المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
مجموعة من البحوث التفسيريّة، والفلسفيّة، والروائيّة، والتأريخيّة والاجتماعيّة في الإمامة والولاية بشكل عامّ، وفي إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين بشكل خاصّ ؛ وذلك في هيئة دروس استدلاليّة علميّة متّخذة من القرآن الكريم والروايات الواردة عن الخاصّة والعامّة، وأبحاث حليّة ونقديّة عن الولاية .
وتضمّ هذه المجموعة 270 درساً في ثمانية عشر مجلداً. وقد جري فيها مناقشة وبحث مطالب من قبيل: العصمة، الولاية التكوينيّة، لزوم الإمام الحيّ، لزوم متابعة الأعلم، ضرورة وجود الإمام للمجتمع، معنى الولاية، شرح حجّة الوداع، شرح واقعة غدير خمّ، حديث الولاية، حديث المنزلة، شرائط القيادة، علم الغيب و...
الدَّرسُ السَّادِسُ وَ العُشرُونَ بَعْدَ المائتَين إلى الارْبَعينَ بَعْدَ المائَتَين: تَقَدُّمُ الشِّيعَةِ وَ تَأسِيسُهُمْ جَمِيعِ العُلُومِ مِنْ عَهْدِ الإمامِ البَاقِرِ إلى زَمَانِ الإمَامِ العَسكَرِيّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوة إلّا بالله العليّ العظيم
عظمة الكلمات الآفاقيّة و الانفسيّة
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ (بِيَدِ الكُتّاب) وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ (تكون حِبراً، و يريد الناس أن يحصوا كلمات الله و موجوداته فإنّهم لا يستطيعون، (لأنّه) ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.۱
قال سماحة استاذُنا الأكرم العلّامة الطباطبائيّ في تفسير هذه الآية المباركة: و الظاهر أنّ المراد بالسبعة التكثير دون خصوص هذا العدد.
و الكلمة هي اللفظ الدالّ على معنى. و قد اطلق في كلامه تعالى على الوجود المفاض بأمره تعالى. و قد قال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.٢ و قد اطلق على المسيح عليه السلام الكلمة في قوله: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ.٣
فالمعنى: و لو جعل جميع أشجار الأرض أقلاماً و اخذ البحر و اضيف
إليه سبعة أمثاله، و جُعل المجموع مداداً فكتب كلمات الله - بتبديلها ألفاظاً دالّة عليها - بتلك الأقلام من ذلك المداد لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات الله، لكونها غير متناهية.۱
و مع أنّ هذه الآية الكريمة الشريفة كانت في مقام عظمة و كثرة الكلمات الآفاقيّة و الأنفسيّة الإلهيّة المعبَّر عنها بعالم الكون و الوجود، بَيدَ أنّ استعمال لفظ القلم للكتابة، و البحر مداداً لإحصاء موجودات العالم الزاخر بالابّهة و الجلالة، و المليء بعجائب الخلقة و أسرارها اللامتناهية يجعلنا ندرك أهمّيّة القلم و الكتابة بوضوح، و نقف على عظمة و جلال و عمق أئمّة الشيعة و المجتمع الشيعيّ، إذ نهضوا بالأمر منذ البداية و قاموا بتدوين السنّة النبويّة عملًا بكلام رسول الله صلّى الله عليه و آله، على الرغم من الأجواء المشاكسة المناوئة.
و كان أئمّة الشيعة روّاد مدرسة العلم و القلم و التدوين. و لم يتحفوا شيعتهم فقط بنور العلم، بل أتحفوا العالم الإسلاميّ كلّه، بل العالم البشريّ بجميع ملله و نحله. و قالوا و كتبوا و بثّوا شعاع العِلم في أقطار العالم عبر المَحبرة و القلم و الكتابة على صفحات الورق الواسعة، و الألواح، و جلود الحيوانات، و جريد النخل (العُسُب)، و عظام الجمال و الأبقار و الأغنام.
كلمات قصار للعلماء في عظمة القلم و الكتابة
و يحسن بنا - قبل أن ندخل في الحديث حول تدوين آل محمّد عليهم السلام و تصنيفهم - أن نذكر مطالب رائعة أخّاذة للعالم النحرير الشيخ الحسين بن عبد الصمد عزّ الدين الحارثيّ الهمدانيّ العامليّ، الوالد الجليل لشيخنا الأعظم بهاء الدين العامليّ، نقلها في كتابه النفيس في الأخلاق، باب الكتابة. ثمّ ندخل في بحثنا.
قال: قال بعض العلماء في مدح الكتب: الكُتُبُ بَسَاتينُ العُقَلَاءِ.
أي: أنّ جميع الناس غير العقلاء يظنّون أنّ الرياض و الحدائق و البساتين تنحصر بالأراضي المفروشة بالورود و السنابل و الرياحين و الارجوان، في حين يرى العقلاء أنّ رياضهم و حدائقهم الحقيقيّة التجوّل بين الكتب و تصفّحها و النظر في مطالبها البديعة المتنوّعة.
و قال بعض البلغاء: الكِتَابُ وِعَاءٌ مَلِيّ عِلْمًا، وَ ظَرْفٌ مَلِيّ ظَرْفاً.
و قال بعض الفصحاء: الكُتُبُ أصْدافُ الحِكَمِ تَنْشَقُّ عَنْ جَوَاهِرِ الكَلِمِ.
و قال بعضهم: الكِتَابُ بُسْتَانٌ يُحْمَلُ في رُدْنٍ،۱ وَ رَوضَةٌ تُقْلَبُ في حِجْرِ، يَنْطِقُ عَنِ المَوْتَى، وَ يُتَرْجِمُ عَنِ الأحْيَاءِ.
و قال الشاعر:
ولى جُلَسَاءٌ لَا يُمَلُّ حَدِيثُهُمْ | *** | ألِبَّاءُ مَأمونُونَ غَيْباً وَ مَشْهَدا |
يُفيدُونَني مِنْ عِلْمِهِمْ عِلْمَ مَنْ مَضَى | *** | وَ عَقْلًا وَ تَأديباً وَ رأياً مُسَدَّدا |
فالحاصل: أنّ المرء يظهر في كتابه مكنون علمه، و يعبِّئ فيه موقر رويّته و فهمه. فيتأتّى له فيه كثير ما لم يتأتَ على لسانه، و لا يتيسّر له أن يعرب عنه ببلاغته و بيانه، لأنّه في الأغلب يكون منفرداً في خلوته، فيكون متفرّغاً لاستعمال بصيرته و فكرته.
و لهذا قال بعض الحكماء: كِتَابُ المَرْءِ عُنْوانُ عَقْلِهِ وَ لِسَانُ فَضْلِهِ.
و قال بعض العلماء: لَا يَزَالُ المَرْءُ تَحْتَ سِتْرٍ مِنْ عَقْلِهِ حتى يُؤَلِّفَ كِتَاباً أوْ شِعْراً.
و قال بعضهم: مَا قَرَأتُ كِتابَ رَجُلٍ إلَّا عَرَفْتُ مِقْدارَ عَقْلِهِ.
و قال بعض الملوك: ثَلَاثَةٌ تدلّ على عُقُولِ أرْبَابِهَا: الهَدِيَّةُ، وَ الكِتَابُ، وَ الرَّسُولُ.
و قال علي بن أبي طالب عليه السلام: عَقْلُ الكَاتِبِ قَلَمُهُ.
و قال مسعدة: الأقْلَامُ مَطَايَا الفِطَنِ.
و قال بعضهم: عُقُول الرِّجَالِ تَحْتَ أسِنَّةِ أقْلَامِهِمْ.
و على كلّ حال، فالخطّ من أكبر المهمّات الدينيّة و الدنيويّة، و عليه مدار أكثر الامور الدنيّة و العليّة. و لهذا كانت الكتّاب سامتة الملك، و عمّار المملكة، و خزنة الأموال.
و ممّا يدلّ على شرفه أنّ الله تعالى أقسم ببعض أدواته و هو القلم، كما أقسم به في قوله تعالى: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ.۱
و عدّده الله من نعمه في قوله تعالى: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.٢ فوصف نفسه بأنّه عَلَّمَ بِالقلم، كما وصف نفسه بالكَرَم.
و في «منثور الحِكَم»: الدَّوَاةُ مِنْ أنْفَعِ الأدَوَاتِ، وَ الحِبْرُ أجْدَى مِنَ التِّبْرِ.
و قال بعض الفضلاء: القَلَمُ أحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَ حُسْنُ الخَطِّ أحَدُ الفَصَاحَتَيْنِ.
و قال بعض الحكماء: صُورةُ الخَطِّ في الأبْصَارِ سَوَادٌ، وَ في البَصَائِرِ
بَيَاضٌ.
و قال بعضهم: القَلَمُ رُوحُ اليَدِ، وَ لِسَانُ الفِكْرِ.
و قال اقليدس: الخَطُّ هَنْدسَةٌ رُوحَانِيَّةٌ وَ إن ظَهَرتْ بِآلَةٍ جَسَدَانِيَّةٍ.
و قال بعض العلماء: القَلَمُ صَانِعُ الكَلَام.
و قال بعضهم: لَمْ أرَ بَاكِياً أحْسَنَ تَبَسُّماً مِنَ القَلَمِ.
و قالوا: جَهْلُ الخَطِّ الزَّمَانَةُ الخَفِيَّةُ.
و قال ابن مُقْلَةَ: لَا دِيَةَ عِنْدَنَا لِيَدٍ لَا تَكْتُبُ.
و قال ابن البوّاب: اليَدُ التي لَا تَكْتُبُ رِجْلٌ.
و قال جعفر بن يحيى: الخَطُّ سِمْطُ الحِكْمَةِ، بِهِ تُفَصَّلُ شُذُورُهَا، وَ يَنْتَظِمُ مَنْثُورُهَا.
و قال ابن المُقَفّع: اللِّسَانُ مَقْصُورٌ عَلَى الحَاضِرِ، وَ القَلَمُ عَلَى الشَّاهِدِ وَ الغَابِرِ.۱
و قال بعض العلماء: لَا شَيْءَ أفْضَلُ مِنَ القَلَمِ، لأنَّ مُدَّةَ عُمْرِ الإنسَانِ لَا يُمْكِنُ أنْ يُدْرِكَ فِيهَا بِفِكْرِهِ مَا يُدْرِكُ بِقَلَمِهِ.
و عن ابن عبّاس في قوله تعالى: «أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ»٢ يَعْنِي الخَطَّ.
و عن مجاهد في قوله تعالى: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ».٣ قَالَ:
الخَطُّ. و أيضاً: «مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً». يَعْنِي الخَطَّ.
و قال بعض الحكماء: القَلَمُ وَ السَّيْفُ حَاكِمَانِ في جَمِيعِ الأشْيَاء،
وَ لَوْ لا هُمَا مَا قَامَتِ الدُّنْيَا.۱
أي: ينبغي إقامة العالم بالقلم و الكتابة و بيان العلوم، و أيضاً بالسلطة العادلة الفاضلة.
أجل، استبان ممّا ذكرناه أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله لم يحظر الكتابة، بل كان جادّاً في تدوين السُّنّة، و كان يأمر المؤهَّلين بالكتابة، و يأذن لمن يستأذن فيها.٢
روى الخطيب البغداديّ في كتاب «تقييد العلم» بسنده المتّصل عن فايد غلام عبيد الله بن أبي رافع، عن عبيد الله بن أبي رافع قَالَ: كَانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَأتِي أبَا رَافِعٍ فَيَقُولُ: مَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَوْمَ كَذَا؟! مَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و آلِهِ يَوْمَ كَذَا؟! وَ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ ألْوَاحٌ يَكْتُبُ فِيهَا.٣
و روى بسنده المتّصل عن أبار: أبي حفص، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عبّاس قال: قَيِّدُوا العِلْمَ! وَ تَقْييدُهُ كِتابُهُ.٤
و روى بسنده المتّصل الآخر عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبّاس قال: خَيْرُ مَا قُيِّدَ بِهِ العِلْمُ الكِتَابُ.۱
كلام أبي سعيد في رواية الحديث
و روى بسنده الآخر عن أبي المتوكّل قال: سألتُ أبا سعيد الخُدريّ عن التشهّد، فقال: التَّحِيَّاتُ، الصَّلَوَاتُ، الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ. السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيّ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ. السَّلَامُ عَلَيْنَا وَ عَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ. أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَ أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ.
قال أبو سعيد: وَ كُنَّا لَا نَكْتُبُ إلَّا القُرْآنَ وَ التَّشَهُّدَ.٢
نلحظ هنا أنّ أبا سعيد يقول: و كان دأبنا ألّا نكتب إلّا القرآن و التشهّد، من جانب الآخر نجد في حديث يلي الحديث المتقدّم أنّ الخطيب يقول بعد روايته إيّاه عن أبي سعيد: و أبو سعيد هو الذي رُوي عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: لَا تَكْتُبُوا عَنِّي سِوَى القُرْآنِ، وَ مَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ القُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ!
و نلحظ هنا من جهة اخرى أنّه يخبر أنّهم كانوا يكتبون التشهّد أيضاً مع القرآن. و هذا دليل على أنّ المراد من النهي عن كتابة غير القرآن هو ما بيّناه سلفاً. أي: شيء يكون نظيراً للقرآن، فيُعرض الناس عن القرآن و يهتمّون به.
بَيدَ أنّ أبا سعيد لمّا رأى نفسه آمناً من هذا الخطر، و شعر بالحاجة الماسّة إلى كتابة العلم، لم يَرَ في نفسه كراهة في كتابة العلم كما أنّ الصحابة
لم يكرهوا كتابة التشهّد. و لا يُلحظ بين التشهّد و غير التشهّد فرق عن كافّة العلوم في أنّها جمعياً ليست قرآناً. و العلوم التي دوّنها الصحابة في كتبهم و أمروا بكتابتها كانت على سبيل الاحتياط، كما أنّ كراهتهم الكتابة كانت كذلك. و الله أعلم.
الصحابة يكتبون جميع ما يسمعونه من النبيّ صلّى الله عليه و آله
و روى الخطيب أيضاً بسنده عن هُبَيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، أو عن رجل آخر أنّه قال: كُنَّا إ ذَا أتَيْنَا أنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَ كَثُرْنَا عَلَيْهِ، أخْرَجَ إلَيْنَا مَجَالَ۱ مِنْ كُتُبٍ، فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبٌ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ قَرَأنَاهَا عَلَيْهِ.٢
و بعد أن ذكر الخطيب حديثين آخرين بهذا المضمون، أورد حديثاً آخر عن هُبيرة بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك: إنَّهُ كَانَ إ ذَا حَدَّثَ فَكَثُرَ النَّاسُ عَلَيْهِ لِلْحَدِيثِ، جَاءَ بِصِكَاكٍ٣ فَألْقَاهَا إلَيْهِمْ فَقَالَ: هَذِهِ أحَادِيثُ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ كَتَبْتُهَا وَ عَرَضْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.٤
و روى أيضاً بسند آخر عن عبد الله بن المثنّى قال: حدّثني عمّاي النضر و موسى ابنا أنس عن أبيهما أنس: إنَّهُ أمَرَهُمَا بِكِتَابَةِ الحَدِيثِ
وَ الآثَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ تَعَلُّمِهَا. وَ قَالَ أنَسٌ: كُنَّا لَا نَعُدُّ عِلْمَ مَنْ لَمْ يَكْتُبْ عِلْمَهُ عِلْماً.۱
ثمّ نقل الخطيب سبعة أحاديث اخرى عن أنس، و حديثاً عن أبي امامة الباهليّ. و بعد ذلك ذكر حديثاً يدلّ على أنّ الصحابة كان دأبهم في زمن النبيّ صلّى الله عليه و آله أن يكتبوا جميع ما سمعوه من نبيّهم.
فقد روى بسنده عن عبد الله بن عمرو أنّه قال: أتيتُ النبيّ صلّى الله عليه و آله مع قومٍ أنا أصغرهم، فسمعته يقول: مَن كَذَبَ عَلَيّ. قال إسحاق [راوي الحديث] و حسبتُه قال: مُتَعَمِّداً، فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ. فأقبلتُ على صاحبي فقلتُ: كَيْفَ تَجْتَرونَ عَلَى الحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ قَدْ سَمِعْتُمْ مَا قَالَ؟!
قَالُوا: يَا بْنَ اخْتِنَا! إنَّا لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئاً إلَّا وَ هُوَ عِنْدَنَا في كِتَابٍ.٢
و ذكر الخطيب هذا المضمون بسند آخر أيضاً، و فيه: مَنْ كَذَبَ عَلَيّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.٣
و بعد أن يُثبت الخطيب أنّ الكتابة كانت متداولة عند بعض الصحابة و التابعين، و هو لم يسمع كلامهم في منع الامّة منها، و فتح فصلًا في رواية التابعين و كتابتهم تحت عنوان «الرواية عن الطبقات الاخرى من التابعين في ذلك». روى فيه بسنده عن أبي المليح، عن أيّوب أنّه قال: يَعِيبُونَ
عَلَيْنَا الكِتَابَ ثُمَّ تَلَا: عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي في كِتَابٍ»۱
و روى بسنده أيضاً عن بَقِيَّة أنّه كان يقول: ربّما سمع مِنّي أرطاة الحديث، و نحن نمشي في السوق، فيقول: أمْلِهِ عَلَيّ! فأقول: في وَسَطِ الطَّرِيقِ؟ فيقول: أ وَ في غَيْرِ اللهِ نَحْنُ؟!٢
و روى بسنده عن مَعْمَر قال: حدّثتُ يحيى بن أبي كثير بأحاديث فقال لي: اكتب لي حديث كذا و كذا! فقلتُ: إنَّا نَكْرَهُ أنْ نَكْتُبَ العِلْمَ يَا أبَا نَصْرٍ! فقال: اكْتُبْ لي، فَإن لَمْ تَكُنْ كَتَبْتَ، فَقَدْ ضَيَّعْتَ؛ أوْ قَالَ: عَجَزْتَ.٣
و جملة القول: استبان ممّا ذكرناه مفصّلًا في الجزء الرابع عشر من هذا الكتاب، و أعقبناه بشرح في الجزء الخامس عشر منه أنّ التدوين كان شائعاً غير محظور في عصر النبيّ صلّى الله عليه و آله. و بعده كان الخلاف فيه شديداً بين عمر و بعض الصحابة من جهة، و بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و بعض الصحابة الآخرين من جهة اخرى. فكان عمر يقول: إذا دُوِّنت السنّة فإنّ الناس يُقبلون عليها و ينشغلون بقراءتها فيُهْجَر كتاب الله، أو تشتبه السنّة بالقرآن في التدوين و يحدث خلط بينهما.
و كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: لا خطر في ذلك أبداً.
فتدوين السنّة منفصل عن تدوين القرآن. و لا بدّ أن تُدَوَّن السنّة، و إلّا يبقى
القرآن بلا ترجمان و بلا بيان و تفسير. لهذا كان عليه السلام دائم الاشتغال في التدوين، و كان يأمر به مؤكِّداً.
خلاف العامّة في صيغة التشهّد
و قد قالوا، و كتبوا، و نشروا فلم يحدث خطر قطّ، و ظلّت السنّة حيّةً صريحةً عند أتباعه و مواليه. أمّا عند الطرف المخالف، حيث تُركت السُّنّة بلا تدوين، فإنّ الفقر العلميّ قد عمّ الأرجاء. و بعد موت الصحابة و مجيء التابعين لم يكن هناك من ينقل السنّة للُامّة، اللهمّ إلّا محفوظات كان التابعون قد أخذوها من الصحابة، و مُنيت بضروب من الخطأ و الخلط و النسيان بسبب طول المدّة. يضاف إليه أنّهم لمّا أجازوا النقل بالمعنى في الأحاديث، و لم يكن هناك تدوين، فإنّهم نقلوا الموضوع الواحد بألفاظ متفاوتة، حتى أنّ العامّة رووا التشهّد بتسعة ألفاظ،۱ و اختلفوا في صلاة
...۱
...۱
...۱
...۱
الميِّت و لم يعلموا كم تكبيرة واجبة فيها،۱ مع أنّهم كانوا ملازمين للنبيّ صلّى الله عليه و آله و يأتمون به في الصفّ الأوّل. أو أنّهم كانوا يصلّون مع
نبيّهم على موتى المسلمين مراراً. و لكن لمّا لم يكن هناك باعث على الحفظ أو التدوين، أو أنّ الصَّفْقَ في الأسْوَاقِ قد شغلهم، لذا لم يبق عندهم مجال لتنظيم شئونهم العباديّة و الدينيّة و ضبطها و تثبيتها.
أجل، لقد سلك العامّة و أهل السنّة مسلكهم، و قصّروا، بل تقاعسوا و تكاسلوا في أمر التدوين حتى رأوا أنّ السيفَ قد سبق العَذَل، و أنّ سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله التي خالوا أنّهم اولو الأمر عليها قد اندثرت. لهذا اجبروا وفقاً لضرورة التأريخ على اتّباع الشيعة في تدوين السنّة و التصنيف فيها. و قد تأخّر هذا الموضوع، كما رأينا أنّهم قد اشتغلوا فيه إبّان منتصف القرن الثاني الهجريّ. أي: تأخّروا عن تدوين الكتب الاولى للسنّة قرناً و نصف، لذلك تخلّف العامّة عن الخاصّة قرناً و نصف في تدوين السُّنّة و العلوم النبويّة. و قد أدّى هذا التخلّف و التأخير في التدوين و ما نتج عنه من آثار سيّئة ذميمة إلى اختلاف مذاهب العامّة حتى اضطرّوا إلى حصرها و تصفيدها في أربعة مذاهب.
تدوين الشيعة الحديث اقتداءً بأئمّتهم
قال العالم الخبير و الباحث الجليل القدير آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ:
۱ - إن اولي الألباب ليعلمون بالضرورة انقطاع الشيعة الإماميّة خلفاً عن سلف في اصول الدين و فروعه إلى العترة الطاهرة. فرأيهم تَبَع لرأي الأئمّة من العترة في الفروع و الاصول و سائر ما يؤخذ من الكتاب و السُّنّة أو يتعلّق بهما من جميع العلوم لا يعوّلون في شيء من ذلك إلّا عليهم، و لا يرجعون فيه إلّا إليهم، فهم يدينون الله تعالى، و يتقرّبون إليه سبحانه بمذهب أئمّة أهل البيت، لا يجدون عنه حِوَلًا و لا يرتضون بدلًا.
على ذلك مضى سلفهم الصالح من عهد أمير المؤمنين و الحسن و الحسين و الأئمّة التسعة من ذرّية الحسين عليه السلام إلى زماننا هذا. و قد
أخذ الفروع و الاصول عن كلّ واحد منهم جمّ من ثقات الشيعة و حفّاظهم وافر، و عدد من أهل الورع و الضبط و الإتقان يربو على التواتر. فرووا ذلك لمن بعدهم على سبيل التواتر القطعيّ، و من بعدهم رواه لمن بعده على هذا السبيل. و هكذا كان الأمر في كلّ خلف و جيل، إلى أن انتهى الينا كالشمس الضاحية ليس دونها حجاب. فنحن الآن في الفروع و الاصول على ما كان عليه الأئمّة من آل الرسول، روينا بقضّنا و قضيضنا مذهبهم عن جميع آبائنا. و روى جميع آبائنا ذلك عن جميع آبائهم. و هكذا كانت الحال في جميع الأجيال إلى زمن النَّقِيَّينِ العَسْكَريَّينِ، وَ الرِّضَاءَيْنِ الجَوَادَيْنِ، وَ الكَاظِمَيْنِ الصَّادِقَيْنِ، وَ العَابِدَيْنِ البَاقِرَيْنِ، وَ السِّبْطَيْنِ الشَّهِيدَيْنِ، وَ أميرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
أئمّة العامّة الاربعة من الناس العاديّين في أعصارهم
فلا نحيط الآن بمن صحب أئمّة أهل البيت من سلف الشيعة، فسمع أحكام الدين منهم، و حمل علوم الإسلام عنهم. و إن الوسع ليضيق عن استقصائهم و عددهم. و حسبك ما خرج من أقلام أعلامهم من المؤلَّفات الممتعة التي لا يمكن استيفاء عدّها في هذا الإملاء! و قد اقتبسوها من نور أئمّة الهدى من آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم و اغترفوها من بحورهم، سمعوها من أفواههم، و أخذوها من شفاههم. فهي ديوان علمهم، و عنوان حكمهم، الِّفت على عهدهم فكانت مرجع الشيعة من بعدهم. و بها ظهر امتياز مذهب أهل البيت على غيره من مذاهب المسلمين. فإنّا لا نعرف أنّ أحداً من مقلّدي الأئمّة الأربعة مثلًا ألَّف على عهدهم كتاباً في أحد مذاهبهم. و إنّما ألّف الناس على مذاهبهم فأكثروا بعد انقضاء زمنهم و ذلك حيث تقرّر حصر التقليد فيهم، و قصر الإمامة في الفروع عليهم، و كانوا أيّام حياتهم كسائر مَن عاصرهم من الفقهاء و المحدّثين، لم يكن لهم امتياز على من كان في طبقتهم. و لذلك لم يكن
على عهدهم من يهتمّ بتدوين أقوالهم، اهتمام الشيعة بتدوين أقوال أئمّتها المعصومين - على رأيها - فإنّ الشيعة من أوّل نشأتها لا تبيح الرجوع في الدين إلى غير أئمّتها، و لذلك عكفت هذا العكوف عليهم، و انقطعت في أخذ معالم الدين إليهم. و قد بذلت الوسع و الطاقة في تدوين كلّ ما شافهوها به، و استفرغت الهمم و العزائم في ذلك بما لا مزيد عليه، حفظاً للعلم الذي لا يصحّ - على رأيها - عند الله سواه.
و حسبك ممّا كتبوه أيّام الصادق عليه السلام تلك الاصول الأربعمائة، و هي أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف، كتبت من فتاوى الصادق على عهده. و لأصحاب الصادق غيرها هو أضعافها، كما ستستمع تفصيله قريباً إن شاء الله تعالى.
أمّا الأئمّة الأربعة فليس لهم عند أحدٍ من الناس منزلة أئمّة أهل البيت عند شيعتهم، بل لم يكونوا أيّام حياتهم بالمنزلة التي تبوّأوها بعد وفاتهم، كما صرّح به ابن خلدون المغربيّ في الفصل الذي عقده لعلم الفقه من مقدّمته الشهيرة. و اعترف به غير واحد من أعلامهم.
و نحن مع ذلك لا نرتاب في أنّ مذاهبهم إنّما هي مذاهب أتباعهم التي عليها مدار عملهم في كلّ جيل. و قد دوّنوها في كتبهم، لأنّ أتباعهم أعرف بمذاهبهم، كما أنّ الشيعة أعرف بمذهب أئمّتهم الذي يدينون الله بالعمل على مقتضاه، و لا تتحقّق منهم نيّة القربة إلى الله بسواهُ.
٢ - و إن الباحثين ليعلمون بالبداهة تقدّم الشيعة في تدوين العلوم على من سواهم، إذ لم يتصدّ لذلك في العصر الأوّل غير عليّ و اولي العلم من شيعته. و لعلّ السرّ في ذلك اختلاف الصحابة في إباحة كتابة العلم و عدمها.
فكرهها - كما عن العسقلانيّ في مقدّمة «فتح الباري» و غيره - عمر بن الخطّاب و جماعة آخرون، خشية أن يختلط الحديث في الكتاب. و أباحه
عليّ و خلفه الحسن السبط المجتبى و جماعة من الصحابة. و بقي الأمر على هذه الحال حتى أجمع أهل القرن الثاني في آخر عصر التابعين على إباحته.
و حينئذٍ ألّف ابن جريح كتابه في الآثار عن مجاهد و عطاء بمكّة.
و عن الغزّاليّ أنّه أوّل كتاب صُنّف في الإسلام. و الصواب أنّه أوّل كتاب صنّفه غير الشيعة من المسلمين. و بعده كتاب معتمر بن راشد الصنعانيّ باليمن. ثمّ «موطّأ مالك». و عن مقدّمة «فتح الباري» أنّ الربيع بن صبيح أوّل من جمع. و كان في آخر عصر التابعين. و على كُلٍّ، فالإجماع منعقد على أنّه ليس لهم في العصر الأوّل تاليف.
أمّا عليّ و شيعته، فقد تصدّوا لذلك في العصر الأوّل. و أوّل شيءٍ دوّنه أمير المؤمنين كتاب الله عزّ و جلّ.
و أسهب السيّد شرف الدين هنا في الحديث عن قرآن أمير المؤمنين، و مصحف فاطمة،۱ و صحيفة الديات التي دُوّنت بيده المباركة. و بعد ذلك ذكر مؤلّفي الشيعة في عصره كسلمان، و أبي ذرّ الغفاريّ على ما نقل ابن شهرآشوب. كما ذكر أبا رافع، و عليّ بن أبي
رافع، و عبيد الله بن أبي رافع، و ربيعة بن سميع، و عبد الله بن الحرّ الفارسيّ، و الأصبغ بن نباتة، و سُلَيم بن قيس الهلاليّ.۱
تدوين الشيعة التابعين للحديث
ثمّ دخل في الحديث عن المؤلّفين من الطبقة الثانية، فقال:
٣ - و أمّا مؤلِّفوا سلفنا من أهل الطبقة الثانية - طبقة التابعين - فإنّ مراجعتنا هذه لتضيق عن بيانهم. و المرجع في معرفتهم و معرفة مصنّفاتهم و أسانيدها إليهم على التفصيل إنّما هو فهارس علمائنا و مؤلّفاتهم في تراجم الرجال.
سطع - أيّام تلك الطبقة - نور أهل البيت، و كان قبلها محجوباً بسحائب ظلم الظالمين، لأنّ فاجعة الطفّ فضحت أعداء آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم، و أسقطتهم من أنظار اولي الألباب، و لفتت وجوه الباحثين إلى مصائب أهل البيت منذ فقدوا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و اضطرّت الناس بقوارعها الفادحة إلى البحث عن أساسها، و حملتهم على التنقيب عن أسبابها، فعرفوا جذرتها و بذرتها. و بذلك نهض اولو الحميّة من المسلمين إلى حفظ مقام أهل البيت و الانتصار لهم، لأنّ الطبيعة لبشريّة تنتصر بجبلّتها للمظلوم، و تنفر من الظالم. و كأنّ المسلمين بعد تلك الفاجعة دخلوا في دور جديد، فاندفعوا إلى موالاة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين، و انقطعوا إليه في فروع الدين و اصوله، و في كلّ ما يؤخذ من الكتاب و السنّة من سائر الفنون الإسلاميّة، و فزعوا من بعده إلى ابنه الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام.
و كان أصحاب هذين الإمامين «العابِدَيْنِ الباقِرَين» من سلف الإماميّة الوفاً مؤلَّفة لا يمكن إحصاؤهم، لكن الذين دوّنت أسماؤهم و أحوالهم في كتب التراجم من حملة العلم عنهما يقاربون أربعة آلاف بطل، و مصنّفاتهم تقارب عشرة آلاف كتاب أو تزيد، رواها أصحابنا في كلّ خَلَفٍ عنهم بالأسانيد الصحيحة. و فاز جماعة من أعلام اولئك الأبطال بخدمتهما و خدمة بقيّتهما الإمام الصادق عليه السلام. و كان الحظّ الأوفر لجماعة منهم فازوا بالقِدح المعلّى علماً و عملًا.
فمنهم: أبو سعيد أبان بن تَغْلِب بن رِباح الجريريّ القارئ الفقيه المحدِّث المفسِّر الاصوليّ اللغويّ المشهور. كان من أوثق الناس. لقي الأئمّة الثلاثة (السجّاد، و الباقر، و الصادق عليهم السلام) فروى عنهم علوماً جمّة، و أحاديث كثيرة. و حسبك أنّه روى عن الصادق خاصّة ثلاثين ألف حديث،۱ كما أخرجه الميرزا محمّد في ترجمة أبان من كتاب «منتهى المقال» بالإسناد إلى أبان بن عثمان عن الصادق عليه السلام. و كان له عندهم حظوة و قدم.
قال له الباقر عليه السلام، و هما في المدينة الطيّبة: اجْلِسْ في المَسْجِدِ وَ أفْتِ النَّاسَ! فإنّي احِبُّ أنْ يُرَى في شِيعَتِي مِثْلُكَ!
و قال له الصادق عليه السلام: نَاظِرْ أهْلَ المدينَةِ! فإنّي احِبُّ أنْ يَكُونَ مِثْلُكَ مِنْ رُوَاتِي وَ رِجَالِي!
و كان إذا قدم المدينة تقوّضت إليه الخلق، و اخليت له سارية النبيّ صلّى الله عليه و آله. و قال الصادق عليه السلام لسليم بن أبي حبّة: إئْتِ أبَانَ بْنَ تَغْلِبَ فَإنَّهُ سَمِعَ مِنِّي حَدِيثاً كَثِيراً! فَمَا رَوَي لَكَ فَارْوِهِ عَنِّي! و قال
عليه السلام لأبان بن عثمان: إن أبَانَ بْنَ تَغْلِبَ رَوَى عَنِّي ثَلاثِينَ ألْفَ حَدِيثٍ فَارْوِهَا عَنْهُ.
و كان إذا دخل أبان على الصادق يعانقه و يصافحه، و يأمر بوسادة تثني له، و يُقبل عليه بكلّه. و لمّا نُعي إليه قال عليه السلام: أمَا وَ اللهِ لَقَدْ أوْجَعَ قَلْبِي مَوْتُ أبَانٍ. و كانت وفاته سنة إحدى و أربعين و مائة.
و لأبان روايات عن أنس بن مالك، و الأعمش، و محمّد بن المنكدر، و سَمّاك بن حرب، و إبراهيم النخعيّ، و فضيل بن عمرو، و الحكم. و قد احتجّ به مسلم و أصحاب السنن الأربعة كما بيّناه، إذ أوردناه في المراجعة ۱٦. و لا يضرّه عدم احتجاج البخاريّ به، فإنّ له اسوةً بأئمّة أهل البيت، الصادق، و الكاظم، و الرضا، و الجواد التقيّ، و الهادي النقيّ، و الحسن العسكريّ الزكيّ، إذ لم يحتجّ بهم، بل لم يحتجّ بالسبط الأكبر سيّد شباب أهل الجنّة.
نعم، احتجّ بمروان بن الحكم، و عمران بن حطّان، و عكرمة البربريّ، و غيرهم من أمثالهم فَإنَّا لِلَّهِ وَ إنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
و لأبان مصنّفات ممتعة، منها كتاب تفسير «غريب القرآن الكريم» أكثر فيه من شعر العرب شواهد على ما جاء في الكتاب الحكيم. و قد جاء فيما بعد عبد الرحمن بن محمّد الأزديّ الكوفيّ، فجمع من كتاب أبان، و محمّد بن السائب الكلبيّ، و ابن روق عطيّة بن الحارث، فجعله كتاباً واحداً بيّن ما اختلفوا فيه، و ما اتّفقوا عليه. فتارة يجيء كتاب أبان مفرداً، و تارةً يجيء مشتركاً على ما عمله عبد الرحمن. و قد روى أصحابنا كلًّا من الكتابين بالأسانيد المعتبرة، و الطرق المختلفة. و لأبان كتاب «الفضائل»، و كتاب «صفّين». و له أصل من الاصول التي تعتمد عليها الإماميّة في أحكامها الشرعيّة، و قد روت جميع كتبه بالإسناد إليه و التفصيل في كتب
منزلة أبي حمزة الثماليّ
الرجال.
و منهم: أبو حمزة الثماليّ ثابت بن دينار. كان من ثقات سلفنا الصالح و أعلامهم، أخذ العلم عن الأئمّة الثلاثة: الصادق، و الباقر، و زين العابدين عليهم السلام. و كان منقطعاً إليهم، مقرّباً عندهم. أثنى عليه الصادق، فقال عليه السلام: أبُو حَمْزَةَ في زَمَانِهِ مِثْلُ سَلْمَانَ الفَارِسِيّ في زَمَانِهِ. و عن الرضا عليه السلام: أبُو حَمْزَةَ في زَمَانِهِ كَلُقْمَانَ في زَمَانِهِ.
له كتاب تفسير القرآن. رأيتُ الإمام الطبرسيّ ينقل عنه في تفسيره «مجمع البيان».۱ و له كتاب «النوادر»، و كتاب «الزهد»، و رسالة الحقوق.٢ رواها عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام. و روى عنه دعاءه في السحر، و هو أسنى من الشمس و القمر. و له رواية عن أنس، و الشعبيّ. و روى عنه وكيع، و أبو نعيم، و جماعة من أهل تلك الطبقة من أصحابنا و غيرهم، كما بيّناه في أحواله في المراجعة ۱٦.
و هناك أبطال لم يدركوا الإمام زين العابدين، و إنّما فازوا بخدمة الباقرَين الصادَقين عليهما السلام.
منزلة بُريد، و زرارة، و محمّد بن مسلم، و أبي بصير
فمنهم: أبُو القَاسِمِ بُرَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَة العِجْلِيّ، وَ أبُو بَصِيرٍ الأصغْرِ ليْثُ بْنُ مُرَادٍ البَخْتَرِيّ المُرَادِيّ، وَ أبُو الحَسَنِ زُرَارَةُ بْنُ أعْيَن،٣ وَ أبُو جَعْفَرٍ
...۱
مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِم بْنَ رَبَاحٍ الكُوفِيّ الطَّائِفِيّ الثَّقَفَيّ، و جماعة من أعلام الهدى و مصابيح الدّجى، لا يسع المقام استقصاءهم.
أمّا هؤلاء الأربعة فقد نالوا الزلفى، و فازوا بالقِدح المعلّى، و المقام الأسمى، حتى قال فيهم الصادق عليه السلام و قد ذكرهم:
هَؤْلَاءِ امَنَاءُ اللهِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ. وَ قَالَ: مَا أجِدُ أحَداً أحْيَا ذِكْرَنَا إلَّا زُرَارَةُ، وَ أبُو بَصِيرٍ لَيْثٌ، وَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَ بُرَيْدٌ. وَ لَوْ لا هَؤلَاءِ مَا كَانَ أحَدٌ يَسْتَنْبِطُ هَذَا. ثُمَّ قَالَ: هَؤلاءِ حُفَّاظُ الدِّينِ وَ امَنَاءُ أبي عَلَى حَلَالِ اللهِ وَ حَرَامِهِ، وَ هُمُ السَّابِقُونَ إلَيْنَا في الدُّنْيَا، وَ السَّابِقُونَ إلَيْنَا في الآخِرَةِ.
و قال عليه السلام: بَشِّرِ المُخْبِتِينَ بِالجَنَّةِ - ثُمَّ ذَكَرَ الأرْبَعَةَ.
و قال في كلام طويل ذكرهم فيه: كَانَ أبي ائتَمَنَهُمْ عَلَى حَلَالِ اللهِ وَ حَرَامِهِ، وَ كَانُوا عَيْبَةَ عِلْمِهِ، وَ كَذَلِكَ اليَوْمَ هُمْ عِنْدِي مُسْتَوْدَعُ سِرِّي، وَ أصْحَابُ أبي حَقَّاً، وَ هُمْ نُجُومُ شِيعَتِي أحْيَاءً وَ أمْوَاتاً. بِهِمْ يَكْشِفُ اللهُ كُلَّ بِدْعَةٍ، وَ يَنْفُونَ عَنْ هَذَا الدِّينِ انْتِحَالَ المُبْطِلِينَ وَ تَأوِيلَ الغَالِبِينَ - انتهى.
إلى غير ذلك من كلماته الشريفة التي أثبتت لهم من الفضل و الشرف و الكرامة و الولاية ما لا تسع بيانه عبارة. و مع ذلك فقد رماهم أعداء أهل البيت بكلّ إفك مبين. كما فصّلناه في كتابنا «مختصر الكلام في مؤلّفي الشيعة من صدر الإسلام». و ليس ذلك بقادحٍ في سموّ مقامهم، و عظيم خطرهم عند الله و رسوله و المؤمنين، كما أنّ حسدة الأنبياء ما زادوا أنبياء الله إلّا رفعةً، و لا أثروا في شرائعهم إلّا انتشاراً عند أهل الحقّ، و قبولًا في نفوس اولي الألباب.
كلام الشهرستانيّ في تبجيل الإمام الصادق عليه السلام
و قد انتشر العلم في أيّام الصادق عليه السلام بما لا مزيد عليه، و هرع إليه شيعة آبائه عليهم السلام من كلّ فجٍّ عميق. فأقبل عليهم بانبساطه، و استرسل إليهم بانسه، و لم يأل جهداً في تثقيفهم، و لم يدّخر وسعاً في إيقافهم على أسرار العلوم، و دقائق الحكمة، و حقائق الامور، كما اعترف به أبو الفتح الشهرستانيّ في كتابه «الملل و النحل»، حيث ذكر الصادق عليه السلام،۱ فقال:
وَ هُوَ ذُو عِلْمٍ غَزِيرٍ في الدِّينِ، وَ أدَبٍ كَامِلٍ في الحِكْمَةِ، وَ زُهْدٍ بَالِغٍ فِي الدُّنْيَا، وَ وَرَعٍ تَامٍّ عَنِ الشَّهَوَاتِ.
قَالَ: وَ قَدْ أقَامَ بِالمَدِينَةِ مُدَّةً يُفِيدُ الشِّيعَةَ المُنْتَمِينَ إلَيْهِ، وَ يُفِيضُ عَلَى المُوَالِينَ لَهُ أسْرَارَ العُلُومِ. ثُمَّ دَخَلَ العِرَاقَ وَ أقَامَ بِهَا مُدَّةً. مَا تَعَرَّضَ لِلإمامةِ - أي: للسَّلْطَنَةِ - قَطُّ، وَ لَا نَازَعَ أحَداً في الخِلافَةِ.
قَالَ: وَ مَنْ غَرِقَ في بَحْرِ المَعْرِفَةِ لَمْ يَطْمَعْ في شَطٍّ، وَ مَن تَعَلَّى إلى ذِرْوَةِ الحَقِيقَةِ لَمْ يَخَفْ مِنْ حَطٍّ - إلى آخِرِ كَلَامِهِ.٢
و هنا قال آية الله السيّد شرف الدين بالمناسبة: وَ الحَقُّ يُنْطِقُ مُنْصِفاً وَ عَنِيداً.
نبغ من أصحاب الصادق عليه السلام جمّ غفير، و عدد كثير، كانوا
أئمّة هُدى، و مصابيح دجى، و بحار علم، و نجوم هداية. و الذين دوِّنت أسماؤهم و أحوالهم في كتب التراجم منهم أربعة آلاف رجل من العراق و الحجاز و فارس و سوريا. و هم اولو مصنّفات مشهورة لدى علماء الإماميّة، و من جملتها الاصول الأربعمائة، و هي - كما ذكرناه سابقاً - أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف كُتبت من فتاوى الصادق عليه السلام على عهده. فكان عليها مدار العلم و العمل من بعده، حتى لخّصها جماعة من أعلام الامّة، و سفراء الأئمّة في كتب خاصّة، تسهيلًا للطالب، و تقريباً على المتناول.
و أحسن ما جُمع منها الكتب الأربعة التي هي مرجع الإماميّة في اصولهم و فروعهم من الصدر الأوّل إلى هذا الزمان، و هي «الكافي»، و «التهذيب»، و «الاستبصار»، و «من لا يحضره الفقيه». و هي متواترة و مضامينها مقطوع بصحّتها. و «الكافي» أقدمها و أعظمها و أحسنها و أتقنها.
و فيه ستّة عشر ألف و مائة و تسعة و تسعون حديثاً، و هي أكثر ممّا اشتملت عليه الصحاح الستّة بأجمعها، كما صرّح به الشهيد في «الذِّكري»، و غير واحد من الأعلام.
و ألّف هشام بن الحكم من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السلام كتباً كثيرةً، اشتهر منها تسعة و عشرون كتاباً، رواها أصحابنا بأسانيدهم إليه. و تفصيلها في كتابنا «مختصر الكلام في مؤلّفي الشيعة من صدر الإسلام». و هي كتب ممتعة باهرة في وضوح بيانها، و سطوع برهانها، في الاصول و الفروع، و في التوحيد و الفلسفة العقليّة، و الردّ على كُلٍّ من الزنادقة، و الملاحدة، و الطبيعيّين، و القدريّة، و الجبريّة، و الغلاة في على و أهل البيت. و في الردّ على الخوارج و الناصبة، و منكري الوصيّة إلى عليّ و مؤخِّريه و محاربيه، و القائلين بجواز تقديم المفضول و غير ذلك.
و كان هشام من أعلم أهل القرن الثاني في علم الكلام، و الحكمة الإلهيّة، و سائر العلوم العقليّة و النقليّة، مبرّزاً في الفقه و الحديث، مقدَّماً في التفسير، و سائر العلوم و الفنون. و هو ممّن فتق الكلام في الإمامة، و هذّب المذهب بالنظر. يروى عن الصادق و الكاظم، و له عندهم جاه لا يحيط به الوصف. و قد فاز منهم بثناءٍ يسمو به في الملأ الأعلى قدره. و كان في مبدأ أمره من الجهميّة. ثمّ لقى الصادق فاستبصر بهديه و لحق به، ثمّ بالكاظم ففاق جميع أصحابهما.
و رماه بالتجسيم و غيره من الطامّات مريد و إطفاء نور الله من مشكاته، حسداً لأهل البيت و عدواناً. و نحن أعرف الناس بمذهبه، و في أيدينا أحواله و أقواله. و له في نصرة مذهبنا من المصنّفات ما أشرنا إليه، فلا يجوز أن يخفى علينا من أقواله - و هو من سلفنا و فرطنا - ما ظهر لغيرنا، مع بعدهم عنه في المذهب و المشرب!
دفاع الشهرستانيّ عن هشام بن الحكم
على أنّ ما نقله الشهرستانيّ في «الملل و النحل» من عبارة هشام لا يدلّ على قوله بالتجسيم. و اليك عين ما نقله. قال:
وَ هِشَامُ بْنُ الحَكَمِ صَاحِبُ غَوْرٍ في الاصُولِ، لَا يَجُوزُ أنْ يُغْفَلَ عَنْ إلزَامَاتِهِ عَلَى المُعْتَزِلَةِ، فَإنَّ الرَّجُلَ وَرَاءَ مَا يُلْزِمُهُ عَلَى الخَصْمِ، وَ دُونَ مَا يُظْهِرُهُ مِنَ التَّشبِيهِ. وَ ذَلِكَ أنَّهُ ألْزَمَ العَلَّافَ فَقَالَ: إنَّكَ تَقُولُ: البَارِي عَالِمٌ بِعِلْمٍ وَ عِلْمُهُ ذَاتُهُ، فَيَكُونُ عَالِماً لَا كَالعَالِمِينَ، فَلِمَ لَا تَقُولُ: هُوَ جِسْمٌ لَا كَالأجْسَامِ؟! - انتهى.
و لا يخفى أنّ هذا الكلام إن صحّ عنه فإنّما هو بصدد المعارضة مع العلّاف، و ليس كلّ من عارض بشيءٍ يكون معتقداً له، إذ يجور أن يكون قصده اختبار العلّاف، و سبر غوره في العلم، كما أشار الشهرستانيّ إليه بقوله: فإنّ الرجل وراء ما يلزمه على الخصم، و دون ما يظهر من التشبيه.
على أنّه لو فُرض ثبوت ما يدلّ على التجسيم عن هشام، فإنّما يمكن ذلك عليه قبل استبصاره، إذ عرفتَ أنّه كان ممّن يرى رأي الجهميّة، ثمّ استبصر بهدي آل محمّد، فكان من أعلام المختصّين بأئمّتهم، لم يعثر أحد من سلفنا على شيء ممّا نسبه الخصم إليه. كما أنّا لم نجد أثراً ما لشيء ممّا نسبوه إلى كلِّ من زرارة بن أعين، و محمّد بن مسلم، و مؤمن الطاق، و أمثالهم، مع أنّا قد استفرغنا الوسع و الطاقة في البحث عن ذلك. و ما هو إلّا البغي و العدوان، و الإفك و البهتان، وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ.
أمّا ما نقله الشهرستانيّ عن هشام من القول بإلهيّة عليّ، فشيء يُضحك الثكلى. و هشام أجلّ من أن تُنسب إليه هذه الخرافة و السخافة.
و هذا كلام هشام في التوحيد ينادي بتقديس الله عن الحلول، و علوّه عمّا يقوله الجاهلون. و ذاك كلامه في الإمامة و الوصيّة يعلن بتفضيل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على عليّ، مصرِّحاً بأنَّ عليّاً من جملة امّته و رعيّته، و أنّه وصيّه و خليفته. و أنّه من عباد الله المظلومين المقهورين، العاجزين عن حفظ حقوقهم، المضطرّين إلى أن يضرعوا لخصومهم، الخائفين المترقّبين الذين لا ناصر لهم و لا معين.
و كيف يشهد الشهرستانيّ لهشام بأنّه صاحب غورٍ في الاصول، و أنّه لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة، و أنّه دون ما أظهره للعلّاف من قوله: فَلِمَ لا تقول: إن الله جسم لا كالأجسام؟ ثمّ ينسب إليه القول بأنّ عَليَّاً عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ اللهُ تَعَالَى؟ أ ليس هذا تناقضاً واضحاً؟!
و هل يليق بمثل هشام على غزارة فضله أن تنسب إليه الخرافات؟
كلّا. لكن القوم أبوا إلّا الإرجاف جسداً و ظلماً لأهل البيت و من يرى رأيهم. وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ.
المدوّنون من أصحاب الإمام الكاظم حتى العسكريّ عليهم السلام
و قد كثر التأليف على عهد الكاظم، و الرضا، و الجواد، و الهادي، و الحسن الزكيّ العسكريّ عليهم السلام بما لا مزيد عليه، و انتشرت الرواة عنهم، و عن رجال الأئمّة من آبائهم في الأمصار، و حسروا للعلم عن ساعد الاجتهاد، و شمّروا عن ساق الكدّ و الجدّ، فخاضوا عباب العلوم، و غاصوا على أسرارها، و أحصوا مسائلها، و محصوا حقائقها، فلم يألوا في تدوين الفنون جهداً، و لم يدّخروا في جمع أشتات المعارف وسعاً.
قال المحقّق الحلّيّ أعلى الله مقامه في «المعتَبر»: و كان من تلامذة الجواد عليه السلام فضلاء كالحسين بن سعيد، و أخيه الحسن، و أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، و أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ، و شاذان، و أبي الفضل العُمَيّ،۱ و أيّوب بن نوح، و أحمد بن محمّد بن عيسى، و غيرهم ممّن يطول تعدادهم. قال أعلى الله مقامه: و كتبهم إلى الآن منقولة بين الأصحاب دالّة على العلم الغزير - انتهى.
قال السيّد شرف الدين هنا: قلتُ: و حسبُك أنّ كتب البرقيّ تربو على مائة كتاب. و للبَزَنْطيّ الكتاب الكبير المعروف بـ «جامع البزنطيّ».
و للحسين بن سعيد ثلاثون كتاباً. و لا يمكن في هذا الإملاء إحصاء ما ألّفه تلامذة الأئمّة الستّة من أبناء الصادق عليه السلام. بَيدَ أنّي احيلك على كتب التراجم و الفهارس، فراجع منها أحوال محمّد بن سنان، و عليّ بن مهزيار، و الحسن بن محبوب، و الحسن بن محمّد بن سماعة، و صفوان بن يحيى، و عليّ بن يقطين، و عليّ بن فضال، و عبد الرحمن بن نجران، و الفضل بن شاذان - فإنّ له مائتي كتاب - و محمّد بن مسعود العيّاشيّ - فإنّ كتبه تربو على المائتين - و محمّد بن عمير، و أحمد بن محمّد بن عيسى، فإنّه روى
عن مائة رجل من أصحاب الصادق عليه السلام، و محمّد بن عليّ بن محبوب، و طلحة بن طلحة بن زيد، و عمّار بن موسى الساباطيّ، و عليّ بن النعمان، و الحسين بن عبد الله، و أحمد بن عبد الله بن مهران المعروف بابن خانة، و صدقة بن المنذر القمّيّ، و عبيد الله بن عليّ الحلبيّ الذي عرض كتابه على الصادق عليه السلام فصحّحه و استحسنه، و قال: أ ترى لهؤلاء مثل هذا الكتاب؟، و أبي عمرو الطبيب، و عبد الله بن سعيد الذي عرض كتابه على أبي الحسن الرضا عليه السلام، و يونس بن عبد الرحمن الذي عرض كتابه على الإمام أبي محمّد الحسن الزكيّ العسكريّ عليه السلام.
و مَن تتبّع أحوال السلف من شيعة آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم، و استقصى أصحاب كلّ من الأئمّة التسعة من ذرّيّة الحسين، و أحصى مؤلّفاتهم المدوَّنة على عهد أئمّتهم، و استقرأ الذين رووا عنهم تلك المؤلّفات، و حملوا عنهم حديث آل محمّد في فروع الدين و اصوله من الوف الرجال، ثمّ ألَمَّ بحملة هذه العلوم في كلّ طبقة طبقة، يداً عن يد من عصر التسعة المعصومين إلى عصرنا هذا، يحصل له القطع الثابت بتواتر مذهب الأئمّة، و لا يرتاب في أنّ جميع ما ندين الله به من فروع و اصول، إنّما هو مأخوذ من آل الرسول. لا يرتاب في ذلك إلّا مكابر عنيد، أو جاهل بليد (الذي لا يقبل كلام الطرف المقابل من وحي زهوه الوهميّ الخياليّ، و هو من أهل العناد و الخصومة، أو هو جاهل قليل الفهم و سفيه سقيم الذهن). وَ الحَمْدُ لِلَّهِ الذي هَدَانَا لِهَذَا وَ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أنْ هَدَانَا اللهُ، وَ السَّلَامُ.۱
كلام عبد الحليم الجنديّ في تدوين الشيعة للسنّة النبويّة
قال المستشار المصريّ عبد الحليم الجنديّ في كتابه الثمين «الإمام جعفر الصادق»: و لا مرية كان منهج عليّ و من تابعه في التدوين خيراً كبيراً للمسلمين منع المساوئ المنسوبة إلى بعض الروايات، و أقفل الباب دون افتراء الزنادقة و الوضّاعين. فَالسَّبْقُ في التَّدْوِينِ فَضِيلَةُ الشِّيعَةِ. و لمّا أجمع العلماء بعد زمان طويل على الالتجاء إليه كانوا يسلّمون بهذه الفضيلة - بالإجماع - لعليّ و بنيه.
و السنّة شارحة للكتاب العزيز، و هو مكتوب بإملاء صاحب الرسالة. فهي كمثله حقيقةٌ بالكتابة.
و بعد أن ذكر أنّ التدوين لم يتحقّق عند العامّة حتى قرنين أو قرنين و نصف، و أنّ الناس كانوا مجبورين على الرحلة إلى أقطار العالم لتلقّي الحديث على العلماء، و بعد أن تحدّث عن هذا الموضوع، قال:
كان تلاميذ الصادق من كبار المدوِّنين، فلقد عاشوا في عصر نهضة علميّة كبرى اعجب بها العالم. تبارت فيها يراعات المدوِّنين. و دارت عجلات التدوين كهيئة ما دارت عجلات الطباعة عند ظهور المطبعة. بدأها عمر بن عبد العزيز على رأس القرن، إذ أمر بتدوين السنّة. و تابعها علماء الامّة من أهل السُّنّة.
و من بعد وفاة الصادق في عام ۱٤۸ هـ دوّن أربعة آلاف من تلاميذه في كلّ علومه، و من جملتها ما يُسمّى (الاصول الأربعمائة). و هي أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف من فتاوى الصادق. و عليها مدار العلم و العمل من
بعده. و خير ما جمع منها كتب أربعة هي مرجع الإماميّة في اصولهم و فروعهم إلى اليوم. و هي «الكافي»، و «من لا يحضره الفقيه»، و «التهذيب»، و «الاستبصار».
و «الكافي» - للكلينيّ أبي جعفر محمّد بن يعقوب الكلينيّ (٣٢٩) - أعظمها و أقومها، و أحسنها و أتقنها، فيه ۱٦۱٩۰ حديثاً ألّفه الكلينيّ في عشرين سنةً.
و أمّا كتاب «من لا يحضره الفقيه» فوضعه ابن بابويه القمّيّ محمّد بن عليّ بن موسى بن بابويه القمّيّ۱ الملقّب بالصدوق. دخل بغداد سنة ٣٥۰ و مات بالريّ سنة ٣۸۱ هـ، و فيه ٥٩٦٣ حديثاً. و هذا الكتاب أهمّ مؤلّفاته، مع أنّه ألّف ثلاثمائة كتاب.
الشيخ الطوسيّ و الشريفان المرتضى و الرضيّ
و أمّا «التهذيب»، و «الاستبصار» فوضعهما بعد نحو قرن محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ (٤٦۰) الملقّب (شيخ الطائفة). و كان فقيهاً في مذهبَي الشيعة و أهل السُّنّة. و في «التّهذيب» ۱٣٥٩۰ حديثاً، و في «الاستبصار» ٥٥۱۱ حديثاً.
دخل الطوسيّ بغداد سنة ٤۰۸ هـ، و استقرّ بها في أيّام الشيخ المفدى محمّد بن محمّد بن النعمان (٣٣٦ - ٤۱۱ هـ) صاحب «شرح عقائد الصدوق»، و «أوائل المقالات»، و نحو مائتي مؤلَّف.
و تتلمذ الطوسيّ بعد موت الشيخ المفيد للشريف المرتضى، فنجب في مدرسة الشرف، و في «دار العلم» التي أنشأها. و كان يجري عليه اثني عشر ديناراً في الشهر طوال ملازمته له حتى وفاة المرتضى. و انتفع بكتب
المرتضى و الكتب التي حوتها مكتبته. فألّف في كلّ علوم الإسلام، و اجتهد الاجتهاد المطلق، فكان حجّةً في فقه الشيعة و السنّة.
و من أجلّ آثاره تدريسه في مجالسه، و أماليه بالنجف الأشرف في جوار مشهد أمير المؤمنين عليّ. و بهذا افتتح عصر العلم بالنجف الأشرف، فصار صنواً للأزهر الأغرّ - الذي أقامته دولة من دول الشيعة - و المعهدان هما اللذان حفظا علوم الإسلام.
فالطوسيّ، و الشريفان الرضيّ و المرتضى، و الشيخان المفيد و الصدوق، و الكلينيّ، قد وصلوا ما انقطع من التاليف منذ عصر الإمام الصادق حتى منتصف القرن الخامس، ليستمرّ التيّار في التدفّق.
و الشريفان في مدرسة جدّهما صنوان. أبوهما أبو أحمد الموسويّ (نسبة إلى جدّه الإمام موسى الكاظم). و فيه قول ابن أبي الحديد شارح «نهج البلاغة» للشريف الرضيّ: كان أبوه أبو أحمد جليل القدر عظيم المنزلة في دولة بني العبّاس و بني بويه، و لُقِّبَ بـ «الطاهر ذي المناقب». و لقّبه أبو نصر بن بويه بـ «الطاهر الأوحد». ولى نقابة الطالبيّين عدّة مرّات، كما ولى النظر في المظالم، و حجّ بالناس مراراً على الموسم.
عاش أبو أحمد طوال القرن الرابع (٣۰٤ - ٤۰۰ هـ)، و كان يستخلف على الحجّ و لدَيه: الرضيّ و المرتضى.
و الشريف الرضيّ (٣٥٩ - ٤۰٦ هـ) هو شاعر العربيّة الشهير، و جامع «نهج البلاغة» الأشهر، من خطب أمير المؤمنين عليّ. تولّى نقابة الطالبيّين في حياة أبيه و من بعده. و تولّى النيابة عن الخليفة العبّاسيّ. فهذه ولاية ينفرد بها في التأريخ، تجمع بين نقابة الطالبيّين و بين نيابة الخلافة السنّيّة.
و للشريف الرضيّ تاليف عظيمة في تفسير القرآن منها:
۱ - «تلخيص البيان في مجازات القرآن»۱.
٢ - «حقائق التأويل و متشابه التنزيل».
٣ - «معاني القرآن».
٤ - «مجازات الآثار النبويّة».
٥ - «خصائص الأئمّة».
أمّا الشريف المرتضى (٤٣٦ هـ) فيقول عنه الثعالبيّ في «يتيمة الدهر» - و هما متعاصران-:
انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد و الشرف و العلم و الأدب و الفضل و الكرم. و له شعر نهاية في الحسن. و مؤلّفاته كثيرة، منها:
«أمالي المرتضى»، «الشاقي»، «تنزيه الأنبياء»، «المسائل الموصليّة الاولى»، «مسائل أهل الموصل الثانية»، «مسائل أهل الموصل الثالثة»، «المسائل الديلميّة»، «المسائل الطرابلسيّة الأخيرة»، «المسائل الحلبيّة الاولى»، «المسائل الجرجانيّة»، «المسائل الصيداويّة»، و تاليف اخرى كبيرة في الفقه و القياس و رفضه. و قد شرح تلميذه الطوسيّ أكثر من مؤلَّف له.
و من أعظم آثاره إنشاء «دار العلم» ببغداد، و رصده الأموال عليها و إجزاؤه العطاء على التلاميذ و إطعامهم و إسكانهم، و كان يتبع «دار العلم» هذه مكتبته التي تحوي أكثر من ثمانين ألف مجلّد. و حسبه أن يكون الطوسيّ من تلاميذه. و في آثار هذا السلف العظيم تتابع ركب العلماء و المؤلّفين الفحول يخلّدون فقه الإسلام.
السبّاقون في التدوين هم شيعة عليّ من الصحابة و التابعين
مَشيَخة العلماء:
كان مع الكتب التي آلت عن عليّ و معاصريه مؤلّفات كبيرة أو صغيرة، وضعها من جاءوا بعده. و سير لهذا الثبت الضخم من شيعته من الصحابة، و التابعين، و تابعي التابعين. فهذا هو التراث التأريخيّ للشهداء و أشياع الشهداء. لا تكفّ الامّة عن ترديده، جهرةً و خفيةً، يتصدّرهم الصحابة العظماء. و اليك بعض الأسماء:
سلمان الفارسيّ (الذي يُطلق عليه سلمان المحمّديّ)، و أبو ذرّ (أصدق الناس لهجةً)، و عمّار الذي (تقتله الفئة الباغية) و هو في التسعين يحارب مع عليّ، و العبّاس بن عبد المطلّب، و أبو أيّوب الأنصاريّ، و المقداد بن الأسود الكنديّ الذي قال لعليّ يوم بيعة السقيفة: إن أمَرْتَنِي ضَرَبْتُ بِسَيْفِي، وَ إن أمَرْتَنِي كَفَفْتُ. قَالَ: اكْفُفْ! و خزيمة ذو الشهادتين، و أبو التَّيِّهان، و عبد الله و الفضل ابنا العبّاس، و بلال بن رباح، و هاشم بن عُتْبَة المِرْقَال، و أبان و خالد ابنا سعيد بن العاص، و أبي بن كعب سيّد القرّاء، و أنس بن الحرث بن نبيه، و عثمان و سهل ابنا حنيف، و بريدة، و حذيفة، و قيس بن سعد بن عبادة رئيس الأنصار، و هند بن أبي هالة - امّه امّ سلمة۱ امّ المؤمنين - و جُعدة بن هبيرة المخزوميّ - امّه امّ هاني ابنة أبي طالب - و جابر بن عبد الله الأنصاريّ.
و سيجري في آثار الصحابة التابعين لهم و تابعي التابعين. فيضيفون إلى التراث العظيم آثار رجال عظماء منهم، من أشياع عليّ، الأحنف بن قيس، سويد بن غفلة، الحكم بن عيينة، سالم بن أبي الجعد، عليّ بن أبي
الجعد، السعيدان: ابن جُبير، و ابن المسيّب،۱ و يحيى بن نظير العدوانيّ، و الخليل بن أحمد الفراهيديّ مؤسّس علم العروض، و أبو مسلم معاذ بن مسلم الهراء مؤسّس علم الصرف.
و في مدرسة التابعين هذه برز أبو هاشم (عبد الله بن محمّد ابن الحنفيّة ابن أمير المؤمنين) و أبو هاشم أوّل من تكلّم في علم الكلام. و من بعده نشأت مدرسة المعتزلة بزعامة واصل بن عطاء، و عمرو بن عبيد.
و بأبي هاشم تبدأ مدرسة المتكلّمين من الشيعة.
و من جيل التابعين هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ، و أبو مخنف الأزديّ المؤرِّخان.
و يتوالى موكب العلم العظيم من عهد عليّ. و تتعالى أصوات الدعاة العظماء للمذهب الشيعيّ، كالنابغة الجعديّ، شهد صفّين مع أمير المؤمنين، و له فيها أشعاره المشهورة و كان معه عروة بن زيد الخيل، و لبيد بن ربيعة، و كعب بن زهير صاحب قصيدة «بانت سعاد».
و من بعدهم الفرزدق، و كثير عزّة من شعراء القرن الأوّل، ثمّ الكميت، و قيس بن ذريح، و السيّد الحميريّ، و دعبل الخزاعيّ، و أبو تمّام، و البحتريّ، و ديك الجنّ، و الحسين بن الضحّاك، و ابن الروميّ،
و الأشجع السلميّ.۱
دَعوتُ فلبّاني مِنَ القوم عُصْبَةٌ | *** | فوارِسُ مِنْ هَمْدان غير لئام |
فوارِسُ من هَمْدان ليسوا بعزّل | *** | غداة الوغى من شاكرٍ و شبام |
لهمدان أخلاقٌ و دينٌ يزينهم | *** | و بأسٌ إذا لاقوا و جدّ خصام |
جزى الله همدان الجنان فَإنّها | *** | سمام العدى في كلّ يوم رجام |
فلو كنتُ بوّاباً على باب جَنَّةٍ | *** | لقلتُ لِهَمْدانَ ادخلوا بسلام |
لِمَن رايَةٌ حمراءُ يخفق ظلُّها | *** | إذا قيل: قدّمها حضين تَقَدَّمَا |
و يدنو بها في الصفّ حتى يزيرها | *** | حياض المنايا تقطر الموت و الدما |
تراهُ إذا ما كان يوم كريهة | *** | أبي فيه إلّا عزَّةً و تكرّما |
جزى الله عنّي و الجزاء بكفِّه | *** | ربيعة خيراً ما أعفَّ و أكرما |
و علم أهل البيت علم كلّ الامّة. فأمير المؤمنين عليّ في قمّة السند عند الجميع من سنّة و شيعة. لكن الذين ينقلون عنه - من الشيعة أو أهل السنّة - محلّ تفاوت.
شروط الشيعة في قبول الحديث ممّن يرويه
فالشيعة لا يقبلون كلمةً ممّن حارب عليّاً أو ظلمه من الصحابة أو التابعين. و أهل السنّة، مع اختلافهم من ناحية شروط الرواية و الراوي، لا يقبل بعضهم ما لا يصل إليه بطريقته، و يتشكّك بعضهم في بعض ما يرويه الشيعة لُامور تتعلّق بالسند أو بالمتن أو برواية من الشيعة.۱
الشيعة يروون عن أهل السنّة أيضاً
و ينبغي التنبيه على أنّ الشيعة لا يشترطون في قبول الرواية و الخبر الذي يصل إليهم من النبيّ أو الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم
أجمعين أن يكون الراوي شيعيّاً. بل يكفي أن يكون ثقة سواء كان سنيّاً أشعريّاً أم معتزليّاً، أو تابعاً لمذهب غير مذهب أهل البيت في الفروع.
ذلك أنّ مناط الخبر الصحيح و الموثّق و معيارهما عند الشيعة وثوقه و الاطمئنان إلى صدوره. من هنا نلحظ مثلًا أنّهم يعملون بموثّقة عبد الله بن بُكَيْر مع أنّه فطحيّ المذهب، لأنّه ليس من أهل الكذب في مذهبه و كلامه، و يسرد مرويّاته مستنداً مراعياً الأمانة في النقل و الكلام.
نعم، يرفض الشيعة رواية الخوارج و النواصب، لأنّهم يعادون الأئمّة عليهم السلام و يُسيئون إليهم.
و على هذا الأساس نجد أنّ كثيراً من علماء الشيعة و محدّثيهم و مفسّريهم و مؤرّخيهم منذ عصر الأئمّة عليهم السلام ينقلون و يروون أحاديث كثيرة عن رواة العامّة أو كتبهم، و أدّت هذه النقطة المهمّة إلى ما يأتي: ۱ - نقل و رواية كثير من أحاديث العامّة بتفضل الشيعة و بركاتهم، و عدم انقطاع مسلسل الرواية، و بقاء رواية السنّة النبويّة حيّة في كلّ زمان و مكان. ٢ - نتيجة لثقة العامّة و اطمئنانهم إلى علماء الشيعة العظام الذين لهم منزلتهم العلميّة عندهم و يعرفون بالصدق لديهم، فقد رووا عنهم. و كان بين رواة كثير من الأحاديث الواردة في صحاح العامّة و مسانيدهم و سننهم، بل القسم الأعظم منها شيعة كانوا حملةً للدين و أعلاماً في الحديث و الخبر و التفسير، حتى أنّه لو لم يأخذ العامّة هذه الأحاديث من الشيعة لضاع و اندثر مقدار عظيم من كتبهم.
من هنا قال الذهبيّ: لو أسقطنا رواة الشيعة من سلسلة السند، لضاع ثلث السنّة.
و قد ناقش آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ هذا الموضوع في كتاب «المراجعات». و تحدّث عنه في المراجعة (۱٤) جواباً
عن المراجعة (۱٣) للشيخ سليم البشريّ المصريّ - و اعترض فيها بأنّ الذين رووا نزول تلك الآيات في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - فيما قلتم - إنّما هم رجال الشيعة، و رجال الشيعة لا يحتجّ أهل السنّة بهم و لا يقبلون كلامهم - و حدّد الجواب في ثلاثة امور هي: ۱ - بطلان قياس المعترض. ٢ - المعترض لا يعلم حقيقة الشيعة. ٣ - امتيازهم في تغليظ حرمة الكذب في الحديث.
۱ - الجواب: أنّ قياس هذا المعترض باطل، و شكله عقيم، لفساد كلّ من صغراه و كبراه.
أمّا الصغرى، و هي قوله: «إن الذين رووا نزول تلك الآيات إنّما هم من رجال الشيعة» فواضحة الفساد. يشهد بهذا ثقات أهل السنّة الذين رووا نزولها فيما قلناه، و مسانيدهم تشهد بأنّهم أكثر طرقاً في ذلك من الشيعة كما فصّلناه في كتابنا «تنزيل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة».
و حسبك «غاية المرام» المنتشر في بلاد الإسلام.
و أمّا الكبرى، و هي قوله: «إن رجال الشيعة لا يحتجّ أهل السنّة بهم» فأوضح فساداً من الصغرى. تشهد بهذا أسانيد أهل السنّة و طرقهم المشحونة بالمشاهير من رجال الشيعة. و تلك صحاحهم الستّة و غيرها تحتجّ برجال من الشيعة. و صمهم الواصمون بالتشيّع و الانحراف، و نبزوهم بالرفض و الخلاف، و نسبوا إليهم الغلوّ و الإفراط و التنكّب عن الصراط. و في شيوخ البخاريّ رجال من الشيعة نُبزوا بالرفض، و و صموا بالبغض، فلم يقدح ذلك في عدالتهم عند البخاريّ و غيره، حتى احتجّوا بهم في الصحاح بكلّ ارتياح. فهل يصغي بعد هذا إلى قول المعترض: «إن رجال الشيعة لا يحتجّ أهل السنّة بهم؟» كلّا.
رواة الشيعة أفذاذ في الحفظ و الإتقان و الورع
٢ - و لكنّ المعترضين لا يعلمون و لو عرفوا الحقيقة لعلموا أنّ الشيعة
إنّما جروا على منهاج العترة الطاهرة، و اتّسموا بسماتها، و أنّهم لا يطبعون إلّا على غرارها، و لا يضربون إلّا على قالبها، فلا نظير لمن اعتمدوا عليه من رجالهم في الصدق و الأمانة، و لا قرين لمن احتجّوا به من أبطالهم في الورع و الاحتياط، و لا شبيه لمن ركنوا إليه من أبدالهم في الزهد و العبادة و كرم الأخلاق، و تهذيب النفس و مجاهدتها و محاسبتها بكلّ دقّة آناء الليل و أطراف النهار. لا يُبارَون في الحفظ و الضبط و الإتقان، و لا يجارَون في تمحيص الحقائق و البحث عنها بكلّ دقّة و اعتدال. فلو تجلّت للمعترض حقيقتهم - بما هي في الواقع و نفس الأمر - لناط بهم ثقته، و ألقى إليهم مقاليده، لكن جهله بهم جعله في أمرهم كخابط عشواء، أو راكب عمياء في ليلةٍ ظلماء. يتّهم ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكلينيّ، و صدوق المسلمين محمّد بن عليّ بن بابويه القمّيّ، و شيخ الامّة محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ. و يستخفّ بكتبهم المقدّسة - و هي مستودع علوم آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم - و يرتاب في شيوخهم أبطال العلم و أبدال الأرض الذين قصروا أعمارهم على النصح للّه تعالى و لكتابه و لرسوله صلّى الله عليه و آله و سلّم و لأئمّة المسلمين و عامّتهم.
٣ - و قد علم البرّ و الفاجر حكم الكذب عند هؤلاء الأبرار، و الالوف من مؤلّفاتهم المنتشرة تلعن الكاذبين، و تعلن أنّ الكذب في الحديث من الموبقات الموجبة لدخول النار. و لهم في تعمّد الكذب في الحديث حكم قد امتازوا به حيث جعلوه من مفطّرات الصائم، و أوجبوا القضاء و الكفّارة على مرتكبه في شهر رمضان كما أوجبوهما بتعمّد سائر المفطّرات.
و فقههم و حديثهم صريحان بذلك. فكيف يُتَّهمون بعد هذا في حديثهم، و هم الأبرار الأخيار، قوّامون الليل صوّامون النهار؟ و بما ذا كان الأبرار من شيعة آل محمّد و أوليائهم متّهمين، و دعاة الخوارج و المرجئة و القدريّة
غير متّهمين لو لا التحامل الصريح، أو الجهل القبيح؟!
نعوذ بالله من الخذلان، و به نَستجير من سوء عواقبِ الظُّلم و العدوان، و لا حول و لا قوّة إلّا باللهِ العليّ العظيم. و السلام.۱
و واصل الفقيه المحدِّث العالم الشيعيّ الكبير السيّد شرف الدين كلامه في كتابه المبارك المذكور. فصرّح أنّ الميزان في صحّة الرواية عند العامّة قبول الأحاديث الموثوق بها سواء كان راويها من العامّة أم من الشيعة. و أورد أسماء مائة من أعاظم الشيعة و مشاهيرهم الذين اعترف السنّة أنفسهم بتشيّعهم، و أنّهم من المبرّزين في الفقه و الحديث و رواية السنّة، و أنّهم كانوا في ذروة الورع و التقوى و الزهد. و أحصاهم حسب الترتيب الهجائيّ. و ذكر لهم ترجمة موجزة، و نبّه على أنّهم كانوا من مشايخ الرواية في جميع الصحاح الستّة أو بعضها.
تنبيهاً لإخواننا العامّة و إيقاظاً لهم نكتفي فيما يأتي بذكر أسمائهم و كناهم و تأريخ حياتهم و مَن روى عنهم مِن مشايخ العامّة.
مائة من مشايخ الشيعة كانوا من شيوخ العامّة في الرواية
حرف الهمزة (أ)
۱ - أبَانُ بْنُ تَغْلِبَ بْنِ رِبَاحِ القَارِئ الكُوفِيّ. احتجّ به مسلم في صحيحه و أصحاب السنن الأربعة (أبو داود، و الترمذيّ، و النسائيّ، و ابن ماجة). مات سنة ۱٤۱.
٢ - إبراهيم بن يزيد بن عمرو بن الأسود بن عمرو النخعيّ الكوفيّ الفقيه. احتجّ به البخاريّ و مسلم. ولد سنة ٥۰، و مات سنة ستّ أو خمس و تسعين بعد موت الحجّاج بأربعة أشهر.
٣ - أحمد بن المُفَضَّل ابن الكوفيّ الحفريّ. احتجّ به أبو زرعة و أبو حاتم و أبو داود و النسائيّ.
٤ - إسماعيل بن أبان الأزديّ الكوفيّ الورّاق. شيخ البخاريّ في صحيحه. احتجّ به البخاريّ و الترمذيّ و يحيى و أحمد. مات سنة ٢۸٦ لكن القيسرانيّ ذكر أنّ وفاته كانت سنة ٢۱٦.
٥ - إسماعيل بن خليفة الملّائيّ الكوفيّ أبو إسرائيل. احتجّ به الترمذيّ و كثير من أرباب السنن.
٦ - إسماعيل بن زكريّا الأسديّ الخَلْقَانِيّ الكوفيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة.
۷ - إسماعيل بن عَبَّاد بن عبّاس الطالقانيّ أبو القاسم المعروف بالصاحب بن عبّاد. احتجّ بن أبو داود الترمذيّ.۱ توفّي ليلة الجمعة ٢٤
من صفر سنة ٣۸٥ بالري عن ٥٩ سنة.
۸ - إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الكوفيّ المفسّر المشهور بالسُّدِّيّ. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن الأربعة، و وثّقه أحمد، و أخذ عنه الثوريّ و أبو بكر بن عيّاش. مات سنة ۱٢۷.
٩ - إسماعيل بن موسى الفَزاريّ الكوفيّ. احتجّ به الترمذيّ و أبو داود. مات سنة ٢٤٥.
حرف التاء (ت)
۱۰ - تَلِيدُ بْنُ سُلَيمَان الكُوفِيّ الأعْرَج. احتجّ به أحمد و ابن نمير.
حرف الثاء (ث)
۱۱ - ثابت بن دينار المعروف بأبي حمزة الثماليّ. احتجّ به الترمذيّ و وكيع و أبو نُعيم. مات سنة ۱٥۰.
۱٢ - ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة أبو الجهم الكوفيّ مولى امّ هاني ابنة أبي طالب، أخذ عنه سفيان الثوريّ و شعبة، و أخرج له الترمذيّ في صحيحه.
حرف الجيم (ج)
۱٣ - جابر بن يزيد بن الحارث الجُعفيّ الكوفيّ. أخذ عنه شعبة و أبو عوانة، و احتجّ به النسائيّ و أبو داود و الترمذيّ. مات سنة ۱٢۷ أو ۱٢۸.
۱٤ - جرير بن عبد الحميد الضبّيّ الكوفيّ. احتجّ به جميع أهل الصحاح السّتة. مات سنة ۱۸۷.
۱٥ - جعفر بن زياد الأحمر الكوفيّ. احتجّ به الترمذيّ و النسائيّ.
مات سنة ۱٦۷.
۱٦ - جعفر بن سليمان الضَّبُعيّ البَصْريّ. أبو سليمان. احتجّ به مسلم و النسائيّ. مات سنة ۱۷۸.
۱۷ - جَمِيعُ بن عُمَيْرَة بن ثَعْلَبَة الكوفيّ التيميّ. له في السنن ثلاثة أحاديث، و حسّن الترمذيّ له.
حرف الحاء (ح)
۱۸ - الحارث بن حصيرة، أبو النُّعْمَان الأزديّ الكوفيّ. احتجّ به
النسائيّ.
۱٩ - الحارث بن عبد الله الهَمْدَانيّ صاحب أمير المؤمنين و خاصّته. احتجّ به النسائيّ.
٢۰ - حبيب بن أبي ثابت الأسديّ الكوفيّ الكاهليّ التابعيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة. مات سنة ۱۱٩.
٢۱ - الحسن بن حيّ، و اسم حيّ صالح بن صالح الهَمْدَانيّ. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن. ولد سنة ۱۰۰، و ما سنة ۱٦٩.
٢٢ - الحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةِ الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم. مات سنة ۱۱٥ عن خمس و ستين سنة.
٢٣ - حَمَّاد بن عيسى الجُهَنِيّ، غريق الجُحْفَة. احتجّ به الترمذيّ، و ابن ماجة القزوينيّ. مات سنة ٢۰٩.
٢٤ - حُمْرَانُ بْنُ أعْيَن أخو زُرارة. احتجّ به الدارقطنيّ.
حرف الخاء (خ)
٢٥ - خالدُ بنُ مخلَّد القطوانيّ أبو الهيثم الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم و جميع أصحاب السنن.
حرف الدال (د)
٢٦ - داود بن أبي عَوْف أبو الحجاف. احتجّ به أبو داود و النسائيّ.
حرف الزاي (ز)
٢۷ - زبيد بن الحارث بن عبد الكريم الياميّ الكوفيّ أبو عبد الرحمن. احتجّ به أصحاب الصحاح و أرباب السنن كافّة. مات سنة ۱٢٤.
٢۸ - زيد بن الحباب أبو الحسين الكوفيّ التميميّ. احتجّ به مسلم.
حرف السين (س)
٢٩ - سالم بن أبي الجَعْد الأشجعيّ الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم و النسائيّ و أبو داود. توفّي ٩۷ أو ٩۸ و قيل: في سنة ۱۰۰ أو ۱۰۱.
٣۰ - سالم بن أبي حَفْصَة العِجْليّ الكوفيّ. احتجّ به الترمذيّ، و أخذ عنه السفيانان: سفيان الثوريّ و سفيان بن عُيَيْنة، كما أخذ عنه محمّد بن فضيل. مات سنة ۱٣۷.
٣۱ - سعد بن طريف الإسكاف الحنظليّ الكوفيّ. احتجّ به الترمذيّ و ابن ماجة القزوينيّ.
٣٢ - سعيد بن أشْوَع. احتجّ به البخاريّ و مسلم. توفّي في ولاية خالد بن عبد الله.
٣٣ - سعيد بن خيثم الهلاليّ. احتجّ به النسائيّ و الترمذيّ.
٣٤ - سَلِمَة بن الفَضْل الأبْرَش، قاضي الري. احتجّ به أبو داود و الترمذيّ. مات سنة ۱٩۱.
٣٥ - سَلِمَة بن كُهَيْل بن حَصِين بن كادح بن أسد الحضرميّ أبو يحيى. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات يوم عاشوراء سنة ۱٢۱.
٣٦ - سليمان بن صُرَد الخزاعيّ الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم.
قُتل مستهلّ ربيع الثاني سنة ٦٥ عن ٩٣ سنة بينما كان يقود جيش التوّابين (الذين ثأروا لدم الحسين عليه السلام).
٣۷ - سليمان بن طاخان التيميّ البصريّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ۱٤٣.
٣۸ - سليمان بن قرم بن معاذ أبو داود الضبِّيّ الكوفيّ. احتجّ به مسلم و النسائيّ و الترمذيّ و أبو داود.
٣٩ - سليمان بن مهران الكاهليّ الكوفيّ الأعمش. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ۱٤۸.
حرف الشين (ش)
٤۰ - شَريك بن عبد الله بن سِنان بن أنس النَّخَعيّ الكوفيّ. القاضي. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن الأربعة. مات سنة ۱۷۷ أو ۱۷۸.
٤۱ - شُعبة بن الحجّاج أبو الوَرْد العتكيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. ولد سنة ۸٣، و مات سنة ۱٦۰.
حرف الصاد (ص)
٤٢ - صَعْصَعَة بن صُوحان بن حُجْر بن الحارث العَبْديّ. احتجّ به النسائيّ.
حرف الطاء (ط)
٤٣ - طاووس بن كيسان الخَوْلانيّ الهَمْدَانيّ أبو عبد الرحمن. احتجّ به أرباب الصحاح الستّة و غيرهم. توفّى حاجّاً بمكّة قبل يوم التروية بيوم، و ذلك في سنة ۱۰٤ أو ۱۰٦.
حرف الظاء (ظ)
٤٤ - ظالم بن عمرو بن سفيان، أبو الأسود الدؤليّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة. مات سنة ٩٩ و عمره ۸٥ سنة.
حرف العين (ع)
٤٥ - عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو الليثيّ أبو الطُّفَيل. احتجّ به مسلم. وُلدَ عام احد. مات سنة ۱۰۰، و قيل: سنة ۱۰٢، أو ۱۰۷، أو ۱۱۰. و أرسل ابن القيسرانيّ أنّه مات سنة ۱٢۰.
٤٦ - عَبَّاد بن يعقوب الأسديّ الرَّواجِنيّ الكوفيّ. أخذ عنه الأئمّة الستّة كالبخاريّ و الترمذيّ و ابن ماجة و ابن خزيمة و ابن أبي داود. فهو شيخهم و محلّ ثقتهم. و مات في شوّال سنة ٢٥۰.
٤۷ - عبد الله بن داود أبو عبد الرحمن الهَمْدَانيّ الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ. مات في سنة ٢۱٢.
٤۸ - عبد الله بن شَدَّاد بن الهاد. احتجّ به أصحاب الصحاح كلّهم و سائر الأئمّة.
٤٩ - عبد الله بن عمر بن محمّد بن أبان بن صالح بن عُمَير القُرَشيّ الكوفيّ الملقّب مُشْكَدَانَة، شيخ مسلم و أبي داود و البغويّ، و خلق من طبقتهم أخذوا عنه، احتجّ به مسلم و أبو داود. مات في سنة ٢٣۷ أو ٢٣۸ أو ٢٣٩.
٥۰ - عبد الله بن لُهَيْعَة بن عَقَبَة الحضرميّ قاضي مصر و عالمها، احتجّ به الترمذيّ و أبو داود و ابن ماجة القزوينيّ. مات منتصف ربيع الثاني سنة ۱۷٤.
٥۱ - عبد الله بن ميمون القدّاح المكّيّ. من أصحاب الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام. احتجّ به الترمذيّ.
٥٢ - عبد الرحمن بن صالح الأزديّ أبو محمّد الكوفيّ. احتجّ به النسائيّ و عبّاس الدوريّ و الإمام البغويّ. مات سنة ٢٣٥.
٥٣ - عبد الرزّاق بن همّام بن نافع الحِمْيَريّ الصنعانيّ. كان من
أعيان الشيعة و خيرة سلفهم الصالحين. و هو مصنّف «الجامع الكبير». احتجّ به أصحاب الصحاح و المسانيد جميعهم. أدرك من أيّام الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام اثنتين و عشرين سنة عاصره فيها. و مات في أيّام الإمام أبي جعفر الجواد عليه السلام قبل وفاته بتسع سنين. لأنّه ولد سنة ۱٢٦ و مات سنة ٢۱۱.
٥٤ - عبد الملك بن أعْيَن أخو زُرارة و حُمران و بُكَير و عبد الرحمن، و مَلِك و موسى و ضُرَيس، و امّ الأسود بني أعين، حدّث عنه السفيانان (الثوريّ و ابن عُيَيْنَة). و قال ابن القيسرانيّ: كان شيعيّاً. و سمع أبا وائل في التوحيد عند البخاريّ، و في الإيمان عند مسلم، و روى عنه سفيان بن عُيَيْنَة.
٥٥ - عبيد الله بن موسى العَبْسيّ الكوفيّ. شيخ البخاريّ في صحيحه. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. كانت وفاته مستهلّ ذي القعدة سنة ٢۱٣.
٥٦ - عثمان بن عُمَير أبو اليقظان الثقفيّ الكوفيّ البَجَليّ. يقال له: عثمان بن أبي زرعة. احتجّ به أبو داود و الترمذيّ و غيرهما.
٥۷ - عَديّ بن ثابت الكوفيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة، و أجمعوا على الإخراج عنه.
٥۸ - عَطِيَّة بن سَعْد بن جُنَادَة العَوْفيّ الكوفيّ أبو الحسن التابعيّ الشهير. احتجّ به أبو داود و الترمذيّ. توفّى سنة ۱۱۱.
٥٩ - العلاء بن صالح التيميّ الكوفيّ. احتجّ بن أبو داود و الترمذيّ.
٦۰ - عَلْقَمَة بن قيس بن عبد الله النَّخَعيّ أبو شبل. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ٦٢.
٦۱ - عليّ بن بَديمَة. أخرج عنه أصحاب السنن.
٦٢ - عَليّ بن الجَعْد أبو الحسن الجوهريّ البغداديّ. مولى بني هاشم، أحد شيوخ البخاريّ و احتجّ به. توفّى سنة ٢٣۰ و هو ابن ٩٦ سنة.
٦٣ - عليّ بن زيد بن عبد الله بن زهير بن أبي مليكة بن جَذْعان أبو الحسن القُرشيّ التيميّ البصريّ. احتجّ به مسلم. توفّي سنة ۱٣۱.
٦٤ - عليّ بن صالح أخو الحسن بن صالح. احتجّ به مسلم. ولد سنة ۱۰۰، و مات سنة ۱٥۱.
٦٥ - عليّ بن غُراب أبو يحيى الفَزَاريّ الكوفيّ. احتجّ به النسائيّ و ابن ماجة القزوينيّ. مات سنة ۱۸٤ أيّام هارون.
٦٦ - عليّ بن قادِم أبو الحسن الخُزاعيّ الكوفيّ. احتجّ به الترمذيّ و أبو داود. مات سنة ٢۱٣.
٦۷ - عليّ بن المنذر الطرائفيّ. شيخ الترمذيّ و النسائيّ و ابن صاعد و عبد الرحمن بن أبي حاتم، و غيرهم من طبقتهم أخذوا عنه و احتجّوا به، و احتجّ به الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة القزوينيّ في سننهم. مات سنة ٢٥٦.
٦۸ - عليّ بن هاشم بن البريد أبو الحسن الكوفيّ الخزّاز العائذيّ. أحد مشائخ الإمام أحمد. احتجّ به الخمسة (أصحاب الصحاح و السنن ما عدا البخاريّ). مات سنة ۱۸۱.
٦٩ - عمّار بن زُرَيق الكوفيّ. احتجّ به مسلم، و أبو داود و النسائيّ.
۷۰ - عمّار بن معاوية أو ابن أبي معاوية. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن الأربعة. توفّي سنة ۱٣٣.
۷۱ - عمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعيّ الهمدانيّ الكوفيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. ولد لثلاث سنين بقين من خلافة عثمان، و توفّي سنة ۱٢۷، أو ۱٢۸، أو ۱٢٩، أو ۱٣٢.
۷٢ - عوف بن أبي جميلة البصريّ أبو سهل، يُعرَف بالأعرأبي. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ۱٤٦.
حرف الفاء (ف)
۷٣ - الفضل بن دُكَين المُلائيّ الكوفيّ أبو نعيم. شيخ البخاريّ في صحيحه. احتجّ به أرباب الصحاح الستّة. كان مولده سنة ۱٣۰، و وفاته سنة ٢٢۰ أيّام المعتصم.
۷٤ - فُضيل بن مرزوق الأغرّ الرواسيّ الكوفيّ أبو عبد الرحمن. احتجّ به مسلم. مات سنة ۱٥۸.
۷٥ - فطر بن خليفة الحَنَّاط الكوفيّ. احتجّ به البخاريّ و أرباب السنن الأربعة و غيرهم. مات سنة ۱٥٣.
حرف الميم (م)
۷٦ - مالك بن إسماعيل بن زياد بن دِرْهم أبو غسّان الكوفيّ النهديّ. شيخ البخاريّ في صحيحه. احتجّ به مسلم. مات سنة ٢۱٩.
۷۷ - محمّد بن خازم أبو معاوية الضَّرير التميميّ الكوفيّ. احتجّ به أرباب الصحاح الستّة. مات سنة ۱٩٥.
۷۸ - محمّد بن عبد الله الضبِّيّ الطَّهَانيّ النيسابوريّ أبو عبد الله الحاكم. إمام الحفّاظ و المحدِّثين. ولد سنة ٣٢۱، و مات سنة. ٤۰٥۱
...۱
۷٩ - محمّد بن عبيد الله بن أبي رافع المَدَنيّ. احتجّ به الترمذيّ و ابن ماجة القزوينيّ و الطبرانيّ.
۸۰ - محمّد بن فُضيل بن غزوان أبو عبد الرحمن الكوفيّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ۱٩٥، و قيل: سنة ۱٩٤.
۸۱ - محمّد بن مسلم بن الطائفيّ. كان من البارزين في أصحاب الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام. احتجّ به مسلم. مات سنة ۱۷۷. و في
تلك السنة مات سميّه محمّد بن مسلم بن جمّاز بالمدينة.
۸٢ - محمّد بن موسى بن عبد الله الفِطْريّ المدنيّ. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن.
۸٣ - معاوية بن عمّار الدُّهْنِيّ البَجَليّ الكوفيّ. احتجّ به مسلم و النسائيّ. مات سنة ۱۷٥.
۸٤ - معروف بن خَرَّبوذ الكرخيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم و أبو داود. توفّي ببغداد سنة ٢۰۰، و قبره معروف يزار. و كان سَريّ السَّقَطي من تلامذته.۱
ترجمة معروف الكرخيّ و توثيقه (ت)
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
۸٥ - منصور بن المُعْتَمِر بن عبد الله بن ربيعة السَّلْمِيّ الكوفيّ. كان من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السلام. احتجّ به أصحاب الصحاح السّتة و غيرهم. مات سنة ۱٣٢.
۸٦ - المِنْهَال بن عمرو الكوفيّ التابعيّ. احتجّ به البخاريّ و مسلم.
۸۷ - موسى بن قيس الحضرميّ أبو محمّد. جاء حديثه في السنن. مات أيّام المنصور.
حرف النون (ن)
۸۸ - نفيع بن الحارث أبو داود النَّخَعيّ الكوفيّ الهمدانيّ السَّبِيعيّ. احتجّ به الترمذيّ، و أخرج له أصحاب المسانيد.
۸٩ - نوح بن قيس بن رِباح الحدانيّ، و يقال: الطاحيّ البصريّ. احتجّ به مسلم و أصحاب السنن.
حرف الهاء (هـ)
٩۰ - هارون بن سعد العِجْليّ الكوفيّ. احتجّ به مسلم.
٩۱ - هاشم بن البريد بن زيد أبو عليّ الكوفيّ. احتجّ به أبو داود و النسائيّ.
٩٢ - هُبَيْرة بن بريم الحِمْيَريّ. صاحب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. نظير الحارث في ولائه و اختصاصه. احتجّ به أصحاب السنن.
٩٣ - هشام بن زياد أبو المِقْدَام البصريّ. احتجّ به الترمذيّ و ابن ماجة القزوينيّ.
٩٤ - هشام بن عمّار بن نصير بن مَيْسَرة أبو الوليد، و يقال: الظفريّ الدمشقيّ. شيخ البخاريّ في صحيحه. ولد سنة ۱٥٣، و مات في آخر المحرّم سنة ٢٤٥.
٩٥ - هُشَيم بن بشير بن قاسم بن دينار السَّلْميّ الواسطيّ أبو معاويه. كان حافظاً. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة. مات سنة ۱۸٣، و له ۷٩ عاماً.
حرف الواو (و)
٩٦ - وكيع بن الجَرَّاح بن مَليح بن عَدي أبو سفيان الرَّواسيّ
الكوفيّ، من قيس غيلان. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات بفيد قافلًا من الحجّ في المحرّم سنة ۱٩۷، و له من العمر ٦۸ سنة.
حرف الياء (ي)
٩۷ - يحيى بن الجَزَّار العَرَنيّ الكوفيّ. صاحب أمير المؤمنين عليه السلام. احتجّ به مسلم و أرباب السنن.
٩۸ - يحيى بن سعيد القَطَّان أبو سعيد مولى بني تميم البصريّ. احتجّ به أصحاب الصحاح الستّة و غيرهم. مات سنة ۱٩۸، عن ۷۸ سنة.
٩٩ - يزيد بن أبي زياد الكوفيّ أبو عبد الله مولى بني هاشم. احتجّ به أصحاب السنن الأربعة. مات سنة ۱٣٦، و له ٩۰ سنة تقريباً.۱
۱۰۰ - أبو عبد الله الجَدَليّ، احتجّ به أبو داود و الترمذيّ.
أجل، إذا لاحظنا هؤلاء الأشخاص، و آخرين كثيرين غيرهم - و قد قال آية الله شرف الدين في صدر هذا المقال: ... مقتصراً على ثلّة ... على شرط أن لا أكلّف بالاستقصاء فإنّه ممّا يضيق عنه الوسع في هذا الإملاء - استبان لنا أنّ اصول فقه العامّة و حديثهم و رجالهم هم الشيعة. و إذا أنعمنا النظر، عرفنا أنّ أكثر الرجال المذكورين في سند الروايات التي تنقلها هذه الكتب الضخمة هم من الشيعة، و مشهورون بالصدق و الأمانة في الحديث. و هذه نقطة في غاية الدقّة. و عند ما ندرك أنّنا إذا أسقطنا رجال الشيعة من سند رواياتهم، فحينئذٍ يسقط كثير من رواياتهم، و من ثمّ يصغر حجم كتبهم و تتغيّر أشكالها، و يمكن أن يتحوّل الكتاب الضخم إلى رسالة و كرّاسة.
ذنب المحدِّثين من الشيعة تشيّعهم!
إذا نظرنا في أحوال رواة الشيعة واحداً واحداً، وجدناهم اولي ضبط و ثبت و وثوق و ورع. و ذنبهم الوحيد الذي لا يُغْفَر عند العامّة هو أنّهم شيعة علي بن أبي طالب. و به يُسقطون مزاياهم كلّها. على سبيل المثال، الحارث الهمدانيّ! الجدّ الأعلى للشيخ البهائيّ، نراهم يحطّون من شأنه لتشيّعه الصحيح، مع أنّهم لا يمترون في فقهه و علمه و درايته لكنّهم لا يرعوون عن اتّهامه بالغلوّ، و الرفض، و أحياناً الكذب، ليُسقطوا مقامه و منزلته عند العامّة. ثمّ ذكر المرحوم السيّد شرف الدين ترجمته بما نصّه:
(الحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الهَمْدَانيّ صاحب أمير المؤمنين و خاصّته.
كان من أفضل التابعين، و أمره في التشيّع غنيّ عن البيان. و هو أوّل من
عدّهم ابن قُتيبة في معارفه مِن رجال الشيعة. و قد ذكره الذهبيّ في ميزانه فاعترف بأنّه من كبار علماء التابعين، ثمّ نقل عن ابن حبّان القول بكَونه غالياً في التشيّع، ثمّ أورد من تحامل القوم عليه - بسبب ذلك - شيئاً كثيراً. و مع هذا فقد نقل إقرارهم بأنّه كان من أفقه الناس، و أفرض الناس، و أحسب الناس لعلم الفرائض، و اعترف بأنّ حديث الحارث موجود في السنن الأربعة. و صرّح بأنّ النسائيّ مع تعنّته في الرجال قد احتجّ بالحارث، و قويّ أمره. و أنّ الجمهور مع توهينهم أمره يروون حديثه في الأبواب كلّها، و أنّ الشعبيّ كان يكذّبه، ثمّ يروي عنه. قال في «الميزان»: و الظاهر أنّه يكذّبه في لهجته و حكاياته، و أمّا في الحديث النبويّ، فلا.
قال في «الميزان»: و كان الحارث من أوعية العلم. ثمّ روى في «الميزان» عن محمّد بن سيرين أنّه قال: كان من أصحاب ابن مسعود خمسة يؤخذ عنهم، أدركتُ منهم أربعة، و فاتني الحارث، فلم أره، و كان يفضل عليهم و كان أحسنهم.
قال: و يختلف في هؤلاء الثلاثة أيّهم أفضل، علقمة و مسروق و عبيدة، إلى آخر كلامه.
قلتُ: و قد سلّط الله على الشعبيّ من الثقات الأثبات من كذّبه و استخفّ به جَزَاءً وِفَاقاً، كما نبّه على ذلك ابن عبد البَرّ في كتابه «جامع بيان العلم» حيث أورد كلمة إبراهيم النخعيّ الصريحة في تكذيب الشعبيّ.۱
ثمّ قال: و أظنّ الشعبيّ عوقب لقوله في الحارث الهمدانيّ: حَدَّثَنِي
الحَارِثُ وَ كَانَ أحَدَ الكَذَّابِينَ.
قال ابن عبد البرّ: و لم يبن من الحارث كذب، و إنّما نقم عليه إفراطه في حبّ عليّ، و تفضيله له على غيره. (قال:) و من هاهنا كذّبه الشعبيّ، لأنّ الشعبيّ يذهب إلى تفضيل أبي بكر، و إلى أنّه أوّل من أسلم، و تفضيل عمر ... إلى آخره كلامه.
قلتُ: و أنّ ممّن تحامل على الحارث محمّد بن سعد، حيث ترجمه في [الجزء السادس من] «الطبقات»، فقال: إن له قول سوء. و بخسه حقّه، كما جرت عادته مع رجال الشيعة، إذ لم يُنصفهم في علم، و لا عمل. و القول السيّئ الذي نقله ابن سعد عن الحارث إنّما هو الولاء لآل محمّد، و الاستبصار بشأنهم، كما أشار إليه ابن عبد البرّ فيما نقلناه من كلامه. كانت وفاة الحارث سنة خمس و ستّين رحمه الله تعالى.۱
و نقل أبو إسحاق الجوزجانيّ عبارة فيها من الفظاظة ما جرت به عادة الجوزجانيّ و سائر النواصب، قال: و كان من أهل الكوفة قوم لا يحمد الناس مذاهبهم، هم رؤوس محدِّثي الكوفة، مثل أبي إسحاق و منصور، زُبَيْد الياميّ و الأعمش و غيرهم من أقرانهم. احتملهم الناس لصدق ألسنتهم في الحديث، و توقّفوا عند ما أرسلوا، إلى آخر كلامه الذي أنطقه الحقّ به. وَ الحَقُّ يُنْطِقُ مُنْصِفاً وَ عَنِيداً.
إ ذَا رَضِيَتْ عَنِّي كِرَامُ عَشيِرَتِي | *** | فَلَا زَالَ غَضْبَاناً عَلَيّ لِئَامُهَا٢ |
***
و خصّص المرحوم الصدر الصحيفة السادسة من كتابه في عدد ما صنّفه الشيعة الإماميّة في الحديث من طريق أهل البيت من عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى عهد أبي محمّد الحسن العسكريّ عليه السلام.
قال: فاعلم أنّها تزيد على ستّة آلاف و ستمائة كتاب، على ما ضبطها الشيخ الحافظ محمّد بن الحسن الحرّ صاحب «الوسائل»، و نصّ على ذلك في آخر الفائدة الرابعة من كتابه الجامع الكبير في الحديث المسمّى بـ «وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة». و قد ذكرتُ أنا في كتابي «نهاية الدراية في اصول علم الحديث» ما يؤيّد هذا العدد.۱
تقدّم الشيعة في تأسيس العلوم الإسلاميّة
توسّع المرحوم الصدر في كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» في حديث عن تقدّم الشيعة في تدوين جميع العلوم و تصنيفها، و ذكر أدلّة كثيرة على كلامه. و اختصر ذلك في كتاب «الشيعة و فنون الإسلام»، و اكتفى برءوس المطالب. و ننقل فيما يأتي منتخباً من هذا الكتاب المختصر ليطّلع القرّاء الكرام على شأن الشيعة و منزلتهم البالغة الأهمّيّة في تقدّمهم و سبقهم.
الشيعة هم السبّاقون في العلوم القرآنيّة المتنوّعة
قال المرحوم الصدر: أوّل من صنّف في علم تفسير القرآن سعيد بن جُبَيْر التابعيّ رضي الله عنه. كان أعلم التابعين بالتفسير. كما حكاه السيوطيّ في «الإتقان» عن قتادة. و ذكره ابن النديم في «الفهرست» عند ذكر للكتب المصنّفة في التفسير، و لم ينقل تفسيراً لأحدٍ قبله. و كانت شهادته سنة أربع و تسعين من الهجرة.
و كان ابن جبير من خلّص الشيعة. نصّ على ذلك علماؤنا في كتب
الرجال، كالعلّامة جمال الدين ابن المطهَّر في «الخلاصة»، و أبي عمرو الكشّيّ في كتابه في الرجال. و روى روايات عن الأئمّة عليهم السلام في مدحه و تشيّعه و استقامته. قال: و ما كان سبب قتل الحجّاج له إلّا على هذا الأمر - يعني التشيّع - قتله سنة ٩٤.
ثمّ اعلم أنّ جماعة من التابعين من الشيعة صنّفوا في تفسير القرآن بعد سعيد بن جبير.
منهم: السُّدِّي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفيّ أبو محمّد القُرَشيّ المتوفّى سنة سبع و عشرين و مائة. قال السيوطيّ في «الإتقان»: أمْثَلُ التفاسير تفسيرُ إسماعيل السُّدِّي. روى عنه الأئمّة مثل الثوريّ و شعبة.
قلتُ: و قد ذكره و ذكر تفسيره النجاشيّ، و الشيخ أبو جعفر الطوسيّ في فهرست أسماء مصنّفي الشيعة. و قد نصّ على تشيّعه ابن قتيبة في كتاب «المعارف»، و العسقلانيّ في «التقريب» و «تهذيب التهذيب». و كان من أصحاب عليّ بن الحسين و الباقر و الصادق عليهم السلام.
و منهم: محمّد بن السائب بن بِشْر الكَلْبيّ صاحب التفسير المشهور. و ذكره ابن النديم عند تسمية الكتب المصنَّفة في تفسير القرآن.
و قال ابن عديّ في «الكامل»: للكلبيّ أحاديث صالحة، و خاصّة عن أبي صالح، و هو معروف بالتفسير. و ليس لأحد تفسير أطول منه و لا أشبع. و قال السمعانيّ: محمّد بن السائب صاحب «التفسير»، كان من أهل الكوفة، قائلًا بالرجعة. و ابنه هشام ذو نسب عالٍ، و في التشيّع غالٍ.
قلت: كان من الشيعة المخصوصين بالإمام زين العابدين و ابنه الباقر، و كانت وفاته سنة ستّ و أربعين بعد المائة من الهجرة المباركة.
و منهم: جَابِرُ بْنُ يَزِيد الجُعفِيّ الإمام في التفسير، أخذه عن الإمام
الباقر، و كان من المنقطعين إليه. و صنَّف تفسير القرآن و غيره. و توفّي سنة سبع و عشرين و مائة بعد الهجرة. و هو غير تفسير الإمام الباقر الذي ذكره ابن النديم عند تسمية الكتب المصنَّفة في التفسير.
قال: كتاب الباقر محمّد بن عليّ بن الحسين، رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر رئيس الجاروديّة الزيديّة.
قلتُ: و قد رواه عن أبي الجارود أيّام استقامته قبل تزيّده جماعة من ثقات الشيعة كأبي بصير يحيى بن القاسم الأسديّ و غيره.
إن أوّل من دوّن علم القراءة أبَانُ بْنُ تَغْلِب الربعيّ أبو سعيد. و يقال: أبو اميمة الكوفيّ. قال النجاشيّ في فهرس أسماء مصنّفي الشيعة: كان أبان رحمه الله مقدَّماً في كلّ فنّ من العلم، في القرآن و الفقه و الحديث. و لأبان قراءة مفردة مشهورة عند القرّاء. ثمّ أوصل إسنده عن محمّد بن موسى بن أبي مريم صاحب اللؤلؤ عن أبان في رواية الكتاب.
و قد ذكر ابن النديم في «الفهرست» تصنيف أبان في القراءة. قال: و له من الكتب «معاني القرآن» لطيف، كتاب «القراءة»، و كتاب من الاصول في الرواية على مذهب الشيعة - انتهى.
و بعد أبان، صنّف حَمْزَةُ بْنُ حَبِيب أحد القرّاء السبعة كتاب «القراءة». قال ابن النديم: كتاب «القراءة» لحمزة بن حبيب، و هو أحد السبعة من أصحاب الصادق - انتهى. و قد ذكره الشيخ أبو جعفر الطوسيّ في كتاب «الرجال» في أصحاب الصادق عليه السلام أيضاً. و وجد بخطّ الشيخ الشهيد محمّد بن مكّيّ، عن الشيخ جمال الدين أحمد بن محمّد بن الحدّاد الحلّيّ ما صورته: قرأ الكسائيّ القرآن على حمزة، و قرأ حمزة على أبي عبد الله الصادق، و قرأ على أبيه، و قرأ على أبيه، و قرأ على أبيه، و قرأ على أمير المؤمنين عليّ.
