان من أجواد زمانه و شجعانه، حين فرّ بدهاء من بغداد خوفاً من المنصور.۱
و أعطى الأمان لعمّه عبد الله بن عليّ، ثمّ قتله.٢
كان الوفاء بالعهد معظَّماً عند العرب. و إذا أعطوا الأمان لأحدٍ، فإنّهم يقاومون للمحافظة عليه حتى بذل المهج. و إذا غدر امرؤ بالعهد و نقض أمانه فإنّه يظلّ معروفاً بالقُبح و الشناعة عند قومه و أرحامه إلى الأبد. و كان المنصور يعطي الأمان بيُسر. فيأتي الشخص عنده على أساس هذه السنّة السنيّة في حفظ ذمّته و عهده، و إذا المنصور يضرب عنقه في أوّل ما يراه.
و عند ما كتب رسالة إلى محمّد النفس الزكيّة نجل عبد الله المحض، و آمنه فيها مفصّلًا و ذكر أنّ له عليه عهد الله و ميثاقه و ذمّته و ذمّة رسوله،٣ أجابه محمّد عنها، و من جملة ما قال له في الجواب:
أنَا أوْلَى بِالأمْرِ مِنْكَ وَ أوْفَى بالعَهْدِ! لأنَّكَ أعْطَيْتَنِي مِنَ العَهْدِ
و الأمَانِ مَا أعْطَيْتَهُ رِجَالًا قَبْلِي! فَأيّ الأمَانَاتِ تُعْطِينِي؟! أمَانَ ابْنِ هُبَيْرَةَ؟! أمْ أمَانَ عَمِّكَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَلِيّ؟! أمْ أمَانَ أبي مُسْلِمٍ؟!۱
ذكر الطبريّ أنّ المنصور لمّا حجّ سنة ۱٤۰ هـ أمر رياحاً٢ بأخذ بني حسن، و وجّه في ذلك أبا الأزهر المهريّ.
و قد كان حبس عبد الله بن حسن، فلم يزل محبوساً ثلاث سنين (حتى مات). فكان حسن بن حسن قد نصل خضابه تسلّياً على عبد الله.
فكان أبو جعفر المنصور يقول: مَا فَعَلَتِ الحَادَّةُ؟!
قال: فأخذ رياح حسناً (المثلّث) و إبراهيم (الغمر) ابنَي حسن بن حسن، و حسن بن جعفر بن حسن بن حسن، و سليمان و عبد الله ابنَي داود بن حسن بن حسن، و محمّداً و إسماعيل و إسحاق أبناء إبراهيم (الغمر) ابن حسن بن حسن، و عبّاس بن حسن، (المثلّث) بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب.
أخذوه على بابه، فقالت امّه عائشة ابنة طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر: دَعُونِي أشُمَّهُ! قَالُوا: لَا وَ اللهِ مَا كُنتِ حَيَّةً في الدُّنْيَا!
و عليّ بن حسن (المثلّث) بن حسن بن حسن العابد، و حبس معهم
أبو جعفر الدوانيقيّ عبد الله بن حسن بن حسن أخا عليّ (أي: الابن الآخر للحسن المثلّث و كان أخا عليّ).۱
و حدّثني ابن زبالة، قال: سمعتُ بعض علمائنا يقول: مَا سَارَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ حَسَنٍ أحَداً قَطُّ إلَّا فَتَلَهُ عَنْ رَأيِهِ.٢
و حجّ أبو جعفر المنصور في سنة ۱٤٤ هـ أيضاً، فتلقّاه رياح بالربذة.
فردّه إلى المدينة، و أمره بإشخاص بني حسن إليه، و بإشخاص محمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان، و هو أخو بني حسن لُامِّهم. امّهم جميعاً فاطمة ابنة حسين بن علي بن أبي طالب.
اعتقال المنصور بني الحسن في سجن الهاشميّة
و بعد حبس بني حسن بالمدينة ثلاث سنين، سير بهم إلى الكوفة.
و توجّه المنصور من الربذة إلى الكوفة، و هو في محمله. و قيّد بني حسن و محمّداً الديباج٣ بالأغلال و أجلسهم في المحامل بلا غطاء و لا وطاء
منخرق السِّربال يشكو الوَجَى | *** | تَنكُبُهُ أطرافُ مَرْوٍ حِدادْ |
شَرَّده الخوفُ فأزْرَي به | *** | كَذاك من يَكْرَهُ حَرَّ الجِلادْ |
قد كان في الموت له راحة | *** | و الموتُ حتمٌ في رقاب العبادْ |