قلتُ: و حمزة على الأعمش أيضاً، و على حمران بن أعين، و هما من شيوخ الشيعة أيضاً. و لم يعهد لأحدٍ قبل أبان، و حمزة تصنيف في القراءات، فإنّ الذهبيّ و غيره ممّن كتب في طبقات القرّاء نصّوا على أنّ أوّل من صنّف في القراءات أبو عبيد القاسم بن سلّام المتوفّى سنة ٢٢٤ هـ. و لا ريب في تقدّم أبان، لأنّ الذهبيّ في «الميزان»، و السيوطيّ في «الطبقات» نصّا على أنّه توفّي سنة ۱٤۱، فهو مُقدَّم على أبي عبيد بثلاث و ثمانين سنة، و كذلك حمزة بن حبيب، فإنّهم نصّوا أنّه تولّد سنة ثمانين، و مات سنة ۱٥٦، و قيل: سنة ۱٥٤، و قيل: سنة ۱٥۸، و أنّ الأخير وَهْمٌ.
و كيف كان فالشيعة أوّل من صنّف في القراءة، و لا يخفى هذا على الحافظ الذهبيّ، و حافظ الشام السيوطيّ، لكن إنّما أرادا أوّل مَن صنّف في القراءات من أهل السنّة، لا مطلقاً.
و قد تقدّم في التصنيف في القراءة على أبي عبيد من الشيعة جماعة آخرون غير من ذكرنا، مثل ابن سَعْدَان: أبي جعفر محمّد سعدان الضرير. و مثل أبي جعفر محمّد بن الحسن بن أبي سارة الرَّوَاسيّ الكوفيّ استاذ الكسائيّ و الفرّاء، من خواصّ الإمام الباقر عليه السلام، و مثل زيد الشهيد، له قراءة جدّه أمير المؤمنين، رواها عنه عمر بن موسى الرَّجهيّ.
في أوّل كتاب قراءة زيد: هذه القراءة سمعتها من زيد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، و ما رأيتُ أعلم بكتاب الله و ناسخه و منسوخه و مشكله و إعرابه منه. و ممّن تقدّم من الشيعة في التصنيف في معان شتّى من القرآن:
أبَانُ بْنُ تَغْلِب، صنّف كتاب «معاني القرآن». و لم أعثر على أحدٍ صنّف فيه قبل أبان.
عبد الله بن عبد الرحمن الأصَمّ المَسْمَعيّ البصريّ، من شيوخ
الشيعة، من أصحاب أبي عبد الله الصادق عليه السلام. و هو أوّل من صنّف كتاباً في الناسخ و المنسوخ. و بعد دارم بن قبيصة بن نَهْشَل بن مجمع أبو الحسن التميميّ الدارميّ، من شيوخ الصدر الأوّل من الشيعة. عمّر حتى أدرك الإمام الرضا عليه السلام، و مات في أواخر المائة الثانية. له كتاب «الوجوه و النظائر»، و كتاب «الناسخ و المنسوخ». و قد ذكرهما النجاشيّ في ترجمته في فهرست أسماء المصنّفين من الشيعة. و صنّف بعدهما في ذلك الحسن بن عليّ بن فَضَّال صاحب الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، و توفّي سنة أربع و عشرين و مائتين. و الشيخ الأعظم أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعريّ القمّيّ، صاحب الرضا أيضاً، و عاش حتى أدرك الإمام أبا محمّد الحسن العسكريّ.
و أوّل من صنّف في نوادر القرآن: عليّ بن الحسين بن فَضَّال، أحد شيوخ الشيعة في المائة الثالثة. قال ابن النديم في «الفهرست»: و كتاب الشيخ عليّ بن إبراهيم بن هاشم في نوادر القرآن، شيعيّ، كتاب عليّ بن الحسن بن فضّال من الشيعة، كتاب أبو النصر (أبو النضر - ظ) العيّاشيّ من الشيعة - انتهى.
و أوّل من صنّف في مُتَشَابِهِ القُرْآنِ: حمزة بن حبيب الزيّات الكوفيّ، من شيعة أبي عبد الله الصادق و صاحبه. المتوفّى سنة ستّ و خمسين بعد المائة بحُلْوان.
و أوّل من صنّف في مَقْطُوعِ القُرْآنِ و مَوْصُولِهِ هو الشيخ حمزة بن حبيب، و قد ذكره محمّد بن إسحاق المعروف بابن النديم في «الفهرست».
و أوّل من وضع نقط المصحف و أعربه و حفظه عن التحريف في أكثر الكتب هو أبو الأسود الدؤليّ، و في بعضها يحيى بن يَعْمُر العدوانيّ تلميذه، و الأوّل هو الأصحّ. و أيّهما كان فالفضل للشيعة، لأنّهما من الشيعة
بالاتّفاق.
و أوّل من صنّف في مَجَازِ القُرْآنِ: الفَرَّاء يحيى بن زياد المتوفّى سنة سبع و مائتين، و الآتي ذكره في أئمّة علم النحو. و قد نصّ المولى عبد الله الأفنديّ في «رياض العلماء» على أنّه من الشيعة الإماميّة. ثمّ قال: و ما قال السيوطيّ من ميل الفرّاء إلى الاعتزال لعلّه مبنيّ على خلط أكثر علماء الجمهور بين اصول الشيعة و المعتزلة، و إلّا فهو شيعيّ إماميّ - انتهى.
و قد كتب في مجازات القرآن جماعة، و أحسن ما صنّف فيه كتاب «مجازات القرآن» للسيّد الشريف الرضيّ الموسويّ أخي السيّد المرتضى.
و أوّل من صنّف في أمثال القرآن هو الشيخ الجليل محمّد بن محمّد ابن الجُنَيد. و قد ذكر ابن النديم في «الفهرست» في آخر تسمية الكتب المؤلّفة في معانٍ شتّى من القرآن ما لفظه «كتاب الأمثال» لابن الجنيد - انتهى. و لم أعثر على أحدٍ صنّف في ذلك قبله.
و أوّل من صنّف في فضائل القرآن: أبي بْنُ كَعْبٍ الأنصَارِيّ الصحابي. نصّ عليه ابن النديم في «الفهرست». و كأنّ الجلال السيوطيّ لم يطّلع على تقدّم أبي في ذلك، فقال: أوّل مَن صنّف في فضائل القرآن الإمام محمّد بن إدريس الشافعيّ المتوفّى سنة أربع و مائتين - انتهى.
ثمّ إن السيّد عليّ بن صدر الدين المدنيّ صاحب «سلافة العصر» قد نصّ على تشيّع أبي بن كعب في كتاب الطبقات أعني «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة». و أكثر من الدلالات و الشواهد على تشيّعه. و قد زدت أنا عليه شواهد و دلالات في الأصل، «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام».
و أوّل من صَنّف في أسباع القرآن۱ كتاباً و كتاباً في حدود آى
القرآن: حمزة بن حبيب الكوفيّ الزيّات، أحد السبعة من الشيعة، كما تقدم النصّ على ذلك من الشيوخ. و قد ذكر كتاب «أسباع القرآن»، و كتاب «حدود آى القرآن» ابنُ النديم فى «الفهرست» لحمزة المذكور. و لا أعلم أحداً تقدّمه فيها.
أئمّة علم القرآن من الشيعة
منهم: عبد الله بن عبّاس، و هو أوّل من أملي في تفسير القرآن من الشيعة. و قد نصّ كلّ علمائنا على تشيّعه. و ترجمه ترجمة حسنة السيّد في كتابه «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة». مات سنة ٦۷ هـ في الطائف. و لمّا حضرته الوفاة قال:
اللَهُمَّ أنّي أتَقَرَّبُ إلَيْكَ بِوَلَائِي لِعَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
و منهم: جابر بن عبد الله الأنصاريّ الصحابي. و هو في الطبقة الاولى من طبقات المفسِّرين لأبي الخير. و قال الفضل بن شاذان النيسابوريّ صاحب الرضا: جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضي الله عنه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. و قال ابن عقدة عند ذكره: منقطع إلى أهل البيت. مات بالمدينة بعد السبعين من الهجرة، و عمره أربع و تسعون سنة.
و منهم: أبي بْنُ كَعْبٍ سَيِّدُ القُرَّاءِ، عدّوه في الطبقة الاولى من الفسِّرين من الصحابة. و هو كما عرفتَ من الشيعة. و ترجمته في «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة».
و بعد هؤلاء: التابعون:
و منهم: سعيد بن جُبير أعلم التابعين بالتفسير - بشهادة قتادة له بذلك - كما في «الإتقان»، و قد تقدّم ذكره و تشيّعه.
و منهم: يحيى بن يَعْمُر التابعيّ، أحد أعلام الشيعة في علم القرآن.
قال ابن خلّكان: هو أحد قرّاء البصرة، و عنه أخذ عبد الله بن إسحاق القراءة. و كان عالماً بالقرآن الكريم، و النحو. و لغات العرب. و أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي. و كان شيعيّاً من الشيعة الاولى القائلين بتفضيل أهل البيت، من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم - انتهى.
و منهم: أبو صالح، مشهود بكنيته، تلميذ ابن عبّاس في التفسير.
اسمه ميزان البصريّ، تابعيّ شيعيّ. نصّ على تشيّعه و ثقته الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان في كتاب «الكَافِئَةُ في إبْطَالِ تَوْبَةِ الخَاطِئَةِ» بعد حديث عنه، عن ابن عبّاس. مات أبو صالح بعد المائة.
و منهم: طاووس بن كيسان أبو عبد الله اليمانيّ، أخذ التفسير عن ابن عبّاس. و عدّه الشيخ أحمد بن تيميّة من أعلم الناس بالتفسير، كما في «الإتقان». و نصّ ابن قتيبة في كتاب «المعارف» على تشيّعه. قال في ص ٢۰٦ من المطبوع بمصر: الشيعة: الحارث الأعور، و صعصعة بن صوحان، و الأصبغ بن نُباتة، و عطيّة العوفيّ، و طاووس، و الأعمش - انتهى. توفّي طاووس بمكّة سنة ستّ و مائة، و كان منقطعاً إلى عليّ بن الحسين السجّاد عليه السلام.
و منهم: الأعمش الكوفيّ: سليمان بن مَهْرَان أبو محمّد الأسديّ، و قد تقدّم نصّ ابن قتيبة على تشيّعه، و كذلك الشهرستانيّ في «الملل و النحل»، و غيرهما. و من علمائنا الشيخ الشهيد الثاني زين الدين في حاشية «الخلاصة»، و المحقّق البهبهانيّ في «التعليقة»، و الميرزا محمّد باقر الداماد في «الرواشح».
و منهم: سعيد بن المُسَيِّب، أخذ عن أمير المؤمنين و ابن عبّاس.
و كان قد ربّاه أمير المؤمنين عليه السلام، و صحبه و لم يفارقه و شهد معه حروبه. و نصّ الإمام الصادق، و الإمام الرضا على تشيّعه، كما في الجزء الثالث من كتاب «قرب الإسناد» للحِمْيَرِيّ. كان إمام القرّاء بالمدينة. و عن ابن المدائنيّ أنّه قال: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه. مات بعد التسعين، و قد ناهز الثمانين.
و منهم: أبو عبد الرحمن السُّلَميّ شيخ قراءة عاصم. قال ابن قُتَيْبة:
كان من أصحاب عليّ عليه السلام، و كان مقرئاً، و يُحمل عنه الفقه.
قلتُ: و قرأ أبو عبد الرحمن على أمير المؤمنين عليه السلام، كما في «مجمع البيان» للطبرسيّ. و عدّه البَرْقيّ في كتاب «الرجال» في خواصّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام من مُضَر. مات بعد السبعين.
و منهم: السُّدِّيّ الكبير صاحب التفسير المتقدّم ذكره.۱
و منهم: محمّد بن السائب بن بِشْر الكَلْبيّ صاحب التفسير الكبير المتقدّم ذكره.
و منهم: حُمْرَان بن أعْيَن، أخو زرارة بن أعين الكوفيّ، مولى آل شيبان، من أئمّة القرآن، أخذ عن الإمام زين العابدين و الباقر عليهما السلام. و مات بعد المائة.
و منهم: أبَانُ بْنُ تَغْلِب المتقدّم ذكره، كان المقدّم في كلّ فنّ من العلم. أخذ القراءة عن الأعمش، و هو من أصحاب الإمام السجّاد عليّ بن الحسين و الباقر عليهما السلام. مات سنة ۱٤۱.
و منهم: عاصم بن بهدلَة، أحد السبعة، قرأ على أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، القارئ على عليّ أمير المؤمنين عليه السلام. و لذا كانت قراءة عاصم أحبّ القراءات إلى علمائنا. و نصّ على تشيّعه الشيخ الجليل عبد الجليل الرازيّ المتوفّى سنة ٥٥٦ هـ في كتابه «نقض الفضائح»، و أنّه كان مقتدي الشيعة.
مات عاصم سنة ثمان و عشرين بعد المائة بالكوفة، و قيل: بالسماوة و هو يريد الشام و دُفن بها. و كان لا يبصر كالأعمش. و نصّ على تشيّعه القاضي نور الله المرعشيّ في كتابه «مجالس المؤمنين». و هو في طبقات الشيعة. و بعد هؤلاء أتباع التابعين:
منهم: أبُو حَمْزَة الثُّمَالِيّ: ثَابِتُ بْنُ دِينَار شيخ الشيعة بالكوفة. قال ابن النديم في «الفهرست»: كتاب تفسير أبي حمزة الثماليّ، و كان من أصحاب عليّ بن الحسين عليه السلام، من النجباء الثقات. و صحب أبا جعفر الباقر - انتهى. و مات أبو حمزة سنة مائة و خمسين.
و منهم: يحيى بن القاسم أبو بصير الأسديّ، كان مُقَدَّماً في الفقه و التفسير، و له فيه مصنَّف معروف. ذكره النجاشيّ، و أوصل إسناده إلى رواية التفسير. مات في حياة أبي عبد الله الصادق عليه السلام المتوفّى سنة ۱٤۸ هـ.
و منهم: البطائنيّ: عليّ بن سالم المعروف بابن أبي حمزة أبو الحسن الكوفيّ مولى الأنصار. له كتاب «تفسير القرآن». يروي فيه عن أبي عبد الله الصادق، و أبي الحسن موسى الكاظم، و أبي بصير المتقدّم ذكره.
و منهم: الحَصِينُ بْنُ مُخَارق: أبُو جُنَادَة السَّلُوليّ. قال ابن النديم: كان من الشيعة المتقدّمين، و له من الكتب كتاب «التفسير»، كتاب «جامع العلوم» - انتهى. و ذكر له النجاشيّ أيضاً كتاب «التفسير و القراءات»، و كتاباً كبيراً.
و منهم: الكِسائيّ أحد السبعة. اجتمع فيه امور: كان أعلم الناس بالنحو، و أوحدهم في الغريب و القرآن. و هو من أولاد الفُرس من سواد العراق. و قد ذكرتُ نسبه في الأصل «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» و من
نصّ على تشيّعه. مات بالري، أو بطوس، و هو في صحبة الرشيد سنة ۱۸٩ هـ، و قيل: سنة ۱۸٣ هـ، و قيل: ۱۸٥ هـ، و قيل: سنة ۱٩٣ هـ، و الأوّل هو الأصحّ.
و بعد هؤلاء طبقة اخرى. و يفصّل المرحوم الصدر هنا الكلام في ترجمتهم، و تصنيفهم في علوم القرآن المتنوّعة، و هم من الشيعة. و يذكرهم واحداً تلو الآخر، من ابن سَعْدان الضرير: أبي جعفر محمّد بن سعدان بن المبارك الكوفيّ، إلى النعمانيّ صاحب التفسير المعروف، و محمّد بن العبّاس بن عليّ بن مروان المعروف بابن الحَجَّام. ثمّ يقول:
و الذين صنّفوا في أنواع علوم القرآن جماعة منهم:
محمّد بن الحسن الشيبان شيخ الشيخ المفيد. صنّف «نهج البيان عن كشف معاني القرآن»، و نوّع علوم القرآن إلى ستّين نوعاً، صنّفه باسم المستنصر العبّاسيّ، و ينقل عنه السيّد المرتضى في كتاب «المحكم و المتشابه».
و الشيخ المفيد: محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف في عصره بابن المُعَلِّم. كان شيخ الشيعة، صاحب كرسيّ. له كتب مذكورة في فهرست مصنّفاته، منها: كتاب «البيان في أنواع علوم القرآن». مات في المحرّم سنة تسع و أربعمائة. ذكره الخطيب في «تاريخ بغداد».
و محمّد بن أحمد بن إبراهيم بن سليم أبي الفَضل الصَّوليّ الجُعْفيّ الكوفيّ المعروف بالصابونيّ، صاحب «الفَاخِرُ في اللُّغَة». له كتاب تفسير عنوانه «معاني تفسير القرآن و تسمية أصناف كلامه المجيد». من شيوخ أصحابنا. سكن بمصر و مات فيها سنة ثلاثمائة.
إن أوّل تفسير جمع فيه كلّ علوم القرآن هو كتاب «الرغيب في علوم القرآن» لأبي عبد الله محمّد بن عمر الواقديّ. ذكره ابن النديم في كتابه
«الفهرست» و نصّ على تشيّعه.۱
...۱
ثمّ كتاب «التبيان الجامع لكلّ علوم القرآن» في عشرة مجلّدات كبار لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ شيخ الشيعة.
كانت ولادته سنة ٣۸٥ هـ. و توفّي في الغريّ سنة ٤٦۰ هـ. ذكر في أوّله أنّه أوّل من جمع ذلك.
و كتاب «حقائق التنزيل و دقائق التأويل»، و هو في كبر «تفسير التبيان» للسيّد الشريف الرضيّ، أخو المرتضى. كشف فيه عن غرائب القرآن و عجائبه و خفاياه و غوامضه، و أبان غوامض أسراره، و دقائق أخباره. و تكلّم في تحقيق حقائقه، و تدقيق تأويله، بما لم يسبقه أحدٌ إليه، و لا حامَ فكر أحد عليه، لكنّه ليس بجامع لكلّ علوم القرآن.
و له كتاب «المُتَشابِهُ في القُرآنِ»، و كتاب «مَجَازات القرآن». هذا و لم يزد عمره على سبع و أربعين سنة، مات سنة ٤۰٦ هـ.
و «رَوْضُ الجِنَانِ وَ رَوحُ الجَنَانِ في تَفْسِيرِ القُرْآنِ» في عشرين جزءاً للشيخ الإمام القدوة أبي الفتوح الرازيّ الحسين بن عليّ بن محمّد بن أحمد الخزاعيّ الرازيّ النيسابوريّ. مات بعد القرن الخامس. و تفسيره الجامع متأخّر على جامع الشيخ الطوسيّ التفسيريّ.
و كتاب «مجمع البيان في علوم القرآن» في عشرة اجزاء للشيخ أمين الدين أبي عليّ الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسيّ، المتوفّى سنة أربعين و خمسمائة، جامع لكلّ ذلك، لكنّه صرّح في أوّله أنّه عيال فيه على تبيان الشيخ الطوسيّ قدّس سرّه.
و «خلاصة التفاسير» في عشرين مجلّداً، للشيخ قطب الدين
الراونديّ، و هو مشحون بالحقائق و الدقائق، من أحسن التفاسير المتأخّرة، عن الشيخ أبي جعفر الطوسيّ.۱
تقدّم الشيعة في علم الحديث
كان ما قيل عن تقدّم الشيعة في جميع علوم القرآن من تفسير و غيره. و أمّا تقدّمهم في علوم الحديث و الرواية، فإنّه ذكر أوّل الجامعين للحديث واحداً تلو الآخر، و مَن بوّب منهم أبوابه، و جمع الروايات في عناوين مستقلّة. و ذكر المبتكرين و المدوّنين للآثار من كبار الصحابة و التابعين و تابعي التابعين، حتى بلغ جميع المدوّنين في القرن الثاني، و أحصى المدوِّنين في القرن الثالث. ثمّ ذكر بعض المتأخّرين عنهم من أئمّة علم الحديث و أرباب الجوامع الكبار التي اليها اليوم مرجع الشيعة في أحكام الشريعة، و قال:
فاعلم أنّ المحمَّدِين الثلاثة الأوائل هم أرباب الجوامع الأربعة، و هم:
۱ - أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكُلَينيّ صاحب «الكافي» المتوفّى سنة ثمان و عشرين و ثلاثمائة. أخرج فيه (۱٦۰٩٩) حديثاً بأسنادها.
٢ - محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّيّ المتوفّى سنة ٣۸۱ هـ. و هو المعروف بأبي جعفر الصدوق. ألّف أربعمائة كتاب في علم الحديث، أجلّها كتاب «مَن لا يحضره الفقيه». و أحاديثه (٩۰٤٤) حديثاً في الأحكام و السنن.
٣ - محمّد بن الحسن الطوسيّ شيخ الطائفة صاحب كتاب
«تهذيبالأحكام»، بوّبه على ثلاثمائة و ثلاثة و تسعين باباً، و أخرج فيه (۱٣٥٩۰) حديثاً. و كتابه الآخر هو «الاستبصار»، و أبوابه تسعمائة و عشرون باباً، أخرج فيه (٥٥۱۱) حديثاً. و هذه هي الكتب الأربعة التي عليها المعوّل، و اليها المرجع للشيعة.
ثمّ المحمَّدِين الثلاثة الأواخر، أرباب الجوامع الكبار، و هم:
۱ - محمّد الباقر بن محمّد التقيّ المعروف بالمجلسيّ، مؤلِّف «بحار الأنوار في الأحاديث المرويّة عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و الأئمّة من آله الأطهار» في ستّة و عشرين مجلّداً ضخماً، و عليه تدور رحى الشيعة، لأنّه لا أجمع منه في جوامع الحديث. و قد أفرد العلّامة النوريّ كتاباً في أحوال هذا العلّامة سمّاه «الفَيض القُدسيّ في أحوال المجلسيّ» و قد طبع مع «البحار» بإيران.
٢ - محمّد بن مرتضى بن محمود المدعوّ بمحسن الكاشانيّ الشيخ المحدِّث العلّامة المتبحّر في المعقول و المنقول، الملقّب بالفيض. له «الوافي في علم الحديث» في أربعة عشر جزءاً، كلّ جزء كتاب على حدة.
يجمع الأحاديث المذكورة في الكتب الأربعة، في الاصول و الفروع و السنن و الأحكام. و له نحو مائتي مصنَّف في فنون العلم. عمّر أربعاً و ثمانين سنة، و توفّي سنة ۱۰٩۱ هـ.
٣ - محمّد بن الحسن الحرّ الشاميّ العامليّ المَشْغَريّ شيخ الشيوخ في الحديث. صاحب «تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل أحاديث الشريعة»۱ على ترتيب كتب الفقه، من أنفع الجوامع في الحديث، أخرجه من ثمانين كتاباً من الجوامع كانت عنده، و سبعين نقل عنها بالواسطة. و قد
طُبع مراراً بإيران، و عليه تدور رحى الشيعة اليوم. ولد في رجب سنة ۱۰٣٣ هـ، و توفّي بطوس من بلاد خراسان في سنة ۱۱۰٤ هـ.
و قد ألّف الشيخ العلّامة ثقة الإسلام الحسين بن العلّامة النوريّ ما فات من صاحب «الوسائل»، و جمعه على أبواب «الوسائل»، و سمّاه «مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل» و هو نحو كتاب «الوسائل». فكان أعظم مصنَّف في أحاديث المذهب، و فرغ منه سنة ۱٣۱٩ هـ. و توفّي في الغريّ، ثامن و عشرين جُمادى الآخرة، سنة عشرين و ثلاثمائة بعد الألف.
و هناك جوامع كبار الأعلام المحدِّثين الأخيار، منها: «العوالم» و هو مائة مجلّد في الحديث للشيخ المحدِّث المتبحّر البارع المولى عبد الله بن نور الله البحرانيّ المعاصر للعلّامة المجلسيّ صاحب «البحار».
و منها: كتاب «شرح الاستبصار في أحاديث الأئمّة الأطهار» في عدّة مجلّدات كبار، نحو «البحار» للشيخ المحقّق قاسم بن محمّد بن جواد المعروف بابن الونديّ، و بالفقيه الكاظميّ المعاصر للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ صاحب «الوسائل». كان ممّن تخرّج على جدّنا العلّامة السيّد نور الدين أخي السيّد محمّد صاحب «المدارك».
و منها: «جامع الأخبار في إيضاح الاستبصار»، و هو جامع كبير يشتمل على مجلّدات كثيرة للشيخ العلّامة الفقيه: عبد اللطيف بن عليّ بن أحمد بن أبي جامع الحارثيّ الهَمْدَانيّ الشاميّ العامليّ. تَخرّج على الشيخ المحقّق المؤسّس المتقن الحسن أبي منصور بن الشهيد الشيخ زين الدين العامليّ صاحب «المعالم»، و «المنتقى» من علماء المائة العاشرة.
و منها: الجامع الكبير المسمّى بـ «الشفا في حديث آل المصطفي»، يشتمل على مجلّدات عديدة للشيخ المتضلّع في الحديث محمّد الرضا بن
الشيخ الفقيه عبد اللطيف التبريزيّ. فرغ منه سنة ۱۱٥۸ هـ.
و منها: «جامع الأحكام» في خمسة و عشرين مجلّداً كبيراً للسيّد العلّامة: عبد الله بن السيّد محمّد الرضا الشُّبَّرِيّ الكاظميّ. كان شيخ الشيعة في عصره، و واحد المصنِّفين في دهره. لم يكن أكثر منه تاليفاً في المتأخّرين عن العلّامة المجلسيّ. مات سنة ۱٢٤٢ هـ في بلدة الكاظميّة.
تقدّم الشيعة في علم الدراية
فأوّل من تصدّى لعلم دراية الحديث و تنويعه إلى الأنواع المعروفة - و التقدّم فيه للشيعة أيضاً - هو أبو عبد الله الحاكم النيسابوريّ المشهور، المتوفّى سنة خمس و أربعمائة. صنّف فيه كتاباً سمّاه «معرفة علوم الحديث» في خمسة أجزاء. و نوّع فيه الحديث إلى خمسين نوعاً. و قد نصّ على تقدّمه في ذلك صاحب «كشف الظنون»، قال: أوّل مَن تصدّى له الحاكم، و تبعه في ذلك ابن الصلاح.
و صنّف بعد الحاكم في علم دراية الحديث جماعة من شيوخ علم الحديث من الشيعة، كالسيّد جمال الدين أحمد بن طاووس، أبو الفضائل. و هو واضح الاصطلاح الجديد للإماميّة في تقسيم أصل الحديث إلى الأقسام الأربعة: الصحيح و الحسن و الموثّق، و الضعيف.
تقدّم الشيعة في علم الرجال
و أوّل من دوّن علم رجال الحديث و أحوال الرواة:
أبو عبد الله محمّد بن خالد البَرْقيّ القمّيّ. كان من أصحاب الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، كما في كتاب «الرجال» للشيخ أبي جعفر الطوسيّ. و ذكر تصنيفه في الرجال الرواة أبو الفرج: ابن النديم في
«الفهرست» في أوّل الفنّ الخامس، في أخبار فقهاء الشيعة من المقالة السادسة.
قال: و له من الكتب كتاب «العويص»، كتاب «التبصرة»، كتاب «الرجال». فيه ذكر من روى عن أمير المؤمنين عليه السلام - انتهى.
ثمّ صنّف بعده أبو محمّد: عبد الله بن جَبَلة بن حَيَّان بن أبْحُرِ الكنانيّ. صنّف كتاب «الرجال». و مات سنة تسع عشرة و مائتين عن عمر طويل.
و قال السيوطيّ في كتاب «الأوائل»: أوّل من تكلّم في الرجال شُعْبة، و هو متأخّر عن ابن جَبَلة. فإنّ شعبة مات سنة (٢٦۰).۱ بل تقدّمه منّا بعد
...۱
ابن جبلة أبو جعفر اليقْطِينِيّ صاحب الإمام الجواد محمّد بن عليّ الرضا، فإنّه صنّف كتاب «الرجال» كما في فهرست النجاشيّ، و فهرست ابن النديم. و كذلك الشيخ محمّد بن خالد البرقيّ. كان من أصحاب الإمام موسى بن جعفر، و الرضا. و بقي حتى أدرك الإمام أبا جعفر محمّد بن الرضا عليه السلام، و كتابه موجود بأيدينا. فيه ذكر من روى عن أمير المؤمنين عليه السلام، و من بعده. و فيه الجرح و التعديل كسائر الكتب المذكورة.۱
تقدّم الشيعة في علم الفقه
تحدّث آية الله السيّد حسن الصدر بعد هذا البحث عن أوّل مَن صنّف في طبقات الرواة، و ذكر أنّ أوّل مصنّف كان شيعيّاً، و هو أبو عبد الله محمّد بن عمر الواقديّ. ثمّ فتح فصلًا في تقدّم الشيعة في علم الفقه، و عدّ عليّ بن أبي رافع غلام رسول الله صلّى الله عليه و آله أوّل مصنّف فيه، و أضاف أنّ النجاشيّ قال بعد وصف هذا التدوين: و كانوا (الشيعة) يعظّمون هذا الكتاب (كتاب ابن أبي رافع).
ثمّ قال: فهو (عليّ بن أبي رافع) أوّل مَن صنّف فيه (في الفقه) من الشيعة. و ذكر الجلال السيوطيّ أنّ أوّل من صنّف - يعني من أهل السنّة - في الفقه الإمام أبو حنيفة، لأنّ تصنيف عليّ بن أبي رافع في ذلك أيّام أمير المؤمنين عليه السلام قبل تولّد الإمام أبي حنيفة بزمان طويل.
ثمّ عقد بحثاً في مشاهير الفقهاء من الشيعة في الصدر الأوّل. و ذكر أسماءهم حسب ما أوردها الشيخ أبو عمرو الكشّيّ في كتابه المعروف بـ «رجال الكشّيّ»، و كان معاصراً لأبي جعفر الكلينيّ من علماء المائة الثالثة. و قال ما نصّه:
تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السلام:
أجمعت العصابة (جماعة من أركان الشيعة كلامهم حجّة على غيرهم) على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السلام و انقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأوّلين ستّة: زُرَارة،۱ و مَعروف
ابن خَرَّبُوذ، و بُرَيْد، و أبُو بَصير الأسديّ، و الفُضَيْل بن يَسَار، و محمّد بن مُسْلِم الطائفيّ.
قالوا: أفقه الستّة زرارة. قال بعضهم: مكان أبي بصير الأسديّ أبو بصير المراديّ، و هو ليث بن البختريّ.
ثمّ قال: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام:
أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء و تصديقهم لما يقولون، و أقرّوا لهم بالفقه من دون أولئك الستّة الذين عددناهم و سمّيناهم، و هم ستّة نفر:
جَمِيل بن دُرَّاج، و عبد الله بن مُسْكَان، و عبد الله بن بُكَيْر، و حَمَّاد ابن عيسى، و حَمَّاد بن عثمان، و أبَان بن عثمان.
قالوا: و زعم أبو إسحاق الفقيه، و هو ثعلبة بن ميمون، أنّ أفقه هؤلاء جميل بن دُرّاج. و هم أحدث أصحاب أبي عبد الله عليه السلام.
ثمّ قال الكشّيّ: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم و أبي الحسن عليهما السلام:
أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء و تصديقهم و الإقرار لهم بالفقه و العلم. و هم ستّة نفر آخرون. دون الستّة النفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله عليه السلام، منهم:
يونس بن عبد الرحمن، و صَفْوَان بن يحيى بَيَّاع السابِريّ،
و محمّد ابن أبي عُمَيْر، و عبد الله بن المُغِيرَة، و الحسن بن محبوب، و أحمد بن محمّد بن أبي نَصْر، و قال بعضهم مكان الحسن بن محبوب، الحسن بن عليّ بن فضّال، و فُضَالَة بن أيُّوب، و قال بعضهم مكان فُضَالَة، عثمان بن عيسى.
و أفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن و صفوان بن يحيى - انتهى كلام الكشّيّ.
تقدّم الشيعة في علم الكلام
أوّل من صنّف و دوّن في علم الكلام عيسى بن رَوْضَة التابعيّ الإماميّ المصنّف في الإمامة. بقي إلى أيّام أبي جعفر المنصور، و اختصّ به، لأنّه مولى بن هاشم.۱ و هو الذي فتق بابه و كشف نقابه. و ذكر كتابه أحمد بن أبي طاهر في كتاب «تاريخ بغداد» و وصفه و ذكر أنّه رأى الكتاب كما في فهرست كتاب النجاشيّ.
ثمّ صنّف أبو هاشم بن محمّد بن علي بن أبي طالب عليه السلام كتباً في الكلام. و هو مؤسّس علم الكلام من أعيان الشيعة. و لمّا حضرته الوفاة، دفع كتبه إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس الهاشميّ التابعيّ، و صرف الشيعة إليه، كما في معارف ابن قتيبة. و هما مقدّمان على أبي حُذَيْفَة: واصِل بن عَطَاء المعتزليّ، الذي ذكر السيوطيّ أنّه أوّل من صنّف في الكلام.
و أوّل من ناظر في التشيُّع من الإماميّة أبو ذرّ الغفاريّ
قال أبو عثمان الجاحظ: أوّل من ناظر في التشيّع الكُمَيْت بن زَيْد الشاعر، أقام فيه الحجج. و لولاه لما عرفوا وجوه الاحتجاج عليه.
قلت: بل تقدّمه في ذلك أبو ذرّ الغفاريّ الصحابي رضي الله عنه.
أقام يبثّ مدّة في دمشق دعوته و ينشر مذهبه في العلويّة و آراءه الشيعيّة.
فاستجاب له قوم في نفس الشام. ثمّ خرج إلى صرفند و ميس - و هما من أعمال الشام من قري جبل عامل - فدعاهم إلى التشيّع فأجابوا. بل في كتاب «أمل الآمل»: لمّا اخرج أبو ذرّ إلى الشام بقي أيّاماً فتشيّع جماعة كثيرة.
ثمّ أخرجه معاوية إلى القرى، فوقع في جبل عامل، فتشيّعوا من ذلك اليوم.
و أوّل طبقة من مشاهير أئمّة علم الكلام من الشيعة تضمّ كُمَيْل بن زياد نزيل الكوفة. تخرّج على عليّ أمير المؤمنين عليه السلام في العلوم، و أخبره أنّ الحجّاج يقتله، فقتله الحجّاج بالكوفة سنة ثلاث و ثمانين تقريباً.
و سُلَيْم بن قَيْس الهِلَاليّ التابعيّ. طلبه الحجّاج أشد الطلب و لم يظفر به. و مات في أيّام الحجّاج. كان من خواصّ عليّ عليه السلام.
و الحارث الأعْوَر الهَمْدَانيّ صاحب «المناظرات في الاصول» أخذ من أمير المؤمنين عليه السلام، و تخرّج عليه. و مات سنة ٦٥ هـ.
و جابر بن يزيد بن الحارث الجُعفيّ: أبو عبد الله الكوفيّ، مُتبحِّر في الاصول و سائر علوم الدين. تخرّج على الباقر عليه السلام.
و بعد هؤلاء طبقة اخرى مثل قَيْس بن الماصِر، من أعلام علماء علم الكلام في عصره. تعلّم الكلام من الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام.
و شهد له الإمام أبو عبد الله الصادق بالحذاقة فيه، قال: أنْتَ
وَ الأحْوَلُ قَفَّازَانِ حَاذِقَانِ! و الأحوال هو أبو جعفر محمّد بن عليّ بن النعمان بن أبي طريفة البَجَليّ۱ الأحول. كان دكّانه في طاق المحامل بالكوفة. يُرجع إليه بالنقد فيردّ ردّاً و يخرج كما يقول، فقيل له: شَيْطَانُ الطَّاقِ.
تعلّم من الإمام زين العابدين عليه السلام، و صنّف كتاب «افعل و لا تفعل»، و كتاب «الاحتجاج في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام»، و كتاب «الكلام على الخوارج»، و كتاب «مجالسة مع الإمام أبي حنيفة و المرجئة»، و كتاب «المعرفة»، و كتاب «الردّ على المعتزلة».
و حُمْران بن أعْين أخو زرارة بن أعين. تعلّم الكلام من الإمام زين العابدين عليه السلام. و هشام بن سالم من شيوخ الشيعة في الكلام.
و يونس بن يعقوب ماهر في الكلام. قال له الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام: تَجْرِي بِالكَلَامِ عَلَى الأثَرِ فَتُصِيبُ!
وَ فَضَّال بن الحسن بن فَضَّال الكوفيّ المتكلّم المشهور. ما ناظر أحداً من الخصوم إلّا قطعه، و حكى السيّد المرتضى في «الفصول المختارة»٢ بعض مناظراته مع الخصوم. و كلّ هؤلاء كانوا في عصر واحد،
و ماتوا في أثناء المائة الثانية.
و بعد هؤلاء في الطبقة هِشام بن الحَكَم.۱ قال الصادق عليه السلام فيه: هَذَا نَاصِرُنَا بِقَلْبِهِ وَ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ!
ناظر كلّ أهل الفرق و أفحمهم. و له مجالس مع الخصوم. صنّف في الكلام، و حسده الناس لشدّة صولته و علوّ درجته، فرموه بالمقالات الفاسدة، و هو بريء منها و من كلّ فاسد. مات سنة ۱۷٩ هـ.
ثمّ السَّكَّاك محمّد بن خليل أبو جعفر البغداديّ، صاحب هشام بن الحكم و تلميذه. أخذ عنه الكلام، و له كتب في الكلام.
و أبو مالِك الضَّحَّاك الحَضرميّ إمام في الكلام، أحد أعلام الشيعة.
أدرك الصادق و الكاظم عليهما السلام.
و منهم آل نوبخت. قال ابن النديم في «الفهرست»: آل نوبخت معروفون بولاية عليّ و ولده. و قال في «رياض العلماء»: بنو نوبخت طائفة معروفة من متكلّمي علماء الشيعة.
قلتُ: أمّا نوبخت، فهو فارسيّ فاضل في علوم الأوائل. صحب المنصور لحذاقته باقتران الكواكب. و لمّا ضعف عن الصحبة قام مقام ابنه أبو سهل، اسمه كنيته. و نشأ لأبي سهل المذكور الفضل بن أبي سهل بن نوبخت، فتقدّم في الفضل و العلم. قال بعض الفضلاء من أصحابنا عند ذكره: هُوَ الفيلسوف المتكلّم، و الحَكيم المتألِّه، وَحِيدٌ في علوم الأوَائل، كَانَ مِنْ أرْكَان الدَّهْر.
نقل كثيراً من كتب البهلويّين الأوائل في الحكمة الإشراقيّة من الفارسيّة إلى العربيّة، و صنّف في أنواع الحكمة. و له كتاب في الإمامة، كبير. و صنّف في فروع علم النجوم لرغبة أهل عصره بذلك. و هو من علماء عصر الرشيد هارون بن المهديّ العبّاسيّ. و كان على خزانة الحكمة للرشيد. و له أولاد علماء أجلّاء.
و قال القفطيّ۱ في كتاب «أخبار الحكماء»: الفضل بن نوبخت أبو سهل الفارسيّ، مذكور مشهور من أئمّة المتكلّمين. و ذكر في كتب المتكلّمين. و استوفى نسبه من ذكره كمحمّد بن إسحاق النديم، و أبي عبد الله (أبي عبيد الله - ظ) المرزبانيّ. كان في زمن هارون الرشيد، و ولّاه القيام بخزانة كتب الحكمة.
قلتُ: و من أولاده البارعين في العلوم إسحاق بن أبي سهل بن
نوبخت، تخرّج على أبيه في العلوم العقليّة و سائر علوم الأوائل. و قام مقام أبيه في خزانة كتب الحكمة لهارون. و له أولاد علماء متبحّرون في الكلام كأبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، صاحب كتاب «الياقوت في الكلام» الذي شرحه العلّامة ابن المطهَّر الحلّيّ. قال في أوّله:
لشيخنا الأقدم و إمامنا الأعظم أبي إسحاق بن نوبخت.
و هنا ذكر باحثنا القدير المرحوم الصدر عدداً كبيراً من العلماء، و واصل حديثه إلى أن قال: و منهم: شَيْخُ الشِّيعَةِ وَ مُحْيِي الشَّرِيعَةِ شَيْخُنَا المُفِيدُ أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النُّعْمان المعروف بابن المعلِّم. قال ابن النديم: انتهت رئاسة متكلّمي الشيعة إليه. مقدّم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه، دقيق الفطنة، ماضي الخاطر. شاهدته، فرأيته بارعاً، و له كتب - انتهى.
قلتُ: و هو إمام عصره في كلّ فنون الإسلام. كان مولده سنة ٣٣۸ هـ، توفّي سنة ٤۰٩ هـ.
تقدّم الشيعة في علم مكارم الاخلاق
إن أوّل من صنّف فيه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. كتب كتاباً فيه عند منصرفه من صفّين، و أرسله إلى ولده الحسن أو محمّد ابن الحنفيّة. و هو كتاب طويل جمع فيه جميع أبواب هذا العلم، و طرق سلوكه، و مكارم الملكات، و كلّ المنجيات و المهلكات، و طرق التخلّص من تلك الهلكات.
رواه علماء الفريقين و أثنوا عليه بما هو له أهل. رواه الكلينيّ منّا في كتاب «الرسائل» من عدّة طرق. و رواه الإمام أبو محمّد الحسن بن عبد الله ابن سعيد العسكريّ، و أخرجه بتمامه في كتاب «الزواجر و المواعظ». قال:
و لو كان من الحكمة ما يجب أن يكتب بالذهب لكانت هذه. قال: و حدّثني بها جماعة. ثمّ ذكر طرقه في رواية الكتاب.۱
و أوّل من صنّف فيه من الشيعة إسماعيل بن مهران بن أبي نصر أبو يعقوب السَّكُونيّ، و سمّاه كتاب «صفة المؤمن و الفاجر». و له جمع خطب أمير المؤمنين عليه السلام و أمثاله.
ذكرهما أبو عمر الكشّيّ، و أبو العبّاس النجاشيّ في فهرست أسماء المصنّفين من الشيعة، و ذكروا أنّه روى عن عدّة من أصحاب أبي عبد الله الصادق عليه السلام، و عمّر حتى لقي الإمام الرضا عليه السلام، و روى عنه. و هو من علماء المائة الثانية.
و قد صنّف فيه من القدماء الشيعة كأبي محمّد الحسن بن عليّ بن
الحسن بن شُعْبَة الحَرَّانيّ رضي الله عنه من علماء المائة الثالثة، صنّف كتاب «تحف العقول فيما جاء في الحكم و المواعظ و مكارم الأخلاق عن آل الرسول». و هو كتاب جليل لم يُصَنَّف مِثلُه. و قد اعتمده شيوخ علماء الشيعة، كالشيخ المفيد ابن المعلِّم، ينقل عنه و غيره حتى قال بعض علمائنا: هو كتاب لم يسمح الدهر بمثله.۱
تقدّم الشيعة في الجغرافيّة في صدر الإسلام
إن هشام بن محمّد الكلبيّ من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام صنّف فيه كتاب «الأقاليم»، و كتاب «البلدان» الكبير، و كتاب «البلدان» الصغير، و كتاب «تسمية الأرضين»، و كتاب «الأنهار»، و كتاب «الحيرة»، و كتاب «منازل اليمن»، و كتاب «العجائب الأربعة»، و كتاب «أسواق العرب»، و كتاب «الحيرة»٢، و «تسمية البيع و الديارات»، كما نصّ على كلّ ذلك أبو الفرج، و ابن النديم في «الفهرست» عند ذكره أنواع ما صنّفه الكلبيّ.
و العجب من الحمويّ في «معجم البلدان» حيث لم يزد على قوله:
«و هشام بن محمّد الكلبيّ وقفت له على كتاب سمّاه «اشتقاق البلدان»، مع أنّه بزعمه استقصى طبقة الإسلاميّين المصنّفين في ذلك، من الذين قصدوا ذكر البلاد و الممالك، و عيّنوا مسافة الطرق و المسالك. و كلّهم متأخّرون عن هشام بن محمّد الكلبيّ، و الذين قصدوا ذكر الأماكن العربيّة و المنازل البدويّة من طبقة أهل الأدب، كلّهم أيضاً متأخّرون عن هشام بن محمّد
الكلبيّ، كما لا يخفى على مثله.
تقدّم الشيعة في علم الأخبار و التواريخ و الآثار، و مزيّتهم على الآخرين
قال ابن النديم: «قرأتُ بخطّ أحمد بن الحارث الخزاعيّ: «قالت العلماء: أبو مِخْنَف بأمر العراق و أخبارها و فتوحها يزيد على غيره.
و المدائنيّ بأمر خراسان و الهند و فارس. و الواقديّ بالحجاز و السيرة، و قد اشتركا في فتوح الشام» - انتهى.
قلتُ: و الشيعة من هؤلاء أبو مِخْنَف، و الواقديّ. و قد تقدّم نصّ ابن خلّكان أنّ هشام بن محمّد الكلبيّ أعلم الناس بالأنساب، و قد تقدّمت ترجمته. فنذكر ترجمة أبي مخنف، و الواقديّ، و أمثالهما ممّن فاق أقرانه، فنقول:
أبو مخنف الأزديّ الغامديّ شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة من الشيعة و وجههم. اسمه لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سالم، أو سليمان، أو سليم. و كان أبوه يحيى من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، و جدّه مخنف صحأبي، روى عن رسول الله صلّى الله عليه و آله، و صحب أمير المؤمنين عليه السلام بعده، و كانت راية الأزد بصفّين معه. و استُشهد بعين الوردة سنة ٦٤ هـ كما في «التقريب».
و أبو مخنف صاحب الترجمة روى عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام. و قيل: روى عن الباقر عليه السلام. و الشيوخ لا تصحّح ذلك. و قد و هم من قال فيه: إنّه من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّه لم يلقه.
و صنّف من الكتب كتاب «الرَّدّة»، كتاب «فتوح الشام»، كتاب «فتوح العراق»، كتاب «الجمل»، كتاب «صفّين»، كتاب «أهل النهروان
و الخوارج»، كتاب «الغارات»، كتاب «الحرث بن راشد و بني ناجية»، كتاب «مقتل عليّ عليه السلام». و أحصى المرحوم السيّد حسن الصدر له ثلاثة و ثلاثين كتاباً آخراً، ذكرها بأسمائها.
و منهم: الواقديّ. و هو أبو عبد الله محمّد بن عمر مولى الأسلَمين من سَهْم بن أسْلَم. كان من أهل المدينة. انتقل إلى بغداد و ولى القضاء بها للمأمون بعسكر المهديّ. عالماً بالمغازي و السير و الفتوح، و اختلاف الناس في الحديث و الفقه و الأحكام و الأخبار.
قال ابن النديم: و كان يتشيّع، حسن المذهب، يلزم التقيّة. قال:
و هو الذي روى أنّ عليّاً عليه السلام كان من معجزات النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم كالعصا لموسى عليه السلام، و إحياء الموتى لعيسى ابن مريم، و غير ذلك من الأخبار - انتهى. كان تولّده سنة ۱۰٣، و وفاته سنة ٢۰۷ هـ و له ثمان و سبعون سنة.۱ و له من الكتب كتاب «التاريخ و المغازي و المبعث»، كتاب «أخبار مكّة»، كتاب «الطبقات»، كتاب «فتوح الشام»، كتاب «فتوح القرآن». و ثلاثة و عشرون كتاباً آخراً ذكرها المرحوم الصدر كلّها.
قال ابن النديم: خلّف الواقديّ بعد وفاته ستمائة قِمْطَر كتباً (القمطر صندوق للكتب)، كلّ قمطر منها حِمْل رجلين. قال: و كان له مملوكان
يكتبان الليل و النهار. و قبل ذلك بيع له كتب بألفي دينار.۱
تقدّم الشيعة في علم اللغة
أوّل من جمع كلام العرب و حصره و زمّ جميعه، و بيّن قيام الأبنية من حروف المعجم و تعاقب الحروف، و أسّس ذلك بنظر صائب لم يتقدّمه أحد فيه هو الحبر العلّامة شيخ العالم حجّة الأدب، ترجمة لسان العرب المولى أبو الصَّفاء الخليل بن أحمد الأزْديّ اليَحْمُدِيّ الفراهيديّ رضي الله عنه.٢
و إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد | *** | ذخراً يكون كصالح الأعمال |
و هذا ممّا لا خلاف فيه بين أهل العلم و الأدب. إلى أن قال: قال شيخ الشيعة جمال الدين بن المطهّر في «الخلاصة»: الخليل بن أحمد كان أفضل الناس في الأدب، و قوله حجّة فيه. اخترع العروض. و فضله أشهر من أن يذكر. كان إماميّ المذهب.
و قال المولى عبد الله أفندي في «رياض العلماء»: و الخليل جليل القدر، عظيم الشأن، أفضل الناس في علم الأدب. كان إماميّ المذهب و إليه ينسب علم العروض. و كان في عصر مولانا الصادق، بل الباقر عليهما السلام أيضاً - انتهى.۱
و من مشاهير أئمّة اللغة من الشيعة ممّن يزيد على غيره ابن السِّكِّيت. قال أبو العبّاس ثعلب: أجمع أصحابنا أنّه لم يكن بعد ابن
لو كنتَ تعلم ما أقول عذرتَني | *** | أو كنتَ تعلم ما تقول عذلتكا |
لكن جهلت مقالتي فعذلتني | *** | و علمتُ أنّك جاهل فعذرتُكا |
الأعرابي أعلم باللغة من ابن السِّكِّيت.
قتله المتوكّل لأجل التشيّع، و أمره مشهور. عَمَّرَ ثماني و خمسين سنة، و استشهد ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة ٢٤٤، و قيل: سنة ٢٤٦، و قيل: سنة ٢٤٣.
و له من الكتب «إصلاح المنطق» الذي قال المُبَرَّد فيه: ما عبر على جسر بغداد كتاب في اللغة مثل «إصلاح المنطق». و له كتاب «الألفاظ»، و كتاب «الزبرج»، و كتاب «الأمثال»، و كتاب «المقصور و الممدود»، و كتاب «المذكّر و المؤنّث»، و كتاب «الأجناس» - و هو كتاب كبير - و كتاب «الفِرَق»، و كتاب «السَّرج و اللِّجام»، و كتاب «الوحوش»، و كتاب «الإبل»، و كتاب «النوادر»، و كتاب «معاني الشِّعر» الكبير، و آخر صغير، و كتاب «سرقات الشعراء»، و كتاب «فَعَلَ و أفْعَلَ»، و كتاب «الحشرات»، و كتاب «الأصوات»، و كتاب «الأضداد»، و كتاب «الشجر و الغابات».
فتأمّل هذه المصنَّفات في هذا العمر القصير! هذا مضافاً إلى ما رواه عن الرضا و الجواد و الهاديّ عليهم السلام.
و منهم: أبو بَكر بن دُرَيد الأزْدِيّ إمام اللغة. كان صدراً في العلم ستّين سنة. ولد بالبصرة سنة ثلاث و عشرين و مائتين، و نشأ بها. و لمّا فتحها الزنج هرب إلى عمان، و أقام اثنتي عشرة سنة، ثمّ رجع إلى وطنه، ثمّ رحل إلى فارس، إلى بني ميكال، فعلا عندهم قدره. و تولّى نظارة الديوان.
و لمّا خُلع بنو ميكال، جاء إلى بغداد سنة ثمان و ثلاثمائة، و اتّصل بابن الفرات وزير المقتدر بالله. فقرّ به المقتدر، و عيّن له وظيفة نحو خمسين ديناراً في كلّ شهر. و ما زال مكرّماً معظّماً حتى جاء أجله في شعبان سنة إحدى و عشرين و ثلاثمائة، و قد عمّر ثماني و تسعين سنةً. و قد
صنّف كتاب «السرج و اللجام»، و كتاب «المقتبس»، و كتاب «زوّار العرب»، و كتاب «اللغات»، و كتاب «السلاح»، و كتاب «غريب القرآن»، و كتاب «الوِشاح»، و كتاب «الجمهرة» في اللغة، في ستّة أجزاء كلّ جزء في مجلّد.
و له مقاطيع محبوكة الطرفين، و قصيدة في المقصور و الممدود. و له القصيدة المقصورة ذات الحكم و الآداب، أكبّ على شرحها العلماء.
و عدّه الشيخ رشيد الدين بن شهرآشوب المازندرانيّ في «معالم العلماء» في شعراء أهل البيت المجاهدين فيهم. و من شعره في ولاء أهل البيت عليهم السلام:
أهْوَى النَّبِيّ مُحَمَّداً وَ وَصِيَّةُ | *** | وَ ابْنَيْهِ وَ ابْنَتَهُ البَتُولَ الطَّاهِرَهْ |
أهْلَ الوَلَاءِ فَإنَّنِي بِوَلَائِهُمْ | *** | أرْجُو السَّلَامَةَ وَ النَّجَا في الآخِرَهْ |
وَ أرَى مَحَبَّةَ مَنْ يَقُولُ بِفَضْلِهِمْ | *** | سَبَباً يُجِيرُ مِنَ السَّبِيلِ الجَائِرَهْ |
أرْجُو بِذَاكَ رِضَا المُهَيْمِنِ وَحْدَهُ | *** | يَوْمَ الوُقُوفِ عَلَى ظُهُورِ السَّاهِرَهْ |
و نصّ على تشيّعه في «رياض العلماء»، و «معالم العلماء»، و «أمل الآمل»، و «طبقات الشيعة» للقاضي نور الله المرعشيّ.
و منهم: أبو عمرو الزاهد، قال التنوخيّ: لم أر قطّ أحفظ منه. أملي من حفظه ثلاثين ألف ورقة. ولد سند إحدى و ستّين و مائتين، و مات سنة خمسين و أربعين و ثلاثمائه. و له من الكتب كتب «مناقب أهل البيت»، اختصره السيّد ابن طاووس. و أخرج في «سعد السُّعُود» جملة من أحاديث أبي عمرو الزاهد في مناقب أهل البيت.
و كذلك صاحب «تحفة الأبرار» السيّد الشريف الحسين بن مساعد الحسينيّ الحائريّ، روى عن أبي عمرو الزاهد اللغويّ النحويّ من كتابه في مناقب أهل البيت، و نصّ على تشيّعه. إلى أن قال:
و نصّ في «رياض العلماء» على أنّه من علماء الإماميّة، و أنّ له كتاب
«اللباب». و ينقل عن كتبه ابن طاووس في كتبه كثيراً من الأخبار. و كتاب «المناقب»، و ينقل بعض المتأخّرين في كتبهم بعض الأخبار في فضائل أهل البيت عليهم السلام عنه.
قلتُ: لا ريب في تشيّع أبي عمر و المذكور.
و منهم: أحمد بن فارس بن زكريّا بن محمّد بن حبيب أبو الحسين اللغويّ المعروف، الكوفيّ المذهب، صاحب «المجمل» في اللغة، و «فقه اللغة»، المعروف بالصاحبيّ. صنّفه للصاحب بن عبّاد. له ترجمة في «وفيّات الأعيان»، و «بغية الوعاة».
و منهم: الصاحب بن عَبَّاد وزير فخر الدولة الديلميّ.۱ كان كافي
قَالَتْ: تُحِبُّ مُعَاوِيَه | *** | قُلْتُ: اسْكُتِي يَا زَانِيَهْ |
قَالَتْ: أسَأتَ جَوَابَنَا | *** | فَأعَدْتُ قَوْلِي ثَانيَهْ |
يَا زَانِيَه يَا ابْنَةَ ألْفَي زَانِيَه | *** | أ احِبُّ مَنْ شَتَمَ الوَصِيّ عَلَانِيَهْ |
فَعَلَى يَزِيدٍ لَعْنَةٌ | *** | وَ عَلَى أبِيهِ ثَمَانِيَهْ |
و قائلٌ لي عليّ كان وارثه | *** | بالنَّصِّ منه فهل أعطوه أو منعوا |
فقلتُ كَأنْتَ هناك لستُ اذكرها | *** | يجزي بها الله أقواماً بما صَنَعوا |
هُمُ رجالٌ إذا سَمَّيتَهُمْ عُرِفوا | *** | لَهُمْ وجوهٌ من الشحناء تمتَقِعُ |
ما زِلتُ مُذْ يَفَعَتْ سِنِّي ألوذ بكم | *** | حتى محا حقّكم شكّي فأنتجعُ |
الكُفاة. صنّف في علم اللغة «المحيط باللغة» في عشرة أجزاء، رتّبه على حروف المعجم، كثّر فيه الألفاظ و قلّل الشواهد. و «جوهرة الجمهرة». و له في الأدب كتاب «الأعياد»، كتاب «الوزارء»، كتاب «الكشف عن مساوئ المتنبّي»، و رسائل في فنون الكتابة، رتّبها على خمسة عشر باباً، و له ديوان شعر. و له في علم الكلام كتاب «أسماء الله تعالى و صفاته»، و كتاب «الأنوار» في الإمامة، و كتاب «الإبانة عن الإمام». و هو أوّل من سُمِّي الصاحب من الوزراء. مُدِح بمائة ألف قصيدة عربيّة و فارسيّة، و اليتيمة في شعرائه.
و حكى الحسن بن عليّ الطبرسيّ في كتابه «الكامل البهائيّ» أنّ للصاحب بن عبّاد عشرة آلاف بيت شعر في مدح أهل البيت عليهم السلام.۱
تقدم الشيعة في علم الإنشاء و الكتابة
بعد أن ذكر المرحوم الصدر هنا ابن العميد، و الصاحب بن عَبَّاد، و أبا بكر الخوارزميّ، أضاف قائلًا: و أوّل مَن كتب لأمير المؤمنين عليّ
ابن أبي طالب عليه السلام عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. قال ابن قتيبة في كتاب «المعارف»: فلم يزل كاتباً لعليّ ابن أبي طالب خلافته كلّها.
و قال: و منهم (الوزارء الكتّاب): بنو سَهْل وزراء المأمون. أوّلهم الفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ ذَوْ الرِّئاسَتَيْنِ لجمعه بين السيف و القلم. و لمّا نقل المأمون الخلافة إلى بني عليّ، كان الفضل بن سهل هو القائم بهذا الأمر و المحسِّن له. و لمّا رأى المأمون إنكار العبّاسيّين ببغداد لذلك حتى خلعوه و بايعوا إبراهيم عمّه، قام و قعد و دسّ جماعة على الفضل بن سهل فقتلوه في الحمّام، ثمّ قتل الإمام الرضا عليه السلام بالسمّ، و كتب إلى بغداد أنّ الذي أنكرتموه من أمر عليّ بن موسى قد زال. و كان ذلك سنة ٢۰٤.
ثمّ استوزر المأمون الحسن بن سَهل. ثمّ عرضت له سوداء كان أصلها جزعه على أخيه. فانقطع بداره ليتطبّب و استخلف أحد كتّابه. و مات الحسن بن سهل في سنة ستّ و ثلاثين و مائتين في أيّام المتوكّل.
و منهم: أبو الفَضْل جعفر بن محمود الإسكافيّ وزير المعتزّ و المهتدي.
و منهم: أبو المَعَالي هِبَةُ الله بن محمّد بن المُطَّلِب وزير المستظهر.
كان من علماء الوزراء و أفاضلهم و أخيارهم. نصّ على تشيّعه في «جامع التواريخ». قال: و لهذا لم يرض بوزارته محمّد بن ملكشاه السلجوقيّ! فكتب إلى الخليفة: كيف يكون وزير خليفة الوقت رافضيّاً؟! و كرّر الكتابة في ذلك، فعزله المستظهر.
فذهب أبو المعالي إلى السلطان محمّد بن ملكشاه و توسّل إليه بواسطة سعد الملك الأوْجي وزيره فاسترضاه. و اشترط عليه السلطان أن لا يخرج عن مذهب أهل السنّة و الجماعة في وزارته. و كتب السلطان إلى
المستظهر، فأعاده إلى الوزارة. ثمّ تغيّر عليه الخليفة، فذهب إلى أصفهان.
و كان في ديوان السلطان محمّد ملك شاه حتى مات.
و منهم: مُؤيِّد الدِّين أبو طالب محمّد بن أحمد بن العَلْقَميّ الأسَديّ وزير المستعصم. صنّف له الصغانيّ اللغويّ «العباب»، و هو كتاب جليل في اللغة. و صنّف له عزّ الدين بن أبي الحديد «شرح نهج البلاغة» فأثابهما و أحسن جائزتهما، و مدحه الشعراء و انتجعه الفضلاء. و ظلمه العامّة حيث نسبوا إليه الغدر و الخيانة، و هو بريء من كلّ خيانة.
قال ابن الطقطقيّ، و هو من أهل ذلك العصر و أشراف ذلك الزمان، في مقام بيان إهمال المستعصم و عدم التفاته و تفريطه ما لفظه:
و كان وزيره مؤيِّد الدين بن العلقميّ يعرف حقيقة الحال في ذلك، و يكاتبه بالتحذير و التنبيه، و يشير عليه بالتيقّظ و الاحتياط و الاستعداد، و هو لا يزداد إلّا غفولًا. و كان خواصّه يوهمونه أنّه ليس في هذا كبير خطر و لا هناك محذور. و أنّ الوزير إنّما يعظّم هذا لينفق سوقه و لتبرز إليه الأموال ليجنّد بها العساكر، فيقطع منها لنفسه ... إلى آخر كلامه.
و منهم: أبو الحسن جعفر بن محمّد بن فَطير الكاتِب الوزير المشهور. ذكره ابن كثير، و ذكر أنّه من الوزراء الكتّاب الشيعة بالعراق.
قال: و لمّا كان تشيّعه شائعاً، جاءه رجل فقال له: أنّي رأيتُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في المنام، و قال لي: امضِ إلى ابن فطير و قل له يعطيك عشرة دنانير. فقال له: متى رأيتَه؟ قال: في أوّل الليل.
فقال: صدقتَ! فإنّي رأيتُه عليه السلام في آخر الليل. و أمرني أن إذا جاءك سائل كذا صفته و سألك شيئاً فأعطه ... إلى آخر القصّة. و قد نقلتها بالواسطة عن تاريخ ابن كثير من كتاب طبقات القاضي المرعشيّ بالفارسيّة.
و منهم: آل جُوَيْن، منهم: الصاحب الأعظم شمس الدين محمّد
الجُوَيْنيّ الملقَّب بصاحب الديوان للسلطان محمّد خوارزم شاه، و للسلطان جلال الدين، و كذلك أخوه علاء الدين عطاء الملك الجُوَيْنيّ، و كذلك الصاحب المعظّم الأمير الرشيد بَهَاء الدين محمّد بن صاحب الديوان، و قد صنّف المحقّق الشيخ ميثم البحرانيّ «شرح نهج البلاغة» باسمه. و صنّف الحسن بن عليّ الطبرسيّ كتاب «الكامل في التاريخ» باسمه، فسمّاه «الكامل البهائيّ»، ثمّ الصاحب شرف الدين هارون أخوه ابن صاحب الديوان الجوينيّ كان جامعاً لجميع العلوم حتى الموسيقى، كما في «مجالس المؤمنين» للمرعشيّ. و قام مقام أخيه في الوزارة.
و منهم: أحمد بن محمّد بن ثوابة بن خالد الكاتب: أبي العبّاس.
كان أيّام المهديّ. و نصّ ياقوت في «معجم الادباء» على تشيّعه. مات أبو العبّاس سنة ٢۷۷ هـ، و قيل: سنة ٢۷٣ هـ.
و منهم: أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مُصْعَب بن زُرَيْق بن مَاهَا الخُزَاعِيّ الأمير البغداديّ الإماميّ. كان ولى بغداد و خراسان. و كان عالماً فاضلًا و شاعراً بارعاً و كاتباً ماهراً، و لا عجب فإنّه ابن أبيه (عبد الله الشاعر و الأديب) و حفيد طاهر.
قال الخطيب عند ذِكره لأبي أحمد المذكور: كان فاضلًا أديباً شاعراً فصيحاً. و كان أبوه عبد الله شاعراً مجيداً و جواداً سخيّاً. و جدّه طاهر لا يحتاج إلى وصف بالكمال. و هو أحد الثلاثة الذين قال المأمون فيهم:
هم أجلّ ملوك الدنيا و الدين - قاموا بالدول - و هم الإسكندر، و أبو مسلم الخراسانيّ، و طاهر. قال: و كان متشيّعاً كحفيده المذكور، إلى أن قال:
مات أبو أحمد ليلة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوّال سنة ثلاثمائة. حكاه عن الخطيب ضياء الدين في «نسمة السَّحَر».
و منهم: أحمد بن عَلَوِيَّة المعروف بأبي الأسود الكاتب الكرانيّ
الأصفهانيّ. قال ياقوت: كان صاحب لغة يتعاطى التأديب و يقول الشِّعر الجيّد. و كان من أصحاب لفذة؛ ثمّ صار من ندماء أحمد أبي دُلَف. إلى أن قال: و له «رسائل مختارة»، و «رسالة في الشيب و الخضاب»، و قصيدة شيعيّة على ألف قافية. عُرضت على أبي حاتم السجستانيّ فاعجب بها و قال: يَا أهْلَ البَصرةِ! غَلَبَكُمْ أهْلُ إصْفَهَانَ. عمّر نيّفاً و مائة سنة، و توفّي سنة نيّف و عشرين و ثلاثمائة.
و منهم: الإسكافيّ محمّد بن أبي بكر هَمَّام بن سَهْل المشهور بالكاتب الإسكافيّ، من شيوخ الشيعة، مقدّم في كلّ فنون العلم. صنّف في الكلّ. له ترجمة طويلة في الكتب الموضوعة في أحوال الرجال لأصحابنا.
كان تولّده في يوم الاثنين سابع ذي القعدة من شهور سنة ثمان و خمسين و مائتين، و توفّي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة من جمادى الآخرة سنة ستّ و ثلاثين و ثلاثمائة.
و منهم: الشيخ أبو بكر الخوارَزميّ محمّد بن العبّاس۱ شيخ
و لقد بكيت لقتل آل محمّدٍ | *** | بالطفِّ حتى كلّ عضو مَدْمَعُ |
و حريمُ آل محمّد بين العِدَا | *** | نَهبٌ تقاسِمُه اللِّئامُ الرُّضَّعُ |
تاللهِ لا أنْسَى الحسينَ و شِلْوَهُ | *** | تحت السنابك بالعَراء مُوَزَّعُ |
مُتَلَفِّعاً حُمْر الثِّيابِ و في غدٍ | *** | بالخضر من فردوسه يتلفَّعُ |
تَطَا السنابك صدره و جبينه | *** | و الأرض ترجف خيفة و تضعضعُ |
الأدب و علّامة عصره في علوم العرب. قال الثعالبيّ في «اليتيمة» عند ذكره: نابغة الدهر، و بحر الأدب، عَلَم النظم و النثر، و عالم الظرف و الفضل. كان يجمع بين الفصاحة و البلاغة، و يحاضر بأخبار العرب و أيّامها و دواوينها، و يُدَرِّس كتب اللغة و النحو و الشعر، و يتكلّم بكلّ نادرة، و يأتي بكلّ درّة، و يبلغ في محاسن الأدب كلّ مبلغ ... إلى آخر كلامه الحسن.
توفّي أبو بكر في شهر رمضان سنة ٣۸٣ هـ. و من شعره المحكيّ في «معجم البلدان» في لفظة (آمل):
بِآمُلَ مَوْلِدِي وَ بَنُو جَرِيرٍ | *** | فَأخْوَالِي وَ يَحْكِي المَرْءُ خَالَهْ |
فَهَا أنَا رَافِضِيّ عَنْ تُرَاثٍ | *** | وَ غَيْرِي رَافِضِيّ عَنْ كَلَالَهْ |
و منهم: أبو الفَضْل بَديع الزَّمان أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهَمَدَانيّ أحد أركان الدهر. و شهرته تُغني عن نقل ما ذكره العلماء في ترجمته. نصّ الشيخ أبو عليّ في «منتهى المقال» على أنّه من الشيعة الإماميّة، و أنّه أوّل من أسّس وضع المقامات. مات سنة ٣۷۸.۱
ثمّ تحدّث المرحوم الصدر مفصّلًا عن تقدّم الشيعة في علم المعاني
و البيان و الفصاحة و البلاغة، و كتبهم المصنّفة في هذا المجال. و كذلك تقدّمهم في علم البديع، و العروض، و فنون الشعر، و علم الصرف و النحو في فصول و صحائف عديدة. ثمّ عرّج على تحقيق السبب الذي دعا أمير المؤمنين عليه السلام إلى اختراع اصول علم النحو و تحديد حدوده، و تحقيق السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو الذي كان تعلّمه من الإمام عليه السلام.۱ و بعد ترجمة اولئك الرجال الذين صنّفوا في علم النحو من مشاهير الشيعة و أئمّة العربيّة و آدابها كعطاء بن أبي الأسود، و الفرّاء النحويّ المشهور و غيرهما، و بعد نقله مطالب رائعة و ثمينة، قال:
و منهم: قُتَيْبَة النحويّ الجُعْفيّ الكوفيّ من أئمّة علم النحو و اللغة.
و وصفه النجاشيّ في فهرست أسماء مصنّفي الشيعة بالأعشى المؤدِّب، و كنّاه بأبي محمّد المُقْري مَوْلَى الأزْد. و ذكره السيوطيّ في «الطبقات»، و حكي عن الزبيديّ ذِكره في أئمّة نحاة الكوفيّين. و أنّه قال: وقّع كاتب المهديّ: قرًى عربيَّةٌ، فنوّن قرًى، فأنكره شبيب بن شيبة، فسأل قتيبة هذا، فقال: إن اريد قرى الحجاز فلا تنوّن، لأنّها لا تنصرف، أو قرى السودان نُوِّنت لأنّها تنصرف.٢
و قال: و منهم: الأخفش الأوّل المتوفّى قبل الخمسين و مائتين، و اسمه أحمد بن عِمْران بن سَلَامة الإلْهَانيّ. يكنّى أبا عبد الله النحويّ.
قال ياقوت بعد ترجمته: و له أشعار كثيرة في أهل البيت، منها:
إن بني فَاطِمَةَ المَيْمُونَهْ | *** | الطَّيِّبِينَ الأكْرَمِينَ الطِّينَهْ |
رَبِيعُنَا في السَّنَةِ المَلْعُونَهْ | *** | كُلُّهُمُ كَالرَّوْضَةِ المَهْتُونَهْ |
و ذكره السيّد بحر العلوم الطباطبائيّ في كتاب «الرجال»، و ذكر أنّه من شعراء أهل البيت عليهم السلام، خالص الودّ لآل البيت، أصله من الشام، و هاجر للعلم بالعراق، ثمّ رحل إلى مصر، ثمّ إلى طبريّة. صحب إسحاق بن عَبْدُوس، و كان يؤدِّب ولده بطبريّة.۱
***
أجل، تبيّن ممّا ذكرنا كالشمس الساطعة أنّ الشيعة وحدهم كانوا منذ عصر صاحب الرسالة الخاتمة قد وقفوا على أهمّيّة العلم و الحديث و السنّة و الخبر، و كانوا مجدّين و ساعين إلى تدوين الكتب و تصنيف الأسفار، و كانوا يعدّون ذلك من أهمّ واجباتهم في وقت كان المعارضون لنشر العلم و الكتابة و التدوين يجلدون رواة الحديث و يعذّبونهم و يسجنونهم و ينفونهم، و ينهون نهياً أكيداً بليغاً عن تفسير القرآن و كتابة و بيان الحديث و السنّة النبويّة. و ما جرى على الشيعة الملتزمين الغيورين الناطقين بالحقائق في القرن الأوّل، و الثاني، حيث كانت الحكومات الجائرة الغاصبة تبذل قصارى جهدها لإخفاء الحقائق و الصدق و الأمانة، لأنّ أركان عروشها المُمَوَّهة قائمة على ممارساتها القمعيّة المتمثّلة بكمّ الأفواه، و القتل، و السلب، و النهب.
و لم يكن للشيعة من سبيل إلّا نشر العلم، ذلك أنّهم أرسوا دعائم منهجهم على الحقّ و الصدق. و هذا المنهج لم يسمح لم قطّ أن يستسلموا لحكّام الجور و امراء الظلم، أو يركعوا لهم من أجل المحافظة على أرواحهم
و أموالهم أو رغبة في إعلاء منزلتهم و مكانتهم. لهذا راضوا أنفسهم على الفقر و التشريد و النكبات في جميع العهود الرهيبة، كي يُبيِّضُوا كرّاساتهم المُسَوَّدَة، و يرووا للآخرين كتبهم المرويّة، من أجل أن لا تنقطع سلسلة الحقّ، و لا ينفصم عقد الفهم و الدراية و العلم. و ليصونوا كلام رسول الله الذي أخذوه من رسول الله حتى عصر بقيّة الله أرواحنا فداه.
لقد قام الشيعة بالكتابة و التدوين و التصنيف منذ عصر رسول الله.
و كانوا يحذون حذوه و يتّبعون هَدْيَهُ. و كانت الدعوة إلى الإسلام و الدعوة إلى التشيّع على حدٍّ سواء، إذ تمثّلا في آية الإنذار و حديث العشيرة. فكان التشيّع روح الإسلام، و الإسلام بلا تشيّع كجيفة نتنة تزكم الانوف و تزعج عالم الشرف و الضمير و الإنسانيّة، و تشكّل عبثاً ثقيلًا على كاهله.
الاحاديث النبويّة في لزوم التشيّع
و كانت دعوة رسول الله إلى القرآن، و دعوته إلى ولاية مولى المتّقين و سيّد الأحرار و أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دعوة واحدة.
و كان لزوم اتّباعه عليه السلام من اللوازم التي لا تتجزّأ عن الإسلام. و كان شيعته في عصر الرسول الأكرم معروفين بارزين لا معين. و كان الحزب المخالف منذ ذلك العصر معروفاً بتخطيطه، و عرقلته للأمور، و مخالفته للحقّ، و وقوفه أمام الصواب و الحقّ.
قال ابن الأثير: و في حديث عليّ عليه السلام قال النبيّ صلّى الله عليه و آله:
سَتَقْدَمُ عَلَى اللهِ أنْتَ وَ شِيعَتُكَ رَاضِينَ مَرْضِيِّينَ، وَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ عَدُوُّكَ غِضَاباً مُقْمَحِينَ! ثُمَّ جَمَعَ يَدَهُ إلى عُنُقِهِ يُرِيهِمْ كَيْفَ الإقْمَاحُ؟!
ثمّ قال (ابنُ الأثير): أقْمَحَهُ الغُلُّ: إ ذَا تَرَكَ رَأسَهُ مَرْفُوعاً مِنْ ضِيقِهِ.
وَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالى: «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُم
مُقْمَحُونَ».۱
و في «غاية المرام» عن المغازليّ بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: يَدْخُلُ مِنْ امَّتي الجَنَّةَ سَبْعُونَ ألْفاً٢ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ الْتَفَتَ إلى عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: هُمْ شِيعَتُكَ وَ أنْتَ إمَامُهُمْ.٣
و فيه عنه أيضاً بسنده عن كثير بن زيد قال: دخل الأعمش على المنصور، و هو جالسٌ للمظالم. فلمّا بصر به قال له: يا سليمان! تَصَدَّرْ! قال: أنا صَدْرٌ حيث جلستُ! إلى أن قال في حديثه: قال:
حدّثني رسول الله صلّى الله عليه و آله، قَالَ:
أتَانِي جَبْرَئيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ آنِفاً، فَقَالَ: تَخَتَّمُوا بِالعَقِيقِ فَإنَّهُ أوَّلُ حَجَرٍ شَهِدَ لِلَّهِ بِالوَحْدَانِيَّةِ، وَ لِي بِالنُّبُوَّةِ، وَ لِعَلِيّ بِالوَصِيَّةِ، وَ لِوُلْدِهِ بِالإمَامَةِ، وَ لِشِيعَتِهِ بِالجَنَّةِ.٤
و يستفاد من هذه الأحاديث الكثيرة و ما يماثلها أنّ لفظ الشيعة استعمله صاحب الشريعة فيمن تولّى عترته و آله. فمن يومه كان هذا اللفظ إذا اطلق عند الاستعمال، يُفهَم منه أنّ المعنيّ به مَنْ والى عليّاً و بنيه عليهم السلام.
و كانت الدعوة إلى التشيّع لأبي الحسن عليه السلام من صاحب الرسالة تواكب دعوتَه للشهادتين. و من ثمّ كان أبو ذرّ الغفاريّ شيعة عليّ
عليه السلام، و هو رابع الإسلام أو سادسهم.۱
و لقد كفانا مئونة التدليل على ما نريد محمّد كُرْدعلى في كتابه ( «خطط الشام» ج ٥، ص ٢٥۱ إلى ٢٥٦).
قال: عُرِفَ جماعة من كبار الصحابة بموالاة عليّ في عصر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، مثل سلمان الفارسيّ القائل: بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ عَلَى النُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ وَ الإئتِمَامِ بِعَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ وَ المُوَالاةِ لَهُ.
و مثل أبي سعيد الخُدريّ الذي يقول: امِرَ النَّاسُ بِخَمْسٍ، فَعَمِلُوا بِأرْبَعٍ وَ تَرَكُوا وَاحِدَةً. وَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الأرْبَعِ قَالَ: الصَّلَاةُ، وَ الزَّكَاةُ، وَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَ الحَجُّ.
قِيلَ: فَمَا الوَاحِدَةُ التي تَرَكُوهَا؟! قَالَ: وِلَايَةُ عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ!
قِيلَ لَهُ: وَ إنَّهَا لَمَفْرُوضَةٌ مَعَهُنَّ؟! قَالَ: نَعَمْ! هِيَ مَفْروضَةٌ مَعَهُنَّ.
و مثل أبي ذرّ الغفاريّ، و عمّار بن ياسر، و حُذيفة بن اليمان، و ذي الشهادتين خُزَيمة بن ثابت، و أبي أيّوب الأنصاريّ، و خالد بن سعيد بن العاص، و قيس بن سعد بن عبادة.
و أمّا ما ذهب إليه بعض الكتّاب من أنّ مذهب التشيّع من بدعة عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، فهم وَهْمٌ، و قلّة معرفة بحقيقة مذهبهم. و مَن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة و براءتهم منه و من أقواله و أعماله، و كلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلافٍ بينهم، عَلِمَ مبلغ هذا القول من الصواب. لا ريب في أنّ أوّل ظهور الشيعة كان في الحجاز بلد المتشيّع له. و في دمشق يرجع عهدهم إلى القرن الأوّل للهجرة.
إن محمّد كُردعلي ليس من الشيعة، و لا من أنصارهم، غير أنّه رأى أنّ من الأمانة إبداء هذه الحقيقة ناصعة دون أن يشوبها بغرض، و دون أن يركن إلى النزعات المذهبيّة التي أضاعت الحقّ و شوّهت الحقيقة.
فهذا كُردعلى بوجيز كلامه و استدلاله على نبوغ التشيّع أيّام صاحب الشريعة أغنانا عن المضيّ في التدليل على هذا الأمر!۱
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر رسول الله
تبيّن من جميع المطالب المتقدّمة كالآيات القرآنيّة، و حديث الغدير، و حديث الثقلين، و حديث العشيرة، و حديث الطير المشويّ، و قبول الإسلام بشرط قبول الولاية و أمثالها، أنّ نفس رسول الله صلّى الله عليه و آله كان يدعو الامّة إلى اتّباع أمير المؤمنين عليه السلام، و أنّ التشيّع له كان منذ ذلك العصر، و أنّ رجالًا من الصحابة من اولي العلم و الفهم و الحكمة اتّبعوه و رضوه وليّاً لهم، فعرفوا بشيعته منذ ذلك الحين. و هو عليه السلام و شيعته هؤلاء هم الذين تولّوا أمر الكتابة و التدوين و التصنيف في عصر الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله.
و بعد وفاة رسول الله، و وقوع الحوادث الاليمة، و إقالة مولى الموالي، و الاغتصاب الصريح لمقام الإمامة، و الخلافة، و إمارة الامّة، و منع التدوين و التصنيف و بيان الأخبار و الأحاديث و السنّة النبويّة و التفسير و معنى الآيات القرآنيّة المباركة بعنفٍ شديد، و تحكّم تامّ، انعزل الشيعة و مولاهم. و أمّا اولئك فإنّهم مع رواج سوقهم، و حروبهم و غاراتهم و فتحهم
الأمصار و اجتذاب قلوب العامّة بزخارف الدنيا و حطامها، و التبرّع بالمناصب، لم يسمحوا لأمير المؤمنين عليه السلام أن يدخل معهم بوصفه أعلم الامّة، و لم ينضووا تحت لواء آرائه و أفكاره و توجيهاته في حين كانوا هم المتربّعين على أريكة الحكم. و عند ما كانوا يستشيرونه في بعض المواطن القليلة، فإنّ هذه الاستشارة ليست من منطلق لزوم اتّباع الجاهل للعالم، بل من منطلق الاسترشاد برأيه في مقام الاستشارة.
و لا يمكن للإمام عليه السلام طبعاً و عقلًا مع سعة علمه و درايته أن يخضع لفهمهم القاصر و نظرتهم الضيّقة. لهذا لم يجد بدّاً من أن يحمل المسحاة و المعول، و يزرع، و يُجري القنوات خمساً و عشرين سنة. هذا و هم يعتبون عليه أنّه لم يذهب إلى الحرب! و يتساءلون:
لما ذا لم يستعدّ أن نعقد له لواءً للحرب؟ و لما ذا لم يتوجّه إلى القتال كسائر القادة و الامراء أمثال سعد بن أبي وقّاص و خالد بن الوليد، فيقتل، و يقمع، و يفتح، و يوسّع أرض المسلمين كما في عصر رسول الله؟! و لما ذا لم يرحل معنا في سفرنا إلى الشام؟!
افٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَقُولُونَ وَ تَتَوَّهَمُونَ وَ مَا تَصِيِرُونَ إلَيْهِ وَ تَزْعُمُونَ!
كيف يكون العُقاب المحلِّق في السماء خاضعاً لأمر الغراب و الحدأة؟! و أنتم الذين كسرتم جناحه، بَيدَ أنّه ظلّ عقاباً محلِّقاً، فلا هو بحاجةٍ إلى دنياكم، و لا هو يطمع في الإمارة عليكم!
هو عقاب، و هو ليث العلم و الحلم و الفهم و التمكين. فكيف ينقاد لأوامركم و نواهيكم؟! لهذا ترك أمير المؤمنين عليه و على أولاده و أبنائه الطيّبين أفضل السلام و الصلاة من الحيّ القيّوم ربّ العالمين الحسّاد و شأنهم، و أكبّ هو و شيعته على التفسير و التدوين، و كَتَبَ السنّة النبويّة للُامّة و الأجيال القادمة. أمّا اولئك الثمالى بخمرة النزعات و الغرور، فقد
اقتنعوا بظاهر من الإسلام، و خالوا أنفسهم على سطح القمر و الشمس.
و لكن شتّان بين ذلك و هؤلاء!
نه هر كه چهره بر افروخت دلبري داند | *** | نه هر كه آينه سازد سكندري داند |
نه هر كه طَرْف كُلَه كج نهاد و تند نشست | *** | كلاهدارى و آئين سروري داند |
هزار نكتة باريكتر ز مو اينجاست | *** | نه هر كه سر نتراشد قلندرى داند |
تو بندگى چو گدايان به شرط مزد مكن | *** | كه خواجه خود روش بنده پروري داند |
غلام همّت آن رِند عافيت سوزم | *** | كه در گدا صفتي كيمياگرى داند |
وفا و عهد نكو باشد ار بياموزي | *** | و گرنه هر كه تو بيني ستمگرى داند۱ |
به قدُّ و چهره، هر آنكس كه شاه خوبان شد | *** | جهان بگيرد اگر دادگستري داند |
به قدر مردم چشم من است غوطة خون | *** | درين محيط نه هر كس شناورى داند |
بباختم دل ديوانه و ندانستم | *** | كه آدمي بچهاى شيوة پرى داند |
مدار نقطة بينش ز خال توست مرا | *** | كه قدر گوهر يكدانه گوهرى داند |
ز شعر دلكش حافظ كسي بود آگاه | *** | كه لطف نكته و سِرِّ سخنوري داند۱ |
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر أمير المؤمنين عليه السلام
قال المحقّق الخبير و العالم المتضلّع الشيخ محمّد حسين المظفّر: فلو كان الأمر بعد الرسول لعليّ عليهما و آلهما السلام، لكان الناس كلّهم شيعة عليّ بعد البيعة٢ بيعة الغدير)، و بعد تلك الآيات النازلة و الروايات الواردة
في فضله.
و لمّا أن حالت الحوائل دون انتهاء الخلافة إليه، و فوجئ الناس بأمر لم يحتسبوه. فما عتّم الأمر إلّا و أبو بكر خليفة، كيف ننتظر من الناس اتّباع السلطان أن يبقوا على الولاء و التشيّع لأهل البيت؟! أجل، غير فئة تعدّ بالأصابع لم يغير ذلك الزلزال المفاجئ ثباتها على الولاء و الإمامة.
فانقبع التشيّع بانقباع أبي الحسن في بيته. و ما كان انتشاره بعدئذٍ في البلاد العريضة إلّا كدبيب النمل على الصفا من دون حسٍّ أو جلبة. فلم تبق قبيلة أو بلد إلّا و ألقى التشيّع بجرانه فيها و هو هادئ وديع.
لا يرى الشيعة خلافة إلهيّة لغير عليّ و بنيه عليهم السلام. فمن ثمّ لا تسمح السلطات بانتشاره، و لا ترى أن ينتشق النسيم الطلق فهي تخنقه ما استطاعت، لأنّ بظهوره و قوّته الخوف على عروشهم.
أشغلت الدنيا عثمان و بني اميّة عن الحيلولة دون ظهور التشيّع، فوجد أنصاره فسحة الدعوة إليه و تذكير الناس بيوم الغدير و فضائل المرتضى و أهل بيت النبوّة عليهم السلام، و القلوب يومئذٍ حاقدة على عثمان و رهطه باستنثاره بالفيء، و تأميرهم، و إقطاعهم الضياع، و إيثارهم بالخمس و الصفايا.
و متى كان يتسنّى لأمثال أبي ذرّ رضي الله عنه أن يذكّر الناس معلناً بولاء المرتضى و يطوف على بيوت المدينة صائحاً:
أدِّبُوا أوْلَادَكُمْ على حُبِّ عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ! وَ مَنْ أبى فَانْظُرُوا في شَأنِ امِّهِ!
و على منواله ينسج جابر بن عبد الله الأنصاريّ. و متى كان أبو ذرّ و غيره يطيقون إنكار المنكر و الفساد في الأرض، فكان ذلك منه عاملًا في نفي أبي ذرّ إلى الشام. فدأب في الشام على سيرته، و لم يثنه الوعد و لا الوعيد عن خطّته، فكان الصراخة في الشام أثر محمود. و خشى معاوية أن تنقلب عليهم الشام و تذهب أمانيه العِذاب سدى، إن استمرّ أبو ذرّ على هتافه. فأعاده إلى المدينة على أخشن مركب مجدّين به السير، و هو شيخ ضعيف القوى، فتناثر لحم فخذيه.
فلمّا لم يجد عثمان حيلة في سكوته من نفي أو إغراء بالمال أو ترهيب، نفاه إلى الربذة - داره قبل الإسلام - حتى مات جوعاً.۱
اللهُ أكْبَرُ! ما يفعل قول الحقّ بالمرء؟! و ما يلاقيه من جرّاء الأمر بالمعروف و الردع عن المنكر؟!
و لا بِدع، فإنّ من يريد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وطّن نفسه على احتمال المكاره و التنكيل و التعذيب، وَ ذَلِكَ في ذَاتِ اللهِ قَلِيلٌ.
حقّاً إنّه لقليل، فقد لاقى رسول الله صلّى الله عليه و آله قبله ما هو أنكى و أشدّ، و الحسين عليه السلام بعده ما هو أوجع و أفجع. و هكذا كلّ من أراد إحقاق الحقّ و إبطال الباطل. و ما خلّد ذكر اولئك الأبطال إلّا تلك
التضحية الغالية. و إنّهم لنا أحسن قدوة و مثال، لا سيّما في هذا الوقت الذي انتشرت فيه الموبقات و الضلالة، وَ لَكِنْ أيْنَ العَامِلُونَ؟!
فكان التجاهر بالتشيّع أيّام عثمان. و لم يطق أن يمحقه بتسفير أبي ذرّ، و بعقاب عمّار و كسر أضلاعه. و لهما أمثال في الناس. و كيف يزال و قد ثبتت قدمه راسخةً، لا سيّما في المدينة و مصر و الكوفة.۱
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام
عرفنا في المباحث السابقة أنّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام كان أحد الذين دعوا إلى كتابة الحديث و تدوين السنّة النبويّة. و كان هذا مشهوراً و مشهوداً بين المخالفين و لكن من المؤسف أنّنا لا نلحظ له، و لا لسيّد الشهداء عليهما السلام في باب الفقه، و التفسير، و السنّة إلّا أحاديث معدودة.
هل يتسنّى لنا أن نقول: لم يصدر من الإمام المجتبى عليه السلام حديث بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام إلى يوم استشهاده، في حين دامت تلك المدّة عشر سنين؟! و كذلك الأمر بالنسبة إلى سيّد الشهداء عليه السلام الذي عاش عشر سنين اخرى. فصار المجموع إلى يوم وقعة الطفّ عشرين سنة، فهل كان مثله مثل أخيه لم يصدر منه حديث، و هما اللذان كانا مرجعَي الناس و إمامَي الامّة؟!
لا! لا نحتمل هذا أبداً. و ما نظنّه ظنّاً قريباً من اليقين هو أنّ الحكم خلال تلك الفترة كلّها كان لمعاوية بن أبي سفيان عليه الهاوية و الخذلان،
و هو الذي تحدّثت عنه كتب التأريخ جميعها أنّه قد ضيّق الخناق على المسلمين لئلّا يجرؤ أحد على نقل الحديث و بيانه، فضلًا عن تدوينه و كتابته.
و في سفره إلى المدينة حاور قيس بن سعد بن عبادة، و عبد الله بن عبّاس، و بعد هذا الحوار أمر أن يؤذّن مؤذّن في المدينة أن: بَرِئَتْ ذمّة (الخليفة) مِن كلّ مَن نقل حديثاً أو رواية في فضل أبي تراب. و أنّ دمه و ماله و عِرضه حلال. من هنا، لم يجرؤ أحد على نقل الحديث و روايته.
يضاف إلى ذلك أنّه كتب إلى جميع عمّاله و ولاته و أئمّة الجمعة و الجماعة أن لا يتحدّثوا بشيء من فضل علي بن أبي طالب، و ليت الأمر اقتصر على ذلك، فقد فرض على الجميع سبّه بعد كلّ صلاة.
و تحدّث المرحوم المظفّر عن أساس حكومة معاوية، و ما ارتكبه من ظلم بحقّ الإمام الحسن عليه السلام، فقال:
ما انقضت على الشيعة تلك الأيّام الغضّة الجميلة، المشرقة بنور الحقّ، حتى فأجاهم عصر الظلم و الظلمة عصر معاوية. فما رأت الشيعة فيه إلّا الجور و الاعتساف و الاضطهاد. فكأنّما تأمّر ليقضي عليهم، و كأنّما تشيّعوا ليستقبلوا بنحورهم سهام جوره. فاضطرّ أبو محمّد الحسن عليه السلام لموادعة معاوية حين خذله الناس. يقول الباقر عليه السلام كما في «شرح النهج» ج ٣، ص ۱٥:
وَ مَا لَقِينَا مِنْ ظُلْمِ قُرَيْشٍ إيَّانَا وَ تَظَاهُرِهِمْ عَلَيْنَا؟! وَ مَا لَقِيَ شِيعَتُنَا وَ مُحِبُّونَا مِنَ النَّاسِ؟! إن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قُبِضَ وَ قَدْ أخْبَرَ أنَّا أوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ. فَتَمَالأتْ عَلَيْنَا قُرَيْشٌ حتى أخْرَجَتِ الأمْرَ عَنْ مَعْدِنِهِ، وَ احْتَجَّتْ على الأنْصَارِ بِحَقِّنَا وَ حُجَّتِنَا. ثُمَّ تَدَاوَلَتْهَا قُرَيْشٌ وَاحِداً بَعْدَ آخَرَ حتى رَجَعَتْ إلَينَا. فَنَكَثتْ بَيْعَتَنَا، وَ نَصَبَتِ الحَرْبَ لَنَا،
وَ لَمْ يَزَلْ صَاحِبُ الأمْرِ في صَعُودٍ كَؤُودٍ حتى قُتِلَ.
فَبُويعَ الحَسَنُ سَلَامُ اللهِ عَلَيْهِ، وَ عُوهِدَ ثُمَّ غُدِرَ بِهِ وَ اسْلِمَ، وَ وَثَبَ عَلَيْهِ أهْلُ العِرَاقِ حتى طُعِنَ بِخَنْجَرٍ في جَنْبِهِ، وَ نُهِبَ عَسْكَرُهُ، وَ عُولِجَتْ خَلَالِيلُ امَهَّاتِ أوْلَادِهِ، فَوَادَعَ مُعَاوِيَةَ، وَ حَقَنَ دَمَهُ وَ دِمَاءَ أهْلِ بَيْتِهِ، وَ هُمْ قَلِيلٌ حَقَّ قَلِيلٍ.
و حين وادعه أبو محمّد عليه السلام، اشترط عليه شروطاً كثيرة، منها: أن يكفّ عن سباب من قام الإسلام بحسامه، و تأسّست بقوائمه قواعد الحكم لمعاوية و غيره؛ و أن لا ينال شيعته بسوء. فلمّا وصل معاوية النخيلة أو دخل الكوفة و اعتلى المنبر، قال: ألَا أنّي قَدْ مَنَّيْتُ الحَسَنَ بْنَ عَلِيّ شُرُوطاً، وَ كُلُّهَا تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ!۱
يقول أبو الفرج في «المقاتل»: صلّى معاوية الجمعة بالنخيلة، ثمّ خطب، فقال: أنّي مَا قَاتَلْتُكُمْ لِتُصَلُّوا، وَ لَا تَصُومُوا، وَ لَا لِتَحُجُّوا، وَ لَا لِتُزكُّوا! إنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ! إنَّمَا قَاتَلْتُكُمْ لأتَأمَّرَ عَلَيْكُمْ وَ قَدْ أعْطَانِيَ اللهُ ذَلِكَ وَ أنْتُمْ كَارِهُونَ!
قال شريك في حديثه: هَذَا هُوَ التَّهَتُّكُ!
إن أبا محمّد عليه السلام ليعلم أنّ معاوية لا يفي بشيء من الشروط، و لكن ما اشترط عليه إلّا ليتجلّى للناس غدره و نكثه بالعهود.
فكأنّما صالحه على أن يجتهد في سبّ المرتضى و تتبّع شيعته ما استطاع. و ما اكتفى بسبّه بنفسه حتى كتب إلى عمّاله أن يسبّوه على المنابر
و دبر كلّ صلاة. و لمّا عوتب على ذلك، قال: لَا وَ اللهِ حتى يَرْبُو عَلَيْهِ الصَّغِيرُ وَ يَهْرَمُ الكَبِيرُ.
فما زال سبّ أمير المؤمنين عليه السلام سنّة في دولة بني اميّة إلى أن انقرضت، سوى أيّام الخليفة ابن عبد العزيز في بعض البلاد. و زاد معاوية على السبّ أن كتب لعمّاله: برئت الذمّة ممّن روى حديثاً في فضل أبي تراب.۱
و ما زال متتبّعاً أثر شيعته حتى انتهك منهم كلّ حرمة و ارتكب كلّ محرّم. يقول المدائنيّ كما في «شرح نهج البلاغة» ج ٣، ص ۱٥: و كان أشدّ الناس بلاءً أهل الكوفة لكثرة من فيها من شيعة عليّ عليه السلام، فاستعمل عليهم زياد بن أبيه و ضمّ إليه البصرة. فكان يتبع الشيعة و هو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيّام عليّ عليه السلام، فقتلهم تحت كلّ حجر و مدر، و أخافهم، و قطع الأيدي و الأرجل، و سمل العيون، و صلبهم على جذوع النخل، و طردهم و شرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.
هذه بعض سيرة معاوية مع الشيعة. فكان لا يجهر أحد بالولاء لأبي الحسن و لآل محمّد الأطهار إلّا حمل خشبة الصلب على عاتقة، و سنّ الحسام لعنقه بيده. و ما حيلة البعض منهم، و هو جهير بالتشيّع معروف فيه لا يستطيع كتمه و لا دفعه، أمثال حجر بن عديّ و أصحابه، و عمرو بن الحمق الخزاعيّ و أضرابه؟!
و ما وقف معاوية عند هذا الحدّ من شقائه حتى أراد أن يقتل إمام الشيعة أبا محمّد الحسن عليه السلام فدسّ إليه السمّ على يدي زوجته جعدة
ابنة الأشعث، فنال بذلك منه ما أراد.۱
و حسب معاوية أن بمطاردة الشيعة و القضاء عليهم و القتل لإمامهم يغالب القدر، فيمحو ذكر أهل البيت و يقضي على شريعة الرسول صلّى الله عليه و آله خصمه الألدّ، و لكن يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ.٢ فإنّه بالرغم من تلك الجهود العظيمة التي كانت لمعاوية و من جرى على سيرته في حرب أهل البيت، كان شأن أهل البيت لا يزداد إلّا رفعة و سناءً كما تراه اليوم.
فإنّ أيّام معاوية في سلطانه بلغت عشرين عاماً و قضاها مجدّاً بالقضاء على أهل البيت و شأوهم الرفيع حتى خُيِّل لمن لا يعرف عواقب الامور أنّ رعاة الدين لم يبق منهم نافخ ضرمة. و أنّ المنكر قد تغلّبت رجاله حتى لم يبق من رجال المعروف أحد يُعرف، و لكن ما مضت الأيّام إلّا و انهار كلّ ما بناه معاوية و أسّسه غيره، و شاده أعقابه، و علا الحقّ مرتفعاً في حجّته و آثاره، وَ الحَقُّ يَعْلُو وَ لَوْ بَعْدَ حِينٍ.
و هذا أمر بارز للعيان ينتبه إليه أهل البصائر في كلّ أوان و قد أخبروا عنه أهل العصور الاوَل. يقول الشعبيّ لولده، و هو المتّهم بالانحراف عن عليّ عليه السلام:
يَا بني! مَا بني الدِّينُ شَيئاً فَهَدَمَتْهُ الدُّنْيَا، وَ مَا بَنَتِ الدُّنْيَا شَيئاً إلَّا وَ هَدَمَهُ الدِّينُ. انْظُرْ إلى عَلِيّ وَ أوْلَادِهِ! فَإنَّ بني امَيَّةَ لَمْ يَزَالُوا يَجْهَدُونَ في كَتْمِ فَضَائِلِهِمْ وَ إخْفَاءِ أمْرهِمْ وَ كَأنَّمَا يَأخُذُونَ بِضِبْعِهِمْ إلى السَّمَاءِ. وَ مَا زَالُوا يَبْذُلُونَ مَسَاعِيَهُمْ في نَشْرِ فَضَائِلِ أسْلَافِهِمْ وَ كَأنَّمَا يَنْشُرُونَ مِنْهُمْ جِيفَةً!
و يقول عبد الله بن عروة بن الزبير لابنه: يَا بني! عَلَيْكَ بِالدِّينِ، فَإنَّ الدُّنْيَا مَا بَنَتْ شَيئاً إلَّا هَدَمَهُ الدِّينُ. وَ إ ذَا بني الدِّينُ شَيئاً لَمْ تَسْتطِعِ الدُّنْيَا هَدْمَهُ. ألَا تَرَى عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ وَ مَا يَقُولُ فِيهِ خُطَبَاءُ بني امَيَّةَ مِنْ ذَمِّهِ وَ عَيْبِهِ وَ غِيبَتِهِ! وَ اللهِ لَكَأنَّمَا يَأخُذُونَ بِنَاصِيَتِهِ إلى السَّمَاءِ!
ألَا تَرَاهُمْ كَيْفَ يَنْدُبُونَ مَوْتَاهُمْ وَ يَرْثِيهِمْ شُعَرَاؤُهُمْ! وَ اللهِ لَكَأنَّمَا يَنْدُبُونَ جِيَفَ الحُمُرِ!۱
و لا غرابة فإنّ الله لا يُخزي أولياءه و قد ضحّوا بنفوسهم و نفيسهم في ذاته. و كيف ينصر أعداءه و هم حرب له و لأوليائه؟ إن اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.٢
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر سيّد الشهداء عليه السلام٣
كان عصر إمامته عليه السلام، بعد سمّ أخيه الإمام الممتحن المجتبى
عليه السلام و استشهاده، عصيباً مضطرباً حتى عشر سنين كان معاوية فيها حيّاً قد تربّع على العرش و تسلّط غاصباً بكلّ ما اوتي من اقتدار. و كانت الغنائم و الأموال تنهال على دمشق، و معاوية يصرفها لإشباع أطماعه.
و لم يدّخر وسعاً من أجل تثبيت حكومته و استقرارها. و كان يمنح الجوائز و الصلات الكثيرة لمن يشاء، و بالعكس فقد ترك بني هاشم و ذراري رسول الله - على أساس تلك السياسة - جياعاً عطاشى عراة، دون أن يقيم لهم وزناً، إلى درجة أنّ بناتهم حين كنّ يبلُغنَ لم يستطعن الزواج، و كذلك شبابهم فإنّهم كانوا غير قادرين على الزواج. و كان فتيانهم يمضون أعمارهم عمّالًا، و فتياتهم حوائك خلف عيدان الحياكة و النسيج. و كان التحدث بفضائل أمير المؤمنين عليه السلام جرماً لا يُغتفر. فلا رواية و لا تفسير، و لا علم و لا دراية. و كان زمام الامور بيدِ حكّام المدينة، و الولاة و أئمّة الجمعة و الجماعة الذين كان يعيّنهم بنفسه. و كان سبّ أبي تراب و لعنه و شتمه اموراً مألوفة تشجّع الحكومة عليها. و تُمضيها السياسة العامّة يومئذٍ، و سياسة المدينة المنوّرة بخاصّة. و كان مروان بن الحكم، و أبو هُريرة يتسابقان في تنفيذ مآرب معاوية. أمّا عبد الله بن عمر، و عبد الله بن زبير فقد كانا يجهدان بشكل غريب في إخفاء مناقب عليّ و أهل بيته. و أمّا عائشة فقد بذلت قصارى جهدها في كتمان فضائلهم و دفنها، و تناسب الأخبار و الأحاديث التي كانت قد سمعتها من الرسول الأكرم و استظهرتها، و هي لا تعدّ و لا تُحصى، لقد سكتت عنها و لجّت في عدائها لبني هاشم و حقدها عليهم و حسدها إيّاهم، و أصرّت على أفكارها الجاهليّة الجهلاء.
كما أنّ سعد بن أبي وقّاص الذي كان أحد الفاتحين، و الذي اعترف بسماعه أحاديث في هذا الشأن على لسان النبيّ الأكرم، فقد شيّد له قصراً
عالياً خارج المدينة، ليستمتع بجواريه الحسان و يلهو و يتنعّم و ....
الويل لهذه الامّة الخائبة الضائعة بلا راعٍ إذ غزتها الأفكار الشيطانيّة من كلّ جانب، و أفلت عنانها، و انقلب دينها، و صار الشيطان إلهاً، و إبليس مَلَكاً، و عمى بصرها و بصيرتها، و صُمَّ سمعها. و ما أسرع فقدانها لقابليّة السماع و الاستماع! و أصبح الجميع منقادين لحاكم لعوب ممثّل ظهر على المسرح، و تفوّق على علي بن أبي طالب و ابنه الإمام الحسن، و أرسلهما إلى ديار العدم. و ها هو يخطب مستقبلًا قبلة رسول الله، و يقف في محرابه، و ينزو على منبره، و أخضع الجميع لسيطرته و هيمنته!
هنا سبق السيف العَذَل، و فقد الحديث و الرواية رونقهما، فلم يعدْ يُنتظر من الكتابة و التدوين و التصنيف شيئاً، فقد دوّى صوت معاوية، و ملأ الجبال و السهول و الصحارى و الأجواء و البحار بنحو كان ينافس فيه الأباطرة الجبّارين الهتّاكين في العالم على مرّ التأريخ. و لو ظلّ على تلك الوتيرة، لاستمرّ ألف سنة أو أكثر. و هنا عادت النصيحة و بيان الموعظة و الآداب غير مجدية. و أضحت الدعوة الانفراديّة و تشكيل جلسات الدرس، و سرد السنّة و الآثار النبويّة أمراً غير مُجدٍ بأيّ وجه من الوجوه بعد أخذ البيعة من الناس بولاية العهد ليزيد الزاني الجافي الخمّار الهتّاك شاعر الشراب و حليف المغنيّات و القردة، و المستهزئ بالدين و المبدأ و المعاد و حجّ بيت الله الحرام.
و هنا تحتاج الامّة إلى الحسين ليقذف مِشْرَطَهُ من أرض كربلاء إلى قلب الشام، و يفجّر تلك القرحة و ذلك الدُّمّل، و يذر أبا سفيان، و معاوية، و يزيد و أسرته رماداً بشرارة واحدةٍ.
و لقد قام الحسين بذلك و أفلح.
و ما أكثر ما قيل و كُتب حول شهادته و أسرارها العجيبة! بَيدَ أنّا
نكتفي هنا بموجزٍ من كلام العالم الجليل المظفَّر. فقد قال بعد شرح له في هذا المجال: فما أصدق القائل: إن الإسْلَامَ عَلَوِيّ، وَ التَّشَيُّعَ حُسَيْنِيّ. فإنّ سيف أمير المؤمنين عليه السلام الذي ضرب به خراطيم الناس حتى قالوا:
لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، هو الذي نشرت به رايات النصر، و رفعت به أعلام الفتح، و أخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
و كان عليّ عليه السلام في كلّ حرب حضرها لرسول الله صلّى الله عليه و آله هو الفاتك الفاتح.
كما أنّه لو لا قيام الحسين بتلك التضحية الكريمة، لكان الدين كلّه أمويّاً بسعي ملوك اميّة. و ما هو إذ ذاك إلّا فساد في الأرض و ارتكاب لكلّ منكر، و هتك للحرمات، و فسق بالأعراض، و سفك للدماء، و نهب للأموال، إلى غير هذا ممّا جاء الدين لاستئصال شأفته، و قلع جرثومته، و تطهير جسم المجتمع من أمراضه الفتّاكة.
و هذا أبو عثمان الجاحظ يقول: وَ تَفْخَرُ هَاشِمٌ عَلَى بني امَيَّةَ بِأنَّهُمْ لَمْ يَهْدِمُوا الكَعْبَةَ، وَ لَمْ يُحَوِّلُوا القِبْلَةَ، وَ لَمْ يَجْعَلُوا الرَّسُولَ دُونَ الخَلِيفَةِ، وَ لَمْ يَخْتِمُوا في أعْنَاقِ الصَّحَابَةِ، وَ لَمْ يُغَيِّرُوا أوْقَاتَ الصَّلَاةِ، وَ لَمْ يَنْقُشُوا أكُفَّ المُسْلِمِينَ، وَ لَمْ يَأكُلُوا الطَّعَامَ، وَ يَشْرَبُوا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ لَمْ يَنْهَبُوا الحَرَمَ، وَ لَمْ يَطاوا المُسْلِمَاتِ في دَارِ الإسْلَامِ بِالسِّبَاءِ.۱
و هذا بعض ما ذكره أبو عثمان، و ما يذكره أرباب التأريخ من أعمالهم.
و لو استقامت تلك الأعمال من دون نكر يطهّرها من على وجه
الأرض لأصبحت عرفاً بين الناس. و متى تعود الناس إلى العمل بالشريعة و قد استقبلوا هذه البدع و الموبقات تُرتكب جهراً، و لا يُخشى الله في اقترافها إعلاناً و سرّاً؟!
فنهضة الحسين هي التي أبانت ضلال القوم و جُرْأتَهم على الشريعة، و انتهاكهم لحرمات الدين، و خروجهم عنه، بل عليه أقوالًا و أعمالًا. فكان بزوغ بدر آل البيت بعد أن أفل أو كاد من أسرار شهادته التي ما زال الكثير منها مجهولًا. و ما تجلّي إلّا شطر منها حتى كاد أن يلمسها بيده حتى الغربيّ. و عسى أن يكشف لنا المستقبل شطراً آخراً محجوباً حتى اليوم عن البصائر و الأبصار.
إن الذي يرشدك إلى أنّ شجرة التشيّع كان نموّها و إفراعها ممّا استقته من تلك الدماء الطاهرة هو أنّ أنصار الأمويّين تكاد أن تتقطّع قلوبهم غيظاً من هاتيك النهضة الحسينيّة. و ما زالوا ينسجون الحجب بشتّى الأساليب فيضعونها على شمس تلك التضحية، زعماً منهم أنّ عين الشمس تُحجب بالغربال. و هَيْهَات الذي دبّروه من تمويه و خداع. فإنّ أنوار تلك الشهادة قد استضاء منها الافق الإسلاميّ، و مزّقت ظلام تلك الأضاليل الأمويّة، و نبّهت الحواسّ إلى الفوائد الملموسة من ذلك القربان، و خسران اميّة فيما جنته، و إن هزّتهم نشوة الظفر أيّاماً معدودة. و ما زال أنصار أميّة مجدّين في كتمان الحقّ ظنّاً منهم أنّ الباطل يعلو بالأراجيف، و تستر عيوبه نسائج الأوهام و أسلاك الهباء، و لا يفضحه قمر الحقّ الطالع!
و ما دعاهم إلى بخس حقّ تلك النهضة الشريفة هو ما شاهدوه و لمسوه من آثارها في انتشار التشيّع و نموّه حيناً بعد آخر، و افتضاح سلفهم بما جنوه على أنفسهم، و اكتسبته أيديهم. و كفى بافتضاحهم اعترافهم بالفضيحة.
فهذا عبيد الله بن زياد طالَبَ عمر بن سعد بالكتاب الذي كتبه له في قتل الحسين، فقال: مَضَيْتُ لأمْرِكَ وَ ضَاعَ الكِتَابُ! قال: لَتَجِيئَنَّ بِهِ!
قال عمر: تُرِكَ وَ اللهِ يُقْرَا عَلَى عَجَائِزِ قُرَيْشٍ اعْتِذَاراً إلَيْهِنَّ بِالمَدِينَةِ.
أمَا وَ اللهِ لَقَدْ نَصَحْتُكَ في حُسَيْنٍ نَصِيحَةً لَوْ نَصَحْتُهَا أبي: سَعْدَ بْنَ أبي وَقَّاصٍ كُنْتُ قَدْ أدَّيْتُ حَقَّهُ!
قال عثمان بن زياد، أخو عبيد الله: صَدَقَ وَ اللهِ؛ وَدِدْتُ أنَّهُ لَيْسَ مِنْ بني زِيَادٍ رَجُلٌ إلَّا وَ في أنْفِهِ خِزَامَةٌ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ وَ إن حُسَيْناً لَمْ يُقْتَلْ!
قَالَ: فَوَ اللهِ مَا أنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عُبَيْدُ اللهِ.۱
و أنّى لهم اليوم بستر تلك التضحية و قد ملأت البلاد طولًا و عرضاً ذكراها و الإشادة بها على المنابر. و ما زالت الصحف و الكتب تندب ذلك القربان و تبكي تلك الفاجعة الموجعة، في كلّ زمان و مكان.
و لما ذا تذهب يميناً و شمالًا و هذه عاصمة اميّة - الشام - التي اتّخذت يوم قتل الحسين عيداً و استقبلت الرءوس و السبي بالدفوف و الطبول، و بقيت أيّاماً و عليها منشورة معالم الزينة و الفرح! أصحبت و المآتم تقام فيها نادبة للحسين باكية عليه، لاعنة مَن اجترح منه ذلك الذنب العظيم! و هذا اسم الحسين مكتوب على مسجدها الأعظم و قد وضع ثوب السواد شعار الحزن على موضع صلب الرأس من ذلك المسجد. و هاتيك القبور من أهل البيت و ما اكثرها في ذلك البلد - دمشق - معمورة بالقباب و بالزائرين، و قد فرشت بأنفس السجّاد و اضيئت بأجمل المصابيح. و أين قبر معاوية و يزيد من عاصمتهم الشام؟! و أين الزائر لهما من أشياعهم و من سائر
الناس؟!۱
هذا هو شأن الحقّ و أهله لا تميته الأيّام، و لا يظفر به الباطل و أشياعه. و لا ينخدع ببهرجة الدنيا و أربابها إلّا من نسي الله فأنساه ذكره.
فأنّى لُامّية و أنصارها أن تطاول الحقّ فتمحي شخصه الكريم من الوجود!٢
صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ يَا أبَا عَبْدِ اللهِ وَ عَلَى الْمُسْتَشْهَدِينَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام زين العابدين عليه السلام
كان دأب أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه و آله بعد حادثة كربلاء
نشر ما حلّ بقتلى الطفّ، و ما جرى من فزع و دهشة و سلب و ضرب و سبي. فإنّ زين العابدين عليه السلام قضى سني حياته كلّها بالبكاء على أبيه.۱ فإنّه ما قُدِّم له طعام أو شراب إلّا و مزجه بدموع عينيه. و على هذا المنوال نسج الأئمّة من أولاده، بل ما زالوا يعقدون مآتم العزاء للبكاء و استماع المراثي و التعازي.
و لربّما ضربوا الأستار و جعلوا خلفها بنات الرسالة ليستمعن شجي المراثي، فيبكين على صرعى الطفّ و سبي العقائل. بل كان شعارهم حثّ المؤمنين على نصب مآتم الحزن للبكاء على ذلك الحدث الجلل، و على زيارته و لو على الخشب (إشارة منهم إلى الصلب الذي ينتظر مَن يزوره).
و قد لبّى المؤمنون تلك الدعوة، فما زالت مآتمهم قائمة، و زيارتهم دائمة. و لقد لاقوا من أجل ذلك فنون الأذى و التنكيل أيّام بني أميّة، و شطراً من دولة بني العبّاس خصوصاً في عهد المتوكّل، حتى أدركوا الأمل فصارت المآتم تقام علناً، و الزيارة تفعل جهرة، إلى أن بلغت إلى ما تشاهده اليوم!
و ما زال أئمّة أهل البيت يأمرون بنشر الدعوة الحسينيّة بكلّ وسائل النشر. و قد سبقهم إلى ذلك جدّهم المصطفى صلّى الله عليه و آله، فقد بكى ولده الحسين عليه السلام و حضّ على البكاء عليه، و حثّ على نصرته عند نهوضه و على زيارته بعد قتله، و الحسين بعدُ في الأحياء.
و سمع أنس بن الحارث بن نبيه رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: إن ابنِي هَذَا - يَعْنِي الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُقْتَلُ بِأرْضٍ يُقَالُ لَهَا: كَرْبَلَا. فَمَنْ شَهِدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَنْصُرْهُ!
فخرج أنس إلى كربلاء، فقُتل مع الحسين عليه السلام.۱
و قال ابن عبّاس: أوْحَى اللهُ تَعَالَى إلى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنِّي قَتَلْتُ بِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا سَبْعِينَ ألْفاً، وَ أنّي قَاتِلٌ بِابْنِ ابْنَتِكَ سَبْعِينَ ألْفاً!٢ و الأحاديث عنه في هذا الشأن كثيرة.٣
أراك وقفتَ على أسرار تلك الأوامر و إقامة هاتيك الشعائر! فإنّهم حاولوا بتلك و هذه لفت الأنظار إلى المصائب التي جرت على قتيل الظلم، و صريع الجور، و التوصّل بذاك إلى إعلاء كلمة الشهادتين، و تنفيذ أحكام الشريعة. فإنّه عليه السلام ما ضحّى بنفسه و نفيسه إلّا لأجل ذلك. و أحسبك خبيراً بنجاح تلك التضحية منه و هاتيك الدعوة منهم.
و لو لم يكن إلّا انعطاف الناس على ما فُجع به ذلك القتيل، و بغضهم لمن اجترأ عليه بذلك الفعل الأشنع، لكان أجراً يستحقّه الإشفاق على المظلوم و إن كان من غير أبناء جلدته و دينه، و الشنآن للظالم و إن كان منه قبيلة و ديناً. و من ثمّ تجد الامم و إن لم تكن مسلمة تنعطف على تلك التضحية، و تقدّر تلك البسالة و الإقدام من سيّد الشهداء عليه السلام، و تعدّ الجرأة على قتله و هو بتلك الحال شناعة و خزياً لا يغسل عارة تطاول السنين و الأعوام.
فنجاح هاتيك الشهادة ليس بكثرة الأولياء من المسلمين للحسين عليه السلام و تكثّر الشيعة لأهل البيت في كلّ بلاد خيّم عليها الإسلام فحسب، بل
بالتقدير من العالم كلّه الذي اطّلع على تلك الحادثة لذلك الأبي الباسل الذي صرعه سيف الظلم و العدوان. فإنّ التأريخ لم يقرئهم، و العيان لم يرهم حرباً تقابل فيها الحقّ و الباطل فتغلّب الباطل و انتقم من الحقّ انتقاماً تستنكره الوحوش الكواسر و الامم الجاهليّة التي لم تعرف الدين أو العاطفة أو النظام، فكيف بأمّةٍ تنتسب إلى دين الرحمة و العطف دين العدل و الحقّ. و كان الانتقام نفسه ممّن يدعوهم إلى العمل بذلك الدين و أحكامه، و هم بعد يزعمون أنّهم مستظلّون برواق ذلك الدين، معترفون بأنّ ذلك القتيل داعية الحقّ و ابن صاحب الشريعة.
و لمّا دخل عبيد الله بن زياد الكوفة، و ظفر بمسلم بن عقيل - رسول الحسين عليه السلام و داعيته - أخذ يقتل مَن يظنّ ولاءه لأمير المؤمنين عليه السلام، و يحبس من يتّهمه به، حتى ملأ السجون منهم خشية أن يتسلّلوا لنصرة الحسين عليه السلام. و من ثمّ تجد قلّة في أنصاره مع كثرة الشيعة بالكوفة. و لقد كان في حبسه اثنا عشر ألفاً كما قيل. و ما أكثر الوجوه و الزعماء فيهم، أمثال المختار، و سليمان بن صُرَد الخُزاعيّ، و المُسَيِّب بن نَجَبَة، و رِفَاعَة بن شَدَّاد، و إبراهيم بن مالك الأشتر.
و بعد أن خرجوا من حبسه نهض منهم أربعة آلاف يرأسهم سليمان ابن صرد، و جاءوا لقبر الحسين عليه السلام فنعوه و بكوه، و اشتدّوا لحرب الأمويّين حتى فنى أكثرهم، و لم يحجزهم عن المقاومة تفاني أكثرهم حتى ظهر المختار بالكوفة فالتحقوا به.
و صلب ابن زياد جماعة من الشيعة كان في طليعتهم العبد الصالح ميثم التمّار.۱ و قد أمر به فقُطعت يداه و رجلاه. و بقي و هو بتلك الحال يحدّث
الناس بفضائل أمير المؤمنين عليه السلام كأنّه خطيب على أعواد، فأمر به، فاستلّوا لسانه، و قطعوه، ثمّ بقروا بطنه فمات رحمة الله عليه.
و هذا الفعل القاسي الفظيع نزر ممّا ارتكبه ابن زياد في الشيعة. و لو لم يكن له إلّا قارعة الطفّ و قتل الحسين عليه السلام و رهطه و صحبه، لكفى به حدثاً تهتزّ له السماوات و الأرضون عظماً و جزعاً.
يقول الباقر عليه السلام كما في «شرح نهج البلاغة» ج ٣، ص ۱٥:
ثُمَّ لَمْ نَزَلْ أهْلَ البَيْتِ نُسْتَذَلُّ وَ نُسْتَضَامُ وَ نُقْصَى وَ نُمْتَهَنُ وَ نُحْرَمُ وَ نُقْتَلُ وَ نُخَافُ وَ لَا نَأمَنُ عَلَى دِمَائِنَا وَ دِمَاءِ أوْلِيَائِنَا. إلى أن قال عليه السلام:
وَ كَانَ عِظَمُ ذَلِكَ وَ كِبْرُهُ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مَوْتِ الحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقُتِلَتْ شِيعَتُنَا بِكُلِّ بَلْدَةٍ وَ قُطِّعَتِ الأيْدِي وَ الأرْجُلُ عَلَى الظِّنَّةِ. وَ كَانَ مَنْ يُذْكَرُ بِحُبِّنَا وَ الانْقِطَاعِ إلَيْنَا سُجِنَ أوْ نُهِبَ مَالُهُ أوْ هُدِمَتْ دَارُهُ.
ثُمَّ لَمْ يَزَلِ البَلَاءُ يَشْتَدُّ وَ يَزْدَادُ إلى زَمَانِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيادٍ قَاتِلِ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فهذا الباقر عليه السلام - و هو الصادق الأمين - كيف يحدّثنا بشجيّ اللحن عمّا جرى عليهم و على شيعتهم من المحن و عظيم البلاء أيّام ابن زياد و من قبله، كما سيحدّثنا عمّا جرى عليهم زمن من بعده. و التأريخ أصدق شاهد لحديثه.
ثورة المختار و الثناء عليه
لمّا عاجل الهلاك يزيد و تضعضعت من بعده إمارة الأمويّين أيّاماً، بقيت الشيعة في الكوفة تتطلّب زعيماً يلمّ شملها، و يشفي غيظ صدورها.
فما لبثوا أن وثب بهم المختار وثبة الأسد الغضبان بعد الربض الطويل، فالتفّت الشيعة حوله، و ساروا تحت ركابه، و جعل على الجند إبراهيم بن مالك الأشتر فأوقع بعسكر الشام و مزّقه شرّ ممزّق، و قتل قائده ابن زياد.
و تلك امنية أهل البيت و الشيعة عامّة. و بعث برأسه إلى زين العابدين عليه السلام فسجد للّه شكراً. و عند ذاك خلعت الهاشميّات ثياب الحزن على الحسين عليه السلام.۱
ثورة التوّابين (ت)
...۱
...۱
يك سره مردي ز عرب هوشمند | *** | گفت به عبد الملك از روي پند |
روي همين مسند و اين تكيهگاه | *** | زير همين قبّه و اين بارگاه |
بودم و ديدم برِ ابن زياد | *** | آه چه ديدم كه دو چشمم مباد |
تازه سري چون سپر آسمان | *** | طلعت خورشيد ز رويش نهان |
بعد ز چندى سر آن خيره سر | *** | بد بر مختار به روي سپر |
بعد كه مصعب سر و سردار شد | *** | دستكش او سر مختار شد |
اين سر مصعب به تقاضاي كار | *** | تا چه كند با تو دگر روزگار |
و لمّا انخذل جيش الشام، قويت شوكة المختار و الشيعة، و صار يستأصل قتله الحسين عليه السلام، و ما أبقى أحداً منهم يُعرف إلّا أن يكون قد هرب من بين يديه. فمن ثمّ تحامل عليه مَن ملك قلبه حبّ الأمويّين و قتله السبط الشهيد. فصار يدنّس غايته النزيهة التي وثب من أجلها، و هي الطلب بدم سيّد الشهداء عليه السلام. فوصموه تارة بأنّه أراد الوقيعة بالعروبة فكأنّه لم يكن من العرب. فوجد الفرصة للانتقام من الإسلام و العرب. (و هو ابن أبي عبيدة، من بني ثقيف، من العرب الأقحاح بالطائف). و اخرى أنّه تطلّب بتك النهضة الزعامة.
و لا أدري: لما ذا استقصى اولئك القتلة؛ و ما اكتفى بقتل شطر منهم و تأميل الباقين لينضمّوا إلى لوائه؟! فهذه هي سياسة الملك و الإمرة. فإنّ الاستقصاء يملأ قلوب واتريه حقداً عليه، فيحملهم على الوثبة عليه عند الفرصة.
إن طالب الرئاسة مثل معاوية الذي موّه نهضته في حربه لأمير المؤمنين عليه السلام بالطلب لدم عثمان. و لمّا آل الأمر إليه لم يتعرّض أحداً من قاتليه بسوء، فأغضى إغضاء متجاهل بهم، فكأنّما لم تكن تلك
الحرب الضروس من أجل الطلب بدم عثمان، حتى طالبته ابنة عثمان بالانتقام، فاعتذر.
و لو كان المختار غير صحيح القصد في وثبته، لما روى الكثير من المؤرّخين نهضته، و شعارها الطلب بالثأر. فهذا ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» (ج ٢، ص ٢٣۰) يقول: ثمّ إن المختار لمّا قتل ابن مرجانة و عمر بن سعد جعل يتبع قتلة الحسين بن عليّ و مَن خذله، فقتلهم أجمعين.
و أمر الحسينيّة و هم الشيعة أن يطوفوا في أزقّة المدينة - الكوفة - بالليل و يقولوا: يَا لَثَارَاتِ الحُسَيْنِ!۱
و قال أبو الفداء في حوادث عام ٦٦ من الجزء الأوّل، ص ۱٩٤: و في هذه السنة خرج المختار بالكوفة طالباً بثأر الحسين و اجتمع إليه جمع كثير و استولى على الكوفة و بايعه الناس بها على كتاب الله و سنّة رسوله صلّى الله عليه و آله و الطلب بدم أهل البيت. و تجرّد المختار لقتال قتلة الحسين.
و بمثل هذا ذكر الكثير من أرباب التأريخ سبب قيامه. و لعلّ هذه الغاية الشريفة من نهوضه بغّضته لكثير من الاوَل، فدسّوا الأحاديث في قدحه، و نسبوا له كلّ شناعة في الرأي و المذهب.
و ما ذنب المختار إلّا أنّه طهّر الأرض من فئةٍ حاربت الله و الرسول و الإسلام بحربها للسبط الشهيد و جرأتها على إهراق دمه، و انتقم لأهل البيت. فكيف يهون عليهم أن ينتقم لأهل البيت؟! سُبْحَانَكَ اللَهُمَ
إذا قُتِلْتُ فلا تركَب لتَثأر بي | *** | و إن مرضتُ فلا تَحْسَبْكَ عُوَّادي |
وَ غُفْرَانَكَ! أ هذا النصف و العدل من الإنسان؟!
ظهر عبد الله بن الزبير بمكّة و استتبّ له الأمر في الجزيرة تسع سنين. فاشتغل الأمويّون بابن الزبير و ابن الزبير بالأمويّين. و زين العابدين في عزلة عن هذا التطاحن الدنيويّ. و انصرف شطر من الناس إلى العِلم، و شطر إلى السياسة، و أصبح لكلّ من أمرَي السياسة و العلم شأن في البلاد، و تكاد أن تنفصل كلّ طائفة عن الاخرى.
و ابتدأ في هذا العهد ارتكاز العلم على القواعد و الاصول. و ابتدأت المناظرات و المحاججات، و المذاهب و الطرائق. و كان في هذا العصر الفقهاء السبعة في المدينة، الذين يرجع الناس إليهم في الفقه. و كانوا يفتون على آراء أهل السنّة و اصولهم. فكان في هؤلاء شيعيّان هما القاسم ابن محمّد بن أبي بكر، و كان من حواري زين العابدين عليه السلام، و سعيد بن المُسَيِّب و قد ربّاه أمير المؤمنين عليه السلام. و كانا في الظاهر على رأي أهل السنّة. و من ثمّ تعرف أنّ التقيّة كانت دريئة الشيعة قبل عهد الصادق عليه السلام.
و كانت الشيعة ترجع إلى زين العابدين عليه السلام في ذلك الانعزال و الوحدة و نصبه للمأتم الدائم على أبيه عليه السلام. و تلك هي السياسة الإلهيّة التي اختطّها أبو محمّد عليه السلام لنفسه خدمةً للشريعة. إذ كان الناس قد أشغلها التضارب على الملك. فوجدها فرصة لإبداء مظلوميّة سيّد الشهداء عليه السلام. فكان بكاؤه المستمرّ على شهيد الظلم أكبر ذريعة لإحقاق الحقّ و إبطال شعائر دول الجور، و انصرافه عن السياسة و أهلها نهزة لتوارد الناس عليه دون أن يؤخذوا بذاك.
أذهلت حادثة الطفّ الناس كلّهم، و ما كانوا يحتسبون أن يبلغ بتلك الفئة الأمويّة الغاشمة العتوّ إلى ما كان. و لا الناس في الطاعة لهم و ما آلوا
إليه مع آل الرسول إلى ما وقع. فندم شطر من اولئك المحاربين، و طلبوا من زين العابدين عليه السلام النهوض بهم إلى الانتقام من بني اميّة. فأبي عليهم أشدّ الإباء.
و أسف من تخلّف من الشيعة عن الالتحاق بالحسين، و عن القتل بين يديه. و ما علموا أنّ الناس يبلغون منه ذلك الفعل الأشنع، و قد خيّم عليهم الحزن بعمق و هم بين نادم و آسف. و هذا أحد العوامل على انتفاض الناس على يزيد و وقوع حادثة الحَرَّة. حيث لم تُبق كارثة كربلاء هوى لأكثر الناس في آل أبي سفيان. هذا فوق ما كان عليه يزيد من المجون و التهتّك و الطيش.
فالشيعة بالعراقَين (البصرة و الكوفة) و الحرمَين (مكّة و المدينة) في هذه الفترة هائدة الأعصاب، لم يتفرّغ ابن الزبير لمقاومتهم حتى بعد استيلاء مصعب على الكوفة و قتل المختار. و إن كانت نزعة ابن الزبير شنآن أهل البيت و محاربتهم في خططه و خطبه.
جرائم الحجّاج و عبد الملك ضدّ الشيعة
و ما مضت تلك الليلات القصيرة التي استقلّ فيها آل الزبير بالجزيرة إلّا و عاد الحكم لآل مروان من بني اميّة بعد أن قضوا على آل الزبير. و لمّا بسط عبد الملك نفوذه على البلاد، و قامت دعائم سلطانه، التفت إلى أهل البيت و شيعتهم. و لم تطب نفسه لأنّ يراهم على تلك العزلة و الوداعة.
و كان سيّد آل البيت و إمام الشيعة يومئذٍ زين العابدين عليه السلام، فحمله إلى الشام ليغضّ من مقامه، و ينقص من منزلته. و لكن لم يزدد الإمام بذلك إلّا عزّاً و كرامة، لِما ظهرت له من الفضائل و المعارف.
و كانت الكوفة مغرس دوحة التشيّع، فحاول عبد الملك أن يجتثّها من على الأرض. و أيّ ساعد أقوى من ساعد الحجّاج، و هو صاحب ذلك القلب القاسي الذي لا يعرف الرقّة و اللين؟! و أيّ رجل أبيع لدينه بالثمن
الأوكس - لو كان عنده شيء من الدين - من الحجّاج؟! و إن فعله بالبيت الحرام ليسلّم قصر المُلك لعبد الملك أخسر صفقةً.
و هنا يخبرنا الباقر عليه السلام عن عيان و مشاهدة عمّا كان من الحجّاج مع الشيعة، كما يحكيه شارح «نهج البلاغة» ج ٣، ص ۱٥:
يقول عليه السلام: ثُمَّ جَاءَ الحَجَّاجُ فَقَتَلَهُمْ - يَعْنِي الشِّيعَةَ - كُلَّ قَتْلَةٍ، وَ أخَذَهُمْ بِكُلِّ ظِنَّةٍ وَ تُهْمَةٍ، حتى أنَّ الرَّجُلَ لَيُقَالُ لَهُ زِنْدِيقٌ أوْ كَافِرٌ أحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أنْ يُقَالَ لَهُ: شِيعَةُ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
و يقول المدائنيّ كما في «الشرح» ج ٣، ص ۱٥: و ولى عبد الملك بن مروان فاشتدّ على الشيعة، و ولّى عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب الناس إليه ببغض عليّ عليه السلام، و موالاة أعدائه، و مولاة من يدّعي قوم من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه.
فَأكْثَرُوا في الرِّوايَةِ في فَضْلِهِمْ وَ سَوَابِقِهِمْ وَ مَنَاقِبِهِمْ، وَ أكْثَرُوا مِنَ الغَضِّ عَنْ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ عَيْبِهِ وَ الطَّعْنِ فِيهِ وَ الشَّنَآنِ لَهُ.
و ما ذا يذكر الكاتب عن الحجّاج و أعماله؟! فلقد سوّد صحائف من التأريخ لا تُنسى عمر الدهر. و نربأ بأقلامنا عن ذكرها. و كيف ننشر تلك الفضائح على صحائف بيض تريد الفضيلة بما ترويه و تسطّره؟!
و لو كانت أعماله القاسية مجهولة و لو لبعض الناس لآثرنا للفضيلة استطراء شطر منها رجاء أن ينتهجها من له إمرة و سلطان عند ما يعرف: أنَّ المَرْءَ حَدِيثٌ بَعْدَهُ، وَ أنَّ التَّأرِيخَ يَحْفَظُ عَلَيْهِ الجَمِيلَ وَ القَبِيحَ. و لكنّ الناس كلّهم يعلمون ما ارتكبه ذلك الفظّ الغليظ من الكعبة، و ممّن اتّخذ الكعبة قبلةً دون أن يميّز بين شيعيّ، أو سنّيّ، أو حروريّ، و بين حجازيّ،
أو عراقيّ، أو تهاميّ.۱
كان الكثير من حكّام الجور في بادي أمرهم من أهل الزهد و العباد (ت)
...۱
يَا قَوْمِ لَا تُغْلَبُوا عَنْ رَأيِكُمْ فَلَقَدْ | *** | جَرَّبْتُمُ الغَدْرَ مِنْ أبْنَاءِ مَرْوَانَا |
أمْسَوْا وَ قَدْ قَتَلُوا عَمْراً وَ مَا رَشَدُوا | *** | يَدْعُونَ غَدْراً بِعَهْدِ اللهِ كَيْسَانا |
وَ يَقْتُلُونَ الرِّجَالَ البُزْلَ ضَاحِيَةً | *** | لِكَيْ يُوَلُّوا امُورَ النَّاسِ وِلْدَانَا |
تَلَاعَبُوا بِكِتَابِ اللهِ فَاتَّخَذُوا | *** | هَوَاهُمُ في مَعَاصِي اللهِ قُرْآنَا |
...۱
كَمْ عائِدٍ رَجُلًا وَ لَيْسَ يَعُودُهُ | *** | إلَّا لِيَعْلَمَ هَلْ يَرَاهُ يَمُوتُ؟ |
بِعُمْرِي لَقَدْ عُمِرْتُ في الدَّهْرِ بُرْهَةً | *** | وَ دَانَتْ لي الدُّنْيَا بِوَقَعِ البَوَاتِر |
فَأضْحَى الذي قَدْ كَانَ مِمَّا يَسُرُّنِي | *** | كَلَمْحٍ مَضَى في المُزْمِنَاتِ الغَوَابِرِ |
فَيَا لَيْتَنِي لَمْ اعْنَ بِالمُلْكِ سَاعَةً | *** | وَ لَمْ ألْهُ في لَذَّاتِ عَيْشٍ نَوَاضِرِ |
وَ كُنْتُ كَذِي طِمْرَيْنِ عَاشَ بِبُلْغَةٍ | *** | مِنَ الدَّهْرِ حتى زَارَ ضَنْكَ المَقَابِرِ |
شُمْسُ العَدَوَاةِ حتى يُسْتَافَدَ لَهُمْ ٢ | *** | وَ أعْظَمُ النَّاسِ أحْلَاماً إ ذَا قَدَرُوا |
إ ذَا مَا نَدِيمِي عَلَّنِي ثُمَّ عَلَّنِي | *** | ثَلَاثَ زُجَاجَاتٍ لَهُنَّ هَدِيرُ |
...۱
خَرَجْتُ أجُرُّ الذَّيْلَ تِيهاً | *** | كَأنَّنِي عَلَيْكَ أمِيرَ الْمُؤْمِنِين أمِيرُ |
...۱
مُعَبَّا وَ مُعَصَّا وَ مُعَمَّمْ | *** | براي قتل دين گشته مُصَمَّم ٤ |
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام الباقر عليه السلام۱
قال آية الله الشيخ محمّد حسين المظفّر أعلى الله درجته السامية في كتاب «تاريخ الشيعة»:
ما وجد الشيعة زمن محمّد الباقر عليه السلام تضييقاً شديداً من بني اميّة كما وجدوه فيما سبق على عصره. فكانوا يشدّون الرحال إليه للارتشاف من مناهل معارفه و علومه. و في أيّامه كثرت الرواة و الرواية عنه، و كانت الرواية عنه أكثر من آبائه السابقين عليهم السلام.
فانتشر الحديث الباقريّ في كلّ قطر، حتى أنّ جابر الجُعفيّ و هو من ثقات رواته و أعاظم نَقَلَة الحديث روي سبعين ألف حديث عنه فحسب.
و كان من حملة علوم أهل البيت، وَ عِلْمُهُمْ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا
نَبِيّ أوْ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أوْ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ،۱ كما في نصّ الحديث عنهم.
يقول جابر كما في الحديث عنه: عِنْدِي خَمْسُونَ ألْفَ حَدِيثٍ، مَا حَدَّثْتُ مِنْهَا شَيْئاً كُلُّهَا عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ أهْلِ البَيْتِ.
و روى أيضاً محمّد بن مسلم عن الباقر خاصّة ثلاثين ألف حديث.
فما أعظمكم من رجال! كيف كانت أوعيتكم صالحة لتحمّل تلك المقادير العظيمة من علم أهل البيت ذلك العلم الصعب المستصعب. و لا بِدع فإنّ النَّاسُ مَعَادِنٌ.٢
و نبغ في زمنه من رجال الحديث علماء كان المعوّل على حديثهم بعد حين. و كانوا المقدّمين عند الإمام الصادق عليه السلام. يعطف عليهم،
و يرفق بهم. و جاءت عنه فيهم مدائح جليلة أمثال جابر، و محمّد بن مسلم، و زرارة و حمران ابنَي أعين، و ابن أبي يعفور، و بُريد العِجليّ، و سُدَير الصيرفيّ، و الأعمش، و أبي بصير، و معروف بن خَرَّبُوذ، و كثير غيرهم.
كما نبغ فطاحل من الشعراء بقيت آثارهم خالدة حتى اليوم أمثال الكُميت.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام جعفر الصادق عليه السلام۱
مُنيَ الإمام الصادق عليه السلام بمعاصرة الدولتين المروانيّة و العبّاسيّة و شاهد منهما معاً ضروب الأذى و التضييق. فكم أزعجوه من دار الهجرة (المدينة الطيّبة) يُحمل إلى فرعون أيّامه من دون جرم، سوى أنّه صاحب الخلافة و الإمامة حقّاً. فحُمل مرّة إلى الشام مع أبيه الباقر عليه السلام أيّام بني مروان، و إلى العراق عدّة مرّات في عهد بني العبّاس أبناء عمّه: مرّة في عهد السفّاح إلى الحيرة، و مرّات في عهد المنصور إلى الحيرة و إلى الكوفة و إلى بغداد.
و أحسن أيّام مرّت على الشيعة في عصره في الفترة التي امتزجت من اخريات دولة بني مروان و اوليات دولة بني العبّاس، في اشتغال اولئك بقتل بعضهم لبعض و بانتقاض البلاد عليهم، و هؤلاء بالحرب مع المروانيّين مرّة و بتطهير البلاد منهم و استتباب الأمن اخرى. فانتهز الشيعة هذه
الفرصة - و الوقت فرص - للارتواء من مناهل علمه و عرفانه، فشدّوا الرحال إليه من كلّ حدب و صوب لأخذ أحكام الدين و المعارف عنه.
فَرُوي الحديث عنه في كلّ علم و فنّ، كما تشهد به كتب الشيعة. و لم تقتصر الرواية عنه على الشيعة فحسب، بل روت عنه سائر الفرق، كما تُفصح بذاك كتب الحديث و الرجال من الشيعة و من غيرهم.
و قد أحصى ابن عقدة، و الشيخ الطوسيّ طاب ثراه في كتاب رجاله، و المحقّق رحمه الله في «المعتبر»، و غيرهم مَن روى عنه من الشيعة و من غيرهم، فكانوا أربعة آلاف. و كان أكثر الاصول الأربعمائة مرويّة عنه.
و هذه الاصول هي الأساس لكتب الحديث الأربعة: «الكافي» لثقة الإسلام الكلينيّ،۱ و «من لا يحضره الفقيه» للشيخ الصدوق،٢ و «التهذيب»، و «الاستبصار» لشيخ الطائفة الطوسيّ،٣ طيّب الله مرقده.
و صارت الشيعة في غضون هذه الفترة تنشر الحديث، و تجهر بولاء أهل البيت عليهم السلام. و ربا عددهم في مختلف الجهات على مئات الالوف.
و لمّا قامت دعائم السلطان للمنصور، و عرف كثرة الشيعة في الآفاق،
و تجاهرهم بالولاء لآل محمّد عليه و عليهم السلام، ضيّق على مصدر معارفهم و إمام عصرهم - الصادق - عليه السلام. حين علم أنّه يعسر عليه استئصال الشيعة لكثرتهم و انتشارهم في البلاد، فأراد أن يقطع الأصل، و به يكون جفاف الفرع. فكم حمله إلى العراق، و أوقفه بين يديه، يريد بذلك استنقاصه أمام الناس. و كم خاطبه بما يقصر القلم عن سطره.
و ما كفاه ما ارتكبه منه من تلك الأذايا و المكاره و المواقف التي يهتزّ لها العرش عظماً، دون أن دسّ إليه السمّ على يد عامله على المدينة. فمات روحي فداه قتيلًا بسمّ المنصور.۱
و ما اقتصر المنصور في فظيع أعماله على ما اجترحه من سيّد العلويّين - الصادق - بل سنّ الشفرة للعلويّين كافّة، فصبغ أرض الهاشميّة من دمائهم الطاهرة. و أكثر الفجائع في بغداد من إهلاك تلك الفِتْيَة الفَتِيَّة.
فخافته الشيعة، فانكمشت في بيوتها، و تستّرت بالتقيّة خشية من صارم عقابه. أ تراه يكفّ عن علويّ بعد أن اجترأ على سيّدهم، أو يعف عن شيعيّ بعد أن قضى على إمامهم؟!
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام الكاظم عليه السلام
قضى الإمام موسى الكاظم عليه السلام٢ أيّام إمامته٣ بين سجنين:
سجن داره بعيداً عن الناس خوفاً بني العباس، و سجن بني العبّاس الشديد الظلمة و الظلم. حتى أنّ الراوي إذا روى الحديث عنه لا يسنده إليه بصريح اسمه، بل بكناه مرّةً كأبي إبراهيم، و أبي الحسن، و بألقابه اخرى كالعبد الصالح، و العالم، و أمثالهما. و بالإشارة إليه تارةً كقوله: عن الرجل، إذ قلّما تجد اسمه الشريف صريحاً في حديث لشدّة التقيّة في أيّامه، و لكثرة التضييق عليه ممّن عاصره من العبّاسيّين كالمنصور، و المهدي، و الهادي.
و ما تربّع الرشيد على دست الملك إلّا و زجّه في أطباق السجون.
و بقي سلام الله عليه يحمل إلى السجن مرّةً، و يُطلق منه اخرى أربع عشرة سنةً، و هي مدّة أيّامه مع الرشيد.
و بهذه الأعمال القاسية أرهبوا العلويّة و أخافوا الشيعة. و كانت تطمح عيون الجميع إلى إمامهم السجين. و لم يجد عليه السلام منجى للطالبيّين، و خلاصاً للشيعيّين، أصوب من استسلامه للحكم العبّاسيّ القاسي. و ما كفى الرشيد ما ارتكبه من الإمام حتى دسّ إليه السمّ، و هو في حبس السندي بن شاهك، فمات روحي فداه في السجن قتيل الجور و الاعتساف.
و ذرّ الملح على الجرح أنّه لم يُسمح لأوليائه بتشييعه، بل أمر فحمله الحمّالون فوضعوه على الجسر. و نكأ القرحة بالنداء عليه: هَذَا إمَامُ الرَّافِضَةِ.
تلك أعمال لا تطفئ من العبّاسيّين لهب الحسد، و لا تنقص من شأن الإمام، و إنّما تكشف لنا عن قسوتهم ساعة الانتقام، و ذهولهم عن سياسة الأقلّيّات، و غفلتهم عن شحن القلوب عليهم حقداً و غيظاً، و النار تقدح بالزناد. و ما كانت النار خامدة، و إنّما الجمر تحت الرماد، على أنّ الإمام لا ذنب له عندهم سوى أنّه صاحب المقام حقّاً.
و لمّا شاهد سليمان بن جعفر عمّ الرشيد ما يصنع السنديّ بجنازة الإمام، أمر فأخذوها من أيدي الشرطة، و وضعها في الجانب الغربيّ، و أمر مناديه فنادى بالناس لحضور الجنازة و تشييعها. و أكثر الشيعة في بغداد تقيم في الجانب الغربيّ. و كانت محلّة الكرخ على سعتها كلّها شيعة. فهرع الناس فحملوه على الأعناق حتى أوصلوه إلى تربته الطاهرة من مقابر قريش.
و كانت قلوب الشيعة تغلي كالمراجل غيظاً على ما يصنعه الرشيد.
و لو لا ما كان من سليمان لأوشكت الفتنة أن تقع و أن يأخذوا الجنازة قهراً إلّا أن يكون الرشيد أميناً بضغطه و شدّته من وثبة الشيعة، حتى و إن كثر الضغط و الضرب عليهم.
و لعلّ انتباه سليمان إلى الخطر حمله على ذلك الصنع حتى مشى حافياً حاسراً خلف جنازة الإمام. فإنّ في ذلك إبراداً للغلل، و إطفاءً لللهب، و إخماداً للنائرة لو جار اشتعالها. أو لعلّ الرشيد أو عز إليه سرّاً أن يعمل ذلك بعد ما يقضي إربه. و عسى أن يكون فعل سليمان غَيرةً على ابن عمّه، و استياءً من ذلك الفعل الأشنع.
إن كثرة الشيعة ذلك اليوم في بغداد و سواها من بلاد العراق لجديرة بأن تقف حاجزاً دون إرهاق السلطات لهم و إنزال السوء بهم متوالياً، و لكن هل كانت تلك الضربات المتتابعة على رؤوسهم و شدّة الضغط عليهم أذهبت بقواهم؟ أو لأنّ التقيّة حملتهم على الاستسلام للقسوة؟ أو لأنّ عددهم بلا عدّة؟ أو لأنّ الإمام لا يرضى لهم الثورة لعلمه بأنّها لا تصل بهم إلى الغاية؟ أو لأنّهم بغير سائس و زعيم ينهض بهم فيقتحم بهم الأهوال؟
أحسب أنّ خلوّهم من الرئيس الناهض هو الذي أسلمهم إلى ذلك الخضوع. و من ثمّ تجد العراقين (الكوفة و البصرة) و الحرمَين (مكّة
و المدينة) و اليمن قد تمرّدت على الحكم العبّاسيّ أيّام المأمون عند ما وجد الناس زعماء من العلويّين يثبون بهم في وجوه بني العبّاس، و يحلّون عن عواتقهم نير ذلك الاستعباد.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام الرضا عليه السلام۱
إن السياسة الإلهيّة للأئمّة الأطهار عليهم السلام مع العبّاسيّين قضت بمسالمتهم، و التصبّر على أحكامهم الجائرة، لغاية إذاعة الحقّ. و لا يتسنّى ذلك إلّا إسراراً دون أن تشعر بذلك السلطات. و لا رحمة لهم عند بني العبّاس لو شعروا منهم بتلك الدعوة.
و لو لا تلك المسالمة لقُضي عليهم و على شيعتهم قبل أن تظهر منزلتهم و كراماتهم من فضائل و علوم و معارف. تلك التي نبّهت ذوي البصائر إلى أنّهم خزّان علم الرسالة و أهل بيت النبوّة.
و بهذه السياسة الإلهيّة، و تلك الكرامات الباهرة كثر أولياء أهل البيت. و بتلك المسالمة حُقنت دماؤهم بعض الشيء كما حفظت نفوس شيعتهم قدر الإمكان.
انبسط التشيّع على البلاد، و طمح كثير من الطالبيّين للنهضة، بل وثب محمّد بن إبراهيم من أولاد الحسن عليه السلام بالكوفة، و استفحل أمره حتى دُعي له بالبصرة و مكّة. و إبراهيم بن موسى بن جعفر عليهما السلام باليمن، و استولى على اليمن كلّه. و كان في مكّة الحسين بن الحسن
الأفطس. و بعد موت محمّد بن إبراهيم و داعيتهم أبي السرايا بالكوفة بايع الحسين محمّد بن جعفر الصادق عليه السلام و سمّاه أمير المؤمنين. بل لا تجد قطراً إلّا و فيه علويّ يُمنّي نفسه أو يُمنّيه الناس بالوثبة.
بل امتدّت جذور التشيّع حتى إلى البلاط الملكيّ. فكان الفضل بن سهل ذو الرئاستين وزير المأمون شيعيّاً، و طاهر بن الحسين الخزاعيّ قائد المأمون الذي فتح له بغداد و قتل أخاه الأمين شيعيّاً، و كثير سواهما. حتى أنّ المأمون خشى عاقبة هذين، فقتل الفضل، و ولّى طاهراً إمارة هرات.
و فعل ذلك مع أولاد طاهر فإنّهم بعد القيادة بوليهم إمارة هرات. و كانت الطاهريّة كلّها تتشيّع، كما يقول ابن الأثير في حوادث عام ٢٥۰، ج ۷، ص ٤۰.
و قال في حرب سليمان بن عبد الله الطاهريّ مع الحسن بن زيد الناهض بطبرستان: تَأثَّمَ سُلَيْمَانُ مِنْ قِتَالِهِ لِشِدَّتِهِ في التَّشَيُّعِ.
و بلغ من شأن طاهر أن كان له حرم ببغداد يأمن من دخله. و أن يخاطب دعبل المأمون من أجل ما كان لطاهر من الفتح بقوله:
إنِّي مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ سُيُوفُهُمْ | *** | قَتَلَتْ أخَاكَ وَ شَرَّفَتْكَ بِمَقْعَدِ |
كيف لا يخاف المأمون من طاهر؟!
إن المأمون من رجال الدهاء و السياسة. فلمّا رأى انتشار التشيّع في الآفاق. و ثبات العلويّين في أطراف البلاد، و سريان التشيّع إلى بلاطه، خشى من عقبى هذه النزعة العلويّة على سلطانه. فرأى أن يكيد لهذه الوثبات التي ظهر بها بعض العلويّين، و الكامنة في نفوس الآخرين.
إن الرضا عليه السلام ذلك اليوم إمام الشيعة و سيّد آل أبي طالب، فبعث إليه يستقدمه. و أظهر أنّه يريد أن يتنازل له عن العرش، و جعل
الأمر له في الحلّ و الترحال و اختيار الطريق. فجاء على طريق البصرة، فالأهواز، فنيسابور. و جعل طريقه عدّة شهور، ظهرت له في خلالها الكرامات الدالّة على إمامته. و كانت له من الآثار ما بعضها ماثل إلى اليوم.
فلمّا دخل خراسان و اجتمع به المأمون، أظهر المأمون للإمام أنّه يريد أن يتنازل له عن الخلافة لأنّه وجده أحقّ بها لفضله، فقال له الإمام:
إن كَانَتِ الخِلافَةِ حَقَّاً لَكَ مِنَ اللهِ فَلَيْسَ لَكَ أنْ تَخْلَعَهَا عَنْكَ وَ تُوَلِّيَهَا غَيْرَكَ! وَ إن لَمْ تَكُنْ لَكَ فَكَيْفَ تَهَبُ مَا لَيْسَ لَكَ؟!
فقال: إذَنْ تَقْبَلُ وِلَايَةَ العَهْدِ!
فَأبى عَلَيْهِ الإمَامُ أشَدَّ الإبَاءِ.
فقال له المأمون: مَا اسْتَقْدَمْنَاكَ بِاخْتِيَارِكَ! فَلَا نَعْهَدُ إلَيْكَ بِاخْتِيَارِكَ! فَوَ اللهِ إن لَمْ تَفْعَلْ ضَرَبْتُ عُنُقَكَ!
فلم يجد الإمام بدّاً من الاستسلام، غير أنّه اشترط على المأمون أن لا يتدخّل في شئون الدولة أبداً. فقبل المأمون منه ذلك، و أمر فبايع الناسُ الرضا عليه السلام بولاية العهد. و ضرب السكّة باسمه، و أجرى المراسيم الباهرة. و وفدت الشعراء للتهنئة، و أجزل لهم العطاء، و كتب إلى البلاد كلّها بأخذ البيعة بالولاية للرضا عليه السلام.۱
نجح المأمون بهذا التدبير من العهد للرضا عليه السلام. فهدأت بذلك نفوس الشيعة، و منّت أنفسها بأنّ الأمر سيعود لوليّه إمام الامّة. و قرّت شقشقة العلويّين، و اطمأنّت قلوب أوليائهم من القوّاد و الوزراء غير أهل الرأي و السياسة.
إن الإمام الرضا عليه السلام أخبر المأمون بما يكيده بهذه البيعة.
فاغتاظ لذلك المأمون و قال: مَا زِلْتَ تُقَابِلُنِي بِمَا أكْرَهُ!
إن الفطن من أرباب السياسة لا تخفى عليه المكيدة ذلك اليوم، فكيف بالرضا؟! و لكن ذلك التدبير يجهل مغزاه سواد الناس. و إذا هدأت فورتهم، فبمن ينهض الزعيم الثائر؟!
و لمّا بلغ الخبر العبّاسيّين ببغداد ساءهم فعل المأمون و جهلوا ما يرمي إليه، فاجتمعوا على خلعه، و البيعة لعمّه إبراهيم بن المهدي الشهير بالغناء.
و عند ما بلغ ما أراده المأمون من الكيد و سمّ الرضا، كتب إلى بني العبّاس ببغداد: إن الذي أنْكَرْتُمُوهُ مِنْ أمْرِ عَلِيّ بْنِ موسى قَدْ زَالَ وَ إن الرَّجُلَ قَدْ مَاتَ.۱
...۱
هُم قَتَلوه كيْ يكونوا مَكانَه | *** | كَمَا غَدَرَتْ يوماً بِكِسْرى مَرَازِبُه |
فَإلّا يكونوا قاتليه فإنَّه | *** | سَوَاءٌ عَلينا مُمْسِكاه و ضاربُه |
بَنِي هاشم لا تَعْجَلوا بِإفَادَةٍ | *** | سواءٌ علينا قاتلوه و سَالِبهُ |
و كان المأمون يُحضر للرّضا عليه السلام العلماء ليناظروه. و هكذا كان يعمل مع ابنه الجواد عليه السلام. يظهر بذلك أنّه يريد أن يُعلم الناس ما لهما من فضل، وَ لَكِنَّهُ يَدُسُّ السَّمَّ في العَسَلِ. لأنّه كان يرجو أن يعثرا و لو مرّة في جواب مسألة ليجعله ذريعة للحطّ من كرامتهما و إنقاصهما أمام الناس و الشيعة. و بذلك يرجو أن ينصرفوا عن ولائهما و الحبّ لهما، إلّا أنّهما كانا لا يزدادان إلّا سناءً و مكانة. و ظهر للناس أنّهما معدن العلم و أهل الخلافة، و غصنان من شجرة النبوّة الباسقة.
كان المأمون يريد أن ينقص الرضا بتلك المناظرات، و يحطّ من قدره بولاية العهد، و يرى الناس أنّ الدنيا زاهدة فيه. و أنّه لو كان زاهداً فيها لما قبل العهد بالولاية. فصار الأمر على خلاف ما يحتسبه المأمون.
فإنّ المحاججات رفعت شأو الرضا العلميّ. و تطلّع الناس لليوم الذي يستلم فيه مقاليد الامور.
نجح المأمون في تدبيره السابق، و فشل في تدبيره اللاحق. و خشى أن يستفحل الأمر، و يُصبح أكثر الناس شيعة للرضا، فيكون ملكه عرضة للخطر، فاحتال عليه بالسمّ و دسّه إليه في عنب، فقضى عليه السلام سميماً بطوس، و دفن بها في قبّة هارون أمام قبره، فاندرس قبر هارون، و ظهر قبر الرضا، و صار مقصداً لزوّار الشيعة من أطراف البلاد و شاسع الأمصار.
و في عهد الرضا عليه السلام نشطت الشيعة و جاهروا بالولاء، و علت كلمتهم، لا سيّما أنّ المأمون كان جهيراً به يجمع أرباب الكلام و يناظرهم في خلافة أمير المؤمنين، و يقطع حججهم بصارم براهينه. و لكنّه بعد أن سمّ الرضا، و هدأت أجراس العلويّة و الشيعة، أوصد ذلك الباب كأن لم يكن ذلك الحجاج و تلك الحجج.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام الجواد عليه السلام۱
مات أبو الحسن الرضا عليه السلام، و أبو جعفر الجواد عليه السلام ابن سبع سنين. فتهافتت الشيعة عليه يستقون من سائغ نميره شأنهم مع آبائه. و ما حال صغر السنّ دون ارتشافهم من غامر علمه، لأنّ الإمامة الإلهيّة لا فرق فيها بين ابن سبع أو سبعين ما دامت منابعها تستمدّ من العلّام
جلّ شأنه، كما هو شأن النبوّة. فهذا عيسى كلّم الناس و هو في المهد. و هذا يحيى أخذ الكتاب بقوّة و آتاه الله الحكم، و هو صبيّ.
إن المأمون لا يجهل ذلك الشأن من الإمام و لا رأي الشيعة فيه.
فاقتضت سياسته أن يرفع مكانة أبي جعفر عليه السلام و يعظّم شأنه، كما تظاهر قبل هذا مع أبيه أبي الحسن عليه السلام فاستدعاه من المدينة مكرّماً إلى بغداد و أظهر له من العناية ما استفزّ بني العبّاس حتى خافوا أن يعهد إليه كما عهد إلى أبيه من قبل. و لكنّهم جهلوا ما يقصده وراء ذلك الإكرام، و جهلوا أنّ السياسة ألوان، و أنّ لكلّ عهدٍ عملًا و لوناً، فاستمرّوا في ملامته، و استمرّ في كيده حتى زوّجه بابنته امّ الفضل، و هي التي قتلته بالسمّ بإشارة من المعتصم، فكأنّه ادّخرها للجواد لمثل هذا اليوم.
كثر إلحاح بني العبّاس على المأمون على أن يصرفوه عن تزويجه بابنته، و عن رفع مقامه و هو لا يعبأ بهم، فقالوا: دَعْهُ حتى يَتَأدَّبَ فَإنَّهُ صَبِيّ! فأحضر له العلماء و الفقهاء ليناظروه، فيظهر له من الفضل ما يقطع ألسنتهم. فكان من الجواد مع يحيى بن أكثم ما هو مسطور في كتب التأريخ و الحديث و الفضائل، و ما هو قاطع للحجّة و لذارب الألسنة من بني العبّاس، و ما بلغ أبو جعفر ذلك اليوم العاشرة.
و لا أدري كيف بلغ الجهل ببني العبّاس إلى ذلك الحدّ، فقد سبق من المأمون مع الرضا عليه السلام و منهم في لومه ما دلّ على نجاحه في سياسته و كيده، و خطأهم في تأنيبه. فكيف عادوا إلى تفنيده حين عاد إلى إظهار الإعزاز لأبي جعفر عليه السلام؟! و لا أدري كيف لم ينتبهوا إلى مراميه في أعماله و لها أمثال سابقة؟! و كيف يأملون أن يكشف لهم عن نواياه في فعله؟! و السياسة إن ظهرت للعيان استفزّت من يراد به الكيد، و نبّهت مشاعره. و إذا أخذ الحيطة لنفسه، كيف تعمل فيه تلك المكيدة؟! (هذا على
عكس منهج السياسة تماماً. فقوام السياسة إخفاء المكر و الخديعة). و إذا ظهر للعلويّة و الشيعة القصد من مراميه في إجلاله لأبي جعفر عليه السلام لم يحتفلوا بما يصنع، فلا يثبّطهم عن الوثبة في وجهه.
عاد الجواد عليه السلام إلى المدينة، و بقي بها مقصداً لأوليائه إلى أن اعتلى المعتصم منصّة الحكم سنة ٢۱۸، فاستدعى الجواد و معه زوجته امّ الفضل، و قد علم بانحرافها عن أبي جعفر فأرادها ذريعة لنفوذ تدبيره في أبي جعفر. و لم يكن المعتصم شقيق المأمون في دهائه و لا رضيع لبانه في سياسته. و من ثمّ انتفضت عليه كثير من البلاد، و خلعوا ربقة الطاعة، و استقلّوا بالأمر. فكان لقرب غوره يضيّق على الجواد مرّة، و يوسّع عليه اخرى، و يحبسه مرّة و يطلقه تارة.
و كان يجمع له العلماء ليحاججوه زعماً منه أن يجد له زلّة يؤاخذه فيها أو يسقط مقامه بها. و زوّر عليه مرّة كتباً تتضمّن الدعوة لبيعته، فلا يكون مغبّة ذلك إلّا إعلاء شأن أبي جعفر و إظهار الكرامة و الفضل له.
فكان المعتصم لا يزداد لذلك إلّا حنقاً و غيظاً، و لا يقوى على كتمان ما يسرّه من الحسد و الحقد، فحبسه مرّة. و ما أخرجه من السجن حتى دبّر الأمر في قتله. و ذلك أن قدّم لزوجته ابنة المأمون سمّاً، و حملها على أن تدفعه للإمام فأجابته إلى ما أراد.
فمات قتيلًا بسمّ المعتصم. و عند ما شاهدت أثر السمّ قد بان في بدن الإمام، تركته وحيداً في الدار، حتى قضى نحبه، و احتشدت الشيعة على الدار و استخرجوا جنازته، و السيوف على عواتقهم. و قد تعاقدوا على الموت، لأنّ المعتصم حاول أن يمنعهم عن تشييعه.
و تعرف من مثل هذه الحادثة كثرة الشيعة ذلك اليوم في بغداد، و قوّتهم على المراس. و من كثرة الرواة منهم تعرف كثرة العلم فيهم. و من
كثرة الحجاج و الجدال لا سيّما في الإمامة تعرف قوّة الحجة عندهم، و قوّة الكفاح عن المذهب، و اتّضاح أمرهم.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام عليّ الهاديّ عليه السلام۱
قضى الجواد نحبه، و الهاديّ ابن ستّ أو ثمان كما جاءت الإمامة أباه و هو ابن سبع. فكان موئل الشيعة و مرجعهم و منهل و رّاد العلم و مرتع روّاده، فنهلوا من مشرعته، و رتعوا الخصب من ربيعه، كما كان حالهم مع آبائه الغُرّ. و هذا أمر يسترعي الانتباه، و يستلفت الأنظار.
أ يُحسن ابن هذه السنّ من الناس القراءة و الكتابة دون أن يكون له شيء من معرفة أو علم؟!
فكيف يكون جامعة العلوم لا يُسأل عن شيء إلّا و الجواب لديه حاضر؟ و لا يبتدئ في البيان عن مسألة إلّا و أبهر العقول فيما يبديه! أ يجوز هذا في غير من ألهمه الله العلم و العرفان؟! و لو كان على غير تلك الحال من العلم الإلهيّ، لما انقادت إليه خاضعة شيوخ الفضل و العلم، و أخذت عنه أخذ مأموم عن إمام، و رأت فيه أنّه الحجّة من الله و المعصوم عن الرجس، و العالم بكلّ شيء. و لو لم يكن كما رأوه و شاهدوه لكذّبت الحوادث و الامتحانات ذلك الرأي و العقيدة فيه.
بقي الهاديّ عليه السلام في المدينة، و الشيعة نافرة إليه للتفقّه في الدين و اغتنام محاسن الأخلاق حتى سنة ٢٣٦. و كانت ناصية الحكم يومئذٍ
بِيَدِ المتوكّل، و هو شديد البغض لعليّ و لأهل بيته عليهم السلام. و زاد في الطين بلّة أنّه احيط بندماء قد اشتهروا بالنصب و البغض لعليّ. منهم: عليّ ابن الجَهم الشاعر الشاميّ من بني شامة، و عمرو بن فرُّخ الرَّخجِيّ، و أبو السِّمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني اميّة، و عبد الله بن محمّد بن داود الهاشميّ المعروف بابن اتْرُجَة. و كانوا يخوّفونه من العلويّين، و يشيرون عليه بإبعادهم و الإعراض عنهم و الإساءة إليهم. ثمّ حسّنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علوّ منزلتهم في الدين، و لم يبرحوا به حتى ظهر منه ما هو معروف.
و ممّا ذكره ابن الأثير في حوادث سنة ٢٣٦، في تاريخه، ج ۷، ص ۱۸؛ و ابن جرير في ج ۱۱، ص ٤٤؛ و صاحب «فوات الوفيّات» ج ۱، ص ۱٣٣، فعله بقبر الحسين عليه السلام من الهدم و الحرث و البذر و السقي و منع الناس من زيارته إلى غير ذلك ممّا هو مشهور عنه. و قال صاحب «فوات الوفيّات»: و كان معروفاً بالنصب فتألّم المسلمون لذلك. و كتب أهل بغداد شتمه على الحيطان. و هجاه دِعْبل الخُزاعيّ و غيره. و في ذلك يقول ابن السِّكِّيت، و قيل: هي للبَسَّاميّ:
تَاللهِ إن كَانَتْ امَيَّةُ قَدْ أتَتْ | *** | قَتْلَ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهَا مَظْلُومَا |
فَلَقَدْ أتَتْهُ بَنُو أبِيهِ بِمِثْلِهِ | *** | فَغَدَا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومَا |
أسِفُوا عَلَى أنْ لَا يَكُونُوا شَارَكُوا | *** | في قَتْلِهِ فَتَتَبَّعُوهُ رَمِيمَا |
و ما اقتصر على ما فعله بقبر الحسين عليه السلام من الإساءة لأهل البيت و أوليائهم بل جَدَّ في النيل من العلويّة نسباً و مذهباً. و استقدم أبا الحسن الهاديّ عليه السلام من المدينة إلى سامرّاء في سنة ٢٣٦، و أبقاه في سامرّاء يتعاهده بالأذى و السوء كما يتعاهد المحبّ حبيبه بالتحف و الطرف.
و قد وجد أعداء آل محمّد انحراف المتوكّل عنهم ذريعة للإساءة إلى أبي الحسن عليه السلام، فسعوا به إلى المتوكّل، و أخبروه أنّ في منزله سلاحاً و كتباً و غيرها من شيعته. فوجّه إليه ليلًا من هجم عليه الدار على غرّة، فوجدوه في بيت وحده، و عليه مدرعة من شعر، و على رأسه ملحفة من صوف و لا بساط في البيت إلّا الرمل و الحصى متوجّهاً إلى ربّه يترنّم بآيات من القرآن في الوعد و الوعيد. فاخذ على ما وُجد و حمل إلى المتوكّل.۱
و ما كان ذلك بأوّل سعي و لا أوّل هجوم على داره من المتوكّل.
و كلّما أغراه اولئك النواصب خفّ به بغضه إلى الإجابة لسعيهم، و إن وجد كذب ما قالوه.
فكان المتوكّل دائباً على ذلك الأذى، و تلك الإساءة لأبي الحسن من دون رحمة و لا هوادة، إلى أن قتله ابنه المنتصر انتقاماً لأمير المؤمنين عليه السلام لما شاهده منه و من الفتح بن خاقان و جلسائه من المسّ بكرامة المرتضى عليه السلام و الاستخفاف بحرمته.
و ما زال الهاديّ عليه السلام مقيماً في سامرّاء إلى أن مات مسموماً بها بسمّ المعتزّ العبّاسيّ سنة ٢٥٤. فكانت مدّة إقامته فيها ثمان عشرة سنة يتجرّع غصص الآلام من بني العبّاس، من مَلِكٍ لآخر. و كان أكثر أيّامه سجين الدار لا يصل إليه شيعته إلّا اختلاساً على كثرة الشيعة في هذا العهد، و كثرة احتياجهم إلى رؤية الإمام و أخذ معالم الدين عنه. و كان جلّ استفاداتهم منه بتوسّط رجال معدودين من قوّامه يتردّدون عليه. و ربّما قصدوا الشيعة في بلادهم.
و في هذا العصر كان صوت التشيّع جهيراً، و علماؤه تناضل و تناظر.
و كثرت التاليف في كلّ علم، و اتّسعت في الأخلاق و الكلام خاصّة.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام العسكريّ عليه السلام۱
جاء الحسن العسكريّ عليه السلام من المدينة مع أبيه الهاديّ عليه السلام يوم استقدمه المتوكّل. و ما زال مع أبيه إلى أن التحق أبوه بالرفيق الأعلى. و بقى هو مدّة إمامته القصيرة في سامرّاء. و قضى أيّام حياته التي في سامرّاء في نكد و أذى، فكان شريك أبيه الهاديّ فيما أصابه. و انفرد بعد أبيه فيما قصده به العبّاسيّون من سوء. و كان حالهم معه من الإساءة و الغضّ من مقامه و التضييق عليه و السجن كحالهم مع أبيه، دون أن يلاقي منهم فسحة أو إرفاقاً.
و الشيعة في أيّامه كحالها مع أبيه. و أصبحت قم في عهده و عهد أبيه من قبل عاصمة كبرى من عواصم العلم الشيعيّة. و فيها من رواتهما ما لا عدّ له، و من المؤلّفين في الحديث و فنون العلم جمّ غفير.
و كان في سامرّاء و ما جاورها من الشيعة عدد لا يستهان به. و في بغداد خلق كثير. و كانت المدائن يومئذٍ عامرة، و للتشيّع فيها القِدْحُ المُعَلَّى.٢ و ما زالت المواصلات بينهم و بين الإمام متوالية. و لعلّ سلمان
الفارسيّ أوّل مَن وضع فيها حجر التشيّع. و بني عليه حذيفة بن اليمان.
و لا تسل عن الكوفة في ذلك اليوم، بل و فيما قبله و ما بعده، فإنّها من أكبر مدن الشيعة في الولاء ... و ما زال العبّاسيّون على حالهم مع الإمام العسكريّ عليه السلام إلى أن اغتاله المعتمد العبّاسيّ بالسمّ. و ما زال الشيعة على ذلك الشأن إلى أن قبض الإمام عليه السلام.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في عصر الإمام المهديّ عليه السلام
كان مولد الإمام المهديّ عجّل الله فرجه يوم الجمعة في النصف من شعبان سنة ٢٥٥.۱ و كان الإمام العسكريّ عليه السلام يخاف عليه و يحتفظ
به، و لا يسمح لكلّ أحد بمشاهدته. و ما رآه أيّام أبيه إلّا النزر من الشيعة.
و كيف لا يهمّه المحافظة عليه و هو آخرهم، و به إحياء الشيعة، وَ بِهِ يَمْلُا اللهُ الأرْضَ قِسْطاً وَ عَدْلًا؟! و كيف لا يخشى عليه و بنو العبّاس يرتقبون ولادته ليقضوا عليه؟! فكانت غيبته الصغرى من يوم مولده. و هذا لا يختلف فيه اثنان من الشيعة. و أشار إليه بعض أهل السنّة أيضاً مثل ابن الصبّاغ المالكيّ في كتابه «الفصول المهمّة»، في الفصل الحادي عشر في اخريات ترجمة الإمام العسكريّ عليه السلام.
قال: «و خلف أبو محمّد الحسن من الولد ابنه الحجّة القائم المنتظر لدولة الحقّ. و كان قد أخفى مولده و ستر أمره لصعوبة الوقت، و خوف السلطان، و تطلّبه للشيعة و حبسهم و القبض عليهم».
و لمّا قضى أبو محمّد الحسن عليه السلام، جدّ المعتمد العبّاسيّ في العثور على الإمام المهديّ، حتى حبس جواري العسكريّ، و جعل عليهنّ الرصد خشية أن يكون عند إحداهنّ حمل من الإمام، فأخفاه الله عنه و عن أعدائه ليوم يريد به أن يطهّر الأرض من الجور و الطغيان و الشرك،
و يستبدل عنها العدل و الأمن و الإيمان.
و بعد أبيه العسكريّ عليهما السلام جعل بينه و بين الشيعة سفراء أربعة، و هم عثمان بن سعيد العُمَريّ، و كان من وكلاء جدّه و أبيه؛ و ابنه محمّد بن عثمان، و كان من وكلاء أبيه أيضاً؛ و الحسين بن روح النوبختيّ؛ و عليّ بن محمّد السَّمُريّ.۱
و تنتقل السفارة لأحدهم بعد موت الآخر. فكانت لمحمّد بعد أبيه، ثمّ للحسين بعد محمّد، ثمّ لعليّ السمريّ بعد الحسين. و بعد موت السمريّ سنة ٣٢٩ انقطعت السفارة. و كان مسكنهم جميعاً ببغداد، و بها مواضع قبورهم. و هي اليوم معروفة و تُزار.
و كان هؤلاء السفراء وسطاء بين الشيعة و الإمام لحمل أسئلتهم إليه و أخذ الجواب منه بتوقيعه إليهم. و السفير هو استاذ التدريس في وقته، يحمل إلى و رّاد العلم علوم الإمام الغائب. و من بعدهم انقطع الوصول إليه و الأخذ عنه رأساً، و انحصر أخذ الأحكام بالاجتهاد.
و كان للإمام عليه السلام في هذه الغيبة الصغرى وكلاء كثيرون في بغداد و غيرها، غير أنّ السفارة مختصّة بهؤلاء الأربعة المعروفين بالنُّوّاب.
كما ادّعى جماعة الوكالة و النيابة عنه جاء التوقيع منه بتكذيبهم و البراءة منهم. (انظر: «الغيبة» للشيخ الطوسيّ، ص ٢۸٥ إلى ٢۷٢).
و في أيّام الغيبة الصغرى كان التشيّع كنور على عَلَم، لا سيّما في العراق و إيران. و كانت بغداد و قم مهبط طلّاب العلم، و فيهما أساتذة الدراسة و رجال التاليف.
مسار العلوم و تأريخ الشيعة في الغيبة الكبرى
انتهت الغيبة الصغرى بموت السمريّ رضوان الله عليه سنة ٣٢٩.
و بعدها وقعت الغيبة الكبرى، و عنها يخرج عجّل الله فرجه و سهّل مخرجه. و الفارق بين الغيبتَين أنّ الصغرى توفّق لمشاهدته و الاجتماع به خواصّ مواليه. و في هذه الكبرى التي نحن فيها لا يتوفّق لذلك إلّا خواصّ الخواصّ.
وَفَّقَنَا اللهُ تَعَالَى لِمُشَاهَدَةِ تِلْكَ الطَّلْعَةِ الرَّشِيدَةِ، وَ الغُرَّةِ الحَمِيدَةِ، وَ جَعَلْنَا مِنْ أنْصَارِهِ وَ أعْوَانِهِ في غَيْبَتِهِ وَ عِنْدَ ظُهُورِهِ، إنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.۱
الدَّرْسُ الحَادِي وَ الارْبعُونَ بَعْدَ المائَتَين إلى الخَامِسِ وَ الخَمْسِينَ بَعْدَ المَائَتَينَ: مَدْرَسَةُ الإمَامِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ العِلْمِيَّةِ مَصْدَرُ إشْعَاعٍ دَائِمٍ عَلَى المَعْمُورَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوة إلّا بالله العليّ العظيم
الكلمة الطيّبة هي حقيقة الولاية
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ ، تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.۱
قال سماحة استاذنا الأعظم آية الله العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ تغمّده الله أعلى درجات جنانه في تفسيره المبارك: و الذي يعطيه التدبّر في الآيات أنّ المراد بالكلمة الطيّبة التي شُبِّهت بشجرة طيّبة من صفتها كذا و كذا هو الاعتقاد الحقّ الثابت، فإنّه تعالى يقول بعد و هو كالنتيجة المأخوذة من التمثيل:
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ.٢ و القول هو الكلمة و لا كلّ كلمة بما هي لفظ، بل بما هي معتمدة على اعتقاد و عزم يستقيم عليه
الإنسان و لا يزيغ عنه عملًا.
و قد تعرّض تعالى لما يقرب من هذا المعنى في مواضع من كلامه كقوله: إن الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.۱
و قوله: إن الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.٢ و قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.٣
و هذا القول و الكلمة الطيّبة هو الذي يرتّب تعالى عليه تثبيته في الدنيا و الآخرة أهله، و هم الذين آمنوا. ثمّ يقابله بإضلال الظالمين و يقابله بوجه آخر بشأن المشركين. و بهذا يظهر أنّ المراد بالممثّل هو كلمة التوحيد و شهادة أن لآ إلَهَ إلَّا اللهُ حقّ شهادته.
فالقول بالوحدانيّة و الاستقامة عليه هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغيّر و زوال و بطلان، و هو الله عزّ اسمه أو أرض الحقائق.
و له فروع نشأت و نمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقّة فرعيّة و أخلاق زاكية و أعمال صالحة يحيى بها المؤمن حياته الطيّبة و يعمر بها العالم الإنسانيّ حقّ عمارته. و هي التي تلائم سير النظام الكونيّ الذي أدّى إلى ظهور الإنسان بوجوده المفطور على الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.
و الكُمَّل من المؤمنين و هم الذين قالوا: ربّنا الله ثمّ استقاموا فتحقّقوا بهذا القول الثابت و الكلمة الطيّبة مثلهم كمثل قولهم الذي ثبتوا لا يزال
الناس منتفعين بخيرات وجودهم و منعّمين ببركاتهم. و كذلك كلّ كلمة حقّة و كلّ عمل صالح مثله هذا المثل، له أصل ثابت و فروع رشيدة و ثمرات طيّبة مفيدة نافعة.
فالمثل المذكور في الآية يجري في الجميع كما يؤيّده التعبير بكلمة طيّبة بلفظ النكرة، غير أنّ المراد في الآية على ما يعطيه السياق هو أصل التوحيد الذي يتفرّع عليه سائر الاعتقادات الحقّة، و تنمو عليه الأخلاق الزاكية و تنشأ منه الأعمال الصالحة.
ثمّ ختم الله سبحانه الآية بقوله: وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، ليتذكّر به المتذكّر أن لا محيص لمريد السعادة عن التحقّق بكلمة التوحيد و الاستقامة عليها.۱
و قال سماحة العلّامة فيما قاله في البحث الروائيّ: و في «الكافي» بإسناده عن عمرو بن حريث قال: سألتُ أبا عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام عن قول الله: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ، قال:
فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أصْلُهَا، وَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ فَرْعُهَا، وَ الأئمَّةُ مِنْ ذُرِّيَّتِهمَا أغْصَانُهَا، وَ عِلْمُ الأئمَّةِ ثَمَرَتُهَا، وَ شِيعَتُهُمْ المُؤْمِنُونَ وَرَقُهَا. هَلْ في هَذَا فَضْلٌ؟!
قَالَ: قُلْتُ: لَا وَ اللهِ! قَالَ: وَ اللهِ إن المُؤْمِنَ لَيُولَدُ فَتورَقُ وَرَقَةٌ فِيهَا، وَ إن المُؤْمِنَ لَيَمُوتُ فَتَسْقُطُ وَرَقَةٌ مِنْهَا.
قال سماحة العلّامة: أقول: و الرواية مبنيّة على كون المراد بالكلمة الطيّبة هو النبيّ صلّى الله عليه و آله، و قد اطلقت الكلمة في كلامه على
الإنسان كقوله: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.۱
و مع ذلك فالرواية من باب التطبيق (لا من باب تعيين مورد خاصّ). و من الدليل عليه اختلاف الروايات في كيفيّة التطبيق. ففي بعضها أنّ الأصل رسول الله صلّى الله عليه و آله و الفرع عليّ عليه السلام و الأغصان الأئمّة عليهم السلام، و الثمرة علمهم، و الورق الشيعة، كما في هذه الرواية.
و في بعضها: إن الشَّجَرَةَ رَسُولُ اللهِ، وَ فَرْعَهَا عَلِيّ، و الغُصْنَ فَاطِمَةُ، وَ ثَمَرَهَا أولَادُهَا، وَ وَرَقَهَا شِيعَتُنَا، كما فيما رواه الصدوق عن جابر، عن أبي جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام.
و في بعضها: إن النَّبِيّ وَ الأئِمَّةَ هُمُ الأصْلُ الثَّابِتُ، وَ الفَرْعَ الوَلَايَةُ لِمَنْ دَخَلَ فِيهَا، كما في «الكافي» بإسناده عن محمّد الحلبيّ، عن أبي عبد الله عليه السلام.
و في «مجمع البيان» روى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام إن هَذَا - يعني قوله: كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ... إلى آخره - مثل بني اميّة.
و في «تفسير العيّاشيّ» عن عبد الرحمن بن سالم الأشلّ، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليه السلام: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ - الآيتين، قال: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لأهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ لِمَنْ عَادَاهُمْ هُوَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ.
ردّ العلّامة الطباطبائيّ على الآلوسيّ في الدفاع عن بني أُميّة
قال سماحة العلّامة هنا: أقُولُ: قال الآلوسيّ في تفسير «روح المعاني» ما لفظه: و روى الإماميّة - و أنت تعرف حالهم - عن أبي جعفر
رضي الله عنه تفسيرها - يعني الشجرة الخبيثة - ببني اميّة، و تفسير الشجرة الطيّبة برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و عليّ كرّم الله وجهه و فاطمة رضي الله عنها و ما تولّد منهما.
و في بعض روايات أهل السنّة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني اميّة، فقد أخرج ابن مردويه عن عديّ بن حاتم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
إن اللهَ تَعَالَى قَلَّبَ العِبَادَ ظَهْراً وَ بَطْناً، فَكَانَ خَيْرُ عِبَادِهِ العَرَبَ، وَ قَلَّبَ العَرَبَ ظَهْراً وَ بَطْناً فَكَانَ خَيْرُ العَرَبِ قُرَيشاً، وَ هِيَ الشَّجَرَةُ المُبَاركَةُ الَّتي قَالَ اللهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ: «مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ». لأنَّ بني امَيَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ - انتهى موضع الحاجة.
و هو عجيب، فإنّ كون امّة أو طائفة مباركة بحسب طبعهم لا يوجب كون جميع الشعب المنشعبة منها كذلك. فالرواية على تقدير تسليمها لا تدلّ إلّا على أنّ قريشاً شجرة مباركة. و أمّا أنّ جميع الشعب المنشعبة منها مباركة طيّبة كبني عبد الدار مثلًا، أو كون كلّ فرد منهم كذلك كأبي جهل و أبي لهب فلا قطعاً. فأيّ ملازمة بين كون شجرة بحسب أصلها مباركة طيّبة، و بين كون بعض فروعها التي انفصلت منها و نمت نماءً فاسداً، مباركة طيّبة؟!
و قد روى ابن مردويه هذا عن عائشة أنّها قالت لمروان بن الحكم:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ لأبِيكَ وَ جَدِّكَ: إنَّكُمُ الشَّجَرَةُ المَلْعُونَةُ في القُرْآنِ!
و روى أصحاب التفاسير كالطبريّ و غيره عن سهل بن سعد، و عبد الله بن عمر، و يعلى بن مرّة، و الحسين بن عليّ، و سعيد بن المسيِّب أنّهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ۱ (الآية)، و لفظ سعد: رأي رسول الله صلّى الله عليه و آله بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكاً حتى مات، و أنزل الله: وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا (الآية).
و ستأتي الرواية عن عمرو بن عليّ في تفسير قوله: «الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً»٢ إنَّهُمُ الأفْجَرَانِ مِن قُرَيشٍ: بَنُو المُغِيرَةِ وَ بَنُو امَيَّةِ.٣
أجل، يتبيّن ممّا ذكرناه ما يأتي: أولًا: لا تنحصر كلمات الله تعالى بالكلمات اللفظيّة، بل إن جميع الموجودات الكونيّة هي كلماته. إذ إن الكلمة تعني ما يُعْرِبُ عن الضمير. فكافّة المخلوقات في عالم التكوين لمّا كانت مرتبطة بالله سبحانه و منوطة به - بل هي عين الارتباط و الإناطة - فهي تعبّر بوجوداتها عن جماله و جلاله. و كلّها مَعْلَم كاشف عن حقيقة الوجود. و يُعَدُّ كُلٌّ منها بقدر سعته الوجوديّة آيةً و مرآة و كلمة من كلماته.
ثانياً: تنقسم كلمات الله التكوينيّة إلى قسمين هما: الكلمات الحسنة الطيّبة، و الكلمات السيّئة الخبيثة. فالموجودات الشريفة في العالم هي كلماته الطيّبة. أمّا الموجودات الضارّة المفسدة، فهي كلماته الخبيثة.
ثالثاً: أنّ أسمى الكلمات اللفظيّة الطيّبة هي الشهادة بحقّ التوحيد، و حقيقة لآ إلَهَ إلَّا اللهُ. و أنّ أدنى الكلمات اللفظيّة الخبيثة و أشدّها هي إظهار الكفر و الشِّرك بالمعبود، و إنكار الحقائق في عالم الوجود. و أنّ أسمى الكلمات التكوينيّة الطيّبة و أرفعها هي حقيقة وجود ولاية الإنسان
و عروجه إلى درجات القرب، و اشتماله على الأسماء و الصفات الإلهيّة، و الاندكاك و الفناء في الذات الأحديّة. و ذلك أرقى مقام الإمكان. و وصول الممكن إلى هذا المكان هو أحلى ثمار شجرة الوجود و ألذّها. و هو عبارة عن مقام الإنسان الكامل، و حقيقة و سرّ الأنبياء العظام، و الأولياء الكرام، و الذوات المقدّسة للأئمّة المعصومين عليهم أفضل التحيّة و السلام. و أنّ أخبث الكلمات التكوينيّة الخبيثة هي حقيقة نهج الإنسان الناكب عن صراط الحقّ و سلوكه و أخلاقه و عقائده، فقد أفسد ثمرة الشجرة، و أضاع منهجه، و ألقى نفسه في حضيض الهوى، فأصبح بذلك كائناً نتناً. و العيّنة الماثلة لهذا الضرب من البشر هم الملحدون و المعاندون و المنافقون الذين لا يصغون إلى القول السديد الصائب، و يمضون أعمارهم في لجاجة أنفسهم و عُتوّ أفكارهم.
حقيقة الكلمة التكوينيّة الطيّبة وجود سرّ الإنسان الكامل
رابعاً: حقّ الكلمة الطيّبة وجود الإنسان المؤمن المتّصل بالله و معناه و سرّه. و العقائد الحسنة و الصفات الحميدة و الأخلاق و الأعمال الرغيبة هي كلمات طيّبة أيضاً، و هي من آثاره الوجوديّة. و من منظارٍ ما، يمكن أن نسمّيها كلّها كلمات طيّبات إجمالًا. و على العكس فإنّ حقّ الكلمة الخبيثة وجود الإنسان الكافر الجاحد المنافق العنود و معناه و سرّه. و العقائد السيّئة و الصفات الذميمة و الأخلاق و الأعمال غير الرغيبة هي أيضاً كلمات خبيثة من آثاره. و من منظور ما، جاز لنا أن نطلق عليها جميعاً كلمات خبيثات.
هذه رموز و إشارات يتسنّى لنا أن نستنتجها من مدلول الآية المباركة، و نستفيد منها.
و نلحظ في نظرة اخرى أنّ هذه الموجودات الذاتيّة و الكلمات الإلهيّة قد عُبِّرَ عنها بالكتاب. و كأنّ العوالم بأسرها هي كتاب الحقّ المتعال الذي كتبه بيد القدرة و العظمة. و نجد هذا التعبير في مواضع عديدة من القرآن
الكريم، إذ اطلق عنوان الكتاب على الموجودات التكوينيّة.
و من الطبيعيّ أنّ هناك فرقاً بين التعبير عن الموجودات الإلهيّة بالكلمة، و التعبير عنها بالكتاب. و هو أنّ لكلّ موجود وجهتين: وجهة حقّيّة و وجهة خلقيّة، و بعبارة اخرى، وجهة ربِّيَّة و وجهة عبديّة، و بعبارة مستعاضة، وجهة أمريّة و عالم أمريّة و وجهة عالم خلقيّة، و بكلمة بديلة، وجهة ملكوتيّة و وجهة ملكيّة، و بعبارة اخرى، من جهة صدوره و قيامه بذات المبدأ المتعال، و من جهة قبوله.
فتُطلق الكلمة على الموجودات التكوينيّة من الجهة الاولى، و يُطلق الكتاب عليها من الجهة الثانية. لأنّ الأوّل من جهة القيام و الصدور، أي:
مَعْلَم على المبدأ المتعال بواسطة وجوده، و الثاني: القابليّة من جهة الفيض، و الكثرة الماهويّة، و البروز و الظهور في العالم الخارجيّ.
كلام المرحوم الكمبانيّ في الفرق بين الكلمة و الكتاب الإلهيّ
و شرح المرحوم آية الله الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ الغرويّ ذلك في منظومته التي أنشدها في الحكمة و المعقول، فقال:
بَيْنَ الكَلَامِ مِنْهُ وَ الكِتَابِ | *** | فَرْقٌ لَدَى العَارِفِ بِاللُّبَابِ |
فَكُلُّ مَوْجُودٍ مِنَ الكَلَامِ | *** | مِنْ جِهَةِ الصُّدُورِ وَ القِيَامِ |
وَ الكُلُّ مِن حَيْثِيَّةِ القَبُولِ | *** | كِتَابُهُ عِنْدَ اولِى العُقُولِ |
وَ بِاعْتِبَارِ عَالَمِ الأمْرِ فَقَطْ | *** | كَلَامُهُ فَإنَّهُ بِلَا وَسَطْ |
وَ عَالَمُ الخَلْقِ كِتَابٌ مَحْضُ | *** | وَ الجَمْعُ في ذِي الجِهَتَيْنِ فَرْضُ |
وَ لِلْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ الجَمْعِ | *** | وَ الفَرْقِ۱ وَصْفَانِ بِغَيْرِ مَنْعِ |
فَبِاعْتِبَارِ الجَمْعِ بِالْقُرْآن | *** | يُدْعَى كَمَا في الفَرْقِ بِالفُرْقَانِ |
وُجُودُهُ الجَمْعِيّ في أعْلَى القَلَمْ۱ | *** | فِيهِ انْطَوَى كُلُّ العُلُومِ وَ الحِكَمْ٢ |
وُجُودُهُ الفَرْقِيّ وَ التَّفصِيلي٣ | *** | في غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ العُقُولِ |
وَ إن في دَائِرَةِ الوُجُودِ٤ | *** | قَوْسَيْنِ للنُّزُولِ٥ و الصُّعُودِ٦ |
وَ بالنَّبِيّ المُصْطَفَى وَ الآلِ | *** | قَدْ خُتِمَتْ دَائِرَةُ الكَمَالِ |
وَ أوَّلُ۷ المَرَاتِبِ العَقْلِيَّة | *** | هِيَ۸ الحَقِيقَةُ المُحَمَّدِيَّة٩ |
فَمَا وَعَاهُ قَلْبُهُ مِمَّا وَعَى | *** | يَكُونُ قُرْآناً وَ فُرْقَاناً مَعَا |
وَ غَيْرُهُ لَيْسَ عَلَى هَذَا النَّمَط | *** | بَلْ كُلُّ مَا اوتِيَ فُرْقَانٌ فَقَطْ |
وَ لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ كَمَا عُلِمْ | *** | يَقُولُ: اوتِيتُ جَوامِعَ الكَلِمْ۱۰ |
رسول الله و آله لهم المقام الجمعيّ في أعلى القلم
تبيّن ممّا قلناه أنّ حقيقة ذات الرسول الأكرم و آله تشتمل على الكَلِمِ الجَمْعيّ و الفَرْقيّ، أي: الوجود الجمعيّ في أعلى القلم، و هناك تنطوي جميع العلوم و الحِكَم، و ليس لسائر الأنبياء و المرسلين هذه المرتبة من
الوجود، و لم يبلغوا هذه الدرجة من الكمال، بل إن علومهم علوم كلّيّة في عالم الفرق، حيث أصاب كلٌّ منهم حظّاً من تلك العلوم تبعاً لاختلاف مراتبهم و درجاتهم.۱
و في ضوء ما قال محيي الدين بن عربي فإنّ مقام الرسول الأكرم نُقْطَةُ الوَحْدَةِ بَيْنَ قُوْسَي الأحَدِيَّةِ وَ الواحِدِيَّةِ، و نلحظ ذلك في كلامه الآتي:
اللهُمَّ أفِضْ صِلَةَ صَلَوَاتِكَ وَ سَلَامَةَ تَسْلِيمَاتِكَ عَلَى أوَّلِ التَّعَيُّنَاتِ المُفَاضَةِ مِنَ العَمَاءِ الرَّبَّانِيّ، وَ آخِرِ التَّنَزُّلَاتِ المُضَافَةِ إلى النَّوْعِ الإنْسَانِيّ، المُهَاجِرِ مِنْ مَكَّةَ - كَانَ اللهُ وَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيءٌ - ثَانِي إلى المَدِينَةِ وَ هُوَ الآنَ عَلَى مَا كَانَ.
مُحْصِي عَوَالِمِ الحَضَرَاتِ الخَمْسِ في وُجُودِهِ، «وَ كُلُّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ».۱
رَاحِمِ سَائِلِ اسْتِعْدَادَاتِهَا بِنَدَى جُودِهِ، «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ».٢
سِرُّ الهُوِيَّةِ التي هِيَ في كُلِّ شَيْءٍ سَارِيَةٌ وَ عَنْ كُلِّ شَيءٍ مُجَرَّدَةٌ.
كَلِمَةُ الاسْمِ الأعْظَمِ الجَامِعِ بَيْنَ العُبُودِيَّةِ وَ الرُّبُوبِيَّةِ.
نُقْطَةُ الوَحْدَةِ بَيْنَ قَوْسَي الأحَدِيَّةِ وَ الوَاحِدِيَّةِ.٣ الجامعة لمقام التجرّد من الهويّات، و الشاملة لجميع الهويّات.
أجل، يستفاد من مجموع ما أوردناه أنّ رسول الله و الأئمّة الطاهرين عليهم الصلاة و السلام هم أعظم الأسماء الإلهيّة، و هم اولو مقام جمع الجمع الحائزون على التجرّد و الانتشاء في الكثرة، و الجهة الأمريّة و الخلقيّة. و لمّا كانوا - حسب الفرض - أوّل الاسم المشتقّ النازل من مرتبة الذات فلا بدّ أن تكون لهم هذه الخصائص، على عكس سائر الأنبياء و المرسلين المستمتعين بجانب التفصيل و عالم الفرق و نشأة التعيّن فحسب.
الرسول الأكرم و أهل البيت كلّهم هم الكلمة الإلهيّة الطيّبة و كتاب تكوين الحقّ. و كلماتهم و علومهم المترشّحة منهم هي الكلمات اللفظيّة الطيّبة، و وجودهم و حقيقتهم هما الكلمات الكونيّة الطيّبة.
و من جهة عنوان القبول، هم الكتاب الإلهيّ المبارك. كلامهم هو الكتاب اللفظيّ، و وجودهم هو الكتاب الكونيّ. و هو ذلك الكتاب العظيم
الخطير الشامل لمجموع الجمع و الفرق، أي: القرآن و الفرقان الإلهيّ.
إنّهم أصحاب قرآن بنحو الجمع اعطوه في لحظة واحدة و ليلة واحدة، و أصحاب فرقان أيضاً نزل خلال ثلاث و عشرين سنة تدريجيّاً.
و في هذا القرآن و الفرقان الكتابين العظيمين المشتملين على مجمل الحقّ سبحانه و تفصيله نلحظ عنوان اللفظ و وجود المدخليّة. فهم بعلومهم حائزون على القرآن العلميّ من حيث المَلَكَة و بساطة النفس، و بوجودهم حائزون على القرآن التكوينيّ من حيث الصورة الذهنيّة.
و هم بعلومهم أيضاً حائزون على الفرقان العلميّ من حيث المَلَكَة و بساطة النفس، و بوجودهم حائزون على الفرقان التكوينيّ من حيث الصورة الذهنيّة و المثال.
أجل، إن عندهم كلّ شيء. «آنچه خوبان همه دارند تو تنها داري!».۱
وراثة الإمام الصادق العلوم الكلّيّة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله
و يتبيّن في هذا الكتاب المبارك، الذي يتناول علوم الأئمّة و علوم شيعتهم و يتعرّض لتقدّمهم في جميع العلوم و تأسيسهم لها، مدى كُنْه المكنونات العلميّة لُاولئك السادة الكرام و الموالي العظام، و هو فوق فكر الإنسان و عقله و درايته. و قد افيض عليهم من أعلى نقطة القلم البسيط و أرفع ذروة العلم البحت.
و تحدثّنا أخيراً بإجمال عن علوم الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين و تأريخهم. و استعرضنا ذلك بنحو مقتضب اعتباراً من مولى المتّقين و إمام الموحّدين و أمير المؤمنين حتى الإمام السجّاد زين العابدين، و من الإمام محمّد الباقر حتى الإمام الحسن العسكريّ، و المهديّ قائم
آل محمّد عليهم السلام.
بَيدَ أنّه كان مناسباً أن نتوسّع في الحديث عن صادق آل محمّد جعفر بن محمّد عليهم السلام جميعاً، إذ إن بحثنا يحوم حول موضوع العلم، مع اعترافنا و إقرارنا بدءاً أنّنا هيهات أن نقدر على تصفيد ذلك الوجود الملكوتيّ في قالب هذه العبارات الملكيّة! أو نستطيع أن نحيط بوجوده الأمريّ و الخلقيّ بأفكارنا! أو ندنو من أقرب نقطة من نقاط تحليقه و عروجه، على جناح طائر الغيرة العلميّة الطموح!
أ ما تلاحظون أنّنا وضعنا لهذه الدروس في هذه البحوث الشريفة العنوان الآتي: «المدرسة العلميّة الرفيعة للإمام جعفر الصادق عليه السلام مصدر إشعاع دائم على ربوع المعمورة»؟
و لكن هل بمقدور هذا العنوان أن يعطي الإمام حقّه كما ينبغي؟! و هل نستطيع وحدنا أن نضطلع بهذه المهمّة في هذه البحوث؟! هَيْهَات! هَيْهَات!
هل يمكننا أن نقول: إن علوم الإمام الصادق عليه السلام كانت أكثر من علوم سائر الأئمّة؟! أبداً، و حاشا، و كلّا. و لكن لمّا كانت الظروف الزمنيّة و الإمكانات الكثيرة المتاحة تستلزم أن يُظهر الإمام علومه، لهذا كانت علومه أكثر من غيره.
عمر الإمام الصادق الطويل أحد البواعث على ظهور علومه
أولًا: أحد العوامل المهمّة طول عمر الإمام عليه السلام، إذ كان عمره ثماني و ستّين سنةً.۱ فقد ولد عليه السلام سنة ۸۰ هـ،٢ و توفّي
بالمدينة سنة ۱٤۸ هـ بسمّ المنصور الدوانيقيّ.
و هذا العمر المبارك يتيح الفرصة للإمام عليه السلام أكثر حتى يُدرّس و يُعلِّم علومه الباطنيّة. و كانت له مجالس درس و تعليم في المدينة المنوّرة خلال ثلاثين سنة تامّة. و من الواضح أنّ الفترة التي درّس فيها الإمام عليه السلام و تعلّم خلالها الناس كانت فترة طويلة. و أنت خبير بأنّ
الإمام عليه السلام لو لم يُستَشهد في ذلك العمر، و عمّر ثمانين سنة أو تسعين أو أكثر. و واصل نهجه في التفسير و الحديث و العلوم الغريبة و الأسرار الكونيّة و الأحكام و السياسات و المعاملات و التأريخ و الأخلاق و العرفان و غيرها، فما ذا كان سيحدث في العالَم؟! و كم كنّا نرفل في علوم جمّة قد حُرمنا منها بسبب اخترام عمره الشريف!
إن العلوم التي وصلت الينا من الإمام محمّد الجواد عليه السلام قد انتهت بوفاته و هو في الخامسة و العشرين من العمر. فقد وُلد عليه السلام سنة ۱٩٥ هـ، و استُشهد بسمّ المعتصم سنة ٢٢۰ هـ. فهل يتسنّى له خلال هذا العمر القصير أن يدرّس الناسَ العلوم التي درّسها الإمام الصادق عليه السلام في غضون ثلاثين سنة أمضاها في التدريس فحسب؟!
كما أنّ العلوم التي وصلت الينا من الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام قد انتهت بوفاته عليه السلام و هو في الثامنة أو التاسعة و العشرين من العمر. فقد ولد سنة ٢٣۱ أو ٢٣٢، و استشهد بسمّ المعتمد العبّاسيّ سنة ٢٦۰ هـ. فهل كان بمقدوره أن يعلّم و يدرّس خلال ٢۸ أو ٢٩ سنة عاشها من العمر ما تمّ تعليمه و تدريسه خلال ٦۸ سنة؟!
و كذلك فإنّ العلوم التي وصلت الينا من الإمام عليّ الهاديّ عليه السلام قد انتهت بوفاته و هو في الأربعين أو الثانية و الأربعين من العمر. فقد وُلد عليه السلام سنة ٢۱٢ أو ٢۱٤، و استُشهد بسمّ المعتزّ العبّاسيّ سنة ٢٥٤ هـ. فهل تفى ٤۰ أو ٤٢ سنة بعمل ٦۸ سنة؟!
كما أنّ العلوم التي وصلت الينا من الإمام الرضا عليه السلام قد انتهت بوفاته و هو في الخمسين أو الخامسة و الخمسين من العمر. فقد وُلد عليه السلام سنة ۱٤۸ أو سنة ۱٥٣، و استشهد بسمّ المأمون العبّاسيّ سنة ٢۰٣ هـ.
و كذلك كان عمر الإمام محمّد الباقر عليه السلام ٥۷ سنة، أو ٦۰ سنة؛
و عمر الإمام زين العابدين عليه السلام ٥۷ سنة؛ و عمر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ٤۸ سنة؛ و عمر الإمام الحسين عليه السلام ٥۷ سنة.
و أطولهم عمراً - ما عدا الإمام الصادق عليه السلام - هو النبيّ الأكرم و أمير المؤمنين عليهما الصلاة و السلام، إذ عمّر كلٌّ منهما ٦٣ سنة.
يضاف إلى طول عمر الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أنّ في السنين الأخيرة منه خاصّيّة غير موجودة في السنين الاولى أو الوسطى منه.
و هي أنّ السنين الأخيرة من عمر كلّ عالم محقّق متتبّع أكثر قيمة من السنين الاولى، كما أنّها أكثر ثماراً من حيث القدرة على العمل و قيمته.
ذلك أنّها سنون العطاء و الثمر و رجوع الناس إليه و استفادتهم منه. و كلّ عالم خبير بصير قد صنّف كتبه في أواخر عمره، لا في أوائله و لا في أواسطه. و إذا عمّر الكتّاب و المتتبّعون، فإنّ دائرة كتاباتهم تتّسع، و حجم تاليفاتهم يزداد، و نطاق تربيتهم للطّلاب يكبر و يتسامى. مثلًا كان المجلسيّ و السيّد هاشم بن سليمان البحرانيّ و السيّد ابن طاووس من المعمّرين، لذلك كانت كتاباتهم كثيرة. أمّا الشريف الرضيّ فلم يترك آثاراً جمّة تلك العلوم الواسعة، و لو كان قد عمّر كثيراً لبلغت آثاره آثار أخيه الشريف المرتضى.
و قد تربّع الإمام جعفر الصادق عليه السلام على كرسيّ التدريس و التعليم ثلاثين سنةً. أي: منذ الثامنة و الثلاثين حتى الثامنة و الستّين من عمره. و في تلك الفترة بالذات كان الناس يأتون من شتّى الآفاق البعيدة، و يحطّون رِحالهم في المدينة للتزوّد من دروس الإمام عليه السلام، فذاع صيته. و ما هي إلّا السنون الأخيرة المباركة من العمر حيث تؤتي الشجرة المثمرة اكلها.
و ثانياً: كانت حرّيّة القلم و التعبير عن الرأي، و عدم التقيّة النسبيّة
من العوامل المهمّة التي تركت بصماتها على تعاليم الإمام عليه السلام. أمّا في عصور الأئمّة الذين سبقوه أو جاءوا بعده فقد كانت الحكومات متشدّدة إلى درجة أنّها صادرت كلّ ضرب من ضروب الحرّيّة. حتى نلحظ في عصر الإمام محمّد الباقر عليه السلام وجود ضغوط شديدة أيضاً، و لم يبلغ الأب مع بسطته ما بلغه الابن في اتّساع نطاق التعليم.
أسباب تسمية التشيّع بالمذهب الجعفريّ
و كان الشيعة في أغلب أوقات إمامة الصادق عليه السلام يتمتّعون بحرّيّة أكثر نسبيّاً في نقل الحديث و سائر العلوم. و يعود هذا إلى سببين:
الأوّل: ضعف الحكومات المروانيّة التي أشغلها التناحر فيما بينها في مناطق شتّى، فلم تجد فرصة كبيرة للتضييق على القطب الوحيد المناوئ لها، و هم الشيعة.
الثاني: اشتباكات العبّاسيّين مع الأمويّين، و الحروب الطويلة التي دارت بينهما، و انتصارهم عليهم، ثمّ انشغالهم بتوطيد دعائم حكومتهم في نقاط مختلفة من العالم الإسلاميّ. لهذا لم يجدوا مجالًا للاشتباك مع العلويّين و الشيعة الإماميّة. و هذان السببان هما اللذان ساعدا الإمام الصادق عليه السلام على بثّ العلوم المختلفة غير المنشورة و شرحها و تفسيرها و تأويلها ببالٍ رخيّ، و على إتحاف تلاميذه و غيرهم بمطالب بسيطة و مجرّدة، و إغناء طلّاب العلم و اولي الفهم و الكياسة و الدراية بُدرَرٍ ثمينة نفيسة يتيمة لم يظفر بها أحد.
من هنا قال البعض: هذا هو الذي أفضى إلى تمذهب الشيعة بالمذهب الجعفريّ و تسميتهم بهذا الاسم، إذ استطاع الإمام عليه السلام خلال برهة من الزمن أن يبيّن روايات جمّة، و لهذا سمّي المذهب بالمذهب الجَعْفَرِيّ.
و يظهر من التأمّل أنّ هذا الوجه لا ينبغي أن يكون صحيحاً، لأنّ
كثرة الروايات لا تخصّص المذهب. فقد نُقلت عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام روايات كثيرة، فلم يعرف المذهب الشيعيّ بالمذهب الباقريّ.
و قال بعض آخر: لمّا ارسيت دعائم المذهب الإماميّ الاثني عشريّ في عصر الإمام، و نبغ المتكلّمون في الولاية و إمامة الأئمّة الاثني عشر المعصومين يومئذٍ، و وطّد عليه السلام قواعد الولاية و اسسها، لذا عُرف المذهب بالمذهب الجعفريّ.
و هذا غير سديدٍ أيضاً، إذ إن اصول الولاية حسب الروايات مذكورة في كلّ عصر، و مفصّلة في الروايات. و تفصيلها الأكثر في أيّام الإمام عليه السلام لا يستلزم التسمية بالمذهب الجعفريّ.
و توضيح ذلك: أنّ مذهب اسم مكان و معناه محلّ الذهاب. تقول العرب: المَذْهَبُ إلى المَاءِ وَ إلى الكِلَاءِ. و المَذْهَبُ إلى شَرِيعَةِ الشَّطِّ.
و لمّا كان طريق الوصول إلى الدين الإسلاميّ ذا مسالك مختلفة، و كان كلُّ عالم من علماء العامّة قد تلمّس طريقاً معيّناً نحو الدين كالمذهب الحنفيّ، و المذهب المالكيّ، و المذاهب الحنبليّ، و المذهب الشافعيّ، فإنّ الطريق الذي اختاره الإمام الصادق عليه السلام نحو ذلك الدين القويم عُرف بالمذهب الجعفريّ.
و لم يكن الدين ذا مذاهب مختلفة في عصر الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله. فالجميع كانوا ينهجون نهج رسول الله صلّى الله عليه و آله و يتّبعونه و يكتفون بظاهر الأحكام. و كانت شريحة خاصّة من المسلمين تعرف بالشيعة و تتحرّك في طريق مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه السلام عملًا بأمر رسول الله صلّى الله عليه و آله. و كان هولاء واعين لروح الولاية، واقفين سرّ النبوّة، مطّلعين على حقائق الأحكام الإسلاميّة و أسرارها و رموزها و معانيها مضافاً إلى اطّلاعهم على ظاهرها.
و كانوا عاملين بالسنّة النبويّة الشريفة، حيث أوجب رسول الله صلّى الله عليه و آله اتّباع أمير المؤمنين عليه السلام، و أخبرهم أنّه وصيّه و خليفته.
تعبّد الناس بفقه العامّة حتى عصر الإمام الصادق عليه السلام
و بعد وفاته صلّى الله عليه و آله، و دوران الخلافة حول محور آخر، و عزل أمير المؤمنين عليه السلام، و تربّع القوم على أريكة الحكم، و هم لم يعرفوا إلّا ظاهر الأحكام، و لم يدركوا من الإمامة و الخلافة إلّا الرئاسة و التقدّم الظاهريّ و الإمارة، اتّخذ الدين طابع القوانين و الاصول الظاهريّة المتّسمة بسماتهم، و سار معظم الناس على ذلك النهج حسب قاعدة النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ. أمّا الاصول و الاسس الظاهريّة و الباطنيّة فكانت لأمير المؤمنين عليه السلام. و أتباعه الذين عُرفوا بشيعته كسلمان الفارسيّ، و أبي ذرّ الغفاريّ، و عمّار بن ياسر، و المقداد بن الأسود، و حذيفة بن اليمان و غيرهم. و قد كانوا شيعته حقّاً، و كانوا يسيرون سيرته في الأحكام و التفسير و القرآن و المشورة في مهامّ الامور. و مع أنّ أمير المؤمنين عليه السلام تنازل عن حقّه حفاظاً على كيان الإسلام، إلّا أنّه كان يُنير الطريق للطرف المخالف، و يغيثهم في علاج مشاكلهم العلميّة و الفقهيّة. و كان يحضر في صلاتهم رغبة منه في عدم شقّ عصا المسلمين. و خلاصة الأمر أنّه كان يماشيهم في امورهم برمّتها.
و كان الحجّ، و الجهاد، و الصلاة، و الزكاة، و سائر الامور تُمارس حسب ما يريده الخليفة المتحكّم، و هو الذي يصدر الأوامر و له الفتيا و الرأي الأخير. و هو و أمثاله لم يعلموا بجميع المسائل و خصوصيّاتها. و كم أخطأوا! و كم غيّروا و بدّلوا في موضوعات مختلفة حسب مشتهياتهم.
و لم يعدّوا خلاف العمل بظاهر القرآن منكراً، و كانوا يعملون خلاف السنّة النبويّة، و يجتهدون في مقابل النصّ صريحاً على رؤوس الأشهاد.
و يثبّتون هذه الضروب من الخلاف و يُبقونها بوصفها رأي الخليفة و الإمام.
و لهذا لوحظ رأي الخليفة و قد حلّ محلّ القرآن و تعاليم النبيّ و وصيّته و سنّته و منهاجه. و كان جميع الناس يهملون العمل بالقرآن و السنّة في مواطن التَّرك هذه، و يعملون وفقاً للأوامر الصادرة المقضيّة من مقام الخلافة (الخلافة الجائرة القاهرة الغاصبة المزيّفة).
إن حروب الخلفاء و الغنائم و الأموال الطائلة التي كانوا يأتون بها، و شوكة الحكم، و ابّهة الإمارة، و قعقعة السيوف و الأسلحة، و نظائر الرماح و الأسنّة، و همهمة الغُزاة، و حمحمة الخيول، و إثارة الغبار باهتزاز أعلام الامراء، و رايات القادة، كلّ ذلك قد أعمى الأبصار، و أصمّ الأسماع، و أدهش العقول و سلبها القدرة على التعقّل و الإدراك، و صادر منها التفكير و التدبير.
و مَن يأتي فيقايس أمر الخلاف الصادر من السلطان مالك الرقاب، بالقرآن أو بالسنّة النبويّة؟! أو - في الأقلّ - يقدّم احتمالًا ضعيفاً في بطلانه، و يرى و يسمع و يفكّر و يشهد الخلاف بعين بصيرته؟ و يَدَع الخلاف، و يتحرّك حسب الحقّ و قول الحقّ و أمر الحقّ و سنّته و منهاجه و منهجه؟
و مَن يذهب إلى عليّ عليه السلام؟ و من يبحث عن ذلك الرجل المهيض الجناح، المعتزل في منزله، الحامل معوله و مسحاته، زارع النخل و ساقيه؟ و من يسمع كلامه الذي هو حقّ و عين الحقّ، بل يدور الحقّ حيثما كانت حقّانيّة عليّ؟ و مَن يسترضيه و يستميله؟ و من يقدّم رأيه الحصيف السديد على هذه الكبكبة و الدبدبة؟ و يسمعه يقول: كلّ كلام عدا كلام الله و رسوله باطل، و كلّ أمر صادر من أيّ جهة باطل مرفوض إذا لم يتطابق مع آية من آيات القرآن؟
و لم يكن في المدينة غير الاثني عشر الذين جاءوا إلى المسجد بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه و آله، و تكلّموا و أدانوا أبا بكر،۱ و قليل من أتباعهم.
لقد جرى هذا الأمر بهذا النحو. و ظهر خلال خمس و عشرين سنة من الحكم الأسود المظلم للخلفاء الثلاثة، أي: خلال ربع قرن. و ألِفَ الناس تلك الأحكام و المناهج و مردوا عليها إلى درجة أنّ مولى الموالي الإمام بالحقّ عند ما تقلّد الأمر و أراد أن ينسف تلك البدع الباطلة التي اخترعها عمر عجز عن ذلك، إذ إن عمر كان قد أضفى على أعماله صبغة دينيّة، و كان الناس يقدّسونه كالسامريّ، و يعدّون معارضته معارضة للإسلام و النبيّ. و لم يعلم المساكين أنّ هذا المحتال المتلبّس بجلد الذئب قد جاء لاقتناص الحمل، و قد اتّخذ الدين وسيلة للتربّع على أريكة الخلافة و العرش. و أنّ نداءه الذي عليه مسحة الحقّ هو نداء الشيطان و لا تحمل صحيفة دعوته إلّا عنوان الباطل. و لقد خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أوّل خلافته بالكوفة، و قال كما جاء في خطبة الوسيلة:
) لقد عملت الولاةُ قبلى بامور عظيمة [بدع عمر] خالفوا فيها رسول الله صلّى الله عليه و آله متعمّدين لذلك؛ و لو حملتُ الناس على تركها و حوّلتُها إلى مواضعها التى كانت عليها على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله، لتفرّق عنّى جُندى حتّى أبقى وحدى).
و سارت الامور على هذا المنوال حتى عصر عثمان، ثمّ معاوية و يزيد و مروان و المروانيّين بالشام، حتى وصل الدور إلى العبّاسيّين.
و الجميع كانوا على هذه الوتيرة. و عمل الناس قاطبة بسنّة الخلفاء الاوَل، حتّى نلحظ أنّ جماعة كانت ترى عثمان فاسداً لكنّها ترى أنّ الخليفتَين قبله كانا على الحقّ و أوامرهما واجبه التنفيذ إلى يوم القيامة. و كانت تعتقد بذلك و تعمل به.
و كان بين جند أمير المؤمنين عليه السلام مَن يقال لهم جميعاً شيعة عليّ، سواء في الجمل، أم في صفّين، أم في النهروان. و يراد من ذلك أنّهم كانوا مخالفين لعثمان - أي شيعة عليّ في مقابل شيعة عثمان - و كان معظمهم يعتقد بخلافة أبي بكر و عمر. و يسير على سنّتهما. و لم يستطع أمير المؤمنين عليه السلام أن يعيد الجميع إلى نصاب الحقّ.
و على هذه الشاكلة كان شيعة الإمام الحسن و الإمام الحسين بالكوفة، إذ كانوا يقولون بحقّانيّة عليّ و بطلان عثمان، و يرون عليّاً عليه السلام هو الخليفة الثالث بالحقّ.
و هكذا الأمر في عصر الإمام السجّاد عليه السلام، حتى أنّ الفقهاء السبعة في المدينة كانوا يفتون على فقه السنّة في حين كان اثنان منهم شيعيَّين، و هما سعيد بن المسيِّب، و القاسم بن محمّد بن أبي بكر.
و مع أنّ الحقائق كانت تظهر شيئاً فشيئاً في عصر الإمام محمّد الباقر عليه السلام بسبب اتّساع نطاق الرواية و التفسير و الحديث و العرفان في مدرسته العلميّة، بَيدَ أنّ الامور لم تنكشف فجأة، فيستبين أنّ حقيقة الإسلام و الدين و النبوّة و الخلافة و الإمامة هي شيء آخر لا خلاق للناس منه.
دور الإمام الصادق عليه السلام في عرض الاسس الإسلاميّة
و كان الإمام الناطق بالحقّ جعفر بن محمّد الصادق عليه أفضل الصلاة و السلام أوّل من كشف سرّ الولاية و حقيقة النبوّة لعامّة الناس.
و مُنيَ الناس بالشبهة و الخطأ في أمرين خطيرين بعد وفاة رسول الله
صلّى الله عليه و آله و سلّم و حادثة سقيفة بني ساعدة. و هما:
الأوّل: أمر الإمامة و الولاية و الإمارة، إذ خالوا أنّ كلّ من مسك زمام الامور فهو الوالي الذي تجب طاعته. سواء كان تقلّده الأمر بالتسلّط و الخداع، أم بالاختيار، أم بالوصيّة، أم بالشورى، أم بالأوامر التحكّميّة التعسّفيّة. فلهذا كانوا يرون أنّ يزيد بن معاوية هو الخليفة المنصوب من قبل أهل الحلّ و العقد بنصب معاوية و المُغيرة بن شُعبة و جلاوزتهما، و كانوا يعملون حسب هذا المنطق، و يرتّبون آثاراً شرعيّةً حقيقيّة عليه.
الثاني: في أخذ معالم الدين و السنّة و العلوم الظاهريّة و الباطنيّة و التفسير و العرفان - و الخلاصة جميع المدركات الإنسانيّة و البشريّة - فكانوا يعتقدون أنّ مصدر هذه الأشياء كلّها هم الأمراء الذين تسلّموا مقاليد الامور حتى لو كان ذلك بالقوّة.
و على هذا الأساس كانوا يراجعون حكّام عصورهم لحلّ مسائلهم العلميّة و علاج معضلاتهم و مشكلاتهم. و يأخذون مسائلهم الشرعيّة و صلواتهم و صيامهم و جهادهم و سائر شئونهم الدينيّة و السياسيّة و الاجتماعيّة من تلك المصادر، و يتصرّفون حسب آرائهم و نظريّاتهم.
أي: كان الحكّام يموّنون الامّة في مجالين هما: الإمارة و الحكومة، و العلوم و الأفكار.
و هذان الأمران كلاهما يعاكس النهج الإسلاميّ المبين تماماً. ذلك النهج الذي يدعو إلى الحقّ دائماً على أساس القرآن و السنّة، و يحذّر عامّة الناس من اتّباع الباطل.
أمّا بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه و آله حيث انحرف محور الولاية عن قطبه، و انقلب كلّ شيء، لم يجد المسلمون أميراً بالحقّ، و لم يحظوا بدرس و تعليم مستقيم. و شاع هذا الأمر بين الطبقات و الأجيال المختلفة من
الناس في كلّ زمان و مكان. و استحكم حتى لم يجرؤ أحد على رفيع عقيرته ضدّه.
و بعبارة اخرى: اتّبعت الامّة الباطل سنين طويلة و هي تعتقد أنّه هو الحقّ، و عرفت الباطل على أنّه هو الحقّ. و كانت هاربة من الحقّ باعتقادها الباطل.
مَن كان يستطيع أن يرفع صوته في هذه المصيبة الكبرى، فيعلن بصراحة بطلان جميع الأجهزة و الحكومات؟ إنّه الإمام الحسين عليه السلام الذي توكّأ على السيف و نهض بذلك الوعي، و أنذر بقطع دابر الظلم، و أيقظ العالم، و دوّى صوته بالعدل و الحقّ و الصدق في عالم البشريّة من خلال خطبه و كلماته المتكرّرة. و الآخر هو الإمام الصادق عليه السلام الذي تأسّى بتلك التضحية العظيمة، و مارس دوره على امتداد ثلاثين سنة بعناء لا يوصف، و كشف سرّ تلك التضحية، و أصحر بروح الدين و حقيقة الإسلام التي كانت قد دُفنت تحت ركام الجهل و جباله الراسيات.
و تضافرت تضحية سيّد الشهداء عملًا، و تضحية الإمام الصادق علماً، و تعاضدتا حتى وقفنا هذا اليوم - و للّه الحمد و له الشكر - على حقائق الدين و النبوّة و سرّ القرآن و النبوّة و الولاية. أو بعبارة أصحّ: أنّ تضحية سيّد الشهداء بالسيف، و تضحية الإمام الصادق باللسان عاملان قويّان قد تكاتفا و دعم أحدهما الآخر، حتى أبدى الإسلام وجهه المتألّق الزاهر من بين الغمائم المظلمة السوداء.
لقد نطق آية الله المظفّر حقّاً إذ قال: فما أصدق القائل: إن الإسلَامَ عَلَوِيّ وَ التَّشَيُّعَ حُسَيْنِيّ!۱ أمّا أنا فأقول: إن الإنسَانِيَّةَ وَ الإسْلَامَ وَ التَّشَيُّعَ
حُسَيْنِيّ السَّيْفِ، وَ صَادِقِيّ القَلَمِ وَ البَيَانِ.
عمل الإمام الصادق عليه السلام إبانة الإسلام الحقيقيّ
أجل، إن العمل الذي قام به الإمام الصادق عليه السلام هو أنّه عرّف العالَم الإسلام الحقيقيّ من خلال علومه، و أزاح الصدأ عن وجهه المتغيّر.
و عرض الشريعة الحقّة كما هو حقّها. و يا لصعوبته من عمل! بعد أن تغيّرت الاصول و الفروع و تبدّلت، فألفت ذلك الامّة بأسرها عالمِها و جاهلها، و عاليها و دانيها، و كبيرها و صغيرها، و شيخها و حَدَثها على امتداد قرن من الزمان. و ها هو الإمام عليه السلام يقوم بدوره، و يرشد الجميع بلا استثناء (إلّا شرذمة قليلة) لا عن طريق التعبّد - فالتعبّد هنا لا يُغني شيئاً - بل عن طريق المنطق و البرهان، و القلم و البيان، و الهداية إلى كيفيّة الاستدلال بآيات القرآن و أخذ الأحكام من الفرقان، و يأخذ عليه السلام بأيدي الناس إلى ذلك الدين الأصيل، و يبدّد عَقْدَ الأفكار و المناهج و المذاهب التي كانوا يسلكونها للحصول عليه، و دلّ على أنّ الطريق الوحيد للوصول إلى الدين القويم هو هذا فحسب.
لهذا فإنّ الطريق الذي نهجه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، و أرشد إلى ذلك الدين كالرائد الذي يقود القافلة إلى المكان الخصب و الماء و الكلأ في الصحراء القاحلة هو الطريق الذي هدى به الامّة إلى دين جدّه المصطفى صلّى الله عليه و آله و شريعته المرسلة من الله تعالى.
من هنا، عُرف مذهبه الذي كان أوّل المذاهب بالمذهب الجعفريّ.
و لا يتوهّم الواهمون أنّه عليه السلام قد أسّس ديناً جديداً، أو أضفى على الإسلام طابعاً خاصّاً، كما ذهب إلى ذلك أحمد أمين بك المصريّ مع شدّه احترامه و تقديره للإمام عليه السلام، فإنّه يعتقد أنّه قد أضفى على الإسلام صبغة خاصّة، و المذهب الجعفريّ بمعنى الدين الإسلاميّ مصطبغ بهذه
الصبغة.۱ و هذا وَهْم منه، و قد ذهب مذهباً مغلوطاً في هذا الضرب من
الكلام.
أجل، لمّا كان الإسلام الصحيح عند أحمد أمين هو الإسلام الذي يدين به سلاطين الجور و الطغيان المتربّعون على عرش الاعتساف و العدوان، و أنّه هو المنهاج، فلا جرم أنّه يعتقد بتلوين الإمام الصادق عليه السلام الدين الأصيل و الشريعة المرسلة بصبغة خاصّة و لون مضاف. و يرى
أنّ هذا المذهب غصن مقطوع عن أصل الإسلام بما يحمله من خاصّيّة معيّنة.
بَيدَ أنّ الأمر ليس كذلك، و شتّان ما بين كلامنا و كلامه. فعلوم الإمام عليه السلام التي مضى عليها ثلاثة عشر قرناً، و هي مسطورة في الكتب تدلّ على ما نقول. فكلّ ما قاله الإمام، و كتبه، و درّسه هو تفسير و تبيان للكتاب و السنّة، لم يفرض عليهما شيئاً، و لم ينقص منهماً أو يزيد عليهما شيئاً، و هذا ما تدعمه الأدلّة الداخليّة و الخارجيّة.
هذه هي رسالة الإمام الصادق عليه السلام على امتداد ثلاثين سنة.
و إذا كان قد هدَّم منهاجاً قديماً ينهجه العامّة بما كان يعرضه من تعاليم، فهذا لا يعني إحباطاً لأمر صحيح و إبداءً لأمر باطل و إضفاءً لصبغة جديدة، بل يعني كسراً لكوز متصدّع متلوّث كان يُسقي الناسُ ماءَهُ على أنّه ماء لذيذ طيِّب، و استبداله بكوز جديد فيه ماء زلال بارد لذيذ غير آسن، و سقى الامّة منه.
و محصّلة عمل الإمام عليه السلام إزالة الطرق الباطلة المنحرفة التي فرّقت بين الناس و الدين. و من الطبيعيّ أنّ يبدو عمل الإمام في المنهاج و الاسلوب سواء في تعريف الولاية و مصدر الحكم و الإمارة، أم في تعريف العلوم و الأسرار و الحقائق و الأحكام شيئاً جديداً في أوّل نظرة. و هو الشيء الذي يظنّه أحمد أمين صبغة دينيّة جديدة، و ظنّه خائب. فجِدَّة هذا المنهاج تعود إلى اندراس الطريقة التي اخذ بها الإسلام الصحيح لا غير.
و هو ما يراه العامّة شيئاً جديداً، بَيدَ أنّه ليس إلّا روح رسول الله، و نَفَس القرآن بلا شائبة، و قد تجلّيا في سيرة الإمام الصادق عليه السلام و اسلوبه كلّه.
و بِلُغَة العلم، فقد كان لعمل الإمام عنوان الكشف عن الدين الصحيح،
لا عنوان نقل الإسلام بشيء مضاف و أثر مخصوص.
و هو يماثل بحث الكشف و النقل الذي يتناوله الفقهاء العظام في باب النكاح الفضوليّ، أو البيع الفضوليّ: هل تقرّ إجازة طرف النكاح أو البيع، أو تنقل المال إلى الطرف المعهود، فيتحقّق حينئذٍ عمل إجازة النقل؟ أو أنّ إجازة عمله كشف عن تحقّق النكاح، أو انتقال المال في البيع منذ صدور الصيغة أوّل الأمر؟ يرى القائلون بالكشف أنّ الشقّ الثاني هو الصحيح.
و إنّما ذكرنا هذا التشبيه هنا لمجرّد التنظير لإنارة الأذهان، و إلّا فإنّ هذا الموضوع يختلف كثيراً عن باب الكشف و النقل في المعاملات الفضوليّة.
أجل، يستبين ممّا ناقشناه كم كان جهاد الإمام الصادق عليه السلام في هذا المجال عظيماً! فقد كان مكلّفاً أن يُتمَّ هذه الرسالة الإلهيّة. و هذا يستلزم وقتاً كبيراً يمتدّ شهوراً بل عشرات السنين، إذ كان للإمام عليه السلام أن يكشف عن آيات القرآن كلّها، و يوضّح و يفسّر و يشرح منهج جدّه و سنّته، و يبيّن مواضع الخلاف جميعها، و ينبّه على كافّة ضروب الاعوجاج و الانحراف و الانتهاك التي قام بها اولئك الرجال الذين هم كآظار أعطف من امّهات، و يُفصح عن صواب عمل أجداده الكرام مع تحمّل الشدائد القاصمة للظهر، ليستبين حقّ الموضوع. و هذا مطلب لا ينتهي بحديث واحد و لا بمائة حديث، و لا بمجلس واحد، و لا بمائة مجلس، بل يحتاج إلى جلسات ممتدّة على الشهور و السنين. و كان الإمام عليه السلام ملتفتاً إلى هذه المهمّة و عبء هذه المسئوليّة، فأعدّ نفسه لهذا الأمر الخطير.
و على هذا الأساس لم يقبل عليه السلام الخلافة الظاهريّة التي كانت
عند البيعة من نصيب صاحب القباء الأصفر (المنصور الدوانيقيّ) بعد أخيه عبد الله السفّاح. و مع أنّ ثورة الشيعة كانت من أجل إمارة العلويّين و إمامتهم بَيدَ أنّ العبّاسيّين قبضوا على السلطة، أو بتعبيرنا الصحيح استلبوها أو اختطفوها، و لم يفسحوا المجال للعلويّين. و في ذلك الميدان كان الإمام الصادق عليه السلام هو الشخصيّة البارزة الوحيدة المؤهّلة للخلافة. و قد اعترف الجميع بهذا. و اعتذر عليه السلام عن تقبّل هذا المنصب، و لم يستعدّ لقبول بيعة الناس بالخلافة. و امتنع بشدّة و رفض رفضاً قاطعاً على الرغم من إصرار الامّة و أهل الحلّ و العقد في المدينة على ذلك.
من جهة اخرى، حذق العبّاسيّون و بايعوا عبد الله السفّاح، فتربّع على أريكة الحكم، و عُدَّ الإمام الصادق عليه السلام من رعاياه.
سبب امتناع الإمام عليه السلام عن قبول الخلافة مع أنّه كان حائزاً على مقامات و درجات الإمامة و أعلميّة الامّة
قد يُشكل البعض هنا فيقولون: لما ذا امتنع الإمام الصادق عليه السلام عن قبول البيعة؟! و لما ذا ترك الامّة المسكينة فريسة بِيَدِ الفراعنة و العفاريت و الجبّارين؟! و لِمَ تخلّى عن الاضطلاع بهذه المسئوليّة الإلهيّة؟!
إذا كان شرط الإمامة هو النصّ من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فقد أجمعت الامّة على أنّه منصوص عليه. و إذا كان شرطها وصيّة الإمام السابق، فقد أوصى الإمام محمّد الباقر عليه السلام له بالإمامة. و إذا كان شرطها هو الأعلميّة، فقد كان عليه السلام أعلم الامّة غير منازَع.
و حينئذٍ فالأرضيّة مُمهَّدة، و الامّة مستعدّة للقبول. و قام المسلمون في
خراسان بنسف صرح الاستبداد و الظلم الأمويّ لمصلحة العلويّين، و ألحقوا الهزائم بالأمويّين من خلال حروبهم المتوالية المستمرّة. أي: أنّهم قضوا على عدوّهم الوحيد السفّاك و خصمهم العنيد المستبدّ «بني اميّة» و مَن مَتَّ إليهم بصلة من قرابتهم و أتباعهم و شيعتهم. فهل هناك أفضل من هذه الفرصة؟ و هل ثمّة أنسب من هذا الوضع؟ و هل هناك إمكانيّات متاحة كهذه الإمكانيّات؟
و لو كان الإمام عليه السلام قد تقلّد أمر الخلافة، و أحقَّ الحقوق الضائعة، فهل هناك شيء أفضل من هذا العمل؟ و هل هناك أحسن من بسط العدل و تحرير الامّة الإسلاميّة من نير الطغيان؟ أ ليس من الأولى أن يهتمّ الإمام بشؤون الضعفاء و المعوزين الذين ضاعت حقوقهم خلال قرن من الزمان! أ ليس من الأمثل أن يُخرِج الامّة من نير الاستعباد و الاسترقاق الذي مارسه سلاطين الجور، و يمنّ عليها بالحرّيّة؟ أ ليس من الأفضل أن يجعل الجهاد مبتنياً على أساس جهاد رسول الله، و يصنع من العالَم كلّه عالماً إسلاميّاً؟ و هَلُمَّ جَرّاً فَأحْصِ ما شئتَ أن تحصيه من هذه الأسئلة!
و يبدو الجواب عن هذه الإشكالات و الأسئلة يسيراً نوعاً ما.
أولًا: رفض الإمام عليه السلام الخلافة مع ما كان يتمتّع به من فهم و دراية و كياسة و قدرة علميّة و ذكاء، و رفضه ليس سطحيّاً ساذجاً فيندم عليه، و يقول و هو يرى جرائم المنصور بامِّ عينيه: وَدِدتُ لو كنتُ قبلتُ الخلافة، و لم أدَعِ الامّة تعاني من المشاكل و الآلام.
و كان عليه السلام على تلك السجيّة حتى آخر عمره، و لم يُرَ متأسِّفاً على ما فات، مؤمِّلًا الراحة و الرخاء، مع أنّ المشاكل كانت تتفاقم يوماً بعد آخر في العصر العبّاسيّ، و جرائم المنصور قد فاقت جرائم غيره من الظالمين.
هذا الدليل مهمّ، لأنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان إذا لم ينطلق فيه من تدبّر في عاقبته و تفكير بالمصلحة، فإنّه يندم و يأسف إذا واجه آثاره السلبيّة. بَيدَ أنّ لا ندم على العمل الصحيح على الرغم من ازدياد المشاكل و المشاقّ على مرّ الأيّام.
ثانياً: كان الإمام عليه السلام يعيش في ذلك العصر و ما اتّصف به من خصائص و ما لابسه من أوضاع اجتماعيّة و ما كانت فيه من إمكانيّات و متطلّبات، أمّا الذي نلحظه من ذلك فهو شَبَحٌ لا غير، فقد كان يرى، و نحن نسمع. و هو كان في العين و الشّهود، و نحن في الأثر و الخبر.
و الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الغَائِبُ.
و الحال أشبه بواقف خارج الحلبة و هو ينادي: ابطحه على الأرض!
ثالثاً: كان عليه السلام يدرك جيّداً أنّه لو قبل البيعة فلا يعني ذلك أنّ العالم الإسلاميّ يخضع له و يسلّم و يطيع، و أنّه كان ينتظر أوامره ردحاً من الزمن، بل لكان على العكس من ذلك و لخالفه و حاربه أوّلًا حثالات الأمويّين المنبثّين في أرجاء العالَم، و لضحّوا حتى بآخر قطرة من دمائهم للحؤول دون اعتلاء حكومته.
ثمّ يأتي بعدهم العبّاسيّون ثانياً، الذين يرون أنفسهم أولاد عمّ النبيّ و وارثيه، فقد ظهروا بألف دليل و دليل، و ادّعوا وراثة المحراب و المنبر، و السلاح و السيف، و العصا و النصل، و العلم و الراية، كما رأينا و قرأنا في التواريخ و السير، و شاهدنا في الآثار و الأخبار أنّهم تربّعوا على العرش بهذه العناوين خمسمائة سنة، و أدانوا العلويّين بأباطيلهم و تُرَّهاتهم، و دعموا بيعتهم و إمارتهم و حكومتهم الغاصبة بأدلّة شاعريّة. و كان شعراؤهم ينشدون القصائد على هذا المنوال.
و لَمَا اكتفوا بإقامة الدليل و البرهان، بل لأظهروا طغيانهم بالسيف
و السنان. و حينئذٍ يقف الإمام عليه السلام حياته كلّها على الحروب، و يُمضي عمره و وقته لقمع المعاندين و المعارضين، ثمّ لا يُعْلَم في أيّ حرب يُسْتَشْهَدُ.
و لا ننسى بعض العلويّين المطالبين بالإمارة ثالثاً، فإنّهم يرفعون لواء المعارضة ضدّه. و ما عليه إلّا أن يقاتلهم أو يُسكتهم بتوليتهم الأمصار، أو بتفويض القضاء أو صلاة الجمعة و الجماعة إليهم، أو بجعلهم على بيت المال، و أمثال ذلك مكافأة لسكوتهم.
و لا يمكن أن نتصوّر الخيار الثاني لوليّ الله الذي كان يمارس أعماله على أساس الحقّ، أمّا الخيار الأوّل فإنّه يؤدّي إلى القتل الاعتباطيّ و ارتكاب المذابح في غير موضعها، و إتلاف النفوس في غير المسار الحقيقيّ.
و لو تغاضينا عن ذلك كلّه، فقد كانت للإمام عليه السلام مهمّة إلهيّة خاصّة تتمثّل في إحياء الشريعة المندرسة. و إذا فرضنا أنّه تمكّن من جميع أعدائه و معارضيه، و تقلّد الأمر، فغاية ما يستطيع أن يقوم به هو النظر في الشؤون العامّة، و فصل الخصومات و رفع المنازعات الشخصيّة، و الإفتاء في الحلال و الحرام. أمّا إغاثة الشريعة المندرسة و الدين المنقلب فلا تتحقّق أبداً، إذ ذكرنا أنّ ذلك يحتاج حاجة ماسّة إلى سنين طويلة من التدريس و التربية و التعليم و البحث و النقد و الحلّ و الإبرام. من هنا، لا بدّ أن يشمّر عليه السلام عن ساعد الجدّ و يستفرغ همّته لهذا الأمر الخطير، و يبذل وقته كلّه من أجل ازدهار مدرسة العلم و الفهم و البيان و القلم.
و لا يُقاس هذا الأمر من حيث الأهمّيّة بأمر الخلافة، فهو في درجة عالية من الأهمّيّة. و كان الإمام عليه السلام يرى نفسه بين أمرين: إمّا يقبل الخلافة و النظر في شئون ولاية الناس، و إمّا يرفض البيعة و يهتمّ بإحياء
الإسلام المدمَّر المندرس. فاختار الثاني لعظمته، إذ إنّه بمستوى أصل نبوّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله، و إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، و استشهاد سيّد الشهداء عليه السلام، و هذا الخيار الثاني يُسِرُّ حياة روح النبوّة و الولاية و سرّ الشهادة و إن استلزم مشاقَّ مرهقة و أفضى إلى فَقْدِ الحقوق الظاهريّة و الإمارة الدنيويّة. لكن هل تعلم أنّ تحمّل هذه المشاقّ يصبّ في مجرى المشاقّ التي عانى منها الرسول الأكرم و أمير المؤمنين، و أنّ فقد الخلافة و الإمارة لا يساوي عنده شروي نقير في مقابل المحافظة على ذلك الأمر العظيم بمنظار الإمام الذي لا يرى إلّا الحقّ و الواقع؟!
اختار الإمام عليه السلام الشقّ الثاني، و رفض الخلافة و الإمارة من أجل إقرار هذا الأمر الخطير، و استنكف عن الاقتراب إلى الجهاز الحاكم أيضاً، و خرج من نطاق الحكومة و الإمارة حتى كأنّ هاتين المفردتين لم تَرِدا في قاموسه قطّ، و كأنّ الله لم يمنحه ذلك المقام فيحقّقه عمليّاً إذا تطلّبت المصلحة. كان له بستان واسع في المدينة لاستقبال الوافدين عليه، و للتدريس و الإجابة عن أسئلة المتقاطرين عليه من شتّى الأنحاء. و وقف أيّامه و لياليه على المسائل و المناقشات و المناظرات العلميّة و جميع فروع الدراسة و البحث العلميّ ليتمكّن من القيام بأعباء المسئوليّة العظيمة المتمثّلة بعرض الدين القويم، و إرواء الناس السادرين من المنهل الفرات اللذيذ للآيات القرآنيّة و السنّة النبويّة. و هذا المنهل هو المذهب الجعفريّ، سلام الله على موجده و الذاهب إليه.
و كان هذا العمل مهمّاً خطيراً ذا جوانب متعدّدة إلى درجة أنّ الإمام عليه السلام قد زاوله على امتداد ثلاثين سنة تامّة إلّا الفترة التي جاء بها إلى العراق. يضاف إلى ذلك أنّ أعماله العلميّة الاخرى التي مارسها في رحلاته خارج المدينة كانت قائمة على هذا الأساس أيضاً.
و قد حقّق عليه السلام هدفه عبر تربية أربعة آلاف تلميذ في فنون مختلفة، و تاليف أربعمائة كتاب لأربعمائة مؤلِّف في اصول متنوّعة، و تفصيل حقائق القرآن و السنّة و تفسيرهما و تأويلهما. و سدّ طريق الجور و الاعتساف، الذي سلكه البلاط الحاكم و عملاؤه، من خلاف إراءة الأحكام المستدلّ عليها و القوانين الصحيحة. و فتح الطريق للناس العُمي الصُّمّ المطبوع على قلوبهم نحو ملكوت السماوات عبر الفلسفة الإلهيّة و الحكمة العالية و عرفان عوالم الغيب و التجرّد. و دلّ على طريق العبوديّة لربوبيّة الحقّ عزّ اسمه.
و لحق الناس بعد عصر النبيّ صلّى الله عليه و آله و صحابته اولي البصائر القائمين الليل بصفوف عبّاد الليل علماء النهار. و ها هم يلتقون بعد عصر أمير المؤمنين بأمثال أصحابه الزهّاد العبّاد النسّاك السالكين العارفين كعثمان بن مظعون، و ابن التَّيِّهان و نظائرهما.
و هنا ينطلق اللسان بلا اختيار ليُحيّيه عليه السلام من أعماق القلب و الفكر مترنّماً بقوله تعالى: وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.۱
و أصرّ عليه السلام على صيانة حياته، و تموين كلّ طالب بالعلوم حسب استعداده، و عدم إرباكهم و إحراجهم بإيداعهم السجن أو إبعادهم أو تعذيبهم أو قتلهم بلا مبرِّر ممّا يستبين أنّ ذلك كلّه كان من أجل المحافظة على الحياة و تأمين القوى و العِدّة و العُدّة ابتغاء الوصول إلى تلك الغاية الرفيعة، إذ من الواضح أنّه لو كان قد قُتِل، أو نُهبت أمواله، أو اجتيح مكان درسه، فلا تعليم عندئذٍ، و لا إحياءً للدين بعد ذلك. علماً أنّ داره عليه
السلام قد احرقت، و أمواله قد سُلبت، و ختمت حياته شهيداً بالسمّ.۱
كلام مترجم كتاب «مغز متفكّر جهان شيعة» حول المذهب الجعفريّ
فهو كسيّد الشهداء عليه السلام الذي ما ادّخر وسعاً في سبيل تنفيذ ذلك الأمر المهمّ، و قد أعدّ و استعدّ و تأهّب، و أرسل أصحابه و أهل بيته إلى ميدان القتال فاستشهدوا بأرفع طريقة، و بقي إلى عصر عاشوراء يذود عن حياض الإسلام، و ظلّ حتى آخر رمق من حياته، و لم يهدر دمه اعتباطاً، و إلّا فإنّ قتله كان حتماً مقضيّاً. و كان ممكناً أن يقتل في أوّل هجوم صباح عاشوراء أو ليلة عاشوراء، و يستريح. فالكلام لا يدور حول الخلاص و الاستراحة، بل يدور حول البقاء، و الدفاع عن الحريم حتى آخر قوّة و قدرة.
و حينئذٍ قال: قبول البيعة واجب على الإمام المفترض الطاعة! و يتحقّق اللزوم و الوجوب إذا تهيّأت جميع الإمكانيّات و محاسن القبول، و لا إشكال عنده في البيعة.
و للإمام شأنيّة مقام الإمارة و فعليّته، سواء قَبِلَ الناس أم رفضوا، و بايعوا أم لم يبايعوا. أمّا قبول البيعة فيتوقّف على إقبال الناس و فقدان المحذورات، و هو ما ينبغي أن يكون ثابتاً عند الإمام. و يجب على الناس أن يلتفّوا على الإمام و يطوفوا حوله كطوافهم حول الكعبة، لا أنّ الكعبة تأتيهم فيطوفوا حولها.
عند ما أخذ أصحاب السقيفة البيعة لأبي بكر بعد وفاة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و جاء العبّاس و أبو سفيان إلى أمير المؤمنين عليه السلام ليبايعاه، فإنّه قد رفض البيعة.
و حينما قُتل عثمان و أجمع المهاجرون و الأنصار على بيعته عليه السلام، و انثال الناس على بيته من كلّ حدب و صوب، فإنّه قد رفض أيضاً حتّى مضت ثلاثة أيّام و في آخر اليوم الثالث إذ سئم الناس، و عمّت الجلبة و الضوضاء أجواء المدينة، و توسّط عمّار بن ياسر، و مالك الأشتر، و محمّد بن أبي بكر، و نظائرهم بينه و بين الناس، و امتنع بشدّة، و كلّمه مالك الأشتر، فقال له ما مضمونه: يا عليّ! جميع أهل الحلّ و العقد حتى طلحة و الزبير راغبون في بيعتك، فإن أمسكتَ، و الوقت ضيّق، بايع الناس أحدهما، و ستتأوّه من فعالهم غداً، و تأتينا لدفع الظلم! و ها نحن قد جئناك الآن، فاقبل البيعة لئلّا تبأسَ غداً!
قبل عليه السلام البيعة، فرفع طلحة و الزبير لواء المعارضة، و أوقدا نار الجمل بالبصرة. ثمّ انتهت حرب الجمل بحرب صفّين، و حرب صفّين ولّدت حرب النهروان. ثمّ قتله خوارج النهروان في محراب العبادة. و كان
عليه السلام منهمكاً في مواجهة الفتن الداخليّة على امتداد أربع سنين و أشهر كان فيها إمام المسلمين و خليفتهم، إذ لم يقتنع الناس بحقّهم، و كانوا يتوقّعون منه أشياء كثيرة. و هو رجل الحقّ و عنوان الحقّ.
و كان الإمام جعفر الصادق عليه السلام ابن عليّ هذا. و هو يعلم أنّه لو رضي ببيعة الناس. لتوقّع منه الذين أصرّوا على بيعته أشياء في غير موضعها. و هو ليس كمعاوية و المنصور لينفق بيت المال خدمة لمآربه الخاصّة، أو يولّي من ليس أهلًا للولاية. لهذا فإنّ أنصار اليوم المتدافعين حوله سيكونون من معارضيه و خصومه غداً.
ما هو الأفضل؟ أ قبول مثل هذه الخلافة أم ما اضطلع به الإمام عليه السلام من مهمّة رساليّة؟
و بعد أن استبانت هذه الامور علينا أن نناقش الأحداث الواردة، و العلوم المترشّحة عن الإمام عليه السلام. و هذا ما سنستعرضه في سياق عدد من البحوث بحول الله و قوّته.
البحث الأوّل: يدور حول اتّصالات المنصور الدوانيقيّ و معارضاته، و هو عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، و عبّاس عمّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم.
المنصور هو أخو أبي العبّاس السفّاح، عبد الله بن محمّد. فهما سميّان و أبوهما محمّد. و بويع لأبي العبّاس السفّاح - على ما نقل الطبريّ - في الثامن عشر من ربيع الثاني سنة ۱٣٢ هـ. و كان بالكوفة، و بايعه أهلها.
و نقل الطبريّ هذا القول عن هشام بن محمّد.۱ و لكنّه قال في موضع آخر
من كتابه: «قال الواقديّ: بويع لأبي العبّاس بالمدينة بالخلافة في جمادى الاولى في سنة اثنتين و ثلاثين و مائة.۱
تفصيل مواقف المنصور الدوانيقيّ من الإمام الصادق عليه السلام
و ذكر المحدّث القمّيّ رحمه الله أنّه لمّا كانت الحكومة الأمويّة على و شك الانهيار، اجتمع جماعة من بني العبّاس فيهم أبو العبّاس السفّاح، و أخواه: أبو جعفر المنصور، و إبراهيم بن محمّد، و عمّه صالح بن عليّ، و جماعة من الطالبيّين منهم عبد الله المحض، و ولداه: محمّد، و إبراهيم، و أخوه لُامّه محمّد الديباج و غيرهم بالأبواء (المدينة)، و اتّفقوا على مبايعة أحد وَلَدَي عبد الله المحض. فبايعوا جميعهم محمّداً. لأنّهم كانوا قد سمعوا من بيت الرسالة أنّ مهديّ آل محمّد سميّ رسول الله.٢ ثمّ بعثوا وراء الإمام الصادق عليه السلام، و عبد الله بن محمّد بن عمر بن عليّ عليه السلام لأخذ البيعة منهما.
فلم يبايع الإمام الصادق، و قال: المهديّ ليس هذا، و قد غرّ كم اسمه.
و قال لعبد الله المحض: إذا كانت هذه البيعة للخروج و الأمر بالمعروف، فَلِمَ لا نبايعك و أنت شيخ بني هاشم؟! فقال عبد الله: كلامك غير سديد، و أنت لا تبايع حسداً!
فقام الإمام و وضع يده على ظهر السفّاح، و قال: هذا هو الخليفة، و إخوته و أولاده هما الخلفاء بعده. و وضع يده على كتف عبد الله المحض، و قال: الخلافة ليست لك و لا لولَدَيك و سيُقتلان. و قال لعبد العزيز: سيقتل
صاحبُ الرداء الأصفر (المنصور) عبد الله، و وَلَده محمّداً.
حجّ المنصور سنة ۱٤۰ هـ، ثمّ دخل المدينة و حبس عبد الله و بني الحسن و محمّد الديباج.۱
و ذكر الطبريّ أيضاً٢ أنّ أبا العبّاس السفّاح مات في ۱٣ ذي الحجّة سنة ۱٣٦. و كانت ولايته من لَدُن قُتل مروان بن محمّد إلى أن توفّي أربع سنين. و كان له يوم توفِّي ٣٣ سنة، أو ٣٦ سنة، أو ٣۸ سنة.
و في هذه السنة عقد أبو العبّاس عبد الله بن محمّد بن عليّ لأخيه أبي جعفر المنصور (عبد الله بن محمّد) الخلافة من بعده، و جعله وليّ عهده، و من بعد أبي جعفر عيسى بن موسى بن محمّد بن عليّ. و كتب العهد بذلك، و دفعه إلى عيسى بن موسى. و في هذا السنة بويع لأبي جعفر المنصور بالخلافة.
كان المنصور الدوانيقيّ يعطي الامان و يقتل
و في سنة ۱٣۷ هـ قتل المنصور القائد الكبير أبا مسلم الخراسانيّ الذي مهّد الأمر لبني العبّاس. قتله غيلة بعد ما كاتبه متلطّفاً و آمنه و دعاه.
و ما أن دخل أبو مسلم مجلس المنصور، هجم عليه الغلمان و قطّعوه إرباً إرباً. و كان قتله فتكاً. و ورد ذلك في «تاريخ الطبريّ»، ج ۷، ص ٤۸۸.
و قال السيوطيّ في «تاريخ الخلفاء»: فأوّل ما فعل (المنصور) أن قتل أبا مسلم الخراسانيّ صاحب دعوتهم و ممهّد مملكتهم.٣
و أعطى المنصور الأمان ليزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراقَين، ثمّ
قتله. و ذكر المحدِّث القمّيّ قضيّة معن بن زائدة الشيبانيّ الذي كان معاشراً لابن هُبَيْرة، و كان من أجواد زمانه و شجعانه، حين فرّ بدهاء من بغداد خوفاً من المنصور.۱
و أعطى الأمان لعمّه عبد الله بن عليّ، ثمّ قتله.٢
كان الوفاء بالعهد معظَّماً عند العرب. و إذا أعطوا الأمان لأحدٍ، فإنّهم يقاومون للمحافظة عليه حتى بذل المهج. و إذا غدر امرؤ بالعهد و نقض أمانه فإنّه يظلّ معروفاً بالقُبح و الشناعة عند قومه و أرحامه إلى الأبد. و كان المنصور يعطي الأمان بيُسر. فيأتي الشخص عنده على أساس هذه السنّة السنيّة في حفظ ذمّته و عهده، و إذا المنصور يضرب عنقه في أوّل ما يراه.
و عند ما كتب رسالة إلى محمّد النفس الزكيّة نجل عبد الله المحض، و آمنه فيها مفصّلًا و ذكر أنّ له عليه عهد الله و ميثاقه و ذمّته و ذمّة رسوله،٣ أجابه محمّد عنها، و من جملة ما قال له في الجواب:
أنَا أوْلَى بِالأمْرِ مِنْكَ وَ أوْفَى بالعَهْدِ! لأنَّكَ أعْطَيْتَنِي مِنَ العَهْدِ
و الأمَانِ مَا أعْطَيْتَهُ رِجَالًا قَبْلِي! فَأيّ الأمَانَاتِ تُعْطِينِي؟! أمَانَ ابْنِ هُبَيْرَةَ؟! أمْ أمَانَ عَمِّكَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَلِيّ؟! أمْ أمَانَ أبي مُسْلِمٍ؟!۱
ذكر الطبريّ أنّ المنصور لمّا حجّ سنة ۱٤۰ هـ أمر رياحاً٢ بأخذ بني حسن، و وجّه في ذلك أبا الأزهر المهريّ.
و قد كان حبس عبد الله بن حسن، فلم يزل محبوساً ثلاث سنين (حتى مات). فكان حسن بن حسن قد نصل خضابه تسلّياً على عبد الله.
فكان أبو جعفر المنصور يقول: مَا فَعَلَتِ الحَادَّةُ؟!
قال: فأخذ رياح حسناً (المثلّث) و إبراهيم (الغمر) ابنَي حسن بن حسن، و حسن بن جعفر بن حسن بن حسن، و سليمان و عبد الله ابنَي داود بن حسن بن حسن، و محمّداً و إسماعيل و إسحاق أبناء إبراهيم (الغمر) ابن حسن بن حسن، و عبّاس بن حسن، (المثلّث) بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب.
أخذوه على بابه، فقالت امّه عائشة ابنة طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر: دَعُونِي أشُمَّهُ! قَالُوا: لَا وَ اللهِ مَا كُنتِ حَيَّةً في الدُّنْيَا!
و عليّ بن حسن (المثلّث) بن حسن بن حسن العابد، و حبس معهم
أبو جعفر الدوانيقيّ عبد الله بن حسن بن حسن أخا عليّ (أي: الابن الآخر للحسن المثلّث و كان أخا عليّ).۱
و حدّثني ابن زبالة، قال: سمعتُ بعض علمائنا يقول: مَا سَارَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ حَسَنٍ أحَداً قَطُّ إلَّا فَتَلَهُ عَنْ رَأيِهِ.٢
و حجّ أبو جعفر المنصور في سنة ۱٤٤ هـ أيضاً، فتلقّاه رياح بالربذة.
فردّه إلى المدينة، و أمره بإشخاص بني حسن إليه، و بإشخاص محمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان، و هو أخو بني حسن لُامِّهم. امّهم جميعاً فاطمة ابنة حسين بن علي بن أبي طالب.
اعتقال المنصور بني الحسن في سجن الهاشميّة
و بعد حبس بني حسن بالمدينة ثلاث سنين، سير بهم إلى الكوفة.
و توجّه المنصور من الربذة إلى الكوفة، و هو في محمله. و قيّد بني حسن و محمّداً الديباج٣ بالأغلال و أجلسهم في المحامل بلا غطاء و لا وطاء
منخرق السِّربال يشكو الوَجَى | *** | تَنكُبُهُ أطرافُ مَرْوٍ حِدادْ |
شَرَّده الخوفُ فأزْرَي به | *** | كَذاك من يَكْرَهُ حَرَّ الجِلادْ |
قد كان في الموت له راحة | *** | و الموتُ حتمٌ في رقاب العبادْ |
و أخذهم معه إلى الكوفة، و حبسهم بالهاشميّة قرب القنطرة.
و كان السجن مظلماً حتى أنّهم لم يعرفوا الليل من النهار، و ورمت أجسامهم بسبب رائحة السجن النتنة و ماتوا جميعهم في السجن.۱
و كان السجن مظلماً إلى حدٍّ أنّهم كانوا لا يعرفون أوقات الصلاة إلّا بأحزاب كان يقرؤها عليّ بن حسن (ابن الحسن المثلّث و كان يُسمّى العابد).
قال عمر: و حدّثني ابن عائشة، قال: سمعتُ مولى لبني دارم، قال:
قلتُ لبشير الرحّال: ما يُسرعك إلى الخروج على هذا الرجل؟!
قال: إنّه أرسل إلى بعد أخذه عبد الله بن حسن فأتيتُه، فأمرني يوماً بدخول بيت فدخلته، فإذا بعبد الله بن الحسن مقتولًا. فسقطتُ مغشيّاً علَيّ.
فلمّا أفقتُ أعطيتُ الله عهداً ألّا يختلف في أمره سيفان إلّا كنتُ مع الذي عليه منهما. و قلت للرسول الذي معي من قبله: لا تخبره بما لقيتَ، فإنّه إن علم قتلني.
قال عمر: فحدّثتُ به هشام بن إبراهيم بن هشام بن راشد من أهل همدان، و هو العبّاسيّ أنّ أبا جعفر أمر بقتله. فخلف بالله ما فعل ذلك، و لكنّه دسَّ إليه مَن أخبره أنّ محمّداً قد ظهر فقُتل، فانصدع قلبه، فمات.
قال: و حدّثني عيسى بن عبد الله، قال: قال من بقي منهم (غير الذين قتلوا): إنّهم كانوا يسقون. فماتوا جميعاً إلّا سليمان و عبد الله ابنَي داود بن حسن بن حسن، و إسحاق و إسماعيل ابنَي إبراهيم بن حسن بن
حسن، و جعفر بن حسن. فكان مَن قتل منهم إنّما قتل بعد خروج محمّد.۱
موقف المنصور من محمّد الديباج و تعذيبه
و لمّا حُمِل المحبوسون من بني الحسن إلى المنصور في الربذة. بعث إلى محمّد الديباج فلمّا ادخل عليه، قال: أخبرني عن الكذّابَيْنِ ما فعلا؟
و أين هما؟ (يريد المنصور محمّداً و إبراهيم ابنَي عبد الله بن حسن).
قال: و الله يا أمير المؤمنين ما لي بهما علم! قال: لتَخبرني!
قال: قد قلتُ لك، و أنّي و الله لصادق! و لقد كنتُ أعلم علمهما قبل اليوم، و أمّا اليوم فما لي و الله بهما علم!
قال: جرّدوه. فجُرِّد، فضربه مائة سوط، و عليه جامعة حديد في يده إلى عنقه. فلمّا فرغ من ضربه اخرج فالبس قميصاً له قوهيّاً٢ على الضرب، و اتي به الينا.٣
فو الله ما قدروا على نزع القميص من لصوقه بالدم، حتى حلبوا عليه شاةً. ثمّ انتزع القميص، ثمّ داووه.
فقال أبو جعفر: احدروا بهم إلى العراق! فقدم بهم إلى الهاشميّة، فحُبسوا بها. فكان أوّل من مات في الحبس عبد الله بن حسن: فجاء السجّان، فقال: ليخرج أقربكم به فليصلّ عليه. فخرج أخوه حسن بن حسن بن حسن عليّ عليهم السلام، فصلّى عليه.
ثمّ مات محمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان. فأخذ رأسه، فبعث به مع جماعة من الشيعة إلى خراسان. فطافوا في كور خراسان. و جعلوا يحلفون بالله أنّ هذا رأس محمّد بن عبد الله بن فاطمة ابنة رسول الله
صلّى الله عليه و آله؛ يوهمون الناس أنّه رأس محمّد بن عبد الله بن حسن الذي كانوا يجدون خروجه على أبي جعفر في الرواية.۱
و ممّن أفتى بالخروج مع محمّد على المنصور هو مالك بن أنس.
و عند ما قيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، قال: إنَّمَا بَايَعْتُمْ مُكْرَهِينَ وَ لَيْسَ عَلَى كُلِّ مُكْرَهٍ يَمِينٌ!٢ فأسرع الناس إلى محمّد، و لزم مالك بيته.
و ذكر المحدِّث القمّيّ رحمه الله أنّ محمّداً النفس الزكيّة خرج بالمدينة في غرّة رجب سنة ۱٤٥ هـ، و قُتل بأحجار الزيت بالمدينة في أواسط شهر رمضان. و كانت المدّة منذ ظهروه حتى مقتله شهرين و سبعة عشر يوماً. و كان له من العمر خمس و أربعون سنة.
و خرج أخوه إبراهيم بالبصرة في غرّة شوّال - و على قول - في رمضان سنة ۱٤٥ هـ. ثمّ قدم الكوفة بدعوة من أهلها، و قُتل بباخَمْرا في أرض الطفّ على ستّة عشر فرسخاً من الكوفة.٣ و كان قتله في يوم الاثنين من شهر ذي الحجّة سنة ۱٤٥ هـ، و هو ابن ٤۸ سنة. و أمر المنصور بأخذ رأسه إلى أبيه عبد الله في سجن الهاشميّة ببغداد.٤
قال الملّا جلال الدين السيوطيّ: و كان (المنصور) فحل بني العبّاس هيبةً و شجاعة و حزماً و رأياً و جبروتاً، جمّاعاً للمال، تاركاً اللهو و اللعب،
كامل العقل، جيّد المشاركة في العلم و الأدب، فقيه النفس. قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه. و هو الذي ضرب أبا حنيفة على القضاء، ثمّ سجنه، فمات بعد أيّام. و قيل: إنّه قتله بالسمّ لكونه أفتى بالخروج عليه.
و كان فصيحاً بليغاً مفوَّهاً خليقاً للإمارة. و كان غاية في الحرص و البخل، فلقِّب «أبا الدوانيق» لمحاسبته العمّال و الصنّاع على الدوانيق و الحبّات.
امّه سلامة البربريّة امّ ولد. و في سنة ثمان و ثلاثين و مائة كان دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الامويّ إلى الأندلس. و استولى عليها و امتدّت أيّامه. و بقيت الأندلس في يد أولاده إلى بعد الأربعمائة. و كان عبد الرحمن هذا من أهل العلم و العدل، و أمّه بربريّة.
قال أبو المظفّر الأبيورديّ: فكانوا يقولون: ملك الدنيا ابنا بربريتَين:
المنصور و عبد الرحمن بن معاوية.۱
المنصور أوّل مثير للخلاف بين العبّاسيّين و العلويّين
و كان العلويّون و العبّاسيّون حتى عصر المنصور متّفقين على رأي واحد، و كانوا يتعاونون لحلّ المشاكل. و يواصلون طريقهم جميعاً بوصفهم أرحام رسول الله. و كان عدوّهم الوحيد و خصمهم المعارض هم بني اميّة الذين شكّلوا جبهة مناوئة لبني هاشم مارست ضدّهم الحرب و الجدال و الأسر و النهب و القتل و سائر الأعمال العدائيّة. أمّا المنصور فقد مزّق أوصال هذا الاتّحاد، و لم يأل جهداً في التفريق بينهما. فانكسر العلويّون و غُلبوا على أمرهم بعد ذلك. و صارت القدرة و السلطة و الشوكة للعبّاسيّين.
و ظلّ الخلاف بينهما متأجّجاً على امتداد خمسمائة سنة من الحكم العبّاسيّ.
و يعود هذا إلى ما كان يحمله المنصور من روح استكباريّة فرعونية جبروتيّة فحسب. و يُلحَظُ في التأريخ أنّه هو الذي سنّ هذا
الخلاف و وضع قواعده.
قال السيوطيّ: و كان المنصور أوّل من أوقع الفتنة بين العبّاسيّين و العلويّين، و كانوا قبل شيئاً واحداً. و آذى المنصور خلقاً من العلماء ممّن خرج مع محمّد و إبراهيم أو أمر بالخروج قتلًا و ضرباً و غير ذلك. منهم أبو حنيفة، و عبد الحميد بن جعفر، و ابن عجلان ....
و في سنة سبع و أربعين و مائة خلع المنصور عمّه عيسى بن موسى من ولاية العهد. و كان السفّاح عهد إليه من بعد المنصور. و كان عيسى هو الذي حارب له الأخوين محمّداً و إبراهيم فظفر بهما. فكافأه بأن خلعه مكرهاً، و عهد إلى ولده المهدي.۱
و في سنة ثمان و خمسين و مائة أمر المنصور نائب مكّة بحبس سفيان الثوريّ، و عبّاد بن كثير فحُبسا. و تخوّف الناس أن يقتلهما المنصور إذا ورد الحجّ. فلم يوصله الله مكّة سالماً، بل قدم مريضاً و مات، و كفاهما الله شرّه. و كانت وفاته بالبطن في ذي الحجّة، و دُفن بين الحجون و بئر ميمون.
و قال سلم الخاسر:
قَفَلَ الحَجِيجُ وَ خَلَّفُوا ابْنَ محَمَّدٍ | *** | رَهْناً بِمَكَّةَ في الضَّرِيحِ المُلْحَدِ |
شَهِدُوا المَنَاسِكَ كُلَّهَا وَ إمَامُهُمْ | *** | تَحْتَ الصَّفَائِحِ مُحْرِماً لَمْ يَشْهَدِ٢ |
شدّة حرص المنصور الدوانيقيّ و بخله
و من أخبار المنصور في البخل و خسّة النفس و لؤم الطبع ما رواه السيوطيّ أيضاً عن ابن عساكر بسنده عن أبي جعفر المنصور أنّه كان يرحل في طلب العلم قبل الخلافة، فبينا هو يدخل منزلًا من المنازل، قبض عليه صاحب الرصد، فقال: زِنْ دِرْهَمَيْنِ قَبْلَ أنْ تَدْخُلَ!
قال المنصور: خلِّ عنّي فإنّي رجل من بني هاشم.
قال: زِن درهمين!
فقال: خلِّ عنّي فإنّي من بني عمّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم!
قال: زِن درهمين!
قال: خلِّ عنّي فإنّي رجل قارئ لكتاب الله!
قال: زِن درهمين!
قال: خلِّ عنّي فإنّي رجل عالم بالفقه و الفرائض!
قال: زِن درهمين!
فلمّا أعياه أمره وزن الدرهمين:، فرجع و لزم جمع المال و التدنّق فيه حتّى لُقِّب بأبي الدوانيق.۱
و أخرج أيضاً عن ابن عساكر، عن يونس بن حبيب قال: كتب زياد ابن عبد الله الحارثيّ إلى المنصور يسأله الزيادة في عطائه و أرزاقه، و أبلغ في كتابه، فوقع المنصور في القصّة، إن الغنى و البلاغة إذا اجتمعتا في رجل أبطرتاه، و أمير المؤمنين يشفق عليك من ذلك، فاكتفِ بالبلاغة!
و أخرج عن محمّد بن سلام، قال: رأت جارية المنصور قميصه مرقوعاً، فقالت: خليفة و قميصه مرقوع، فقال: ويحك! أ ما سمعتِ قول ابن هَرْمَةَ:
قَدْ يُدْرِكُ الشَّرَفَ الفَتَى وَ رِدَاؤُهُ | *** | خَلِقٌ وَ جَيْبُ قَمِيصِهِ مَرْقُوعُ |
و قال العسكريّ في «الأوائل»: كان المنصور في ولد العبّاس كعبد الملك في بني اميّة في بُخله. رأى بعضهم عليه قميصاً مرقوعاً، فقال:
سُبْحَانَ مِنَ ابْتَلَى أبَا جَعفَرٍ بِالفَقْرِ في مُلْكِهِ.
وَ حَدَا بِهِ سَلْمَ الحَادِي.۱ فطرب حتى كاد يسقط من الراحلة، فأجازه بنصف درهم. فقال: لقد حدوتُ بهشام، فأجازني بعشرة آلاف! فقال: ما كان له أن يعطيك ذلك من بيت المال! يا ربيع؟ وَكِّلْ به مَنْ يقبضها منه! فما زالوا به حتى تركه على أن يحدو به ذهاباً و إياباً بغير شيء.٢
و على عكس المنصور ولده المهدي. فقد كان جواداً، حسن الأخلاق، ممدوحاً، محبّباً إلى الرعيّة. و نقل الدميريّ أنّ المنصور حين هلك كان في خزائنه ستّون ألف ألف دينار (ستّون مليوناً) و مائة ألف ألف درهم (مائة مليون). فوزّعها المهدي على الناس. و نُقل أنّه أجاز شاعراً بمائة ألف درهم.٣
و من البيّن أنّ ارتداء المنصور القميص المرقوع ليس من كمال زهده. فقد شدَّ عُقَدَ مآزره من أجل جمع أموال الناس و ملء بيت المال و الخزانة. وفاق فراعنة الدهر و جبابرة التأريخ في إراقة دماء المظلومين و الأبرياء. فادّخار ستّين مليون دينار ذهب و مائة مليون درهم فضّة أمر يحتاج إلى محاسبين حاذقين من أجل توزيعه بين الناس.
و أخرج ابن عساكر أيضاً عن الربيع بن يونس الحاجب قال: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة: أبو بكر، و عمر، و عثمان، و عليّ. و الملوك
أربعة: معاوية، و عبد الملك، و هشام، و أنا.
و أخرج أيضاً عن مالك بن أنس، قال: دخلتُ على أبي جعفر المنصور، فقال: مَن أفضل الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله؟
قلتُ: أبو بكر، و عمر. قال: أصبتَ. و ذلك رأي أمير المؤمنين.
و لم يكن ابتعاد المنصور عن اللهو و اللعب للّه و في الله. بل كانت مجالس شربه و غنائه تقام خلف الستار على مسافة عن ندمائه.
و روى السيوطيّ بإسناده عن الصوليّ، عن إسحاق الموصليّ قال:
لم يكن المنصور يظهر لندمائه بشرب و لا غناء، بل يجلس و بينه و بين الندماء ستارة، و بينهم و بينها عشرون ذراعاً، و بينهما و بينه كذلك. (أي:
أربعون ذراعاً تعادل عشرين متراً تقريباً). و أوّل من ظهر للندماء من خلفاء بني العبّاس المهدي.۱
و أكّد السيوطيّ مرّة اخرى أنّ المنصور هو سبب التفرقة بين العلويّين و العبّاسيّين. و حكي عن محمّد بن عليّ الخراسانيّ أنّه قال:
المنصور أوّل خليفة قرّب المنجّمين و عمل بأحكام النجوم، و أوّل خليفة تُرجمت له الكتب السريانيّة و الأعجميّة للعربيّة، ككتاب كليلة و دمنة، و أقليدس، و هو أوّل من استعمل مواليه على الأعمال و قدّمهم على العرب، و كثر ذلك بعده حتى زالت رئاسة العرب و قيادتها، و هو أوّل من أوقع الفرقة بين ولد العبّاس و ولد عليّ، و كان قبل ذلك أمرهم واحداً.٢
استدعاء الامويّين الإمام الصادق عليه السلام إلى الشام
قال آية الله الشيخ محمّد حسين المظفّر: مُني الإمام الصادق عليه السلام بمعاصرة الدولتين المروانيّة و العبّاسيّة، و شاهد منهما معاً ضروب
الأذى و التضييق.
فكم أزعجوه من دار الهجرة يُحمل إلى فرعون أيّامه من دون جرم سوى أنّه صاحب الخلافة و الإمامة حقّاً. فحُمل مرّة إلى الشام مع أبيه الباقر عليه السلام أيّام بني مروان، و إلى العراق عدّة مرّات۱ في عهد بني العبّاس أبناء عمّه، مرّة في عهد السفّاح إلى الحيرة، و مرّات في عهد
المنصور إلى الحيرة، و إلى الكوفة، و إلى بغداد.۱
و روى الكلينيّ بسنده عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام، قال و هو بالحيرة في زمان أبي العبّاس السفّاح: أنّي دخلت عليه و قد شكّ الناس في الصوم، و هو و الله من شهر رمضان، فسلّمت عليه، فقال: يا أبا عبد الله! أ صمتَ اليوم؟! فقلتُ: لا! و المائدة بين يديه! قال:
فادنُ فكُل! قال: فدنوتُ فأكلتُ.
قال: و قلتُ: الصَّوْمُ مَعَكَ وَ الفِطْرُ مَعَكَ.
فقال الرجل لأبي عبد الله عليه السلام: تُفْطِرُ يَوْماً مِن شَهْرِ رَمَضَانَ؟!
فقال عليه السلام: أي وَ اللهِ افْطِرُ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أحَبُّ إلى مِنْ أنْ يُضْرَبَ عُنُقِي.٢
و كذلك روى الكلينيّ بسند آخر عن الإمام أنّه قال:
دَخَلْتُ عَلَى أبي العَبَّاسِ بِالحِيرَةِ فَقَالَ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! مَا تَقُولُ في الصِّيَامِ اليَوْمَ؟! فَقُلْتُ: ذَاكَ إلى الإمامِ. إن صُمْتَ صُمْنَا، وَ إن أفْطَرْتَ أفْطَرْنَا!
فَقَال: يَا غُلَامُ عَلَيّ بِالمَائِدَةِ فَأكَلْتُ مَعَهُ، وَ أنَا أعْلَمُ وَ اللهِ إنَّهُ يَوْمٌ مِنْ يَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ. فَكَانَ إفْطَارِي يَوْماً وَ قَضَاؤُهُ أيْسَرَ عَلَيّ مِنْ أنْ يُضْرَبَ عُنُقِي وَ لَا يُعْبَدُ اللهُ!٣
استدعاء المنصور الإمام الصادق من المدينة إلى قصر الحمراء
جاء في كتاب «مهج الدعوات» للسيّد ابن طاووس عن كتاب قديم بسنده عن محمّد بن الربيع الحاجب قال: قعد المنصور يوماً في قصره في القبّة الخضراء، و كانت قبل قتل محمّد و إبراهيم تُدعى الحمراء. و كان له يوم يقعد فيه يسمّى ذلك اليوم يوم الذبح. و قد كان أشخص جعفر بن محمّد عليه السلام من المدينة. فلم يزل في الحمراء نهاره كلّه حتى جاء الليل و مضى أكثره، قال: ثمّ دعا أبي الربيع، فقال: يا ربيع! إنّك تعرفت موضعك منّي ... صِرِ الساعة إلى جعفر بن محمّد ابن فاطمة، فأتني به على الحال الذي تجده عليه، لا تغيّر شيئاً ممّا عليه ....
إلى أن قال: فأخرجته حافياً حاسراً قميصه و منديله ... فوقف بين يديه.
فلمّا نظر إليه، قال: وَ أنْتَ يَا جَعْفَرُ مَا تَدَعُ حَسَدَكَ وَ بَغْيَكَ وَ إفْسَادَكَ عَلَى أهْلِ هَذَا الْبَيْتِ مِنْ بني عَبَّاسٍ. وَ مَا يَزَيدُكَ اللهُ بِذَلِكَ إلَّا شِدَّةَ حَسَدٍ وَ نَكَدٍ مَا تَبْلُغُ بِهِ مَا تَقْدِرُهُ!
فقال له: و الله يا أمير المؤمنين ما فعلتُ شيئاً من هذا، و لقد كنتُ في ولاية بني اميّة و أنت تعلم أنّهم أعداء الخلق لنا و لكم، و أنّهم لا حقّ لهم في هذا الأمر ... فكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا؟!
ثمّ رفع ثني الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها إليه، و قال:
هذه كتبك إلى أهل خراسان تدعوهم إلى نقض بيعتي و أن يبايعوك دوني!
فقال: و الله يا أمير المؤمنين ما فعلتُ و لا أستحلُّ ذلك، و لا هو من مذهبي، و قد بلغتُ من السنّ ما قد أضعفني من ذلك!
ثمّ قال: يا جعفر! أ ما تستحي مع هذه الشيبة، و مع هذا النسب أن
تنطق بالباطل! و تشقّ عصا المسلمين! تريد أن تريق الدماء، و تطرح الفتنة بين الرعيّة و الأولياء!
فقال: لا و الله يا أمير المؤمنين ما فعلتُ! و لا هذه كتبي و لا خطّي، و لا خاتمي!
ثمّ قال المنصور: يا ربيع! هات العيبة، فأتاه بها فقال: أدخل يدك فيها، فكانت مملوّة غالية. وضعها في لحيته و كانت بيضاء فاسودّت.
و قال لي: احمله على فاره من دوأبي التي أركبها، و أعطه عشرة آلاف درهم، و شيّعه إلى منزلة مكرّماً، و خيّره إذا أتيت به إلى المنزل بين المقام عندنا فنكرمه، و الانصراف إلى مدينة جدّه رسول الله صلّى الله عليه و آله.
(تخلّل هذا الحوار استلالُ السيف و العزم على قتل الإمام ثلاث مرّات في فترات مختلفة إلّا أنّ الله سبحانه دفع عنه شرّ المنصور بأدعية كان يتوسّل بها).
ثمّ قال المنصور للربيع: يا ربيع! قد كنتُ مصرّاً على قتل جعفر، و أن لا أسمع له قولًا! و لا أقبل له عذراً. و كان أمره و إن كان ممّن لا يخرج بسيف أغلظ عندي و أهمّ علَيّ من أمر عبد الله بن الحسن. فقد كنتُ أعلم هذا منه و من آبائه على عهد بني اميّة. و هممت بقتله ثلاث مرّات فظهر لي رسول الله فعلمت أنّي إذا قتلته ففي قتله حتفي، فانصرفتُ عن ذلك.
و فصّل المنصور للربيع ما رآه في المرّات الثلاث. ثمّ قال له: إيّاك أن يسمع هذا منك أحد.۱
حوار المنصور مع الإمام الصادق عليه السلام و لين الإمام
استدعاء المنصور الإمام من المدينة إلى الكوفة بعد قتل محمّد و إبراهيم
روى أبو الفرج الأصفهانيّ بإسناده عن يونس بن أبي يعقوب قال:
حدّثنا جعفر بن محمّد صلوات الله عليه من فيه إلى اذني قال: لمّا قُتِل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بباخمرا۱ و حشرنا من المدينة، فلم يترك فيها منّا محتلم، حتى قدمنا الكوفة فمكثنا فيها شهراً نتوقّع فيها القتل.
ثمّ خرج الينا الربيع الحاجب فقال: أين هؤلاء العلويّة؟! أدخلوا على أمير المؤمنين رجلين منكم من ذوي الحجى.
قال: فدخلنا إليه أنا و حسن بن زيد. فلمّا صرتُ بين يديه، قال لي:
أنت الذي تعلم الغيب؟! قلتُ: لا يعلم الغيب إلّا الله! قال: أنت الذي يُجبى اليك هذا الخراج؟! قلتُ: اليك يُجبى يا أمير المؤمنين الخراج! قال:
أ تدرون لِمَ دعوتكم؟! قلتُ: لا!
قال (المنصور): أرَدْتُ أنْ أهْدِمَ رِبَاعَكُمْ، وَ اغَوِّرَ قَليبَكُمْ، وَ أعْقِرَ نَخْلَكُمْ، وَ انْزِلَكُمْ بِالشَّرَاةِ٢ لَا يَقْرَبُكُمْ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الحِجَازِ وَ أهْلِ العِرَاقِ، فإنَّهُمْ لَكُمْ مَفْسَدَةٌ!
فقلتُ له: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! إن سُلَيْمَانَ اعْطِيَ فَشَكَرَ، وَ إن أيُّوبَ
و قبرٌ بأرض الجوزجان محلّه | *** | و قبرٌ بباخمرا لدى الغربات |
ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَ إن يُوسُفَ ظُلِمَ فَغَفَرَ، وَ أنْتَ مِنْ ذَلِكَ النَّسْلِ!۱
فتبسَّم (المنصور) و قال: أعِدْ عَلَيّ! فأعدتُ، فقال: مِثْلُكَ فَلْيَكُنْ زَعِيمَ القَوْمِ، وَ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ وَ وَهَبْتُ لَكُمْ جُرْمَ أهْلِ البَصْرَةِ!
حَدِّثْني الحديث الذي حدَّثتني عن أبيك، عن آبائه، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله!
قلتُ: حدّثني أبي، عن آبائه، عن عليّ، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: صِلَةُ الرَّحِمِ تَعْمُرُ الدِّيَارَ، وَ تُطِيلُ الأعْمَارَ، وَ تُكْثِرُ الغُمَّارَ وَ إن كَانُوا كُفَّاراً.
فقال (المنصور): ليس هذا.
فقلتُ: حدّثني أبي، عن آبائه، عن عليّ، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: الأرْحَامُ مُعَلَّقَةٌ بِالعَرْشِ تُنَادي: صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، وَ اقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي!
قال: ليس هذا!
قلتُ: حدّثني أبي، عن آبائه، عن عليّ، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: إن اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: أنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَ شَقَقْتُ لَهَا اسْماً مِن اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَ مَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ.
قال: ليس هذا الحديث!
قلتُ: حدّثني أبي، عن آبائه، عن عليّ، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله: إن مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ الأرْضِ كَانَ بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ ثَلَاثُ سِنِينَ فَوَصَلَ رَحِمَهُ فَجَعَلَهَا اللهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً.
فقال: هذا الحديث أردتُ، أيّ البلاد أحبّ اليك. فو الله لأصلنّ رحمي اليكم. قلنا: المدينة! فسرّحنا إلى المدينة و كفى الله مئونته.۱
إغلاق الإمام الصادق عليه السلام كلّ طريق للانتهاك أمام المنصور
و نلحظ في هذا الحديث أنّ الإمام عليه السلام أخذ بنظر الاعتبار جميع أطرافه و جوانبه الوجوديّة. و قد أفحمه أمام عواطفه حتى أنّه لم يجد مناصاً إلّا التسليم للحقّ.
و كان المنصور يرى نفسه عالماً فقيهاً، و من أهل التفسير و الحديث.
و يحسب أنّه من نوادر الدهر في حدّة الذكاء و سرعة الانتقال في الفهم.
و قد أشعره الإمام بهذه العبارات القصيرة قائلًا له: أنت تدّعى بالعلم و التقوى و الزهد، و انّك شغلتَ هذا المنصب نيابة عن الرسول الأكرم، و تربّعت على هذا العرش كخليفة من خلفاء الله، فثُب إلى رُشدك لحظة و انظر: فقد كان سليمان من أسلافك و بلغت قدرته و عظمته درجة أنّ الجنّ و الإنس سُخِّرا له، و أنّ الرياح تجري بأمره. فلم يجحد تلك النعمة، و وضع كلّ شيء في موضعه، و هذا هو عين العدالة. أمّا أنت فلم تبلغ ما بلغ سليمان من القدرة و العلم، فإذا كنتَ تتعامل معنا أو مع أهل البصرة هكذا بلا جرم و لا ذنب، فقد أسأتَ استعمال السلطة، و أصبحتَ جاحداً مكان أن تكون شاكراً! و عاقبتَ رجالًا أبرياء من غير جريرة!
و انظر فقد ظُلِم يوسف، و ألقاه إخوته في غيابت الجُبِّ. بَيدَ أنّه حين حَكَمَ و تمكّن، و رأى إخوته البائسين أذلّاء أمامه، عفا عنهم بقوله
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.۱ و بهذا النداء القرآنيّ خلد نداء مكرمته و مجده و عظمته إلى الأبد، و خُطَّ على الافق عنواناً للشرف و الفضيلة.
و انظر فقد ابتُلي أيّوب بتلك الشدائد التي أخبر عنها القرآن الكريم، فصبر و لم يجزع أو يجحد.
أمّا أنت يا منصور! فحالك لا يعدو ثلاثة أمور: إمّا أن تكون كسليمان فنجعل العفو شكراً لسلطانك و حكومتك، أو تكون كأيّوب فتصبر و لا تطلق لسانك بالشتم و الفحش و البذاءة على المحرومين، أو تكون كيوسف فقد عفا عن إخوته جميعهم مع ما لاقاه من ظلمهم و إيذائهم إيّاه. فأنتَ أمامَ هذه الخيارات، فاعمل بأيّها شئت!
مثل هذا التعامل و هذا الكلام الذي نطق به الإمام عليه السلام خفّف حِدّة ذلك العفريت المشئوم المستكبر المتجبِّر.
و ينبغي أن نعدّ تلك الكلمات من معجزات الإمام عليه السلام. فعن أيّ معجزة تبحث إذن؟!
و ينبغي أن ننظر إلى تلك الأنفاس الملكوتيّة مناراً على الإمامة و الأعلميّة و الفقاهة، حتى أنّ المنصور نفسه يعترف بأنّ الحكومة و زعامة الامّة يجب أن تكونا لك.
و لو فرضنا أنّ الإمام عليه السلام لم يتحمّل ذلك التحمّل الولائيّ، فقد كان من الممكن أن يُغضب المنصور بكلمة واحدة في جوابه، و يسلّط ذلك الجائر الفتّاك الهتّاك على نفسه و على أرواح الناس ليرتكب كلّ جريمة
يريدها بلا مبرّر.
و قد ذكر المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» كلام الإمام عليه السلام بثمانية أسناد مختلفة. و يُلحظ اختلاف في مضامين تلك الروايات نوعاً ما، و لكن يتبيّن من القرائن أنّ واقعة واحدة قد حدثت، و أنّ الرواة قد نقلوها بعبارات مختلفة لجواز نقل الرواية بالمعنى بأشكال مختلفة. إذ يبدو بعيداً من أدب الإمام الصادق عليه السلام و بلاغته و فصاحته أن يجيب المنصور بذلك الجواب في مرّتين أو مرّات عديدة.
موقف آخر للمنصور من الإمام الصادق عليه السلام
السند الآخر سند رواه عن «كشف الغمّة» عن عبد الله بن أبي ليلى، قال: كنتُ بالربذة مع المنصور، و كان قد وجّه إلى أبي عبد الله عليه السلام (الإمام الصادق) فاتي به، و بعث إلى المنصور فدعاني. فلمّا انتهيتُ إلى الباب سمعته يقول: عَجِّلُوا! عَلَيّ بِهِ! قَتَلَنِي اللهُ إن لَمْ أقْتُلْهُ، سَقَى اللهُ الأرْضَ مِنْ دَمِي إن لَمْ أسْقِ الأرْضَ مِنْ دَمِهِ!
فسألتُ الحاجب من يعني. قال: جعفر بن محمّد عليها السلام.
فإذا هو قد اتي به مع عدّة جلاوزة. فلمّا انتهى إلى الباب قبل أن يرفع الستر رأيته قد تململت شفتاه عند رفع الستر، فدخل.
فلمّا نظر إليه المنصور قال: مرحباً يا بن عمّ! مرحباً يا بن رسول الله! فما زال يرفعه حتى أجلسه على وسادته، ثمّ دعا بالطعام. فرفعت رأسي و أقبلتُ أنظر إليه و يلقمه جدياً بارداً، و قضى حوائجه، و أمره بالانصراف.
فلمّا خرج، قلتُ له: قد عرفتَ موالاتي لك و ما قد ابتليت به في دخولي عليهم! و قد سمعت كلام الرجل و ما كان يقول: فلمّا صرت إلى الباب رأيتك قد تململت شفتاك و ما أشكّ أنّه شيء قلته، و رأيت ما صنع بك! فإن رأيتَ أن تعلّمني ذلك فأقوله إذا دخلتُ عليه.
قال: نعم! قلتُ: مَا شَاءَ اللهُ، لَا يَأتِي بالخيْرِ إلَّا اللهُ، مَا شاءَ اللهُ، مَا
شَاءَ اللهُ، لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إلَّا اللهُ، مَا شَاءَ اللهُ، مَا شَاءَ اللهُ، كُلُّ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ، مَا شَاءَ اللهُ، لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ!۱
و قال الأبي: قال للصادق عليه السلام أبو جعفر المنصور:
إنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى أنْ اخَرِّبَ المَدِينَةَ، وَ لَا أدَعَ بِهَا نَافِخَ ضَرْمَةٍ!
فقال: يَا أمِيرَ المُؤمِنِينَ! لَا أجِدُ بُدَّاً مِنَ النَّصَاحَةِ لَكَ فَاقْبَلْهَا إن شِئْتَ أوْ لَا!
قال: قل!
قال: إنَّهُ قَدْ مَضَى لَكَ ثَلَاثَةُ أسْلَافٍ: أيُّوبُ ابْتُليَ فَصَبَرَ، وَ سُلَيْمَانُ اعْطِيَ فَشَكَرَ، وَ يُوسُفُ قَدَرَ فَغَفَرَ. فَاقْتَدِ بِأيِّهِمْ شِئْتَ!
قال: قد عفوتُ.٢
و قال الأبي أيضاً: وقف أهل مكّة و أهل المدينة بباب المنصور.
فأذن الربيع لأهل مكّة قبل أهل المدينة. فقال جعفر عليه السلام: أ تأذن لأهل مكّة قبل أهل المدينة؟ فقال الربيع: مَكَّةُ العُشُّ.
فقال جعفر عليه السلام: عُشٌّ وَ اللهِ طَارَ خِيَارُهُ وَ بَقِيَ شِرَارُهُ.٣
و قيل له: إن أبا جعفر المنصور لا يلبس منذ صارت الخلافة إليه إلّا الخشن و لا يأكل إلّا الجشب، فقال: يَا وَيْحَهُ مَعَ مَا قَدْ مَكَّنَ اللهُ لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَ جُبِيَ إلَيْهِ مِنَ الأمْوَالِ؟!
فقيل: إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بُخْلًا وَ جَمْعاً لِلأمْوَالِ.
فقال: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي حَرَّمَهُ مِنْ دُنْيَاهُ مَا لَهُ تَرَكَ دِينَهُ.٤
جواب الإمام الصادق للمنصور حول سبب امتناعه عن مخالطته
و قال ابن حمدون: كتب المنصور إلى جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام:
لِمَ لَا تَغْشَانَا كَمَا يَغْشَانَا سَائِرُ النَّاسِ؟!
فأجابه: لَيْسَ لَنَا مَا نَخَافُكَ مِنْ أجْلِهِ، وَ لَا عِنْدَكَ مِنْ أمْرِ الآخِرَةِ مَا نَرْجُوكَ لَهُ! وَ لَا أنْتَ في نِعْمَةِ فَنُهَنِّئَكَ، وَ لَا تَرَاهَا نِقْمَةً فَنُعَزِّيكَ بِهَا، فَمَا نَصْنَعُ عِنْدَكَ؟!
قال: فكتب إليه: تَصْحَبُنَا لِتَنصَحَنَا!
فأجابه: مَنْ أرَادَ الدُّنْيَا لَا يَنْصَحُكَ، وَ مَنْ أرَادَ الآخِرَةَ لَا يَصْحَبُكَ!
فقال المنصور: وَ اللهِ لَقَدْ مَيَّزَ عِنْدِي مَنَازِلَ النَّاسِ: مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا مِمَّنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ، وَ أنَّهُ مِمَّنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ لَا الدُّنْيَا.۱
و رواه أيضاً المرحوم المحدِّث النوري في «المستدرك الوسائل» عن الإربليّ في «كشف الغمّة».٢
و ذكر المستشار عبد الحليم الجنديّ الرواية المنقولة عن «مقاتل الطالبيّين» حول استدعاء المنصور الإمامَ بعد قتل محمّد و إبراهيم.٣
و السند الآخر سندٌ عن «المناقب» لابن شهرآشوب، عن كتاب «الترغيب و الترهيب» عن أبي القاسم الأصفهانيّ، و عن «العقد الفريد» لابن عبد ربّه الأندلسيّ أنّ المنصور قال لمّا رآه: قتلني الله إن لم أقتلك!
فقال له: إن سُلَيْمَانَ اعْطِيَ فَشَكَرَ، وَ إن أيُّوبَ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَ إن يُوسُفَ ظُلِمَ فَغَفَر، وَ أنْتَ عَلَى إرْثٍ مِنْهُمْ وَ أحَقُّ بِمَنْ تأسَّى بِهِمْ!
فقال: إلى يا أبا عبد الله! فأنت القريب القرابة! و ذو الرحم الواشجة، السليم الناحية، القليل الغائلة. ثمّ صافحه بيمينه، و عانقه بشماله، و أمر له بكسوةٍ و جائزة.
و في خبر آخر عن الربيع أنّه أجلسه إلى جانبه فقال له: ارفع حوائجك! فأخرج رقاعاً لأقوامٍ.
فقال المنصور: ارفع حوائجك في نفسك!
فقال: لَا تَدْعُوَنِّي حتى أجِيئَكَ!
فقال (المنصور): مَا إلى ذَلِكَ سَبِيلٌ!۱
و رواه المجلسيّ أيضاً بسند آخر عن الشيخ المفيد أعلى الله تعالى مقامهما.٢
و رواه كذلك بسند آخر عن عليّ بن عيسى الإربليّ، عن كتاب محمّد بن طلحة الشافعيّ، عن عبد الله بن الفضل بن الربيع، عن أبيه قال:
حجّ المنصور سنة سبع و أربعين و مائة، فقدم المدينة و قال للربيع: ابعث إلى جعفر بن محمّد من يأتينا به متعباً! قتلني الله إن لم أقتله. فتغافل الربيع عنه لينساه. ثمّ أعاد ذكره للربيع و قال: ابعث من يأتي به متعباً، فتغافل عنه.
ثمّ أرسل إلى الربيع رسالة قبيحة أغلظ عليه فيها و أمره أن يبعث من يُحضر جعفراً، ففعل. فلمّا أتاه قال له الربيع: يا أبا عبد الله! اذكر الله فإنّه قد أرسل اليك بما لا دافع له غير الله!
فقال جعفر: لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ. ثمّ إن الربيع أعلم المنصور بحضوره. فلمّا دخل جعفر عليه أوعده و أغلظ و قال:
أيْ عَدُوَّ اللهِ! اتَّخَذَكَ أهْلُ العِرَاقِ إمَاماً، يَبْعَثُونَ إلَيْكَ زَكَاةَ أمْوَالِهِمْ، وَ تُلْحِدُ في سُلْطَانِي وَ تَبْغِيهِ الغَوَائِلَ! قَتَلَنِي اللهُ إن لَمْ أقْتُلْكَ!
فقال له: يا أمير المؤمنين! إن سُلَيْمَانَ اعْطِيَ فَشَكَرَ، وَ إن أيُّوبَ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَ إن يُوسُفَ ظُلِمَ فَغَفَرَ، و أنت من ذلك السنخ.
فلمّا سمع المنصور ذلك منه قال له: إلى و عندي أبا عبد الله أنت البريء الساحة، السليم الناحية، القليل الغائلة. جزاك الله من ذي رحم أفضل ما جزى ذوي الأرحام عن أرحامهم. ثمّ تناول فأجلسه معه على فرشه. ثمّ قال: علَيّ بالطيب!
فاتي بالغالية، فجعل يغلّف لحية جعفر عليه السلام بِيَدهِ، حتى تركها تقطر.
ثمّ قال: قم في حفظ الله و كلاءته. ثمّ قال: يا ربيع! ألحق أبا عبد الله جائزته، و كسوته! انصرف أبا عبد الله في حفظه و كنفه، فانصرف.
دعاء الإمام الصادق عليه السلام في دفع شرّ المنصور عنه
قال الربيع: و لحقته فقلت: أنّي قد رأيت قبلك ما لم تره، و رأيت بعدك ما لا رأيته. فما قلتَ يا أبا عبد الله حين دخلتَ؟
قال: قلتُ:
اللَهُمَّ احْرُسنِي بِعَيْنِكَ التي لَا تَنَامُ، وَ اكْنُفْنِي بِرُكْنِكَ الذي لَا يُرَامُ، وَ اغْفِرْ لي بِقُدْرَتِكَ عَلَيّ، وَ لَا أهْلِكُ وَ أنْتَ رَجَائِي! اللَهُمَّ أنْتَ أكْبَرُ وَ أجَلُّ مِمَّا أخافُ وَ أحْذَرُ! اللَهُمَّ بِكَ أدْفَعُ في نَحْرِهِ، وَ أسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ!-
فَفَعَلَ اللهُ بِي مَا رَأيْتُ.۱
قال المستشار عبد الحليم الجنديّ: و في سنة ۱٤۷ عزم المنصور و هو راجع من موسم الحجّ أن يسيّر الإمام الصادق عليه السلام من المدينة إلى العراق. فاستعفاه الإمام، فلم يعفه و حمله معه. و لكنّ الصادق كان يقبل عليه بمقدار، فليست دنيا أبي جعفر لتجدر بالمقاربة. و في ذات يوم أرسل إلى الصادق: لِمَ لَا تَغْشَانَا كما تَغْشَانَا سَائِرُ النَّاسُ.٢
السند الآخر عن «مهج الدعوات»، عن محمّد بن أبي القاسم الطبريّ بسنده عن الربيع، إلى أن بلغ قوله: فوثب المنصور فأخذ بيده، و رفعه على سريره، ثمّ قال له: يا أبا عبد الله يعزّ علَيّ تعبك، و إنّما أحضرتك لأشكو اليك أهلك. قطعوا رحمي، و طعنوا في ديني، و ألّبوا الناس عَلَيّ و لو ولى هذا الأمر غيري ممّن هو أبعد رحماً منّي، لسمعوا له و أطاعوا.
فقال له جعفر عليه السلام: يا أمير المؤمنين فأين يُعْدَلُ بك عن سلفك الصالح؟! إن أيُّوبَ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَ إن يُوسُفَ ظُلِمَ فَغَفَرَ، وَ إن سُلَيْمَانَ اعْطِيَ فَشَكَرَ! إلى آخر الرواية التي يسرد فيها الإمام أحاديث الرحم، و المنصور يخضب لحية الإمام بالغالية.٣
السند الآخر عن الكلينيّ بسنده عن معاوية بن عمّار، و العلا بن سيابة، و ظريف بن ناصح قال: لمّا بعث أبو الدوانيق إلى أبي عبد الله رفع
يده إلى السماء، ثمّ قال: اللَهُمَّ إنَّكَ حَفِظْتَ الغُلَامَيْنِ لِصَلَاحِ أبَوَيْهِمَا فَاحْفَظْنِي لِصَلَاحِ آبَائِي مُحَمَّدٍ وَ عَلِيّ وَ الحَسَنِ وَ الحُسَيْنِ وَ عَلِيّ بْنِ الحُسَيْنِ وَ محَمَّدِ بْنِ عَلِيّ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ! اللَهُمَّ أنّي أدْرَا بِكَ في نَحْرِهِ، وَ أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ!
ثمّ قال للجمّال: سر! فلمّا استقبله الربيع بباب أبي الدوانيق قال له:
يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! ما أشدَّ باطنه عليك! لقد سمعته يقول: و الله لا تركت لهم نخلًا إلّا عقرته، و لا مالًا إلّا نهبته، و لا ذرّيّة إلّا سبيتها.
فهمس بشيء خفيّ و حرّك شفتيه. فلمّا دخل سلّم و قعد، فردّ عليه السلام ثمّ قال: أمَا وَ اللهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ لَا أتْرُكَ لَكَ نَخْلًا إلَّا عَقْرْتُهُ، وَ لَا مَالًا إلَّا أخَذْتُهُ!
فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا أمير المؤمنين! إن الله عزّ و جلّ ابتلي أيّوب فصبر، و أعطي داود فشكر، و قدر يوسف فغفر، و أنت من ذلك النسل، و لا يأتي ذلك النسل إلّا بما يشبهه.
فقال: صدقتَ! قد عفوتُ عنكم!
فقال له: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! إنَّهُ لَمْ يَنَلْ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ أحَدٌ دَماً إلَّا سَلَبَهُ اللهُ مُلْكَهُ!
فغضب لذلك و استشاط. فقال: على رسلك يا أمير المؤمنين! إن هذا الملك كان في آل أبي سفيان. فلمّا قتل يزيد لعنه الله حسيناً، سلبه الله ملكه، فورثه آل مروان. فلمّا قتل هشام زيداً، سلبه الله ملكه، فورثه مروان بن محمّد. فلمّا قتل مروان إبراهيم، سلبه الله ملكه فأعطاكموه!
فقال: صدقتَ! هات ارفع حوائجك!
فقال: الإذن! فقال: هو في يدك متى شئتَ، فخرج. فقال له الربيع:
قد أمر لك بعشرة آلاف درهم. قال: لا حاجة لي فيها. قال: إذن تغضبه!
فخذها ثمّ تصدّق بها!۱
استدعاء المنصور، و استحلاف الإمام الصادق الرجل الكاذب و هلاكه
نلحظ في مواطن عديدة أنّ أشخاصاً كانوا يشون بالإمام الصادق إلى الدوانيقيّ، و كان الأخير يستدعيه لذلك. و الواشي يحضر أيضاً. فكان الإمام يستحلفه بيمينٍ خاص ليثبت كذبه، و يبرهن على براءته، فيهلك في حينه. و مثل هذا اليمين في ذلك الظرف الخاصّ الذي تعرّضت فيه إمامة الإمام و ولايته و صدقه للتهديد و الخطر لافت للنظر و جالب للانتباه جدّاً.
روى الراونديّ في كتابه النفيس «الخرائج و الجرائح» عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، عن أبيه عليه السلام قال: جاء رجل إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام، فقال له: انجُ بنفسك! هذا فلان بن فلان قد وشى بك إلى المنصور و ذكر أنّك تأخذ البيعة لنفسك على الناس، لتخرج عليهم! فتبسّم و قال: يا عبد الله لا تُرَعْ! فَإنَّ اللهَ إ ذَا أرَادَ فَضِيلَةً كُتِمَتْ أوْ جُحِدَتْ أثَارَ عَلَيْهَا حَاسِداً بَاغِياً يُحَرِّكُهَا حتى يُبَيِّنَهَا.
اقعد معي حتى يأتيني الطلب، فتمضي معي إلى هناك حتى تشاهد ما يجري من قدرة الله التي لا معزل عنها لمؤمن. فجاؤوا و قالوا: أجِبْ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! فخرج الصادق عليه السلام، و دخل، و قد امتلأ المنصور غيظاً و غضباً، فقال له: أنت الذي تأخذ البيعة لنفسك على المسلمين؟! تريد أن تفرّق جماعتهم؟! و تسعى في هلكتهم؟! و تُفسد ذاتَ بينهم؟!
فقال الصادق عليه السلام: ما فعلتُ شيئاً من هذا!
قال المنصور: فهذا فلان يذكر أنّك فعلت! فقال: إنّه كاذب.
قال المنصور: أنّي احلِّفه إن حلف، كفيتُ نفسي مئونتك!
فقال الصادق عليه السلام: إنّه إذا حلف كاذباً باء بإثمٍ. قال المنصور لحاجبه: حلِّف هذا الرجل على ما حكاه عن هذا - يعني الصادق عليه السلام-.
فقال الحاجب: قل: وَ اللهِ الذي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. و جعل يغلِّط عليه اليمين.
فقال الصادق عليه السلام: لا تحلّفه هكذا! فإنّي سمعتُ أبي يذكر عن جدّي رسول الله صلّى الله عليه و آله أنّه قال: إن من الناس مَن يحلف كاذباً، فيعظّم الله في يمينه و يصفه بصفاته الحسنى، فيأتي تعظيمه للّه على إثم كذبه و يمينه، فيؤخَّر عنه البلاء. و لكنّي احلِّفه باليمين التي حدّثني أبي عن جدّي رسول الله أنّه لا يحلّف بها حالف إلّا باء بإثمه. فقال المنصور:
فحلِّفه إذاً يا جعفر.
فقال الصادق للرجل: قل: إن كُنْتُ كَاذِباً عَلَيْكَ فَقَدْ بَرئْتُ مِنْ حَوْلِ اللهِ وَ قُوَّتِهِ، وَ لَجَأتُ إلى حَوْلِي وَ قُوَّتِي.
فقالها الرجل.
فقال الصادق عليه السلام: اللَهُمَّ إن كَانَ كَاذِباً فَأمْتِهُ!
فما استتمَّ حتى سقط الرجل ميّتاً، و احتمل، و مضى:
و أقبل المنصور على الصادق عليه السلام، فسأله عن حوائجه، فقال عليه السلام: ما لي حاجة إلّا أن اسرع إلى أهلي، فإنّ قلوبهم بي متعلّقة (و هم في قلق لبعادي عنهم). فقال: ذلك اليك. فافعل ما بدا لك! فخرج من عنده مكرّماً. قد تحيّر منه المنصور، فقال قوم: رجل فأجاه الموت.
و جعل الناس يخوضون في أمر ذلك الميّت، و ينظرون إليه. فلمّا استوى
على سريره، جعل الناس يخوضون. فمن ذامّ له، و حامد، إذا قعد على سريره، و كشف عن وجهه، و قال:
يا أيّها الناس أنّي لقيتُ ربّي فلقاني السخط و اللعنة، و اشتدّ غضب زبانيتة علَيّ، على الذي كان منّي إلى جعفر بن محمّد الصادق، فاتّقوا الله، و لا تهلكوا فيه كما هلكتُ! ثمّ أعاد كفنه على وجهه، و عاد في موته، فرأوه لا حراك فيه و هو ميّت فدفنوه.۱
و روى الشيخ المفيد نظير هذا المضمون عن نَقَلَة الآثار. و جاء في ذيل الرواية: فقال الربيع للإمام: فبأيّ شيء كنت تحرّكهما (شفتيك)؟! قال: بدعاء جدّي الحسين بن عليّ عليهما السلام. قال: جعلتُ فداك! و ما هذا الدعاء؟!
قال: يَا عُدَّتِي عِنْدَ شِدَّتِي، وَ يَا غَوْثِي في كُرْبَتِي، احْرُسْنِي بِعَيْنِكَ الَّتِي لَا تَنَامُ، وَ اكْنُفُنِي بِرُكْنِكَ الذي لَا يُرَامُ.
قال الربيع: فحفظت هذا الدعاء. فما نزلت بي شدّةٌ قطّ إلّا دعوتُ به، ففرِّج. إلى آخر الرواية.٢
و يبدو أنّ هذه القضيّة وقعت للإمام مرّة اخرى، و استُدعي إلى الكوفة لهذا القصد.
روى الكلينيّ عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن بعض أصحابه، عن صفوان الجمّال قال: حملتُ أبا عبد الله الحملة الثانية إلى الكوفة، و أبو جعفر المنصور بها. فلمّا أشرف على الهاشميّة (مدينة
أبي جعفر)، أخرج رجله من غرز الرحل. ثمّ نزل و دعا ببغلة شهباء.۱
و لبس ثياباً بيضاً و تكّة بيضاء. فلمّا دخل عليه، قال له أبو جعفر:
لقد تشبّهت بالأنبياء!
فقال أبو عبد الله: و أنّى تبعّدني من أبناء الأنبياء؟!
قال: لقد هممتُ أن أبعث إلى المدينة من يعقر نخلها، و يسبي ذرّيّتها.
فقال: و لِمَ ذَاكَ يَا أمير المؤمنين؟!
فقال: رُفع إلى أنّ مولاك المعلّى بن خنيس يدعو اليك و يجمع لك الأموال.
فقال: و الله ما كان!
فقال: لست أرضى منك إلّا بالطلاق، و العتاق، و الهدي، و المشي.٢
فقال: أبَا لأنْدَادِ مِنْ دُونِ اللهِ تَأمُرُنِي أنْ أحْلِفَ؟! إنَّهُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللهِ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شَيْءٍ.
فقال: أ تتفقّه علَيّ؟
فقال: و أنّي تبعّدني من التفقّه، و أنا ابن رسول الله صلّى الله عليه و آله؟!
قال: فإنّي أجمع بينك و بين من سعى بك.
قال: فافعل! فجاء الرجل الذي سعى به.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا هذا، قال: فقال: نَعَمْ وَ اللهِ الذي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، عَالِمُ الغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، لَقَدْ فَعَلْتَ!
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: يَا وَيْلَكَ تُجَلِّلُ اللهَ فَيَسْتَحْيِي مِنْ تَعْذِيبِكَ، وَ لَكِنْ قُلْ: بَرِئْتُ مِنْ حَوْلِ اللهِ وَ قُوَّتِهِ وَ ألْجَأتُ إلى حَوْلِي وَ قُوَّتِي.
فخلف بها الرجل، فلم يستتمّها حتى وقع ميّتاً. فقال له أبو جعفر:
لا اصدّق بعدها عليك أبداً، و أحسن جائزته و ردّه.۱
و ذكر الشيخ الطوسيّ مثل هذه الرواية بسنده المتّصل عن الربيع.
و فيها أنّ الرجل النمّام سعى بالإمام إلى المنصور أنّه يزعم للناس أنّه يعلم الغيب.٢
و روى السيّد ابن طاووس في «مهج الدعوات» عن كتاب قديم، بسنده المتّصل عن صفوان بن مهران الجمّال، رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم إلى أبي جعفر المنصور، و ذلك بعد قتله لمحمّد و إبراهيم ابنَي عبد الله بن الحسن، أنّ جعفر بن محمّد بعث مولاه المعلّى بن خنيس بجباية الأموال من شيعته، و أنّه كان يمدّ بها محمّد بن عبد الله.
فكاد المنصور أن يأكل كفّه على جعفر غيظاً، و كتب إلى عمّه داود، و داود إذ ذاك أمير المدينة، أن يسيّر إليه جعفر بن محمّد، و لا يرخّص له في التلوّم و المقام. فبعث إليه داود بكتاب المنصور و قال: اعمل في المسير
إلى أمير المؤمنين في غدٍ و لا تتأخّر!
إلى آخر الرواية التي نقل فيها استحلاف الإمام الرجل القرشيّ المخزوميّ بالطريقة التي رأيناها في الروايات الأخيرة!۱
ضعف الاسباب في استدعاء المنصور للإمام الصادق عدّة مرّات
و ينبغي أن نعرف أنّ الرحلات العديدة التي استدعى فيها الدوانيقيّ الإمام الصادق عليه السلام من المدينة إلى الربذة، أو الكوفة، أو الحيرة، أو بغداد لا تقتصر على الموارد التي ذُكرت آنفاً، بل استدعاه في غير مرّة بلا دليل و لا مستمسك.٢
و يعود ذلك إلى أنّ المنصور كان يرى نفسه ذا شخصيّة علميّة.
و يعتقد أنّ له منزلة في الفقه و الاجتهاد. و من الطبيعيّ أنّه بما كان يحمله من نفس خبيثة و روح حسودة لم يستطع أن يتحمّل وجود شخصيّة علميّة
عرفانيّة متّقية تنافسه، مهما كانت بريئة، و مهما عفّت و ترفّعت عن التطلّع إلى المنصور، و بلاطه، و رئاسته. فنفس وجود الإمام عليه السلام - صرف وجود فقط و فقط - منغّص لحياة المنصور و أضرابه. و لم يطق المنصور شخصيّة مرموقة كالإمام. فهو ممتعض منه في اليقظة، فَزِع منه في المنام حتّى يقضي عليه. لهذا رأيناه في رحلاته التي كان يُحضر فيها الإمام عليه السلام، يقف على الحقيقة بعد أن يثبت له الإمام بمنطقه الرصين و برهانه القويم أنّه لم يتآمر عليه، و لم يمهّد الأمر لنفسه، و لم يُقم وزناً للرئاسة، فيُرجعه إلى المدينة باحترام بالغ، لكنّا نجده يُحضره أيضاً في كلّ فترة بلا حجّة تُذْكَر، ثمّ يُرجعه بدون أن يرى له ذنباً أو يعثر على مستمسك يُدينه. و قال للربيع عدّة مرّات: إن جعفر بن محمّد كالشجي يعترض حلقي. و كلّما أفكّر أراني لا اطيقه. و كان يسعى لإطفاء نور الإمام و شمع فضيلته بكلّ ما اوتي من قوّة. و من الواضح أنّ الإمام عليه السلام كان له أن يدع لهم جميع درجات القدرات الاعتباريّة و القيم الوهميّة لمصلحةٍ، لكن هل كان له أن يُنكر علمه و يدعه لهم أيضاً؟! إن إمامة الإمام بعلمه. و ميزان الإمامة الأعلميّة في الامّة. فإذا قال في مسألة: لا أعلم، فليس بإمام. فالإمام هو من يعلم. فلهذا لمّا كان الجهل في مسألة مساوياً لسقوط الإمامة، فما أكثر الأئمّة الذين بذلوا مهجهم - و لا بدّ أن يبذلوها - بسبب بيان حكم واقعيّ حقيقيّ أمام جبابرة عصورهم و ظالميها! فلا معنى للتقيّة في مواطن العلم.
و بيان حكم حقيقيّ قد أدّى إلى استشهاد كثير من الأئمّة.
عدم استطاعة المأمون تحمّل الإمام الرضا عليه السلام
من أسباب استشهاد الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه السلام: تصريحه بحكم حقيقيّ
أتى المأمون بالإمام الرضا عليه السلام إلى بلاطه ليدعم أحكامه
الباطلة و مسائله المشتبهة، لا أن يبيّن في كلّ مسألة حكماً يخالف رأيه.
و لا يمكن تصوّر مصيبة أعظم على سلاطين الجور و الجبابرة المتفرعنين من أن يبدي أحد علمه في مقابل آرائهم و نظريّاتهم.
احتجاج رجل صوفيّ، و عزم المأمون على قتل الإمام الرضا
قال في «بحار الأنوار»، في باب أسباب شهادة الإمام الرضا صلوات الله عليه: في «علل الشرائع»، و «عيون أخبار الرضا» عن المكتّب، و الوّراق، و الهمدانيّ جميعاً عن عليّ، عن أبيه، عن محمّد بن سنان قال:
كنت عند مولاي الرضا عليه السلام بخراسان. و كان المأمون يقعده على يمينه إذا قعد الناس يوم الاثنين و يوم الخميس.
فرفع إلى المأمون أنّ رجلًا من الصوفيّة سرق. فأمر بإحضاره. فلمّا نظر إليه وجده متقشّفاً بين عينيه أثر السجود. فقال: سوءةً لهذه الآثار الجميلة، و لهذا الفعل القبيح، أ تنسب إلى السرقة مع ما أرى من جميل آثارك و ظاهرك؟! قال: فعلتُ ذلك اضطراراً لا اختياراً حين منعتني حقّي من الخمس و الفيء.
فقال المأمون: و أيّ حقّ لك في الخمس و الفيء؟!
قال: إن الله عزّ و جلّ قسّم الخمس ستّة أقسام و قال:
وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ.۱ و قسّم الفيء على ستّة أقسام، فقال عزّ و جلّ:
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ
مِنْكُمْ.۱
قال: بما منعتني و أنا ابن السبيل منقطع بي و مسكين لا أرجع إلى شيء و من حملة القرآن!٢
فقال له المأمون: اعطّل حدّاً من حدود الله و حكماً من أحكامه في السارق من أساطيرك هذه؟! فقال الصوفيّ: ابدأ بنفسك فطهّرها، ثمّ طَهِّرْ غيرك! و أقم حدّ الله عليها، ثمّ على غيرك!
فالتفت المأمون إلى أبي الحسن (الإمام الرضا) عليه السلام، فقال:
ما تقول؟! فقال: إنّه يقول: سرقتَ فسرق! فغضب المأمون غضباً شديداً، ثمّ قال للصوفيّ: و الله لأقطعنّك! فقال الصوفيّ: أ تقطعني و أنت عبدٌ لي؟!
فقال المأمون: ويلك! و من أين صرتُ عبداً لك؟! قال: لأنّ امّك اشتُرِيَتْ من مال المسلمين. فأنت عبدٌ لمن في المشرق و المغرب حتّى يعتقوك، و أنا لم اعتقك! ثمّ بلعتَ الخمس بعد ذلك، فلا أعطيتَ آلَ الرسول حقّاً، و لا أعطيتني و نظرائي حقّنا!
و الاخرى أنّ الخبيث لا يطهّر خبيثاً مثله. إنّما يطهّره طاهر. و مَن في جنبه الحدّ لا يقيم الحدود على غيره حتى يبدأ بنفسه. أ مَا سمعتَ الله عزّ و جلّ يقول: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ
أَ فَلا تَعْقِلُونَ.۱
فالتفتَ المأمون إلى الرضا عليه السلام، فقال: ما ترى في أمره؟! فقال عليه السلام: إن الله جلّ جلاله قال لمحمّد صلّى الله عليه و آله: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ.٢ و هي التي تبلغ الجاهلَ فيعلمها بجهله كما يعلمها العالمُ بعلمه. و الدنيا و الآخرة قائمتان بالحجّة. و قد احتجّ الرجل.
فأمر المأمون عند ذلك بإطلاق الصوفيّ و احتجب عن الناس، و اشتغل بالرضا عليه السلام حتى سمّه فقتله. و قد كان قتل الفضلَ بن سهل و جماعة من الشيعة.
قال الصدوق رضى الله عنه: رُوى هذا الحديث كما حكيت، و أنا بريء من عهدة صحّته.٣
و كم من المناسب هنا أن ننقل رواية اخرى حول الإمام الرضا عليه السلام و إن كانت خارجة عن موضوع بحثنا، لكنّها توائم سرّ الأذى الذي تلقّاه الإمام الصادق عليه السلام من المنصور تماماً.
جاء في «عيون أخبار الرضا عليه السلام» عن تميم القرشيّ، عن أبيه، عن أحمد بن عليّ الأنصاريّ قال: سألتُ أبا الصلت الهرويّ، فقلتُ:
كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا عليه السلام مع إكرامه و محبّته له، و ما جعل له من ولاية العهد بعده؟!
فقال: إن المأمون إنّما كان يكرمه و يحبّه لمعرفته بفضله، و جعل له
ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنّه راغب في الدنيا فيسقط محلّه من نفوسهم. فلمّا لم يظهر منه في ذلك للناس إلّا ما ازداد به فضلًا عندهم و محلًّا في نفوسهم جلب عليه المتكلّمين من البلدان طمعاً من أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محلّه عند العلماء، و بسببهم يشتهر نقصه عند العامّة.
فكان لا يكلّمه خصم من اليهود، و النصارى، و المجوس، و الصابئين، و البراهمة، و الملحدين، و الدهريّة، و لا خصم من فرق المسلمين المخالفين له إلّا قطعه و ألزمه الحجّة. و كان الناس يقولون: وَ اللهِ إنَّهُ أوْلَى بِالخِلَافَةِ مِنَ المَأمُونِ. فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك و يشتدّ حسده.
وَ كَانَ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُحَأبي المَأمُونَ مِنْ حَقٍّ وَ كَانَ يُجِيبُهُ بِمَا يَكْرَهُ في أكْثَرِ أحْوَالِهِ فَيَغِيظُهُ ذَلِكَ، وَ يَحْقِدُهُ عَلَيْهِ، وَ لَا يُظْهِرُهُ لَهُ.
فَلَمَّا أعْيَتْهُ الحِيلَةُ في أمْرِهِ اغْتَالَهُ فَقَتَلَهُ بِالسَّمِّ.۱
علوم الإمام الصادق كالشجى المعترض في حلق المنصور
روى القطب الراونديّ عن صفوان الجمّال قال: كنتُ بالحيرة مع أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام إذ أقبل الربيع، و قال: أجب
أمير المؤمنين، فلم يلبث أن عاد. قلتُ: أسرعتَ الانصراف! قال: إنّه سألني عن شيء، فاسأل الربيع عنه!
فقال صفوان: و كان بيني و بين الربيع لطف. فخرجت إلى الربيع و سألته، فقال: اخبرك بالعجب: إن الأعراب خرجوا يجتنون الكماة، فأصابوا في البرّ خلقاً مُلقى، فأتوني به. فأدخلته على الخليفة، فلمّا رآه قال: نحّه و ادعُ جعفراً! فدعوته.
فقال: يا أبا عبد الله أخبرني عن الهواء ما فيه؟ قال: في الهَوَاءِ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ۱ قال: ففيه سكّان؟ قال: نعم! قال: و ما سكّانه؟
قال: خَلْقٌ أبْدَانَهُمْ أبْدَانُ الحِيتَانِ، وَ رُؤُوسُهُمْ رُؤُوسُ الطَّيْرِ، وَ لَهُمْ أعْرِفَةٌ كَأعْرِفَةِ الدِّيَكَةِ، وَ نَغَانِغُ٢ الدِّيَكَةِ، وَ أجْنِحَةٌ كَأجْنِحَةِ الطَّيْرِ، مِنْ ألْوَانٍ أشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الفِضَّةِ المَجْلُوَّةِ.
فقال الخليفة: هلمّ الطشت! فجئت بها و فيها ذلك الخلق. و إذا هو و الله كما وصفه جعفر. فلمّا نظر إليه جعفر، قال: هَذَا هُوَ الخَلْقُ الذي يَسْكُنُ المَوْجَ المَكْفُوفَ. فأذن له بالانصراف. فلمّا خرج، قال: وَيْلَكَ يَا رَبِيعُ، هَذَا الشَّجَي المُعْتَرِضُ في حَلْقِي مِنْ أعْلَمِ النَّاسِ!٣
روى الشيخ الصدوق في أماليه بسنده المتّصل عن الربيع صاحب المنصور و نديمه، قال: بعث المنصور إلى الصادق جعفر بن محمّد عليهما
السلام يستقدمه لشيءٍ بلغه عنه. فلمّا وافى بابه خرج إليه الحاجب، فقال:
اعِيذُكَ بِاللهِ مِنْ سَطْوَةِ هَذَا الجَبَّارِ، فإنّي رَأيْتُ حَرْدَهُ عَلَيْكَ شَدِيداً!
فقال الصادق عليه السلام: عَلَيّ مِنَ اللهِ جُنَّةٌ وَاقِيَةٌ، تعينني عليه إن شاء الله. استأذن لي عليه! فاستأذن فأذن له. فلمّا دخل سلّم، فردّ عليه السلام، ثمّ قال له: يا جعفر! قد علمتَ أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال لأبيك علي بن أبي طالب عليه السلام: لَوْ لا أنْ تَقُولَ فِيكَ طَوَائِفُ مِنْ امَّتِي مَا قَالَتِ النَّصَارَى في المَسِيحِ، لَقُلْتُ فِيكَ قَوْلًا لَا تَمُرُّ بِمَلأٍ إلَّا أخَذُوا مِنْ تُرَابِ قَدَمَيْكَ، يَسْتَشفُونَ بِهِ!
و قال عليّ عليه السلام: يَهْلِكُ في اثْنَانِ وَ لَا ذَنْبَ لي: مُحِبٌّ غالٍ وَ مُبْغِضُّ مُفَرِّطٌ. قال: قال ذلك اعتذاراً منه أنّه لا يرضى بما يقول فيه الغالي و المفرّط. و لعمري إن عيسى ابن مريم عليهما السلام لو سكت عمّا قالت فيه النصارى لعذّبه الله.
و لقد تعلم ما يقال فيك من الزور و البهتان، و إمساكك عن ذلك و رضاك به سخط الديّان، زعم أوغاد الحجاز، و رعاع الناس، أنّك حبر الدهر، و ناموسه و حجّة المعبود و ترجمانه، و عيبة علمه، و ميزان قسطه، و مصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضياء النور، و أنّ الله لا يقبل من عامل جهل حدّك في الدنيا عملًا، و لا يرفع له يوم القيامة وزناً.
فنسبوك إلى غير حدّك، و قالوا فيك ما ليس فيك. فقُل فإنّ أوّل من قال الحقّ جدّك، و أوّل من صدّقه عليه أبوك و أنت حريّ أن تقتصّ آثارهما، و تسلك سبيلهما.
الإمام الصادق عليه السلام يُطفئ غضب المنصور
فقال الصادق عليه السلام: أنَا فَرْعٌ مِنْ فُرُعِ الزَّيْتُونَةِ، وَ قِندِيلٌ مِنْ قَنَاديلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَ أدِيبُ السَّفَرَةِ، وَ رَبِيبُ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَ مِصْبَاحٌ مِنْ مَصَابِيحِ المِشْكَاةِ التي فِيهَا نُورُ النُّورِ، وَ صَفْوَةُ الكَلِمَةِ البَاقِيَةِ في عَقِبِ
المُصْطَفَيْنَ إلى يَوْمِ الحَشْرِ!
فالتفت المنصور إلى جلسائه، فقال: هَذَا قَدْ أحَالَني على بَحْرٍ مَوَّاجٍ لَا يُدْرَكُ طَرَفُهُ، وَ لَا يُبْلَغُ عُمْقُهُ، تُحَارُ فِيهِ العُلَمَاءُ، وَ يَغْرَقُ فِيهِ السُّبَحَاءُ، وَ يَضِيقُ بِالسَّابِحِ عَرْضُ الفَضَاءِ، هَذَا الشَّجَي المُعْتَرِضُ في حُلُوقِ الخُلَفَاءِ، الذي لَا يَجُوزُ نَفْيُهُ، وَ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ.
وَ لَوْ لا مَا يَجْمَعُنِي وَ إيَّاهُ شَجَرَةٌ طَابَ أصْلُهَا، وَ بَسَقَ فَرْعُهَا، وَ عَذُبَ ثَمَرُهَا، وَ بُورِكَتْ في الذَّرِّ، وَ قُدِّسَتْ في الزُّبُرِ، لَكَانَ مِنِّي إلَيْهِ مَا لَا يُحْمَدُ في العَوَاقِبِ، لِمَا يَبْلُغُنِي عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ غَيْبِهِ لَنَا، وَ سُوءٍ القَوْلِ فِينَا.
فقال الصادق عليه السلام: لَا تَقْبَلْ في ذِي رَحِمِكَ وَ أهْلِ الرِّعَايَةِ مِنْ أهْل بَيْتِكَ قَوْلَ مَنْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ، وَ جَعَلَ مَأوَاهُ النَّارَ. فَإنَّ النَّمَّامَ شَاهِدُ زُورٍ، وَ شَرِيكُ إبْلِيسُ في الإغْرَاءِ بَيْنَ النَّاسِ. فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (و تثبّتوا عند العمل بمقتضاه) أن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ».۱
وَ نَحْنُ لَكَ أنْصَارٌ وَ أعْوَانٌ، وَ لِمُلْكِكَ دَعَائِمُ وَ أرْكَانٌ مَا أمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَ الإحْسَانِ، وَ أمْضَيْتَ في الرَّعِيَّةِ أحْكَامَ القُرْآنِ، وَ أرْغَمْتَ بِطَاعَتِكَ لِلَّهِ أنْفَ الشَّيْطَانِ، وَ إن كَانَ يَجِبُ عَلَيْكَ في سَعَةِ فَهْمِكَ وَ كَثْرَةِ عِلْمِكَ وَ مَعْرِفَتِكَ بِآدَابِ اللهِ أنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَ تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَ تَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ! فَإنَّ المُكَافِئَ لَيْسَ بِالوَاصِلِ. إنَّمَا الوَاصِلُ مَنْ إ ذَا قَطَعْتَهُ رَحِمُهُ وَصَلَهَا. فَصِلْ رَحِمَكَ يَزِدِ اللهُ في عُمْرِكَ، وَ يُخَفِّفْ عَنْكَ الحِسَابَ يَوْمَ حَشْرِكَ!
فقال المنصور: قد صفحتُ عنك لقدرك، و تجاوزتُ عنك لصدقك.
فحدّثني عن نفسك بحديثٍ أتّعظ به، و يكون لي زاجر صدق عن الموبقات!
فقال الصادق عليه السلام: عَلَيْكَ بِالحِلْمِ، فَإنَّهُ رُكْنُ العِلْمِ، وَ امْلِكْ نَفْسَكَ عِنْدَ أسْبَابِ القُدْرَةِ! فَإنَّكَ إن تَفْعَلْ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ كُنْتَ كَمَنْ شُفِيَ غَيْظاً، أوْ تَدَاوَى حِقْداً، أوْ يُحِبُّ أنْ يُذْكَرَ بِالصَّوْلَةِ. وَ اعْلَمْ بِأنَّكَ إن عَاقَبْتَ مُسْتَحِقّاً لَمْ تَكُنْ غَايَةُ مَا تُوصَفُ بِهِ إلَّا العَدْلَ، وَ الحَالُ التي تُوجِبُ الشُّكْرَ أفْضَلُ مِنَ الحَالِ التي تُوجِبُ الصَّبْرَ. (أي: يشكرك الناس عند العفو و الصفح عنهم، و يصبرون مرغمين عند العقوبة و البطش).
فقال المنصور: وعظتَ فأحسنتَ، و قلتَ فأوجزتَ! فحدّثني عن فضل جدِّك علي بن أبي طالب عليه السلام حديثاً لم تأثره العامّة.
فقال الصادق عليه السلام: حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: لَمَّا اسْرِيَ بِي إلى السَّمَاءِ عَهِدَ إلي رَبِّي جَلَّ جَلَالُهُ في عَلِيّ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: يَا محَمَّدُ! فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وَ سَعْدَيْكَ!
فَقَالَ: عَزَّ وَ جَلَّ: إن عَلِيّاً إمَامُ المُتَّقِينَ، وَ قَائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، وَ يَعْسُوبُ المُؤْمِنِينَ، فَبَشِّرْهُ بِذَلِكَ! فَبَشَّرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ بِذَلِكَ. فَخَرَّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاجِداً شُكْراً لِلَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ. ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَلَغَ مِنْ قَدْرِي حتى أنّي اذْكَرُ هُنَاكَ؟!
قَالَ: نَعَمْ، وَ إن اللهَ يَعْرِفُكَ وَ إنَّكَ لَتُذْكَرُ في الرَّفِيقِ الأعْلَى.
فقال المنصور: ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ.۱
موقف الإمام الحكيم من المنصور
إذا أنعمنا النظر في هذه الرواية فإنّ مطالب مهمّة تستبين لنا:
أولًا: حاول المنصور أن يجبر الإمام على الإقرار بأنّه خليّ من العلوم الملكوتيّة و السرِّيَّة، و بعامّة أراد أن يجعله في عداد العوام من الناس.
ثانياً: لم يعترف الإمام عليه السلام بهذا الأمر بأيّ وجه من الوجوه، بل أصرّ على أنّه من تلك الشجرة الزيتونة المباركة، و أنّه فرع منها.
ثالثاً: بأيّ بيانٍ منطقيّ مرن نافع يستطيع أن يُقنع المنصور بأنّ الانتقام عمل مذموم، و أنّ العالِم يجب أن يكون حليماً؟ و إلّا يصبح العلم حربةً بِيَدِ زنجيّ سِكِّير.
رابعاً: في الوقت نفسه نصح المنصورَ نصيحة مقبولة، لا نصيحة تثيره و تزيد حدّته و تشدّده.
و يتّضح هنا جيّداً كيف يجب على الإمام عليه السلام أن يتحمّل هذه المصائب مع المنصور، و يؤدّي رسالته بالنسبة إلى الامّة جميعها، بل بالنسبة إلى المنصور ذاته، و ينقذ نفسه من قتلٍ لا طائل تحته فيتسنّى له أن يوصل ثِقْل الإمامة و الولاية الحقيقيّة إلى مكانه المنشود.
لم يهدأ المنصور عن إرسال الجواسيس إلى المدينة مع يقينه بعدم خروج الإمام
ما كان أبو مسلم الخراسانيّ، و لا أبو سلمة من أهل الولاية و من أنصار الإمام جعفر الصادق عليه السلام. و مع ذلك كانت تصل رسائلهما إليه عليه السلام لجسّ نبضه فيما إذا كان من أهل الثورة و الخروج بالسلاح أو لا.
عند ما اجتمع عبد الله المحض و ولداه: محمّد و إبراهيم مع عبد الله السفّاح و المنصور و جماعة آخرين من بني هاشم في الأبواء بالمدينة من أجل أخذ البيعة لأحد وَلَدي عبد الله المحض، دخل عليهم الإمام الصادق
عليه السلام بغتة على الرغم من عدم رغبتهم في ذلك، و قال: لا تصحّ هذه البيعة، لأنّ محمّداً ليس مهدي آل محمّد. و إن محمّداً و إبراهيم سيقتلان بِيَدِ صاحب القباء الأصفر (المنصور أبي الدوانيق)، و هو الذي سيقبض على الخلافة.
و بعد مضي أيّام سافر عبد الله السفّاح مع أهل بيته من المدينة إلى الكوفة خفية، و خطّط للخلافة مع أبي سلمة الخلّال. و حين بويع استوزره فاشتهر بوزير آل محمّد. لكنّه قُتل بعد أربعة أشهر، و الذي قتله هو أبو مسلم.
قال المحدِّث القمّيّ (ما تعريبه): استوزر السفّاح أبا سلمة حفص الخلّال، فدُعي وزير آل محمّد. و هو أوّل مَن وزر في الدولة العبّاسيّة. ثمّ همّ أبو مسلم بقتله، و كان ينتهز الفرصة حتى خرج ذات ليلة من عند السفّاح قاصداً منزله، فهجم عليه أصحاب أبي مسلم و سفكوا دمه. و كان قتله بعد أربعة أشهر مرّت على حكومة السفّاح. و لمّا كانت الدولة العبّاسيّة قد قامت بجهود أبي مسلم، لذلك لم يمسّه السفّاح بأذى، بل كان يحترمه.
و ظلّ أبو مسلم حتى إذا هلك السفّاح، و جلس المنصور مجلسه أمر بقتله في رومية المدائن يوم الخامس و العشرين من شعبان سنة ۱٣۷ هـ. و كان معروفاً بالحزم و البطش و الغيرة، و كان سفّاكاً للدماء حتى احصي عدد المقتولين بيده صبراً فكانوا ستمائة ألف.۱
الإمام الصادق عليه السلام يجيب جواسيس المنصور بالنفي
و عند ما أخذ العبّاسيّون البيعة لأنفسهم و تربّعوا على أريكة الحكم، وصلت رسائل من أبي مسلم و أبي سلمة إلى المدينة استعلما فيها عن خلافة الإمام الصادق عليه السلام، و عبد الله المحض، و عمرو الأشرف و هم من أولاد أمير المؤمنين عليه السلام و سألا فيها عن مدى استعدادهم للخلافة.
أمّا الإمام الصادق عليه السلام فقد رفض تلك الرسائل و قال: العجب أنّ رجالًا أجانب يطالبون بالخلافة لنا!
لقد كان هؤلاء كلّهم جواسيس أرادوا أن يقيسوا قابليّة الإمام عليه السلام للثورة و العمل في مقابل العبّاسيّين، فيفعلوا به ما فعلوا بعبد الله المحض و إخوته و ولديه و عشيرته، بَيدَ أنّ الإمام كان واعياً نابهاً من اولي الفهم و الدراية. فلم يعبأ بتلك المراسلات، و لم يتخطَّ طريقه، إذ كان يعلم علم اليقين أنّ إبراهيم الإمام و أخَوَيه السفّاح و المنصور ليسوا ممّن يتنازل عن الحكم و يسلّم الخلافة لأهلها و يجعلها في مكانها الحقيقيّ. إنّهم يفكّرون بمصالحهم الخاصّة فحسب، و لم يفكّروا إلّا بتمشية تلك المصالح و المقاصد تحت عنوان دعم أهل البيت و الإعلان عن غصب حقّ العلويّين.
و اتّخذوا من هذا العنوان ذريعة لإمارتهم و رئاستهم و حكومتهم. و لو لم يكن ذلك، فَلِمَ لَمْ يُطلعوا الإمام على هذا الأمر في المدينة، و ذهبوا إلى الكوفة سرّاً لأخذ البيعة من أهلها؟!
و أمّا عبد الله المحض، فلم يَخبُرْ حقيقة الأشياء، و لم يستضيء بنور الباطن و الفراسة العميقة فيدرك كُنه الامور، فلهذا خُدِعَ بأوراق مزوّرة و رسائل لا مغزى فيها من شيعة خراسان، حتى أنّه أساء الظنّ بالإمام الصادق عليه السلام و خال أنّه لا يبايع ولده محمّد النفس الزكيّة حسداً مع وجود الرسائل التي بعثها شيعة خراسان إليه.
قال المستشار عبد الحليم الجنديّ: كتب أبو مسلم الخراسانيّ أيّامئذٍ إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام:
إنِّي قَدْ أظْهَرْتُ الكَلِمَةَ، وَ دَعَوْتُ النَّاسَ عَنْ بني امَيَّةَ إلى مَوَالاةِ «أهْل البَيْتِ» فَإنْ رَغِبَتَ فَلَا مَزِيدَ عَلَيْكَ.
و أجاب جعفر الصادق معلناً فلسفته: مَا أنْتَ مِنْ رِجَالِي، وَ لَا الزَّمَانُ زَمَانِي.۱
و في ذات الوقت بعث أبو سلمة الخلّال - الملقّب بوزير آل محمّد،
و الذي سيُصبح وزيراً للسفّاح أوّل خلفاء بني العبّاس - إلى جعفر الصادق، و عبد الله بن الحسن بن «الحسن»، و عمرو الأشرف، من أبناء عليّ، مع رجل من موالي أبي سلمة قائلًا له: إن أجاب جعفر فلا تذهب إلى غيره! و إن لم يجب فاقصد إلى عبد الله، فإن أجاب فأبطل كتاب عمرو. (و إن لم يجب عبد الله فاقصد عمرو الأشرف)!
و ذهب الرسول إلى جعفر، فقال: مَا لي وَ لأبي سَلَمَةَ وَ هُوَ شِيعَةٌ لِغَيْرِي، وَ وَضَعَ الكِتَابَ في النَّارِ حتى احْتَرَقَ - وَ أبي أنْ يَقْرَأهُ.
قَالَ الرَّسُولُ: أ لَا تُجِيبُهُ؟!
قَالَ: رَأيْتُ الجَوَابَ!
ثمّ مضى الرسول إلى عبد الله. فقرأ الكتابَ، و قصد إلى جعفر الصادق يُنبئه بورود الكتاب إليه من شيعته بخراسان.
قال الصادق له: وَ مَتَى كَانَ لَكَ شِيعَةٌ بُخَراسَانَ؟! أ أنْتَ وَجَّهْتَ أبَا مُسْلِم إلَيْهِمْ؟! هَلْ تَعْرِفُ أحَداً مِنْهُمْ بِاسْمِهِ؟! فَكَيْفَ يَكُونُونَ شِيعَتَكَ وَ هُمْ لَا يَعْرِفُونَكَ وَ أنْتَ لَا تَعْرِفُهُمْ؟!
قال عبد الله: كَأنَّ هَذَا الكَلَامَ مِنْكَ لِشَيءٍ؟!
قال الصادق: قَدْ عَلِمَ اللهُ أنّي اوجِبُ النُّصْحَ عَلَى نَفْسِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَكَيْفَ أدَّخِرُهُ عَنْكَ؟ فَلَا تَمُنَّ نَفْسَكَ فَإنَّ الدَّوْلَةَ سَتَتِمُّ لِهَؤُلَاءِ!۱
أيا مُوقِداً ناراً لغيرك ضَوْؤها | *** | و يا حاطِباً في غير حَبلك تحطِبُ |
تشيّع جعفر بن محمّد بن الاشعث بسبب علوم الإمام الغيبيّة
روى الشيخ محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «الكافي» عن أبي عليّ الأشعريّ، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن صفوان بن يحيى، عن جعفر بن محمّد بن الأشعث۱ قال: قال لي: أ تدري ما كان سبب دخولنا في هذا الأمر و معرفتنا به و ما كان عندنا منه ذِكرٌ و لا معرفة شيء ممّا عند الناس؟
قال: قلتُ له: ما ذاك! قال: إن أبا جعفر - يعني أبا الدوانيق - قال لأبي، محمّدٍ بن الأشعث: يا محمّد! ابغِ لي رجلًا له عقل يؤدّي عنّي! فقال له أبي: قد أصبته لك، هذا فلان ابن مهاجر خالي. قال: فأتني به! قال:
فأتيته بخالي.
فقال له أبو جعفر: يا ابن مهاجر! خذ هذا المال و أت المدينة و أت عبد الله بن الحسن بن الحسن و عدّةً من أهل بيته فيهم جعفر بن محمّد فقل لهم: أنّي رجل غريب من أهل خراسان و بها شيعة من شيعتكم وجَّهوا
اليكم بهذا المال! و ادفع إلى كلّ واحد منهم على شرط كذا و كذا. فإذا قبضوا المال، فقل: أنّي رسولٌ و احِبُّ أن يكون معي خطوطكم بقبضكم ما قبضتم! فأخذ المال و أتى المدينة، فرجع إلى أبي الدوانيق و محمّد بن الأشعث عنده. فقال له أبو الدوانيق: ما وراءك؟!
قال: أتيتُ القوم و هذه خطوطهم بقبضهم المال خلا جعفر بن محمّد.
فإنّي أتيتُه و هو يصلّي في مسجد الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم.
فجلستُ خلفه و قلتُ حتى ينصرف، فأذكر له ما ذكرتُ لأصحابه. فعجّل و انصرف، ثمّ التفت إلى فقال:
يَا هَذَا! اتَّقِ اللهَ وَ لَا تَغُرَّ أهْلَ بَيْتِ محَمَّدٍ، فَإنَّهُمْ قَرِيبُ العَهْدِ بِدَوْلَةِ بَنِي مَرْوَانَ وَ كُلُّهُمْ مُحْتَاجٌ!
فقلتُ: و ما ذاك أصلحك الله؟!
قال: فأدنى رأسه منّي و أخبرني بجميع ما جرى بيني و بينك حتى كأنّه كان ثالثنا. قال: فقال له أبو جعفر: يا بن مهاجر! اعلم أنّه ليس من أهل بيت نبوّة إلّا و فيه مُحَدَّثٌ،۱ و أنّ جعفر بن محمّد محدَّثنا اليوم.
قال جعفر بن محمّد بن الأشعث: و كانت هذه الدلالة سبب قولنا بهذه المقالة.٢
روى القطب الراونديّ عن مهاجر بن عمّار الخزاعيّ قال: بعثني أبو الدوانيق إلى المدينة، و بعث معي بمال كثير، و أمرني أن أتضرّع لأهل هذا
البيت، و أتحفّظ مقالتهم.
قال: فلزمتُ الزاوية التي ممّا يلي القبر، فلم أكن أتنحّى منها في وقت الصلاة، لا في ليل و لا في نهار. قال: و أقبلتُ أطرح إلى السُّؤَال الذين حول القبر الدراهم و من هو فوقهم الشيء بعد الشيء حتى ناولتُ شباباً من بني الحسن و مشيخة حتى ألفوني و ألفتهم في السرّ.
قال: و كنتُ كلّما دنوتُ من أبي عبد الله (جعفر بن محمّد الصادق) يُلاطفني و يُكرمني، حتى إذا كان يوماً من الأيّام دنوتُ من أبي عبد الله و هو يُصلّي. فلمّا قضى صلاته، التفت إلي و قال: تعالَ يا مهاجر - و لم أكن أتسمّى و لا أتكنّى بكُنيتي - فقال: قل لصاحبك: يقول لك جعفر:
كَانَ أهْلُ بَيْتِكَ إلى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ أحْوَجَ مِنْهُمْ إلى هَذَا!
تَجِيءُ إلى قَوْمٍ شَبَابٍ مُحْتَاجِينَ فَتَدُسَّ إلَيْهِمْ. فَلَعَلَّ أحَدَهُمْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ تَسْتَحِلُّ بِهَا سَفْكَ دَمِهِ. فَلَوْ بَرَرْتَهُمْ وَ وَصَلْتَهُمْ وَ أغْنَيْتَهُمْ كَانُوا أحْوَجَ مَا تُرِيدُ مِنْهُمْ!
التجسّس على العلويّين و خداعهم بالمال الكثير
قال: فلمّا أتيتُ أبا الدوانيق قلتُ له: جئتُك من عند ساحر كذّاب كاهن. من أمره كذا و كذا. قال: صدق و الله كانوا إلى غير هذا أحوج. و إيّاك أن يسمع هذا الكلام منك إنسان!۱
هؤلاء الجواسيس كانوا يطوّقون الإمام عليه السلام و أصحابه من جهة، و يحظرون عليه لقاءه بالناس من جهة اخرى. و هذه كانت مشكلة سواء للإمام الذي لم يهمّه إلّا بثّ العلوم و نشر المعارف، أم لجميع الناس الذين ينبغي أن يرتووا من منهله العذب الصافي ليخرجوا من عبوديّة العباد إلى عبوديّة الله. و مع حظر اللقاء و التدريس و التحدّث إلى الناس فسيظلّ
بحر العلم الهادر هذا مختفياً، و سيبقى جبل المعرفة الراسخ الشاهق ذاك بلا ثمرة تُذْكَر.
روى القطب الراونديّ عن هارون بن خارجة قال: كان رجل من أصحابنا طلّق امرأته ثلاثاً، فسأل أصحابنا فقالوا: ليس بشيء. فقالت امرأته: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله! و كان بالحيرة إذ ذاك أيّام أبي العبّاس. قال: فذهب إلى الحيرة و لم أقدر على كلامه إذ منع الخليفة الناس من الدخول على أبي عبد الله عليه السلام و أنا أنظر كيف ألتمس لقاءه، فإذا سواديّ عليه جبّة صوف يبيع خياراً، فقلتُ له: بكم خيارك هذا كلّه؟! قال: بدرهم! فأعطيته درهماً، و قلتُ له: أعطني جبّتك هذه! فأخذتها و لبستها و ناديتُ: من يشتري خياراً؟ و دنوتُ منه، فإذا غلام من ناحية ينادي يا صاحب الخيار! فقال عليه السلام لي لمّا دنوتُ منه: ما أجود ما احتلتَ! أيّ شيء حاجتك؟!
قلتُ: أنّي ابتُليتُ فطلّقتُ أهلي في دفعةٍ ثلاثاً، فسألتُ أصحابنا فقالوا: ليس بشيء و إن المرأة قالت: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله عليه السلام. فقال: ارْجِعْ إلى أهْلِكَ! فَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ!۱
روى ابن شهرآشوب عن محمّد بن سنان، عن المفضّل بن عمر أنّ المنصور قد كان همّ بقتل أبي عبد الله عليه السلام غير مرّةٍ. فكان إذا بعث إليه و دعاه ليقتله. فإذا نظر إليه هابه و لم يقتله غير أنّه منع الناس عنه، و منعه من القعود للناس، و استقصى عليه أشدّ الاستقصاء، حتى أنّه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه، في نكاح أو طلاق أو غير ذلك، فلا يكون علم ذلك عندهم، و لا يصلون إليه فيعتزل الرجل و أهله.
فشقّ ذلك على شيعته و صعب عليهم، حتى ألقى الله عزّ و جلّ في روع المنصور أن يسأل الصادق عليه السلام ليُتحفه بشيء من عنده، لا يكون لأحد مثله.
فبعث إليه بمِخْصَرَة۱ للنبيّ صلّى الله عليه و آله طولها ذراع. ففرح بها فرحاً شديداً، و أمر أن تشقّ له أربعة أرباع و قسّمها في أربعة مواضع.
ثمّ قال له: مَا جَزَاؤُك عِنْدِي إلَّا أنْ اطْلِقَ لَكَ، وَ تُفْشِي عِلْمَكَ لِشِيعَتِكَ وَ لَا أتَعَرَّضُ لَكَ، وَ لَا لَهُمْ، فَاقْعُدْ غَيْرَ مُحْتَشَمٍ وَ أفْتِ النَّاسَ، وَ لَا تَكُنْ في بَلَدٍ أنَا فِيهِ! فَفَشَا العِلْمُ عَنِ الصَّادِقِ.٢
تقيّة الإمام الصادق عليه السلام الشديدة و خوفه على سفيان
و ورد في بعض الآثار أنّ الإمام عليه السلام لم يُجز للراوي مجال التوقّف، لأنّه يكون مظنّة لتهمة اللقاء و الحديث، ممّا يستتبع عواقب وخيمة.
و جاء في الرواية التي نقلها سفيان الثوريّ عن الإمام عليه السلام أنّ الإمام قال له: غَيْرَ مَطْرُودٍ يَا سُفْيَانُ! فَفَرَقٌ عَلَيْكَ مِنَ السُّلْطَانِ!
و لم أعثر على الرواية الآتية التي سأنقلها عن سفيان بهذا الشكل و هذا التفصيل في المجاميع المعروفة،٣ بل أنقلها هنا عن خطٍّ مبارك للمرحوم
جدّي آية الله السيّد إبراهيم الطهرانيّ رضوان الله عليه.
لقد ذكر هذه الرواية في صفحة سابقة عن ثماني مخطوطات لُاصول قدمائنا، و كان قد جمعها في مجموعة جيبيّة بخطّ النستعليق الجميل. و فيما يأتي نصّ الرواية:
مواعظ الإمام الصادق عليه السلام لسفيان الثوريّ
رُوِيَ أنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيّ۱ قَالَ: لَمَّا حَجَجْتُ في بَعْضِ السِّنِينَ، أرَدْتُ
زِيَارَةَ الصَّادِقِ أبي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَشَدْتُ عَنْهُ فَارْشِدْتُ إلَيْهِ فَجِئْتُ، طَرَقْتُ البَابَ.
فَقَالَ: مَنْ؟! قُلْتُ: صَاحِبُكَ سُفْيَانُ!
فَفَتَحَ البَابَ وَ وَقَفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاقٍ وَ قَالَ: مَرْحَباً يَا سُفْيَانُ! مِنَ الجِهَةِ الشِّمَالِيَّةِ؟!
قُلْتُ: نَعَمْ يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ. مَا لي أرَاكَ قَدِ اعْتَزَلْتَ النَّاسَ؟!
قَالَ: يَا سُفْيَانُ! فَسَدَ الزَّمَانُ، وَ تَغَيَّرَ الإخْوَانُ، وَ تَقَلَّبَ الأعْيَانُ، فَرَأيْتُ الانْفِرَادَ أسْكَنَ لِلفُؤَادِ! أ مَعَكَ شَيءٌ تَكْتُبُ فِيهِ؟!
قُلْتُ: نَعَمْ! فَقَالَ: اكتُبْ:
ذَهَبَ الوَفَاءُ ذَهَابَ أمْسِ الذَّاهِبِ | *** | وَ النَّاسُ بَيْنَ مُخَاتِلٍ وَ مَوَارِبِ |
يَفْشُونَ بَيْنَهُمْ المَوَدَّةَ وَ الصَّفَا | *** | وَ قُلُوبُهُمْ مَحْشُوَّةٌ بِعَقَارِبِ |
قُلْتُ: زِدْنِي يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اكْتُبْ:
لَا تَجْزَعَنَّ لِوَحْدَةٍ وَ تَفَرُّدِ | *** | و مِنَ التَّفَرُّدِ في زَمَانِكَ فَازْوَد |
ذَهَبَ الإخَاءُ فَلَيْسَ ثَمَّ اخُوَّةٌ | *** | إلَّا التَّمَلُّقُ بِاللِّسَانِ وَ بِاليَدِ |
فَإذَا نَظَرْتَ جَمِيعَ مَا بِقُلُوبِهِمْ | *** | أبْصَرْتَ ثَمَّ نَقِيعَ سَمِّ الأسْوَدِ۱ |
ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: غَيْرَ مَطْرُودٍ يَا سُفْيَانُ فَفَرَقٌ عَلَيْكَ مِنَ السُّلْطَانِ! فَقُلْتُ: سَمْعاً، زِدْنِي!
قَالَ: إ ذَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْكَ الهُمُومُ فَقُلْ: لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ. وَ إ ذَا اسْتَبْطَأتَ الرِّزْقَ عَلَيْكَ فَعَلَيْكَ بالاسْتِغْفَارِ، وَ عَلَيْكَ بِالتَّقْوَى، وَ الزَمِ الصَّبْرَ، وَ كُنْ على حَذَرٍ في أمْرِ دُنيَاكَ وَ آخِرَتِكَ!٢
قَقُمْتُ وَ انْصَرَفْتُ.٣
أجل، يستفاد من هذه الرواية أنّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام كان مُحاصراً، و كان يخشى بطش المنصور به للحظاتٍ من توقّف سفيان عنده. و من الطبيعيّ أنّ مطالب مهمّة تُستشفّ من الإمعان في تضاعيف الرواية، و نُحيل ذلك إلى اولي الألباب و العلوم.
و نقل المحدِّث القمّيّ رواية اخرى عن سفيان يحسن بنا أن نذكرها هنا. قال: نُقل عن سفيان أنّه لقى الإمام جعفر الصادق عليه السلام، و قال له: يا بن رسول الله انصحني! فقال عليه السلام: يَا سُفْيَانُ! لَا مُرُوَّةَ لِكَذُوبٍ، وَ لَا أخَ لِمُلُوكٍ، وَ لَا رَاحَةَ لِحَسُودٍ، وَ لَا سُؤْدَدَ لِسَيِّئِ الخُلْقِ.
فقال: يا بن رسول الله زدني! فقال عليه السلام:
يَا سُفْيَانُ! ثِقْ باللهِ إن كُنتَ مُؤمِناً، وَ ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ غَنِيّاً، وَ أحْسِن مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَ لَا تَصْحَبِ الفَاجِرَ فَيُعَلِّمَكَ مِنْ فُجُورِهِ، وَ شَاوِرْ في أمْرِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ!
إلى أن قال: و ممّا أوصاني به أبي أنّه قال: يَا بني مَنْ يَصْحَبْ صَاحِبَ السَّوْءِ لَا يَسْلَمْ، وَ مَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السَّوْءِ يُتَّهَمْ، وَ مَنْ لَا يَمْلِكْ لِسَانَهُ يَأثَمْ.۱
كانت مصيبة الإمام الكبرى ابتلاءه بولاة الجور بالمدينة
في العصرين الأمويّ و العبّاسيّ
إذا أحصينا السنين التي استغرقتها إمامة الإمام جعفر الصادق عليه
السلام منذ وفاة والده سنة ۱۱٤ حتى وفاته سنة ۱٤۸، وجدناها تبلغ أربعاً و ثلاثين سنة. و قد عاصر فيها الإمام عليه السلام الحكومتين السفّاكتين الهتّاكتين: الأمويّة و العبّاسيّة. و فيما يأتي أسماء السلاطين الجائرين الذين عاصروه: هشام بن عبد الملك المتوفّى سنة ۱٢٥، و الوليد بن يزيد بن عبد الملك المتوفّى سنة ۱٢٦، و إبراهيم بن يزيد بن عبد الملك المتوفّى سنة ۱٢۷، و مروان بن محمّد بن مروان بن الحكم المتوفّى سنة ۱٣٢، و أبو العبّاس السفّاح المتوفّى سنة ۱٣٦، و أبو جعفر المنصور الدوانيقيّ المتوفّى سنة ۱٥۸، و هو الذي قضى على الإمام بالسمّ سنة ۱٤۸، و عاش بعده عشر سنين. و بلغت المدّة التي عاصر فيها الإمام عليه السلام المنصور اثنتي عشرة سنة. و يتبيّن هذا الأمر جيّداً من ملاحظة الجدول أدناه. ۱
سنون الحكومة الامويّة و المروانيّة
...۱
معاناة الإمام الصادق عليه السلام من الولاة الجائرين
يتولّى ولاة المدينة المنصوبون من قبل السلطان مقاليد الحكم فيصدرون الأوامر، و يقتلون و يصلبون و ينهبون، و يقيمون الجمعة و يخطبون فيها، و يقيمون صلاة العيدين، و صلاة الجماعة و غير ذلك من الامور التي تعدّ من مناصب السلطان. فهم بمنزلة مكبّرة الصوت لأفكار السلطان و آرائه و آثاره و نيّاته و عقائده. و هم - في الحقيقة - نوّابه و يأتون في الدرجة الثانية بعده.
و من الواضح أنّ السلطان لا ينصب شخصاً مخالفاً له في العمل و القصد و المنهج و الاسلوب، لأنّ مثل هذا النصب بمنزلة إضعاف حكومته و إمارته. و إضعاف الحكومة يعني ضعف الحدود، و من ثمّ ضعف استقلال المركزيّة و وحدة البلاد.
من هنا، كان السلاطين الأمويّون و العبّاسيّون الذين يعدّون من النواصب أعداء آل محمّد يسعون دائماً في نصب ألدّ أعداء أهل البيت و أقساهم على المدينة التي كانت مركز أهل البيت وَرَثة الرسول الأكرم.
و هم ممّن كانوا منقادين لأوامرهم، و نيفّذونها بنحو أكمل و أتمّ.
فانظروا ما ذا سيجري في تلك الفترات المظلمة الطويلة على أهل البيت بخاصّة على الأئمّة الذين كان لهم عنوان الرئاسة و الزعامة؟!
و كانت المشاركة في صلاة الجمعة و الجماعة واجبة من جهة، و إذا لم يحضر أحد يؤاخذه الوالي، و من جهة اخرى كان حاكم المدينة يمجّد و يعظّم رؤساءه في كلّ خطبة. و يسبّ عليّاً عليه السلام حتى عصر عمر بن عبد العزيز، و يعدّ مثالب الأعداء فضائل لأهل البيت، و على العكس فضائل أهل البيت مثالب الأعداء. سُبْحَانَ اللهِ! أيّ قلب للحقائق هذا! و أيّ تحريف في القول و العمل؟!
مع هذه الأحوال، على أئمّة الشيعة عليهم السلام أن يجلسوا تحت منابر وعّاظ السلاطين و يستمعوا. فإذا نهضوا للمناقشة، فإنّ عملهم هذا يمسّ أصل الجهاز الحاكم، و يعدّ مسّاً للسلطات العليا. و كنّا نرى و نلاحظ ما ذا يستتبع من عواقب وخيمة. و إذا سكتوا و لم يُدافعوا، فأيّ غيور يتحمّل قذفَ فاتح بدر و احد و خيبر و حُنين بحبّ الدنيا و الرئاسة، و عدّ اولئك الأوغاد الجبناء محبّين للإسلام مفكِّرين بالمصلحة العامّة؟!
أنا كلّما أفكّر، لا أتصوّر مصيبة أعظم من هذه المصيبة، و لا أخال عناءً و موتاً بطيئاً أمرّ و أشدّ من هذا العناء و هذا الموت البطيء.
كان الإمام جعفر الصادق عليه الصلاة و السلام يواجه هذه المشكلات، و لو لا سكوته لما بقي اسم للمذهب الشيعيّ و الحديث الإماميّ. و لرُمي بيته بالحجارة، و احرق، و اسقط سقفه على الأحياء. و لو سكت فسكوته يعني تأييد تلك الخطب الباطلة التي تُلقى لتثبت حكم السلطان، و سير الامور في نقطة مضادّة للحقّ، و سيتماشى مع الباطل.
فلهذا نجد إمامنا و وليّنا الفاني الناطق الساكت، و مُظهر المعجزة كان يعترض و يدافع في كلماته بين الحين و الآخر كي لا يتغلّب الباطل و يشوّه
وجه الحقيقة بصدأ التمويه و الخدع و المكر الفاسد. و لم يَدَع عليه السلام النطق بالحقّ في مثل هذه المواقف و إن أدّى ذلك إلى قتله و القضاء عليه.
لأنّ للحياة شأنها و اعتبارها إلى درجة معيّنة ما دامت لا تُفضي إلى التجريد من الشرف الرفيع، و إلّا فالموت خير من الحياة حينئذٍ.
خطبة والي المدينة و اعتراض الإمام الصادق عليه السلام
روى الشيخ الطوسيّ في أماليه عن الشيخ المفيد بسنده المتّصل عن عبد الله بن سليمان التميميّ، قال: لمّا قُتل محمّد و إبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن عليه السلام، صار إلى المدينة رجل يقال له شَيْبَة بن غفال، ولّاه المنصور على أهلها. فلمّا قدمها، و حضرت الجمعة، صار إلى مسجد النبيّ صلّى الله عليه و آله فرقى المنبر و حمد الله و أثنى عليه، ثمّ قال: أمَّا بَعْدُ، فَإنَّ عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ شَقَّ عَصَا المُسْلِمِينَ، وَ حَارَبَ المُؤْمِنِينَ، وَ أرَادَ الأمْرَ لِنَفْسِهِ، وَ مَنَعَهُ أهْلُهُ، فَحَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْهِ وَ أمَاتَهُ بِغُصَّتِهِ.
وَ هَؤُلَاءِ وُلْدُهُ يَتَّبِعُونَ أثَرَهُ في الفَسَادِ وَ طَلَبِ الأمْرِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لَهُ، فَهُمْ فِي نَوَاحِي الأرْضِ مَقْتُولُونَ، وَ بِالدِّمَاءِ مُضَرَّجُونَ.
فعظم هذا الكلام منه على الناس، و لم يجسر أحد منهم ينطق بحرفٍ. فقام إليه رجل عليه إزار قومسيّ سخين، فقال:
وَ نَحْنُ نَحْمَدُ اللهَ وَ نُصَلِّى عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، وَ عَلَى رُسُلِ اللهِ وَ أنْبِيَائِهِ أجْمَعِينَ! أمَّا مَا قُلْتَ مِنْ خَيْرٍ فَنَحْنُ أهْلُهُ، وَ مَا قُلْتَ مِنْ سُوءٍ فَأنْتَ وَ صَاحِبُكَ بِهِ أوْلَى. فَاخْتَبِرْ يَا مَنْ رَكِبَ غَيْرَ رَاحِلَتِهِ، وَ أكَلَ غَيْرَ زَادِهِ! ارْجِعْ مَأزُوراً!
ثمّ أقبل على الناس، فقال:
أ لَا انَبِّئُكُمْ بِأخْلَى النَّاسِ مِيزَاناً يَوْمَ القِيَامَةِ، وَ أبْيَنِهِمْ خُسْرَاناً؟ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَ هُوَ هَذَا الفَاسِقُ!
فأسكت الناس، و خرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرفٍ. فسألتُ
عن الرجل، فقيل لي: هَذَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ ابْنِ أبي طَالِبٍ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ.۱
و روى في «علل الشرائع» بسنده عن الربيع صاحب المنصور قال: قال المنصور يوماً لأبي عبد الله عليه السلام و قد وقع على المنصور ذباب فذبّه عنه، ثمّ وقع عليه فذبّه عنه، ثمّ وقع عليه فذبّه عنه، فقال: يا أبا عبد الله! لأيّ شيءٍ خَلَقَ الله عزّ و جلّ الذبابَ؟ قال: لِيُذِلَّ بِهِ الجَبَّارِينَ.٢
روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام قال: كنتُ قد زياد بن عبيد الله و جماعة من أهل بيتي، فقال:
يا بني عليّ و فاطمة! ما فضلكم على الناس؟ فسكتوا، فقلتُ: إن مِنْ فَضْلِنَا عَلَى النَّاسِ أنَّا لَا نُحِبُّ أنْ نَكُونَ مِنْ أحَدٍ سِوَانَا، وَ لَيْسَ أحَدٌ مِنَ النَّاسِ لَا يُحِبُّ أنْ يَكُونَ مِنَّا إلَّا أشْرَكَ!
ثمّ قال: ارْوُوا هَذَا الحَدِيث.٣
و قال آية الله المظفّر بعد نقل هذه القصّة في كتابه بدون كلمة إلَّا أشْرَكَ: لقد جاءه بالمُسكِت. و هذه الكلمة على اختصارها جمعت
الفضائل، و أغنت عن الدلائل.۱
قتل المعلى بن خنيس و مصادرة أموال الإمام عليه السلام
و كان داود بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس (عمّ المنصور الدوانيقيّ) والياً على المدينة من قبل المنصور، فأرسل خلف المعلّى بن خُنيس مولى الصادق عليه السلام، و أراد أن يدلّه على أصحاب الصادق عليه السلام و خواصّه، فتجاهل عليه المعلّى بمعرفتهم، فألحّ عليه، ثمّ هدّده بالقتل، فقال له المعلّى:
أ بالقَتْلِ تُهَدِّدُنِي؟ وَ اللهِ لَوْ كَانُوا تَحْتَ قَدَمِي مَا رَفَعْتُ قَدَمِي عَنْهُمْ.
وَ إن أنْتَ قَتَلْتَنِي تُسْعِدْنِي، وَ أشْقَيْتُكَ!
فلمّا رأى داود شدّة امتناع المعلّى، قتله، و استلب أمواله، و كانت للصادق عليه السلام.
فلمّا بلغ الصادق ذلك قام مغضباً يجرّ رداءه و دخل على داود، و قال له: قَتَلْتَ مَوْلَايَ وَ أخَذْتَ مَالِي! أ مَا عَلِمْتَ أنَّ الرَّجُلَ يَنَامُ عَلَى الثَّكْلِ وَ لَا يَنَامُ على الحَربِ؟!
ثمّ إن الصادق عليه السلام طلب منه القِوَدَ، فقدّم له قاتله فقتله به، و هو صاحب شرطته. و لمّا قدّموه ليقتل اقتصاصاً جعل يصيح: يأمروني أن أقتل لهم الناس، ثمّ يقتلونني!
ثمّ إن داود بعد ذلك أرسل خمسة من الحرس خلف الصادق عليه السلام، و قال لهم: ائتوني به. فإن أبي فائتوني برأسه! فدخلوا عليه و هو يصلّي، فقالوا: أجب داود! قال: فإن لم اجب. قالوا: امرنا بأمرٍ. قال:
انصَرِفُوا فَإنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ في دُنيَاكُمْ وَ آخِرَتِكُمْ! فأبوا إلّا خروجه. فرفع يديه فوضعهما على منكبيه، ثمّ بسطهما، ثمّ دعا بسبّابته، فسُمع يقول: السَّاعَةَ!
السَّاعَةَ! حتى سُمِعَ صُرَاخٌ عَالٍ. فَقَالَ لَهُمْ: إن صَاحِبَكُمْ قَدْ مَاتَ، فَانْصَرَفُوا.۱
و ذكر الكلينيّ، و الحافظ رجب البُرسيّ، و ابن شهرآشوب مضمون هذه القصّة و محتواها.٢
أجل، هذه بعض المواقف التي سجّلها الإمام عليه السلام مقاوماً أمام أبي الدوانيق، مؤاخِذاً إيّاه أو مؤاخِذاً ولاته المنصوبين على المدينة من قبله، و إن أدّى ذلك إلى مقتله و بذل مهجته و إبداء صفحته للسيف.
كان المعلى بن خُنَيْس من الرواة الموثّقين، و من أهل الجنّة. دعا الإمام عليه السلام بالخير له. و عيبه الوحيد أنّه كان يكشف أسرار الإمام، و يتحدّث بما عنده من أسرار ملكوتيّة أمام المناوئين. و منعه الإمام عليه السلام مراراً، فلم يمتنع، حتى أفضى ذلك إلى شهرته، فدعاه والي المدينة من بين أصحاب الإمام ليدلّه عليهم، بَيدَ أنّه صمد و لم يبح بشيء حتى قُتل و صُلِبَ و سُلِبَ.
الإمام جعفر الصادق عليه السلام تحت الإقامة الجبريّة في المدينة.
على الرغم من جميع ما ذكرناه، و من تلك الرّحلات العديدة، و المحاورات التي كانت للإمام الصادق عليه السلام مع المنصور، و كلماته المنطقيّة العلميّة التي أعيت المنصور عن الجواب، بَيدَ أنّه لم يكن مختاراً
في كلامه و بيانه و تدريسه و لقائه اولي الإقبال و الإيمان. فقد كان خاضعاً لرقابة المنصور و ولاته الجائرين و جواسيسه المتنوّعين، و كان محرَجاً من بعض المتردّدين عليه حتى جاز لنا أن نقول: إنّه كان تحت الإقامة الجبريّة، و لم يُسمح له بالخروج من المدينة و لقاء أرباب الولاية.
روى الشيخ الكشِّيّ بسنده عن عَنْبَسة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أشْكُو إلى اللهِ وَحْدَتِي، وَ تَقَلْقُلِي مِنْ أهْلِ المَدِينَةِ حتى تَقْدَمُوا، وَ أرَاكُمْ وَ اسَرَّ بِكُمْ. قَلَيْتَ هَذِهِ الطَّاغِيَةَ أذِنَ لي فَاتَّخَذْتُ قَصْراً فَسَكَنْتُهُ وَ أسْكَنْتُكُمْ مَعِي، وَ أضْمَنُ لَهُ أنْ لَا يَجِيءَ مِنْ نَاحِيَتِنَا مَكْرُوهٌ أبَداً.۱
و روى أيضاً بسنده عن عيص بن القاسم قال: دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام مع خالي سليمان بن خالد، فقال لخالي: مَن هَذَا الفتى؟! قال:
هذا ابن اختي! قال: فَيَعْرِفُ أمْرَكُمْ؟! فقال له: نعم! فقال: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي لَمْ يَجْعَلْهُ شَيْطَاناً. ثمّ قال: يَا لَيْتَنِي وَ إيَّاكُمْ بِالطَّائِفِ، احَدِّثُكُمْ وَ تُؤْنِسُونِّي، وَ أضْمَنُ لَهُمْ أنْ لَا نَخْرُجَ عَلَيْهِمْ أبَداً.٢
أجل، ها نحن نريد أن نختم البحث الأوّل المرتبط بموقع الإمام جعفر الصادق عليه السلام و علاقاته بالمنصور، ثمّ ندخل في البحث الثاني الذي يدور حول مدرسة الإمام عليه السلام و علومه و تلاميذه. فمن المناسب أن نسرد محصّلة لأبحاث الماضي في سياق تثبيتها و تقريرها، بألفاظٍ للمستشار عبد الحليم الجنديّ:
من كلام لأفلاطون قال فيه: السُّلْطَانُ كَرَاكِبِ الأسَدِ، يَهَابُهُ النَّاسُ وَ هُوَ لِمَرْكُوبِهِ أهْيَبُ.
تبديل الثورة الدينيّة للعبّاسيّين إلى إمبراطوريّة
آلت الخلافة إلى بني العبّاس سنة ۱٣٢، و كان السفّاح أوّل خلفائهم.
ثمّ مات، فخلفه أبو جعفر المنصور، ليبقى في الخلافة اثنين و عشرين عاماً (۱٣٦ - ۱٥۸). وطّد فيها أركان الدولة العبّاسيّة، و أخضع الخارجين عليها في كلّ أرجاء «الإمبراطوريّة» فهي لم تعد دولة دينيّة كما دعوا لها منذ بثّوا دعاتهم من فاتحة القرن، و لم تصر للرضا من آل محمّد، كما كانوا يدعون. بل غصبوا حقّ أبناء عليّ، كما كان بنو عليّ عند قيامها عاجزين عن تولّي السلطة. و كان أحقّهم بها - و هو جعفر بن محمّد - عازفاً عنها، عارفاً أنّ مهمّة حياته هي تعليم المسلمين.
و جرت الامور مجراها الطبيعيّ للغالبين على السلطة، يطوون أضالعهم على الخوف و الحقد و الحذر. و يشرعون أسلحتهم في كلّ مكان للدفاع عن دولتهم. و كان ذوو القربى في طليعة الأعداء. فاستعرت الشحناء بين الأقرباء. ثمّ سالت الدماء. و جعفر الصادق، بعزوفه و استعلائه، بعيد عن المذابح. لكن بعده عنها لا يقيه بطش خليفة حَذِر متنمّر، تدعوه إلى المواجهة الشرسة ما توسوس له هواجسه مخافة أهل البيت و شيعتهم.
و كان توفيق السماء حليف الإمام في مواجهاته، و إن بقيت الدولة على حذرها، تنزل بأهل البيت العذاب و الاسترهاب و الحبس و القتل للخلاص منهم - مع التظاهر بالعدل فيهم، حتى تقطع دابرهم.۱
اعتقال الإمام الصادق عليه السلام و دعاؤه بالخلاص
أرسل إليه (إلى الإمام الصادق) أبو جعفر (المنصور) ذات يوم رزام بن قيس يدعوه للقائه، ففصلا عن المدينة، حتى بلغا النجف. فنزل جعفر عن راحلته، فأسبغ الوضوء و صلّى ركعتين، ثمّ رفع يديه و هو يقول: اللَهُمَّ بِكَ أسْتَفْتِحُ، وَ بِكَ أسْتَنْجِحُ، وَ بِمُحمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ أتَوَسَّلُ. اللَهُمَ
سَهِّلْ حُزونَتَهُ، وَ ذَلِّلْ لي صُعُوبَتَهُ، وَ أعْطِنِي مِنَ الخَيْرِ أكْثَرَ مِمَّا أرْجُو، وَ اصْرِفْ عَنِّي مِنَ الشَّرِّ أكْثَرَ مِمَّا أخَافُ.
ثمّ ركب راحلته حتى إذا بلغا قصر المنصور، أعْلَمَ المنصور بمكانه.
فلم يحجبه قليلًا أو كثيراً، بل تفتّحت الأبواب، و رفعت الستر. فلمّا قرب من المنصور قام إليه فتلقّاه، و أخذ بيده و ماشاه، حتى انتهى به إلى مجلسه، ثمّ أقبل عليه يسأله عن حاله!
و ذات يوم عزم المنصور على حاجبه الربيع بن يونس أن يدعوه، و كانت تبرق في أساريره بوارق الخطر. فلمّا خرج من اللقاء بسلامٍ، سأل الربيع الإمام الصادق عن الدعاء الذي دعا به ربّه فأكرمه الله في لقاء المنصور، فأخبره به. فالصادق يستحضر رضى بارئ السماء في كلّ آونة و تعينه السماء.
و مع ذلك السلام الذي نشده الصادق و علمه، يروي الطبريّ أنّ المنصور لمّا عزم الحجّ - في آخر أيّامه - دعا رِيطة ابنة أبي العبّاس زوج المهدي، و كان زوجها بالري، فأوصاها بما شاء و دفع اليها مفاتيح غرفة بها خزانته، و أمرها ألّا تسلّمها إلى المهدي إلّا عند ما يجيء نبأ موت المنصور.
فلمّا مات، ذهبت ريطة و المهدي ففتحا الغرفة فإذا بقتلي من بني عليّ في آذانهم رقاع، فيها أنسابهم و هم بين شيوخ و شباب و أطفال. فلمّا رأى المهدي ذلك ارتاع. فحفرت لهم مقبرة دفنوا فيها، ثمّ بني عليها دكّاناً.
لم يكن المنصور يكتفي بأن يقول مقالة لويس الرابع عشر بعد ثمانية قرون: أنَا الدَّوْلَةُ! ذلك المقال إلى نبذه و استهجنه الساسة و المؤرّخون في الشرق و الغرب، بل كان المنصور يدّعي دعوى أبعد و أشدّ. كان يخطب فيقول: إنَّما أنَا سُلْطَانُ اللهِ في الأرْضِ. فيجمع في يده ما عجز عنه الأباطرة و البابوات جميعاً.
فإنّما تقاسم الإمبراطور و الكنيسة الأشياء في القرن التاسع للميلاد، فصار لقيصر ملك الأرض و للكنيسة مملكة السماء. أمّا أبو جعفر المنصور فادّعى في الأرض سلطان السماء. و أيّ شيءٍ يُستبعَد على صاحب هذه الدعوى؟!
و أبو جعفر - مع ذلك - ليس إلّا واحد من المستبدّين الذين يزخر سِجلّ التأريخ بخطاياهم أو ضحاياهم. اليك مثلًا واحداً من تأريخ الدولة التي تلقي اليها الديمقراطيّة الغربيّة مقاليدها.
لقد أرسل هنري الأوّل ملك إنجلترا فرسانه يقتلون توماس بيكت رئيس أساقفة لندن من أجل خلافه معه في ولاية العهد لابنه في الثلث الأخير من القرن الثاني عشر.
و في الثلث الأوّل من القرن السادس عشر بعث هنري ملك إنجلترا توماس ولزي رئيس أساقفة يورك إلى السجن ريثما يصدر عليه حكم الإعدام، فمات قبل أن يعدم. ثمّ أرسل إلى المقصلة توماس مور قضاته من أجل خلافهما له في زواجه و طلاقه.
و لقد كان فزع المنصور من أجل دولته حريّاً أن يخرجه عن الاتّزان فيستحوذ عليه الشيطان لو لا إمساك الإمام الصادق بالأعنّة كلّها كلّما لقيه، فكان يضعه في موضع النصفة.
و الذين يهابون لقاء الملوك ضعفاء عن إخفاء دخائلهم من البغض أو الحسد أو الخوف. و الذين ليس في قلوبهم من ذلك شيء يشجّعون. أمّا الأئمّة عليهم السلام فالله معهم، و هو حسبهم. و أين من هذا الذي معه مالك الأرض و السماء، ملوك دولة أو إقليم؟!
من أجل ذلك يشجّع الرجال الصدق إذ يستشهدون. و من أجله نظر الصادق إلى أبي جعفر في شجاعة و صدق. فكان يلزمه القصد و النصفة.
و لا عجب إذا كان أبو جعفر في دخيلة نفسه يريد ليحفظ ظاهر الأمر في وقار من لا يسفك الدم إلّا بقدر. و الصادق حجّة له في ثبات حكمه مذ كان لا يرى بيعة غيره.
و أبو جعفر عليم بما يجري في ملكه، و هو من مطالع حكمه يستعمل العسس في كلّ اتّجاه. فلم يلبث سنين حتى أصبح يعلم بكاء ابنة مالك بن أنس من الجوع في داخل الدار، و هي و أبوها يكتمانه إلّا على الله سبحانه!
و أبو جعفر هو القائل عن أوتاد حكمه: ما أحوجني إلى أن يكون على بأبي أربعة نفر لا يكون على بأبي أعفّ منهم. و هم أركان الدولة لا يصلح الملك إلّا بهم. أمّا أحدهم فقاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم.
و الآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القويّ. و الثالث صاحب خراج يستقصي و لا يظلم الرعيّة. ثمّ عضّ على إصبعه السبّابة ثلاث مرّات يقول:
آه آه! قيل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحّة!۱
بعض الإصلاحات التي قام بها عمر بن عبد العزيز
و قال في مقام آخر:
شهد الإمام الصادق عليه السلام انحدار الناس بعد عصر الخلفاء الراشدين، و رأى بعين الصبى المأمول من أهل بيت الرسول ما صنعه عمر بن عبد العزيز في خلافته بين سنتي ٩۸ و ۱۰۱، إذ أعاد الدينَ غضّاً في نحو من ثلاثين شهراً، و أثبت للدنيا أنّ المدّة كما سمّى الناس خلافته كانت كافية لتعيد الناس إلى الإسلام الصحيح عند ما يوجد خليفة صادق العزم يتّخذ الخلافة - كما قال - سبيلًا إلى الجنّة.
و كان بعض الصالحين يستعجلون عمر ليصنع كلّ ما صنع في أوّل
يوم ولى الخلافة. قال له ابنه عبد الملك: يَا أبَتِ مَا بَالُكَ لَا تُنْفِذُ الامورَ، فَوَ اللهِ لَا ابَالِي في الحَقِّ لَوْ غَلَتْ بِيَ القُدُورُ! لكن عمر كان يتأنّى للُامور في رفقٍ و أناةٍ و إصرار. قال: لَا تَعْجَلْ يَا بني! إن اللهَ تَعَالَى ذَمَّ الخَمْرَ مَرَّتَيْنِ وَ حَرَّمَهَا في الثَّالِثَةِ، وَ أنّي أخَافُ أنْ أحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الحَقِّ جُمْلَةً، فَيَدْفَعُوهُ جُمْلَةً فَتَكُونَ فِتْنَةٌ.
و بهذا قدر على أن يردّ المظالم و أغنى الله الناس على يديه. فأصبح عمر لا يجد فقراء يوزّع المال عليهم في المدينة أو في القرية. لكن الإمام الصادق علم العزم الصادق في حياة الخليفة (ابن عبد العزيز) لذا لم تثمر إصلاحاته بعد مماته، لأنّه قد دمّرها الخلفاء الذين جاءوا بعده، و تتابع الباقون يدمّرون.
و شهد الإمام الصادق عليه السلام مقدم بني العبّاس و كيف ناقضوا شعارات دولتهم و حكموا حكم جاهليّة. هكذا رأى رأي العيان أنّ صلاح الأمر لا يكون بتولّي السلطة، أو بمجرّد إصلاحها مدّة قصيرة أو طويلة.
و كلّ عمر قصير. و إنّما الصلاح في إصلاح الامّة. فَكَيْفَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ، وَ لِكُلِّ امَّةٍ الحُكُومَةُ التي تَسْتَحِقُّهَا. و استيقنت نفسه الصوابَ فيما صنعه أبوه و جدّه، و هو أن يعلِّموا الامّة. فإذا تعلّمت صلحت فلم يستضعفها حكّامها. و هي عندئذٍ تأمرهم بالمعروف و تنهاهم عن المنكر و تشركهم تبعاتهم. فالامّة القويّة لا تظلم حكّامها و لا يظلمونها.
و بشعار الثِّقَةُ بِاللهِ سُبْحَانَهُ. اللهُ وَلِيّ وَ عِصْمَتِي مِنْ خَلْقِهِ، و بنقش الخاتم الذي يعلن مصدر قوّته مَا شَاءَ اللهُ. لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ. أسْتَغْفِرُ اللهَ.
قصد إلى مجلس العلم في مسجد النبيّ أو في داره. يستعمل البعد المكانيّ حيث يجلس للتعليم في مدينة الرسول؛ و البعد الزمانيّ، فهو تابعيّ يعيش في جيل التابعين و تابعي التابعين؛ و البعد الثالث و هو ارتفاع نسبه إلى النبيّ
و عليّ. أمّا البعد الرابع فعمق علمه و علم أبيه و جدّه.
في هذا المجلس المهيب بالمدينة أو بالكوفة يجلس رجل ربعة.
ليس بالطويل و لا بالقصير. أزهر له لمعان كالسراج. يسعى نوره بين يديه.
رقيق البشرة، أسود الشعر جعده، أشمّ الأنف. أنزع قد انحسر الشعر عن جبينه فبدا مزهراً، له إشراق، و على خدّه خال أسود.
المُسْلِمُونَ أيَامَئذٍ أحْوَجُ إلَيْهِ لِيُعَلِّمَهُمْ، مِنْهُمْ إلَيْهِ لِيَحْكُمَهُمْ.
كلّ ما يحيط به يوحي بالرجاء في فضل الله. فلمّا طعن في السِّنِّ زاد جلالًا و سناءً و إحياءً للأمل. يلبس الملابس التي عناها جدّه عليه الصلاة و السلام حينما قال: كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ البَسُوا في غَيْرِ سَرَفٍ وَ لَا مَخِيلَةٍ!
حوار الإمام الصادق عليه السلام مع المتصوّفة حول الزهد الحقيقيّ
رآه سفيان الثوريّ و عليه جبّة خزّ دكناء، فقال: يا بن رسول الله ما هذا لباسُك! فقال: يا ثَوْريّ! لبسنا هذا لكم. ثمّ كشف عن جبّة صوفٍ يلبسها، و قال: و لبسنا هذا للّه.
كان جدّه عليّ يختار الخشن من الألبسة و يلحّ الجوع عليه فيعلّل معدته بقرص شعير. يخيط نعله إن لم يكن مشغولًا، أو يتركه لم يخيطه بأجر إذا انشغل، لكن الزمان يتغيّر فيغيّر الصادق ليظهر أثر النعمة. و يقول للناس:
إذَا أنْعَمَ اللهُ على عَبْدِهِ بِنَعْمَةٍ أحَبَّ أنْ يَرَاهَا عَلَيْهِ. لأنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ.
و يقول: إن اللهَ يُحِبُّ الجَمَالَ وَ التَّجَمُّلَ، وَ يَكْرَهُ البُؤْسَ وَ التَّبَاؤُسَ.
و النظافة من الإيمان. فيها الكرامة و السلامة للنفس و للُاسرة و للمدينة. فعلى المرء كما يقول الإمام:
أنْ يُنَظِّفَ ثَوْبَهُ وَ يُطَيِّبَ رِيحَهُ، وَ يُجَصِّصَ دَارَهُ، وَ يَكْنِسَ أفْنِيَتَهُ.
و ذات يوم رآه عبّاد بن كثير البصريّ في الطواف فقال له:
تَلْبَسُ هَذِهِ الثِّيَابَ في هَذَا المَوْضِعِ وَ أنْتَ في المَكَانِ الذي أنْتَ فِيهِ مِنْ عَلِيّ؟!
فأجاب كما يروي الإمام نفسه: فقلتُ: فُرقُبيّ نسبة إلى فُرْقُب، حيث تصنع ثياب كتّان أبيض.
اشتَرَيْتُهُ بِدِينَارٍ. وَ قَدْ كَانَ عَلِيّ في زَمَنٍ يَسْتَقِيمُ لَهُ مَا لَيْسَ فِيهِ. وَ لَوْ لَبِسَ مِثْلَ ذَلِكَ اللِّبَاسِ في زَمَانِنَا لَقَالَ النَّاسُ: هَذَا مُرَائِيّ مِثْلُ «عَبَّادٍ».
قيل له يوماً: كَانَ أبُوكَ وَ كَانَ ... فَمَا لِهَذِهِ الثِّيَابِ المَرْوِيَّةِ! (حرير مرو).
فأجَاب: وَيْلَكَ! فَمَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التي أخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ؟
و إنّك لترى آثار النعمة على مالك و أبي حنيفة، و إجابات مشتقّة بدقّة من هذه الإجابات، في ردود الرجلين بشأن ملابسهما و أنعم الله عليهما، و كان كلاهما لبّاساً.
فَالمَذْمُومُ مِنَ الثِّيَابِ مَا فِيهِ خُيَلَاءُ، وَ المَحْمُودُ مَا كَانَ إظْهَاراً لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ.
حتّى أنّ تلميذه العظيم الثالث سفيان الثَّوريّ، و هو إمام الزهد و الورع و الحديث و الفقه، قد انتفع بدروس الإمام في الملبس فأمسى يقول: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا هُوَ بِقَصْرِ الأمَلِ، لَيْسَ بِأكْلِ الخَشِنِ، وَ لَا بِلُبْسِ الغَلِيظِ، ازْهَدْ في الدُّنْيَا ثُمَّ نَمْ! لَا لَكَ وَ لا عَلَيْكَ!
إن الرَّجُلَ لَيَكُونُ عِندَهُ المَالُ وَ هُوَ زَاهِدٌ في الدُّنْيَا. وَ إن الرَّجُلَ لَيَكُونُ فَقِيراً وَ هُوَ رَاغِبٌ فِيهَا.
و كان الرسول عليه الصلاة و السلام يلبس ما تيسَّر من الصوف تارةً، و من القطن تارةً، و من الكتّان تارةً. و كانت مخدّته من أدم حشوها ليف
نخل. و لمّا قال له رجل: يا رَسُولَ اللهِ! أنا احبّ يكون ثوبي حسناً و نعلى حسنة، أ فمن الكبر ذاك؟ قال: لَا. إن اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ. الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَ غَمْطُ النَّاسِ.
و لم يعب الصحابة بعضهم على بعض الملابس من أعلى و أدنى.
لا يعيب صاحب الخزّ على صاحب الصوف و لا صاحب الصوف يعيب على صاحب الخزّ.۱
البحث الثاني في مدرسة الإمام الصادق عليه السلام و علومه و تلامذته
يصوّر المستشرق رونلدسن بعض مجالس الإمام عليه السلام مع تلاميذه، فيقول: و من الوصف الذي نقرأه عن إكرام جعفر الصادق ضيوفه في بستانه الجميل في المدينة، و استقباله الناس على اختلاف مذاهبهم، يظهر لنا أنّه كانت له مدرسة شبه سقراطيّة. و قد ساهم تلاميذه مساهمة عظمى في تقدّم عِلمَي الفقه و الكلام. و صار اثنان من تلامذته، و هما أبو حنيفة و مالك فيما بعد من أصحاب المذاهب الفقهيّة. و أفتوا بالمدينة أنّ اليمين التي اعطيت في بيعة المنصور لا تعتبر ما دامت اعطيت بالإكراه.
و يروي أنّ تلميذاً آخر من تلامذته و هو واصل بن عطاء، رئيس المعتزلة، جاء بنظريّات في الجدل ممّا أدّى إلى إخراجه من حلقة تدريس الإمام جعفر. و كان جابر بن حيّان الكيميائيّ الشهير من تلامذته أيضاً.٢
تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام أربعة آلاف
و قد صنّف الحافظ أبو العبّاس بن عقدة كتاباً جمع فيه رجال الصادق و رواة حديثه و أنهاهم إلى أربعة آلاف. و كتب من أجوبته أربعمائة مصنّف. و إنّما أمكنه من ذلك انقطاعه المخلص للتعليم عامّة و تعليم السنن و الفقه و التفسير خاصّة، للشيعة و لغيرهم.۱
قال المرحوم آية الله السيّد محسن الأمين العامليّ: و بالجملة كان عصره أقلّ عصور أهل بيته خوفاً فكثرت الرواة و المصنّفون في الحديث من الشيعة في زمانه أكثر من زمان أبيه. و لم يرو عن أحد من أهل بيته ما روى عنه حتى قال الحسن بن عليّ الوشّا، من أصحاب الرضا عليه السلام:
أدْرَكْتُ في هَذَا المَسْجِدِ (يَعْنِي مَسْجِدَ الكُوفَةِ) تِسْعَمائَةِ شَيْخٍ كُلٌّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي جَعفَرُ بْنُ محَمَّدٍ.
هذا ما أدركه راوٍ واحد في عصر متأخّر. و روى عنه راوٍ واحد - و هو أبَانُ بْنُ تَغْلِب - ثلاثين ألف حديث.
و أفرد الحافظ أبو العبّاس أحمد بن عقدة الزيديّ الكوفيّ كتاباً فيمن روى عنه عليه السلام، جمع فيه أربعة آلاف إنسان و ذكر مصنّفاتهم و لم يذكر جميع من روى عنه. و يدلّ كلام المفيد في «الإرشاد» على أنّ هذه أسماء الثقات منهم خاصّة، حيث قال عند ذكر الصادق عليه السلام:
و نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، و انتشر ذكره في البلاد، و لم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقل عنه. فإنّ أصحاب الحديث نقلوا أسماء الرواة عنه الثقات على اختلافهم في الآراء و المقالات فكانوا أربعة آلاف رجل - انتهى.
و أحصاهم الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ أربعة آلاف في باب أصحاب الصادق عليه السلام من كتاب رجاله. أي: قال إنّهم أربعة آلاف، لا أنّه ذكر أسماء أربعة آلاف رجل منهم في كتابه.
و قال الطبرسيّ في «إعلام الوري»: قد تضافر النقل بأنّ الذين رووا عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام من مشهوري أهل العلم أربعة آلاف إنسان.
و قال المحقّق في «المعتبر»: انتشر عن جعفر بن محمّد من العلوم الجمّة ما بهر به العقول. و روى عنه ما يقارب أربعة آلاف رجل، و برز بتعليمه من الفقهاء الأفاضل جمّ غفير كزرارة بن أعين و أخويه بكير، و حمران، و جميل بن صالح، و جميل بن دُرّاج، و محمّد بن مسلم، و بريد بن معاوية، و الهشامَين، و أبي بصير، و عبيد الله و محمّد و عمران الحلبيَّين، و عبد الله بن سنان، و أبي الصباح الكنانيّ و غيرهم من أعيان الفضلاء - انتهى.
و في «الذكري»: دُوِّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق و الحجاز و خراسان و الشام - انتهى. و المراد أنّها دُوِّنت أسماؤهم في كتب الرجال.
و قال المحقِّق في «المعتبر» كما يأتي: كتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف سمّوها اصولًا. و كانت مدرسته في داره بالمدينة، و في المسجد، و أينما وجد.
و كان مَن يَردِ المدينة من الآفاق في الموسم و غيره يسأله و يأخذ عنه و يهيّئ له المسائل إلى أن يتهيّأ له الوصول إليه. و اثر عنه في علم الكلام الشيء الكثير. و روى عنه المفضّل بن عمر كتاباً يعرف بتوحيد المفضّل
هو أجود كتاب في ردّ الدهريّة. توفّي سنة ۱٤۸، و عمره ٦۸.۱
جمع كثير من المشايخ كانوا تلاميذ الإمام عليه السلام
و تلاميذ الصادق عليه السلام المشهورون فيما عدا من سلف ذكرهم من كبار أهل السنّة أشياخ للفقهاء في جميع المذاهب منهم: سفيان بن عُيَيْنَة، و سعيد بن سالم القدّاح، و إبراهيم بن محمّد بن أبي يحيى، و عبد العزيز الدَّراورديّ. و قد روى الشافعيّ عن كلّ هؤلاء.
و جرير بن عبد الحميد، و إبراهيم بن طهمان، و عاصم بن عمر ... بن عمر بن الخطّاب، و أبو عاصم النبيل (م ٢۱٢) شيخ أحمد بن حنبل. و أبو عاصم آخر تلاميذ الصادق وفاةً، و قد روى عنه كتاباً.
و الكسائيّ عالم اللغة، و عبد العزيز بن عبد الله الماجشون زميل مالك في الفتيا في موسم الحجّ، و عبد العزيز بن عمران ... بن عبد الرحمن ابن عوف، و ابن جُريح إمام مكّة، و الفضيل بن عياض، و القاسم بن معن، و حفص بن غياث، و الثلاثة أصحاب أبي حنيفة، و منصور بن المعتمر، و مسلم بن خالد الزنجيّ شيخ الشافعيّ بمكّة، و يحيى بن سعيد القطّان.
و إنّما أحدثت السياسة الخلافات بين فقهاء السنّة و الشيعة فأنتجت وجوهاً لخلافات فقهيّة و حديثيّة.٢
أجل، إن السياسة الجائرة الظالمة وحدها هي التي أقصت الفقه و الكلام الجعفريّين. و يُلحَظ هذا الأمر جيّداً من تضاعيف ما ذكرناه، إذ إنّه بعد أن استبان تفوّق الإمام الصادق عليه السلام على الجميع في العلم و الدراية، و بعد أن اشتهر تتلمذ أبو حنيفة و مالك له عليه السلام مباشرة.
و أثنى عليه هذان بأن لا نظير له، و الشافعيّ كان من تلاميذ مالك، و أحمد
ابن حنبل تلميذ الشافعيّ، و من ثمّ فهما يعدّان من تلاميذ الإمام بصورة غير مباشرة، فحينئذٍ بما ذا سيجيب أتباع المذاهب الأربعة في الإعراض عن الفقه الجعفريّ، و التمسّك بأذيال فقههم، و في اصول العقائد، التمسّك بالعقائد و الآراء الأشعريّة؟!
مع أنّنا علمنا مراراً أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أوصى بأنّ الأئمّة عليهم السلام هم الثقل الذي تركه صلّى الله عليه و آله في الامّة مع القرآن. و هم سفينة النجاة، و باب حِطّة، و الأمان من الاختلاف في الدين، و أعلام الهداية، و بقيّة الرسول في الامّة. و قال: فَلَا تَقَدَّمُوهُمْ فَتَهْلِكُوا، و لَا تُقْصِرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا، وَ لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإنَّهُمْ أعْلَمُ مِنْكُمْ!
لكن لاحظوا أين بلغت تلك السياسات الظلومة الجهولة الغاشمة بالأمر حتى أصبح مألوفاً اتّباع أفكار هؤلاء المنحرفين، و الإعراض عن أفكار الإمام الناطق بالحقّ؟!
قال آية الله الباحث الخبير السيّد عبد الحسين شرف الدين ... على أنّ أهل القرون الثلاثة مطلقاً لم يدينوا بشيء من تلك المذاهب أصلًا. و أين كانت تلك المذاهب عن القرون الثلاثة و هي خير القرون؟!
و قد ولد الأشعريّ سنة ٢۷۰، و مات سنة نيف و ثلاثين و ثلاثمائة.
و ابن حنبل ولد سنة ۱٦٤، و مات سنة ٢٤۱.
و الشافعيّ ولد سنة ۱٥۰، و توفّي سنة ٢۰٤.
و وُلد مالك سنة ٩٥،۱ و مات سنة ۱۷٩. و وُلد أبو حنيفة سنة ۸۰،
و توفّي سنة ۱٥۰.
و الشيعة يدينون بمذهب الأئمّة من أهل البيت وَ أهْلُ البَيْتِ أدْرِى بِالَّذِي فِيهِ. و غير الشيعة يعملون بمذاهب العلماء من الصحابة و التابعين.
فما الذي أوجب على المسلمين كافّة بعد القرون الثلاثة، تلك المذاهب دون غيرها من المذاهب التي كان معمولًا بها من ذي قبل؟ و ما الذي عدل بهم عن أعدال كتاب الله و سَفَرته و ثقل رسول الله و عيبته، و سفينة نجاة الامّة و قادتها و أمانها و باب حطّتها؟!۱
***
و يبدو من الضروريّ هنا أن نتوسّع في الحديث عن أعاظم تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام الذين يعدّون أئمّة أهل السنّة في الاصول و الفروع، و ذلك لتستبين شخصيّة الإمام عليه السلام و منزلته و مكانته العلميّة.
تلمذة مالك للإمام الصادق عليه السلام
قال المستشار عبد الحليم الجنديّ تحت عنوان التَّلاميذُ الأئمّة:
كان سفيان الثوريّ إمام العصر في الورع و السنن و الفقه للعراق كافّة.
و كانت له في مجابهة الخليفة مواقف لا يملّ الحديث فيها. و كان كثيرون من روّاد المجلس كسفيان مكانة في المسلمين. منهم عمرو بن عبيد الذي نشأت على يديه فرقة المعتزلة، و أبو حنيفة، و محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ترب أبي حنيفة، و إمام المدينة مالك بن أنس.
و أبو حنيفة هو الإمام الأعظم لأهل السنّة. و مالك أكبر من تلقّى عليه
الشافعيّ علماً، و أطولهم في تعليمه زماناً. و الشافعيّ شيخ أحمد بن حنبل.
و كمثلهم كان المحدّثون العظماء: يحيى بن سعيد محدِّث المدينة، و ابن جُرَيح، و ابن عُيَيْنَة محدِّثا مكّة. و ابن عيينة هو المعلّم الأوّل للشافعيّ في الحديث.
فلندع للأئمّة وصف مكانهم من الإمام، و فيه وصف مجالس علمه:
يقول مالك بن أنس: كنت أرى جعفر بن محمّد، و كان كثير الدعابة و التبسّم، فإذا ذُكر عنده النبيّ اخضرّ و اصفرّ. و لقد اختلفتُ إليه زماناً فما كنتُ أراه إلّا على ثلاث خصال. إمّا مصلّياً، و إمّا قائماً، و إمّا يقرأ القرآن.
و ما رأيته يحدّث عن رسول الله إلّا على الطهارة. و لا يتكلّم فيما لا يعنيه.
و كان من العلماء و العبّاد و الزهّاد الذين يخشون الله. و ما رأيته قطّ إلّا و يخرج وسادة من تحته و يجعلها تحتي.
و في مقولة اخرى يضيف مالك: و كان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد. إذا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ اخضرّ مرّةً و اصفرّ اخرى حتّى ينكره من يعرفه. و لقد حججت معه سنةً فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام، كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، و كاد أن يخرّ عن راحلته. فقلتُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! أو لا بدّ لك أن تقول؟!
قال: كَيْفَ أجْرَؤُ أنْ أقُولَ: لَبَّيْكَ، وَ أخْشَى أنْ يَقُولَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: لَا لَبَّيْكَ وَ لَا سَعْدَيْكَ!
و إنّا لنذكر ما كان يصنعه جدّه زين العابدين في هذا المقام.
و أصبح مالك إذا ذُكر النبيّ اصفرّ لونه. فإذا تساءل جلساؤه قال: لو رأيتم ما رأيتُ لما أنكرتم علَيّ ما ترون. و يذكر لهم حال ابن المنكدر،۱
ثمّ يعقّب بحال جعفر.
إنّما كان مالك يجد ريح الرسول في مجلس ابن بنته، و يُحسّ، أو يكاد يلمس شيئاً مادّيّاً يتسلسل من الجدّ لحفيده، و أشياء غير مادّيّة تملك اللبّ و القلب. فالرؤية متعة و السماع نعمة. و الجوار - مجرّد الجوار - تأديب و تربيب. و في كلّ اولئك طرائق قاصدة إلى الجنّة.
و صاحب المجلس طهر كلّه. لا يتحدّث عن جدّه إلّا على الطهارة.
يقول: الوُضُوء شَطْرُ الإيمَانِ. و من أجل ذلك لم يعد الوضوء عنده أو في مذهبه مجرّد وسيلة لغيره - أي: للصلاة - بل أمسى مستحبّاً لذاته كالصلاة المستحبّة. يتهيّأ به المتوضّئ لدخول المساجد، و قراءة القرآن. بل الزوجان ليلة زفافهما، و المسافر إلى أهله، و القاضي ليجلس للقضاء، و الإمام الذي يُفتي أو يُعلِّم.
و ما هو بِدع أن يشغف به مالك - و هو الأمويّ بهواه - فإنّما هو حبّ الرسول و أهل بيته. فحبّهم إيمان. و ما كان تعبير مالك إلّا حبّاً، و هو - بعد - التلميذ النجيب لفقهاء بني تيم (قبيلة أبي بكر) سواء كانوا من مواليهم - كربيعة الرأي - أو من أنفسهم كمحمّد بن المنكدر، او أمّهم منهم كالإمام جعفر.
و أبو بكر الصدّيق يقف في قمّة التأريخ العلميّ لمصادر مالك باتّباعه و اجتهاده و أبنائه و بني تيم ....
تعلّم مالك الكثير من السلوك على الإمام جعفر. فكان إذا حدّث لا يحدّث إلّا على الطهارة. و يحمي مجلسه ممّن يخرجونه عن قصده. كما يكرم تلامذته. بل صار إماماً لليسر الذي تتمثّل فيه خصائص المدينة.
و أمسى عنواناً على العلم. فإذا خاصم السلطة خاصمها من أجل النزاهة العلميّة فحسب. و في منهجه الاحتفال الكامل بالواقع. و في طريقته العمل للرزق، حتى لا يحتاج لأحدٍ، ممّا يعبّر عن اقتداء كامل بالإمام الصادق.
و كهيئة الإمام الصادق عليه السلام، لم يجار فقهاء العراق في قولهم:
أ رَأيْتَ أ رَأيْتَ. أي: افتراض الفروض و استباق الحوادث و إبداء الرأي فيما لم يحدّث حتى سمّاهم خصومهم الأرَأيتيِّين.
و من رضا الإمام عن التلميذ كان الصادق يشير بإتيان حلقة مالك.
روى عنوان البصريّ أنّه كان يختلف إلى الإمام جعفر يتعلّم عليه. فغاب الإمام عن المدينة فاختلف إلى مالك سنتين. ثمّ عاد الصادق فعاد عنوان إلى مجلسه. فنصحه أن يجلس إلى مالك.۱
و لقد يدخل الإمام المسجد، فيقدم إليه تلميذ من تلاميذه ابن أبي ليلى.۱ (م ۱٤۸) قاضي الكوفة. فيقول الإمام: أنت ابن أبي ليلى القاضي؟! و يجيب: نعم. فينبّهه الإمام على جلال خطر القضاء بقوله: تأخُذُ مَالَ هَذَا وَ تُعْطِيهِ هَذَا! وَ تُفَرِّقُ بَيْنَ المَرْءِ وَ زَوْجِهِ! لَا تَخَافُ في ذَلِكَ أحَداً ...
فَمَا تَقُولُ إ ذَا جِيءَ بِأرْضٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَمَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ. ثُمَّ أخَذَ رَسُولُ اللهِ بِيَدِكَ، فَاولَئِكَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكَ فَقَالَ: يَا رَبِّي هَذَا قَضَى بِغَيْرِ مَا قَضَيْتُ!
و اصفرّ وجه ابن أبي ليلى مثل الزعفران. لكنّه خرج من المسجد مزوّداً بزاد من خشية الله زوّده به ابن رسول الله.
و لمّا سئل مرّة: أ كنتَ تاركاً قولًا أو قضاءً لرأي أحد؟ أجاب: لا. إلّا لرجل واحد. هو جعفر بن محمّد الصادق. و ابن أبي ليلى قاضي بني اميّة و بني العبّاس. و هم أعداء الإمام.
الإمام الصادق عليه السلام و أبو حنيفة
في هذا المجلس بالمدينة، أو بالكوفة في إحدى قد مات الإمام جعفر إلى العراق، دخل أئمّة الكوفة مجتمعين: أبو حنيفة، و ابن أبي ليلى، و ابن شبرمة (المتوفّى سنة ۱٤٤) على الإمام جعفر، فجعل الصادق ينبّه أبا حنيفة مكتشف أداة «القياس» على خطرها في حضور العالمين الآخرين. و في مواجهة هذين يقول الإمام الصادق لأبي حنيفة:
اتّقِ اللهَ وَ لَا تَقِسِ الدِّينَ بِرَأيِكَ.
و لقد يكون أبو حنيفة في حلقته بالكوفة أو في المدينة فيقف عليها الإمام الصادق، و لا تقع عليه عين أبي حنيفة. فإذا لمحته عيناه هبّ أبو حنيفة واقفاً و هو في مجلس الدرس، فقال: يا بن رسول الله، لو شعرت بك أوّل ما وقفت ما رآني الله أقعد و أنت قائم، ليشهد الله على دخيلة نفسه أنّها لا تقبل الجلوس و الإمام قائم. و أبو حنيفة (۸۰ - ۱٥۰) أكبر عمراً من الإمام الصادق عليه السلام لكن الصادق يشدّ أزره بعبارات مشجِّعة، فيقول له:
اجْلِسْ يَا أبَا حَنِيفَةَ فَعَلَى هَذَا أدْرَكْتُ آبَائِي!
يريد بذلك إعظام مجالس العلم، و وقوف الجميع، و جلوس الاستاذ.
انقطع أبو حنيفة إلى مجالس الإمام طوال عامين قضاهما بالمدينة، و فيهما يقول: لَوْ لا العَامَانِ لَهَلَكَ النُّعْمَانُ.۱ و كان لا يخاطب صاحب المجلس إلّا بقوله: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا بْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ.
و لقد يتحدّى الإمام الصادق في مجلسه أبا حنيفة ليختبر رأي صاحب الرأي فيسأل: مَا تَقُولُ في مُحْرِمٍ كَسَرَ رَبَاعِيَةَ الظَّبْي؟!
و يجيب أبو حنيفة: يا بن رسول الله؛ لا أعلم ما فيه.
فيقول له الإمام الصادق عليه السلام: أنْتَ تَتَداهَى! أ وَ لَا تَعْلَمُ أنَّ الظَّبْيَ لَا تَكُونُ لَهُ رَبَاعِيَةٌ؟!
و إنّما سكت أبو حنيفة لأنّه لم يعلم كما قال، أو لأنّه يمتنع عن أن يصحّح للإمام السؤال. و ما كان أعظم أدب أبي حنيفة بين نظرائه. فما بالك به بين يدي الإمام؟!
فإذا جاء ابن شبرمة وحده يسأل عمّا لم يقع - كدأب تلاميذ أبي حنيفة و مدرسة الكوفة - لم يتردّد الإمام في دفعه بالحسنى:
ذهب إليه ذات يوم يسأله عن القسامة في الدم، فأجابه بما صنع النبيّ. فقال ابن شبرمة: أ رأيتَ لو أنّ النبيّ لم يصنع هذا، كيف كان القول فيه؟
فأجابه: أمَّا مَا صَنَعَ النَّبِيّ فَقَدْ أخْبَرْتُكَ بِهِ. وَ أمَّا مَا لَمْ يَصْنَعْ فَلَا عِلْمَ لِي بِهِ.
و الصادق عليم بالاختلاف بين آراء الفقهاء، أي: بعلم المدينة، و علم الشام، و علم الكوفة. و هو يروي عشرات الآلاف من الأحاديث، في حين كانت قلّة ما سلّمه أهل العراق من الحديث آفة علمائه، حتى صوّبهم الشافعيّ في نهاية القرن، بالقوّة التي لا نزاع فيها لخبر الواحد، و بوضع قواعد القياس.
تمجيد أبي حنيفة للإمام الصادق عليه السلام
و الحسن بن زياد اللؤلؤيّ يعلن رأي صاحبه في إحاطة الإمام الصادق فيقول: سمعتُ أبا حنيفة و قد سُئل من أفقه الناس ممّن رأيتَ؟ فقال: جعفر بن محمّد!
و لمّا استُفتي أبو حنيفة في رجل أوصى للإمام بإطلاق الوصف، قال: إنّها لجعفر بن محمّد. فهذا إعلان لتفرّده بالإمامة في عصره.
و لم تكن السنتان اللتان حيي بسببهما النعمان بن ثابت (أبو حنيفة) و لم يهلك إلّا تكملة لسنين سابقة كان يتدارس فيها فقه الشيعة. و من ذلك كان يشدّ أزر زيد بن عليّ في خروجه على هشام بن عبد الملك. و قيل:
مال إلى محمّد و إبراهيم (ولَدَي عبد الله بن الحسن) في خروجهما على المنصور. و أن قد جاءته امرأة تقول: إن ابنها يريد الخروج مع هذا الرجل - في إبّان خروج إبراهيم - و أنا أمنعه. فقال لها: لا تمنعيه!
و يروي أبو الفرج الإصفهانيّ عن أبي إسحاق الفزاريّ، جئتُ إلى أبي حنيفة، فقلتُ له: أ ما اتّقيتَ الله؟! أفتيت أخي بالخروج مع إبراهيم حتّى قُتل!! فقال: قتل أخيك حيث قتل يعدل قتله لو قتل يوم بدر.
و شهادته مع إبراهيم خير له من الحياة.
و لئن كان مجداً لمالك أن يكون أكبر أشياخ الشافعيّ، أو مجداً للشافعيّ أن يكون أكبر أساتذة ابن حنبل، أو مجداً للتلميذَين أن يتتلمذا لشيخيهما هذين، إن التلمذة للإمام الصادق قد سربلت بالمجد فقه المذاهب الأربعة لأهل السنّة.
أمّا الإمام الصادق فمجده لا يقبل الزيادة و لا النقصان. فالإمام مبلّغ للناس كافّة علِمَ جدّه عليه الصلاة و السلام. و الإمامة مرتبته. و تلمذة أئمّة السنّة له تشوّف منهم لمقاربة صاحب المرتبة.
لقد يجيء للمناظرة عمرو بن عبيد (م ۱٤٤) زعيم المعتزلة الذي لم يضحك أبو حنيفة طول حياته بعد أن قال له عمرو إذ ضحك مرّةً في إبّان مناظرته: يافتى تتكلّم في مسألة من مسائل العلم و تضحك؟! و الذي يبلغ من وقاره أن يراه الرائيّ فيحسبه أقبل من دفن والديه. فإذا انتهى الكلام،
قال عمرو للإمام:
هَلَكَ مَنْ سَلَبَكُمْ تُرَاثَكُمْ، وَ نَازَعَكُمْ في الفَضْلِ وَ العِلْمِ.
و يجيء إمام خراسان عبد الله بن المبارك، و هو إمام فقه، و بطل معارك. تتلمذ للإمام زماناً، و لأبي حنيفة. فتعلّم ما جعله يُخفي بطولاته في الفتوح، لأنّ من صنعها لأجله - سبحانه - مطّلع عليها.۱
و في الإمام جعفر شعره الذي ورده فيه:
أنْتَ يَا جَعْفَرُ فَوْقَ | *** | الْمَدْحِ وَ المَدْحُ عَنَاءْ |
إنَّمَا الأشْرَافُ أرْضٌ | *** | وَ لَهُمْ أنْتُمْ سَمَاءْ |
جَازَ حَدَّ المَدْحِ مَنْ | *** | قَدْ وَلَّدَتْهُ الأنْبِيَاءْ٢ |
و لمّا كان حديثنا يدور حول أئمّة العامّة الأربعة الذين يعدّون من تلاميذ الإمام جعفر الصادق عليه السلام بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فمن المناسب أن نستعرض ترجمتهم، ثمّ نناقش منهجهم و آراءهم.
مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحيّ المدنيّ أحد أئمّة العامّة في الفقه
قال المتتبّع الخبير السيّد محمّد باقر الموسويّ الخوانساريّ في كتاب «روضات الجنّات»: الإمام الرَّفيع المقام عند المُنتَحِلين لِدين الإسلام:
أبو عبد الله مالك بن أنَس بن أبي عامِر بن عَمْرو الحارِثِ بن عُثمان الأصْبَحِيّ المدنيّ. و قيل: القُرَشيّ التَّميميّ.۱ هو المنتسب إليه لقب المالكيّ، و صاحب كتاب «الموطّأ» في الفقه الأحمديّ. و أحد الأئمّة الأربعة لجماعة أهل السُّنّة و الجماعة، و أوّل المعلنين لبدعة العمل بالرأي في هذه الامّة. زعم صاحب «تاريخ گزيده» (= التأريخ المنتخب) أنّ أباه هو أنس بن مالك الصحابي و أحد العشرة الذين كانوا من خَدَمَة باب النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و أنّ الرجل نفسه من جملة التابعين الأوّلين، و أوّل أئمّة السنّة و مقدّم جنود المحدّثين.
و هو غلط بيّنٌ منه، لما سوف اطلعك عليه من تاريخي ولادته و وفاته المنافيين لذلك عادةً؛ مضافاً إلى قضاء العادة بأنّه لو كان صحيحاً لبيّنه كثير من أصحاب كتب الرجال و الترجمة صريحاً.
و بالجملة فقد ذكره ابن خلّكان المؤرّخ المشهور في كتابه الموسوم «وفيّات الأعيان»، فقال في صفته بعد التسمية له بنمط ما ذكرناه في صدر العنوان: إمام دار الهجرة، و أحد الأئمّة الأعلام. أخذ القراءة عرضاً عن
نافع بن أبي نعيم، و سمع الزهريّ، و نافعاً مولى عبد الله بن عمر، و روي عن الأوزاعيّ و يحيى بن سعيد، و أخذ العلم عن ربيعة الرأي ... ثمّ أفتى معه عند السلطان. و قال مالك: كلّ رجل كنت أتعلّم منه ما مات حتى يجيئني و يستفتيني. إلى أن قال:
و قال الشافعيّ: قال لي محمّد بن الحسن: أيّهما أعلم، صاحبنا أم صاحبكم؟! يعني أبا حنيفة و مالكاً.
قلتُ: على الإنصاف؟! قال: نعم!
قلتُ: ناشدتك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم؟! قال:
اللهمّ صاحبكم!
قلتُ: فأنشدك الله من أعلم بالسنّة صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهّم صاحبكم!۱
فقلتُ: أنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله المتقدّمين صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهمّ صاحبكم!
قال الشافعيّ: فلم يبق إلّا القياس. و القياس لا يكون إلّا على هذه
الأشياء، فعلى أيّ شيء تقيس؟!
إلى أن قال ابن خلّكان: و كانت ولادته سنة خمس و تسعين للهجرة.
و حُمِل به ثلاث سنين. و توفّي في شهر ربيع الأوّل سنة تسع و سبعين و مائة، فعاش أربعاً و ثمانين سنة - انتهى.
و في «تاريخ گزيده»: إنّه أوّل أئمّة السنّة. و كان في الرحم ثلاث سنين، و عمره ثمانون سنة. و مات في سنة تسع و سبعين و مائة، و دفن بالبقيع.۱
قلتُ: و سوف يأتي في ترجمة أبي حنيفة سبب طول بقائه في الرحم عرض هذه المدّة الخارجة عن العادة، فليلاحظ إن شاء الله!٢
و قال ابن الجوزيّ فيما نُقل عن كتابه «شذور العقود» إنّه ضرب في سنة سبع و أربعين و مائة سبعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلاطين.
و حُكي عن الحافظ أبي عبد الله الحميديّ أنّه قال: حكى القعنبيّ قال: دخلتُ على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلّمت عليه.
ثمّ جلستُ فرأيته يبكي. فقلتُ: يا أبا عبد الله؛ ما الذي يُبكيك؟! فقال لي: يا بن قعنب، و ما لي لا أبكي؟ و من أحقّ بالبكاء منّي؟ و الله لوددت أنّي ضُربتُ لكلّ مسألة أفتيتُ فيها برأيي مائة ألف سوط، و قد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه! وليتني لم افت بالرأي، أو كما قال.
و كانت وفاته بالمدينة و دفن بالبقيع.۱
و قد أدرك هذا الرجل من أئمّتنا المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين مولانا الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام كما نقل صاحب «بحار الأنوار» عن الحافظ أبي نعيم الأصفهانيّ في كتابه «حلية الأولياء» أنّه قال: إن جعفر الصادق عليه السلام حدَّث عنه مِن الأئمّة و الأعلام: مالك بن أنس، و شعبة بن الحجّاج، و سفيان الثوريّ. إلى أن قال: و قال غيره:
روى عنه مالك، و الشافعيّ، و الحسن بن صالح، و أبو أيّوب السجستانيّ، و عمر بن دينار، و أحمد بن حنبل.
تمجيد مالك للإمام الصادق عليه السلام
و قال مالك بن أنس: مَا رَأتْ عَيْنٌ، وَ لَا سَمِعَت اذُنٌ، وَ لَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ أفْضَلُ مِنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ فَضْلًا وَ عِلْماً وَ عِبَادَةً وَ وَرَعاً.٢
و كان مالك كثيراً ما يدّعي سماعه و ربما قال: حدّثني الثقة، يعنيه عليه السلام. و جاء أبو حنيفة إليه ليسمع منه، و خرج أبو عبد الله عليه السلام يتوكّأ على عصاه، فقال له أبو حنيفة: يا بن رسول الله! ما بلغتَ من السنّ ما تحتاج معه إلى العصا! قال: هو كذلك، و لكنّها عصا رسول الله أردتُ التبرّك بها. فوثب أبو حنيفة إليه، و قال له: اقبّلها يا بن رسول الله؟!
فحسر أبو عبد الله عليه السلام عن ذراعه، و قال: و الله لقد علمتَ أنّ هذا بَشَر رسول الله، و أنّ هذا من شعره، فما قبّلته فتقبّل عصا! و ذكر أبو عبد الله المحدِّث في «رامش» أنّ أبا حنيفة من تلامذته. و لأجل ذلك كانت بنو العبّاس لم تحترمهما - انتهى.
ثمّ نقل صاحب «الروضات» كلام مالك في أدب الإمام الصادق عليه السلام و احترامه، و نقل عنه أنّ الإمام كان يقدّم له مخدة، و يقول:
يَا مَالِكُ! أنّي احِبُّكَ، فَكُنْتُ اسَرُّ بِذَلِكَ وَ أحْمَدُ اللهَ عَلَيْهِ. و ذكر كلامه في كيفيّة إحرام الإمام عليه السلام و انقطاع صوته بالتلبية، و بعض حالاته الاخرى. و قال بعد ذلك كلّه:
ردّ الإمام الكاظم عليه السلام أحاديث العامّة للحسن بن عبد الله
و روى محمّد بن الحسن الصفّار في «بصائر الدرجات» بإسناده المعنعن عن محمّد بن فلان الواقفيّ، قال: كان لي ابن عمّ يقال له: الحسن بن عبد الله، و كان زاهداً، و كان من أعبد أهل زمانه، و كان يلقاه السلطان، و ربّما استقبل السلطان بالكلام الصعب يعظه و يأمر بالمعروف. و كان السلطان يحتمل له ذلك لصلاحه. فلم يزل هذه حاله حتى كان يوماً دخل أبو الحسن موسى عليه السلام المسجد فرآه، فدنا إليه، ثمّ قال له:
يا أبا عليّ! ما أحبّ إلى ما أنت فيه و أسرّني بك إلّا أنّه ليست بك معرفة، فاذهب فاطلب المعرفة!
قال: قلتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ؛ و ما المعرفة؟!
قال له: اذهب و تفقّه، و اطلب الحديث! قلتُ: عمّن؟!
قال: عن مالك بن أنس، و عن فقهاء أهل المدينة، ثمّ اعرض الحديث علَيّ!
قال: فذهب و تكلّم معهم؛ ثمّ جاءه فقرأه عليه، فأسقطه كلّه. ثمّ قال: اذهب و اطلب المعرفة!
و كان الرجل معنيّاً بدينه، فلم يزل يترصّد أبا الحسن عليه السلام حتّى خرج إلى ضيعة له فتبعه، و لحقه في الطريق، فقال له: جُعلت فداك! إنّي أحتجّ عليك بين يدي الله! فدلّني على المعرفة! فأخبره بأمير المؤمنين عليه السلام، و قال له: كان أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله. و أخبره بأمر أبي بكر و عمر، فقبل منه. ثمّ قال: فمن كان بعد أمير المؤمنين؟! قال: الحَسَنُ ثُمَّ الحُسَيْن، حتى انتهى إلى نفسه.
ثمّ سكت.
قال: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فمن هو اليوم؟!
قال: إن أخبرتُك تقبل؟! قال: بلى جُعلتُ فداك.
قال: أنَا هُوَ!
قال: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فشيء استدلّ به!
قال: اذهب إلى تلك الشجرة، و أشار إلى امّ غيلان، فقل لها: يقول لك موسى بن جعفر: أقبلي! فأتيتُها. قال: فرأيتها و الله تجبّ الأرض جبوباً حتى وقفتْ بين يديه. ثمّ أشار اليها فرجعتْ.
قال: فأقرّ به. ثمّ لزم السكوت، فكان لا يراه أحد يتكلّم بعد ذلك.
و كان من قبل ذلك يرى الرؤيا الحسنة، و تُري له. ثمّ انقطعت عنه الرؤيا.
فرأى ليلة أبا عبد الله الصادق عليه السلام فيما يرى النائم، فشكا إليه انقطاع الرؤيا، فقال: لا تَغْتَمَّ فَإنَّ المُؤْمِنَ إ ذَا رَسَخَ في الإيمَانِ رُفِعَ عَنْهُ الرُّؤْيَا!۱
هذا و أقول: من جملة مناسبات هذا الحديث الشريف الذي أوردناه هنا بالمناسبة هو حديث دخول عنوان البصريّ على مولانا الصادق عليه السلام، و اقتباسه نور الحقّ من بركات مجلسه الشريف، بعد ما يئس من الانتفاع بطول مراودته مع مالك بن أنس. و هو بطوله مذكور في المجلّد الأوّل من «بحار الأنوار» نقلًا عن خطّ شيخنا البهائيّ، عن محمّد بن مكّي الشهيد رحمه الله. و وجدته أيضاً في المجلّد الثالث من كتاب «الكشكول»، فليلاحظ. و ليشكر الله سبحانه و تعالى على الاهتداء بمتابعة الرسول و آل الرسول.۱
ثمّ إن في بعض كتب أهل السنّة نقلًا عن حسيبهم الداوديّ أنّه قال:
لم يرو مالك عن جعفر حتى ظهر أمر بني العبّاس. و عن مصعبهم الكوفيّ أنّه قال: كان لا يروي عن جعفر حتى يضمّه إلى أحد.
و عن الواقديّ المشهور أنّه قال: كان مالك المذكور يأتي المسجد، و يشهد صلاة الجمعة و الجنائز، و يعود المرضى، و يقضي الحقوق، و يجلس بالمسجد، و يجتمع عليه أصحابه. ثمّ ترك الجلوس بالمسجد، و كان يصلّي و ينصرف. ترك ذلك كلّه. فلم يكن يشهد للصلاة في المسجد و لا الجمعة، و لا يأتي أحداً يعرفه، و لا يقضي له. فاحتمل الناس ذلك حتّى مات عليه. و ربّما قيل له في ذلك، فيقول: ليس كلّ أحد يقدر أن
يتكلّم بعذره.۱
بحث حول أبي حنيفة: النعمان بن ثابت بن زُوطي التميميّ إمام آخر من أئمّة العامّة الأربعة
قال السيّد محمّد باقر الخوانساريّ الإصفهانيّ في كتاب «روضات الجنّات»:
أوّل الأئمّة الأرْبَعَةَ لِهَذَا الناسِ، وَ إمَام أرباب الوَسْوَسَةِ و الرأي و القياس، أبو حنيفة الكوفيّ العراقيّ البغداديّ: نعمان بن ثابت بن زوطي، أو مرزبان، أو طاوس بن هرمز ملك بني شَيْبان، مولى تميم بن ثَعْلَبَة بن عكاية.
ذكره شيخ الطائفة عليه الرحمة في عداد رجال مولانا الصادق عليه السلام بعد التسمية له بعنوان النعمان بن ثابت أبو حنيفة التميميّ الكوفيّ مولاهم،٢ بدون زيادة غير ذلك من الكلام. و كذلك باعتراف جميع أهل المسالك و الممالك، لأنّه بلغ بما بلغ من الفضل الموهوم، و الاطّلاع على فنون العلوم، من بركات مجالس ذلك الإمام المعصوم عليه السلام، و إن كافأ بعد ذلك حقوقه السابغة بالجفاء و التكفير، و قابل إحسانه الكثير بالإساءة و الحسد و الخيانة و التعزير. وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ
وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ.۱
و نقل عن عمر بن حمّاد بن أبي حنيفة أنّه قال: كان جدّه زوطيّ من أهل كابول طخارستان. وُلد أبوه ثابت على فطرة الإسلام و معرفة الرحمن.
و عن إسماعيل بن حمّاد المذكور أنّه قال: كان جدّي أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن مرزبان من أبناء فارس، و ما كان أحد من آبائي مملوكاً.
و في «تاريخ گزيده»٢ (= التأريخ المنتخب) لحمد الله المستوفيّ القزوينيّ في ترجمة هذا الرجل: أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن طاوس بن هُرْمُزْد ملك بني شيبان. توفّي ببغداد في عهد المنصور.
قلتُ: و قيل في حبسه في رجب سنة إحدى و خمسين و مائة، و دُفن في الخيزرانيّة المعروفة هناك. و عَمرَ مزاره شرف الملوك أبو سعد المستوفيّ في دولة ملكشاه السلجوقيّ. و أدرك سبعة من الصحابة منهم:
عبد الله بن أوفي، و جابر بن عبد الله الأنصاريّ، و أنس بن مالك، إلى آخر ما ذكره في «صحيفة الصفاء» أنّ أدرك عبد الله بن أوفي، و سمع من عكرمة و نافع و عطاء، و أخذ الفقه عن حمّاد بن أبي سليمان. قلتُ:
و اصوله عن الشيطان و الهوى الطاغية الدعية إلى النيران.
ثمّ إنّه نقل عن الآمديّ المشهور أنّه قال في كتاب «أبكار الأفكار» في مقام ترجمة المرجئة، و أصحاب المقالات قد عدّوا أبا حنيفة و أصحابه من مرجئة السنّة. و قال: و أمّا المرجئة فإنّهم يرون تأخير العمل عن النيّة و القصد، و يقولون: لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفران طاعة.
و بالنظر إلى هذين القولين سُمّوا مرجئة، لأنّ الإرجاء في اللغة قد يطلق و يراد به التأخير. قلتُ: و منه قوله تعالى: وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.۱
و قال الزمخشريّ في تفسير قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ:٢ إن أبا حنيفة كان يُفتي سرّاً بوجوب نصرة زيد بن عليّ بن الحسين رضي الله عنه، و حمل المال إليه. إلى أن قال: حتى قالت له امرأة: أشرتَ على ابني بالخروج مع إبراهيم، و قد قُتل. فقال لها: يا ليتني مكان ابنكِ!
أقول: و يظهر من ذلك أنّه كان زيديّ الاصول. و كأنّه من هنا أشبهت الزيديّة الحنفيّة في الفروع إلّا في مسائل قليلة - كما صرّح الشريف الجرجانيّ في «شرح المواقف» - و قال: و أكثرهم مقلّدون يرجعون في الاصول إلى الاعتزال، و في الفروع إلى مذهب أبي حنيفة، إلّا في مسائل قليلة.
ثمّ قال صاحب «الصحيفة»: و دخل - هو يعني أبا حنيفة - على أبي عبد الله الصادق غير مرّة فنهاه عن القياس و حاجّه و أفحمه. و الاحتجاج مذكور في كتابي «الاحتجاج» و «العلل».
كان من قوله: قال عليّ و أقول. و كان من قوله: و ما يعلم جعفر بن محمّد و أنا أعلم منه. لقيتُ الرجال و سمعت من أفواههم، و جعفر بن محمّد صحفيّ (أي: أنّ علومه مأخوذة من الكتب فحسب).٣
فلمّا بلغ عليه السلام كلامه هذا ضحك، ثمّ قال: لَعَنَهُ اللهُ. أمّا في قوله: أنا رجل صحفيّ فقد صدق قرأتُ صحف آبائي و إبراهيم و موسى (الحديث).۱
مناقب مزيّفة مزعومة لأبي حنيفة(ت)
و نسب الفاضل المَيْبُديّ إليه في شرح الديوان قوله:
حُبُّ اليَهُودِ لآلِ موسى ظَاهِرٌ | *** | وَ وِلَاؤُهُمْ لِبَنِي أخِيهِ بَادِي |
وَ إمَامُهُمْ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ الاولى | *** | بِهِم اقْتَدَوْا وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادِ |
وَ كَذَا النَّصَارَى يُكرِمُونَ مَحَبَّةً | *** | لِمَسِيحِهِمْ نَجْراً مِنَ الأعْوَادِ |
وَ مَتَى تَوالَى آلَ أحْمَدَ مُسْلِمٌ | *** | قَتَلُوهُ أوْ شَتَمُوهُ بِالإلْحَادِ |
هَذَا هُوَ الدَّاءُ العُضَالُ لِمِثْلِهِ | *** | ضَلَّتْ حُلُومُ حَوَاضِرٍ وَ بَوَادِي |
لَمْ يَحْفَظُوا حَقَّ النَّبِيّ مُحَمَّدٍ | *** | في آلِهِ وَ اللهُ بِالمِرْصَادِ |
و روى الزمخشريّ في «ربيع الأبرار» أنّه سمع إسماعيل بن حمّاد بن
أبي حنيفة يحيى بن أكثم القاضي في دولة المأمون العبّاسيّ يغمص من جدّه. فقال: هذا جزاؤه منك؟ قال: كيف؟ قال: حين أباح النبيذ، و درأ الحدّ عن اللوطيّ.
مخالفة أبي حنيفة للسُّنّة النبويّة الشريفة في مواضع كثيرة
و روى أيضاً في باب العلم منه قال: قال يوسف بن أسباط: ردّ أبو حنيفة على رسول الله صلّى الله عليه و آله أربعمائة حديث أو أكثر.
قيل: مثل ما ذا؟! قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: لِلفَرَسِ سَهْمَانِ وَ لِلرَّجُلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ. قال أبو حنيفة: لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن. و أشْعَرَ رسول الله صلّى الله عليه و آله و أصحابه البُدن، قال أبو حنيفة: الإشْعَارُ مُثْلَه.۱ و قال صلّى الله عليه و آله: البَيِّعانُ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا. قال أبو حنيفة: إ ذَا وَجَبَ البَيْعُ فَلَا خِيَارَ.
و كان صلّى الله عليه و آله يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً؛ و أقرع أصحابه، و قال أبو حنيفة: القرعة قمار.٢
و روى المرتضى في «الفصول» المتلقّاة من «العيون و المحاسن» عن الشيخ المفيد أنّه قال۱ بمحضر من الأكابر العبّاسيّة، و شيوخ الحنفيّة: و هذا أبو حنيفة يقول: لو أنّ رجلًا عقد على امّه و هو يعلم أنّها امّه يسقط عنه الحدّ و لحق به الولد، و كذا في اخته و بنته. و كذا لو استأجر غسالة أو جنازة أو أشباههما، ثمّ وطأها و حملت منه. و إذا لفّ على إحليله حريرة، ثمّ أولجه في قُبُل امرأةٍ لم يكن زانياً و لا يجب عليه الحدّ، و لكن يُردَع بالكلام الغليظ. و يقول: إن الرجل إذا تلوّط بغلام فأوقبه لم يجب عليه الحدّ، و لكن يُردَع. و يقول: إن شرب النبيذ المسكر حلال طلق، و هو سنّة و تحريمه بدعة - انتهى.
و عن يوسف بن أسباط قال: قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله لأخذ بكثير من قولي.٢ و قال ابن مهدي في مجالسه: كان أبو حنيفة يشرب مع مساور فعاب مساوراً فكتب إليه:
إن كَانَ فِقْهُكَ لا يَتمُّ بِغَيْرِ شَتْمِي وَ انْتِقَاصِي | *** | فأقْعُدْ وَ قُمْ بِي حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الأدَانِيَ وَ الأقَاصِي |
فَلَطَالَمَا زَكَّيْتَنِي وَ أنَا المُقِيمُ عَلَى المَعَاصِي | *** | أيَّامَ تُعْطِينِي مُدَامِي في أبَارِيقِ الرَّصَاصِ |
فأنفذ إليه بمالٍ فكفّ عنه.
صلاة القفّال المروزيّ على فتوي أبي حنيفة
و روى ابن خلّكان في «الوفيّات» أنّ إمام الحرمين ذكر في كتابه «مغيث الخلق» أنّ السلطان محمود بن سبكتكين۱ كان على مذهب أبي حنيفة، و كان مولعاً بعلم الحديث، فوجد أكثرها موافقاً لمذهب الشافعيّ.
فجمع فقهاء الفئتين و أمرهم بترجيح أحد المذهبين.
و صلّى القفّال المروزيّ٢ على ما يجوز عند أبي حنيفة بلبس جلد كلب مدبوغ، و لطخ رأسه٣ بالنجاسة، و توضّأ بنبيذ التمر. و كان في الصيف و اجتمع عليه البعوض و الذباب. ثمّ أحرم بالصلاة بالفارسيّة، و قرأ: «دُو بَرْگ سَبْز» و هي ترجمة مُدْهَامَّتَانِ. ثمّ نقر نقرتين كنقر الديك من غير فصل، و لا ركوع، و لا تشهّد. و ضرط في آخره، و قال: هذه صلاة أبي حنيفة.
فأمر السلطان بصيراً منّا۱ بقراءة كتب أبي حنيفة، فوجدت الصلاة على ما حكاه القفّال. فتمسّك بمذهب الشافعيّ.٢
ثمّ قال: يروي عنه عبد الله بن المبارك، و وكيع بن الجرّاح، و سابق
ابن عبد الله، و أبو يوسف، و أبو نعيم المقري، و محمّد بن الحسن الشيبانيّ. له كتب منها مسندة - انتهى.۱
ترجمة أبي يوسف القاضي تلميذ أبي حنيفة
و مراده بأبي يوسف المذكور هو القاضي أبو يوسف الفقيه المشهور المدفون في شرقيّ الصحن المطهّر الكاظميّ من أرض بغداد. و اسمه يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، و كان من علماء دولة الرشيد، و له مكالمات مع مولانا الكاظم عليه السلام في مجلس الخليفة.
و من طرائف أخباره بالنقل عن صاحب كتاب «المستطرف» أنّه قال:
اختلف الرشيد و امّ جعفر في الفالوذج و اللوزينج أيّهما أطيب؟ فحضر أبو يوسف القاضي، فسأله الرشيد عن ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين! لا أقضي على غائب. فأحضرهما له، فأكل حتى اكتفى. فقال له الرشيد:
احكم بينهما! فقال: اصطلح الخصمان (فلا نزاع بينهما)، فضحك الرشيد، و أمر له بألف دينار. فبلغ ذلك زبيدة امّ ولده الأمين، فأمرت له بألف دينار إلّا ديناراً.٢ و توفّي في سنة اثنتين و ثمانين و مائة عن خمس و ثمانين
سنة.
و أمّا محمّد بن الحسن الشيبانيّ البريء، فهو أيضاً بمنزلة البيضة اليُسرى للإمام الأعظم. و كان في الأصل دمشقيّاً. انتقل أبوه إلى العراق، و سكن واسط، فولده فيها. ثمّ نشأ في الكوفة إلى غاية أمره و تصدّر بقضاوة القضاة في عصره. و كان ابن خاله الفرّاء النحويّ، و توفّي مع الكسائيّ المشهور في يوم واحد، و دفنا في مكان واحد يدعى بقرية «رنبويه» من قرى مدينة الري. لنعود إلى تتمّة أحوال صاحب الترجمة: أبي حنيفة، فنقول:
و قال مولانا العلّامة أعلى الله مقامه في كتاب «نهج الحقّ و كشف الصدق»: ذهبت الإماميّة إلى أنّ الخروج من صلاة يحصل إمّا بإكمال الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه و آله أو التسليم لا غير. و قال أبو حنيفة:
يخرج بالتسليم، أو بالكلام، أو بخروج الريح. و ما أقبح المذهب الذي يؤدّي إلى أن الخروج من الصلاة بالريح! لكن مثل الصلاة التي شرعها يصلح للخروج بمثل ما قاله. فإنّه ذهب إلى جواز أن يصلّي الإنسان في الدار المغصوبة على جلد كلب لابساً جلد كلب، و بيده قطعة من لحم كلب، لأنّه يقبل الذكاة عنده. ثمّ يتوضّأ بنبيذ التمر المغصوب فيغسل رجليه أوّلًا، ثمّ ينتهي إلى الوجه عكس ما ورد به القرآن. ثمّ يقوم و عليه نجاسة ظاهرة، ثمّ يكبّر بالفارسيّة، ثمّ يقرأ بالفارسيّة مُدْهَامَّتانِ لا غير، ثمّ يطأطئ رأسه
يسيراً جدّاً غير ذاكر و لا مطمئنّ، ثمّ يهوي إلى السجود من غير رفع، ثمّ يحفر بئراً لينزل جبهته أو أنفه فيها من غير ذكر و لا طمأنينة، و لا رفع بينهما.۱
ثمّ ينتهض إلى الثانية فيفعل مثل ذلك. ثمّ يقعد من غير تشهّد بقدره، ثمّ يخرج ريحاً. فهل يحلّ لمسلم يؤمن بالله و اليوم الآخر قبول هذه الصلاة، و كونه مأموراً بها؟! انتهى كلام العلّامة الحلّيّ.٢
و قال صاحب «إلزام النواصب» فيما نُقل عن كتابه المذكور عند ذكره لمذاهب أهل السنّة و أنّها أحدثوا أربعة مذاهب في زمن المنصور، و عملوا فيها بالرأي و القياس و الاستحسان و الاجتهاد: و السبب في إحداث هذه المذاهب أنّ الصادق عليه السلام اجتمع عليه أربعة آلاف راوٍ يأخذون عنه العلم. فخاف المنصور ميل الناس إليه، و أخذ الملك منه. فأمر أبا حنيفة و مالكاً بانعزال الصادق عليه السلام، و إحداث مذاهب غير مذهبه، و عملًا فيه بالرأي و الاستحسان، و القياس، و الاجتهاد.
ثمّ تابعهما الشافعيّ، و أحمد بن حنبل. و استقرّت مذاهب السنّة في الفروع على هذه الأربعة مذاهب. و بقيت الشيعة الإماميّة على المذهب الذي كان عليه النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و الصحابة و التابعون - انتهى كلام «إلزام النواصب».
عبارات دامغة لاعاظم السنّة في أبي حنيفة
و قال إمامهم الغزّاليّ: أجاز أبو حنيفة وضع الحديث على وفق مذهبه. قال يوسف بن أسباط: قال أبو حنيفة: لَوْ أدْرَكَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لأخَذَ بِكَثيرٍ مِنْ قَوْلِي.۱
و في «تاريخ بغداد»: قال شعبة: كَفٌّ مِنْ تُرَابٍ خَيْرٌ مِنْ أبي حَنِيفَةٍ.٢
قال الشافعيّ: نظرتُ في كتب أصحاب أبي حنيفة فإذا فيها مائة و ثلاثون ورقة خلاف الكتاب و السنّة.٣
قال سفيان، و مالك، و حمّاد، و الأوزاعيّ، و الشافعيّ: مَا وُلِدَ في الإسْلَامِ أشأَمُ مِنْ أبي حَنِيفَةَ.۱
قال مالك: كَانَتْ فِتْنَةُ أبي حَنِيفَةَ أضَرَّ عَلَى الإسْلَامِ مِنْ فِتْنَةِ إبْلِيسَ.٢
و قال ابن مهدي: مَا فِتْنَةٌ عَلَى الإسْلَامِ بَعْدَ الدَّجَّالِ أعْظَمَ مِنْ رَأي أبي حَنِيفَةَ.۱
و قال سيّدنا المحدِّث الشوشتريّ (السيّد نعمة الله الجزائريّ) قدّس الله تعالى سرّه في كتاب مقاماته، و هو في مقام تعديده لمناكير أهل السنّة و الجماعة، و تفريده يوجب فيهم القباحة و الشناعة، بعد ما شرح جملة من أقاويلهم الفاسدة و أباطيلهم الخارجة عن ترتيب القاعدة:
كرامتان باهرتان لقبر أبي حنيفة
و أمّا الكرامات التي ظهرت من قبور أئمّتهم الأربعة فهي أكثر من أن تُحصى. أعظمها الكرامات التي شاهدها الناس من قبر أبي حنيفة. و ذلك أنّ السلطان الأعظم شاه عبّاس الأوّل لمّا فتح بغداد أمر بأن يجعل قبر أبي حنيفة كنيفاً، و قد أوقف وقفاً شرعيّاً بغلتين، و قد أمر بربطهما على رأس السوق حتى أنّ كلّ من يريده موضعاً لقضاء الحاجة يركبهما و يمضي إلى قبر أبي حنيفة. و قد طلب خادم قبره يوماً، فقال له: ما تخدم في هذا القبر و أبو حنيفة الآن في أسفل درك من الجحيم؟! فقال: إن في هذا القبر كلباً أسود دفنه جدّك المرحوم شاه إسماعيل رحمه الله لمّا فتح بغداد قبلك.
فأخرج عظام أبي حنيفة و جعل موضعها كلباً أسود. فأنا أخدم ذلك الكلب.
و قد كان صادقاً في مقالته، لأنّ المرحوم المرقوم فعل مثل هذا.
و من كراماته أنّ حاكم بغداد طلب علماء أهل السنّة و عبّادهم، و قال لهم: كيف أنّ الرجل الأعمى إذا بات تحت قبّة موسى بن جعفر عليهما السلام يرتدّ إليه بصره، و أبو حنيفة مع أنّه الإمام الأعظم لم نسمع له بمثل هذه الكرامة؟! فأجابوه بأنّ هذا يصدر أيضاً من بركات أبي حنيفة، فقال لهم: أنّي أحبّ أن أرى مثل هذا لأكون على بصيرةٍ من ديني. فأتوا رجلًا فقيراً و قالوا له: إنّا نعطيك كذا و كذا من الدراهم و الدنانير، و قل: أنّي أعمى وامش متّكئاً على العصا يومين أو ثلاثة، ثمّ تبات ليلة الجمعة عند قبر الإمام، فإذا أصبحتَ فقل: الحمد للّه الذي ردّ علَيّ بصري ببركات صاحب هذا القبر، فقبل كلامهم.
ثمّ لمّا بات تلك الليلة تحت قبّته أصبح بحمد الله و هو أعمى لا يبصر، فصاح و قال: أيّها الناس حكايتي كذا و كذا و أنا رجل صاحب عيال و حرفة. فاتّصل خبره بحاكم البلد، فأرسل إليه، فقصّ عليه قصّته و احتيالهم عليه، فألزمهم بما يحتاج إليه من المعاش مدّة حياته.
أجل، لمّا كان الكلام يدور حول كرامات أبي حنيفة، فمن المناسب - قبل ختام كلام صاحب «الروضات» (استطراداً) - أن نسرد أيضاً كرامة لأبي حنيفة. و هذه القصّة ثابتة. و يبدو أنّها من المسلّمات على ما نقل صديقنا الكريم الحاجّ أبو على موسى محيى سلّمه الله الذي كان من سكنة الكاظميّة سابقاً، و اخرج من العراق مع من أخرجتهم الحكومة العراقيّة من الشيعة قبل عدّة سنين.
قصّة الرجل الزائر مع خادم قبر أبي حنيفة
نقل أنّ قرويّاً قصد الكاظميّة لزيارة الإمامين موسى بن جعفر و محمّد الجواد عليهما السلام. و حين دخل بغداد سأل عن الطريق إلى
الكاظميّة، فدلّوه. و لمّا كان مجيئه من جانب الرصافة،۱ فلا بدّ أن يمرّ على قبر أبي حنيفة.
و لمّا كان حديث عهد بالزيارة، و وصل إلى الأعظميّة، ظنّ أنّ قبر أبي حنيفة هو قبر الكاظمين عليهما السلام، و أنّ ذلك المزار هو مزار الجوادَين.
دخل القرويّ و بدأ بالزيارة، و قال في نفسه: أبات هذه الليلة هنا عند الإمامين ساهراً حتى الصباح. و لمّا عسعس الليل، و حان وقت غلق الأبواب كان المسئول عن غلقها أعمى، فقام و صاح: هل بقي أحد؟ اريد أن أغلق الأبواب! قوموا و اخرجوا! و عند ما كان يصيح: اذهبوا! كان يدير عصاه يميناً و شمالًا لئلّا يبقى أحد. و كان القرويّ عازماً على المبيت تلك الليلة، ففرّ من بين يديه بهدوء لئلّا يفهم.
و حينما أيقن الأعمى من خلوّ المكان أغلق الأبواب، و لفّ رأسه و ذهب لينام.
و كان ذلك الرجل الأعمى يُجري في كلّ ليلة تمثيليّة وحده. لهذا قام من فراشه في منتصف الليل، و ذهب نحو الباب فدقّه، و هو نفسه قال:
مَن؟! و أجاب: أبو بكر.
قال الأعمى: تفضّلْ! فتح الباب و قال: سيّدنا أبو بكر، أهلًا و سهلًا بالصدّيق! أهلًا بصاحب رسول الله في الغار! أهلًا بوالد زوج النبيّ! أهلًا
بالخليفة الأوّل! تفضّل استرح! ثمّ أغلق الباب.
و بعد هُنيئة دقّ الباب ثانيةً، و قال نفسه: مَن؟! و أجاب: أنا عمر! ففتح له الباب، و قال: تفضّل. سيّدنا عمر، أهلًا و سهلًا بالفاروق! أهلًا بوالد زوج النبيّ! أهلًا بالخليفة الثاني! تفضّل استرح! سيّدنا أبو بكر هنا الآن.
و بعد هنيئة أيضاً دقّ الباب للمرّة الثالثة، و قال: مَن؟! و أجاب: أنا عثمان! ففتح له الباب، و قال: تفضّل! سيّدنا عثمان، أهلًا و سهلًا بذي النورَين! أهلًا بصهر رسول الله! أهلًا بالخليفة الثالث! تفضّل استرح. هنا سيّدنا أبو بكر و سيّدنا عمر!
و بعد برهة قام و دقّ الباب، و قال: مَن؟! فأجاب بصوت ضعيف مرتعش: أنا عليّ! فقال الأعمى: اذهب! لا أحد هنا!
فعرف القرويّ أنّ مجيئه إلى هذا المكان كان خطاً. فقام من ساعته و رفع عصاه الثقيلة، التي كان يتوكّأ عليها و تحفظه من الكلاب، على ذلك الأعمى فضربه ضرباً مبرّحاً حتى شارف على الموت، و هو يقول له:
ويلك! أذنتَ لتلك الكلاب الثلاثة بالدخول و لم تأذن لي!
و لمّا رأى القرويّ أنّ الأعمى قد اغمي عليه و سال الدم من جسمه، تركه و انصرف. فرأى منائر الجوادَين عليهما السلام من بعيد. فعبر الجسر متوجّهاً لزيارتهما.
و في اليوم الثاني قال في نفسه: أذهب لأرى خادم قبر أبي حنيفة!
و أتحسّس من خبره! فرآه مضمّداً و عظامه مجبَّرة، و الناس تنثال عليه أفواجاً لتسمع معجزة الإمام عليّ عليه السلام من لسانه.
و كان يقسم لهم أيماناً مغلّظة و يقول: و الله العظيم سيّدنا عليّ كرّم اللهُ وَجْهه جاءني و ضربني هذا الضرب الشديد. و إني لمستحقّ لهذا
الضرب. أنا إنسان سوء (و كان يكرّر هذه الكلمات) أيّها الناس اعلموا أنّي توسّلتُ به كثيراً و التمسته ملحّاً حتى تركني!
انتهت هذه القصّة الثابتة المشهورة المنقولة عن صديقنا الكريم.
و نعود الآن إلى أصل الموضوع. قال صاحب «الروضات»: و ذكره (السيّد نعمة الله الجزائريّ ذكر أبا حنيفة) أيضاً في مواضع اخَر منه و من سائر مصنّفاته باعتبارات مختلفة، منها في كتاب «مقاماته» و هو في مقام بيان حسن التورية في التقيّة، و وجوه التخلّص من مكائد أهل السنّة حيث قال:
و ما أحسن ما تخلّص صاحب لي من شرّهم. و ذلك أنّه كان يتوضّأ، فلمّا مسح رجليه نظر فإذا واحد من طغاتهم فوق رأسه، فبادر إلى غسل رجليه، فقال له: كيف مسحتَ أوّلًا و غسلتَ ثانياً؟ فقال: نعم يا مولانا! هذه المسألة من مسائل الخلاف بين الله سبحانه و بين مولانا أبي حنيفة. قال الله تعالى: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.۱ و قال أبو حنيفة:
يَجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ. فمسحتُ خوفاً من الله، و غسلتُ خوفاً من السلطان.
فضحك الرجل و خلّي عنه.
قلتُ: و ليس ضحك هذا الرجل من مناقضة حكم إمامه حكم الله تعالى بعجيب. بل كلّ من تأمّل في كيفيّة اتّباعه الهوى، و التخمين في أحكامه و فتاويه، و اختراعه الأحكام من قبل نفسه، و على حسب ما تقتضيه مصلحة وقته و تستدعيه. يضحك مدّة حياته و إن كان حزيناً، و يبكي على خطر هذا المحنة الكبرى و البليّة العظمى.
و منها أنّه قال في ذيل مسألة الجبر و التفويض من كتابه «المقامات»:
و ممّا يناسب المقام أنّي سألتُ يوماً عن مذهب الشيطان لأنّه أعلم من أئمّة
الجمهور، فكيف لا يكون له مذهب؟! فقلتُ: الذي اطّلعتُ عليه من تفسير القرآن أنّه أشعريّ الاصول، حنفيّ الفروع.
أمّا الأوّل، فلقوله: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ،۱ فنسب الغواية و حملها على حبّه، كما فعلته الأشاعرة.
و أمّا الثاني، فمن جهة عمله بالقياس لمّا أبي عن السجود و قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ،٢ حيث قايس بين العنصرين، و زعم أنّ عنصره الأشرف، فكيف يسجد لمن هو تحته في الفضل.
و لهذا قال عليه السلام: لَا تَقِيسوا، فإنَّ أوَّلَ مَن قَاسَ إبْلِيسُ!
لكنّه فُضِّل على القوم بأنّه استدلّ بقياس الأولويّة، و هم يستدلّون بالمساواة و ما في معناه.
مدّة الحمل عند العامّة و مدّة حمل الشافعيّ
و منها ما ذكره في بيان ما تعلّق بأمر الحمل و الولادة من كتابه «الأنوار» فقال: و ذهب مخالفونا إلى أنّ مدّة الحمل قد تكون أربع سنين، و ذلك محمّد بن إدريس الشافعيّ قد سافر أبوه عن امّه و بقي مدّة كثيرة.
فولدت الشافعيّ و أتت به بعد خمس سنين من سفر أبيه. فلمّا بلغ الشافعيّ و فهم الحكاية ذهب إلى مدّة الحمل قد تكون خمس سنين ستراً على ما صنعته امّه في غيبة أبيه.
و قد نقل هذا جمهور المخالفين. و لمّا كان من الامور الغريبة و الكرامات العجيبة و باعثاً لاتّهام الروافض، ذكروا لها علّة حاصلها أنّ محمّد بن إدريس الشافعيّ إنّما بقي في بطن امّه هذه المدّة الكثيرة لأنّ أبا حنيفة كان حيّاً في الدنيا، و كان الناس يستضيئون بأنوار قياساته،
فاستحى الإمام الشافعيّ أن يخرج إلى الدنيا و فيها الإمام المعظّم أبو حنيفة.
فلمّا مات أبو حنيفة، و أعلم الله الشافعيّ بموته خرج من بطن امّه.
فانظر إلى سرّ هذه القبائح، و إلى الإمام الشافعيّ كيف انفرد بهذه الفضيلة دون سائر مخلوقات الله سبحانه و تعالى؟! و لعمرك إنّهم لو قالوا:
ولد جار أبيه، لكان أولى من هذه التكلّفات، كما ذكروه في النسب الشريف للخليفة الثاني - انتهى كلام صاحب «الأنوار».
و قال صاحب «منتهى المقال» بعد نقله لعبارة رجل شيخنا الطوسيّ المتقدّمة في حقّ الرجل. أقول: هذا أحد أئمّة القوم، بل هو إمامهم الأعمّ، و شيخهم الأقدم. قال أبو حامد محمّد بن محمّد الغزّاليّ الشافعيّ في كتابه الموسوم «بالمنخول في علم الاصول» ما لفظه:
فَأمَّا أبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ قَلَّبَ الشَّرِيعَةَ ظَهْراً لِبَطْنٍ، وَ شَوَّشَ مَسلَكَهَا، وَ غَيَّرَ نِظَامَهَا، و أرْدَفَ جَمِيعَ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ بِأصْلٍ هَدَمَ بِهِ شَرْعَ مُحَمَّدٍ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. وَ مَن فَعَلَ شَيْئاً مِنْ هَذَا مُسْتَحِلًّا كَفَرَ، وَ مَن فَعَلَهُ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ فَسَقَ - ثُمَّ أطَالَ الكَلَامَ في طَعْنِهِ وَ تَفْسِيقِهِ.
استهزاء أبي حنيفة بقول النبيّ صلّى الله عليه و آله
و أمّا ابن الجوزيّ الحنبليّ، فنسب إليه في تاريخه المسمّى بـ «المُنْتَظَم» ما هو أفضع من ذلك و أعظم. قال في جملة كلامه: و بعد هذا فاتّفق الكلّ على الطعن فيه، ثمّ انقسموا إلى ثلاثة أقسام. فقوم طعنوا فيه بما يرجع إلى العقائد و كلام في الاصول. و قوم طعنوا في روايته و قلّة حفظه و ضبطه. و قوم طعنوا فيه لقوله بالرأي فيما يخالف الأحاديث الصحاح. ثمّ قال بعد كلام طويل:
أخبرنا عبد الرحمن الفرّار عن أبي إسحاق الفزاريّ قال: سألت أبا حنيفة عن مسألة، فأجاب فيها. فقلتُ: إنّه يُروي عن النبيّ صلّى الله
عليه و آله كذا و كذا. فقال: حُكِّ هَذَا بِذَنَبِ الخِنْزِيرِ.۱
و عن عبد الرحمن بن محمّد، عن أبي بكر بن الأسود قال: قلتُ لأبي حنيفة: روى نافع عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه و آله أنّه قال: البَيِّعَانُ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا. قَالَ: هَذَا رَجَزٌ.٢
و ذُكر حديثاً آخر عنه صلّى الله عليه و آله فقال: هَذَا هَذَيَانٌ.٣
أخبرنا عبد الرحمن بن محمّد عن عبد الصمد، عن أبي قال: ذُكر لأبي حنيفة قول النبيّ صلّى الله عليه و آله: أفْطَرَ الحَاجِمُ وَ المَحْجُومُ، فَقَالَ: هَذَا سَجْعٌ.٤
ثمّ ذكر من هذا القبيل قريب نصف كرّاسة. قال صاحب «منتهى المقال» فقبّح الله أقواماً يتركون أهل بيت أذن الله أن يُرفَع و يُذكر فيه اسمه، و يعتقدون بهذا و أشباهه - انتهى.
و من جملة ما ينسب إليه من الأشعار، و هو صادق فيما أخبر به فيه من مثل نفسه الغدّارة:
اخَرِّبُ دِينِي كُلَّ يَوْمٍ وَ أرْتَجِي | *** | عِمَارَةُ دُنْيَائِي وَ دُنْيَايَ أخْرَبُ |
فَهَا أنَا ذَا بَيْنَ الحِمَارَيْنِ رَاجِلٌ | *** | فَلَا الدِّينُ مَغْمُورٌ وَ لَا العَيْشُ أطيَبُ٥ |
كلام الخطيب البغداديّ في أبي حنيفة
و تحدّث الحافظ أبو بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغداديّ المتوفّى سنة ٤٦٣ هـ عن أبي حنيفة بالتفصيل في الجزء الثالث عشر من كتابه المعروف «تاريخ بغداد» في مائة و إحدى و ثلاثين صفحة، ص ٣٢٣ إلى ٤٥٤. و ذكر جميع ما نُقل عنه من مناقب و فضائل أو مساوئ و سيّئات و مثالب بأسناده المتسلسلة المسندة، و قال:
قال الخطيب: و قد سقنا عن أيّوب السختيانيّ، و سفيان الثوريّ، و سفيان بن عيينة، و أبي بكر بن عيّاش، و غيرهم من الأئمّة أخباراً كثيرة تتضمّن تقريظ أبي حنيفة و المدح له، و الثناء عليه.
و المحفوظ عند نقلة الحديث عن الأئمّة المتقدّمين و هؤلاء المذكورين منهم في أبي حنيفة خلاف ذلك، و كلامهم فيه كثير لُامور شنيعة حفظت عليه، متعلّق بعضها باصول الديانات، و بعضها بالفروع.
نحن ذاكروها بمشيئة الله، و معتذرون على من وقف عليها و كره سماعها، بأنّ أبا حنيفة عندنا مع جلالة قدره اسوة غيره من العلماء الذين دوَّنَّا ذكرهم في هذا الكتاب، و أوردنا أخبارهم، و حكينا أقوال الناس فيهم على تباينها، وَ اللهُ المُوَفِّقُ للصَّوَابِ.
ثمّ ذكر الخطيب (٦٦) مورداً حول انحراف أبي حنيفة في العقيدة و الفتوى، ص ٣۷۰ إلى ٣٩٥، و (۱٣۷) مورداً في أفعاله و أقواله الشنيعة، ص ٣٩٩ إلى ٤٤۸.
و نورد هنا من مجموع (٢۰٣) مورد أحصاها أربعين۱ مورداً فحسب غير مكرّرة مع المطالب السابقة، و هي على درجة كبيرة من الأهمّيّة بِحَوْل اللهِ و قوّته و لا حَوْلَ وَ لا قُوَّة إلّا بالله العليّ العظيم.
روى الخطيب أوّلًا بسنده عن يزيد بن هارون أنّه ذكر أبا حنيفة فقال: أبو حنيفة رجل من الناس خطأه كخطأ الناس، و صوابه كصواب الناس.
و بسند آخر عن محمّد بن سلم الخَتْليّ قال: أملى علينا أبو العبّاس أحمد بن عليّ بن مسلم الأبار في شهر جمادى الآخرة من سنة ٢۸۸، قال:
ذكر القوم الذين ردّوا على أبي حنيفة: أيّوب السَّخْتِيانيّ، و جرير بن حازم، و هَمّام بن يحيى، و حَمَّاد بن سَلِمَة، و حمّاد بن زيد، و أبو عوانة، و عبد الوارث، و سوّار العنبريّ القاضي، و يزيد بن زريع، و عليّ بن عاصم، و مالك بن أنس، و «جعفر بن محمّد»، و عمر بن قيس، و أبو عبد الرحمن المقرئ، و سعيد بن عبد العزيز، و الأوزاعيّ، و عبد الله بن المبارك، و أبو إسحاق الفزاريّ، و يوسف بن أسباط، و محمّد بن جابر، و سفيان الثوريّ، و سفيان بن عُيَيْنَة، و حمّاد بن أبي سليمان، و ابن أبي ليلى، و حفص بن غياث، و أبو بكر بن عيّاش، و شريك بن عبد الله، و وكيع بن الجرّاح، و رقبة بن مصقلة، و الفضل بن موسى، و عيسى بن يونس، و الحجّاج بن أرطاة، و مالك بن مغول، و القاسم بن حبيب، و ابن شُبْرُمَة.۱
أمّا الموارد التي اخترناها من تاريخ الخطيب، فهي كما يأتي:
الأوّل: قال الحارث بن عمير: و سمعته (أبا حنيفة) يقول: لو أنّ شاهدين شهدا عند قاضٍ أنّ فلان بن فلان طلّق امرأته. و علما جميعاً أنّهما شهدا بالزور، ففرّق القاضي بينهما. ثمّ لقيها أحد الشاهدين، فله أن يتزوّج بها؟! قال: نعم! ثمّ علم القاضي بعد، أ لَهُ أن يفرّق بينهما؟! قال:
لا.۱
الثاني: بسنده عن إسماعيل بن عيسى بن عليّ قال: قال لي شريك:
كفر أبو حنيفة بآيتين من كتاب الله تعالى: قال الله تعالى:
وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ.٢ و قال الله تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ.٣
و زعم أبو حنيفة أنّ الإيمان لا يزيد و لا ينقص، و زعم أنّ الصلاة ليست من دين الله.٤
الثالث: بسنده عن عبد الرحمن بن الحكم بن شتر بن سلمان عن أبيه - أو غيره و أكبر ظنّي أنّه عن غير أبيه - قال: كنت عند حمّاد بن أبي سليمان إذا أقبل أبو حنيفة. فلمّا رآه حمّاد، قال: لَا مَرْحَباً وَ لَا أهْلًا، إن سلّم فلا تردّوا عليه! و إن جلس فلا توسّعوا له! فجاء أبو حنيفة فجلس.
فتكلّم حمّاد بشيء، فردّه عليه أبو حنيفة. فأخذ حمّاد كفّاً من حصى فرمى به.٥
الرابع: بسنده عن شريك بن عبد الله قاضي الكوفة أنّ أبا حنيفة استتيب من الزندقة مرّتين.٦ و قيل لشريك: ممّا استتبتم أبا حنيفة؟! قال:
من الكفر.۷ و كان سفيان الثوريّ يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرّتين.۸ و قال يعقوب: مراراً.٩ و قال سفيان الثوريّ: مراراً.۱۰ و قال
سفيان بن عُيَيْنة: ثلاث مرّات.۱ و قال محمّد بن عبد الله الشافعيّ: سمعتُ جعفر بن شاكر يقول: إن ابن السنديّ روى عن عبد الله بن إدريس أنّه كان يقول: استتيب أبو حنيفة مرّتين. و يقول: كَذَّابٌ مَنْ زَعَمَ أنَّ الإيمَانَ لَا يَزِيدُ وَ لَا يَنْقُصُ.٢
الخامس: بسنده عن أبي بكر بن أبي داود السجستانيّ أنّه قال يوماً لأصحابه: ما تقولون في مسألة اتّفق عليها مالك و أصحابه، و الشافعيّ و أصحابه، و الأوزاعيّ و أصحابه، و الحسن بن صالح و أصحابه، و سفيان الثوريّ و أصحابه، و أحمد بن حنبل و أصحابه؟! فقالوا له: يا أبا بكر لا تكون مسألة أصحّ من هذه! فقال: هؤلاء كلّهم اتّفقوا على تضليل أبي حنيفة.٣
السادس: بسنده عن أبي مطيع قال: سمعت أبا حنيفة يقول: إن كانت الجنّة و النار خُلقتا فإنّهما تفنيان. قال أبو مطيع: و كذب و الله. قال السرّاج: و كذب و الله. قال النجّاد: و كذب و الله، قال الله تعالى: أُكُلُها دائِمٌ.٤ قال ابن الفضل: و كذب و الله.٥
السابع: بسنده عن أبي إسحاق الفزاريّ قال: كنتُ آتي أبا حنيفة أسأله عن الشيء من أمر الغزو. فسألته عن مسألة فأجاب فيها. فقلتُ له:
إنّه يُروى فيها عن النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم كذا و كذا. قال: دَعْنَا مِنْ هَذَا.٦
و بسنده عن عليّ بن عاصم قال: حدّثنا أبا حنيفة بحديث عن النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، فقال: لَا آخُذُ بِهِ. فقلتُ: عن النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم! قال: لَا آخُذُ بِهِ.۱
الثامن: بسنده عن يحيى بن آدم قال: ذُكر لأبي حنيفة هذا الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قال: الوُضُوءُ نِصْفُ الإيمَانِ. قال:
لتتوضّأ مرّتين حتى تستكمل الإيمان.
قال إسحاق: فقال يحيى بن آدم: الوضوء نصف الإيمان، يعني نصف الصلاة، لأنّ الله تعالى سمّى الصلاة إيماناً، فقال: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ،٢ يعني صلاتكم.
قال النبيّ: لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ إلَّا بِطَهُورٍ. فالطهور نصف الإيمان على هذا المعنى، إذ كانت الصلاة لا تتمّ إلّا به.
قال أبو عبد الله: قال إسحاق: قال يحيى بن آدم: ذُكر لأبي حنيفة قول من قال: لَا أدْرِي نِصْفُ العِلْمِ. قال: فليقل مرّتين: لا أدري، حتى يستكمل العلم.
قال يحيى: و تفسير قوله: لَا أدْرِي نِصْفُ العِلْمِ، لأنّ العلم إنمّا هو أدْرِي وَ لَا أدْرِي. فأحدهما نصف الآخر.٣
التاسع: بسنده عن وكيع قال: سأل ابن المبارك أبا حنيفة عن رفع اليدين في الركوع. فقال أبو حنيفة: يريد أن يطير فيرفع يديه؟! قال
وكيع: و كان ابن المبارك رجلًا عاقلًا، فقال ابن المبارك: إن كَانَ طَارَ في الاولَى فَإنَّهُ يَطِيرُ في الثَّانِيَةِ. فسكت أبو حنيفة و لم يقل شيئاً.۱
العاشر: نقل بسنده عن مؤمّل قال: سمعتُ حمّاد بن سَلِمَة يقول - و ذكر أبا حنيفة-: إن أبا حنيفة استقبل الآثار و السنن فردّها برأيه.٢
حكم أبي حنيفة في قطع يد السارق الذي سرق فسيل النخل
الحادي عشر: روى بسنده عن بشر بن السَّريّ قال: أتيتُ أبا عوانة فقلتُ له: بلغني أنّ عندك كتاباً لأبي حنيفة أخرجه! فقال: يا بني! ذكّرتني! فقام إلى صندوق له فاستخرج كتاباً. فقطّعه قطعةً قطعةً فرمى به.
فقلتُ: ما حملك على ما صنعتَ؟
قال: كنتُ عند أبي حنيفة جالساً فأتاه رسول بعجلة من قبل السلطان كأنّما قد حموا الحديد و أرادوا أن يقلّدوه الأمر. فقال: يقول الأمير: رَجُلٌ سَرَقَ وَدِيّاً٣ فَمَا تَرَى؟
فقال - غير متتعتع - إن كانت قيمته عشرة دراهم فاقطعوه! فذهب الرجل.
قلتُ: يا أبا حنيفة ألَا تَتَّقِي اللهَ!
حدّثني يحيى بن سعيد عن محمّد بن يحيى بن حبان، عن رافع بن خديج أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قال: لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَ لَا كَثَرٍ. أدْرِكِ الرجل فإنّه يُقطَع.
فقال - غير متتعتع - ذَاكَ حُكْمٌ قَدْ مَضَى فَانتهى! و قد قُطع الرجل.
فهذا ما يكون له عندي كتاب.۱
الثاني عشر: روى بسنده عن أبي عاصم، عن أبي عوانة قال: كنتُ عند أبي حنيفة، فسأله رجل عن رجل سرق وديّاً. فقال: عليه القطع. قال:
فقلتُ له: حدّثني يحيى بن سعيد عن محمّد بن يحيى بن حبان، عن رافع ابن خديج قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَ لَا كَثَرٍ.٢
قال: أيِّشْ تَقُولُ؟!
قلتُ: نعم! قال: ما بلغني هذا!
قلتُ: الرجل الذي أفتيته فردّه! قال: دَعْهُ! فَقَدْ جَرَتْ بِهِ البِغَالُ الشُّهُبُ.۱
قال أبو عاصم: أخَافُ أنْ تَكُونَ جُرْتَ بِلَحْمِهِ وَ دَمِهِ!٢
الثالث عشر: نقل بسنده عن عليّ بن صالح البغويّ قال: أنشدني أبو عبد الله محمّد بن زيد الواسطيّ لأحمد بن المعدّل:
إن كُنتِ كَاذِبَةَ الذي حَدَّثْتِني | *** | فَعَلَيْكَ إثْمٌ أبي حَنِيفَةَ أوْ زُفَرْ |
المَائِلَيْنِ إلى القِيَاسِ تَعَمُّداً | *** | وَ الرَّاغِبَيْنِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالخَبَر٣ |
تشبيه أبي حنيفة بالمولّدين من بني إسرائيل
الرابع عشر: قال الخطيب: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، حدّثنا محمّد بن
أحمد بن الحسن الصوّاف، حدّثنا بشر بن موسى، حدّثنا الحميديّ، حدّثنا سفيان عن هشام بن عروة، عن أيه، قال: لَمْ يَزَلْ أمْرُ بني إسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِمُ المُوَلَّدُونَ، أبْنَاءُ سَبَايَا الامَمِ، فَقَالُوا فِيهِمْ بِالرَّأيِ فَضَلُّوا وَ أضَلُّوا.
قال سفيان: و لم يزل أمر الناس معتدلًا حتى غيّر ذلك أبو حنيفة بالكوفة، و [عثمان] البتيّ بالبصرة، و ربيعة [بن أبي عبد الرحمن] بالمدينة، فنظرنا فوجدناهم من أبناء سبايا الامم.۱
الخامس عشر: روى بسنده عن حَمْدَوَيْه قال: قلتُ لمحمّد بن مَسْلَمة: ما لرأي النعمان دخل البلدان كلّها إلّا المدينة؟
قال: إن رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قال: لا يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ وَ لَا الطَّاعُونُ. و هو دجّال من الدجاجلة.٢
السادس عشر: روى بسنده عن أبي صالح الأسديّ قال: سمعتُ شريكاً يقول: لأنْ يَكُونَ في كُلِّ حَيّ مِنَ الأحْيَاءِ خَمَّارٌ خَيْرٌ مِنْ أنْ يَكُونَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ.٣
و روى بسند آخر عن منصور بن أبي مزاحم قال: سمعتُ شريكاً بن عبد الله يقول: لَوْ أنَّ في كُلِّ رَبْعٍ مِنْ أرْبَاعِ الكُوفَةِ خَمَّارٌ يَبِيعُ الخَمْرَ كَانَ
خَيْراً مِنْ أنْ يَكُونَ فِيهِ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ أبي حَنِيفَةَ.۱
كلام شريك حول انحراف أبي حنيفة ترجمة
السابع عشر: روى بسنده عن الأسود بن عامر، عن شريك قال: إنَّما كَانَ أبُو حَنِيفَةَ جَرَباً.٢
الثامن عشر: روى بسنده عن ابن أبي سريج قال: سمعتُ الشافعيّ يقول: سمعتُ مالك بن أنس - و قيل له: تعرف أبا حنيفة - فقال: نعم! ما ظنّكم برجلٍ لو قال: هذه السارية من ذهب لقام دونها حتى يجعلها من ذهب، و هي من خشب أو حجارة؟!
قال أبو محمّد: يعني أنّه كان يثبت على الخطأ و يحتجّ دونه، و لا يرجع إلى الصواب إذا بان له.٣
و ذكر الخطيب صدر هذه الرواية عن الشافعيّ، عن مالك بسند آخر في بيان فقه أبي حنيفة.٤
التاسع عشر: روى بسنده الصحيح عن أبي بلال الأشعريّ قال:
سمعتُ أبا يوسف القاضي يقول: كنّا عند هارون أنا، و شريك، و إبراهيم بن أبي يحيى، و حفص بن غياث. قال: فسأل هارون عن مسألة.
فقال إبرهيم بن أبي يحيى: حدّثنا صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم.
قال: و قال شريك: حدّثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر بن الخطّاب. و قال حفص: حدّثنا الأعمش عن إبراهيم، عن علقمة قال: قال عبد الله.
قال: و قال (هارون) لي أنا: ما تقول أنتَ؟
قال: قلتُ قال أبو حنيفة.
قال: فقال (هارون) خَاكْ بِسَرْ.
قال الخطيب: قُلْتُ: تَفْسيرُهُ تُرَابٌ عَلَى رَأسِكَ.۱
و الملفت للنظر هنا أنّ هارون قال: «خاك بِسَرْ» بالفارسيّة، و فسّرها الخطيب بالعربيّة.
العشرون: روى بسنده عن عبد الله بن المبارك قال:
مَنْ نَظَرَ في كِتَابِ الحِيَلِ لأبي حَنِيفَةَ أحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَ حَرَّمَ مَا أحَلَّ اللهُ.٢
و من هنا يتبيّن أنّ أبا حنيفة الذي أراد في هذا الكتاب أن يستعمل الحيل الشرعيّة حسب اعتقاده قد ابتعد عن الحقيقة بنحو تتغيّر فيه أحكام الله.
كما روى الخطيب بسنده عن أحمد بن سعيد الدارميّ أنّه قال:
سمعتُ النضر بن شُمَيِّل يقول: في كِتَابِ الحِيَلِ كَذَا كَذَا مَسألةً كُلُّهَا كُفْرٌ.٣
و روى بسنده عن أبي إسحاق الطالقانيّ قال: سمعتُ عبد الله بن المبارك يقول: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابُ حِيَلِ أبي حَنِيفَةَ يَسْتَعْمِلُهُ - أوْ يُفْتِي بِهِ - فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ، وَ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأتُهُ.
فقال مولى بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن! ما أدري وضع كتاب الحيل إلّا شيطان! فقال ابن المبارك: الذي وضع كتاب الحيل أشرّ من
الشيطان.۱
و روى بسنده أيضاً عن زكريّا بن سهل المروزيّ قال: سمعتُ أبا إسحاق الطالقانيّ يقول: سمعتُ المبارك يقول:
مَن كَانَ كِتَابُ الحِيَلِ في بَيْتِهِ يُفْتِي بِهِ أوْ يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ بَانَتِ امْرَأتُهُ وَ بَطَلَ حَجُّهُ.
فتوى أبي حنيفة تفصل النساء عن أزواجهنّ
قال: فقيل له: إن في هذا الكتاب إذَا أرَادَتِ المَرْأةُ أنْ تَخْتَلِعَ مِنْ زَوْجِهَا ارتَدَّتْ عَنِ الإسْلَامِ حتى تَبِينَ، ثُمَّ تُرَاجِعَ الإسْلَامَ.
فقال عبد الله: من وضع هذا فهو كافر، بانت منه امرأته، و بطل حجّه. فقال: له خاقان المؤذّن: مَا وَضَعَهُ إلَّا إبلِيسُ.
قال: الذي وَضَعَهُ أبْلَسُ مِنْ إبْلِيسَ.٢
و لهذا نجد أنّ عبد الله بن المبارك قد رجع عن أبي حنيفة، و كان ينحاز إليه في بادئ الأمر. و لمّا اطّلع على آرائه و حيله و فتاواه الشيطانيّة، عدل عن جميع الروايات التي رواها عنه و استغفر الله.
قال الخطيب: أخبرني زكريّا قال: أخبرنا الحسين بن عبد الله النسابوريّ قال: أشهد على عبد الله - يعني ابن المبارك - شهادةً يسألني الله عنها أنّه قال لي: يَا حُسَيْنُ قَدْ تَرَكْتُ كُلَّ شَيءٍ رَوَيْتُهُ عَنْ أبي حَنِيفَةَ، فاسْتَغْفِرُ اللهَ وَ أتُوبُ إلَيْهِ.٣
الحادي و العشرون: روى بسنده عن محمّد بن يوسف الفريابي قال:
كان سفيان الثوريّ ينهى عن النظر في رأي أبي حنيفة. قال: و سمعتُ محمّد بن يوسف و سُئل: هل روى سفيان الثوريّ عن أبي حنيفة شيئاً؟
قال: مَعَاذَ اللهِ! سمعتُ سفيان الثوريّ يقول: ربّما استقبلني أبو حنيفة يسألني عن مسألة فاجيبه و أنا كاره. و ما سألته عن شيء قطّ.۱
الثاني و العشرون: روى بسنده عن محمّد بن عُبيد الطنافسيّ قال:
سمعتُ سفيان - و ذُكر عنده أبو حنيفة - فقال: يَتَعَسَّفُ الامُور بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لَا سُنَّةٍ.٢
الثالث و العشرون: روى بسنده عن سفيان بن وكيع بن الجرّاح قال:
سمعتُ أبي يقول: ذكروا أبا حنيفة في مجلس سفيان، فقال: كَانَ يُقَالُ:
عَوِّذُوا بِاللهِ مِنْ شَرِّ النَّبَطِيّ إ ذَا اسْتَعْرَبَ!٣
الرابع و العشرون: روى بسنده عن عبد الله بن عبد الرحمن قال:
سئل قيس بن الربيع عن أبي حنيفة، فقال: مِنْ أجْهَلِ النَّاسِ بِمَا كَانَ، وَ أعْلَمِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ.٤
الخامس و العشرون: روى بسنده عن زكريّا قال: سمعتُ محمّد بن الوليد البسريّ قال: كنتُ قد تحفّظتُ قول أبي حنيفة، فبينا أنا يوماً عند أبي عاصم، فدرست عليه شيئاً من مسائل أبي حنيفة، فقال:
مَا أحْسَنَ حِفْظَكَ، وَ لَكِنْ مَا دَعَاكَ أنْ تَحْفَظَ شَيئاً تَحْتَاجُ أنْ تَتُوبَ إلى اللهِ مِنْهُ.٥
السادس و العشرون: روى بسنده عن يحيى بن آدم قال: حدّثنا سفيان بن سعيد، و شريك بن عبد الله، و الحسن بن صالح، قالوا: أدْرَكْنَا أبَا حَنِيفَةَ وَ مَا يَعْرِفُ بِشَيْءٍ مِنَ الفِقْهِ، مَا نَعْرِفُهُ إلَّا بِالخُصُوماتِ.٦
السابع و العشرون: روى بسنده عن المزنيّ قال: سمعتُ الشافعيّ يقول: ناظر أبو حنيفة رجلًا، فكان يرفع صوته في مناظرته إيّاه. فوقف عليه رجل فقال الرجل لأبي حنيفة: أخطأتَ! فقال أبو حنيفة للرجل:
تعرف المسألة ما هي؟! قال: لا! قال: فكيف تعرف أنّي أخطأتُ؟! قال:
أعرفك إذا كان لك الحجّة ترفق بصاحبك، و إذا كانت عليك تشغب و تجلب.۱
الثامن و العشرون: روى بسنده عن أبي ربيعة محمّد بن عوف قال:
سمعتُ حمّاد بن سلمة يُكنّي أبا حنيفة أبا جِيفَة.٢
التاسع و العشرون: روى بسنده عن حنبل بن إسحاق قال: سمعتُ الحميديّ يقول لأبي حنيفة - إذا كنّاه - أبو جيفة، لا يكنّى عن ذاك، و يظهره في المسجد الحرام في حلقته و الناس حوله.٣
شهادة علماء العامّة على جهل أبي حنيفة
الثلاثون: روى بسنده عن محمّد بن بشّار العبديّ بنداراً يقول: قلّما كان عبد الرحمن بن مهديّ يذكر أبا حنيفة إلّا قال: كَانَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الحَقِّ حِجَابٌ.٤
الحادي و الثلاثون: روى بسنده عن عمر بن قيس قال: مَنْ أرَادَ الحَقَّ فَلْيَأتِ الكُوفَةَ فَلْيَنْظُر مَا قَالَ أبُو حَنِيفَةَ وَ أصْحَابُهُ فَلْيُخَالِفُهُمْ.٥
و على هذا الأساس روى الخطيب بسنده عن عمّار بن زريق قال:
خَالِف أبَا حَنِيفَةَ فَإنَّكَ تُصِيبُ.٦
و قال بشري: فَإنَّكَ إ ذَا خَالَفْتَهُ أصَبْتُ.۷
الثاني و الثلاثون: روى بسنده عن يحيى بن أيّوب، عن صاحب له ثقة قال: كنتُ جالساً عند أبي بكر بن عيّاش، فجاء إسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة، فسلّم و جلس. فقال أبو بكر: مَن هَذا؟!
فقال: أنا إسماعيل يا أبا بكر! فضرب أبو بكر يده على ركبة إسماعيل، ثمّ قال: كَمْ مِنْ فرْجٍ حَرَامٍ أبَاحَهُ جُدُّكَ!۱
الثالث و الثلاثون: روى بسنده عن أبي مَعْمَر قال: قال أبو بكر بن عيّاش: يَقُولُونَ: إن أبَا حَنِيفَةَ ضُرِبَ عَلَى القَضَاء. إنَّمَا ضُرِبَ عَلَى أنْ يَكُونَ عَرِيفاً عَلَى طَرْزِ حَاكَةِ الخَزَّازِينَ.٢
الرابع و الثلاثون: روى بسنده عن محمّد بن عبد الوهّاب قال: قلتُ لعليّ بن عثام: أبو حنيفة حُجَّةٌ؟! فقال: لَا لِلدِّينِ وَ لَا لِلدُّنْيَا.٣
اتّهام مؤمن الطاق أبا حنيفة بالتناسخ
الخامس و الثلاثون: روى بسنده عن محمّد بن جعفر الأساميّ قال:
كان أبو حنيفة يتّهم شيطان الطاق بالرجعة، و كان شيطان الطاق يتّهم أبا حنيفة بالتناسخ. قال: فخرج أبو حنيفة يوماً إلى السوق، فاستقبله شيطان الطاق و معه ثوب يريد بيعه. فقال له أبو حنيفة: أ تَبِيعُ هَذَا الثَّوْبَ إلى رُجُوعِ عَلِيّ؟!
فقال: إن أعْطَيْتَنِي كَفِيلًا أنْ لَا تُمْسَخَ قِرْداً بِعْتُكَ! فَبُهِتَ أبُو حَنِيفَة.
قال: و لمّا مات جعفر بن محمّد [عليه السلام] التقى هو و أبو حنيفة، فقال له أبو حنيفة أمَا إمَامُكَ فَقَدْ مَاتَ!
فقال له شيطان الطاق: أمَّا إمَامُكَ فَمِنَ المُنْظَرِينَ إلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ.۱
السادس و الثلاثون: روى بسنده عن عصام بن يزيد الأصفهانيّ قال: سمعتُ سفيان الثوريّ يقول: أبُو حَنِيفَةَ ضَالٌّ مُضِلٌّ.٢
و روى بسنده عن رجاء السنديّ قال: قال عبد الله بن إدريس: أمَّا أبُو حَنِيفَةَ فَضَالٌّ مُضِلٌّ، وَ أمَا أبُو يُوسُفَ فَفَاسِقٌ مِنَ الفُسَّاقِ.٣
السابع و الثلاثون: روى بسنده عن يزيد بن هارون قال: مَا رَأيْتُ قَوْماً أشْبَهَ بِالنَّصَارَى مِنْ أصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ.٤
الثامن و الثلاثون: روى بسنده عن هارون بن سعيد الإيليّ قال:
سمعتُ الشافعيّ يقول: مَا أعلَمُ أحَداً وَضَعَ الكِتَابَ أدَلَّ عَلَى عِوَارِ قَوْلِهِ مِنْ أبي حَنِيفَةَ.۱
التاسع و الثلاثون: روى بسنده عن أحمد بن سنان بن أسد القَطَّان قال: سمعتُ الشافعيّ يقول: مَا شَبَّهْتُ رَأي أبي حَنِيفَةَ إلَّا بِخَيْطِ السَّحَّارَةِ يَمُدُّ كَذَا فَيُجِيءُ أخْضَرَ، وَ يَمُدُّ كَذَا فَيَجِيءُ أصْفَرَ.٢
الأربعون: روى بسنده عن محمّد بن يوسف البيكنديّ قال: قيل لأحمد بن حنبل: قول أبي حنيفة: الطلاق قبل النكاح؟ فقال: مِسْكِين أبو حنيفة! كأنّه لم يكن من العراق! كأنّه لم يكن من العلم بشيء. قد جاء فيه عن النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، و عن الصحابة، و عن نيف و عشرين من التابعين مثل سعيد بن جبير، و سعيد بن المسيّب، و عطاء، و طاووس، و عِكرمة. كيف يجترئ أن يقول: تطلق؟٣ و لهذا كان أحمد بن حنبل يقول: مَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَ البَعْرُ عِنْدِي إلَّا سَوَاءٌ.٤
ردّ ابن المبارك على أحاديث أبي حنيفة
الحادي و الأربعون: روى بسنده عن عليّ بن جرير الأبيورديّ قال:
قدمتُ على ابن المبارك فقال له رجل: إن رجلين تماريا عندنا في مسألة،
فقال أحدهما: قال أبو حنيفة، و قال الآخر: قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم. قال: كان أبو حنيفة أعلم بالقضاء. فقال ابن المبارك: أعِد عَلَيّ! فأعاد عليه، فقال: كُفْرٌ كُفْرٌ.
قلتُ: بِكَ كَفَرُوا، وَ بِكَ اتَّخَذُوا الكَافِرَ إمَاماً! قال: و لِمَ؟! قلتُ:
بروايتك عن أبي حنيفة! قال: أستغفر الله من رواياتي عن أبي حنيفة.۱
من هنا قال عيسى بن عبد الله الطيالسيّ: سمعتُ ابن المبارك يقول:
كَتَبتُ عَنْ أبي حَنِيفَةَ أرْبَعمِائَةِ حَدِيثٍ إ ذَا رَجَعْتُ إلى العَرَاقِ إن شَاءَ اللهُ مَحَوْتُهَا.٢
و كان إبراهيم بن شمّاس يقول: سمعتُ ابن المبارك يقول: اضْرِبُوا عَلَى حَدِيثِ أبي حَنِيفَةَ.٣
و قال الحسن بن الربيع: ضَرَبَ ابْنُ المُبَارَكِ عَلَى حِدِيثِ أبي حَنِيفَةَ قَبْلَ أنْ يَمُوتَ بِأيَّامٍ يَسِيرَةٍ.٤
من الجدير بالذكر أنّ ما أورده الخطيب في «تاريخ بغداد» حول أبي حنيفة كلّه كان بسنده الصحيح المتّصل المستند، فلهذا إن ثبتت شناعة على أبي حنيفة، فهي على ذمّة التأريخ، لا على ذمّة الخطيب.
لقد ذُكرت سيّئات أبي حنيفة و قبائحه في العقيدة، و الأفعال، و الأقوال في مواطن أنافت على المائتين، و الخطيب أحصاها، و نقل أسماء الرواة واحداً واحداً. و هؤلاء الرواة هم من مصادر كتب الحديث عند العامّة و أركانها. و إذا أسقطناهم، فإنّ جميع رواياتهم تسقط و لا يبقى لهم شيء.
إن مصحّح الكتاب و المعلِّق عليه هو محمّد حامد الفقيّ، و هو من علماء الأزهر، و عرّف نفسه في آخر الكتاب على أنّه خادم السنّة النبويّة.
و لقد بذل قصارى جهده في هوامش الكتاب، لتضعيف تلك الروايات من منظار العامّة لسبب معيّن، فتسقط من حيث السند.
و كم أخطأ! إذ إنّه عجز عن القدح في كثير منها، لذا ينبغي أن نسمّيها حسب عُرف العامّة: روايات صحيحة. ثانياً: إن مواطن الضعف التي أحصاها مرفوضة، مضافاً إلى أنّ شخصاً مثل الخطيب الذي يعدّ كتابه مصدراً لمراجعة الخاصّ و العامّ، و هو مقبول عند جميع المؤرّخين و أرباب التصنيف قد تلقّى تلك الروايات بالقبول، و استشهد بها في كتابه بوصفها روايات معتبرة و معتمد عليها. ثالثاً: ذكر الخطيب في مسنده روايات نقلها عن رجال مثل أبي نعيم الحافظ الأصفهانيّ، و أبي عوانة. فإذا طعنّا في شخصيّة مثل صاحب «حلية الأولياء»، أو اعترضنا على رجل كأبي عوانة في هذه الروايات. فأيّ مصدر أفضل منهما أو في منزلتهما يمكن أن نراجعه بعد؟!
إن ما غَرَّ المعلّق و المصحّح المذكور هو كتاب «السهم المُصِيب في كَبدِ الخَطيب»۱ الذي ألّفه الملك المعظّم على حدّ تعبيره، و هاجم فيه
الخطيب.
أنّى لإشكالاته أن تدحض إشكالات الخطيب؟! فما قيل في أبي حنيفة لا يقتصر على خطيب بغداد. بل ذكره الجميع، و الخطيب أحدهم.
أ لم يصنّف أبو المعالي عبد الملك الجوينيّ إمام الحرمين كتابه «مُغيث الخلق في ترجيح القول الحقّ» في الردّ على أبي حنيفة و فتاواه الشنيعة؟!
و عنه۱ نقلنا تلك الصلاة المعلومة المرويّة عن القفّال المروزيّ بحضور السلطان محمود سبكتكين على مذهب أبي حنيفة. و ذكرها نقلًا عنه صاحب «وفيّات الأعيان»، و صاحب «الروضات» عن صاحب «الوفيّات». و ذُكرت جميع هذه الخصوصيّات بأسنادها و مصادرها قريباً.
أجل، من الضروريّ، و قد بلغنا ببحثنا هذه النقطة، أن نذكر شيئاً من فتاوى أبي حنيفة، و مالك، و الشافعيّ، و أحمد بن حنبل ليستبين للقرّاء الكرام أنّ انتقادنا للمذاهب الأربعة لا ينطلق من التعصّب و النعرة المذهبيّة، فهذه آراؤهم و نظريّاتهم مدوّنة في الكتب، و هم يعملون بها، و يتمسّك بها علماؤهم، و يحكم بها قضاتهم في محاكمهم و دوائرهم.
مرجع الكتب الشاملة لفتاوى الفقهاء الاربعة
أخذتُ المطالب الآتية المتمثّلة بآراء الفقهاء الأربعة من كتب وثائقيّة أصيلة من الطراز الأوّل، و لا شكّ و لا ريب في صحّتها. و هذه الكتب هي:
۱ - كتاب «الامّ»، تصنيف محمّد بن إدريس الشافعيّ في ثمانية أجزاء كبيرة.
٢ - كتاب «الدرّ المختار» في الفقه الحنفيّ، تصنيف محمّد علاء الدين الحَسْكَفيّ في شرح كتاب «تنوير الأبصار» تصنيف محمّد تمرتاشي الحنفيّ في جزء واحد.
٣ - كتاب «الأصل» تصنيف أبي عبد الله محمّد بن الحسن الشيبانيّ، و هو من أعلام تلامذة أبي حنيفة الزوطيّ، في ستّة أجزاء.
٤ - كتاب «المدوّنة الكبرى» تصنيف مالك بن أنس في ستّة أجزاء.
٥ - كتاب «المقدّمات» تصنيف أبي الوليد محمّد بن أحمد بن رشد في جزءين.
٦ - كتاب «بداية المجتهد و نهاية المقتصد» تصنيف أبي الوليد محمّد ابن أحمد بن الوليد: محمّد بن أحمد بن رُشد القُرطُبيّ المالكيّ حفيد ابن رشد الآنف الذكر، في جزءين.
۷ - كتاب «الخلاف» تصنيف شيخ الطائفة الحقّة: أبي جعفر محمّد ابن الحسن الطوسيّ قدّس الله تربته الشريفة في جزءين.
۸ - كتاب «تذكرة الفقهاء» تصنيف أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطَهّر: العلّامة الحلّيّ تغمّده الله في بُحبوحة رضوانه في جزءين، طبعة حجريّة رحليّة.
٩ - كتاب «ربيع الأبرار» تصنيف جار الله: محمود بن عُمَر الزمخشريّ في خمسة أجزاء.
۱۰ - كتاب «الفصول المختارة» بقلم الشريف المرتضى علم الهُدى، و إنشاء شيخنا المتكلّم الأقدم الشيخ المفيد أعلى الله مقامهما، و قد طبع بعنوان «الفهرست» دفعاً لمضايقة السلطان السنّيّ في بغداد، في جزء واحد.
۱۱ - كتاب «نهج الحقّ و كشف الصدق» تصنيف العلّامة الحلّيّ المذكور رحمه الله، طبعة دار الهجرة بقم، في جزء واحد.
۱٢ - كتاب «الفقه على المذاهب الخمسة» تصنيف العالم الكبير الشيخ محمّد جواد مغنية، في جزءين.
۱٣ - كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة» تصنيف عبد الرحمن الجزيريّ، في خمسة أجزاء.
و لمّا كان المحدِّث النبيل السيّد نعمة الله الجزائريّ قد جمع هذه الفتاوى في كتاب «الأنوار النعمانيّة في بيان معرفة النَّشْأة الإنسانيّة» في سياق بيان كتاب يوحنّا اليهوديّ، لهذا نذكر فيما يأتي تلك الحكاية من الكتاب لتستبين خصائص هذا الكتاب اللطيف و تفصيلاته، و تتّضح بعض الفتاوى على حدٍّ سواء. يقول:
حوار يوحنّا مع علماء العامّة
و يعجبني نقل نبذة من كتاب يوحنّا اليهوديّ، قال بعد أن ذكر الاختلافات في المذاهب و الأديان، و أوّل الشبهة أنّ واضعها الشيطان، و آخر الشبهة أنّ واضعها عمر بن الخطّاب و أضرابه ما هذا لفظه:
قال يوحنّا: فلمّا رأيتُ هذه الاختلافات من كبار الصحابة الذين يُذكرون مع رسول الله فوق المنابر عظم عَلَيّ الأمر و غمّ عَلَيّ الحال، و كدتُ أن افتن في ديني (كنتُ حديث عهد بالإسلام). فقصدتُ بغداد و هي إذاً قبّة الإسلام لأخاوض فيها علماء الإسلام لأنظر الحقّ و أتّبعه. فلمّا اجتمعتُ بعلماء المذاهب الأربعة، قلتُ لهم: أنا رجل ذمّيّ و قد هداني الله تبارك و تعالى للإسلام فأسلمتُ، و قد أتيتكم لأتقبّل عنكم معالم الدين و شرائع الإسلام! فقال كبيرهم و هو الحنفيّ: يا يوحنّا مذاهب الإسلام أربعة فاختر لنفسك واحداً منها، ثمّ اشرع في قول ما تريد. فقلتُ لهم: أنّي رأيتُ تخالف المذاهب و علمت أنّ الحقّ منها واحد فاختاروا لي ما تعلمون
أنّه الحقّ الذي كان عليه نبيّكم. ثمّ قال الحنفيّ: إنّا لا نعلم الحقّ الذي كان عليه نبيّنا، بل نعلم أنّ طريقته غير خارجة عن الفرق الإسلاميّة. و كلّ من أربعتنا يقول: إنّه محقّ لكن يمكن أن يكون مبطلًا و يقول: إن غيره مبطل لكن يمكن أن يكون غيره محقّاً. و بالجملة أنّ مذهب أبي حنيفة أنسب المذاهب كلّها، و أقيسها للحقّ، و أطبقها للسنّة و أرفعها عزّاً عند الناس، إذ مذهبه مختار أكثر الامّة و سلاطينها، فعليك به تنجُ!
قال يوحنّا: فصاح به إمام الشافعيّة و أظنّ أنّه كان بين الشافعيّ و الحنفيّ منازعات. فقال له: اسكت! لا نطقت و اللهِ لقد كذبتَ و تقوّلتَ! و من أين و التمييز بين المذاهب و ترجيح المجتهدين.
وَيْلَكَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! أ لك وقوف على ما قاله أبو حنيفة و ما قاس برأيه، فإنّه المسمّى بصاحب الرأي يجتهد في مقابلة النصّ، و يستحسن في دين الله تعالى، و يعمل به حتى أوقعه رأيه في الوهن في أن قال:
۱ - لو عقد رجل في أقصى الهند على امرأةٍ بكر و هي في الروم عقداً شرعيّاً، ثمّ أتاها بعد سنين متعدّدة فوجدها حاملة و بين يديها أولاد يمشون فيقول لها: ما هؤلاء؟! فتقول له: أولادك. فيرافعها في ذلك إلى القاضي الحنفيّ، فيحكم أنّ الأولاد لصلبه، يلحقون به ظاهراً و باطناً، يرثهم و يرثونه، فيقول ذلك المحارف: و كيف ذلك و لم أقربها قطّ؟! فيقول القاضي: يحتمل أن يكون قد احتلمت و أطارت الريح منيّك في قطنة، فوقعت في فرج هذه المرأة فحملت، فهل يا حنفيّ هذا مطابقٌ للكتاب و السنّة؟!۱
قال: نعم! إنّما يلحق بها، لأنّها فراشه. و قال النبيّ صلّى الله عليه و آله: الوَلَدُ لِلفِرَاشِ، وَ لِلعَاهِرِ الحَجَرُ. و الفراش يتحقّق بالعقد، و لا يشترط فيه الوطئ. فمنع الشافعيّ أنّه لا يصير فراشاً بدون الوطئ، فغلب الشافعيّ بالحجّة، ثمّ قال الشافعيّ:
أبو حنيفة: حكم القاضي نافذ ظاهراً و باطناً
٢ - قال أبو حنيفة: لو أنّ امرأةً تزفّ إلى بيت زوجها فعشقها رجل فادّعى عند قاضي الحنفيّة أنّه عقد عليها قبل الرجل الذي زُفَّت إليه، و أرشى المدعي فاسقَين حتى شهدا له كذباً بدعواه. فحكم القاضي بزوجيّة تلك المرأة، فإنّها تحلّ عليه ظاهراً و باطناً عند أبي حنيفة، و تحرم على الرجل الأوّل ظاهراً و باطناً، و تحلّ على الشهود الذين تعمّدوا الكذب في شهاداتهم. (إذ عقد أحد ذينك الشاهدَين عليها أحياناً، فإنّها تحلّ له ظاهراً و باطناً). فانظروا أيّها الناس! هل هذا يصدر ممّن عرف قواعد الإسلام؟!
قال الحنفيّ: لا اعتراض لك عندنا! إن حكم القاضي ينفذ ظاهراً و باطناً. و هذا متفرّع عليه.
و خصمه الشافعيّ، و منع من أن ينفذ حكم القاضي ظاهراً و باطناً بقوله تعالى: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.۱ و لم ينزل الله تعالى ذلك.
ثمّ قال الشافعيّ:
٣ - قال أبو حنيفة: لو أنّ امرأةً غاب عنها زوجها و انقطع خبره، فجاء رجل و قال: زوجك قد مات. فاعتدّت و بعد العدّة عقد عليها رجل آخر و دخل بها و جاءت منه بأولاد. ثمّ غاب الرجل الثاني عنها و ظهر حياة الأوّل، و حضر عندها، فإنّ جميع أولاد الرجل الثاني يكونون أولاد الرجل الأوّل، يرثهم و يرثونه.
فيا اولى العقول الباهرة، هل يذهب إلى هذا القول من له دراية أو نظر؟! فقال الحنفيّ، إنّما أخذ أبو حنيفة هذا من قول: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَ لِلعَاهِرِ الحَجَرُ. فاحتجّ عليه الشافعيّ بكون الفراش مشروطاً بالدخول، و غلبه. ثمّ قال الشافعيّ:
٤ - و إمامك أبو حنيفة قال: لو عشق رجل امرأةَ مسلم، و ادّعى عند القاضي كذباً أنّ زوجها طلّقها، و جاء بشاهدين فشهدا له كذباً، فحكم القاضي بطلاقها، حرمت على زوجها الأوّل. و جاز للمدّعي نكاحها و للشهود أيضاً. و زعم أنّ حكم القاضي ينفذ باطناً و ظاهراً. و قد عرفت ما
فيه. فقال الشافعيّ:
تصديق المذنب الشهودَ يوجب سقوط الحدّ!
٥ - و إمامك أبو حنيفة قال: إذا شهد أربعة رجال على رجل بالزنا.
فإن صدّقهم سقط الحدّ، و إن كذّبهم لزم.۱ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ.٢
٦ - و قال أبو حنيفة: لو لاط رجل بصبيّ و يوقبه (لم يمني) فلا حدّ عليه،٣ يُعزَّر، و رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ اقْتُلُوا الفَاعِلَ وَ المَفْعُولَ.
۷ - و قال أبو حنيفة: إن مَن لفّ على ذكره خرقة وزنى بامّه و بنته، جاز.٤
۸ - و قال أبو حنيفة: لو غصب أحد حنطةً من مسلم، فطحنها ملكها.
فلو أراد صاحب الحنطة أن يأخذ حنطته و يعطي الغاصب الاجرة لم يجب على الغاصب إجابته و له منعه. فلو قاتله فقتل صاحب الحنطة، كان دمه هدراً. و لو قتل الغاصب قُتل صاحب الحنطة به.٥
٩ - و قال أبو حنيفة: لو سرق سارق ألف دينار، و سرق ألفاً اخرى من آخر و مزجهما، ملك الجميع و لزمه البدل.
موارد من فتوى أبي حنيفة المخالفة للشرع و العقل
۱۰ - و قال أبو حنيفة: لو قتل المسلم التقيّ العالم كافراً جاهلًا، قُتل المسلم به، و الله تعالى يقول في محكم كتابه: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.۱
۱۱ - و قال أبو حنيفة: لو قتل حُرٌّ عبداً قيمته عشرة دراهم، قُتِل الحرّ به، و الله تعالى يقول: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الانْثَى بِالانْثَى.٢
۱٢ - و قال أبو حنيفة: لو اشترى أحد أمَةً و اختها، و نكحهما لم يكن عليه حدّ، و إن علم و تعمّد، و قد قال الله تبارك و تعالى: وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ.٣
۱٣ - و قال أبو حنيفة: لو عقد على امّه أو اخته عالماً بأنّها امّه و اخته و ادخل بها، لم يكن عليه حدّ، لأنّ العقد شبهة.٤
۱٤ - و قال: لو نام رجل على طرف حوضٍ من نبيذ، فانقلب في نومه و وقع في الحوض، ارتفعت جنابته و طهر.٥
۱٥ - و قال أبو حنيفة: لا تجب النيّة في الوضوء و لا في الغسل. و في الصحيح: إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.۱
۱٦ - و قال: لا تجب البسملة في الفاتحة و أخرجها عنها، مع أنّ الخلفاء كتبوها في المصاحف بعد تجويد القرآن.
۱۷ - و قال: لو سُلخ جلد الكلب الميّت، و دُبغ، طهر، و حلّ له شرب الماء فيه، و لبسه في الصلاة. و هذا مخالف لنصّ تنجيسه المقتضي لتحريم الانتفاع به.٢ بل يا حنفيّ!
۱۸ - في مذهبك أنّه يجوز للمسلم إذا أراد الصلاة أن يتوضّأ بنبيذٍ، و يلبس جلد كلب مدبوغ، و يفرش تحته مثل ذلك، و يسجد على عذرة يابسة، و يكبّر بالهنديّة، و يقرأ بالعبرانيّة أو الفارسيّة، و يقول بعد الفاتحة (دو برگ سبز) يعني: مُدْهَآمَّتَانِ، ثمّ يركع و لا يرفع رأسه، ثمّ يسجد و يفصل بين السجدتَين بمثل حدّ السيف، و قبل التسليم يتعمّد خروج الريح، فإنّ صلاته صحيحة. و إن أخرج الريح ناسياً بطلت صلاته.٣
فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ، أ يجوز لنبيّ أن يأمر امّته بمثل هذه الصلاة؟!٤
فأفحم الحنفيّ و امتلأ غيظاً. و قال: يا شافعيّ! أقصر فضّ الله فاك! و أين أنت و الأخذ على أبي حنيفة؟! أين مذهبك من مذهبه؟! فإنّما مذهبك بمذهب المجوس اليق، لأنّ في مذهبك أنّه يجوز:
۱ - للرجل أن ينكح ابنته من الزنا، بل يجمع بين اختيه من الزنا، و كذا عمّته و خالته من الزنا، و الله تعالى يقول: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ.۱
و هذه صفات حقيقيّة لا تتغيّر بتغيّر الشرائع و الأديان، و لا تظنّنّ يا شافعيّ يا أحمق أنّ منعهم من التوريث يخرجهم من الصفات الذاتية، و لذلك يضاف فيقال: بنته و اخته من الزنا.
قال يوحنّا: فَانْظُرُوا يَا اولِي الأبْصَارِ! هل هذا إلّا مذهب المجوس؟! و يا شافعيّ! أمّا إمامك.
٢ - فأباح للناس لعب الشطرنج مع أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله قال:
لَاعِبُ النَّرْدِ وَ الشِّطْرَنجِ كَعَابِدِ وَثَنٍ.
٣ - و إمامك الشافعيّ أباح الرقص و الدفّ و القصب!
قال يوحنّا: فطال بينهما الجدال. فاحتمى الحنبليّ للشافعيّ، و احتمى المالكيّ للحنفيّ، و وقع المالكيّ و الحنبليّ. و كان ممّا وقع بينهم أن قال الحنبليّ للمالكيّ:
مالك يجيز اللواط
۱ - إن مالكاً أبدع في الدين بدعاً أهلك الله تعالى عليها امماً، و هو أباحها و أباح وَطْي المَمْلُوكِ. و قد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه و آله: مَنْ لَاطَ بِغُلَامٍ فَاقْتُلُوا الفَاعِلَ وَ المَفْعُولَ.
٢ - و مالك يقول في المنظومة:
وَ جَائِزٌ نَيكُ٢ الغُلَامِ الأمْرَدِ | *** | وَ جَوَّزُوا للرَّجُلِ المُجَرَّدِ |
هَذَا إ ذَا كَانَ وَحِيداً في السَّفَرْ | *** | وَ لَمْ يَجِدْ انْثَى تَفِي إلَّا الذَّكَرْ |
٣ - و أنا رأيتُ مالكيّاً ادّعى عند القاضي على آخر أنّه باعه مملوكاً، و المملوك لا يمكّنه من وطيه، فأثبت القاضي أنّه عيب في المملوك يجوز له ردّه به.
٤ - و أيضاً إمامك أباح لحم الكلب.
الحنابلة يقولون بجسمانيّة الله
فرجع المالكيّ عليه و صاح به، و قال: اسكت! يا مجسِّم! يا حلوليّ! مذهبك أولى بالقُبح. لأنّ عند إمامك أحمد بن حنبل:
۱ - إن الله تبارك و تعالى جسم يجلس على العرش و يفصل عن العرش بأربع أصابع.
٢ - و إنّه ينزل كلّ ليلة جمعة من سماء الدنيا سطوح المساجد في صورة أمرد قطط الشعر، له نعلان شراكهما من اللؤلؤ الرطب على حمار له ذوائب.
٣ - و علماء الحنابلة يبنون على سطوح المساجد معالف و يضعون فيها تبناً و شعيراً ليأكل منه حمار الله تعالى.
٤ - و من المشهور أنّه في ليلة جمعة صعد أحد زهّاد الحنبليّة سطح مسجد الجامع يرتجي أن ينزل الله تعالى إليه. و اتّفق أنّه كان على سطح الجامع غلا نفّاط و كان قطط الشعر. فلمّا وقع بصر الشيخ الحنبليّ عليه ظنّه ربّه، فوقع على قدميه يقبّلهما، و يقول: سَيِّدي ارْحَمْني وَ لَا تُعَذِّبْنِي، و يشتكي و يتضرّع. فبُهت الغلام و ظنّ أنّه يريد منه فعلًا قبيحاً. فصاح بالناس و قال: هذا الرجل يريد أن يفسق بي في سطح المسجد! و أتى إليه جماعة النفّاطين فأوجعوه ضرباً و مضوا به إلى الحاكم، فحبسه إلى الغد لينظر في حاله. فسمع في ذلك علماء الحنابلة فأتوا إلى الحاكم و أقسموا بالله أنّ هذا الرجل ممّا لا يُظَنّ فيه هذا الأمر. و إنّما ظنّ أنّه ربّه فأراد أن يقبّل
قدميه.
فَقَبَّحَ اللهُ مَذْهَبَكَ يَا حَنْبَليّ. فرفع الحنبليّ، و الحنفيّ، و المالكيّ، و الشافعيّ رؤوسهم، و علت أصواتهم، و أظهروا قبائحهم حتى سئم كلّ من حضر من كلامهم فعاب العامّة عليهم.
قال يوحنّا: فقلتُ لهم: على رسلكم! و الله أنّي نفرتُ من اعتقادكم.
فإن كان الإسلام هذا فَيَا وَيْلَاهُ وَ وَا سَوأتَاهُ! لكنّي اقسم عليكم بالله الذي لا إله إلّا هو أن تقطعوا هذا البحث و تذهبوا، فإنّ القوم قد أنكروا عليكم.۱
و قاموا و تفرّقوا و بقوا اسبوعاً لا يخرجون من بيوتهم، و إذا خرجوا أنكر الناس عليهم. ثمّ اصطلحوا و اجتمعوا في «المستنصريّة» فجلستُ إليهم و خاوضتهم. و قلت لهم: كنت اريد عالماً من علماء الرافضة لتُناظروه في
مذهبه! فهل يمكنكم أن تأتوني أحداً منهم؟!
فقال العلماء: يا يوحنّا؛ الرافضة شرذمة قليلة و لا يستطعيون المناظرة بين المسلمين لقلّتهم و كثرة مخالفيهم، و لا يتظاهرون فضلًا عن أن يستطيعوا المحاجّة على مذهبهم، فهم الأقلّون عدداً، الأرذلون قدراً.
قال يوحنّا: أمّا قولكم: إنّهم الأقلّون و مخالفيهم الأكثرون فهذا مدح لهم، لأنّ الله تبارك و تعالى مدح القليل و ذمّ الكثير بقوله: وَ قَلِيلٌ ما هُمْ.۱
وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.٢
وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ.٣
وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ.٤
وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.٥
بعض علماء العامّة يكفّرون الشيعة و يستحلّون دماءهم ترجمة
قال العلماء: يا يوحنّا؛ حالهم أعظم من أن يوصف لأنّا لو علمنا بأحدٍ منهم فلا نزال نتربّص بهم الدوائر حتى نقتلهم، لأنّهم عندنا كفرة يحلّ علينا دماؤهم و أموالهم. فقال يوحنّا: اللهُ أكْبَرُ هذا أمر عظيم! أ فتراهم بما استحقّوا هذا؟! أهم ينكرون الشهادتين؟! قالوا: لا! قال: أهم لا يتوجّهون إلى قبلة الإسلام؟! قالوا: لا! قال: أفهم ينكرون شيئاً من الأحكام؟! قالوا: لا!
قال يوحنّا: يَا لَلْعَجَب قوم يشهدون الشهادتين و يقرّون بالأحكام، كيف تحلّ دماؤهم و أموالهم، و النبيّ صلّى الله عليه و آله يقول: امِرْتُ أنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حتى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ أنّي رَسُولُ اللهِ، فَإذَا قَالُوا عَصَمُوا بِهَا دِمَاءَهُمْ وَ أمْوَالَهُمْ، إلَّا بِحَقٍّ وَ حِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ؟!
قال العلماء: يا يوحنّا؛ إنّهم أبدعوا في الدين. فمنها أنّهم يدّعون أنّ أفضل الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله علي بن أبي طالب، و يفضّلونه على الخلفاء الثلاثة، و الصدر الأوّل من الامّة اجتمعوا على أنّ فضل الخلفاء كترتيبهم.
قال يوحنّا: أ فتراكم إذا قال أحد: علي بن أبي طالب خير من أبي بكر، تكفّرونه؟! قالوا: نعم، لأنّه خلاف الإجماع.
قال يوحنّا: فما تقولون في محدّثكم الحافظ أبي نعيم؟ قال العلماء:
إنّه مقبول الرواية صحيح النقل. قال يوحنّا: هذا كتابه المسمّى بكتاب «الثاقب» روى فيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: عَلِيّ خَيْرُ البَشَرِ، فَمَنْ أبى فَقَدْ كَفَرَ.
و قال أيضاً: عَلِيّ خَيْرُ هَذِهِ الامَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا، وَ لَا يَشُكُّ في ذَلِكَ إلَّا مُنَافِقٌ.
و في ذلك الكتاب أيضاً أنّه قال: عَلِيّ خَيْرُ مَنْ اخَلِّفُهُ بَعْدِي.
و روى أحمد بن حنبل في مسنده أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله قال لفاطمة عليها السلام:
أ وَ مَا تَرْضَيْن أنّي زَوَّجْتُكِ أقْدَمَ امَّتِي سِلْماً وَ أكْثَرَهُمْ عِلْماً وَ أعْظَمَهُمْ حِلْماً؟!
و فيه أيضاً أنّه قال: اللَهُمَّ ائْتِنِي بِأحَبِّ خَلْقِكَ إلَيْكَ يَأكُلْ مَعِي مِنْ هَذَا الطَّائِرِ! فَجَاءَ عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ.
مدح الصحابة بشرط عدم ارتدادهم
قال يوحنّا: فَيَا امَّةَ الإسْلَامِ! لا تقولوا هذا إذ من الجائز أن يكون هذا المدح لهم في زمنه، و بعده حصل لبعضهم الارتداد. فإنّ إمامكم و محدّثكم الحميديّ روى في «الجمع بين الصحيحين» في المتّفق عليه أنّه صلّى الله عليه و آله قال:
سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ امَّتِي فَيُؤخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ. فَأقُولُ: يَا رَبِّ أصْحَابي! فَيُقَالُ لي: أنْتَ لَا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَكَ!
فَأقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ [عَلَى نَبِيِّنَا وَ آلِهِ وَ عَلَيْهِ السَّلَامُ]: «وَ كُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، إن تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وَ إن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ أنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».۱
قَالَ: فَيُقَالُ لي: إنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ.
قال العلماء: يا يوحنّا؛ هذا الذي ذكرته يدلّ على ارتداد بعض الصحابة، لا أنّه يدلّ على أنّ ذلك البعض هو أبو بكر، و عمر، و أتباعهم.
و ما ندري ما الذي جرّأهم على ذلك؟ و من أين جاز لهم ذلك؟!
قال يوحنّا: جرّأهم على ذلك أئمّتكم و علماؤكم كالبخاريّ، و مسلم فإنّهم رووا أنّه لمّا مات رسول الله صلّى الله عليه و آله، أرسلت فاطمة عليها السلام إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها من فدك و ما بقي من خمس خيبر. فأبي أبو بكر أن يردّ عليها شيئاً. فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا
السَّلَامُ عَلَى أبي بَكْرٍ وَجْداً شَدِيداً وَ هَجَرَتْهُ، وَ لَمْ تُكَلِّمْهُ حتى مَاتَتْ وَ هِيَ غَضْبَانَةٌ عَلَيْهِ.
و روى أئمّتكم أيضاً في! «الجمع بين الصحيحين» أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، يُؤْذِينِي مَنْ آذَاهَا!
و أخذ الرافضة هذين الحديثين و ركّبوا منه مقدّمتين، و هما: أبُو بَكْرٍ آذَى فَاطِمَةَ، وَ مَنْ آذَى فَاطِمَةَ آذَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
و قال الله تعالى في كتابه: إن الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ.۱
فالذين يؤذون فاطمة يؤذون رسول الله و يلعنهم الله.
قال يوحنّا: و لو احتجّ أحد عليكم بهذه الجملة، لم يسعكم منع مقدّمة من مقدّماته!٢
ثمّ أطال الكلام معهم و ألزمهم بإلزامات كثيرة. فظهر من هذا كلّه فساد هذه المذاهب العاطلة و الأديان الباردة الباطلة.٣
إشكالات الجوينيّ على مالك
أجل، إن من الإشكالات التي سجّلها الجوينيّ إمام الحرمين على مالك - غير ما ذكرناه - هي كالآتي:
٥ - و كذلك قال رحمه الله: بأنّ مَن كاتب الكفّار و أطلعهم على عوراتنا بما يتضمّن قتل كافّتنا، و استئصال شأفتنا أنّه يقطع يده، لأنّ المصلحة التي تقدّر في هذه الحادثة فوق المصلحة التي تفرض في السرقة.
٦ - و جوّز سياسات و ايلات تضاهي أفعال الأكاسرة، و القياصرة و الجبابرة من الضرب بآلتهم و القتل بها و المصادرات و الجنايات.۱
۷ - أفرط في ملاحظة الكتاب، و قطع الذرائع، حتى أفضى به الأمر إلى أن قتل ثلث الامّة في إصلاح ثلثيها، و تعليق العقوبات بالتهم و غير ذلك.
۸ - حتى روي عنه أنّ سارقاً لو حضر مجلس القاضي و ادُّعى عليه السرقة، فظهر عليه القلق و الوجل، و احمرّت وجنتاه، و اصفرّت خدّاه، قال: تقطع يده من غير الشهود، لأنّ القرائن و المخائل تقوم مقام الشهود، و الدلائل. و كذا في سائر العقوبات، فلا شكّ أنّ كلّ مَنِ ادُّعي عليه السرقة بتغيير وجهه سيّما في حقّ العدول و الثقات، و ذوي المروءات، و أصحاب الفتوّات. فإنّ مَن يرجع إلى نفسٍ أبيّة - أعني كبيرة - و أنَفَة و حميّة و مروءة و عصبيّة إذاً ادُّعي عليه الزنا و السرقة، يخاف من ذهاب ماء وجهه و يتغيّر وجهه.
٩ - وطء غلمانهم و جواريهم في الدُّبُر.
من الجدير ذكره أنّ فتوى جواز وطء الغلام مشهورة و معروفة عن مالك بن أنس. بَيدَ أنّي بحثتُ عنها لعليّ أجدها في أحد المصادر و الكتب الوثائقيّة، فلم أفلح لحدّ الآن.
و لم أعثر عليها في كتاب «المدوّنة الكبرى» الذي هو من إنشاء مالك نفسه، برواية سَحنُون بن سعيد التَّنُوخيّ، عن عبد الرحمن بن قاسم بن خالد بن جنادة العتقيّ، و المطبوع في ستّة أجزاء.۱ كما أنّي لم أجدها في سائر الكتب و الرسائل التي تناولت موارد الخلاف بين المذاهب، «كالخلاف»، و «التذكرة» و ما شابههما. و لا أدري - و الله أعلم - لعلّ السرّ في ذلك يعود إلى شناعة هذا الرأي و قبحه إلى درجة أنّهم يخجلون من نقله في كتبهم. و هو رأي قد تناقلته الألسن على كرور الأيّام. و الدليل على ذلك أنّه مثلًا لم يُنقَل للمالكيّين القاطنين في العراق، لكنّه نُقل للمالكيّين القاطنين في المغرب و الأندلس. لهذا يُلاحظ أنّ المالكيّين يختلفون في جواز وطء الغلام و عدم جوازه حسب المناطق الجغرافيّة المتباينة.
قال الشيخ موسى التبريزيّ في حاشية «أوثق الوسائل في شرح الرسائل» للشيخ الأعظم الأنصاريّ قدّس الله سرّهما في كتاب «حجّيّة الظنّ» عند ما يقول الشيخ: الَّذِينَ هُمُ الأصْلُ لَهُ: لأنّهم السابقون فيه على الشيعة كما حُكي عن المرتضى من أنّهم لمّا ذكروا الإجماع، فعرضوه علينا، فوجدناه حقّاً فقبلناه. و أمّا كونه أصلًا لهم فلكونه مبنى دينهم، لأنّ عمدة أدلّتهم على خلافة ابن أبي قحافة إجماع الامّة عليها على زعمهم.
و قال المولى الفاضل البارع الآغا محمد على بن الوحيد البهبهانيّ في كتابه المسمّى بـ «سُنّة الهداية»: أذكر ما نصّ عليه في «شرح المواقف» أو «المقاصد» أنّ الكثرة غير معتبرة في الإجماع. بل الحقّ هو أنّ الإجماع يتحقّق بموافقة شخص واحد، كما ثبتت خلافة أبي بكر ببيعة عمر وحدها - انتهى.
يا طالب الحقّ، افتح عين بصيرتك و انظر إلى هذه الهذيانات، و لاحظ على أيّة خرافات أرسوا دعائم مذهبهم؟! و شنّعوا على الطائفة الناجية المحقّة، فقد اعترف أوّلهم بقصوره على المنبر على رؤوس الأشهاد، و قال:
أقِيلُونِي وَ لَسْتُ بِخَيْرِكُمْ وَ عَلِيّ فِيكُمْ.
و أقرّ ثانيهم بجهله بالآيات القرآنيّة و السنّة النبويّة في الملأ العامّ و اجتماع الناس حين ردّته امرأة من المسلمين، فاختلق عذراً غير شرعيّ سوّغ به جهله عند ما قال: كُلُّ النَّاسِ أفْقَهُ مِنِّي حتى المُخَدَّرَاتِ.
و قال ثالثهم بسلق كلام الله في المصاحف في ماء مغليّ، و اخترع أتباعه الذين هم في الحقيقة أولاد إبليس الملأى بالتلبيس كلاماً لا يُعْقَل في رفع قبح هذا الفعل الشنيع و العمل القبيح، و بهذا الجهل و القصور أغووا العامّة كَالهَمَجِ الرَّعَاع، و أطفئوا مشكاة الهداية، و مقباس الولاية، و عزلوا كلام الله الناطق في زاوية الخمول عدد سنين، و رفعوا راية الضلال، و أوقدوا نار الحسرة في قلوب المؤمنين.
حكايتي كنمت بشنو و شناسا شو | *** | كه اين حديث ز پير شريعتم ياد است۱ |
مجو طهارت مولد ز دشمنان على | *** | كه حمل مادر اين قوم از دو داماد است |
يكي پدر دگر ابليس كرده است دخول | *** | ز اختلاط دوآب اين عَدويِ حق زاد است۱ |
فعند ما تُبنى اصول الدين على هذه الاسس الفاسدة، فكيف بالفروع العلميّة؟ و إذا أباح مالك وطء الغلام، و الحنبليّ تعاطي البنج، فلا يستبعد هذا أبداً.
جواز تعاطي البنج و لعب الشطرنج و عند الفقهاء الاربعة
و ما أجمل هذا الرباعيّ٢ الطريف الذي أنشده الشاعر الشيعيّ الظريف بداهةً فقال:
شافعي گفت كه شطرنج مباح است مدام٣ | *** | راست گفته است چنين است كه فرموده امام |
خواجه مالك سخني گفت ازين باركتر | *** | كه به نزديك خردمند مباح است غلام |
بو حنيفه به ازين گويد در باب شراب | *** | كه ز جوشيده بخور كان نبود هيچ حرام |
حنبلي گفت كه گر زانكه ز غم درماني | *** | بستة بنگ تناول كن و خوش باش مدام |
بنگ و مى مىخور و كون ميدر و مىباز قمار | *** | كه مسلماني ازين چار امام است تمام۱ |
و وردت أخبار كثيرة من طريق أهل السنّة في منع وطء المرأة من دبرها.
و يستفاد من شرح عقائد النسفيّ - و هو من أعاظم علمائهم - أنّه يقول بكفر فاعله. لكن المشهور أنّ مالكاً كان يراه حلالًا، كما أشار الملّا
عبد الرحمن الجاميّ إلى هذا المعنى في «بهارستان» فقال:
گفت مملوكه أي به مالك خويش | *** | كز قفايش گرفت راه فساد |
ترك اين فعل كن كه جايز نيست | *** | نزد دين پروران شرع نهاد |
گفت: خامش كه شيخ دين مالك | *** | به چنين عيش رخصت ما داد |
گفت مسكين ز زير او كه: خدات | *** | در زد و گير مالك اندازاد۱ |
و الكلام المنسوج على هذا المنوال نظماً و نثراً كثير في كتب القوم.
و قد نُقل منه ما لا يُحصى، لكنّي اقتطفتُ باقة ورد من بستان محبّة أنوار الولاية ليشمّها طلّاب الحقّ و الولاية فتُطرفهم.٢
اللهمّ اجعلنا من المتمسّكين بولايتهم، و الراسخين في محبّتهم، و الآمنين من الفزع الأكبر بشفاعتهم بحقّهم يا الله.٣
ردّ استدلال المالكيّين على جواز وطء الغلام
أقول: تُبيح المالكيّة وطء الغلام. و قد نُقلت في التواريخ و السير حكايات و قضايا مُخجلة لا تُنكَر في أحوال مشايخ المالكيّة من علمائهم و قضاتهم و أرباب فتاواهم و أئمّة جماعتهم.
و الآن أيضاً لا يُنكر المالكيّة هذا العمل. و يدافعون عن فتوى رئيسهم مالك بن أنس عند النقاش، و يعدّون حلّيّتة مطابقة للمطلقات.
كان سماحة صديقي الكريم العالم الجليل آية الله السيّد موسى الشُّبَيْريّ الزنجانيّ دامت بركاته يقول: عند ما تحدّثتُ مع أحد مشايخ المالكيّة في المدينة حول هذا الموضوع. أي جواز وطء الغلام.
قال: الآية القرآنيّة وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ۱ تدلّ على الجواز، لأنّ قوله ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ عامّ يشمل الغلام و الجارية.
قلتُ: الغلام خارج عن مدلول هذه الآية بالإجماع.
قال: هذا إجماعكم، و ليس إجماعنا - انتهى.
أقول: لا إطلاق في الآية حتى يدور الكلام حول التخصيص و عدم التخصيص. لأنّ قرينة ذكر الأزواج، و ما هو مألوف من المواقعة في القُبُل يفيدان أنّ المراد من تخصيص إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ المضاجعة و المباشرة المعروفة، فلا ينعقد لها الإطلاق حتى تشمل الوطء المستهجن و غير المألوف في الدُّبُر. و بهذا البيان في قوله أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ و بقرينة العطف على الأزواج ينبغي أن نقول: هو وطء الإماء في قُبُلهنّ، لا في دُبُرهنّ. و لا وطء الغلمان، إذ إن انصراف الوطء إلى الوطء المعروف المألوف قرينة مقاميّة لصرف لفظ أزْوَاجِهِمْ في خصوص الموضع المتعارف، و صرف ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ في خصوص الإماء، و في الموضع المتعارف فحسب.
هذا إذا خصّصنا قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ بالرجال كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ اللَّفْظِ. أمّا إذا عمّمناه على المؤمنين و المؤمنات بتنقيح الملاك، و كان لفظ الأزواج جمعاً للزوج، و كان شاملًا للزوج و الزوجة معاً، و فرضنا صحّة
الأخذ بالإطلاق حسب استدلال العالم المالِكيّ، فلا بدّ أن نُبيح وطء الغلمان للنساء اللاتي الغلمان ملك أيمانهنّ. و من الثابت أنّ هذه المسألة خلاف الإجماع و الضرورة عند المالكيّة أنفسهم.
أمّا الردّ على المالكيّة فينبغي أن نقول: أولًا: بمناسبة الحكم و موضوع أحكام المضاجعة و المباشرة، يكون المراد من قوله: ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بخاصّة أنّه عُطف على الأزواج اللائي هنّ النساء، ملِك اليمين من النساء، أي: الإماء.
إن الوطء في الدُّبُر ليس وطئاً في السبيل، بل هو قطع السبيل.
و المتبادر من حلّيّة الوطء حلّيّته في الموضع المعروف حسب الغريزة و الرغبة، لا الوطء في المواضع القبيحة المضرّة غير الملائمة، و يمكن بادّعاء التبادر و صحّة السلب و تناسب الحكم و الموضوع أن نصرف مورد الآية أ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الغلمان، و نحصره في الإماء. كانصراف الآيات الدالّة على حلّيّة لحوم البهائم من الكلب، لأنّ لحم الكلب لا يرغب فيه الناس، حتى الذين يجنون الكلاب في بيوتهم و يرون طهارتها كالنصارى و الملحدين، فلم يُلْحَظْ قطّ أنّهم يستحلّون أكلها.
لهذا فإنّ السبب في عدم بيان حرمة لحم الكلب في القرآن الكريم كونه غير متعارف بحيث لو ذُكرت حرمته فإنّه يعدّ ذكراً لحرمة أمر بديهيّ و زائد و لا يليق.
ثانياً: كان السَّبب في عذاب قوم لوط هو هذا العمل الشنيع. و تحدّث القرآن الكريم عن شناعته بألفاظٍ تشير إلى هذا الفعل القبيح مع الرجال بنحو مطلق و عامّ سواء كان غلام شخصٍ أم لم يكن. قال تعالى:
وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ، أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.۱
يُلحظ في هاتين الآيتين أنّهما أدانتا هذا العمل بتعبير شديدٍ قارع، فلفظ الْفَاحِشَةَ، و خصوصيّة ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ، و عبارة إتيان الرجال، و عبارة تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، و قوله: تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ هذا الفعل الشنيع قد بلغ من القبيح مبلغاً بحيث إن كلّ عقل و ضمير يحكمان بتحريمه على الإطلاق.
في ضوء هذه الآية، نلحظ في قوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ*٢ أنّ الغلام و ملك اليمين من جنس الرجال - على فرض الإطلاق - يدخلان في عمومات المستثنى منه بوضوح. و المفلح هو المؤمن الذي يصون فرجه عن ذلك.
افٍّ لِمَالِكٍ وَ لِمُتَابِعِيهِ كَيْفَ غَيَّرُوا حُكْمَ اللهِ ظَهْرَ المِجَنِّ وَ أتَوا بِالشَّنَاعَةِ وَ القَبَاحَةِ مَكَانَ الحُسْنِ وَ الجَمَالِ! و استدلّوا بالقرآن نفسه على خلاف مراده.
و ليت شعري لو كانوا عملوا بالقياس في الملاكات الظنّيّة و الوهميّة بل الاستحسانيّة، فهلّا يخرج حكمهم في هذا المورد عن التحريم؟! أجل، إن من قطع حبلِ الولاء لأهل البيت و لم يعتصم بهم، فلا مصير له إلّا النار.
وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.٣
القضيّة التأريخيّة المخزية لعائشة
المتمثّلة في عدم اشتراطها الطفوليّة في الرضاع و كانت تأمر الرجال بالارتضاع من ثدي اختها امّ كلثوم خمس مرّات تامّة لكي يكونوا من محارمها حتى تتحقّق شروط الرضاع المحرّم فيستطيع الرجال أن
يختلوا بها بسبب المحرميّة
إن من عجائب التأريخ التي تدلّ على افتضاح عائشة و صلافتها بنحو كامل تامّ موضوع الرضاع. فقد كانت ترى أنّ صغر سنّ المرتضع ليس شرطاً. و كانت تعتقد أنّ الرضاع يتحقّق بين الكبار أيضاً. لذلك كانت تأمرهم بالارتضاع من ثدي اختها امّ كلثوم خمس مرّات لتحقّق الرضاع و محرميّة الأجانب معها إذ تُعدّ خالتهم من الرضاعة، فتستطيع بذلك أن تلتقي بهم بعيداً عن الأنظار.
لا جَرَمَ أنّ هذه القضيّة من مختلقاتها نفسها، و هي لا تنسجم مع ناموس الرسالة و عصمة زوجة النبوّة. أولًا: تصوّروا كيف يجلس رجل أجنبيّ بلحيته و شاربه في حجر امّ كلثوم ابنة أبي بكر و يرضع من ثديها خمس مرّات؟ و لذا رفضت سائر أزواج النبيّ رأي عائشة و لم يوافقنها في ذلك.
مسألة رضاع الكبير عند العامّة
قال ابن رشد في كتاب «بداية المجتهد» المصنَّف في فقه العامّة:
و اتّفقوا على أنّ الرضاع يحرم في الحولين، و اختلفوا في رضاع الكبير.
فقال مالك، و أبو حنيفة، و الشافعيّ، و كافّة الفقهاء: لا يحرم رضاع الكبير.
و ذهب داود و أهل الظاهر إلى أنّه يحرم. و هو مذهب عائشة. و مذهب الجمهور هو مذهب ابن مسعود، و ابن عمر و أبي هُريرة، و ابن عبّاس، و سائر أزواج النبيّ صلّى الله عليه و آله.
و سبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك. و ذلك أنّه ورد في ذلك
حديثان. أحدهما حديث سالم، و قد تقدّم. و الثاني حديث عائشة. خرّجه البخاريّ، و مسلم، قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، و عندي رجل. فاشتدّ ذلك عليه، و رأيتُ الغضب في وجهه. فقلت:
يا رسول الله! إنّه أخي من الرضاعة. فقال: انْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ؟! فَإنَّ الرَّضَاعَةَ مِنَ المَجَاعَةِ!
فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث قال: لا يحرم اللبن الذي لا يقوم للمرضع مقام الغذاء. إلّا أنّ حديث سالم نازل في عين، و كان سائر أزواج النبيّ صلّى الله عليه و آله يرون ذلك رخصة لسالم. و مَن رَجّح حديث سالم و علّل حديث عائشة بأنّها لم تعمل به، قال: يحرم رضاع الكبير.۱
ثانياً: الرضاع الموجب للمحرميّة هو بسبب اللبن الذي يمثّل غذاء الطفل، الذي يجعل خلايا جسمه تشبه صاحَب اللبن و مُرْضِعَهُ. و يتحقّق عنوان الامومة و الاخوّة و أمثالها بسبب وحدة الدم. و هذا يجب أن يكون في زمن حضانة الطفل، أي: بين الحولَين.
و يتّفق على هذا عامّة الشيعة، و جمهور فقهاء العامّة. و لمّا كان الارتضاع بعد حولين غير مؤثِّرٍ في اتّحاد خلايا الدم و أنسجه الجسم، لهذا لا يوجب المحرميّة و وحدة الرحم.
قصّة رضاع سالم مولي أي حذيفة
و أمّا أصل القصّة التي نقّحت عائشة ملاكها و عيّنت مناطها خطآً، فقد كانت في مورد خاص يرتبط بسالم. فقد أراد رسول الله صلّى الله عليه
و آله بأمره الولائيّ أن يرفع الحَرَج و العُسر عن سهلة زوجة أبي حذيفة، لهذا فتح طريقاً لها بذلك. و هذه القصّة تخصّ سهلة، و لا يمكن أن تسري إلى مورد آخر.
جاء في موطّأ مالك ما نصّه: حدّثني يحيى عن مالك، عن ابن شهاب أنّه سُئل عن رضاعة الكبير فقال: أخبرني عروة بن الزبير أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، و كان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، و كان قد شهد بدراً، و كان تبنّى سالماً الذي يقال له: سالم مولى أبي حذيفة، كما تبنّى رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم زيد بن حارثة.
و أنكح أبو حذيفة سالماً، و هو يرى أنّه ابنه، أنكحه ابنة أخيه فاطمة ابنة الوليد بن عتبة بن ربيعة. و هي يومئذٍ من المهاجرات الأوَل، و هي من أفضل أيامى قريش.
فلمّا أنزل الله تعالى في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل، فقال:
لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ.۱
رُدَّ كُلُّ واحدٍ من اولئكَ إلى أبيه، فإن لم يُعلَم أبوه رُدَّ إلى مولاه.
فجاءت سهلة ابنة سهيل، و هي امرأة أبي حُذيفة، و هي من بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، فقالت: يا رسول الله!
كنّا نرى سالماً ولداً و كان يدخل علَيّ و أنا فُضُل،۱ و ليس لنا إلّا بيت واحد، فما ذا ترى في شأنه؟!
فقال رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: أرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا! و كانت تراه ابناً من الرضاعة. فأخذت بذلك عائشة امّ المؤمنين فيمن كانت تحبّ أن يدخل عليها من الرجال. فكانت تأمر اختها امّ كلثوم ابنة أبي بكر و بنات أخيها أن يرضعن من أحبّت أن يدخل عليها من الرجال.
و أبي سائر أزواج النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم أن يدخل عليهنّ بتلك الرضاعة أحد من الناس، و قُلن: لَا وَ اللهِ! ما نرى الذي أمر به رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم سهلة ابنة سهيل إلّا رخصة من رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم في رضاعة سالم وحده. لَا وَ اللهِ! لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد.
فعلى هذا كان أزواج النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم في رضاعة الكبير.٢
روى مسلم بن الحجّاج في هذا الباب ستّة أحاديث عن عائشة، نكتفي منها بذكر حديثين:
الأوّل: روى بسنده عن أبي مليكة أنّ القاسم بن محمّد بن أبي بكر أخبره أنّ عائشة أخبرته أنّ سهلة ابنة سهل بن عمرو جاءت النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، فقالت: يا رسول الله! إن سالماً (لسالم مولى أبي حذيفة) معنا في بيتنا. و قد بلغ ما يبلغ الرجال، و علم ما يعلم الرجال.
قال: أرضعيه تحرمي عليه!
قال أبو مليكة: فمكثتُ سنةً أو قريباً منها لا احدّث به، وهبتُه. ثمّ لقيتُ القاسم، فقلتُ له: لقد حدّثتني حديثاً ما حدّثتُه بعد. قال: فما هو؟
فأخبرته. قال: فحدّثه عني أنّ عائشة أخبرتنيه.۱
الثاني: روى بسنده عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زَمْعَة أنّ امّه زينب ابنة أبي سلمة أخبرته أنّ امّها امّ سلمة زوج النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم كانت تقول: أبي سائر أزواج النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم أن يُدخلن عليهنّ أحداً بتلك الرضاعة. و قلن لعائشة: و الله ما نرى هذا إلّا رخصة أرخصها رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم لسالم خاصّة. فما هو بداخل علينا أحدٌ بهذه الرضاعة. و لا رائينا.٢
رضاع الكبير عند عائشة من الثدي
أجل، إن موضوع الارتضاع من ثدي امّ كلثوم، و بنات اخت عائشة بلغ من الوقاحة مبلغاً أنّ بعض علماء السُّنّة أرادوا أن يُخفوه، و يغسلوا هذا العار إلى حدٍّ ما، و لهذا برّروه بقولهم: إن رضاع الكبير ليس بمصّ الثدي، بل بشرب اللبن المحلوب من الثدي في إناء.
قال محمّد فؤاد عبد الباقي في هامش حديث «الموطّأ»: أرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ: قال أبو عمرو: صفة رضاع الكبير أن يُحلَب له اللبن و يُسقاه. فأمّا أن تلقمه المرأة ثديها، فلا ينبغي عند أحد من العلماء. و قال عيّاش: و لعلّ سهلة حلبت لبنها فشربه من غير أن يمسّ ثديها، و لا التقت بشرتاهما. إذ لا يجوز رؤية الثدي و لا مسّه ببعض الأعضاء.
قال النوويّ: و هو حَسَنٌ.۱
بَيدَ أنّ هذا التبرير ليس وجيهاً، لأنّ الذي جاء في الحديث هو قوله:
أرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ! و الإرضاع عبارة عن التغذية بالثدي، لا سقي اللبن خارج الثدي، و فرق بين قولهم: أرْضَعَتْهُ، و قولهم: سَقَتْهُ اللَّبَنَ.
المراد من الآية الكريمة: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ،٢ و الآية الكريمة: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ،٣ هو الإرضاع بالثدي.
فلهذا لو حُلب اللبن خلال هذه المدّة ثم سُقِيَه الطفل، فلا يتحقّق الرضاع.
سلّمنا أنّ الرضاع في هذا المورد بمعنى سقي اللبن مجازاً، لكنّا ما ذا نفعل بذيل الديك؟!٤ و ما ذا نفعل إذا كانت الذيول كثيرة؟
الأوّل: جاء في الحديث الأوّل لمسلم أنّ سهلة قالت للنبيّ صلّى الله
عليه و آله و سلّم: وَ كَيْفَ ارضِعُهُ وَ هُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟!۱ فأيّهما يثير عجب سهلة: الإرضاع من الثدي، أو حَلْب اللبن في إناء و سقيه إيّاه؟!
الثاني: جاء في الحديث الثالث لمسلم أنّ أبا مليكة قال: فمكثتُ سنة أو قريباً منها لا احدِّث به، و هِبْتُه.٢
فهل ذكر إرضاع الكبير من الثدي أخافَ أبا مليكة و جعله يمكث، أو حلب اللبن في إناء و سقيه إيّاه؟!
الثالث: جاء في حديث مسلم الآخر أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لمّا قال: أرْضِعِيهِ! قالت: إنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ.٣
فهل الإرضاع بالثدي أثار دهشة سهلة و سؤالها بالنسبة إلى رجل ذي لحيةٍ أو حلب اللبن من الثدي و سقيه سالماً من إناء!! أ لا يشرب الرجل ذو اللحية اللبن من إناء؟! هل كان أبو عمرو، و القاضي عيّاض، و النوويّ الذين تحمّلوا وزراً بتبريرهم الحديث بهذا الشكل يحلقون لحاهم عند ما يريدون شرب اللبن؟!
أجل، لا يمكن تبرئة امّ المؤمنين عائشة و استصواب حكمها بهذه التأويلات الباردة.
أمّا حلّ المسألة عندي فأقول: كان سالم بن سهلة و أبي حذيفة بالتبنّي، و نشأ في بيتهما منذ طفولته، و بلغ سنّ الرشد و الكمال فيه. و كان العرب في الجاهليّة ككثير من الشعوب غير المسلمة، بل المسلمة حاليّاً غير عارفين بالأحكام، فكانوا يتعاملون مع الابن بالتبنّي معاملة الابن
الحقيقيّ. أي: أنّهم ينظرون إليه كأحد محارمهم. فيذهبون عنده غير متستّرين، و يقبّلونه، و يحتضنونه. و إذا قيل له أو للبنت بالتبنّي: أنت لستَ ولدنا، فإنّه يفزع و يتألّم. و إذا تحجّبت منه امّه بالتبنّي عند بلوغه و اختفت وراء الستار، فإنّه يصاب بالدهشة و الاضطراب لما حصل.
لهذا ينبغي أن يُفَهَّمَ الأبناء أو البنات الذين يبلغون في بيتٍ غير بيت والديهم الحقيقيَّين منذ البداية على أنّ الابن بالتبنّي ليس ابناً حقيقيّاً و ذلك تدريجيّاً. و إذا كانت جنسيّته باسم هذين الوالدين فهي حرام و باطلة، حتى لا يحرم الناس من رعاية الأطفال الذين لا معيل لهم، و لينالوا هذا الفيض، و الأطفال أيضاً لا يكونوا بمنزلة أولادهم الحقيقيِّين.
كان سالم بن أبي حذيفة بالتبنّي، و كان ذلك في وقتٍ لم ينزل فيه حكم القرآن برفعه. فلهذا كان يتعامل مع سهلة و أبي حذيفة معاملة الوالِدَين، و هما أيضاً كانا يتعاملان معه نفس المعاملة. فهو عندهم بمنزلة المحرم. و لعلّه كان يقبّل سهلة و يحتضنها كامٍّ له، و لم يكن إرضاعه من الثدي مستبعداً و مستهجناً كثيراً، فلهذا قال النبيّ صلّى الله عليه و آله ما مضمونه: أعلم أنّه كبير، لكن مع ذلك أرضعيه!
و هذا الأمر الاختصاصي مولويّ نبويّ لرفع الحرج و الضيق الذي كان قد حصل لأبي حذيفة بعد نزول القرآن بإلغاء التبنّي. من هنا ليس لنا أن نطبّقه على سائر الأولاد بالتبنّي، لأنّه مختصّ بهذا المورد. من جهة اخرى و بطرق أولى ليس لنا أن نطبّقه على الأجانب كما فهم ذلك سائر أزواج النبيّ و اعترضن على عائشة.
أمّا عائشة التي كانت ترى نفسها صاحبة رأى و فتوى، فقد أرادت أن تحكم و تُفتي كالنبيّ، و العياذ بالله. و إذا اعترض عليها النبيّ و قال لها:
لِمَ فعلتِ هذا؟! أجابته فوراً: لأنّك فعلتَه مع سهلة و سالم!
أجل. إنّنا نشكر الله تعالى إذ كانت عائشة ترى الرضاع خمس مرّات كافياً. و لو قُدِّر لها أن تعمل وفقاً لحكم الحقّ عند الشيعة الإماميّة، و هو تحقّق الرضاع من الثدي عشر مرّات أو خمس عشرة مرّة متوالية.
لصار طلّاب لقائها وحدها أضعافاً مضاعفة، ذلك أنّهم ينبغي أن ينكبّوا على ثدي اختها امّ كلثوم، أو بنت أختها، و يرضعوا عشر مرّات أو خمس عشرة مرّة حتى يشبعوا أو يكتنز لحمهم و تقوى عظامهم.
و بالجملة، فقد أطّلعنا على شيء من أعمال هذين العالمين الرئيسين المقتديَين عند العامّة و فتاواهم و أحوالهم. فمن المناسب أن نُرخي العنان للقلم فينعطف نحو إمامَيْهم الآخرين:
بحث حول محمّد بن إدريس الشافعيّ القُرَشيّ المُطَّلِبيّ
قال البحّاثة العليم السيّد محمّد باقر الموسويّ الخوانساريّ في روضاته:
السيّد المشكور و المقتدى المشهور في مذهب الجمهور محمّد بن إدريس ابن العبّاس بن عثمان بن الشافع بن السائب بن عُبَيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطّلب بن عبد مناف القرشيّ المطّلبيّ المشتهر بالإمام الشافعيّ.
قال صاحب «القاموس» في نسبه: و بنو شافع من بني المطّلب بن عبد مناف. منهم الإمام الشافعيّ. و نظم نسبه الإمام الرافعيّ، فقال:
مُحَمَّدْ إدريسٌ عَبَّاس وَ مَنْ | *** | بَعْدَهُمْ عُثْمَانُ بْنُ شَافِعْ |
وَ سَائِبَ بْنُ عُبَيْدٍ سَابِعْ | *** | عَبْدُ يَزِيدَ ثَامِنٌ وَ التَّاسِعْ |
هَاشِمٌ المَوْلُودُ ابْنُ المُطَّلِبْ | *** | عَبْدُ مَنَافٍ لِلْجَمِيعِ تَابِعْ |
و ذكره ابن خلّكان في «وفيّات الأعيان» فقال بعد جرّ نسبه إلى عبد مناف المعروف من أجداد سيّد ولد عدنان: لقي جدّه شافع رسول الله صلّى الله عليه و آله و هو مترعرع. و كان أبوه السائب صاحب راية بني هاشم يوم بدر، و اسر وفدى نفسه، ثمّ أسلم. فقيل له: لِمَ لَمْ تُسلم قبل أن تفدي نفسك؟ قال: ما كنتُ أحرم المؤمنين طمعاً لهم في.۱
ثمّ أخذ في وصف فضل الرجل و جامعيّته للعلوم الدينيّة و الأدبيّة و الشِّعر الجميل و غيرها بمطوّل من التفصيل، إلى أن قال: حتى قال أحمد بن حنبل: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالستُ الشافعيّ.
و قال الشافعيّ: قدمتُ على مالك بن أنس و قد حفظتُ «الموطّأ»، فقال لي: أحضر من يقرأ لك. فقلتُ: أنا قارئ. فقرأتُ عليه «الموطّأ» حفظاً. فقال: إن يك أحد يُفلح فهذا الغلام!
و كان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا، التفت إلى الشافعيّ، فقال: سلوا هذا الغلام!
و قال أحمد بن حنبل: ما أحد ممّن بيده محبرة أو ورق إلّا و للشافعيّ في رقبته مِنّة! و كان الزعفرانيّ يقول: كان أصحاب الحديث رقوداً حتى جاء الشافعيّ فأيقظهم، فتيقّظوا. و فضائله أكثر من أن تُعدّ.
و مولده سنة خمسين و مائة، و قد قيل: إنّه وُلِدَ في اليوم الذي توفّي فيه الإمام أبو حنيفة.
و أورد صاحب «روضات الجنّات» هنا شرحاً مشبعاً في بيان مدّة الحمل و أكثره و أقلّه، و مقدار حمل رسول الله، و آية النسيء نقلًا عن كتاب
«مقامع الفضل» للآغا محمّد عليّ الكرمانشاهيّ، ثمّ قال بعد ذلك:
رجعنا إلى كلام صاحب «الوفيّات». قال: و قدم بغداد سنة خمسة و تسعين و مائة، فأقام بها سنتين، ثمّ خرج إلى مكّة، ثمّ عاد إلى بغداد سنة ثمان و تسعين و مائة، فأقام بها شهراً، ثمّ خرج إلى مصر. و كان وصوله اليها في سنة تسع و تسعين و مائة، و لم يزل بها إلى أن توفّي يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع و مائتين. و دُفن بعد العصر من يومه، بالقرافة الصغرى، و قبره يزار بها بالقرب من المقطّم - انتهى كلام ابن خلّكان.۱
و قال ابن خلّكان في ترجمة أبي جعفر محمّد بن أحمد بن نصر الترمذيّ الفقيه الشافعيّ، أنّه كان يقول: تفقّهتُ على مذهب أبي حنيفة، فرأيتُ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في مسجد المدينة عام حججتُ، فقلتُ: يا رسول الله قد تفقّهت بقول أبي حنيفة، أ فآخذ به؟! فقال: لا.
فقلتُ: آخذ بقول مالك بن أنس؟! فقال: خذ منه ما وافق سنّتي! قلتُ:
أ فآخذ بقول الشافعيّ؟! فقال: مَا هُوَ بِقَوْلِهِ إلَّا أنَّهُ أخَذَ بِسُنَّتِي وَ رَدَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا.
قال: فخرجتُ على أثر هذه الرؤيا [إلى مصر] و كتبتُ كتب الشافعيّ.
و قال الدارقطنيّ: هو ثقة مأمون ناسك.
هذا و في أوّليّات الفاضل السيوطيّ و غيره أنّ الشافعيّ أوّل من صنّف آيات الأحكام، و أوّل من صنّف في اصول الفقه، و أوّل من تكلّم في مختلف الحديث و صنّف فيه.
حوار الشافعيّ مع مالك
قال صاحب «الروضات»: قلتُ: و من جملة ما صنّفه أيّام مقامه ببغداد هو كتابه القديم الذي سمّاه «الحجّة» كما ذكره محيي الدين النوويّ في شرح مشكلات كتاب «التنبيه». و قال الدميريّ في كتاب «حياة الحيوان»:
حكى البويطيّ عن الشافعيّ قال: إنّه كان في مجلس مالك بن أنس و هو غلام، فجاء رجل إلى مالك استفتاه، فقال: أنّي حلفتُ بالطلاق الثلاث إن هذا البلبل لا يهدأ من الصياح، فقال له مالك: قد حنثتَ!۱
فمضى الرجل: فالتفت الشافعيّ إلى بعض أصحاب مالك، فقال: إن هذه الفتيا خطأ. فأخبر مالك بذلك، و كان مالك مهيب المجلس لا يجسر أحد أن يرادّه. و كان ربّما جاء صاحب الشرطة، فوقف على رأسه إذا اجلس في مجلسه.
فقالوا لمالك: إن هذا الغلام الشافعيّ يزعم أنّ هذه الفتيا إغفال و خطأ. فقال له مالك: من أين قلت هذا؟! فقال له الشافعيّ: أ ليس أنت الذي رويتَ لنا عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في قصّة فاطمة ابنة قيس أنّها قالت للنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّ أبا جهم، و معاوية خطبا فيّ! فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم: أمّا أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، و أمّا معاوية فصعلوك لا مال له. فهل كانت عصا أبي جهم دائماً على عاتقه؟! و إنّما أراد من ذلك الأغلب. فعرف مالك محلّ الشافعيّ و مقداره.
قال الشافعيّ: فلمّا أردتُ أن أخرج من المدينة جئت إلى مالك فودّعته. فقال لي مالك حين فارقته: يا غلام؛ اتّق الله تعالى و لا تُطفئ هذا
النور الذي أعطاكه الله عزّ و جلّ بالمعاصي! يعني بالنور العلم، و هو قول الله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.۱
و قال السيّد أحمد بن محمّد بن أحمد الحافي الحسينيّ في كتابه المسمّى بـ «التبر المذاب» في بيان ترتيب الأصحاب عند عدّه لفضائل أمير المؤمنين عليه السلام: أخذه رسول الله صلّى الله عليه و آله و ربّاه و دعاه إلى الإسلام فلبّاه. فلمّا بُعث كان عمره اثنتي عشرة سنة، و كان أوّل من آمن به، لما رواه الإمام أحمد في مسنده بسنده إلى حَبَّة العُرَنيّ.
إلى أن قال: و جميع العلوم أهلها تنتمي إليه. فالفقهاء الأربعة يرجعون إليه. أمّا الإمام أبو حنيفة فهو تلميذ الصادق جعفر بن محمّد الباقر بن عليّ بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
و أمّا الإمام الشافعيّ فإنّه قرأ على محمّد بن الحسن الشيبانيّ تلميذ أبي حنيفة، و على مالك بن أنس، فيرجع فقهه إليه.
و أمّا الإمام مالك فقرأ على اثنين أحدهما ربيعة الرأي تلميذ عكرمة، و هو تلميذ ابن عبّاس، و هو تلميذ عليّ عليه السلام، و الثاني جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام.
و أمّا الإمام أحمد فقرأ على الشافعيّ، فيرجع فقهه إليه - انتهى.
و للشافعيّ أشعار فاخرة و نظمات شتّى في مختلفات من المعنى ذكر جملة منها أيضاً صاحب «الوفيّات». منها قوله، و هو من أجود أشعاره:
يَا رَبِّ! أعْضَاءُ الوُضُوءِ عِتْقُهَا | *** | مِنْ فَضْلِكَ الوَافِي وَ أنْتَ الوَاقِي |
وَ العِتْقُ يَسْرِي في الغِنَي يَا ذَا الغِنَى | *** | فَامْنُنْ عَلَى الفَانِي بِعِتْقِ البَاقِي |
و له أيضاً:
وَ لَوْ لا الشِّعْرُ بِالعُلَمَاءِ يُزْرِي | *** | لَكُنْتُ اليَوْمَ أشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ |
و له أيضاً:
يَقُولُونَ أسْبَابَ الفِرَاغِ ثَلَاثَةٌ | *** | وَ رَابِعُهَا خَلْوَةٌ وَ هُوَ خِيَارُهَا |
وَ قَدْ ذَكَرُوا مَالًا وَ أمْناً وَ صِحَّةً | *** | وَ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ الشَّبَابَ مَدَارُهَا |
و له أيضاً:
مِحَنُ الزَّمَانِ كَثِيرَةٌ لَا تَنْقَضِي | *** | وَ سُرُورُهُ يَأتِيكَ كَالأعْيَادِ |
تَأتِي المَكَارِهُ حِينَ تَأتِي جُمْلَةً | *** | وَ تَرَى السُّرُورَ يَجِيءُ كَالفَلَتَاتِ |
و له أيضاً:
وَ إ ذَا عَجَزْتَ عَنِ العَدُوِّ فَدَارِه | *** | وَ امْزَحْ لَهُ إن المُزَاحَ وِفَاقُ |
فَالمَاءُ بِالنَّارِ التي هِيَ ضِدُّهُ | *** | يُعْطِى النَّضَاجَ وَ طَبْعُهَا الإحْرَاقُ |
شعر الشافعيّ في ولاء أهل البيت
و له أيضاً في الولاية شيء كثير و مدائح غفيرة لمن نزل في شأنهم آية التطهير. منها ما نقله صاحب «حدائق الشيعة» من أنّ الشافعيّ سأله بعض الناس عن صفة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، فقال:
مَا يَسَعُنِي أنْ أقُولَ في حَقِّ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثٌ مَعَ ثَلَاثٍ لَمْ يَجْتَمِعْنَ في أحَدٍ قَطُّ: الجُودُ مَعَ الفَقْرِ، وَ الجَلَادَةُ مَعَ الرَّأي، وَ العِلْمُ مَعَ العَمَلِ. ثُمَّ أنْشَأ يَقُولُ:
أنَا عَبْدٌ لِفَتَى انْزِلَ فِيهِ هَل أتَى | *** | إلى مَتَى أكْتُمُهُ إلى مَتَى إلى مَتَى؟ |
و نُقل عنه أيضاً أنّه قال في جواب رجل آخر سأله عن ذلك:
مَا أقُولُ في رَجُلٍ أسَرَّ أوْلِيَاؤُهُ مَنَاقِبَهُ تَقِيَّةً، وَ كَتَمَهُ أعْدَاؤُهُ حَنَقاً
وَ عَدَاوَةً، وَ مَعَ ذَلِكَ قَد شَاعَ مِنْهُ مَا مَلأتِ الخَافِقَينِ.۱
و قد أخذ منه السيّد تاج الدين العامليّ رحمه الله هذا المعنى في قوله:
لَقَدْ كَتَمَتْ آثَارَ آلِ محَمَّدٍ | *** | مُحِبُّوهُمُ خَوْفاً وَ أعْدَاؤُهُمْ بُغْضَا |
فَابْرِزَ مِنْ بَيْنِ الفَرِيقَيْنِ نَبَذَةٌ | *** | بِهَا مَلأ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَا |
و من المشهور المتواتر عنه نقله قوله في جملة ما نُسب إليه كلّه:
لَو أنَّ المرتضى أبْدَى مَحَلَّهْ | *** | لَخَرَّ النَّاسُ طُرّاً سُجَّداً لَهْ |
وَ مَاتَ الشَّافِعيّ لَيْسَ يَدْرِي | *** | عَلِيّ رَبُّهُ أمْ رَبُّهُ اللهْ |
و قوله:
إ ذَا في مَجْلِسٍ ذَكَرُوا عَلِيّاً | *** | وَ شِبْلَيْهِ وَ فَاطِمَةَ الزَّكِيّهْ |
يُقَالُ: تَجَاوَزُوا يَا قَوْمِ عَنْهُ | *** | فَهَذا مِنْ حَدِيثِ الرَّافِضِيَّهْ |
بَرِئتُ إلى المُهَيْمِنِ مِنْ انَاسٍ | *** | يَرَوْنَ الرَّفْضَ حُبَّ الفَاطِمِيَّهْ |
عَلَى آلِ الرَّسُولِ صَلَاةُ رَبِّي | *** | وَ لَعْنَتُهُ لِتِلْكَ الجَاهِلِيَّة |
شعر الشافعيّ في حبّ آل محمّد صلّى الله عليه و آله
و له أيضاً برواية ابن الحجر المكّيّ في كتاب «الصواعق»:
يَا أهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ حُبُّكُمُ | *** | فَرْضٌ مِنَ اللهِ في القُرْآنِ أنْزَلَهُ |
كَفَاكُمُ مِنْ عَظِيمِ القَدْرِ أنَّكُمُ | *** | مَنْ لَا يُصَلِّي عَلَيْكُمْ لَا صَلَاةَ لَهُ |
و عن رواية محمّد بن يوسف الزَّرنديّ أنّه لمّا صرّح محمّد بن إدريس الشافعيّ المطَّلبيّ بمحبّته لأهل بيت النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و قيل فيه ما قيل من الكلام الطويل، عرّض على أصحاب التخطئة في ذلك بقوله:
إ ذَا نَحْنُ فَضَّلْنَا عَلِيّاً فَإنَّنَا | *** | روَافِضُ بالتَّفْضِيلِ عِنْدَ اولِي الجَهْلِ |
وَ فَضْلٌ أبي بَكْرٍ إ ذَا مَا ذَكَرْتُهُ | *** | رُمِيتُ بِنَصْبٍ عِندَ ذِكْرِيَ لِلفَضْلِ |
فَلَا زِلْتُ ذَا رَفْضٍ وَ نَصْبٍ كِلَاهُمَا | *** | بِحُبِّيهِمَا حتى اوَسَّدَ في الرَّمْلِ |
و له أيضاً برواية صاحب «التبر المذاب» و غيره أشعار و مراثي كثيرة في الحسين بن عليّ عليهما السلام. و قد ذكر جملة منها في أواخر المجلّد العاشر من «بحار الأنوار» (طبعة الكمبانيّ) فليلاحظ إن شاء الله.
و ينسب إليه أيضاً برواية ابن الصبّاغ المالكيّ في كتابه «الفصول المهمّة»:
يَا رَاكِباً قِفْ بِالمُحَصَّبِ۱ مِنْ مِنَى | *** | وَ اهْتَفْ بِسَاكِنِ خَيْفِهَا و النَّاهِضِ |
سَحَراً إ ذَا فَاضَ الحَجِيجُ إلى مِنَى | *** | فَيضاً كَمُلْتَطَمِ الفُرَاتِ الفَائِضِ |
إن كَانَ رَفْضاً حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ | *** | فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أنّي رَافِضِي۱ |
هذا و من جملة فوائده المرضيّة بنقل صاحب «الاثنا عشريّة»:
مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ، وَ مَن تَعَلَّمَ الفِقْهِ نَبُلَ مِقْدَارُهُ، وَ مَنْ كَتَبَ الحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ، وَ مَنْ تَعَلَّمَ الحِسَابَ جَزُلَ رَأيُهُ، وَ مَنْ تَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ رَقَّ طَبْعُهُ، وَ مَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ - انتهى.
و عن كتاب «تفضيل فرق الشيعة» للشيخ أبي المعالي الجوينيّ أنّه لمّا كانت الغلبة مع الشافعيّ دائماً في مناظراته مع محمّد بن الحسن الشيبانيّ و أبي يوسف القاضي تلميذي أبي حنيفة الكوفيّ، صار ذلك سبباً في سعايتهما له إلى الخليفة بأنّ له داعية الخلافة و نحوها، إلى أن تغيّر عليه وجهه كثيراً. ثمّ لمّا أراد الله تعالى خلاف ما طلباه، و انكشف كذبهما في
وَ اخبرهم أنّي من النفر الذي | *** | لولاء أهل البيت ليس بناقض |
و اهتف بقاعد خفيها و الناهضِ | *** | ... |
كلّ ما نمياه إليه انقلبت القضيّة، و صار ذلك منشأ لقرب مكانته من الخليفة و شدّة غضبه عليهما، بحيث قد صدر الأمر العالي بإخراجهما من المجلس الرفيع، بأن يُسحبا على وجوههما في التراب، و يجرّ بأرجلهما إلى خارج الباب؛ و هما بعد ما وقعا عرضة لهذه الفضيحة أخذا في الدعوة على الشافعيّ، فكانا يقولان بعد ذلك: اللَهُمَّ أمِتْهُ وَ أهْلِكْهُ. فلمّا بلغ الشّافعيّ ذلك أنشأ يقول:
تَمَنَّى رِجَالٌ أنْ أمُوتَ وَ إن أمُتْ | *** | فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأوْحَدِ |
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْقَى خِلَافَ الذي مَضَى | *** | تَهَيَّأ لُاخْرَى مِثْلِهَا فَكَأنْ قَدِ۱ |
قال ابن حجر الهيتميّ المكّيّ في صواعقه بعد نقل الأبيات الثلاثة عن الشافعيّ: «يا راكباً»؛ قال البيهقيّ: و إنّما قال الشافعيّ ذلك حين نسبه الخوارج إلى الرفض حسداً و بغياً. و له أيضاً، و قد قال المزنيّ: إنّك رجل توالى أهل البيت فلو عملتَ في هذا الباب أبياتاً، فقال:
وَ مَا زَالَ كَتماً مِنْكَ حتى كَأنَّنِي | *** | بِرَدِّ جَوَابِ السَّائِلِينَ لأعْجَمُ |
وَ أكْتُمُ وُدِّي مَع صَفَاءِ مَوَدَّتِي | *** | لِتَسْلَمَ مِنْ قَوْلِ الوُشَاةِ وَ أسْلَمُ |
و قال الشافعيّ أيضاً:
قَالُوا تَرَفَّضْتَ قُلْتُ كَلَّا | *** | مَا الرَّفْضُ دِينِي وَ لَا إعْتِقَادِي |
لَكِنْ تَوَلَّيْتُ غَيْرَ شَك | *** | خَيْرَ إمَامٍ وَ خَيْرَ هَادِي |
إن كَانَ حُبُّ الوَلِيّ رَفْضاً | *** | فَإنَّنِي أرْفَضُ العِبَادِ۱ |
كان الشافعيّ عامّيّ المذهب و معتقداً بالخلفاء
يتبيّن ممّا ذكرناه أنّ الشافعيّ كان يرى الإمام عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام و أبناءه الطاهرين في كمال العلوّ و السموّ، و كان يحبّهم. بَيدَ أنّه لم يخضع لولايتهم و لم يتبرّأ من أبي بكر، و عمر. بل كان يقرّ بفضائلهما و يعتقد بخلافتهما. و كذلك كان يقرّ لعثمان بمنزلة و فضيلة، كما سُمعت له أبيات حكاها الربيع بن سليمان عنه.٢
و هي قوله:
شَهِدْتُ بِأنَّ اللهَ لَا رَبَّ غَيْرُهُ | *** | و أشْهَدُ أنَّ البَعْثَ حَقٌّ وَ اخْلِصُ |
وَ أنَّ عُرَا الإيمانِ قَوْلٌ مُحَسَّنٌ | *** | و فِعْلٌ زَكِيّ قَدْ يَزِيدُ وَ يَنْقُصُ |
وَ أنَّ أبَا بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَبِّهِ | *** | وَ كَانَ أبُو حَفْصٍ عَلَى الخَيْرِ يَحْرِصُ |
وَ اشْهِدُ رَبِّي أنَّ عُثْمَانَ فَاضِلٌ | *** | و أنَّ عَلِيّاً فَضْلُهُ مُتَخَصَّصُ |
أئِمَّةُ قَوْمٍ نَهْتَدِي بِهُدَاهُمُ | *** | لَحَا اللهُ مَنْ إيَّاهُمُ يَتَنَقَّصُ۱ |
في ضوء ذلك لا تدلّ أشعاره الرفيعة جميعها على تشيّعه، لأنّ التبرّي لازم في التشيّع مضافاً إلى التولّي. و هو كابن أبي الحديد المعتزليّ، فمع قصائده السبع الغرّ النادرة المثال، و مع المحامد و المحاسن التي ذكرها في «شرح نهج البلاغة»، لكنّه رجل سنّيّ عامّيّ لقوله بحقّانيّة خلافة الشيخين.
الشافعيّ سنّيّ معتدل
أمّا الشافعيّ فهو سنّيّ معتدل لا متجاوز و لا متهتّك، لأنّه أولًا:
لا يتبع الأشعريّ في الاصول كسائر العامّة، و يقول بالعدل. و ثانياً: يردّ الرأي و القياس الظنّيّ و الاستحسان في الفروع، فهو ليس كأبي حنيفة و مالك.
أمّا العدل الإلهيّ، فهو يعتقد به كالشيعة و المعتزلة. كما روى عنه الشيخ سليمان الحنفيّ القندوزيّ أنّه قال في شعره:
لَوْ فَتَّشُوا قَلْبِي لألْفَوا بِهِ | *** | سَطْرَيْنِ قَدْ خُطَّا بِلَا كَاتِبِ |
العَدْلُ وَ التَّوْحِيدُ في جَانِبٍ | *** | وَ حُبُّ أهْلِ البَيْتِ في جَانِبِ۱ |
كما نُقل في أشعاره السابقة عن «النجوم الزاهرة» تصريحه بأنّ الإيمان يزيد و ينقص. و هذه من المسائل التي شمّر أبو حنيفة عن ساعد الجدّ في ردّها. و قال بصراحة: الإيمَانُ لَا يَزِيدُ وَ لَا يَنْقُصُ.
و أمّا العمل بالرأي و القياس و الإستحسان، فينبغي أن نقول: تفرّد الشافعيّ في عدم العمل بها.٢
الرأي هو فتوى الفقيه عند عدم الإطّلاع على مدارك الحكم من الكتاب و السنّة. و القياس هو تطبيق الحكم على موضوع مماثل عند القطع أو الظنّ أو الاحتمال بوجود الملاك و المناط في هذا الموضوع المماثل مع موضوع الحكم. و الاستحسان هو الإفتاء في شيء بمجرّد استحسانه في النظر مع أنّ حكم الكتاب و السنّة يخالفه.
و العمل بالرأي خطاٌ في كلّ حال. إذ إن الشريعة هي الحكم الإلهيّ
الموجود في الكتاب و السُّنّة، و الإجماع القطعيّ على وجود الحجّة أو دخول المعصوم. و العمل بالرأي هو العمل القائم بشخص في مقابل الشرع.
العمل بالقياس صحيح عند تنقيح المناط القطعيّ و الملاك اليقينيّ.
و عند عدم اليقين بوجود ملاك الحكم في الموضوع المعهود، فإنّ جرّ الحكم من الموضوع القطعيّ إلى هذا الموضوع الظنّيّ و الاحتماليّ هو جرّ الحكم من المتيقّن إلى المشكوك. و على أيّة حال فهو مرفوض و مُدان في ضوء الآيات القرآنيّة و الأحاديث المستفيضة الدالّة على لزوم تحصيل اليقين.۱
الشافعيّ لا يجيز العمل بالرأي و القياس
يرى الشافعيّ العمل بالاستحسان، و الرأي، و القياسات الوهميّة و الظنّيّة باطل. و لا يُقبل القياس عنده إلّا إذا حصل القطع بالملاك. من هنا فلا خلاف بين مصادر فتواه و فتوى علماء الشيعة.
و على الرغم من أنّ المذهب الشافعيّ يختلف عن المذهب الشيعيّ الجعفريّ في الفروع كثيراً، بَيدَ أنّا يمكن أن نقول: هو أقرب إليه من مذاهب العامّة جميعها.٢
قال أبو المعالي عبد الملك الجوينيّ في إثبات المذهب الشافعيّ، و ردّ المذهب الحنفيّ في موضوع الاستحسان:
القول بالاستحسان: و ذلك عمل بلا دليل، فإنّ حاصله يرجع إلى أنّ الدليل معكم من الخبر و القياس و لكنّي أسْتَحْسِن مخالفته و هذا إثبات للشرع من تلقاء نفسه. و قال الشافعيّ رضي الله عنه حين ناظر محمّد بن الحسن في هذه المسألة: مَن استحسن فقد شرّع، و مَن شرّع فقد أشرك.۱
و قال الشافعيّ نفسه في كتاب «الامّ» في إبطال الاستحسان: (قال الشافعيّ:) و كلّ ما وصفتُ مع ما أنا ذاكر و ساكت عنه اكتفاء بما ذكرت منه عمّا لم أذكر من حكم الله ثمّ حكم رسوله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، ثمّ حكم المسلمين دليل على أن لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكماً أو مفتياً أن يحكم أو يُفتي إلّا من جهة خبر لازم. و ذلك الكتاب ثمّ السنّة. أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه، أو قياس على بعض هذا، و لا يجوز له أن يحكم و لا يُفتي بالاستحسان.٢ إذ لم يكن الاستحسان واجباً، و لا في واحدٍ
من هذه المعاني.
فإن قال قائل: فما يدلّ على أن لا يجوز أن يستحسن إذا لم يدخل الاستحسان في هذه المعاني مع ما ذكرت في كتابك هذا؟! قيل: قال الله عزّ و جلّ: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً.۱
فلم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمتُ أنّ السدي الذي لا يؤمر و لا يُنهى. و من أفتى أو حكم بما لم يؤمر به فقد أجاز لنفسه أن يكون في معاني السدى، و قد أعلمه الله أنّه لم يتركه سدى، و رأى أن قال: أقول بما شئت. و ادّعى ما نزل القرآن بخلافه في هذا، و في السنن، فخالف منهاج النبيّين صلّى الله عليهم [و آلهم] و سلّم أجمعين و عوامّ حكم جماعة من روى عنه من العالمين.٢
و جملة القول: أنّ من ضرورات المذهب الشيعيّ بطلان و حرمة الحكم و الفتوى بالرأي و الاستحسان و القياس.٣ و من الطبيعيّ أنّ القياس
هنا - كما أشرنا - هو القياس غير العلميّ و الاحتماليّ. أمّا القياس العلميّ فله الحجّيّة في درجة الكتاب و السنّة و الإجماع المحقّق. و يُدعى هذا القياس قياساً مستنبط العلّة، أي: استنبطت فيه علّة الحكم، و متى تحقّقت العلّة تحقّق الحكم الذي هو معلولها. كما ورد في رواية المعصوم:
لَا تَشْرَبِ الخَمْرِ لأنَّهُ مُسْكِرٌ. نلحظ هنا أنّ حرمة شرب الخمر لا تتعلّق بموضوع الخمر، لأنّه خمر أو غير ذلك، بل إن علّة الحرمة إسكاره، لهذا متى تحقّق الإسكار في موضوع تعلّقت الحرمة به سواء كان من مادّة مخمَّرة، أم من غير مخمَّرة كالبنج و غيره. ذلك أنّ موضوعنا في الحقيقة يتبدّل إلى موضوع آخر، و هو: لَا تَشْرَبْ كُلَّ مُسْكِرٍ!
أو نحو الأولويّة القطعيّة مثل قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ!۱ فيُستفاد منه أنّ ضربهما حرام بطريق أولى. فجاز لنا أن نستنتج من الحكم بحرمة قول: افٍّ، الحكم بحرمة الإساءة اليهما، و سبّهما، و ضربهما بطريق الأولويّة.
أمّا في القياسات المحتملة الملاك و المظنونة المناط، فلا يتسنّى لنا أن نحكم حكماً قطعيّاً بسراية الحكم، فلهذا يحظر استعمالها لاستنتاج الأحكام الشرعيّة و القضايا المتنوّعة، و هذا الباب مسدود تماماً أمام المجتهدين و الفقهاء.
ردّ الإمام الصادق عليه السلام على أبي حنيفة قوله بالقياس
روى الشيخ الطبرسيّ في «الاحتجاج» عن بشير بن يحيى العامريّ،
عن ابن أبي ليلى، قال: دخلتُ أنا و النعمان أبو حنيفة على جعفر بن محمّد، فرحّب بنا، فقال: يا بن أبي ليلى مَن هذا الرجل؟! فقلتُ: جُعلتُ فداك من أهل الكوفة له رأي و بصيرة و نفاذ! قال: فلعلّه الذي يقيس الأشياء برأيه! ثمّ قال: يا نعمان! هل تُحسن أن تقيس رأسك؟! قال: لا!
قال: ما أراك تحسن أن تقيس شيئاً! فَهَلْ عَرَفْتَ المُلُوحَةَ في العَيْنَيْنِ، وَ المَرَارَةَ في الاذُنَيْنِ، وَ البُرُودَةَ في المِنْخَرَيْنِ، وَ العُذُوبَةَ في الفَمِ؟!
قال: لا! قال: فهل عرفتَ كلمةً أوّلها كفر و آخرها إيمان؟!
قال: لا. قال ابن أبي ليلى: جُعِلْتُ فِدَاكَ. لا تدعنا في عمياء ممّا وصفتَ.
قال: نَعَمْ، حدّثني أبي عن آبائه عليهم السلام أنّ رسول الله قال: إن الله خلق عيني ابن آدم شحمتين فجعل فيهما الملوحة، فلولا ذلك لذابتا، و لم يقع فيهما شيء من القذى إلّا أذابه. و الملوحة تلفظ ما يقع في العين من القذى. و جعل المرارة في الاذنين حجاباً للدماغ، و ليس من دابّة تقع في الاذُن إلّا التمست الخروج، و لو لا ذلك لوصلت إلى الدماغ فأفسدته.
و جعل الله البرودة في المنخرين حجاباً للدماغ. و لو لا ذلك لسال الدماغ.
و جعل العذوبة في الفم منّاً من الله تعالى على ابن آدم ليجد لذّة الطعام و الشراب.
و أمّا كلمة أوّلها كفر و آخرها إيمان فقول: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ.
ثمّ قال: يَا نُعْمَانُ! إيَّاكَ وَ القِيَاسَ! فَإنَّ أبي حَدَّثَنِي عَنْ آبَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أنَّ رَسُولَ اللهِ! قَالَ: مَنْ قَاسَ شَيئاً مِنَ الدِّينِ بِرَأيِهِ قَرَنَهُ اللهُ تَبَارَكَ و تعالى مَعَ إبْلِيسَ، فَإنَّهُ أوَّلُ مَنْ قَاسَ، حَيْثُ قَالَ: «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ
وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ».۱ فَدَعُوا الرَّأيَ وَ القِيَاسَ فَإنَّ دِينَ اللهِ لَمْ يُوضَعْ عَلَى القِيَاسِ.٢
قال الدميريّ في كتاب «حياة الحيوان»، مادّة ظبي: و ذكر ابن خلّكان في ترجمة جعفر الصادق أنّه سأل أبا حنيفة: ما تقول في مُحْرِمٍ كَسَرَ رباعية ظبي؟!
فقال: يا بن بنت رسول الله، لا أعلم ما فيه!
فقال: إن الظَّبْيَ لَا يَكُونُ رَبَاعِياً وَ هُوَ ثَنِيّ أبَداً.٣
و قال الجوهريّ في مادّة س ن ن في قول الشاعر في وصف الإبل:
فَجَاءَتْ كَسِنِّ الظَّبْي لَمْ أرَ مِثْلَهَا | *** | سَنَاءَ عَلِيلٍ أوْ حُلُوبَةَ جَائِع |
أي: هِيَ ثَنِيَّاتٌ، لأنَّ الثَّنِيّ هُوَ الذي يُلْقِي ثَنِيَّتَهُ، وَ الظَّبْيُ لَا تَنْبُتُ لَهُ ثَنِيَّةٌ قَطُّ فَهُوَ ثَنِيّ أبَداً.٤
و قال ابن شبرمة: دخلتُ أنا و أبو حنيفة على جعفر بن محمّد
الصادق، فقلتُ: هذا رجل فقيه من العراق! فقال: لعلّه الذي يقيس الدين برأيه!! أ هو النعمان بن ثابت؟!
قال: و لم أعلم باسمه إلّا ذلك اليوم. فقال له أبو حنيفة: نعم أنا ذلك.
أصْلَحَكَ اللهُ!
فقال له جعفر: اتَّقِ اللهَ، وَ لَا تَقِسِ الدِّينَ بِرَأيِكَ، فَإنَّ أوَّلَ مَنْ قَاسَ بِرَأيِهِ إبْلِيسُ، وَ إذْ قَالَ: أنَا خَيْرٌ مِنْهُ. فَأخْطَأ بِقِيَاسِهِ، فَضَلَّ.
ثمّ دلّ الإمام عليه السلام على عجز أبي حنيفة في الجواب عن قياس رأسه إلى جسده، و الجواب عن علّة خلق الملوحة في العينين، و المرارة في الاذنين، و البرودة في المنخرين، و العذوبة في الشفتين، و عن كلمة أوّلها كفر و آخرها إيمان - كما تقدّم في الرواية السابقة - إذ كان يسأله، و هو لم يحر جواباً.
ثمّ قال له جعفر: وَيْحَكَ! أيُّمَا أعْظَمُ عِنْدَ اللهِ إثْماً، قَتْلُ النَّفْسِ التي حَرَّمَ اللهُ بِغَيْرِ حَقِّ أوِ الزِّنَا؟! قَالَ: بَلْ قَتْلُ النَّفْسِ!
قال جعفر: إن اللهَ تَعَالَى قَدْ قَبِلَ في قَتْلِ النَّفْسِ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ وَ لَمْ يَقْبَلْ في الزِّنَا إلَّا شَهَادَةَ أرْبَعٍ. فإنّي يَقُومُ لَكَ القِيَاسُ؟!
ثمّ قال: أيُّمَا أعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، الصَّوْمُ أوِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ.
قال: فَمَا بَالُ الحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَ لَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟!
اتَّقِ اللهَ يَا عَبْد اللهِ وَ لَا تَقِس الدِّينَ بِرَأيِكَ. فَإنَّا نَقِفُ غَداً وَ مَنْ خَالَفَنَا بَيْنَ يَدَي اللهِ، فَنَقُولُ: قَالَ اللهُ وَ قَالَ رَسُولُ اللهِ. وَ تَقُولُ أنْتَ وَ أصْحَابُكَ: سَمِعْنَا وَ رَأيْنَا. فَيَفْعَلُ اللهُ بِنَا وَ بِكُمْ مَا يَشَاءُ.
و الجواب في أنّ الزنا لا يقل فيه إلّا أربعة طلباً للستر. و في أنّ الحائض لا تقضي الصلاة متكرّرة في اليوم و الليلة خمس مرّات بخلاف الصوم فإنّه في السنّة مرّة. و الله أعلم.
و جعفر الصادق هو جعفر بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
و جعفر أحد الأئمّة الاثني عشر على مذهب الإماميّة من سادات أهل البيت. و لُقِّب الصادق لصدقه في مقاله. و له مقال في صنعة الكيمياء، و الزجر، و الفأل. و تقدّم في باب الجيم. في الجَفْرَة عن ابن قتيبة أنّه قال في كتاب «أدب الكاتب»: إن كتاب الجفر جلد جفرة كتب فيه الإمام جعفر الصادق لأهل البيت كلّ ما يحتاجون إلى علمه و كلّ ما يكون إلى يوم القيامة.
و كذا حكاه ابن خلّكان عنه أيضاً. و كثير من الناس ينسبون كتاب الجفر إلى علي بن أبي طالب، و هو وهم. و الصواب أنّ الذي وضعه جعفر الصادق كما تقدّم.
نصائح الإمام الصادق للإمام الكاظم على ما نقله الدميريّ
و أوصى جعفر ابنه موسى الكاظم، فقال:
يَا بني احْفَظْ وَصِيَّتِي تَعِيشْ سَعِيداً وَ تَمُتْ شَهِيداً!
يَا بني إن مَنْ قَنِعَ بِمَا قُسِّمَ لَهُ اسْتَغْنَى، وَ مَنْ مَدَّ عَيْنَيْهِ إلى مَا في يَدِ غَيْرِهِ مَاتَ فَقِيراً. وَ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ أتَّهَمَ اللهَ في قَضَائِهِ. وَ مَنِ اسْتَصْغَرَ زَلَّةَ نَفْسِهِ اسْتَعْظَمَ زَلَّةَ غَيْرِهِ.
يَا بني مَنْ كَشَفَ حِجَابَ غَيْرِهِ إنْكَشَفَتْ عَوْرَاتُ بَيْتِهِ، وَ مَن سَلَّ سَيْفَ البَغْيِ قُتِلَ بِهِ. وَ مَنِ احْتَفَرَ لأخِيهِ بِئْراً سَقَطَ فِيهَا. وَ مَنْ دَاخَلَ السُّفَهَاءَ حَقِرَ. وَ مَن خَالَطَ العُلَمَاءَ وَقُرَ. وَ مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ اتُّهِمَ.
يَا بني قُلِ الحَقَّ لَكَ أوْ عَلَيْكَ. وَ إيَّاكَ وَ النَّمِيمَةَ فَإنَّهَا تَزْرَعُ الشَّحْنَاءَ في قُلُوبِ الرِّجالِ.
يَا بني إ ذَا طَلَبْتَ الجُودَ فَعَلَيْكَ بِمَعَادِنِهِ!
و روي أنّه قيل لجعفر الصادق: مَا بَالُ النَّاسِ في الغَلَاءِ يَزْدَادُ
جُوعُهُمْ بِخِلَافِ العَادَةِ في الرَّخْصِ؟! فَقَالَ: لأنَّهُمْ خُلِقُوا مِنَ الأرْضِ وَ هُمْ بَنُوهَا، فَإذَا أقْحَطَتْ أقْحَطُوا، وَ إ ذَا أخْصَبَتْ أخْصَبُوا.
وُلِدَ جعفر رحمة الله تعالى عليه سنة ثمانين من الهجرة، و قيل: سنة ثلاث و ثمانين. و توفّي سنة ثمان و أربعين و مائة - انتهى كلام الدميريّ.۱
من الجدير ذكره أنّ الدميريّ كان شافعيّاً. و أورد في كتاب «حياة الحيوان» موضوعات كثيرة في الردّ على أبي حنيفة.
و نقل في مادّة بَعُوض مطالب نفيسة جدّاً عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، منها قال: وَ كَانَ الشَّافِعِيّ يَقُولُ: قَبْرُ موسى الكَاظِمِ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّرْيَاقُ المُجَرَّبُ.
حوار الإمام الصادق عليه السلام مع أبي حنيفة حول الرأي و القياس
أجل، قال الشيخ الطبرسيّ في «الاحتجاج» بعد نقل الرواية التي ذكرناها في القياس آنفاً: و في رواية اخرى أنّ الصادق عليه السلام قال لأبي حنيفة لمّا دخل عليه: مَن أنْتَ؟! قال: أبو حنيفة.
قال عليه السلام: مفتي أهل العراق؟! قال: نعم!
قال: بما تُفتيهم؟! قال: بِكِتَابِ اللهِ.
قال: و إنّك لعالم بكتاب الله، ناسخه و منسوخه، و محكمه و متشابهه؟!
قال: نعم!
قال: فأخبرني عن قول الله عزّ و جلّ: وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ.٢ أي موضع هو؟!
قال أبو حنيفة: هو ما بين مكّة و المدينة! فالتفت أبو عبد الله (الإمام
الصادق عليه السلام) إلى جلسائه، و قال:
نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ هَلْ تَسِيرُونَ بَيْنَ مَكَّةَ وَ المَدِينَةِ وَ لَا تَأمَنُونَ عَلَى دِمَائِكُمْ مِنَ القَتْلِ وَ عَلَى أمْوَالِكُمْ مِنَ السَّرَقِ؟!
فقالوا: اللهّم نعم.
فقال أبو عبد الله: وَيْحَكَ يَا أبَا حَنِيفَةِ! إن اللهَ لَا يَقُولُ إلَّا حَقّاً!
أخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً».۱ أي موضع هو؟
قال: ذلك بيت الله الحرام. فالتفت أبو عبد الله إلى جلسائه، و قال:
نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أنَّ عَبْد اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ دَخَلَاهُ فَلَمْ يَأمَنَا القَتْلَ؟!
قالوا: اللهمّ نعم.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: وَيْحَكَ يَا أبَا حَنِيفَةَ! إن اللهَ لَا يَقُولُ إلَّا حَقّاً.
فقال أبو حنيفة: ليس لي علم بكتاب الله. إنّما أنا صاحب قياس.
قال أبو عبد الله: فانظر في قياسك إن كنتُ مقيساً أيّما أعظم عند الله: القتل أو الزنا؟! قال: بل القتل.
و هنا أدان الإمام عليه السلام أبا حنيفة بنفس اسلوب الاستدلال الوارد في الرواية السابقة حول القتل و الزنا، و الصلاة و الصيام. و بعد ذلك قال له: البَوْلُ أقْذَرُ أمِ المَنِيّ؟!
قال: البول أقذر.
قال: يجب على قياسك الغسل من البول دون المنيّ، و قد أوجب الله
تعالى الغسل من المنيّ دون البول.
قال: إنّما أنا صاحب رأي.
قال عليه السلام: فما تقول في رجل كان له عبد فتزوّج و زوّج عبده في ليلة واحدة. فدخلا بامرأيتهما في ليلة واحدة، ثمّ سافرا و جعلا امرأتيهما في بيت واحد، و ولدتا غلامين. فسقط البيت عليهم، فقتل المرأتين. و بقي الغلامان. أيّهما في رأيك المالك و أيّهما المملوك؟! و أيّهما الوارث و أيّهما الموروث؟!
قال: إنّما أنا صاحب حدود.
قال: فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح، و أقطع قطع يد رجل، كيف يقام عليهما الحدّ؟!
قال: إنّما أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء.
قال: فأخبرني عن قول الله لموسى و هارون حين بعثهما إلى فرعون: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى.۱ و لعلّ منك شكّ؟! قال: نعم!
قال: و كذلك من الله شكّ إذ قال: لَعَلَّهُ؟! قال أبو حنيفة: لا علم لي.
قال عليه السلام: تَزْعَمُ أنَّكَ تُفْتِي بِكِتَابِ اللهِ وَ لَسْتَ مِمَّنْ وَرِثَهُ!
وَ تَزْعَمُ أنَّكَ صَاحِبُ قِيَاسٍ، وَ أوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ، وَ لَمْ يُبْنَ دِينُ الإسْلَامِ عَلَى القِيَاسِ.
وَ تَزْعَمُ أنَّكَ صَاحِبُ رَأي، وَ كَانَ الرَّأيُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَوَاباً وَ مِنْ دُونِهِ خَطَأ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أرَاكَ اللهُ٢، وَ لَمْ يَقُلْ
ذَلِكَ لِغَيْرِهِ.
وَ تَزْعَمُ أنَّكَ صَاحِبُ حُدُودٍ، وَ مَنْ انْزِلَتْ عَلَيْهِ أوْلَى بِعِلْمِهَا مِنْكَ!
وَ تَزْعَمُ أنَّكَ عَالِمٌ بِمَبَاعِثِ الأنْبِيَاءِ، وَ لَخَاتَمُ الأنْبِيَاءِ أعْلَمُ بِمَبَاعِثِهِمْ مِنْكَ!
لَوْ لا أنْ يُقَالَ: دَخَلَ عَلَى ابْنِ رَسُولِ اللهِ فَلَمْ يَسألْهُ عَنْ شَيْءٍ مَا سَألْتُكَ عَنْ شَيءٍ! فَقِسْ إن كُنْتَ مُقِيساً!
قال أبو حنيفة: لا أتكلّم بالرأي و القياس في دين الله بعد هذا المجلس!
قال: كلّا. إن حبّ الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك - تمام الخبر.۱
و عن عيسى بن عبد الله القرشيّ قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه السلام، فقال: يا أبا حنيفة قد بلغني أنّك تقيس! فقال: نعم!
فقال: لا تَقِسْ فإنّ أوّل من قاس إبليس لعنه الله حين قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.٢ فقاس بين النار و الطين. و لو قاس نوريّة آدم بنوريّة النار و عرف ما بين النورين، و صفاء أحدهما على الآخر.٣
روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، و محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعاً عن ابن أبي عُمَير، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبان بن تغلب، قال:
قُلْتُ لأبي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا تَقُولُ في رَجُلٍ قَطَعَ إصْبَعاً مِنْ أصَابِعِ المَرْأةِ كَمْ فِيهَا؟! قَالَ: عَشْرٌ مِنَ الإبِلِ. قُلْتُ: قَطَعَ اثْنَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ. قُلْتُ: قَطَعَ ثَلَاثاً؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ. قُلْتُ: قَطَعَ أرْبَعاً؟ قَالَ: عِشْرُونَ.
قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ يَقْطَعُ ثَلَاثاً فَيَكُونَ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ، وَ يَقْطَعُ أرْبَعاً فَيَكُونَ عَلَيْهِ عِشْرُونَ؟! إن هَذَا كَانَ يَبْلُغُنَا وَ نَحْنُ بِالعِرَاقِ فَنَبْرأ مِمَّنْ قَالَ وَ نَقُولُ: الذي جَاءَ بِهِ شَيْطَانٌ.
فَقَالَ: مَهْلًا يَا أبَانُ؛ هَكَذَا حَكَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ إن المَرْأةَ تُقَابِلُ الرَّجُلَ إلى ثُلْثِ الدِّيَةِ، فَإذَا بَلَغَتِ الثُّلْثَ رَجَعَتْ إلى النِّصْفِ.۱
يَا أبَانُ إنَّكَ أخَذْتَنِي بِالقِيَاسِ. وَ السُّنَّةُ إ ذَا قِيسَتْ مُحِقَ الدِّينُ.٢
قال السيّد رضيّ الدين أبو القاسم عليّ بن موسى بن طاووس الحسنيّ
الحسينيّ في كتابه الثمين «الطرائف» بعد شرح مفصّل في إثبات علل بطلان القياس، و تحقيق في مصدره، و طعن على العاملين به: و قد روى الخطيب في تاريخه، و ابن شيرويه الديلميّ قالا: إن النبيّ صلّى الله عليه و آله قال:
سَتَفْتَرِقُ امَّتي عَلَى بِضْعٍ وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، أعْظَمُهَا فِتْنَةً عَلَى امَّتي قَوْمٌ يَقِسُونَ الامُور، فَيُحَرِّمُونَ الحَلالَ وَ يُحَلِّلُونَ الحَرَامَ.۱
أهل القياس يبدّلون الحلال و الحرام أحدهما بالآخر
و قد وقفت على كتب علماء عترة نبيّهم، و هم مجمعون على تحريم العمل بالقياس. و أخبار هؤلاء الأربعة المذاهب في كتبهم الصحاح تشهد أنّ عترة نبيّهم لا يخالفون كتاب ربّهم إلى يوم القيامة.
كان أبو بكر لا يجيز العمل بالرأي و القياس
ثمّ و قد روى علماء الإسلام أخباراً متظاهرة في المنع من القياس و الرأي. فمن ذلك ما رووه عن أبي بكر أنّه قال: أيّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَ أيّ أرْضٍ تُقِلُّنِي إ ذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ بِرَأيِي؟
و من ذلك ما رُوي عن عمر بن الخطّاب قال:
إيَّاكُمْ و أصْحَابَ الرَّأي فَإنَّهُمْ أعْدَاءُ السُّنَنِ، أعْيَتهُمُ الأحَادِيثُ أنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأيِ فَضَلُّوا وَ أضَلُّوا.
و من ذلك ما رووه عن عمر أنّه كتب إلى شريح القاضي و هو يؤمئذٍ
نائبه عن القضاء:
اقْضِ بِمَا في كِتَابِ اللهِ. فَإنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِمَا في سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ. فَإنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ في سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَاقْضِ بِمَا أجْمَعَ عَلَيْهِ أهْلُ العِلْمِ. فَإنْ لَمْ تَجِدْ فَلَا عَلَيْكَ أنْ لَا تَقْضِي!
و من ذلك ما رووه عن عبد الله بن عبّاس أنّه قال: لَوْ جَعَلَ اللهُ لأحَدٍ أنْ يَحْكُمَ بِرَأيِهِ لَجَعَلَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ؛ قَالَ اللهُ لَهُ: «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ»۱ وَ قَالَ: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ».٢ وَ لَمْ يَقُلْ: بِمَا رَأيْتَ!
و روي النهي عن القياس عن عبد الله بن مسعود، و عبد الله بن عمر، و مسروق بن سيرين، و أبي سلمة بن عبد الرحمن. فلو كان القياس مشروعاً في زمن نبيّهم، ما خفي عن هؤلاء و عن عترة نبيّهم و أتباعهم من العلماء.٣
روايات الشيعة في حرمة العمل بالقياس
روى الكُلينيّ في باب النهي عن القول بغير علم بسنده عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: إيَّاكَ وَ خَصْلَتَيْنِ، فَفِيهِمَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ: إيَّاكَ أنْ تُفْتِي النَّاسَ بِرَأيِكَ أوْ تَدِينَ بِمَا لَا تَعلَمُ!٤
و روى بسنده عن ابن شبرمة،۱ قال: مَا ذَكَرْتُ حَدِيثاً سَمِعْتُهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إلَّا كَادَ أنْ يَتَصَدَّعَ قَلْبِي: قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَ آلِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ عَمِلَ بِالمَقَايِيسِ فَقَدْ هَلَّكَ وَ أهْلَكَ.٢ وَ مَنْ أفْتَى النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ النَّاسِخَ مِنَ المَنْسُوخِ، وَ المُحْكَمَ مِنَ المُتَشَابِهَ فَقَدْ هَلَكَ وَ أهْلَكَ.٣
و كذلك روى في باب البدع و الرأي و المقاييس بسنده عن أبي شيبة الخراسانيّ. قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن أصْحَابَ المَقَائِيسِ طَلَبُوا العِلْمَ بِالمَقَايِيسِ، فَلَمْ تَزِدْهُمُ المَقَائِيسُ مِنَ الحَقِّ إلَّا بُعْداً، وَ إن دِينَ اللهِ لَا يُصَابُ بِالمَقَايِيسِ!٤
و روى أيضاً بسنده عن محمّد بن حكيم، قال: قلتُ لأبي الحسن موسى عليه السلام: جُعِلْتُ فداك! فُقِّهنا في الدِّين، و أغنانا الله بكم عن الناس، حتى أنّ الجماعة منّا لتكون في المجلس، ما يسأل رجل صاحبه تحضره المسألة و يحضره جوابها فيما مَنَّ اللهُ علينا بكم. فربّما ورد علينا الشيء و لم يأتنا فيه عنك و لا عن آبائك شيء. فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا و أوفق الأشياء لما جاءنا عنكم، فنأخذ به؟!
فقال: هيهات، هيهات في ذلك! و اللهِ هلك من هلك يا بن حكيم.
قال: ثمّ قال: لَعَنَ اللهُ أبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ: قَالَ عَلِيّ وَ قُلْتُ!۱
و كذلك روى بسنده عن أبي شيبة قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول: ضَلَّ عِلْمُ ابْنِ شُبْرُمَةَ عِنْدَ الجَامِعَةِ: إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَطُّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ. إن الجَامِعَةَ لَمْ تَدَعْ لأحَدٍ كَلَاماً. فِيهَا عِلْمُ الحَلَالِ وَ الحَرَامِ. إن أصْحَابَ القِيَاسِ طَلَبُوا العِلْمَ بِالقِيَاسِ، فَلَمْ يَزْدَادُوا مِنَ الحَقِّ إلَّا بُعْداً. إن دِينَ اللهِ لَا يُصَابُ بِالقِيَاسِ.٢
و روى بسنده عن زرارة قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن الحلال و الحرام، فقال:
حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أبَداً إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ أبَداً إلى يَوْمِ القِيَامَةِ. لَا يَكُونُ غَيْرُهُ وَ لَا يَجِيءُ غَيْرُهُ.
وَ قَالَ: قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا أحَدٌ ابْتَدَعَ بِدْعَةً إلَّا تَرَكَ بِهَا سُنَّةً.٣
أجل، بلغنا هذه النقطة في كلامنا عن الشافعيّ الذي كان يخالف الرأي و الاستحسان و القياس الظنّيّ.
قال محمّد الزُّهْريّ النجّار - و هو من علماء الأزهر، و أشرف على طبع كتاب «الامّ» للشافعيّ و تصحيحه - في مقدّمته على الكتاب: و الذي أوصل الشافعيّ إلى هذه الدرجة تلك الخطوات المحكمة التي انتهجها في حياته العلميّة، ذلك أنّه تأدّب بأدب البادية و وقف على علوم اللغة العربيّة فصيحها و غريبها، و حفظ أشعار العرب و أيّامهم، فأصبح حجّةً في اللغة
و خصوصاً أشعار الهُذَليِّين.
و قال بعد أن فصّل الكلام في ترجمته، و علومه، و رحلاته: رحلته الثالثة۱ إلى العراق. و في خلال هذه السنوات، مات الإمام أبو يوسف في سنة ۱۸٢. و مات بعده الإمام محمّد بن الحسن سنة ۱۸۸. و مات هارون الرشيد سنة ۱٩٣. و بويع المأمون بالخلافة. و اشتهر حبّه للعلويّين و عطفه عليهم.
فرأى الشافعيّ أن يعود إلى بغداد. و أقام فيها شهراً واحداً، و كان يلقي دروسه في جامعها الغربيّ. و في ٢۸ شوّال دخل مصر و بقي فيها حتى مات.
وفاة الشافعيّ و شيء من شعره
و توفّي في ليلة الجمعة الأخيرة من شهر رجب سنة ٢۰٤ هـ بعد العشاء الأخيرة. و تمّ تكفينه و دفنه في غدها. و بعد صلاة العصر خرجت الجنازة، فلمّا وصلت إلى شارع السيّدة نفيسة الآن، خرجت السيّدة نفيسة و أمرتهم بإدخال النعش إلى بيتها، فصلّت عليه و ترحمّت. ثمّ سير بالجنازة إلى
القُرافة الصغرى، و فيها دُفن.
كان الشافعيّ يرى الحرّيّة في القناعة، و الذلّ كلّ الذلّ في الطلب و السؤال، فيقول:
العَبْدُ حُرٌّ إن قَنِعْ | *** | و الحُرُّ عَبْدٌ إن قَنَعْ۱ |
فَاقْنَعْ وَ لَا تَقْنَعْ فَلَا | *** | شَيْءٌ يَشِينُ سِوَى الطَّمَعْ |
فلذلك نجد القناعة و الاعتزاز بالرضا بما قسم الله ماثلًا في قوله:
أمْطِرِي لُؤْلُؤاً جِبَالَ سَرَنْدِيبَ | *** | وَ فِيضِي آبَارَ تَكْرُورَ تِبْرَا |
أنَا إن عِشْتُ لَسْتُ أعْدَمُ قَوْتاً | *** | و إ ذَا مِتُّ لَسْتُ أعْدَمُ قَبْرَا |
هِمَّتِي هِمَّةُ المُلُوكِ وَ نَفْسِي | *** | نَفْسُ حُرَّةٍ تَرَى المَذَلَّةَ كُفْرا٢ |
بحث حول أحمد بن محمّد بن حَنْبَل الشَّيْبانيّ المروزيّ البغداديّ
قال السيّد المحقّق و العالم المتضلّع السيّد محمّد باقر الخوانساريّ في كتابه «روضات الجنّات»:
رابِعُ أرْبَعَةِ النَّاسِ، وَ سَابِعُ سَبْعَةٍ لَيْسَ يَكُونُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمُ القِيَاسُ
الإمامُ عِزُّ الدِّينِ أبُو عَبْد اللهِ أحمد بن محمّد بن حَنْبَل بن هلال بن أسد الشَّيْبانيّ النَّسْل المروزيّ الأصل البَغْداديّ المَنْشَأ و المسكن و الخاتمة.
ينتهي نسبه غير الميمون إلى ذي الثَّديَّة الملعون رئيس الخوارج على أمير المؤمنين عليه السلام. و لهذا اشتهر كونه منحرفاً عن الولاء له عليه السلام بالشدّة مع أنّه من كبار أئمّة أهل السنّة و الجماعة القائلين بخلافته، و فرض اتّباعه و موالاته و لو بعد الثلاثة لا محالة. بل يروى عنه أنّه قال:
أحفظ أو احدِّث ممّا قد رويته بالإسناد عن النبيّ صلّى الله عليه و آله ثلاثين ألف، حديث في فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام.
و عن الإمام الثعلبيّ المفسّر الآتي ترجمته إن شاء الله تعالى أنّه ينقل عن أحمد بن حنبل المذكور أنّه قال: مَا جَاءَ لأحَدٍ مِنْ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مَا جَاءَ لِعَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الفَضَائِلِ.
و عن «المناقب» لابن شهرآشوب المازندارنيّ نقلًا عن صاحب كتاب «معرفة الرجال» أنّه قال: كانت عداوة أحمد بن حنبل لأمير المؤمنين عليه السلام أنّ جدّه ذا الثَّديّة قتله أمير المؤمنين عليه السلام يوم النهروان. و أن قد يحتمل أن يكون الباعث على ذلك أيضاً ما ستقف عليه في ذيل ترجمة القاضي ابن خلّكان.
و بالجملة فقد ذكر ابن خلّكان بعد الترجمة له - قريباً ممّا أسلفناه - أنّ امّه خرجت من مرو خراسان حاملًا به، فولدته ببغداد في شهر ربيع الأوّل سنة أربع و ستّين و مائة. و قيل: إنّه ولد بمرو، و حُمل إلى بغداد رضيعاً.
و كان إمام المحدِّثين. صنّف كتابه «المسند» و جمع فيه ما لم يتّفق لأحد.
و نُقل أنّه كان يحفظ ألف ألف حديث، و كان من خواصّ أصحاب الشافعيّ، و لم يزل مصاحبه إلى أن ارتحل الشافعيّ إلى مصر. و قال في حقّه: خرجتُ من بغداد و ما خلفت بها أتقي و لا أفقه من ابن
حنبل. و دُعي إلى القول بخلق القرآن، فلم يُجب. فضُرب و حُبس و هو مُصِرّ على الامتناع. و كان حسن الوجه ربعةً يخضب بالحناء خضاباً ليس بالقاني. في لحيته شعيرات سود.۱ ثمّ قال صاحب «الروضات»:
و ليُعْلَم أنّ أحمد هذا كان من القائلين بقِدَم الكلام النفسيّ، و الملتزمين لتعدّد القدماء من هذه الجهة، كما هو مذهب الأشاعرة من العامّة. و كان ينكر القول بمخلوقيّة القرآن للّه تعالى أشدّ الإنكار، مثل من أنكر القول بحدوث الهيولى النفسانيّة من الفلاسفة الذين لم يعتنوا بمداليل الآية و الأخبار. و قد أجاب عن ذينك الاشتباهين أجلّة أصحابنا المهرة من الاصوليّين بما لا مزيد عليه. و في أحاديثنا المعتبرة أيضاً بنقل الصدوق ابن بابويه القمّيّ رحمه الله في كتابه «التوحيد» و غيره ما يزيدك بصيرةً ببطلان هذا المذهب.
و نُقل أنّ نوبة الخلافة لمّا انتهت إلى المعتصم العبّاسيّ المعاصر لمولانا الجواد التقيّ عليه السلام، و جعل الأمر في الرئاسات الدينيّة إلى الشيخ عبد الرحمن بن إسحاق، و أبي عبد الله أحمد بن داود الإياديّ المتولّي قضاء العراق، و كانا مصرّين على القول بخلق القرآن، فلا جرم دعاه المعتصم إلى القول به، و عقد مجلساً لمناظرة الرجلين، و غيرهما من النبلاء الاصوليّين معه في ذلك، و ذلك في شهر رمضان سنة عشرين و مائتين. فلم يلزم بحجاجهم و لا التزم بقولهم كيفما بوحث عليه. فأمر به المعتصم، فضُرب بسياط حتى غاب عقله، و تقطّع جلده، و حُبس مقيّداً و هو مُصرّ على الامتناع، و بقي في الحبس مدّة طويلة. و كان هو مع
ذلك لم يزل يحضر الجمعة و الجماعة. و يُفتي، و يحدِّث إلى أن مات المعتصم، و ولّى الواثق فأظهر ما ظهر من المحنة. و قال لأحمد: لا تجمع اليك أحداً، و لا تساكن بلداً أنا فيه.
فاختفى الإمام أحمد لا يخرج إلى صلاة، و لا إلى غيرها حتى مات الواثق أيضاً، و ولّى المتوكّل، فأحضره و أكرمه و أطلق له مالًا فلم يقبله، ففرّقه. و أجرى على أهله و ولده في كلّ شهر أربعة آلاف، و لم تزل عليهم جارية إلى أن مات المتوكّل. و في أيّام المتوكّل، ظهرت السُّنّة، و كتب إلى الآفاق برفع المحنة، و إظهار السُّنّة، و بسط أهلها و نصرهم، و تكلّم في مجلسهم بالسُّنّة.
من مشاهير المعتزلة
قال الصفديّ كما نُقل عنه في «الكشكول» بعد ذكر جملة ممّا أوردناه: و لم يزل المعتزلة في قوّة و نماء إلى أيّام المتوكّل، فخمدوا.
و لم يكن في هذه الملّة الإسلاميّة أكثر بدعةً منهم. ثمّ قال: و من مشاهير المعتزلة: الجاحظ، و أبو الهذيل العلّاف، و إبراهيم بن النَّظَّام، و واصل بن عطاء، و أحمد بن حافظ، و بشر بن المعتمر، و معمّر بن عبّاد السلميّ، و أبو موسى بن عيسى المرداد المعروف براهب المعتزلة، و ثمامة بن الأشرس.
و هشام بن عمر، و القُرطبيّ، و أبو الحسن بن أبي عمر، و الخيّاط استاذ الكعبيّ، و أبو عليّ الجبّائيّ استاذ الشيخ أبي الحسن الأشعريّ أوّلًا، و ابنه أبو هاشم عبد السلام، و هؤلاء هم رؤوس مذهب الاعتزال. و غالب الشافعيّة أشاعرة، و الغالب في الحنفيّة معتزلة، و الغالب في المالكيّة قدريّة، و الغالب في الحنابلة حشويّة.
ثمّ قال: و من المعتزلة الصاحب بن عبّاد، و الزمخشريّ، و الفرّاء النحويّ.
و قال صاحب «الروضات»: و أقول: إن مراد الناصبة الملعونة من
قولهم: رفع المحنة، أو البدعة و إظهار السنّة كلّما يستعملونه: رفع قواعد الشيعة الإماميّة، و نصب مناصب النواصب الطاغية البغيّة كما يشهد به استناد ذلك إلى مثل المتوكّل الدعيّ الزنيم.
و قد عرفت ممّا ذكره الصفديّ، و ما سوف تعرفه في تصاعيف ما يأتيك أنّ مذهب أهل الاعتزال أقرب ما يكون من مذاهبهم إلى الإماميّة الحقّة، و أنسبها منهم سيّما في الاصول الاعتقاديّة. و من أجله اشتبه أمر الصاحب بن عبّاد على كثير. وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ.۱
و من المنقول عن ابن عبد البرّ أنّه قال: إن أحمد هذا كان شيبانيّاً من أنفسهم، و سكن بغداد، و كان فقيهاً محدِّثاً، و غلب عليه علم الحديث و العناية و بطرقه، و كان فاضلًا زاهداً مقلًّا ورعاً ديّناً. و في «رياض العلماء» أنّه كان في عصر الإمام محمّد بن عليّ التقيّ عليه السلام.
فليلاحَظ!
و أنت فقد عرفتَ أنّه توفّي في زمان مولانا الهاديّ أبي الحسن النقيّ عليه السلام، و أدرك برهة من دولة المتوكّل الملعون. و في «إرشاد القلوب» للديلميّ أنّ أحمد كان تلميذاً لمولانا الكاظم عليه السلام كما أنّ أبا حنيفة كان من تلامذة الصادق عليه السلام. و عليه فيكون في طبقة مولانا الرضا عليه السلام، و إن أدرك أربعة من أئمّة أهل البيت المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.
إلى أن قال: ثمّ إن من طرائف أخبار الرجل بنقل بعض المصنّفين عن الفاضل الطيّبيّ المشهور، عن جعفر بن محمّد الطيالسيّ أنّه قال: صلّى أحمد بن حنبل، و يحيى بن معين، و قد كان من أخصّ خواصّه في
مسجد الرُّصافة ببغداد، فقام بين أيديهما قاصّ، فقال: حدّثنا أحمد بن حنبل، و يحيى بن معين، قالا: حدّثنا عبد الرزّاق، قال: حدّثنا معمّر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: من قال: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ يخلق من كلّ كلمة منها طائر منقاره من ذهب و ريشه مرجان - و أخذ في قصّة طويلة - فجعل أحمد ينظر إلى يحيى، و يحيى إلى أحمد، فقال: أنت حدّثته بهذا؟! قال: و الله ما سمعت بهذا إلّا هذه الساعة! فسكتا جميعاً حتى فرغ. فقال له يحيى: مَن حدّثك بهذا؟! قال: أحمد بن حنبل و يحيى بن معين. فقال: أنا ابن معين، و هذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قطّ في حديث رسول الله صلّى الله عليه و آله. فإن كان و لا بدّ من الكذب، فعلى غيرنا.
فقال الرجل: لم أزل أسمع أنّ يحيى بن معين أحمق، و ما علمته إلّا هذه الساعة. كأنّه ليس في هذه الدنيا يحيى بن معين و أحمد بن حنبل غير كما! كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا. قال: فوضع أحمد كمّه على وجهه، و قال: دعه يقوم. فقام كالمستهزئ بهما - انتهى.
و واصل صاحب «الروضات» كلامه إلى أن قال: و من جملة ما حكى عنه صاحب «كشف الغمّة» عليه الرحمة و هو يدلّ على تبصّره في الواقع، و حسن اعتقاده بالأئمّة من آل محمّد عليهم السلام هو ما ذكره فيه بهذه العبارة:
لقاء أحمد بأحد مشايخ الشيعة بالكوفة
و نقلتُ عن كتاب «اليواقيت» لأبي عمر الزاهد، قال: أخبرني بعض الثقات عن رجاله، قالوا: دخل أحمد بن حنبل إلى الكوفة، و كان فيها رجل يظهر الإمامة. فسأل الرجل عن أحمد: ما له لا يقصدني؟! فقالوا له: إن أحمد ليس يعتقد ما تظهر! فلا يأتيك إلّا أن تسكت عن إظهار
مقالتك له! قال: فقال: لا بدّ من إظهاري له ديني، و لغيره! و امتنع أحمد من المجيء إليه. فلمّا عزم على الخروج من الكوفة، قالت له الشيعة:
يا أبا عبد الله! أ تخرج من الكوفة و لم تكتب عن هذا الرجل؟! فقال: ما أصنع به! لو سكت عن إعلانه بذلك كتبتُ عنه. فقالوا: ما نحبّ أن يفوتك مثله. فأعطاهم موعداً على أن يتقدّموا إلى الشيخ أن يكتم ما هو فيه.
و جاءوا من فورهم إلى المحدِّث - و ليس أحمد معه - فقالوا: إن أحمد عالم بغداد، فإن خرج و لم يكتب عنك، فلا بدّ أن يسأله أهل بغداد: لِمَ لَم تكتب عن فلان؟! فتُشهّر ببغداد و تُلعن! و قد جئناك نطلب حاجةً. قال: هي مقضيّة! فأخذوا منه موعداً. و جاءوا إلى أحمد و قالوا: و قد كفيناك قم معنا!
فقام، فدخلوا على الشيخ، فرحّب بأحمد و رفع مجلسه، و حدّثه ما سأل فيه أحمد من الحديث. فلمّا فرغ أحمد مسح القلم و تهيّأ للقيام. فقال له الشيخ: يا أبا عبد الله! لي اليك حاجة. قال له أحمد: هي مقضيّة! قال:
ليس احبُّ أن تخرج من عندي حتى اعلّمك مذهبي! فقال له أحمد:
هاته!
فقال له الشيخ: أنّي أعتقد أنّ أمير المؤمنين عليّاً صلوات الله عليه كان خير الناس بعد النبيّ صلّى الله عليه و آله. و أنّي أقول: إنّه كان خيرهم، و إنّه كان أفضلهم، و أعلمهم. و إنّه كان الإمام بعد النبيّ صلّى الله عليه و آله.
قال: فما تمّ كلامه حتى أجابه أحمد، فقال: يا هذا و ما عليك في هذا القول، فقد تقدّمك في هذا أربعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله:
جابر، و أبو ذرّ، و المقداد، و سلمان. فكاد الشيخ يطير فرحاً بقول أحمد.
فلمّا خرجنا شكرنا أحمد و دعونا له.
هذا و من جدير ما ينبغي التنبيه لنا عليه في مثل هذا المقام، و يصلح
حقّ الإشارة إليه لجدوى المستفيدين و تبصير العوامّ هو أنّه إنّما صارت تدور رحى غير الحقّ، و عين الضلال المطلق، و الباطل المحقّق على أعناق الأئمّة الأربعة الذين هذا الإمام رابعهم، و سائر القوم تابعهم في زمن دولة السلطان ظاهر بيبرس من كبار ملوك قاهرة مصر المحروسة حين عيّن فيها أربعة قضاة يقضون بين الناس، و يفتون لهم بالحنفيّة و المالكيّة و الشافعيّة و الحنبليّة على سبيل التوزيع. و منع عن كلّ ما دون ذلك بمنع بالغ فضيع بحيث قد اخذت له البيعة من كلّ فريق، و شدّدت عليه العقد و المواثيق، و نوديت إليه الخلائق من كلّ فجّ عميق، و ذلك في حدود سنة ثلاث و ستّين و ستمائة.
ثمّ تصرّفت كلّ طائفة منهم في ركن من أركان بيت الله الحرام يقيمون الجماعة في أتباعهم بحذاء ذلك المقام إلى زماننا هذا - بل إلى ساعة يوم القيامة - و أخذت تتزايد آثار تلك البدعة العظمى، و تتراكم اللوازم الكابرة من تبعات فتنتها الشديدة الكبرى. و بلغ الأمر في الحميّة على ذلك إلى حيث لم يتقبّلوا منذ اهتمّ و أصرّ بعض سلاطين الشيعة الإماميّة أن يكون للفرقة الجعفريّة أيضاً هنالك مقام خامس، بل جعل نادر شاه في مقابلة قبولهم إيّاه رفع اللعن و السبّ الشائعين في الشيعة. فلم يتقبّله ملوكهم و لا غيّرت الإماميّة أيضاً سلوكهم.
و قد كانت السنيّة القاسطة من قبل استقرار هذا القرار فيهم يتّبعون خطوات المعيّنين من قبل الرشيدَين الملعونَين (هارون و المأمون) لإقامة الفتاوى، و الأحكام كالقاضي أبي يوسف، و يحيى بن أكثم الشاميّ، و سائر من كان على طريقة الأئمّة الأربعة أو غيرهم من المجتهدين، إلّا أنّ في دولة الأيّوبيّة لم يكن بمصر المحروسة كثير ذكر لغير الشافعيّ المصريّ المطّلبيّ، و مالك بن أنس المدنيّ، كما استفيد من التواريخ.
كيفيّة تقليد العامّة قبل الرشيدَين و بعدهما
و أمّا من قبل الرشيدَين، فكان الناس يقلّدون أمثال الزهريّ، و الثوريّ، و مَعْمَر بن راشد الكوفيّ من الذين ترحّلوا إلى الآفاق في طلب الفقه، و الحديث، و اخترعوا أساس تقييدهما بالكتب و التصانيف. ثمّ من قبلهم كانوا يتّبعون فقهاء الأمصار كابن أبي عليّ الكوفيّ، و ابن جُرَيْح، و الأوزاعيّ الشاميّ، و أمثالهم التابعين للتابعين للأصحاب.
و عن بعض كتب تواريخ العامّة أنّ عامّة أهل الكوفة كان عملهم في عصر مولانا الصادق عليه السلام على فتاوى أبي حنيفة، و سفيان الثوريّ، و رجل آخر، و أهل مكّة على فتاوى ابن جُرَيح، و أهل المدينة على فتاوى مالك و رجل آخر، و أهل البصرة على فتاوى عثمان و سَوادَة، و غيرهما، و أهل الشام على الأوزاعيّ، و الوليد، و أهل مصر على ليث بن سعيد، و أهل خراسان على عبد الله بن المبارك، و كان فيهم من أهل الفتوى غير هؤلاء. إلى أن استقرّ رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة في سنة خمس و ستّين و ثلاثمائة.
إلى أن قال صاحب «الروضات»: ثمّ إن في كتاب «وفيّات الأعيان» في أواخر ترجمة ابن حنبل: أنّ له أيضاً ولدين عالِمَين، و هما صالح، و عبد الله. فأمّا صالح فتقدّمت وفاته، و أمّا عبد الله فإنّه بقي إلى سنة تسعين و مائتين. و به كان يكنّى الإمام أحمد - انتهى.
قلتُ: و كنية عبد الله هذا أبو عبد الرحمن، و له كتاب «المسند» عن أبيه و غيره. و كثر عنه النقل في «العمدة» لابن البطريق الحلّيّ، و غيره.
و في بعض المواضع أنّ صالحاً تولّى القضاء بأصفهان إلى أن توفّي فيها.
أحمد بن حنبل يجيز لعن يزيد و يسبّب لعن بعض الصحابة
ثمّ لِيُعلم أنّ من جملة ما ينبّئك عن قلّة تعصب هذا الصالح بن الطالح، و والده المذكور أيضاً حكاية يرويها صاحب «الصواعق المحرقة». و هو في أقصى المراتب من النصب و العداوة لأهل البيت عليهم السلام بعد
ترجيحه القول بعدم كفر يزيد الملعون، و استحقاقه اللعنة تمسّكاً بأنّ الأصل أنّه مسلم، فنأخذ بذلك الأصل حتى يثبت عندنا ما يوجب الإخراج عنه، و لم تعلم موته على الكفر و إن كان كافراً في الحالة الظاهرة لاحتمال أن يختم له بالحُسنى فيموت على الإسلام، و بأنّهم صرّحوا بأنّه لا يجوز لعن فاسق مسلم معلن، و هذا منهم. و لو سلّمنا أنّه أمر بقتل الحسين و اسرته، فذلك حيث لم يكن عن استحلال أو كان عنه لكن بتأويل، و لو باطلًا فسق لا كفر.
فَضَّ اللهُ فاه فيما تجرّأ على دين الله في إظهاره، و لم يستحيي من وجه رسول الله صلّى الله عليه و آله في تحقير منزلته و مقداره. و هي أنّه قال: بَعْدَ اللَّتَيَّا وَ التي. ثمّ روى ابن الجوزيّ عن القاضي أبي يعلى الفرّاء أنّه روى في كتابه «المعتمد في الاصول» بإسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل. قال: قلتُ لأبي: إن قوماً ينسبوننا إلى تولّي يزيد.
فقال: يا بني! و هل يتولّى يزيدَ أحدٌ يؤمن باللهِ؟! و لِمَ لا تلعن من لعنه الله في كتابه؟!
فقلتُ: و أين لعن يزيد في كتابه؟!
فقال: في قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ.۱ فهل يكون فساد أعظم من القتل؟!
و في رواية: يا بني! ما أقول في رجل لعنه الله في كتابه. قال: ثمّ ذكر حديث مَن أخَافَ أهْلَ المَدِينَةِ أخَافَهُ اللهُ، وَ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ المَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ. و لا خلاف أنّ يزيد غزا المدينة بجيش و أخاف أهلها -
انتهى كلام ابن حجر صاحب «الصواعق المحرقة».
و الحديث الذي ذكره رواه مسلم. و وقع من ذلك الجيش من القتل و الفساد العظيم، و السبي و إباحة المدينة ما هو مشهور حتى افتضَّ نحو ثلاثمائة بكر، و قُتل من الصحابة نحو ذلك، و من قرأ القرآن نحو سبعمائة نفس، و ابيحت المدينة أيّاماً. و بطلت الجماعة من المسجد النبويّ أيّاماً، فلم يتمكّن أحد دخول مسجدها، حتى دخله الكلاب و الذئاب، و بالت على منبره صلّى الله عليه و آله - تصديقاً لما أخبر به - و لم يرض أمير ذلك الجيش إلّا بأن يبايعوه ليزيد على أنّهم خَوَلٌ له إن شاء باع، و إن شاء أعتق.
فذكر له بعضهم البيعة على كتاب الله و سنّة رسوله، فضرب عنقه. و ذلك في وقعة الحرَّة السابقة.
و من جملة ما جرّتنا مناسبة الكلام إلى ذكره في مثل هذا المقام هو ما نقله السيّد الجزائريّ في كتابه «المقامات» عن ابن أبي الحديد المعتزليّ البغداديّ في شرحه على «النهج»، عن يحيى بن سعيد الثقة، قال: حضرتُ عند إسماعيل بن عليّ الحنبليّ فقيه الحنابلة و مقدَّمهم ببغداد، إذ دخل عليه رجل حنبليّ كان في الكوفة، فقال: يا سيّدي! شاهدتُ يوم زيارة الغدير عند قبر علي بن أبي طالب عليه السلام، و رأيتُ فيه من الفضائح و سبّ الصحابة جهاراً بأصوات مرتفعة.
فقال إسماعيل: أيّ ذَنْبٍ لَهُمْ؟! فَوَ اللهِ مَا جَرَّأهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَ لَا فَتَحَ لَهُمْ ذَلِكَ البَابَ إلَّا صَاحِبُ ذَلِكَ القَبْرِ.
فقال: يَا سَيِّدي! فَإنْ كَانَ مُحِقّاً فَمَا لَنَا نَتَولَّى فُلَاناً وَ فُلَاناً؟! وَ إن كَانَ مُبْطِلًا فَمَا لَنَا نَتَوَلَّاهُ؟! ينبغي أنْ نَبْرَأ إمَّا مِنْهُ أوْ مِنْهُمَا!
قال يحيى بن سعيد: فقام إسماعيل مسرعاً و لبس نعله، و قال:
لَعَنَ اللهُ الفَاعِلَ بْنَ الفَاعِلَةِ - يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ الخَبِيثَةَ - إن كَانَ يَعْرِفُ جَوَابَ هَذِهِ المَسْألَةِ!
و دخل دار حرمه.
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.۱
شعر الزمخشريّ في كتمان مذهبه
و محصّلة الكلام أنّ هذه المذاهب الأربعة التي أبنَّا موجزاً عنها - مضافاً إلى اشتراكها في الاعتقاد بخلافة الخلفاء الغاصبين - تختلف فيما بينها في اصول المعارف و الفروع الفقهيّة. و في كلٍّ منها انحراف كبير حسب الاصول العقلائيّة و الموازين الحكميّة و التأريخ الدقيق، و لا يتسنّى لنا أن نتمسّك بها و نتّخذها حُجزَةَ الثقة و العمل و الصراط المستقيم نحو الله تعالى، حتى أنّ الشيخ محمود جار الله الزمخشريّ الذي كان من فرائد دهره و نوادر عصره في الأدب - مع أنّه كان عامّيّ المذهب، و لم يخرج من هذه الاصول في عقائده و لا من هذه الفروع في عمله-٢، قال:
كَثُرَ الشَّكُّ وَ الخِلافُ فَكُلٌ | *** | يَدَّعِي الفَوْزَ بِالصِّراطِ السَّوِيّ |
فَاعْتِصَامِي بِلَا إلَهٍ سِوَاهُ | *** | ثُمَّ حُبِّي لأحْمَدٍ وَ عَلِيّ |
فَازَ كَلْبٌ بِحُبِّ أصْحَابِ كَهْفٍ | *** | كَيْفَ أشْقَى بِحُبِّ آلِ نَبِيِ |
إ ذَا سَألُوا عَنْ مَذْهَبِي لَمْ أبُحْ بِهِ | *** | وَ أكْتُمُهُ، كِتْمَانُهُ لي أسْلَمُ |
فَإنْ حَنَفِيّاً قُلْتُ قَالُوا بِأنَّنِي | *** | أُبِيحُ الطِّلَا۱ وَ هُوَ الشَّرَابُ المُحَرَّمُ |
وَ إن مَالِكِيّاً قُلْتُ قَالُوا بِأنَّنِي | *** | أُبِيحُ لَهُمْ أكْلَ الكِلَابِ وَ هُمْ هُمُ |
وَ إن شَافِعِيّاً قُلْتُ قَالُوا بِأنَّنِي | *** | أُبِيحُ نِكَاحَ البِنتِ وَ البِنْتُ تَحْرُمُ |
وَ إن حَنْبَلِيّاً قُلْتُ قَالُوا بِأنَّنِي | *** | ثَقِيلٌ حُلُولِيّ بَغِيضٌ مُجَسِّمُ |
وَ إن قُلْتُ مِنْ أهْلِ الحَدِيثِ وَ حِزْبِهِ | *** | يَقُولُون: تَيْسٌ لَيْسَ يَدْرِي وَ يَفْهَمُ |
تَعَجَّبْتُ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ وَ أهْلِهِ | *** | فَمَا أحَدٌ مِنْ ألْسُنِ النَّاسِ يَسْلَمُ |
وَ أخَّرَنِي دَهْرِي وَ قَدَّمَ مَعْشَراً | *** | عَلَى أنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَ أعْلَمُ |
وَ مُذْ أفْلَحَ الجُهَّالُ أيْقَنْتُ أنَّنِي | *** | أنَا المِيمُ وَ الأيَّامُ أفْلَحُ أعْلَمُ۱ |
(يقصد الزمخشريّ أنّه كحرف الميم و هو من الحروف المطبقة التي ينغلق الفم عند تلفّظها، و علومه في باطنه، أمّا غيره فشفاههم مشقوقة، و هم يثرثرون و ينسجون كلاماً من شفتيهم المشقوقتين).
العواقب السيّئة لغلق باب الاجتهاد و القول بعدالة الصحابة
و يبدو من الضروريّ هنا أن يكون لنا حديث عن سبب تميّز فقه الشيعة عن فقه العامّة، و عصر انفصاله، و سبب خمود الاجتهاد عند العامّة، و غلق طريق الفكر أمام جميع الناس بانسداد باب الاجتهاد و حصر المذاهب في أربعة. و حديث عن عدالة الصحابة الذين يُعتبرون أكبر سند داعم لفقه العامّة و عقائدهم، و يعدّون الدعامة الوحيدة التي يتوكّأون عليها في الاصول و الفروع. و بانهيار هذه الأبنية الواهية المشيَّدة على ساحل البحر بلا أساس رصين، نبرهن كالشمس الساطعة على مدى ضعف الأساس الذي يقوم عليه مذهب العامّة، و ندلّ على أنّه أقام هذه الخيمة الواهية على قاعدة خاوية بلا اتّكاء على أصل ثابت و أساس رصين و بنيان متين، و أنّه أثار ضجيجاً و جلبة في العالم، و حرم أصحابه و متابعيه من شرب الماء المعين من عين صافية لماء الحقيقة.
قال العلّامة الحلّيّ في كتاب «منهاج الكرامة» بعد ترجمة مفصّلة للأئمّة الاثني عشر المعصومين عليهم السلام: فهؤلاء الأئمّة الفضلاء المعصومون عليهم السلام، الذين بلغوا الغاية في الكمال، و لم يتّخذوا ما اتّخذ غيرهم من الأئمّة المشتغلين بالملك و أنواع المعاصي و الملاهي، و شرب الخمور و الفجور، حتى فعلوا بأقاربهم على ما هو المتواتر بين الناس. قالت الإماميّة: فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ هَؤلاءِ وَ هُوَ خَيْرُ الحَاكِمينَ.۱ و ما أحسن قول بعض الناس:
إ ذَا شِئْتَ أنْ تَرْضَى لِنَفْسِكَ مَذْهَباً | *** | وَ تَعْلَمَ أنَّ النَّاسَ في نَقْلِ أخْبَارِ |
فَدَعْ عَنْكَ قَوْلَ الشَّافِعِيّ وَ مَالِكٍ | *** | وَ أحْمَدَ وَ المَرْوِيّ عَنْ كَعْبِ أحْبَارِ |
وَ وَالِ انَاساً قَوْلُهُمْ وَ حَدِيثُهُمْ | *** | رَوَى جَدُّنَا عَنْ جَبْرِئِيلَ عَنِ البَارِي |
و ما أظنّ أحداً من المحصّلين وقف عليه هذه المذاهب فاختار غير مذهب الإماميّة باطناً، و إن كان في الظاهر يصير إلى غيره طلباً للدنيا، حيث وضعت لهم المدارس و الربط و الأوقاف حتى تستمرّ لبني العبّاس الدعوة، و يُشيد للعامّة اعتقادُ إمامتهم.
و كثيراً ما رأينا من يتديّن في الباطن بمذهب الإماميّة، و يمنعه عن إظهاره حبّ الدنيا و طلب الرئاسة. و قد رأيتُ بعض أئمّة الحنابلة يقول:
إنّي على مذهب الإماميّة، فقلتُ: فلم تدرّس على مذهب الحنابلة؟ فقال:
ليس في مذهبكم البغلات و المشاهرات. و كان أكبر مدرّسي
الشافعيّة في زماننا، حيث توفّي أوصى بأن يتولّى أمره في غسله و تجهيزه بعض المؤمنين، و أن يدفن في مشهد الكاظم عليه السلام، و أشهد عليه أنّه على دين الإماميّة.۱
الإماميّة يعتقدون بالعدل الإلهيّ و عصمة الانبياء
و قال العلّامة أيضاً في الفصل الأوّل من الكتاب: في نقل المذاهب:
ذهبت الإماميّة إلى أنّ الله تعالى عدل حكيم لا يفعل قبيحاً و لا يُخلّ بواجبٍ، و أنّ أفعاله إنّما تقع لغرض صحيح و حكمة، و أنّه لا يفعل الظلم و لا العبث، و أنّه رؤوف بالعباد يفعل بهم ما هو الأصلح لهم و الأنفع. و أنّه تعالى كلّفهم تخييراً لا إجباراً، و وعدهم الثواب و توعّدهم بالعقاب على لسان أنبيائه و رسله المعصومين، بحيث لا يجوز عليهم الخطأ و لا النيسان و لا المعاصي، و إلّا لم يبق وثوق بأقوالهم و أفعالهم فتنتفي فائدة البعثة. ثمّ أردف الرسالة بعد موت الرسول بالإمامة، فنصب أولياء معصومين ليأمن الناس من غلطهم و سهوهم و خطأهم فينقادون إلى أوامرهم، لئلّا يُخلي الله تعالي العالم من لطفه و رحمته. و أنّه لمّا بعث رسوله محمّداً صلّى
الله عليه و آله قام بنقل الرسالة، و نصّ على أنّ الخليفة بعده علي بن أبي طالب عليهما السلام، ثمّ من بعده على ولده الحسن الزكيّ، ثمّ على الحسين الشهيد أخيه، ثمّ على عليّ بن الحسين زين العابدين، ثمّ على محمّد بن عليّ الباقر، ثمّ على جعفر بن محمّد الصادق، ثمّ على موسى بن جعفر الكاظم، ثمّ على عليّ بن موسى الرضا، ثمّ على محمّد بن عليّ الجواد، ثمّ على عليّ بن محمّد الهاديّ، ثمّ على الحسن بن عليّ العسكريّ، ثمّ على الخلف الحجّة محمّد بن الحسن عليهم أفضل الصلوات؛ و أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله لم يمت إلّا عن وصيّة بالإمامة.
و ذهب أهل السنّة إلى خلاف ذلك كلّه:
فلم يثبتوا العدل و الحكمة في أفعاله، و جوّزوا عليه فعل القبيح و الإخلال بالواجب، و أنّه لا يفعل لغرضٍ بل كلّ أفعاله لا لغرض من الأغراض و لا لحكمة البتة. و أنّه يفعل الظلم و العبث، و أنّه لا يفعل ما هو الأصلح للعباد بل ما هو الفساد في الحقيقة، لأنّ فعل المعاصي و أنواع الكفر و الظلم و جميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مسندة إلى الله - تعالى عَنْ ذَلِكَ.
و أنّ المطيع لا يستحقّ ثواباً و العاصي لا يستحقّ عقاباً، بل قد يُعذَّب المطيع طول عمره المبالغ في امتثال أوامره تعالى كالنبيّ صلّى الله عليه و آله، و يثيب العاصي طول عمره بأنواع المعاصي و أبلغها كإبليس و فرعون؛ و أنّ الأنبياء على نبيّنا و آله و عليهم السلام غير معصومين، بل قد يقع منهم الخطأ و الزلل و الفسوق و الكذب و السهو، و غير ذلك؛ و أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله لم ينصّ على إمام بينهم، و أنّه مات بغير وصيّة؛ و أنّ الإمام بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله أبو بكر بن أبي قحافة لمبايعة عمر بن الخطّاب له برضا أربعة: أبي عُبيدة، و سالم مولى [أبي] حُذيفة،
و اسيد بن حضير، و بشير بن سعد. ثمّ من بعده عمر بن الخطّاب بنصّ أبي بكر عليه، ثمّ عثمان بن عفّان بنصّ عمر على ستّة۱ هو أحدهم فاختاره بعضهم، ثمّ علي بن أبي طالب عليه السلام لمبايعة الخلق له. ثمّ اختلفوا.
فقال بعضهم: إن الإمام بعده ابنه الحسن عليه السلام، و بعضهم قال: إنّه معاوية بن أبي سفيان. ثمّ ساقوا الإمامة في بني اميّة حتى ظهر السفّاح من بني العبّاس، فساقوا الإمامة إليه. ثمّ انتقلت الإمامة منه إلى أخيه المنصور.
ثمّ ساقوا الإمامة في بني العبّاس إلى المستعصم.٢
كان العلّامة الحلّيّ كالشيخ المفيد حقّاً، فهو من أركان الامّة و رعاتها المدافعين عنها. و يعدّ في الدرجة الاولى بين المتكلّمين و الباحثين في مذهبنا على أساس التعقّل و البرهان. صنّف كتابه «منهاج الكرامة» بطلبٍ من الجايتو (السلطان محمّد خدا بنده) الذي كان حنفيّاً، ثمّ اختار المذهب الشيعيّ بفضل مجلس العلّامة و برهانه. و انتشر هذا الكتاب بعد ذلك المجلس. و الحقّ أنّه كتاب نفيس، و حريّ بالطّلاب المبتدئين أن يدرسوه عند استاذ ضمن دروسهم الكلاميّة.
و صنّف ابن تيميّة الحنبليّ الذي كان من النواصب المعاندين للشيعة، و كان معاصراً للعلّامة، كتاباً عنوانه «منهاج السُّنّة»، ردّاً على العلّامة و اعتراضاً عليه، و كان في جوابه بذيئاً، و لم يرعو عن كلّ قذف و تهمة في غير سدد.
و لمّا كان كتاب «منهاج الكرامة» موجزاً جدّاً، و كان مشتملًا على اصول
معتقدات الشيعة فحسب، لذا صنّف العلّامة بعده كتاباً آخر أكثر تفصيلًا سمّاه: «نهج الحقّ و كشف الصدق» يضمّ من ذخائر النفائس و اللآلئ الثمينة و الدرر الباهرة ما يجعله - برأيي - منهلًا يحتاج إليه الأعلام أيضاً ليرتشفوا منه.
و نتحدّث فيما يأتي عن بعض موارد الخلاف بين الشيعة و العامّة، التي تُعدّ من اصول الاعتقادات و المعارف الدينيّة. قال العلّامة في بحث حول الباري تعالى أنّه لا يُرى:
الاشاعرة يعتقدون بجسمانيّة الله في رؤيته
البحث السابع: في أنّه تعالى يستحيل رؤيته.
و خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء في هذه المسألة، حيث حكموا بأنّ الله تعالى يُرى للبشر. أمّا الفلاسفة، و المعتزلة، و الإماميّة فإنكارهم لرؤيته ظاهر لا يُشكّ فيه. و أمّا المشبِّهة، و المجسِّمة فإنّهم إنّما جوّزوا رؤيته تعالى، لأنّه عندهم جسم، و هو مقابل للرائي. فلهذا خالفت الأشاعرة باقي العقلاء، و خالفوا الضرورة أيضاً.۱ فإنّ الضرورة قاضية بأن ما ليس
بجسم، و لا حالٌّ في الجسم، و لا في جهة، و لا مكان، و لا حيّز، و لا يكون مقابلًا، و لا في حكم المقابل، فإنّه لا يمكن رؤيته. و مَن كابر في ذلك فقد أنكر الحكم الضروريّ، و كان في ارتكاب هذه المقابلة سوفسطائيّاً.
و خالفوا أيضاً آيات الكتاب العزيز الدالّة على امتناع رؤيته تعالى.
قال عزّ من قائل: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ.۱ تمدّح بذلك، لأنّه ذكره بين مدحين، فيكون مدحاً، لقُبح إدخال ما لا يتعلّق بالمدح بين مدحين، فإنّه لا يحسن أن يقال: فلان عالم فاضل، يأكل الخبز، زاهد ورع. و إذا مُدح بنفي الإبصار له، كان ثبوته له نقصاً، و النقص عليه تعالى مُحال.٢
قال العلّامة في تقي الجسميّة عن الله تعالى:
البحث الثالث: في أنّه تعالى ليس بجسم.
أطبق العقلاء على ذلك إلّا أهل الظاهر، كداود، و الحنابلة كافّة، فإنّهم قالوا: إنّه تعالى جسم يجلس على العرش، و يفضل عنه من كلّ جانب ستّة أشبار بشبره. و إنّه ينزل في كلّ ليلة جمعة على حمار، و ينادي إلى الصباح:
هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟٣ و حملوا آيات التشبيه على
ظواهرها.۱ و السبب في ذلك قلّة تمييزهم و عدم تفطّنهم بالمناقضة التي تلزم، و إنكار الضروريّات التي تُبطل مقالتهم. فإنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّ جسم لا ينفكّ عن الحركة و السكون، و قد ثبت في علم الكلام: أنّهما حادثان.
و الضرورة قاضية أنّ ما لا ينفكّ عن المحدث فإنّه يكون محدثاً، فيلزم حدوث الله تعالى.
و الضرورة الثانية قاضية بأنّ كلّ محدَث مفتقر إلى محدِث، فيكون
فإن حنبليّاً قلتُ قالوا بأنّني | *** | ثقيل حُلوليّ بغيضٌ مجسِّمُ |
واجب الوجود مفتقراً إلى مؤثِّر، و يكون ممكناً، فلا يكون واجباً، و قد فُرض أنّه واجب، هذا خُلف.
و قد تمادى أكثرهم، فقال: إنّه تعالى يجوز عليه المصافحة، و إن المخلصين يعانقونه في الدنيا.۱
و قال داود:٢ اعْفُونِي عَنِ الفَرْجِ وَ اللِّحْيَةِ وَ اسْألُونِي عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ.
و قال: إن معبوده جسم ذو لحم، و دم، و جوارح، و أعضاء، و إنّه بكى على طوفان نوح، حتى رمدت عيناه، و عادَتْه الملائكة لمّا اشتكت عيناه!
فلينصف العاقل المقلّد من نفسه، هل يجوز له تقليد هؤلاء في شيء؟! و هل للعقل مجال في تصديقهم في هذه المقالات الكاذبة و الاعتقادات الفاسدة؟ و هل تثق النفس بإصابة هؤلاء في شيء البتّة؟
إنّه تعالى ليس في جهة
البحث الرابع: في أنّه تعالى ليس في جهة.
العقلاء كافّة على ذلك، خلافاً للكَرّاميّة٣ حيث قالوا: إنّه تعالى في
جهة فوق. و لم يعلموا أنّ الضرورة قضت بأنّ كلّ ما هو في جهة، فإمّا أن يكون لابثاً فيها، أو متحرّكاً عنها. فهو إذن لا ينفكّ عن الحوادث، و كلّ ما لا ينفكّ عن الحوادث، فهو حادث على ما تقدّم.۱
رأي الشيعة و أهل السنّة في العدل
نقل الخلاف في مسائل العدل
المبحث الحادي عشر: في العدل. و فيه مطالب:
الأوّل: في نقل الخلاف في مسائل هذا الباب.
اعلم أنّ هذا أصل عظيم نبتني عليه القواعد الإسلاميّة، بل الأحكام الدينيّة مطلقاً و بدونه لا يتمّ شيء من الأديان، و لا يمكن أن يُعلَم صدق نبيّ من الأنبياء على الإطلاق، على ما نقرّره فيما بعد إن شاء الله. و بئس ما اختار الإنسان لنفسه مذهباً، خرج به عن جميع الأديان. و لم يمكنه أن يعبد الله تعالى بشرع من الشرائع السابقة و اللاحقة. و لا يجزم به على نجاة نبيّ مرسَل، أو مَلَك مقرَّب، أو مطيع في جميع أفعاله من أولياء الله تعالى و خلصائه، و لا على عذاب أحد من الكفّار و المشركين، و أنواع الفسّاق و العاصين. فلينظر العاقل المقلِّد هل يجوز له أن يلقي الله تعالى بمثل هذه العقائد الفاسدة، و الآراء الباطلة، المستندة إلى اتّباع الشهوة، و الانقياد إلى المطامع؟!
***
قال الإماميّة، و متابعوهم من المعتزلة: إن الحُسن و القبح عقليّان
مستندان إلى صفات قائمة بالأفعال، أو وجوه و اعتبارات يقع عليها.
و قالت الأشاعرة: إن العقل لا يحكم بحُسن شيء البتّة و لا بقبحه، بل كلّ ما يقع في الوجود من أنواع الشرور كالظلم، و العدوان، و القتل. و الشرك، و الإلحاد، و سبّ الله تعالى، و سبّ ملائكته و أنبيائه و أوليائه، فإنّه حُسن.۱
***
و قالت الإماميّة و متابعوهم من المعتزلة: إن جميع أفعال الله تعالى حكمة و صواب، ليس فيها ظلم، و لا جور، و لا كذب و لا عبث، و لا فاحشة، و الفواحش، و القبائح، و الكذب، و الجهل من أفعال العباد، و الله تعالى منزّه عنها، و بريء منها.
و قالت الأشاعرة: ليس جميع أفعال الله تعالى حكمة و صواباً، لأنّ الفواحش و القبائح كلّها صادرة عنه تعالى، لأنّه لا مؤثِّر غيره.٢
***
و قالت الإماميّة: نحن نرضى بقضاء الله تعالى: حُلوِه و مُرِّه، لأنّه لا يقضي إلّا بالحقّ.
و قالت الأشاعرة: لا نرضى بقضاء الله كلّه، لأنّه قضى الكفر،
و الفواحش، و المعاصي، و الظلم، و جميع أنواع الفساد.۱
***
و قالت الإماميّة و المعتزلة: لا يجوز أن يعاقب الله الناس على فعله، و لا يلومهم على صنعه، وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.٢
و قالت الأشاعرة: لا يعاقب الله الناس إلّا على ما لم يفعلوه، و لا يلومهم إلّا على ما لم يصنعوه، و إنّما يعاقبهم على فعله فيهم، و سبّه و شتمه، ثمّ يلومهم عليه، و يعاقبهم لأجله، و يخلق فيهم الإعراض، ثمّ يقول: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ.٣ و يمنعهم من الفعل، و يقول: مَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا.٤
***
و قالت الإماميّة: إن الله تعالى لم يفعل شيئاً عبثاً، بل إنّما يفعل لغرض و مصلحة. و إنّه إنّما يُمرض لمصالح العباد، و يعوِّض المؤلم بالثواب، بحيث ينفي العبث و الظلم.
و قالت الأشاعرة: لا يجوز أن يفعل الله شيئاً لغرض من الأغراض، و لا لمصلحة، و يؤلم العبد بغير مصلحة و لا غرض، بل يجوز أن يخلق خلقاً
في النار مخلّدين فيها، من غير أن يكونوا قد عصوا أو لا.۱
***
و قالت الإماميّة: لا يحسن في حكمة الله تعالى أن يظهر المعجزات على يد الكذّابين، و لا يصدّق المبطلين، و لا يرسل السفهاء، و الفسّاق، و العُصاة.
و قالت الأشاعرة: يحسن كلّ ذلك.٢
***
و قالت الإماميّة: إن الله سبحانه لم يكلّف أحداً فوق طاقته.
و قالت الأشاعرة: لم يكلّف الله أحداً إلّا فوق طاقته، و ما لا يتمكّن من تركه و فعله، و لا مهم على ترك ما لم يعطهم القدرة على فعله. و جوّزوا أن يكلّف الله مقطوع اليد الكتابة، و من لا مال له الزكاة، و من لا يقدر على المشي للزمانة (العاهة، عدم بعض الأعضاء، تعطيل القوى): الطيران إلى السماء، و أن يكلّف العاطل الزَّمِن المفلوج خلق الأجسام، و أن يجعل القديم مُحدَثاً، و المحدَث قديماً. و جوّزوا أن يرسل رسولًا إلى عباده بالمعجزات، ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود أبيض دفعة واحدة، و يأمرهم بالكتابة الحسنة، و لا يخلق لهم الأيدي و الآلات، و أن يكتبوا في الهواء بغير دواة و لا مداد، و لا قلم، و لا يد ما يقرؤه كلّ أحد.٣
و قالت الإماميّة: ربّنا أعدل و أحكم من ذلك.
***
و قالت الإماميّة: ما أضلّ الله تعالى أحداً من عباده عن الدين، و لم يرسل رسولًا إلّا بالحكمة و الموعظة الحسنة.
و قالت الأشاعرة: قد أضلّ الله كثيراً من عباده عن الدين، و لبّس عليهم و أغواهم. و أنّه يجوز أن يرسل رسولًا إلى قومٍ لا يأمرهم إلّا بسبّه، و مدح إبليس. فيكون من سبّ الله تعالى، و مدح الشيطان، و اعتقد التثليث و الإلحاد، و أنواع الشرك مستحقّاً للثواب و التعظيم. و يكون من مدح الله تعالى طول عمره، و عبده بمقتضى أوامره، و ذمّ إبليس دائماً، في العقاب المخلّد، و اللعن المؤبَّد. و جوّزوا أن يكون فيمن سلف من الأنبياء، ممّن لم يبلغنا خبره، من لم يكن شريعته إلّا هذا.۱
***
و قالت الإماميّة: قد أراد الله تعالى الطاعات، و أحبّها، و رضيها، و اختارها، و لم يكرهها، و لم يسخطها، و أنّه كره المعاصي، و الفواحش، و لم يحبّها، و لم رضيَها، و لا اختارها.
و قالت الأشاعرة: قد أراد الله من الكافر أن يسبّه و يعصيه، و اختار ذلك، و كَرِه أن يمدحه. قال بعضهم: أحبّ وجود الفساد، و رضي بوجود
الكفر.۱
***
و قالت الإماميّة: قد أراد النبيّ صلّى الله عليه و آله من الطاعات ما أراد الله عزّ و جلّ، و كره من المعاصي ما كرهه الله عزّ و جلّ.
و قالت الأشاعرة: بل أراد النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم كثيراً ممّا كرهه الله عزّ و جلّ، و كره كثيراً ممّا أراد الله.٢
***
قالت الإماميّة: قد أراد الله تعالى من الطاعات ما أراده أنبياؤه، و كره ما كرهوه، و أراد ما كره الشياطين من الطاعات، و لم يُرد ما أرادوه من الفواحش.
و قالت الأشاعرة: بل قد أراد الله سبحانه ما أرادته الشياطين من الفواحش، و كره ما كرهوه من كثير من الطاعات، و لم يُرِد ما أرادته الأنبياء من كثير من الطاعات، بل كره ما أرادته منها.٣
***
و قالت الإماميّة: قد أمر الله عزّ و جلّ بما أراده و نهى عمّا كرهه.
و قالت الأشاعرة: قد أمر الله عزّ و جلّ بكثير ممّا كرهه، و نهى عمّا أراد.۱
فهذه خلاصة أقاويل الفريقين في عدل الله تعالى.
***
و قول الإماميّة في التوحيد يضاهي قولهم في العدل، فإنّهم يقولون: إن الله عزّ و جلّ واحد لا قديم سواه، و لا إله غيره، و لا يُشبه الأشياء، و لا يجوز عليه ما يصحّ عليها من التحرّك، و السكون. و أنّه لم يزل و لا يزال حيّاً، قادراً، عالماً، مدركاً، لا يحتاج إلى أشياء يعلم بها، و يقدّر و يُحيي، و أنّه خلق الخلق، أمرهم، و نهاهم، و لم يكن آمراً و ناهياً قبل خلقه لهم.
و قالت المُشَبِّهَة: إنّه يشبه خلقه، و وصفوه بالأعضاء، و الجوارح، و أنّه لم يزل آمراً و ناهياً، و لا يزال قبل خلق خلقه، و لا يستفيد بذلك شيئاً، و لا يفيد غيره. و لا يزال آمراً و ناهياً ما بعد خراب العالم، و بعد الحشر و النشر، دائماً بدوام ذاته تعالى.٢
و هذه المقالة في الأمر و النهي و دوامها مقالة الأشعريّة أيضاً.
و قالت الأشاعرة أيضاً: إنّه تعالى قادر، عالم، حيّ، إلى غير ذلك من الصفات، بذوات قديمة، ليست هي الله تعالى، و لا غيره، و لا بعضه - و لولاها لم يكن قادراً، عالماً، حيّاً۱ تعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبيراً.
***
كلام الشيعة و أهل السنّة في عصمة الانبياء
و قالت الإماميّة: إن أنبياء الله و أئمّته منزّهون عن المعاصي، و عمّا يُستخفّ و ينفِّر. و دانوا بتعظيم أهل البيت الذين أمر الله تعالى بمودّتهم، و جعلها أجر الرسالة، فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى.٢
و قال أهل السُّنّة:٣ إنّه يجوز عليهم الصغائر.
و جوّزت الأشاعرة عليهم الكبائر.
ترجيح أحد المذهبَين
فلينظر العاقل في المقالتَين، و يلمح المذهبَين، و يُنصف في الترجيح، و يعتمد على الدليل الواضح الصحيح،٤ و يترك تقليد الآباء،
و المشايخ الآخذين بالأهواء،۱ و غرّتهم الحياة الدنيا.٢ بل ينصح نفسه، و لا يعوّل على غيره،٣ و لا يُقبَل عذره غداً في القيامة: أنّي قلّدتُ شيخي الفلانيّ،٤ أو وجدتُ آبائي و أجدادي على هذه المقالة.٥ فإنّه لا ينفعه ذلك يوم القيامة، يوم يتبرّأ المتّبعون من أتباعهم، و يفرّون من أشياعهم. و قد نصّ الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز.٦ و لكن أين الآذان السامعة،
و القلوب الواعية؟! و هل يشكّ العاقل في الصحيح من المقالَتين؟! و أنّ مقالة الإماميّة هي أحسن الأقاويل، و أنّها أشبه بالدِّين، و أنّ القائلين بها هم الذين قال الله فيهم: فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ.۱
عقائد الاشاعرة في التوحيد و العدل مدعاة إلى البراءة من الإسلام
و لينصف العاقل من نفسه: أنّه لو جاء مشرك يطلب شرح اصول دين المسلمين في العدل، و التوحيد، رجاء أن يستحسنه، و يدخل فيه معهم، هل كان الأولى أن يقال له، حتى يرغب في الإسلام، و يتزيّن في قلبه أنّه من ديننا: إن جميع أفعال الله تعالى حكمة و صواب، و أنّا نرضى بقضائه، و إنّه منزّه عن فعل القبائح و الفواحش، لا تقع منه، و لا يعاقب الناس على فعل يفعله فيهم، و لا يقدرون على دفعه عنهم، و لا يتمكّنون من امتثال أمره. أو يقال: ليس في أفعاله حكمة و صواب، و إنّه يفعل السفه و الفاحشة (و إنّه أمر بالسفه و الفاحشة) و لا نرضى بقضاء الله، و إنّه يعاقب الناس على ما فعله فيهم، بل خلق فيهم الكفر و الشرك، و يعاقبهم عليهما، و يخلق فيهم اللون، و الطول، و القصر، و يعذّبهم عليها.
و هل الأولى أن نقول: من ديننا أنّ الله لا يكلّف الناس ما لا يقدرون عليه، و لا يطيقون؟! أو نقول: إنّه يكلّف الناس ما لا يطيقون، و يعاقبهم على ترك ما لا يقدرون على فعله؟!
و هل الأولى أن نقول: إنّه تعالى يكره الفواحش، و لا يريدها، و لا يُحبّها، و لا يرضاها، أو نقول: إنّه يجب أن يُشتَم، و يُسَبّ، و يُعصي
بأنواع المعاصي، و يكره أن يُمدَح، و يُطاع، و يعذّب الناس لمّا كانوا كما أراد و لم يكونوا كما كره؟!
و هل الأولى أن نقول: إنّه تعالى لا يُشبه الأشياء، و لا يجوز عليه ما يجوز عليها، أو نقول: إنّه يُشبهها؟!
و هل الأولى أن نقول: إن الله تعالى يعلم، و يقدر، و يُحيي، و يدرك لذاته، أو نقول: إنّه لا يُدرك، و لا يُحيي، و لا يقدر، و لا يعلم إلّا بذوات قديمة، لولاها لم يكن قادراً، و لا عالماً، و لا غير ذلك من الصفات؟!
و هل الأولى أن نقول: إنّه تعالى لمّا خلق الخلق أمرهم و نهاهم، أو نقول: إنّه لم يزل في القِدَم و لا يزال بعد فنائهم طول الأبد يقول: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ! و لا يخلُّ بذلك أصلًا؟!
و هل الأولى أن نقول: إنّه تعالى تستحيل رؤيته، و الإحاطة بكُنه ذاته، أو نقول: إنّه يُرى بالعين إمّا في جهة من الجهات له أعضاء و صورة، أو يُرى لا في الجهة؟!
و هل الأولى أن نقول: إن أنبياءه و أئمّته منزّهون عن كلّ قبيح و سخيف، أو نقول: إنّهم اقترفوا المعاصي المنفِّرة عنهم، و إنّه يقع منهم ما يدلّ على الخسّة و الذلّة كسرقة درهم، و كذب، و فاحشة، و يدومون على ذلك، مع أنّهم محلّ وحيه، و حَفَظَة شَرْعه، و إن النجاة تحصل بامتثال أوامرهم القوليّة و الفعليّة؟!
فإذا عرفتَ أنّه لا ينبغي أن يُذكر لهذا السائل عن دين الإسلام، إلّا مذهب الإماميّة دون قول غيرهم، عرفتَ عِظَم موقعهم في الإسلام، و تعلم أيضاً بزيادة بصيرتهم. لأنّه ليس في التوحيد دليل و لا جواب عن شبهة إلّا من أمير المؤمنين عليه السلام، و أولاده عليهم السلام اخذ. و كان جميع العلماء يستندون إليه على ما يأتي. فكيف لا يجب تعظيم الإماميّة،
و الاعتراف بعلوّ منزلتهم؟!
فإذا سمعوا شبهة في توحيد الله تعالى، أو في عبث بعض أفعاله انقطعوا بالفكر فيها عن كلّ أشغالهم فلا تسكن نفوسهم، و لا تطمئنّ قلوبهم حتى يتحقّقوا جواباً عنها. و مخالفهم إذا سمع دلالة قاطعه على أنّ الله عزّ و جلّ لا يفعل الفواحش و القبائح، ظلّ ليله و نهاره مهموماً مغموماً، طالباً لإقامة شبهة يجيب بها حذراً: أن يصحّ عنده أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح. فإذا ظفر بأدنى شبهة قنعت نفسه، و عظم سروره بما دلّت الشبهة عليه بأنّه لا يفعل القبيح، و أنواع الفواحش غير الله تعالى.
فشتّان بين الفريقين! و بَعُدَ ما بين المذهبَين! و لنشرع الآن في تفصيل المسائل، و كشف الحقّ فيها بعون الله و لطفه:
الحسن و القبح العقليّان من منظار الشيعة و الاشاعرة
إثبات الحُسن و القُبح العقليّين
المطلب الثاني: ذهبت الإماميّة، و من تابعهم من المعتزلة إلى أنّ من الأفعال ما هو معلوم الحُسن و القُبح بضرورة العقل. كعلمنا بُحسن الصدق النافع، و قبح الكذب الضارّ. فكلّ عاقل لا يشكّ في ذلك. و ليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب، و أنّ الأشياء المساوية لشيءٍ واحد متساوية. و منها ما هو معلوم بالاكتساب أنّه حسن، أو قبيح، كحسن الصدق الضارّ، و قبح الكذب النافع.۱ (فهذه أحكام عقليّة
لكنّها تحتاج إلى تهيئة المقدّمات العقليّة).
و منها ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أن قبحه، فيكشف الشرع عنه كالعبادات.
و قالت الأشاعرة: إن الحُسن و القبح شرعيّان، و لا يقضي العقل بحسن شيء منها، و لا بقبحه، بل القاضي بذلك هو الشرع. فما حسّنه فهم حسن، و ما قبّحه فهو قبيح.۱ و هو باطل من وجوه:
الأوّل: أنّهم أنكروه ما عمله كلّ عاقل: من حُسن الصدق النافع، و قبح الكذب الضارّ، سواء كان هناك شرع أم لا. و منكر الحكم الضروريّ سوفسطائيّ.
الثاني: لو خُيِّر العاقل الذي لم يسمع الشرائع، و لا عَلِمَ شَيئاً من الأحكام، بل نشأ في بادية خالياً من العقائد كلّها، بين أن يصدق و يعطي ديناراً، أو بين أن يكذب و يعطي ديناراً، و لا ضرر عليه فيهما، فإنّه يتخيّر الصدق على الكذب. و لو لا حكم العقل بقبح الكذب، و حُسن الصدق، لما فرّق بينهما، و لا اختار الصدق دائماً.
الثالث: لو كان الحُسن و القبح شرعيّين لما حكم بهما من ينكر الشرع، و التالي باطل، فإنّ البراهمة بأسرهم ينكرون الشرائع و الأديان كلّها، و يحكمون بالحُسن و القبح، مستندين إلى ضرورة العقل في ذلك.
الرابع: الضرورة قاضية بقبح العبث، كمن يستأخر أجيراً ليرمي من ماء الفرات في دجلة، و يبيع متاعاً اعطي في بلده عشرة دراهم، و في بلد يحمله إليه بمشقّة عظيمة، و يعلم أنّ سعره كسعر بلده بعشرة دراهم أيضاً.
و قبح تكليف ما لا يُطاق، كتكليف الزَّمِن الطيران إلى السماء، و تعذيبه دائماً على ترك هذا الفعل.
و قبح من يذمّ العالم الزاهد على علمه و زهده، و حُسن مدحه.
و قبح مدح الجاهل الفاسق على جهله و فسقه، و حُسن ذمِّه عليهما. و من كابر في ذلك فقد أنكر أجلي الضروريّات، لأنّ هذا الحكم حاصل للأطفال، و الضروريّات قد لا تحصل لهم.
الخامس: لو كان الحسن و القبح باعتبار السمع لا غير، لما قَبح من الله شيء، و لو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزة على يد الكذّابين. و تجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة. فإنّ أيّ نبيّ أظهر المعجزة عقيب ادّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوّة.
السادس: لو كان الحُسن و القبح شرعيّين لحسن من الله تعالى أن يأمر بالكفر، و تكذيب الأنبياء، و تعظيم الأصنام، و المواظبة على الزنا و السرقة، و النهي عن العبادة و الصدق، لأنّها غير قبيحة في أنفسها. فإذا أمر الله تعالى بها صارت حسنة، إذ لا فرق بينهما و بين الأمر بالطاعة.
فإنّ شكر المُنْعِم، و ردّ الوديعة، و الصدق ليست حسنة في أنفسها، و لو نهى الله تعالى عنها كانت قبيحة، لكن لمّا اتّفق أنّ الله تعالى أمر بهذه
مجاناً لغير غرض و لا حكمة، صارت حسنة، و اتّفق أنّه نهى عن تلك فصارت قبيحة، و قبل الأمر و النهي لا فرق بينهما.
و من أدّاه عقله إلى تقليد من يعتقد ذلك، إنَّهُ أجْهَلُ الجُهَّالِ، وَ أحْمَقُ الحَمْقَى، إذ علم أنّ معتقد رئيسه ذلك. و من لم يعلم، و وقف عليه، ثمّ استمرّ على تقليده فكذلك، فلهذا وجب علينا كشف معتقدهم، لئلّا يضلّ غيرهم و لا تستوعب البليّة جميع الناس.
السابع: لو كان الحُسن و القبح شرعيّين، لزم توقّف وجوب الواجبات على مجيء الشرع.
و لو كان كذلك لزم إفحام الأنبياء، لأنّ النبيّ عليه السلام إذا ادّعى الرسالة، و أظهر المعجزة، كان للمدعوّ أن يقول: إنّما يجب علَيّ النظر في معجزتك، بعد أن أعرف أنّك صادق! (و لكن لمّا لم يكن وجوب عقليّ في النظر) فأنا لا أنظر حتى أعرف صدقك! و لا أعرف صدقك إلّا بالنظر! و قبله لا يجب علَيّ امتثال الأمر. (و على هذا أنا لا أنظر في صدق كلامك أبداً حتى تجب علَيّ متابعتك، و هكذا أنا غير مُلزَم إلى يوم القيامة. و لا أنظر حسب الرغبة فتجب عليّ طاعتك و القبول منك) فينقطع النبيّ، و لا يبقى له جواب.
الثامن: لو كان الحُسن و القبح شرعيّين، لم يجب المعرفة لتوقّف معرفة الإيجاب على معرفة الموجب، (الباري تعالى شأنه العزيز) المتوقّفة على معرفة الإيجاب، فيدور.
التاسع: الضرورة قاضية بالفرق بين ما أحسن الينا دائماً، و من أساء الينا دائماً، و حَسُن مدح الأوّل، و ذمّ الثاني، و قَبح ذمّ الأوّل، و مدح الثاني، و من يشكّك في ذلك فقد كابر مقتضى عقله.
إن الله تعالى لا يفعل القبيح
المطلب الثالث: في أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح و لا يُخلّ بالواجب.
ذهبت الإماميّة و من وافقهم من المعتزلة إلى أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح، و لا يُخلّ بالواجب، بل جميع أفعاله تعالى حكمة و صواب.
ليس فيها ظلم، و لا جور، و لا عدوان، و لا كذب، و لا فاحشة، لأنّ الله تعالى:
أوّلًا: غني عن القبيح.
ثانياً: و عالم بقبح القبيح، لأنّه عالم بكلّ المعلومات.
ثالثاً: و عالم بغناه عنه.
و كلّ من كان كذلك فإنّه يستحيل عليه صدور القبيح عنه، و الضرورة قاضية بذلك. و من فعل القبيح مع الأوصاف الثلاثة استحقّ الذمّ و اللوم.
و أيضاً الله تعالى قادر، و القادر إنّما يفعل بواسطة الداعي، و الداعي: إمّا داعي الحاجة، أو داعي الجهل، أو داعي الحكمة.
فأمّا داعي الحاجة، فقد يكون العالم بقبح القبيح محتاجاً إليه، فيصدر عنه دفعاً لحاجته.
و أمّا داعي الجهل، فبأن يكون القادر عليه جاهلًا بقبحه، فيصحّ صدوره عنه.
و أمّا داعي الحكمة، فبأن يكون الفعل حسناً فيفعله لدعوة الداعي إليه. و التقدير أنّ الفعل قبيح فانتفت هذه الدعاوى، فيستحيل القُبح منه تعالى.
و ذهبت الأشاعرة كافّة إلى أنّ الله تعالى قد فعل القبائح بأسرها، من أنواع الظلم، و الشرك، و الجور، و العدوان، و رضى بها و أحبّها.
فلزمهم من ذلك محالات:
منها: امتناع الجزم بصدق الأنبياء، لأنّ مسيلمة الكذّاب لا فعل له، بل القبيح الذي صدر عنه من الله تعالى عندهم، فجاز أن يكون جميع الأنبياء كذلك (أي: كلّهم كذّابون و متنبّئون لا أنبياء). و إنّما يُعلَم صدقهم لو علمنا أنّه تعالى لا يصدر عنه القبيح، فلا يُعلَم حينئذٍ نبوّة نبيّنا صلّى الله عليه و آله، و لا نبوّة موسى و عيسى و غيرهما من الأنبياء.
فأيّ عاقل يرضى لنفسه أن يقلّد من لا يجزم بنبيّ من الأنبياء البتّة؟ و أنّه لا فرق عنده بين نبوّة محمّد صلّى الله عليه و آله، و نبوّة مسيلمة الكذّاب؟! فليحذر العاقل من اتّباع أهل الأهواء، و الانقياد إلى طاعتهم، ليبلّغهم مرادهم، و يربح هو الخسران بالخلود في النيران، و لا ينفعه عذره غداً في يوم الحساب!۱
أفعال الله معلّلة بأغراض
و هكذا يسجّل العلّامة ستّة إشكالات اخرى على الأشاعرة، ثمّ يصل إلى المطلب الرابع في أنّ الله تعالى يفعل لغرض و حكمة، و ينقل قول الأشاعرة في أنّه لا يجوز أن يفعل الله شيئاً لغرض، و لا مصلحة ترجع إلى العباد، و لغاية من الغايات. و لزمهم من ذلك محالات، و يؤاخذهم بعدد من الإشكالات، حتى يصل إلى الإشكال الرابع فيقول: إنّه يلزم الطامّة العظمى، و الداهية الكبرى عليهم، و هو: إبطال النبوّات بأسرها، و عدم الجزم بصدق أحدٍ منهم، بل يحصل الجزم بكذبهم أجمع، لأنّ النبوّة إنّما تتمّ بمقدّمتين:
إحداهما: أنّ الله تعالى خلق المعجزة على يد مدّعي النبوّة لأجل التصديق.
و الثانية: أنّ كلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق.
و تحدّث العلّامة مفصّلًا عن المقدّمة الاولى. ثمّ انتقل إلى المقدّمة الثانية، فقال:
المقدّمة الثانية: و هي أنّ كلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق. ممنوعة عندهم (عند الأشاعرة) أيضاً، لأنّه يخلق الضلال و الشرور و أنواع الفساد و الشرك، و المعاصي الصادرة من بني آدم، فكيف يمتنع عليه تصديق الكاذب؟! فيبطل المقدّمة الثانية أيضاً.
هذا نصّ مذهبهم، و صريح معتقدهم. نعوذ بالله من عقيدة أدّت إلى إبطال النبوّات، و تكذيب الرسل، و التسوية بينهم و بين مسيلمة، حيث كذب في ادّعاء الرسالة.
فلينظر العاقل المنصف، و يَخَف ربّه، و يخش من اليم عقابه، و يعرض على عقله: هل بلغ كفر الكافر إلى هذه المقالات الرديّة و الاعتقادات الفاسدة؟! و هل هؤلاء أعذر في مقالتهم، أم اليهود، و النصارى الذين حكموا بنبوّة الأنبياء المتقدّمين عليهم السلام، و حكم عليهم جميع الناس بالكفر، حيث أنكروا نبوّة محمّد صلّى الله عليه و آله؟!
و هؤلاء قد لزمهم إنكار جميع الأنبياء عليهم السلام، فهم شرّ من اولئك. و لهذا قال الصادق عليه السلام، حيث عدّهم، و ذكر اليهود، و النصارى: إنَّهُمْ شَرُّ الثَّلَاثَةِ.۱
و لا يعذر المقلّد نفسه. فإنّ فساد هذا القول معلوم لكلّ أحد، و هم معترفون بفساده أيضاً.
و يواصل العلّامة كلامه فيسجّل بعد هذا الإشكال سبعة إشكالات اخرى على الأشاعرة في هذه المقالة و يختم الموضوع.۱ و قال في مبحث «تكليف ما لا يُطاق»:
المطلب الثامن: في امتناع تكليف ما لا يُطاق
قالت الإماميّة: إن الله تعالى يستحيل عليه من حيث الحكمة أن يكلّف العبد ما لا قدرة له عليه، و لا طاقة له به، و أن يطلب منه فعل ما يعجز عنه، و يمتنع منه، فلا يجوز له أن يكلّف الزمِن الطيران إلى السماء، و لا الجمع بين الضدّين، و لا كونه في المشرق حال كونه في المغرب، و لا إحياء الموتى، و لا إعادة آدم و نوح عليهما السلام، و لا إعادة أمس الماضي، و لا إدخال جبل قاف في خرم الإبرة، و لا شرب ماء دجلة في جرعة واحدة، و لا إنزال الشمس و القمر إلى الأرض، إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة لذاتها.
و ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الله تعالى لم يكلّف العبد إلّا ما لا يُطاق، و لا يتمكّن من فعله.٢ فخالفوا المعقول الدالّ على قبح ذلك، و المنقول، و هو المتواتر من الكتاب العزيز. قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها.۱
وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.٢ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ.٣
وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.٤
و الظلم هو إضرار غير المستحقّ، و أيّ إضرارٍ أعظم من هذا، مع أنّه غير مستحقّ؟!
تَعَالَى اللهُ عَن ذَلِكَ عُلوّاً كَبِيراً.٥
يواصل العلّامة رحمه الله كلامه بعد بحوث طويلة الذيل في اصول و فروع موارد الخلاف بين الشيعة الإماميّة و العامّة بعد الذي اخترناه، إلى أن يصل إلى مسألة مهمّة من موارد خلاف الشيعة و العامّة و هي نَزَاهَةُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَنْ دَنَاءَةِ الآبَاءِ وَ عَهْرِ الامَّهَاتِ. فيقول في هذا البحث: في أنّه يجب أن يكون منزّهاً عن دناءة الآباء، و عهر الامَّهات.٦
صفات النبيّ عند الشيعة و أهل السنّة
ذهبت الإماميّة إلى أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله يجب أن يكون منزّهاً عن دناءة الآباء، و عهر الامّهات، بريئاً من الرذائل و الأفعال الدالّة على الخسّة، كالاستهزاء به، و السخرية، و الضحك عليه، لأنّ ذلك يسقط محلّه من القلوب، و ينفّر الناس عن الانقياد إليه، فإنّه من المعلوم بالضرورة الذي لا يقبل الشكّ و الارتياب.
و خالفت السنّة فيه:
أمّا الأشاعرة فباعتبار نفي الحُسن و القبح، فلزمهم أن يذهبوا إلى جواز بعثة ولد الزنا، المعلوم لكلّ أحد.
و أن يكون أبوه فاعلًا لجميع أنواع الفواحش، و أبلغ أصناف الشرك، و هو ممّن يُسخر به، و يُضحَك عليه، و يُصفع في الأسواق، و يُستهزأ به.
و يكون قد ليط به دائماً لأبنةٍ فيه، قوّاداً.
و تكون امّه في غاية الزنا و القيادة، و الافتضاح بذلك، لا تردّ يد لامس. و يكون هو في غاية الدناءة و السفالة، ممّن قد ليط به طول عمره، حال النبوّة و قبلها، و يُصفع في الأسواق، و يعتمد المناكير، و يكون قوّاداً بصّاصاً.
فهؤلاء يلزمهم القول بذلك حيث نفوا التحسين و التقبيح العقليّين، و أنّ ذلك ممكن، فيجوز من الله وقوعه. و ليس هذا بأبلغ من تعذيب الله من لا يستحقّ العذاب، بل يستحقّ الثواب طول الأبد!
و أمّا المُعْتَزِلَة، فلأنّهم جوّزوا صدور الذنب عنهم، لزمهم القول بجواز ذلك أيضاً. و اتّفقوا على وقوع الكبائر منهم كما في قصّة إخوة يوسف.
فلينظر العاقل بعين الإنصاف: هل يجوز المصير إلى هذه الأقاويل الفاسدة، و الآراء الرديّة؟ و هل يبقى مكلّف ينقاد إلى قبول قول مَن كان
يُفعل به الفاحشة طول عمره إلى وقت نبوّته؟ و أنّه يُصفع و يُستهزأ به حال النبوّة؟ و هل يثبت بقول هذا حجّة على الخلق؟!
و اعلم أنّ البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط، و أنّهم إن بحثوا في ذلك استعملوا الفضول، لأنّهم يجوّزون تعذيب المكلّف على أنّه لم يفعل ما أمره الله تعالى به، من غير أن يعلم ما أمره به، و لا أرسل إليه رسولًا البتّة، بل و على امتثال أمره بها. و أنّ جميع القبائح من عنده تعالى، و أنّ كلّ ما وقع في الوجود فإنّه فعله تعالى، و هو حَسَن، لأنّ الحَسن هو الواقع، و القبيح هو الذي لم يقع.
فهذه الصفات الخسيسة في النبيّ و أبويه تكون حسنة لوقوعها من الله تعالى. فأيّ مانع حينئذٍ من البعثة باعتبارها، فكيف يمكن للأشاعرة منع كفر النبيّ و هو من الله، و كلّ ما يفعله تعالى فهو حَسَن؟! و كذا أنواع المعاصي؟ و كيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء؟!
نَعُوذُ بِاللهِ من مذهب يؤدّي إلى تحسين الكفر، و تقبيح الإيمان، و جواز بعثة من اجتمع فيه كلّ الرذائل و السقطات. و قد عرفت من هذا أنّ للأشاعرة في هذا الباب قد أنكروا الضروريّات.۱
***
انتهاء علوم الفقهاء الاربعة إلى الإمام الصادق عليه السلام
من الجدير ذكره أنّ جميع الفقهاء الأربعه و رؤساء الأشاعرة و المعتزلة كانوا من تلاميذ مدرسة الإمام الصادق عليه السلام. و قد أخذوا منه مباشرة أو غير مباشرة. كلّ ما في الأمر أنّهم انحرفوا عقيديّاً أو فكريّاً أو عمليّاً بعد أن وجدوا أنفسهم اولي علم و دراية، و شعروا بالاستقلال في
آرائهم.
و هذه المسألة خليقة بالإمعان جدّاً، إذ كيف كان ذلك الإمام الهُمام الحامي الوحيد للواء الشريعة و العلم و الطريقة و الدراية. و اضطلع عليه السلام بعبء الشيعة، و ليس عبء الشيعة وحدهم بل عبء جميع المسلمين و حمل على عاتقه المبارك أعباء النبوّة المصطفويّة و الولاية المرتضويّة، بل استفاض جميع العالم و كافّة مدارس العلم من وجوده المبارك.
قال العلّامة الحلّيّ رضوان الله عليه في إرجاع جميع العلوم إلى سيّدنا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين إلى يوم الدين:
و أمّا الفقه فالفقهاء كلّهم يرجعون إليه. أمّا الإماميّة فظاهر، لأنّهم أخذوا علمهم منه و من أولاده عليهم السلام.
و أمّا غيرهم كذلك. أمّا أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف و محمّد بن الحسن الشيبانيّ و زُفَر، فإنّهم أخذوا عن أبي حنيفة (و كان أبو حنيفة تلميذ الإمام الصادق عليه السلام).
و الشافعيّ قرأ على محمّد بن الحسن الشيبانيّ و على مالك، فرجع فقهه اليهما.
و أمّا أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعيّ، فرجع فقهه إليه، و فقه الشافعيّ راجع إلى أبي حنيفة، و أبو حنيفة قرأ على الصادق عليه السلام، و الصادق عليه السلام قرأ على الباقر عليه السلام، و الباقر عليه السلام قرأ على زين العابدين عليه السلام، و زين العابدين عليه السلام قرأ على أبيه عليه السلام، و أبوه عليه السلام قرأ على عليّ عليه و آله الصلاة و السلام.
و مالك قرأ على ربيعة الرأي، و قرأ ربيعة على عكرمة، و عكرمة على عبد الله بن عبّاس، و عبد الله بن عبّاس تلميذ عليّ عليه السلام.
و أمّا علم الكلام فهو عليه السلام أصله، و من خطبه استفاد الناس،
و كلّ الناس تلاميذه. فإنّ المعتزلة انتسبوا إلى واصل بن عطاء، و هو كبيرهم. و كان تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمّد ابن الحنفيّة، و أبو هاشم تلميذ أبيه، و أبوه تلميذ عليّ عليه السلام.
و الأشعريّة تلامذة أبي الحسن عليّ بن [إسماعيل بن] أبي بشر الأشعريّ، و هو تلميذ أبي عليّ الجبّائيّ، و هو شيخ من مشايخ المعتزلة.۱
***
خطأ أحمد أمين في الحكم بأخذ الشيعة عن المعتزلة
تحدّث أحمد أمين بك المصريّ عن الشيعة مفصّلًا، إلى أن قال: و هم (الشيعة) يقولون في كثير من مسائل اصول الدين بقول المعتزلة. فقد قال الشيعة كما قال المعتزلة بأنّ صفات الله عين ذاته، و بأنّ القرآن مخلوق، و بإنكار الكلام النفسيّ، و إنكار رؤية الله بالبصر في الدنيا و الآخرة، كما وافق الشيعة المعتزلة في القول بالحُسن و القبح العقليّين، و بقدرة العبد و اختياره، و أنّه تعالى لا يصدر عنه قبيح، و أنّ أفعاله معلّلة بالعلل و الأغراض ... إلى آخره.
و قد قرأتُ كتاب «الياقوت» لأبي إسحاق إبراهيم بن نوبخت من قدماء متكلّمي الشيعة الإماميّة،٢ فكنتُ كأنّي أقرأ كتاباً من كتب اصول المعتزلة إلّا في مسائل معدودة كالفصل الأخير في الإمامة، و إمامة عليّ، و إمامة الأحد عشر بعده.
و لكن أيّهما أخذ من الآخر؟ أمّا بعض الشيعة فيزعم أنّ المعتزلة
أخذوا عنهم، و أنّ واصل بن عطاء - رأس المعتزلة - تتلمذ لجعفر الصادق. و أنا ارجِّح أنّ الشيعة هم الذين أخذوا من المعتزلة تعاليمهم. و تتبُّع نشوء مذهب الاعتزال يدلّ على ذلك.
و زيد بن عليّ زعيم الفرقة الشيعيّة الزيديّة التي تنتسب إليه تتلمذ لواصل. و كان جعفر يتّصل بعمّه زيد.
و يقول أبو الفرج الأصفهانيّ في «مقاتل الطالبيّين»: كان جعفر بن محمّد يمسك لزيد بن عليّ بالركاب و يسوّي ثيابه على السرج.۱ فإذا صحّ ما ذكره الشهرستانيّ و غيره عن تتلمذ زيد لواصل، فلا يعقل كثيراً أن يتتلمذ واصل لجعفر.
و كثير من المعتزلة كان يتشيّع. فالظاهر أنّه عن طريق هؤلاء تسرّبت اصول المعتزلة إلى الشيعة.٢
إن حكم أحمد أمين هذا غير سديد، و قد انطلق فيه من عناده و مكابرته للشيعة. فعند ما يذكر المؤرّخون أنّ واصل بن عطاء كان يحضر في درس الإمام جعفر الصادق عليه السلام، و يستفيد من علومه، ثمّ تركه و عقد له مجلساً مستقلًّا، فلا معنى لو هم أحمد أمين، و كلامه في غير سدد.
بخاصّة مع علم الإمام عليه السلام الغزير و فكره الواسع، كيف يمكن أن يكون زيد الملىء بالعلوم معلّماً للإمام؟ كلّ ما في الأمر لمّا كان زيد أكبر سنّاً من الإمام عليه السلام، و كان عمّه، و العمّ بمنزلة الأب، فإنّ احترام الإمام المفرط إيّاه لا يتنافى مع عظمة علم الإمام بالنسبة إلى زيد.
الجميع يعلمون أنّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام أخذ علومه من
أبيه الإمام محمّد الباقر عليه السلام، و أنّ أباه أخذها من الإمام سيّد الساجدين عليه السلام، و سيّد الساجدين أخذها من أبَوَيه الحسن۱ و الحسين عليهما السلام، و هما أخذاها من الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام.
كانت هذه المدرسة مدرسة واحدة متماسكة لا تقبل الانفصال و الثغرات. و تلك المطالب الدقيقة العميقة من أسرار التوحيد و حقيقة لبّ المعرفة الواردة في عبارات الإمام و كلمات أبيه، و في تضاعيف الأدعية الرفيعة لـ «الصحيفة السجّاديّة الكاملة»، و في خطب مولى الموالي أمير المؤمنين عليهم جمعياً سلام الله و صلوات ملائكته المقرّبين لم يحلم بها واصل بن عطاء قطّ. و كم من الإجحاف أن يوزن الصدف بالفيروزج، و الزجاج بالياقوت المتلألئ!!
أ لم تكن عبارات واصل بن عطاء و كلماته قريبة المنال؟! قايسوها بكلمة واحدة من كلمات الإمام و سائر الأئمّة لتروا هل تعطّر واصل برائحة تلك الأسرار التوحيديّة الخفيّة و المطالب العرفانيّة العالية في التوحيد، أو العدل، أو سائر الامور المشتركة بين الشيعة و المعتزلة!
أجل، لقد جار الدكتور أحمد أمين كثيراً في حكمه على الشيعة و التشيّع في كتابيه «فجر الإسلام» و «ضحى الإسلام». و يُستقبَح من باحث مؤرّخ أن يتقوّل عليهم و يرميهم بتهمٍ تافهة رخيصة هم منها بُرَاء. فقد أراد
هذا الرجل - من غير مطالعة لكتب الشيعة - أن يعرف محتويات البيت و يحكم عليه من على سطحه. و استبان للباحثين في العالم تخبّطه و مآربه التخريبيّة.
و قد انتبه أحمد أمين في كتاب «يوم الإسلام» الذي صنّفه في الأيّام الأخيرة من حياته إلى كثير من موضوعاته المموَّهة المشوَّهة و أصلحها. و كتابه هذا في الحقيقة كتاب توبة من مطالب مغلوطة و أحكام غير صائبة حكم بها على الشيعة في كتبه السابقة۱ استطراداً.
خطأ أحمد أمين في التأريخ و علم المصادر
عند ما نلحظ في موضع من المواضع أنّه ضعيف جدّاً في التأريخ، إذ مع ما أبداه من آراء و أقضية حول زيد، فإنّه لم يعرف وجوده الخارجيّ، و لم يعلم أنّ الزيديّ هو من انتسب إلى زيد بن عليّ بن الحسين! فقد قال في كتاب «فجر الإسلام»: فالزيديّة أتباع زيد بن حسن بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب.٢
و عند ما نعلم أنّه لم ير كتاب «سرّ العالمين» للغزّاليّ و لم يعرفه، و سمّاه «سرّ العارفين»٣ و ذهب إلى أنّه من وضع الشيعة و منسوب إلى الغزّاليّ، فما ذا نتوقّع منه؟ و أنّى له أن يكون مصيباً في أحكامه و متّخذاً نهجاً صحيحاً في آرائه التي حكم بها على الشيعة و التشيّع؟!
و أهمّ من هذا كلّه أنّ دكاترة و أساتذة التأريخ و الآداب و الفلسفة و علم الاجتماع الدارسين في الخارج يريدون على سجيّة معلّميهم المستشرقين
و غيرهم و في ضوء تعاليمهم أن يقيسوا العلوم الإلهيّة بالعلوم الذهنيّة و الكفريّة، و يضعوا لها مصدر علاقة إنسانيّة و تعليم خارجيّ، إنّهم غافلون عن العلوم الإلهاميّة و اللدنيّة. و عند ما يصلون إلى علوم رسول الله صلّى الله عليه و آله يحاولون أن يمتروا فيها فيقولون: ممّن أخذ محمّد [صلّى الله عليه و آله] علمه؟!
و لمّا كانوا لا يعرفون الوحي، و لا جبرائيل، و لا الروح الأمين و لا الجذبات الربّانيّة السبحانيّة، و لا الحالات التوحيديّة و كيفيّة تلقّي الوحي من العالم العلويّ، فإنّهم يتشبّثون بكلام فارغ، و ترّهات و أباطيل فيقولون: أخذه من الراهب الفلانيّ، أو الحبر الفلانيّ العالم بالتلمود! فانظر إلى البون الشاسع بين الطريقين! و شتّان بينهما!
من هنا، نحن لا نثمّن هذا الضرب من العلوم السطحيّة، و نرى أنّ أساتذتها و دكاترتها عامّيّين لا عمق لهم، إذ إن الدروس الحوزويّة هي التي تربّي الإنسان الباحث المتبحّر المتتبّع. و لاحظنا و نلاحظ أنّ الدكتور أحمد أمين و أمثاله مع ضخامة كتبهم لم يعالجوا أدواء المجتمع، و لم يضعوا الورود و الرياحين في طريق أبنائه، و لم يتركوا له إلّا الخلاف النابع من نفوسهم الأمّارة.
أجل، لا نعجب من ضروب هذا التعصّب الذي ما زال يُمارَس، و لا نعجب من إخفاء وجه الحقّ، فمنذ عصر وليّ الله المطلق و استاذ الكلّ في الكلّ الإمام الناطق بالحقّ جعفر بن محمّد الصادق عليه و على آبائه الأكرمين و أولاده الأطيبين أفضل صلوات الله و صلوات أنبيائه المرسلين و ملائكته المقرّبين، رأينا كيف كانوا يمنعون الناس من دخول بيت الإمام، و يردعونهم عن التردّد عليه، و كان في الحقيقة تحت الإقامة الجبريّة، مع أنّ علمه قد ملأ الآفاق. و زهده بلغ القمر، و إعراضه عن الدنيا
و الرئاسة قد أقرّ به أعداؤه كأبي جعفر المنصور الدوانيقيّ و غيره. مع ذلك لمّا كان أساس وجوده محرجاً لسطلنة المنصور الكسرويّة و جبروتيّته الفرعونيّة، فقد بذل ما بذل من الأموال الطائلة من أجل إطفاء نوره. و تزامناً مع إمامته، و سجن نجله موسى بن جعفر عليهما السلام مع التشريد و التضييق في طوامير سجن بغداد، و استشهادهما - في آخر المطاف - بسمٍّ قاتل، أمر مالك بن أنس أن يصنّف كتاب المسائل (توضيح المسائل في عصرهم) لينشره في أرجاء العالم بالقوّة و الإكراه.
و نكتفي فيما يأتي بما ذكره ابن قتيبة الدينوريّ في كتاب «الإمامة و السياسة» حول هذا الكتاب الذي صُنِّف بأمر المنصور. و لعلّ مسائل اخرى تستبين للقارئ الكريم حوله أيضاً من خلال الإمعان في خصوصيّات الأمر:
قال ابن قتيبة: و ذكروا أنّه هاج بالمدينة هيج في ابتداء أيّام أبي جعفر، فبعث اليها أبو جعفر ابن عمّه جعفر بن سليمان بن العبّاس، ليسكن هيجها و فتنتها، و يجدّد بيعة أهلها، فقدمها و هو يتوقّد ناراً على أهل الخلاف لهم، فأظهر الغلظة و الشدّة، وسطا بكلّ من ألحد في سلطانهم، و أشار إلى المنازعة لهم، و أخذ الناس بالبيعة.
و كان مالك بن أنس لم يزل صغيراً و كبيراً محسداً ... فاستدعى ذلك منهم الحسد له، و ألجأهم ذلك إلى البغي عليه، فدسّوا إلى جعفر بن سليمان من قال له: إن مالكاً يُفتي الناس بأنّ أيمان البيعة لا تحلّ، و لا تلزم لمخالفتك، و استكراهك إيّاهم عليها، و زعموا أنّه يُفتي بذلك أهل المدينة أجمعين لحديث رواه عن النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم أنّه قال: رُفِعَ عَنْ امَّتي الخَطَأُ وَ النِّسيَانُ وَ مَا اكْرِهُوا عَلَيْهِ.
فعظم ذلك على جعفر و اشتدّ عليه و خاف أن ينحلّ عليه ما أبرم من
بيعة أهل المدينة، و همّ أن يبدر فيه بما عافاه الله منه، و أنعم على المسلمين ببقائه.
فقيل له: لا تبدر فيه ببادرة، فإنّه من أكرم الناس على أمير المؤمنين (المنصور)، و آثرهم عنده. و لا بأس عليك منه، فلا تحدّث شيئاً إلّا بأمر أمير المؤمنين، أو يستحقّ ذلك عندنا بأمر لا يخفى على أهل المدينة.
فدسّ إليه جعفر بن سليمان بعض من لم يكن مالك يخشى أن يؤتى من قبله، و من مأمنه يؤتي الحذر. فسأله عن الأيمان في البيعة، فأفتاه مالك بذلك طمأنينة إليه، و حسبة فيه. فلم يشعر مالك إلّا و رسول جعفر بن سليمان فيه، فأتوا به إليه منتهك الحرمة، مذال الهيبة. فأمر به، فضُرب سبعين سوطاً. فلمّا سكن الهيج بالمدينة، و تمّت له البيعة، بلغ بمالك أ لم الضرب حتى أضجعه.
إنكار أبي جعفر المنصور لضرب مالك
و ذكروا أنّه لمّا بلغ أبا جعفر ضرب مالك بن أنس، و ما أنزل به جعفر بن سليمان أعظم ذلك إعظاماً شديداً، و أنكره و لم يرضه. و كتب بعزل جعفر بن سليمان عن المدينة، و أمر أن يؤتى به إلى بغداد على قتب. و ولّى على المدينة رجلًا من قريش من بني مخزوم. و كان يوصف بدين و عقل و حزم و ذكاء، و ذلك في شهر رمضان من سنة إحدى و ستّين و مائة.
و كتب أبو جعفر إلى مالك بن أنس ليستقدمه إلى نفسه ببغداد، فأبي مالك، و كتب إلى أبي جعفر يستعفيه من ذلك، و يعتذر له ببعض العذر إليه. فكتب أبو جعفر إليه: أن وافني بالموسم العام القابل إن شاء الله، فإنّي خارج إلى الموسم.
دخول مالك على أبي جعفر بمني
و ذكروا أنّ مالكاً حجّ سنة ثلاث و ستّين و مائة، ثمّ وافى أبا جعفر بمنى أيّام منى. فذكروا أنّ مطرقاً أخبرهم، و كان من كبار أصحاب مالك. قال لي مالك: لمّا صرتُ بمنى أتيتُ السرادقات، فأذنت بنفسي، فأذن لي، ثمّ خرج إلى الإذن من عنده فأدخلني. فقلتُ للآذن: إذا انتهيتَ بي إلى القبّة التي يكون فيها أمير المؤمنين فأعلمني!
فمرّ بي من سرادق إلى سرادق، و من قبّة إلى اخرى، في كلّها أصناف من الرجال بأيديهم السيوف المشهورة، و الأجزرة المرفوعة، حتى قال لي الآذن: هو في تلك القبّة.
ثمّ تركني الآذن و تأخّر عني. فمشيت حتى انتهيتُ إلى القبّة التي هو فيها. فإذا هو قد نزل عن مجلسه الذي يكون فيه إلى البساط الذي دونه. و إذا هو قد لبس ثياباً قصدة لا تشبه ثياب مثله تواضعاً لدخولي عليه.
و ليس معه في القبّة إلّا قائم على رأسه بسيف صلّيت.
فلمّا دنوتُ منه رحّب بي و قرب، ثمّ قال: هاهنا إلى! فأوميت للجلوس. فقال: هاهنا! فلم يزل يُدنيني حتى أجلسني إليه و لصقت ركبتي بركبتيه.
ثمّ كان أوّل ما تكلّم به أن قال: وَ اللهِ الذي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يا أبا عبد الله ما أمرتُ بالذي كان، و لا علمته قبل أن يكون، و لا رضيته إذ بلغني (يعني الضرب!).
قال مالك: فحمدتُ الله تعالى على كلّ حال، و صلّيت على الرسول صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، ثمّ نزّهته عن الأمر بذلك. و الرضا به.
ثمّ قال: يا أبا عبد الله! لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنتَ بين أظهرهم! و إني أخالُكَ أماناً لهم من عذاب الله و سطوته. و لقد دفع الله بك
عنهم وقعة عظيمة! فإنّهم ما علمتَ أسرع الناس إلى الفتن، و أضعفهم عنها! قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.۱
و قد أمرتُ أن يؤتى بعدوّ الله من المدينة على قتب، و أمرتُ بضيق مجلسه، و المبالغة في امتهانه. و لا بدّ انزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه.
فقلتُ له: عافى الله أمير المؤمنين، و أكرم مثواه! قد عفوتُ عنه لقرابته من رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، ثمّ منك.
قال أبو جعفر: و أنت فعفي الله عنك و وصلك.
قال مالك: ثمّ فاتحني فيما مضى من السَّلَف و العلماء، فوجدته أعلم الناس بالناس. ثمّ فاتحني في العلم و الفقه. فوجدته أعلم الناس بما اجتمع عليه، و أعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظاً لما روي، واعياً لما سمع.
أمر المنصور مالكاً بتاليف كتاب الفقه
ثمّ قال لي: يا أبا عبد الله! ضع هذا العلم و دوِّنه! و دوِّنْ منه كتباً! وَ تَجَنَّبْ شَدَائِدَ عَبْد اللهِ بْنَ عُمَرَ وَ رُخَصَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَ شَوَاذَّ ابْنِ مَسْعُودٍ! وَ اقْصِدْ إلى أوَاسِطِ الامُورِ، وَ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الأئمَّةُ وَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. لنحمل الناس إن شاء الله على علمك و كتبك، و نبثّها في الأمصار، و نعهد إليهم أن لا يخالفوها، و لا يقضوا بسواها.
فقلتُ له: أصْلَحَ اللهُ الأمِيرَ! إن أهل العراق لا يرضون علمنا، و لا يرون في علمهم رأينا!
فقال أبو جعفر: يُحملون عليه، و نضرب عليه هاماتهم بالسيف، و نقطع طيّ ظهورهم بالسياط. فتعجّل بذلك وضعها!
فسيأتيك محمّد ابني المهدي العام القابل إن شاء الله إلى المدينة
ليسمعها منك. فيجدك و قد فرغت من ذلك إن شاء الله!
قال مالك: فبينما نحن قعود إذ طلع بني له صغير من قبّة، بظهر القبّة التي كنّا فيها. فلمّا نظر إلى الصبيّ فزع، ثمّ تقهقر فلم يتقدّم.
فقال له أبو جعفر: تقدّم يا حبيبي! إنّما هو أبو عبد الله فقيه أهل الحجاز!
ثمّ التفتَ إلى فقال: يا أبا عبد الله! أ تدري لمّا فزع الصبيّ و لم يتقدّم؟
فقلتُ: لا.
فقال: و الله استنكر قرب مجلسك منّي، إذ لم ير به أحداً غيرك قطّ. فلذلك تقهقر.
قال مالك: ثمّ أمر لي بألف دينار عيناً ذهباً، و كسوة عظيمة، و أمر لا بني بألف دينار.
ثمّ استأذنته، فأذن لي. فقمتُ فودّعني و دعا لي. ثمّ مشيتُ منطلقاً. فلحقني الخصي بالكسوة فوضعها على منكبي، و كذلك يفعلون بمن كسوه، و إن عظم قدره، فيخرج بالكسوة على الناس فيحملها، ثمّ يسلّمها إلى غلامه.
فلمّا وضع الخصي الكسوة على منكبي انحنيتُ عنها بمنكبي كراهة احتمالها، و تبرّؤاً من ذلك. فناداه أبو جعفر: بلِّغْها رَحْلَ أبي عبد الله!
قدوم المهدي إلى المدينة
و ذكروا أنّ مالك بن أنس لمّا أخذ في تدوين كتبه، و وضع علمه، قدم عليه المهدي بن أبي جعفر، فسأله عمّا صنع فيما أمره به أبو جعفر. فأتاه بالكتب و هي كتب «الموطّأ». فأمر المهدي بانتساخها، و قرئت على
مالك. فلمّا أتمّ قراءتها أمر له بأربعة آلاف دينار، و لابنه ألف دينار.
يواصل ابن قتيبة حديثه فيذكر تأريخ موت أبي جعفر المنصور، و استخلاف المهدي. ثمّ استخلاف هارون الرشيد. و يبلغ دخول هارون إلى المدينة، فيقول:
دفاع مالك عن فتواه في القسامة
قدوم هارون الرشيد المدينة
و ذكروا أنّه لمّا كانت سنة أربع و سبعين و مائة خرج هارون حاجّاً إلى مكّة، فقدم المدينة زائراً قبر النبيّ عليه الصلاة و السلام، فبعث إلى مالك بن أنس، فأتاه، فسمع منه كتاب «الموطّأ». و حضر ذلك يومئذٍ فقهاء الحجاز و العراق و الشام و اليمن. و لم يتخلّف منهم أحد إلّا حضر الموسم مع الرشيد و سمع و سمعوا من مالك موطّأه الذي وضع. و كان قارئه يومئذٍ حبيب كاتب الرشيد. فلمّا أتمّ قراءته قال هارون لفقهاء الحجاز و العراق: هل أنكرتم شيئاً من هذا العلم؟ قالوا: ما أنكرنا شيئاً إلّا ما ذكر من أمر الدماء و التدمية في القتل، فإنّ هذا من أنكر ما يكون من العلم و أبطله.
يقول الرجل: قتلني فلان فيقبل منه، و يحلف أولياؤه على القاتل خمسين يميناً، ثمّ يقتل. و لعلّ أولياءه لم يحضروا و لم يكونوا بمصر، فيعرض بهم الحَنْثُ في الأيْمَانِ، فيقبل قول رجل على غيره، و هو لا يقبل في ربع دانق يدّعيه إلّا ببيّنة تقوم.
إن هذا لهو الضلال. و قد قال صلّى الله عليه [و آله] و سلّم في الحديث الصحيح الذي رواه ابن عبّاس حيث قال: لَوْ يُعْطِى النَّاسُ بِدَعْوَاهمْ لَادَّعَي نَاسٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَ أمْوَالَهُمْ، وَ لَكِنَّ البَيِّنَةَ عَلَى المُدَّعِي، وَ اليَمِينَ عَلَى مَنْ أنْكَرَ.
قال الرشيد: و يحكم! إن في كتاب الله ما يصدّق ذلك، و لا أخال
أبا عبد الله أخذه إلّا من كتاب الله فاستثبتوه!
فأرسل إليه فأقبل. فقال هارون: يا أبا عبد الله! إن أصحابنا هؤلاء لم يختلف منهم اثنان في الإنكار عليك فيما وضعت في موطّئك من التدمية، و تصديق قول من ادّعى. و أنت و هم تزعمون بطل دعوى من ادّعى على رجل دانقاً إلّا ببيّنةٍ تقوم له! فأخبر القوم، و أوضح لهم حجّتك في ذلك! و أنا معك عليهم! فإنّي لا أعلم بعد أمير المؤمنين۱ أحداً أعلم منك!
فقال مالك: يا أمير المؤمنين، إن ممّا يصدق القسامة ما في كتاب الله من القتل، و الأخذ بالدم الذي كان في بني إسرائيل. قال الله عزّ و جلّ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها.٢
فذبحت البقرة، ثمّ ضربوه بعضو من أعضائها، فحيي القتيل، ثمّ تكلّم، فقال: فلان قتلني. فقتله موسى بن عمران (على نبيّنا و آله و) عليه السلام بقوله ذلك، و هو حكم التّوراة. فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا.٣
فالذين أسلموا محمّد صلّى الله عليه [و آله] و سلّم و أصحابه. و قد حكم بالتوراة رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم في المرجوم اليهوديّ الذي زنى، فرجمه رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم.
و قد ذكر أنس بن مالك أنّ يهوديّاً لقي جارية من جواري الأنصار في بعض أنقاب المدينة، و عليها أوضاح من ذهب و ورق، فأخذ الأوضاح
منها، و شدخ رأسها بين حجرين.
فادركت بالجارية و بها رمق. فاتُّهم بها اليهود، فأتى بهم. فعرضوا عليها رجلًا رجلًا و هي لا تتكلّم، حتى أتى بصاحبها الذي قتلها فعرفته. فقيل لها: هذا الذي قتلك؟ فأومأت برأسها أن نعم! فأمر رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم فشدخ رأسه بين حجرين.
فهذا يا أمير المؤمنين حكم الدماء، و القسامة فيها سنّة قائمة من رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم و الخلفاء فقنعوا منه بذلك و صاروا إلى الرضا بقوله: و التصديق لروايته، و التسليم لتأويل ما تأوّل من القرآن الكريم.
ثمّ قال له مالك: إن أباك يا أمير المؤمنين بعث إلى في هذا المجلس كما بعثتَ إلى، و حدّثته بما حدّثتك به في شأن أهل المدينة، و ما يصبرون عليه من البلاء، و شدّة الزمان، و غلاء الأسعار صبراً على ذلك و اختياراً لجوار قبر رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم!
فقال هارون: ذلك أبي و أنا ابنه، و سوف أفعل ما فعل. و أمر لأهل المدينة بعَشْرَةِ أبْيَاتٍ۱ مال ضعفَي ما أمر لهم المهدي.
و كان أبو يوسف القاضي مع الرشيد يومئذٍ فسأله أن يجمع بينه و بين مالك، ليكلّمه في الفقه.
فقال الرشيد لمالك: كلّمه يا أبا عبد الله.
فأنف من ذلك مالك و تنزّه عنه. و قال الهارون: هاهنا من فتيان قريش من تلامذتنا من يبلغ حاجة أمير المؤمنين، و يخصمه فيما يتكلّم به، و يذهب إليه.
فسرّ ذلك الرشيد حين أضاف ذلك إلى قريش، فقال: من هو؟!
فقال: المغيرة بن عبد الرحمن المخزوميّ.
فبعث إليه الرشيد، فقال له: كلّمني بما بدا لك اجاوبك!
حوار المغيرة المخزوميّ - تلميذ مالك - مع أبي يوسف القاضي
فقال أبو يوسف القاضي: يا أمير المؤمنين! إن هؤلاء، يعني مالكاً و أصحابه يقضون بغير ما في كتاب الله. يقول الله عزّ و جلّ:
وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ.۱
و قال: وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ.٢
و هؤلاء يقضون باليمين مع الشاهد، و لا يسمعون أنّ الله تعالى ذكر إلّا شاهدين و أربعة شهداء.٣ و لم يصحّ عن النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم أنّه قضى به.
و إنّما يدور هذا الحديث الذي روى فيه سهيل عن أبي صالح عن أبيه. ثمّ نسبه سهيل، فكان يحدّث و يقول: حدّثني ربيعة عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قضى باليمين مع الشاهد. فلمّا نسبه سهيل بطل الخبر و أثبت أصله، فلا معنى لذكره.
قال المغيرة: قضى به رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، و قضى به عليّ بالكوفة.
فقال أبو يوسف: أنا اكلّمك بالقرآن، و أنت تكلّمني بأفعال الناس، أتراك تعرّفني بهذا؟! و بما قضى به عليّ و غيره؟!
فقال المغيرة: فأنت كافر بنبيّ قضى باليمين مع الشاهد، أو مؤمن به؟!
فسكت أبو يوسف، فحجّه المغيرة. فسُرّ بذلك الرشيد، و أمر للمغيرة بألف دينار. ثمّ أرسل الرشيد إلى مالك، فقال: ما تقول في هذا المنبر؟! فإنّي اريد أن أنزع ما زاد فيه معاوية بن أبي سفيان، و أردّه إلى الثلاث درجات التي كانت بعهد رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم!
فقال له مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين! فإنّما هو من عودٍ ضعيف قد تخرّمته المسامير. فإن نقضته تفكّك و ذهب أكثره.
و مع هذا أنّه يا أمير المؤمنين لو أعدته إلى ثلاث درجات لم آمن عليه أن ينقل عن المدينة! يأتي بعدك أحد فيقول أو يُقال له: ينبغي لمنبر رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم أن يكون معك حيث كنتَ. فإنّما المنبر للخليفة، فينتقل كما انتقل من المدينة كلّ ما كان بها من آثار رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم ما أعلم أنّه ترك له عليه الصلاة و السلام بها نعل، و لا شعر، و لا فراش، و لا عصاة، و لا قدح، و لا شيء ممّا كان له هاهنا من آثاره إلّا و قد انتقل. فأطاعه الرشيد، و انتهى عن ذلك برأي مالك بن أنس. و كان ذاك رحمة من الله لأهل المدينة، و تثبيتاً لمنبر رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم بين أظهرهم.۱
أجل، لو أراد أبو جعفر المنصور أن يُرجع الناس إلى أصل الإسلام
في تدوين الحديث و السُّنّة العمليّة لأمر مالك بن أنس بتدوين ما صحّ من السنّة النبويّة و عليه شاهد في كتاب الله. بَيدَ أنّه لم يقصد ذلك لقوله في أمره له: تجنّب شدائد عبد الله بن عمر و رُخَص عبد الله ابن عبّاس و شواذّ ابن مسعود! و اقصد إلى أواسط الامور، و ما اجتمع عليه الأئمّة و الصحابة!
أي: أنّ مُوطّأه يحمل هذه المواصفات. مثلًا لا يمكن أن تكون فيه حلّيّة المتعة لاختلاف الصحابة فيها. فعمر و أتباعه رفضوها، و أمير المؤمنين و شيعته و ابن عبّاس أقرّوها.
موطّأ مالك دستور المنصور الانقلابي للبلاد
إن كتاب «الموطّأ» في الحقيقة كالدستور الذي يُدوَّن للبلاد بعد الانقلاب العسكريّ، فلا بدّ أن تكون أحكامه و تعاليمه مطابقة لعقيدة الانقلابيّين و منهجهم و أخلاقهم. و قد قام المنصور الدوانيقيّ بانقلاب مذهل، و ثبّت أركان التسلّط و الاستبداد و الظلم العبّاسيّ الذي دام أكثر من خمسمائة سنه، فلا محيد من تدوين هذا الميثاق بأمره، و من ثمّ إرساله إلى أقصى نقاط بلاده.
و على هذا الأساس نلحظ أنّ «الموطّأ» يشتمل على خمسمائة حديث منتخبة من عشرة آلاف حديث.۱ أي: اسقِطَ منها تسعة آلاف و خمسمائة حديث. فلما ذا اسقط هذا العدد؟!
أ لم يسمع مالك حديث الغدير، و حديث الطير، و حديث الثقلين، و حديث المنزلة، و حديث الموالاة و غيرها. و لم يروها بأسناد صحيحة متّصلة؟! أ لم يجرِ الحديث عن الولاية و الإمارة الحقّة و الإمامة و الخلافة بحضور الإمام الصادق عليه السلام و تلاميذه الذين كان مالك أحدهم، فيروي أيضاً ما رواه زُرارة، و محمّد بن مسلم، و أبو بصير، و أمثالهم من
الأحاديث؟!
أجل، لقد سمعها. و الله قد سمعها، بَيدَ أنّها لم تَرُق المنصور فلا بدّ أن تسقط ليظلّ شأن مالك و اعتباره و جاهه على أريكة التحكيم، و ليعلم أنّ معارضة و إلى المدينة المنصوب من قبل المنصور تستتبع سبعين جلدة لفتوى صحيحة أفتاها، و لعلّه لم يَنسَ مرارتها حتى آخر العمر.
إن معارضة المنصور تستتبع الضرب و القتل و الحبس، و هو ما رآه مالك رأي العين مع بني الحسن. و تستتبع أيضاً التشريد و الأذى، و الاعتصام في بيت العلم، و السجن، و النفي، و أخيراً سمّ الإمام الصادق، و هو ما كان مالك بن أنس مطّلعاً على تفاصيله.
بَيدَ أنّ مالكاً كان يريد أن يكون رئيس الافتاء و مرجع الحجاز في الحكم و القضاء، و يحضر في مسجد المدينة بلباس جميل و خلعة خلّابة، و يدرِّس فيه، و تُقسّم خمسة أبيات المال حيناً. و عشرة أبياته حيناً آخر على أهل المدينة غنيّهم و فقيرهم بِيَدِهِ و تحت إشرافه، لتبقى الشؤون المالكيّة محفوظة تحت إمارة أمير المؤمنين المهدي و أمير المؤمنين هارون. و ليستمتع بالجوائز السنيّة، ألف دينار له و ألف لابنه في مِنى مرّة، و عشرة آلاف دينار له و ألف لابنه مرّة اخرى بعد تدوين دستور البلاد للمنصور (كتاب «الموطّأ»).
هل يمكن أن نتصوّر أنّ مالكاً يعارض المنصور بعد ذلك التجليل و التبجيل الذي أبداه له في منى؟! لما ذا لم يقل مالك للمنصور حين اعتذر إليه المنصور: لمّا كانت بيعتك بالقوّة و الإكراه، فلا مؤاخذة على نكثها وفقاً للحديث النبويّ؟!
لما ذا قبل عذر جعفر بن سليمان، و عفا عنه لقرابته منه؟!
هذه و عشرات الأسئلة التي لاحظناها من تضاعيف حكاية ابن قُتيبة
تدلّنا على أنّ مالك بن أنس هو الذي وطّد دعائم الحكومة الغاصبة الجائرة و الإمارة العادية للدوانيقيّ. أ لم تكن دموع عبد الله المحض و إخوته في مطامير بغداد و ضروب القتل و التعذيب التي لا يمكن تصوّرها، و التي كان يأمر بها المنصور، هي التي تتحوّل إلى دنانير حمراء تنهال على فقهاء البلاط وعّاظ السلاطين، و يُعطاها مالك بن أنس فقيه المدينة، ليس بوصفها أجراً على السكوت، بل بوصفها معيناً و ناصراً و مثبّتاً لحكومة الظالم؟!
أبيات الشاعرة بروين اعتصاميّ في ظلم الحكّام
أراني هنا مضطرّاً لذكر أبيات الشاعرة صاحبة الضمير الحي، المتفرّسة، المفكّرة بالعاقبة، المتوجّهة إلى عالم البقاء، المعرضة عن عالم الفناء المرحومة بروين اعتصامي حشرها الله مع جدّتنا المظلومة الصدِّيقة الزهراء: تقول:
اشك يتيم (= دموع اليتيم)
روزى گُذشت پادشهى از گُذرگهى | *** | فرياد شوق بَر سَر هر كوي و بام خاست |
پُرسيد زان ميانه يكي كودك يتيم | *** | كاين تابناك چيست كه بر تاج پادشاست۱ |
آن يك جواب داد چه دانيم ما كه چيست | *** | پيداست آنقدر كه مَتاعي گرانبهاست |
نزديك رفت پير زني كوژپشت و گفت | *** | اين اشك ديدة من و خون دل شماست |
ما را به رخت و چوب شبانى فريفته است | *** | اين گرگ سالهاست كه با گلّه آشناست |
آن پارسا كه دِه خَرَد و مِلْك، رهزن است | *** | آن پادشا كه مال رعيّت خورد گداست |
بر قطرة سرشك يتيمان نظاره كُن | *** | تا بنگري كه روشنى گوهر از كجاست |
پروين به كجروان سخن از راستي چه سود | *** | كو آنچنان كسي كه نرنجد ز حرف راست۱ |
قال الشيخ محمود أبو ريّة المصريّ: قال عبد الرحمن بن مهدي: أئمّة الناس في أزمانهم أربعة: سفيان الثوريّ بالكوفة، و مالك بالحجاز، و الأوزاعيّ بالشام، و حمّاد بن زيد بالبصرة ... و كان (مالك) يتكلّم برأيه
على الاجتهاد و على ما أدرك عليه أهل العلم ببلده ... و قال الدهلويّ في «حجّة الله البالغة»: إن الطبقة الاولى من كتب الحديث منحصرة بالاستقراء في ثلاثة كتب: «الموطّأ»، و «صحيح البخاريّ»، و «صحيح مسلم» ....
سبب تقليل روايات «الموطّأ»
و نقل السيوطيّ في «تنوير الحوالك» عن القاضي أبي بكر بن العربيّ أنّ «الموطّأ» هو الأصل الأوّل، و البخاريّ هو الأصل الثاني. و أنّ مالكاً روى مائة ألف حديث اختار منها في «الموطّأ» عشرة آلاف، ثمّ لم يزل يعرضها على الكتاب و السنّة (أي: السنّة العمليّة» حتى رجعت إلى خمسمائة حديث - أي: الحديث المسند-۱ و رواية ابن الهباب: ثمّ لم يزل يعرضه على الكتاب و السُّنّة و يختبرها بالآثار و الأخبار حتى رجعت إلى خمسمائة حديث.
و ذكر ابن فرحون في «الديباج المذهّب في معرفة أعيان المذهب» (أي: المالكيّ): قال عتيق الزبيديّ: وضع مالك «الموطّأ» على نحو من عشرة آلاف حديث، فلم يزل ينظر فيه كلّ سنة و يسقط منه حتى بقي هذا، و لو بقي قليلًا لأسقطه كلّه.٢
و في شرح الزرقانيّ على «الموطّأ» أنّه ظلّ يخلصها عاماً فعاماً بقدر ما يرى أنّه أصلح للمسلمين و أمثل في الدين.٣
إلى أن قال: و بين الروايات (روايات «الموطّأ») اختلاف كبير من
تقديم و تأخير و زيادة و نقص.۱ و من أكبرها و أكثرها زيادات رواية أبي مصعب. قال ابن حزم: في رواية أبي مصعب زيادة على سائر الموطّآت نحو مائة حديث. و قال السيوطيّ: في رواية محمّد بن الحسن أحاديث يسيرة زيادة عن سائر الموطّآت.
و قد علّل الدكتور أحمد أمين سبب هذا الاختلاف، فقال: إن مالكاً لم ينته من نسخة يؤلّفها و يقف عندها، بل قد كان دائم التغيير فيها، كما روينا من أنّه كان دائم المراجعة للأحاديث و حذف ما لم يثبت صحّته منها. فالذين سمعوا «الموطّأ» سمعوه من مالك في أزمان مختلفة، فكان من ذلك الاختلاف في النسخ، و قد بقي من هذه النسخ بين أيدينا رواية يحيى بن الليثيّ، و هي التي شرحها الزرقانيّ، و رواية محمّد بن الحسن
الشيبانيّ صاحب أبي حنيفة. و فيها أشياء كثيرة ليست في رواية يحيى. و هو يمزج ما روي عن مالك بآرائه فكثيراً ما يقول: قال محمّد.۱
سبب تاليف «الموطّأ» و زمانه٢
الّف «الموطّأ» في أواخر عهد المنصور، و كان ذلك في سنة ۱٤۸ هـ.٣ و كان سبب ذلك كما روى الشافعيّ أنّ أبا جعفر المنصور بعث إلى مالك لمّا قدم المدينة و قال له: إن الناس قد اختلفوا في العراق، فضع للناس كتاباً نجمعهم عليه، فوضع «الموطّأ». و في رواية لغير الشافعيّ أنّه قال له مع ذلك: اجتنب فيه شواذّ ابن عبّاس، و تشدّدات ابن عمر، و رخص ابن مسعود.٤ فقال له مالك: ما ينبغي يا أمير المؤمنين أن نحمل الناس على
قول رجل واحد يُخطئ و يصيب. و قد كان المنصور كما بيّنّا من قبل معتنياً بأمر الحديث و دراسته.
و قد أخرج ابن عبد البرّ أنّ أوّل من عمل كتاباً بالمدينة على معنى «الموطّأ» - من ذكر ما أجمع عليه أهل المدينة - عبد العزيز بن عبد الله بن سلمة الماجشون المتوفّى في سنة ۱٦٤ هـ، و نظر فيه مالك قبل أن يضع موطّأه.
نقد ابن معين لمالك
قال ابن معين: إن مالكاً لم يكن صاحب حديث بل كان صاحب رأي. و قال الليث بن سعد: أحصيتُ على مالك سبعين مسألة، و كلّها مخالفة لسنّة الرسول.
و قد اعترف مالك بذلك. و ألّف الدارقطني جزءاً فيما خولف فيه مالك من الأحاديث في «الموطّأ» و غيره. و فيه أكثر من عشرين حديثاً. و هو من محفوظات المكتبة الظاهريّة بدمشق.۱
الانحراف التدريجيّ لمالك و ركونه إلى المنصور
تهرّب مالك من أمر المنصور بتاليف الرسالة من الجدير ذكره أنّ مالكاً كان في البداية يمتنع من قبول ما أمره به المنصور، لأنّه كان عارفاً بخطره، بَيدَ أنّه استجاب بعد سنين مضت و بعد تعوّده على سماع ما كان يُكرَّر عليه. و كان مالك في أوّل أمره طالباً للعلم و عالماً متتبّعاً كما رأينا في ترجمته الواردة في هذا الكتاب، و ذكرنا حضوره عند الإمام الصادق عليه السلام و مجالسه معه. لكن رائحة الرئاسة و زعامة فقهاء الحجاز قد زكمته شيئاً فشيئاً حتى استجاب لأمر الدوانيقيّ
دعماً لتسلّطه، و لم يأل جهداً في توطيد قواعد عرش ذلك الجبّار السفّاك الذي ليس له مثيل في عصره، و دخل الميدان تدريجاً كالمنصور نفسه في بادئ أمره قبل انتقال الحكومة من الامويّين إلى العبّاسيّين (أي: قبل سنة ۱٣٢ هـ). فقد كان طالباً فاضلًا قانعاً زاهداً، و كان يسافر لطلب العلم و أخذ الرواية. و عُدّ من النموذجيّين اولي الفهم و الكياسة. لكنّه انقلب رأساً على عقب بعد انتقال الحكم، بخاصّة بعد سنة ۱٣٦ هـ حين تصدّى للأمر و أصبح على رأس السلطة الجائرة. فقد تغيّرت شخصيّته و هويّته حتى اختدم جميع علومه - و كان يرى نفسه أعلم أهل زمانه - في طريق الانحراف و الاعتداء على الشعب المسكين و الامّة المستكينة، و لم يبلغ النصاب في ظلمه، بل ضرب الرقم القياسيّ فيه، و فعل كفعل نيرون و سابور ذي الأكتاف.
لقد حجّ المنصور ستّ مرّات، و في سنة مائة و ثلاث و خمسين۱ أمر مالكاً و هو بمنى أن يدوّن الرسائل العمليّة للناس كافّة في أرجاء بلاده، و في السنة التي تلتها حجّ ولده المهدي، و التقى بمالك في المدينة و كان قد دوّن كتب «الموطّأ». و في سنة مائة و ثماني و خمسين٢ مات المنصور في آخر حجّة له، و في سنة مائة و تسع و ستّين مات ولده المهدي،٣ و في السنة التي أعقبتها حجّ هارون و التقى بمالك في المدينة، و كانت القضايا الواقعة بينه و بين هارون في هذه السنة.
و أمّا أوّل سفرة التقى فيها بمالك فقد كانت في سنة مائة و ثماني
و أربعين هجريّة، أي: السنة التي سُمّ فيها الإمام جعفر الصادق عليه السلام و استشهد. و في تلك السنة عمّ غبار الغربة أرض الحجاز و المدينة بفقدان وليّ الله الأعظم الإمام المظلوم المعصوم المسموم، و التقى المنصور في منى بجمع من الإعيان و ذوي السابقة من أترابه القُدامى الذين جاءوا لزيارته، و فيهم مالك بن أنس، و اقترح على مالك تصنيف الكتاب، فرفض ذلك في تلك السنة بصراحة، و لم يَرَ فيه صلاح الإسلام و المسلمين.
قال ابن قتيبة الدينوريّ في هذا المجال: ذكروا أنّ أبا جعفر أمير المؤمنين لمّا استقامت له الامور، و استولى على السلطان خرج حاجّاً إلى مكّة، و ذلك في سنة ثمان و أربعين و مائة. فلمّا كان بمنى أتاه الناس يسلّمون عليه و يهنِّئونه بما أنعم الله عليه. و جاءه رجال الحجاز من قريش و غيرهم و فقهائهم و علمائهم ممّن صاحبه و جامعه على طلب العلم و مذاكرة الفقه و رواية الحديث. فكان فيمن دخل عليه منهم مالك بن أنس. فقال له أبو جعفر: يا أبا عبد الله! أنّي رأيت رؤيا! فقال مالك: يوفّق الله أمير المؤمنين إلى الصواب من الرأي، و يلهمه الرشاد من القول، و يعينه على خير الفعل! فما رأى أمير المؤمنين؟!
فقال أبو جعفر: رأيت أنّي أجلسك في هذا البيت، فتكون من عمّار بيت الله الحرام، و أحمل الناس على علمك، و أعهد إلى أهل الأمصار يوفدون اليك وفدهم، و يرسلون اليك رسلهم في أيّام حجّهم، لتحملهم من أمر دينهم على الصواب و الحقّ إن شاء الله. و إنّما العلم علم أهل المدينة، و أنت أعلمهم!
فقال مالك: أمير المؤمنين أعلى عيناً، و أرشد رأياً، و أعلم بما يأتي و ما يذر. و إن أذِنَ لي أقول، قلتُ! فقال أبو جعفر: نعم، فحقيقٌ أنت أن يُسمع منك، و يصدر عن رأيك. فقال مالك: يا أمير المؤمنين! إن أهل
العراق قد قالوا قولًا تعدّوا فيه طورهم، و رأيتُ أنّي خاطرتُ بقولي، لأنّهم أهل ناحية. و أمّا أهل مكّة فليس بها أحد، و إنّما العلم علم أهل المدينة، كما قال الأمير.
و إن لكلّ قومٍ سلفاً و أئمّة. فإن رأى أمير المؤمنين أعزّ الله نصره إقرارهم على حالهم فليفعل.
فقال أبو جعفر: أمّا أهل العراق فلَا يَقْبَلُ أمير المؤمنين مِنْهُمْ صَرْفاً وَ لَا عَدْلًا، و إنّما العلم علم أهل المدينة. و قد علمنا أنّك إنّما أردت خلاص نفسك و نجاتها.
فقال مالك: أجل يا أمير المؤمنين! فاعفني يعف الله عنك!
فقال أبو جعفر: قد أعفاك أمير المؤمنين. و أيم الله ما أجد بعد أمير المؤمنين۱ أعلم منك و لا أفقه!٢
نفهم من هنا أيضاً أنّ الأعلميّة و الأفقهيّة من جميع الامّة من الشروط الاولى اللازمة للرئيس و الإمام الحاكم في الإسلام. و قد تمسّك المنصور بمالك بن أنس و استشهد به بعد نفسه - التي سمّاها أمير المؤمنين - تثبيتاً لموقعه.
و على هذا الأساس كانت عدم دراية الأئمّة الأربعة لأهل السنّة و عدم فقاهتهم. و هو ما نبّه عليه العالم المصريّ الشيخ محمود أبو ريّة الذي كان من العامّة و قذف الله النور في قلبه حقّاً، فأحصى في كتابه «أضواء على السنّة المحمّديّة» كثيراً من أخطاء كتب العامّة و أصحابها.
قال: لم يكن الأئمّة الأربعة الذين يتبعهم أكثر المسلمين في الأحكام العمليّة مطّلعين على كتب الحديث، و لا سيّما الإمام أبي حنيفة. و لم يكن الحديث مدوّناً في الأسفار فيأخذه منها. و هو مع ذلك معترف بإمامته و اجتهاده عند أتباعه و غيرهم من أهل السنّة. و لم يظهر البخاريّ و لا غيره من كتب الحديث إلّا بعد انقضاء خير القرون.۱
لهذا كان اسّ العلوم الفقهيّة و الحديثيّة و التفسيريّة و غيرها التي تشكّل محور العلوم الإسلاميّة على قاعدة علوم أهل البيت عليهم السلام، و كان أهمّ معلّم و ناشر لها هو الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
و كان أصل هذه العلوم و أساسها من المدينة التي كانت موطناً لأهل البيت، و منهم انتشرت جميع العلوم في كافّة أرجاء العالم، حتى الأئمّة الأربعة لمذاهب العامّة مع إظهارهم الاستقلال، لكنّ جميع علومهم كانت من أهل البيت، سواء الإمام الصادق، أم أبوه و جدّه حتى يصل الدور إلى مولى الموحّدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان فارس الحلبة في ميدان العلم و الدراسة و القرآن و الأدب و الخطابة و البلاغة و العلوم الإلهيّة و المعارف السبحانيّة، و قد نوّر العالم بتلك القناديل الوضّاءة و المصابيح المتوهّجة، و أخرج البشريّة من ظلمات الجهل إلى نور العلم و العرفان.
و نلحظ اليوم بعد مضي أربعة عشر قرناً على عصر أمير المؤمنين عليه السلام و ثلاثة عشر قرناً على عصر الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّ الكتب تُصنَّف، و يُماط اللثام عن كثير من الجهالات، و يُثبت أنّ كلّ ما كان و يكون فهو من علومهم. و يتّفق الصديق و العدوّ على ذلك في عصرنا
هذا، و يدور الحديث حول عظمة الإمام الصادق بلهجة واحدة.
كلام عبد الحليم الجنديّ في انتقال الفقه من المدينة إلى العراق
قال المستشار عبد الحليم الجنديّ الذي كان من أعضاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة بمصر في كتاب «الإمام جعفر الصادق» بعد بحوث مفصّلة رائعة تستحقّ الاهتمام، مع أنّه عامّيّ المذهب: و من المدينة انطلق الفقه الإسلاميّ إلى العراق، حيث أقام عبد الله بن مسعود زماناً معلّماً و وزيراً كما سمّاه عمر. و تعلّم عليه تلاميذه و تلاميذ عليّ، كعبيدة، و علقمة، و الحارث. و عن طريق علقمة تعلّمت مدرسة النخعيّين يتقدّمها الأسود و عبد الرحمن، و يتوسّط عقدها إبراهيم بن يزيد شيخ حمّاد بن أبي سليمان.
و في حلقة حمّاد بالكوفة قضى أبو حنيفة عشرين عاماً يتعلّم، ليصبح عَلَماً على مدرسة الرأي و القياس الذي قعّد قواعده الشافعيّ فانتشر في كلّ فروع العلم الإسلاميّ.
و هوى أبي حنيفة مع أبناء عليّ معروف، وصلة فكره بزعماء أهل البيت واضحة. و إن مذهبه ليقارب المذهب الزيديّ أكثر ممّا يقارب المذهب الحنفيّ غيره من مذاهب أهل السُّنّة كما قيل.
و لقد استشهد زيد - بن زين العابدين - سنة ۱٢۱. و في ذلك العهد جلس أبو حنيفة مجلس حمّاد بن أبي سليمان بعد وفاته. و شرع يدوّن بعض مذهبه و كثيراً من الفروع. ثمّ مكن أبو يوسف للمذهب بتولية زملائه القضاء ليلزموا الناس به. ثمّ نشره محمّد بن الحسن بتدوينه في كتبه الشهيرة.
و تدوين الفقه في كتاب «المجموع» قد سبق به زيد مدرسة أبي حنيفة. و لعلّ أبا حنيفة تعلّم تدوين الفقه عليه. بل إن الجميع قد قلّدوا فيه صنيع أهل البيت أنفسهم. و لديهم الكتب فيها العلم، أحاديث و فقهاً،
يتعلّمونه كابراً عن كابر.
فالحجاز و العراق قد تضامنا في إنتاج الفقه لتتابعهما بعد ذلك شتّى الحواضر في الفسطاط و دمشق و قرطبة و القيروان، و في المغرب، و في المشرق، و في الأندلس و وسط آسيا.
و ظاهر من هذا التأريخ امور:
۱ - أنّ المذاهب الفقهيّة جميعاً بما فيها المذاهب الباقية إلى اليوم لأهل السُّنّة، يتصدّرها في الظهور مذهب أهل البيت على يد زيد بن عليّ زين العابدين. و كذلك يسبق المذهب الزيديّ مذهب الإمام جعفر الصادق الذي تبعه الأئمّة من نسله، و صار يسمّى مذهب الإماميّة. فالصادق صار إماماً بموت أبيه الباقر في العقد الثاني من المائة الثانية. ثمّ كانت وفاته بعد استشهاد عمّه زيد سنة ۱٢۱ بسبعة و عشرين عاماً، سنة ۱٤۸.
أمّا أبو حنيفة فمات في سجن أبي جعفر المنصور سنة ۱٥۰. و أمّا مالك فمات بعد أبي حنيفة بتسعة و عشرين عاماً سنة ۱۷٩. و الشافعيّ مات بعد أبي حنيفة بأربعة و خمسين عاماً سنة ٢۰٤. و لحق بهم ابن حنبل سنة ٢٤۱. و أصحاب المذاهب الاخرى بين معاصرين لهم أو لاحقين.
المذهب الجعفريّ يبطل القياس
٢ - أنّ الإمام جعفراً كما سنرى ينهى عن استعمال القياس كمثل ما يرفضه فقهاء المدينة عموماً و المحدّثون خصوصاً. و هم زعماء الفقه في المائة الاولى.
و سنرى بعد أن نهى الصادق عن القياس لا يعارض الاجتهاد، بل إنّه ليأمر به، و يبلغ بمنهاجه في الاجتهاد ما يبلغه سواه.
و سنرى أنّ منهاجه في الاعتبار و الاستخلاص هو منهج الفكر الإسلاميّ، نقله عنه الفكر العالميّ.
٣ - أنّ البيئة التي عاش فيها أهل البيت ستّين عاماً بعد مجزرة
كربلاء، كانت منجبة، بظهور العلم و العلماء من الرجال و النساء. فشاركت المرأة في العلم من عهد امّهات المؤمنين. و وجدت الفقيهات في جيل التابعين و تابعي التابعين من أهل السُّنّة. فتصدّرت نساء أهل البيت سكينة ابنة الحسين (۱۱۷). و كانت برزة، تساجل فحول الشعراء، بل الفقهاء.۱
و جملة القول يستفاد من مجموع ما ذُكر أنّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام كان من حيث الأنوار المُلكيّة و الملكوتيّة في أعلى قبّة عالم وحدة الحقّ المتعال، و في ذروة العرفان الأسنى، و العلوم المترشّحة من ذات المنّان المقدّسة. و كان كافّة الطلّاب من الأربعة آلاف بعامّة، و من أمثال هشام بن سالم، و هشام بن الحكم، و أبان بن تغلب و نظرائهم بخاصّة قد أصابوا حظّاً من جميع العلوم الإلهيّة و غيرها. و الذين كانوا مثلهم كانوا يعرفونه بالولاية الإلهيّة الكلّيّة المطلقة، و قد رووا أدعيته و أحواله الخاصّة التي تدلّ على كمال العبوديّة أمام الربّ الجليل، و هي ملازمة للإحاطة العلميّة و السيطرة القدرتيّة و الأنوار المُلكيّة و الملكوتيّة على عالم الوجود، و دوّنوها في الكتب.
و الأشخاص الذين لم يعرفوه بهذا المقام كمالك و أبي حنيفة، و اعتبروه رجلًا عاديّاً أو نابغة كحدّ أعلى - كما ذهب إلى ذلك أحمد أمين المصريّ - اكتفوا بعلومه الظاهريّة. و ذهبوا إلى أنّه عالم محترم و شيخ من مشايخ أهل البيت كعبد الله المحض، و الحسن المثنّى، و الحسن المثلّث. لهذا يحارون في الأدعية و الروايات التي تعبّر عن أحواله الخاصّة. و خلواته و أسرارها. و يتمرّغون في الوحل كالحمير في فهمها.
و لم يعلم هؤلاء المساكين أنّ تلك المعاني غزيرة في تضاعيف كتب
الصوفيّة، و كتب عرفائهم كمحيي الدين بن عربي، و هذا أمر لا يُنكر بالنسبة إليهم. أمّا ما ذنب الإمام الصادق عليه السلام حتى يجعلوه أوطأ من اولئك و أقلّ درجة منهم؟ فهذا شيء لا يعلمه إلّا هم و معلّمهم الشيطان الأكبر.
كلام قادح لاحمد أمين في الإمام الصادق عليه السلام
يقول أحمد أمين بك على سبيل التهكّم و الكناية و القدح في ذلك الإمام بالحقّ صلوات الله و سلامه عليه: و كثير من أحاديث الإمامة و نظمها تروي عنه، من أهمّها ما رواه جعفر الصادق عن علي بن أبي طالب في كيفيّة خلق العالم، و انتقال النور من آدم إلى نبيّنا صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، إلى أن قال:
ثُمّ انْتَقَلَ النُّورُ إلى غَرائِزِنَا، وَ لَمَعَ في أئِمَّتِنَا. فَنَحْنُ أنْوَارُ السَّمَاءِ وَ أنْوَارُ الأرْضِ، فِينَا النَّجَاةُ، وَ مِنَّا مَكْنُونُ العِلْمِ، وَ الينَا مَصِيرُ الامورِ. وَ بِمَهْدِيِّنَا تَنْقَطِعُ الحُجَجُ، خَاتِمَةُ الأئِمَّةِ، وَ مَنْقِذُ الامَّةِ، وَ غَايَةُ النُّورِ، وَ مَصْدَرُ الامُورِ.
فَنَحْنُ أفْضَلُ المَخْلُوقِينَ، وَ أشْرَفُ المُوحِّدِينَ، وَ حُجَجُ رَبِّ العَالَمِينَ، فَلْيَهْنَأ بِالنِّعْمَةِ مَنْ تَمَسَّكَ بِوَلَايَتِنَا، وَ قَبْضَ عُرْوَتَنَا.۱
و من هذا و نحوه يظنّ أنّ فكرة المهديّة، و عصمة الأئمّة و تقديسهم و إعلاء شأنهم نبتت في ذلك العصر، عصر الإمام جعفر الصادق.٢
و قال أحمد أمين بك أيضاً: و له أقوال كثيرة منثورة في الكتب تدلّ على حكمته، و بعد نظره، و سعة علمه.
و إنّما قلنا: إنّه لوّن معنى الإيمان لوناً خاصّاً لما رُوي عنه من بعض
الأقوال التي تدلّ على أنّ الله جعل لمحمّد نوراً، ثمّ تنقّل هذا النور إلى أهل بيته، كالذي ذكره المسعوديّ من حديث نسبه الإمام جعفر إلى الإمام عليّ، جاء فيه:
إن اللهَ أتَاحَ نُوراً مِنْ نُورِهِ فَلَمَعَ، وَ نَزَعَ قَبَساً مِنْ ضِيَائِهِ فَسَطَعَ ... .
ثُمَّ اجْتَمَعَ النُّورُ في وَسَطِ تِلْكَ الصُّورَةِ الخَفِيَّةِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ صُورَةَ نَبِيِّنَا مَحُمَّدٍ.
فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: أنْتَ المُخْتَارُ المُنتَخَبُ، وَ عِنْدَكَ مُسْتُوْدَعُ نُورِي وَ كُنُوزُ هِدَايَتِي. مِنْ أجْلِكَ اسَطِّحُ البَطْحَاءَ، وَ امَوِّجُ المَاءَ، وَ أرْفَعُ السَّمَاءَ، وَ أنْصِبُ أهْلَ بَيْتِكَ لِلْهِدَايَةِ، وَ اوتِيهِمْ مِنْ مَكْنُونِ عِلْمِي مَا لَا يُشْكِلُ بِهِ عَلَيْهِمْ دَقِيقٌ، وَ لَا يَغِيبُ عَنْهُمْ بِهِ خَفِيّ. وَ أجْعَلُهُمْ حُجَّتِي عَلَى بَرِيَّتِي، وَ المُنَبِّهِينَ عَلَى قُدْرَتِي وَ وَحْدَانِيَّتِي.
و نحو ذلك من الأقوال المنسوبة إليهم. فكلّ هذا جعلنا ننسب إلى الإمام جعفر الصادق صبغته للإمام صبغة جديدة لم نكن نعرفها من قبل.۱
و قد لاحظنا في أوّل البحث عند تعريف الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّ هذه الحقائق ظهرت من الإمام، بَيدَ أنّها ليست بمعنى صبغة جديدة في الإسلام، و تلوّنه بهذا اللون، بل بمعنى إبداء الصبغة الحقيقيّة للإسلام و إبراز اللون الواقعيّ له، إذا لم يكشف عنه، و لم تُبيَّن حقيقة النبوّة المندمجة في الولاية حتى عصر الإمام. و هذا هو سبب تسمية المذهب بالمذهب الجعفريّ، و هو الصبغة الحقيقية للإسلام مقرونة بنور العرفان و حقيقة الولاية إلى الآن، بل إلى الأبد. و لا يبقى من الإسلام بدونه إلّا الاسم و إلّا قشور جوفاء.
و أمّا كلام أحمد أمين كما أشرنا إليه فهو واهٍ، إذ ذكر أنّ الأئمّة الاثني عشر للشيعة لمّا لم يتولّوا الحكم، فادّعاء العصمة لهم غير مضحك على عكس بني اميّة و بني العبّاس للذين لو ادُّعيت لهم العصمة فهذا الادّعاء مهزلة تُقابَل بالضحك، لهذا لم يدّع أحد منهم بالعصمة.۱
فلم يتحرّك أئمّة الشيعة في طريق الباطل و لم يتجاوزوا الحقّ مع كمال قدرتهم و غاية إمكانيّاتهم.
إن النجابة و الأصالة و السيادة و الكرامة و المجد و الفتوّة و المروءة في أهل البيت مشهودة من حيث الأصل عند صغيرهم و كبيرهم، و مع أنّهم بشراً بَيدَ أنّ هذا المعدن هو غير سائر المعادن. فقد ظهرت من امرأتهم و رجلهم، و عامّيّهم و عالمهم صفات سامية حميدة.
و ننقل لكم فيما يأتى قصّة عن محمّد بن زيد بن إمام الساجدين عليّ ابن الحسين عليهما الصلاة و السلام كنموذج على ما نقول. فقد سلك هذا الرجل سبيل الإنصاف و الفتوّة، و لم يتجاوز الحقّ، و لم يقتل أخاً بأخ، و لم يقتصّ من ولد بريء بسبب جرم أبيه مع أنّه كان في ذروة القوّة و الإمكانيّات و في أوج الاستيلاء على العدوّ الدمويّ المهلك الفتّاك.
عظمة محمّد بن زيد في معاملة ابن هشام الامويّ
قال السيّد على خان المدنيّ الكبير في «شرح الصحيفة السجّاديّة»: و أمّا محمّد بن زيد فيكنّى أبا جعفر، و امّه امّ ولد سنديّة، و هو أصغر ولد أبيه. و كان في غاية الفضل و نهاية النبل. فيُحكى أنّ المنصور عرض عليه جوهراً فاخراً و هو بمكّة فعرفه، و قال: هذا جوهر كان لهشام بن عبد الملك، و قد بلغني أنّه عند ابنه محمّد و لم يبق منهم غيره، ثمّ قال للربيع: إذا كان غد و صلّيت بالناس في المسجد الحرام فأغلق الأبواب كلّها
و وكّل بها ثقاتك، ثمّ افتح باباً واحداً وقف عليه، و لا يخرج إلّا من تعرفه. ففعل الربيع ذلك.
و عرف محمّد بن هشام أنّه المطلوب، فتحيّر. و أقبل محمّد بن زيد المذكور فرآه متحيّراً و هو لا يعرفه، فقال له: يا هذا أراك متحيّراً، فمن أنتَ؟!
قال: ولى الأمان؟ قال: و لك الأمان، و أنت في ذمّتي حتى اخلّصك!
قال: أنا محمّد بن هشام بن عبد الملك. فمن أنت؟!
قال: أنا محمّد بن زيد.
فقال: عند الله أحتسب نفسي إذاً.
فقال: لا بأس عليك، فإنّك لستَ بقاتل زيد، و لا في قتلك درك بثأره. الآن خلاصك أولى من إسلامك. و لكن تعذرني في مكروهٍ أتناولك به، و قبيح اخاطبك به، يكون فيه خلاصك!
قال: و أنت ذاك.
فطرح بردائه على رأسه و وجهه و أقبل يجرّه. فلمّا أقبل على الربيع لطمه لطمات، و قال: يا أبا الفضل! إن هذا الخبيث جمّال من أهل الكوفة أكراني جماله ذهاباً و إياباً و قد هرب منّي في هذا الوقت، و أكرى قوّاد الخراسانيّة ولى عليه بذلك بيّنة، فضُمَّ إلى حارسَين لئلّا يفلت منّي.
فضمّ إليه حارسَين فمضيا معه. فلمّا بعد من المسجد، قال له: يا خبيث! تؤدّي إلى حقّي؟ قال: نعم يا بن رسول الله!
فقال للحرسَين: انطلقا! ثمّ أطلقه، فقبّل محمّد بن هشام رأسه، و قال: بأبي أنت و امّي اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ!۱ ثمّ أخرج جوهراً
له قَدْر، فدفعه إليه، و قال: تشرّفني بقبول هذا!
فقال: إنَّا أهْلُ بَيْتِ لَا نَقْبَلُ عَلَى المَعْرُوفِ ثَمَناً.
و قد تركت لك أعظم من هذا، دم زيد بن عليّ، انصرف راشداً و وارِ شخصك حتى يرجع هذا الرجل (المنصور). فإنّه مجدّ في طلبك.
فعُدّت هذه الفعلة من مكارم شيمه و عظيم همّته.۱
ذهب المحدِّث القمّيّ إلى أنّ محمّداً هو أصغر أولاد زيد، و قال: كان كثير الفضل كامل النُّبل، و قصّة فتوّته و مروءته معروفة نقلها الداعي الكبير للسادات و العلويّين، و جعلها اسوة له، و سار سيرتها. و قد أوردناها في ص ۱۸۱ من كتاب «منتهى الآمال» عند ذكر أولاد الإمام الحسن عليه السلام.٢
نماذج الاصالة عند محمّد بن زيد العلويّ
أقول: إن ذلك التعليم و المقتدى كان من أخي الداعي الكبير، لا منه. و توضيح ذلك أنّه ذكر ترجمة الداعي الكبير الأمير حسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن حسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام
اولَئِكَ آبَائِي فَجِئنِي بمثلهم | *** | إذا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيرُ المَجامِعُ |
مفصّلًا، و أورد أنّه استولى على طبرستان سنة ٢٥٢ هـ و حكم عشرين سنة. و حكم بعده أخوه محمّد بن زيد الحسنيّ. إلى أن قال:
كان محمّد بن زيد فحلًا في العلم و الفضل و رجلًا عظيماً في السماحة و الشجاعة. و كان العلماء و الشعراء يرون فيه ملاذاً لهم. و كان قانونه أنّه ينتظر بيت المال في آخر كلّ سنة، فما زاد على النفقات يوزّعه على قريش و الأنصار و الفقهاء، و القرّاء و سائر الناس، و لم يترك فيه حبّة واحدة.
حدث مرّة أنّه بدأ بعطاء بني عبد مناف في إحدث السنين، و فرغ من عطاء بني هاشم، فدعا طبقة اخرى من عبد مناف. و قام رجل لأخذ العطاء فسأله محمّد بن زيد: من أيّ قبيلة؟! قال: من أولاد عبد مناف.
قال: من أيّ بطن؟! قال: من بني اميّة!
قال: من أيّ سلسلة؟! فلم يجب.
قال: من بني معاوية؟! قال: أجل.
قال: من أيّ أولاده؟! فسكت.
قال: من أولاد يزيد؟! قال: نعم.
قال: ما أحمقك رجلًا! طمعت في عطاء أولاد أبي طالب و هم يطلبونك بثأر! إن كنتَ جاهلًا بما فعل جدّك فما أغفلك و أجهلك! و إن كنتَ عالماً به فقد أهلكت نفسك!
لمّا سمع العلويّون هذه الكلمات نظروا إليه شزراً و أرادوا قتله. فصاح بهم محمّد بن زيد، و قال: لا تضمروا له سوءاً، فمن آذاه عاقبته. أ تظنّون أنّكم تطلبون بثأر الحسين عليه السلام منه؟! فالله لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره!
اسمعوا حتى احدِّثكم بحديث اعملوا به. أخبرني أبي زيد أنّ
المنصور كان قد ذهب إلى مكّة ذات يوم، فاتي إليه بجوهر نفيس.
و سرد المرحوم المحدِّث القمّيّ هذه الحكاية برمّتها.۱
شعر الشافعيّ في مقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام
إن ذلك الجوهر النفيس هو وجود الأئمّة الذي ميّزهم عن الآخرين، و رفع علم الكرامة على رؤوسهم كما قرأنا للشافعيّ قوله في قبر موسى بن جعفر عليهما السلام: قَبْرُهُ تِرْقَاقٌ مُجَرَّبٌ. و هو نفسه يتأوّه و يتألّم و يتحسّر على مقتل سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام، و يقول في رثائه:
تأوَّهَ قَلْبِي وَ الفُؤَادُ كَئِيبُ | *** | وَ أرَّقَ نَوْمِي فَالسُّهَادُ عَجِيبُ |
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي الحُسَيْنَ رَسَالَةً | *** | وَ إن كَرِهَتْهَا أنْفُسٌ وَ قُلُوبُ |
ذَبِيحٌ بِلَا جُرْمٍ كَأنَّ قَمِيصَهُ | *** | صَبِيغٌ بِمَاءِ الارْجُوَانِ خَضِيبُ |
فَلِلسَّيْفِ أعْوَالٌ وَ لِلرُّمْحِ رَنَّةُ | *** | وَ لِلْخَيْلِ مِنْ بَعْدِ الصَّهِيلِ نَحِيبُ |
تَزَلْزَلَتِ الدُّنْيَا لآلِ مُحَمَّدٍ | *** | وَ كَادَتْ لَهُمْ صُمُّ الجِبَالِ تَذُوبُ |
وَ غَارَتْ نُجُومٌ وَ اقْشَعَرَّتْ كَوَاكِبٌ | *** | وَ هُتِّكَ أسْتَارٌ وَ شُقَّ جُيُوبُ |
يُصَلَّيعَلَى المَبْعُوثِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ | *** | وَ يُغْزَي بَنُوهُ إن ذَا لَعَجِيبُ |
لَئِنْ كَانَ ذَنْبِي حُبُّ آلِ محَمَّدٍ | *** | فَذَلِكَ ذَنْبٌ لَسْتُ مِنْهُ أتُوبُ |
هُمُ شُفَعَائِي يَوْمَ حَشْرِي وَ مَوْقِفِي | *** | إذَا مَا بَدَتْ لِلنَّاظِرينَ خُطُوبُ٢ |
اولئك آبائي فجِئني بِمِثْلِهِمْ | *** | إذَا جَمَعْتَنَا يَا جَرِيرُ المَجَامِعُ (منه) |
و مِمّا نفى جسمي و شيّب لُمّتي | *** | تصاريف أيّامٍ لهنَّ خطوبُ |
أ ليس هذا هو الجلال و العظمة و الابّهة المعنويّة و الكمال الروحانيّ الذي عبّر عنه أبو هريرة العجليّ أمام جنازة الإمام الصادق عليه السلام كما ذكره المحدِّث القمّيّ؟ و قال:
و رُوي عن عيسى بن داب أنّه لمّا وُضع جثمان الإمام الصادق عليه السلام على السرير و حُمل إلى البقيع لدفنه، أنشد أبو هريرة العجليّ الذي كان من شعراء أهل البيت المجاهرين قائلًا:
أقُولُ وَ قَدْ رَاحُوا بِهِ يَحْمِلُونَهُ | *** | عَلَى كَاهِلٍ مِنْ حَامِلِيهِ وَ عَاتِقِ |
أ تَدْرُونَ مَا ذَا تَحْمِلُونَ إلى الثَّرَى | *** | ثَبِيراً ثَوَى مِنْ رَأسِ عَلْيَاءِ شَاهِقِ |
غَدَاةَ حَثَي الحَاثُونَ فَوْقَ ضَرِيحِهِ | *** | تُراباً وَ أوْلَى كَانَ فَوقَ المَفَارِقِ۱ |
و نحن نقرأ في زيارة سيّد الشهداء عليه السلام: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ نُوحٍ نَبِيّ اللهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ .... إلى آخرها.٢
فَجعفرٌ الصادقُ من وُلْدهِ | *** | خَبَّرنا من فضله بالتمام |
عن جدِّه إن لِمَن زاره | *** | ثوابُ حِجِّ البيت سبعين عام |
و حديثٌ عن الأئمّة فيما | *** | قد روينا عن الشيوخ الثقات |
إن من زاره كمن زار ذا العرش | *** | على عرشه بغير صفات |
و نقرأ في زيارة الإمام جعفر الصادق و الأئمّة المدفونين في البقيع عليهم السلام: السَّلَامُ عَلَيْكُم أئِمَّةَ الهُدَى، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ التَّقوى، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أيُّهَا الحُجَجُ عَلَى أهْلِ الدُّنْيَا.
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أيُّهَا القُوَّامُ في البَرِيَّةِ بِالقِسْطِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ الصَّفْوَةِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ آلَ رَسُولِ اللهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ النَّجْوَى، أشْهَدُ أنَّكُمْ قَدْ بَلَّغْتُمْ وَ نَصَحْتُمْ وَ صَبَرْتُمْ في ذَاتِ اللهِ، وَ كُذِّبْتُمْ وَ اسِيءَ إلَيْكُمْ
فَغَفَرْتُمْ.
وَ أشْهَدُ أنَّكُمْ الأئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ المُهْتَدُونَ، وَ أنَّ طَاعَتَكُمْ مَفْرُوضَةٌ، وَ أنَّ قَوْلَكُمُ الصِّدقُ، وَ أنَّكُمْ دَعَوْتُمْ فَلَمْ تُجابُوا، وَ أمَرْتُمْ فَلَمْ تُطَاعُوا.
وَ أنَّكُمْ دَعَائِمُ الدِّينِ، وَ أرْكَانُ الأرْضِ، لَمْ تَزَالُوا بِعَيْنِ اللهِ يَنْسَخُكُمْ مِنْ أصْلَابِ كُلِّ مُطَهَّرٍ، وَ يَنْقُلُكُمْ مِنْ أرْحَامِ المُطَهَّرَاتِ، لَمْ تُدَنِّسْكُمْ الجَاهِلِيَّةِ الجَهْلَاءُ، وَ لَمْ تَشْرَكْ فِيكُمْ فِتَنُ الأهْوَاءِ.
طِبْتُمْ وَ طَابَتْ مَنْبَتُكُمْ، مَنَّ بِكُمْ عَلَيْنَا دَيَّانُ الدِّينِ فَجَعَلَكُمْ في بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.
وَ جَعَلَ صَلَاتَنَا عَلَيْكُمْ رَحْمَةً لَنَا وَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِنَا، إذِ اخْتَارَكُمُ اللهُ لَنَا، وَ طَيَّبَ خَلْقَنَا بِمَا مَنَّ عَلَيْنَا مِنْ وَلَايَتِكُمْ، وَ كُنَّا عِنْدَهُ مُسَمَّيْنَ بِعِلْمِكُمْ، مُعْتَرِفِينَ بِتَصْدِيقِنَا إيَّاكُمْ - إلى آخر الزيارة.۱
أ ليس معنى الإرث من جميع الأنبياء، و معنى هذه الزيارة واحداً؟ و مفادهما واحداً؟
فضيلة زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام
فنحن على الحوض ذُوّادُه | *** | نَذودُ و نُسْعِد وُرّاده |
فما فاز مَن فاز إلّا بنا | *** | و ما خاب من حُبُّنا زاده |
فمن سَرَّنا نال مِنَّا السُّرور | *** | و من ساءَنا ساء ميلاده |
و من كان غاصبَنا حَقَّنا | *** | فيوم القيامة ميعاده |
أ ليس مفاد مضامينها و مضمون القصيدة العصماء للشيخ كاظم الازريّ رضوان الله عليه واحداً؟
أبيات من القصيدة الازريّة في عظمة مقام الائمّة
تلك القصيدة التي نُقِل عن شيخ الفقهاء العظام خاتم المجتهدين الفخام الشيخ محمّد حسن صاحب «جواهر الكلام» أنّه كان يتمنّى أن تُكتب في صحيفة أعماله، و أن يكتب «جواهر الكلام» - في المقابل - في صحيفة الازريّ!
من أبياتها:
إن تِلْكَ القُلُوبَ أقْلَقَهَا الوَجْدُ | *** | وَ أدْمَى تِلكَ العُيُونَ بُكَاهَا |
كَانَ أنْكَى الخُطُوبِ لَمْ يُبْكِ مِنِّي | *** | مُقْلَةً لَكِنِ الهَوَى أبْكَاهَا |
إلى أن قال:۱
لَسْتُ أنْسَى مَنَازِلَ قُدْسٍ | *** | قَدْ بَنَاهَا التُّقَى فَأعْلَا بِنَاهَا |
وَ رِجَالًا أعِزَّةً في بُيُوتٍ | *** | أذِنَ اللهُ أنْ يُعَزَّ حِمَاهَا |
كُلَّ يَوْمٍ للحَادِثَاتِ عَوَادٍ | *** | لَيْسَ يَقْوَى رَضْوَى عَلَى مُلْتَقَاهَا |
كَيْفَ يُرْجَى الخَلاصُ مِنْهُنَّ إلَّا | *** | بِذَمامٍ مِنْ سَيِّدِ الرُّسلِ طَه |
مَعْقِلُ الخَائِفِينَ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ | *** | أوْفَرُ العُرْبِ ذِمَّةً أوْفَاهَا |
مَصْدَرُ العِلْمِ لَيْسَ إلَّا لَدَيْهِ | *** | خَبَرُ الكَائِنَاتِ مِنْ مُبْتَدَاهَا |
فَاضَ لِلْخَلْقِ مِنْهُ عِلْمٌ وَ حِلْمٌ | *** | أخَذَتْ مِنْهُمَا العُقُولُ نُهاهَا |
نَوَّهَتْ بِاسْمِهِ السَّمَاوَاتُ وَ الأرْضُ | *** | كَمَا نَوَّهَتْ بِصُبْحٍ ذُكَاهَا |
وَ غَدَتْ تَنْشُرُ الفَضَائِلَ عَنْهُ | *** | كُلُّ قَوْمٍ عَلَى اخْتِلَافِ لُغَاهَا |
طَرِبَتْ لِاسْمِهِ الثَّرَى فَاسْتَطَالَتْ | *** | فَوْقَ عُلْوِيَّةِ السَّمَا سُفْلَاهَا |
جَازَ مِنْ جَوْهَرِ التَّقَدُّسِ ذَاتاً | *** | تَاهَتِ الأنْبِيَاءُ في مَعْنَاهَا |
لَا تُجِلْ في صِفَاتِ أحْمَدَ فِكْراً | *** | فهي الصُّورَةُ التي لَنْ تَرَاهَا |
أيّ خَلْقٍ لِلَّهِ أعْظَمُ مِنْهُ | *** | وَ هُوَ الغَايَةُ التي اسْتَقْصَاهَا |
قَلَّبَ الخَافِقَيْنِ ظَهْراً لِبَطْنٍ | *** | فَرَأى ذَاتَ أحْمَدٍ فَاجْتَبَاهَا |
سَادَةٌ لَا تُرِيدُ إلَّا رِضَي اللهِ | *** | كَمَا لَا يُريدُ إلَّا رِضَاهَا |
خَصَّهَا مِنْ كَمَالِهِ بِالمَعَانِي | *** | وَ بِأعْلَى أسْمَائِهِ سَمَّاهَا |
لَمْ يَكونُوا لِلْعَرْشِ إلَّا كُنُوزاً | *** | خَافِيَاتٍ سُبْحَانَ مَنْ أبدَاهَا |
كَمْ لَهُمْ ألْسُنٌ عَنِ اللهِ تُنْبِي | *** | هِيَ أقْلَامُ حِكْمَةٍ قَدْ بَرَاهَا |
وَ هُمُ الأعْيُنُ الصَّحِيحَاتُ تَهْدِي | *** | كُلَّ عَيْنٍ مَكْفُوفَةٍ عَيْنَاهَا |
عُلَمَاءٌ أئِمَّةٌ حُكَمَاءٌ | *** | يَهْتَدِي النَّجْمُ بِاتِّبَاعِ هُدَاهَا |
قَادَةٌ عِلْمُهُمْ وَ رَأى حِجَاهُمْ | *** | مَسْمَعَا كُلِّ حِكْمَةٍ مَنْظَرَاهَا |
مَا ابَالِي وَ لَوْ اهِيلَتْ عَلَى الأرْضِ | *** | السَّمَاوَاتُ بَعْدَ نَيْلِ وَلَاهَا۱ |
قال العلّامة المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ٤٥، ص ٢۸۸: الطبعة الحديثة و روى أنّ أبا يوسف عبد السلام بن محمّد القزوينيّ ثمّ البغداديّ قال لأبي العلاء المعرّيّ: هل لك شعر في أهل بيت رسول الله؟ فبعض شعراء قزوين يقول فيهم ما لا يقول شعراء تَنُوخ. فقال له المعرّيّ: و ما ذا تقول شعراؤهم؟ فقال: يقولون:
رَأسُ ابْنِ بِنْتِ محَمَّدٍ وَ وَصِيِّهِ | *** | لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قَنَاةٍ يُرْفَعُ |
وَ المُسْلِمُونَ بِمَنْظَرٍ وَ بِمَسْمَعٍ | *** | لَا جَازِعُ مِنْهُمْ وَ لَا مُتَوَجِّعُ |
أيْقَظْتَ أجْفَاناً وَ كُنْتَ لَهَا كَرَى | *** | وَ أنَمْتَ عَيْناً لَمْ تَكُنْ بِكَ تَهْجَعُ |
كَحَلتْ بِمَنْظَرِكَ العُيُونُ عَمَايَةً | *** | وَ أصَمَّ نَعْيُكَ كُلَّ اذْنٍ تَسْمَعُ |
إن تِلْكَ القُلُوبَ أقْلَقَهَا الوَجْدُ | *** | ... |
مَا رَوضَةٌ إلَّا تَمَنَّتْ أنَّهَا | *** | لَكَ مَضْجَعٌ وَ لِخَطِّ قَبْرِكَ مَوْضِعُ |
فقال المعرّيّ: و أنا أقول:
مَسَحَ الرَّسُولُ جَبِينَهُ فَلَهُ بَرِيقٌ في الخُدُودِ | *** | أبَوَاهُ مِنْ عُلْيَا قُرَيْشٍ جَدُّهُ خَيْرُ الجُدُودِ |
للّه الحمد و له الشكر فقد تمّ الجزءان السادس عشر و السابع عشر من دورة «معرفة الإمام» من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة بتأييد الله سبحانه و تسديده بين الطلوعين يوم الأربعاء الأوّل من شهر رجب الحرام سنة ألف و أربعمائة و أربع عشرة من الهجرة المصادف ذكرى الميلاد السعيد للإمام باقر العلوم محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام في الأرض الرضويّة المقدّسة على شاهدها أفضل السلام و أكمل التحيّة و الإكرام بِمَنِّهِ وَ جُودِهِ وَ كَرَمِهِ إنَّهُ هُوَ المَنَّانُ الجَوَادُ الكَرِيمُ.
و لا يخفى أنّه لمّا كانت مطالب هذين الجزءين متّسقة متماسكة. و كان جعلها في مجلّد واحد خارجاً عن المألوف، و كان وضعها في جزءين مستقلّين باعثاً على تشتّت الموضوع، لهذا جعلناها في جزءين هما السادس عشر و السابع عشر، و نقدّمها للقرّاء الكرام بهذا الشكل. و سنقوم بتاليف الجزء الثامن عشر من هذه الدورة إن شاء الله تعالى، وَ اللهُ المُسْتَعَانُ.
اللَهُمَّ صَلِّ وَ سَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرينَ، وَ الْعَنْ أعْدَاءَهُمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيَامِ يَوْمِ الدِّينِ.
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ.