خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته

الجزء الأوّل

1058
مشاهدة المتن

المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي

القسم الاخلاق والحکمة والعرفان


التوضيح

التعريف: هل يُمكن بيان الحقائق التوحيديّة من قِبل غير الواصل إليها؟ ما هي خصائص كلام أولياء الله؟ إلى ماذا يدعو دعوة العارف الكامل؟ ما هي حقيقة التوسّل من منظور العارف الموحّد؟ إلى ماذا ينسب العارف الحقيقيّ تبدّل الحالات واختلاف المقامات؟ هل يقتصر العارف على الدعوة إلى ظاهر الإمام؟ كيف هي رؤية أولياء الله تعالى للكرامات وخوارق العادات؟ هل يمتلك العارف الكامل إحاطة كلّية حضوريّة بجميع الأمور والنفوس ومصالحها ومفاسدها، أم لا؟ ما هي الأضرار الجسيمة المترتّبة على الانقياد لإنسان غير كامل؟ هي يجب بالضرورة انسجام الدستورات السلوكيّة مع الحالات الروحيّة للسالك؟ هل يخرج فعل الإنسان الكامل عن سلسلة العلل والأسباب؟ ما هي رؤية أولياء الله تعالى للمصائب والابتلاءات؟ هل ينبغي الاقتصار على تفعيل الاستعدادات الإنسانيّة في جانب الجمال فقط؟
هي تساؤلات سعت هذه المقالة إلى الإجابة عنها بنحو مختصر وواضح.

/۱۳
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته

  • الجزء الأوّل

  •  

  • إعداد: الفريق العلمي في موقع مدرسة الوحي

  •  

  • بحث منتخب من كتاب: 

  • « أسرار الملكوت، المجلد الثاني، المجلس الحادي عشر»

  • لآية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سرّه

  •  

  •  

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

2
  •  

  •  

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم‌

  • الحمد للّه ربِّ العالَمين

  • وصلَّى اللهُ على محمّدٍ وآلِه الطّاهرين‌

  • ولعنة الله على أعدائهم أجمعين‌

  •  

  •  

  • بما أنّ البحث وصل إلى هنا، فقد أضحى مناسبًا أن نذكر المميّزات الروحيّة للعارف الكامل والخصائص المعنويّة للسالك الواصل؛ حتّى نميّزه عن غيره من الناس مهما بلغوا من رتبةٍ وسعةٍ وجوديّةٍ. 

  • الخصوصيّة الأولى: الإشراف الكامل للعارف الواصل على مشاهداته‌

  • إنّ الخصوصيّة الأولى للأستاذ الكامل والعارف الواصل هي أنّ لديه إشرافًا كاملاً على ما يراه وما يلمسه ويشاهده بعين الشهود، وكلّ ما يُسأل عنه في هذه الموارد، فإنّه سوف يجيب عنه كما يجيب الناظر إلى الشمس، ولمّا كانت نفسه قد تجاوزت جميع عوالم الغيب وطوت الأسفار الأربعة؛ فإنّه قد استولى على جميع آثار هذه العوالم وخصوصيّاتها وباتت متمكّنةً في وجوده؛ ولذا فإنّ إخباره عن كيفيّة تلك العوالم وحكايته خصوصيّاتها ليس إخبارًا عمّا في الكتب ولا حكاية عن مطالعاته‌ وقراءاته، بل هو إخبارٌ عمّا يوجد في الضمير وعمّا هو متحقّق في ذاته؛ كما هو الحال بالنسبة للشخص الجائع عندما يتحدّث عن حالته، أو المريض عندما يتكلّم عن خصوصيّات مرضه، أو الشخص الذي يخبر عن صفاته وملكاته النفسيّة؛ فالمريض عندما يريد أن يبيّن حالة الألم التي يشعر بها، لا يحتاج إلى مراجعة أي كتابٍ أو مجلّةٍ أو أن يستفسر من شخص آخر حول هذا الموضوع، بل إنّه يخبر عمّا يختلج في داخله ويبيّن واقع المسألة.۱

  • عدم إمكانيّة بيان الحقائق التوحيديّة من غير الواصل إليها

  • وعلى هذا الأساس، فلو أراد شخصٌ أن يبيّن الحقائق التوحيديّة ويوضّح كيفيّة نزول نور الوجود في مراتب التعيّن والتقيّد وعوالم الأسماء والصفات، ويشرح كيفيّة تحقّق الإرادة والمشيئة الإلهيّة في تكوين عوالم الوجود، دون أن يكون قد وصل بوجوده وذاته إلى كنه هذه المسائل وسرّها وباطن الحقيقة فيها، فإنّه سوف يكون نظير تلك النائحة المستأجرة التي تريد أن تقلّد أمّ الولد المتوفى، وسوف ينكشف بوضوح سرُّ المسألة ولبّ القضيّة في حركات مثل هذا الشخص وأعماله وتصرّفاته، وسيصبح واضحًا للجميع أنّه مجازيّ ولا حظّ له من الواقعيّة، وبالتالي لن يكون بيانه هذا كاشفًا عن الواقع ولا حاكيًا له، وسيكون الاعوجاج في بيانه والاضطراب في عباراته والخلط بين المراتب في كلماته مشهودًا بوضوح؛ بحيث أنّ من لديه أدنى اطّلاع على هذه المباني والمعارف، يُمكنه أن يقف في وجهه فورًا ويسدّ عليه الطريق ويغرقه في مستنقع العبارات والمصطلحات‌.٢

    1.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ۱٦٦ ـ ۱٦۷.
    2.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ۱٦۷ ـ ۱٦۸.

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

3
  • متانة كلام العارف الحقيقيّ وإتقانه

  • أما العارف الحقيقيّ والواصل الكامل فكلامه متينٌ مستحكمٌ، وحديثه قويمٌ متقنٌ؛ بحيث لو تزلزلت الجبال من مكانها لما تراجع عن كلامه قيد أنملةٍ، ولو وقف العالم بأجمعه في وجه مطالبه ومبانيه، فسيقف مدافعًا عنها ولو كان وحيدًا، ولا يمكن لأيّ شخصٍ في أيّة مرتبةٍ كان أن يُثبت بطلان مبانيه ومطالبه، أو أن يبطل حجّته؛ فإنّه لا يمكن أن يجد الإنسان شخصًا لديه مطالب أكثر إتقانًا وأشدّ إحكامًا وأعلى شأنًا من المطالب التي يذكرها هذا العارف، فهو في ثباته ورسوخه أمام استدلال المستدلّين والمستشكلين كمثل الجبل الراسخ، حتّى أنّ أكبر العلماء والفلاسفة والمتخصّصين في العرفان النظري يعجزون عن دحض حجّته وإبطال دليله.۱

  • لا سبيل للتقليد الأعمى إلى مدرسة الولاية

  • إنّ المحور الذي تدور حوله أيّة حركةٍ في مدرسة الولاية يعتمد على أساس الحريّة والإرادة واختيار الأصلح وانتخاب الأحسن، ويُعدّ التقليد الأعمى في هذه المدرسة من ألدّ أعداء المعرفة والفهم، ومن أشدّها ضررًا على التفكّر والتطوّر والتزكية، وقد نهض القرآن الكريم بما يملك من قوّةٍ لمواجهة عوامل الركود والجمود والجهل والضلالة.٢

  • وفي كلّ موقعٍ يأتي التقليدُ فيه، فإنّ العقل والدراية والصلاح والسداد سوف تحزم أمتعتها وتغادر، وسيقوم مقامها الضياع والحيرة والقلق والتردّد والاضطراب والتيه والتحرّك الأعمى، وسيكون مصير صاحبه الخسران وفقدان جميع الاستعدادات وزوالها، وإضاعة كافّة القابليّات.

  • إنّ كلمات الأولياء الإلهيين والعرفاء الواصلين والعلماء بالله كنجمةٍ متلألئةٍ تحكي بنفسها عن واقعيّتهم ووضوحهم الباطني، كما أنّ عبارات هؤلاء تكشف بنفسها الحقيقة الواضحة والصريحة التي يتحلّون بها، فهي تكشف- كالقضايا التي قياساتها معها- بذاتها الستار عن سرّهم الداخلي وعن مكنونات ضميرهم، بحيث لا يبقي في نفوس من لديهم مقدارٌ من المعارف الإلهيّة واطّلاع على مدارج الكمال ومراتب التوحيد أيّ شكٍّ في صدق هذه العبارات وانطباقها على الواقع.٣

  • كلام أولياء الله مُبهِج ونورانيّ ومُفعم بالمعنويّة

  • لذا يرى الإنسان أنّ لكلام الأولياء روحًا وحياةً خاصّةً ونورانيّةً وبهجةً مميّزةً، وأنّ قراءة ما يطرحونه يترك في النفس أثرًا عميقًا، فهو يخاطب حقيقة الإنسان ويناجيه في سرّه وينفخ الروح في هيكل النفس الميّتة ليمنحها الحياة فيعطي الإنسان الأمل، حتّى أنّ الإنسان إذا قرأ كلامهم مِرارًا، يشعر أنّه كمن لم يقرأه من قبل؛ فهو يكشف له في كلّ مرّةٍ أمرًا جديدًا ويفتح أمامه أفقًا حديثًا.٤

    1.  نفس المصدر السابق، ص ۱٦۸.
    2.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ۱۷٢.
    3.  نفس المصدر السابق، ص ۱۷٢ ـ ۱۷٣.
    4.  نفس المصدر السابق، ص ۱۷٦.

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

4
  • والعكس صحيح في مورد سائر الأشخاص، فإنّهم وإن كانوا قد بلغوا المراتب العلميّة العالية، إلّا أنّ تمام علومهم هذه ومدركاتهم علومٌ ومدركاتٌ صوريّةٌ؛ فهم قد جمعوها من هذا الكتاب وذاك الكتاب وحفظوها في ذاكرتهم، وكان همّهم منصبًّا على تجميع المواضيع فقط والاستفادة منها في المجامع العلميّة والمحاضرات والمؤتمرات ومجالس البحث والوعظ والدرس والخطابة.۱

  • الخصوصيّة الثانية: كلام الإنسان الكامل مبنيّ على محور التوحيد فقط ولا يمكن التنازل عنه‌

  • إنّ الخصوصيّة الثانية لتصرّفات أهل التوحيد وكلامهم هي: أنّ دعوتهم وتبليغهم وكلامهم مع الناس وحديثهم معهم إنّما يقوم على أساس التوحيد ويدور حول محوره، فهم لا يتنازلون عن هذه المرتبة إلى سائر الجهات ومراتب الأسماء والصفات، وهذه المسألة طبيعيّةٌ ومتوافقةٌ تمامًا مع الأصول، ومطابقةٌ لها.

  • فمن الطبيعي أن يكون كلام كلّ إنسانٍ وعمله حاكيًا عن مرتبة الكمال التي هو فيها، وأن تكون عباراته وتصرفاته تجلّيًا يعكس ظهور تلك المرحلة ويبرزها. ولمّا كان العارف الكامل قد وجد أنّ الحقيقة هي فقط في التوحيد والمعرفة الشهوديّة لحضرة الحقّ تعالى، ورأى أنّ سائر المراتب الأخرى تقع في الأسماء والصفات التي هي دون تلك المرحلة؛ فمن الطبيعي أن يكون كلامه وعمله بتمامه متوجّهًا ومائلاً إلى تلك الجهة، سائقًا نحوها، وألّا يتنازل أبدًا عن تلك المرتبة إلى سائر الظهورات الأخرى، بل هو يعتبر أنّ مثل هذا التنازل خسارةٌ له وللآخرين وإتلافٌ لوقتهم، إنّ العارف الكامل كما أنّ وجوده قد صار مندكًّا في الذات الأحديّة، فإنّ آثاره الوجوديّة التي تبرز منه تسير كذلك على هذا السبيل وتدور حول هذا المحور، والأنوار التوحيديّة تتلألأ في جميع أطوار وجوده، وهو لم يعد مستعدًا للتنازل قيد أنملةٍ عن تلك المرتبة إلى ما دونها بأيّ شكلٍ من الأشكال.٢

  • دعوة العارف الكامل إلى التوحيد الذاتيّ والفناء المحض

  • إنّ ما يظهر من العارف الكامل ووليّ الله في أطوار حياته وعلاقته بالأفراد، إنّما هو عبارة عن سوقهم نحو تلك النقطة العليا ودفعهم وتشجيعهم على السير إليها والوصول إلى أعلى مرحلةٍ من العبوديّة، وهي ما يعبّر عنها بالتوحيد الذاتي والتجرّد المحض والفناء الذاتي، وهو لا يتنازل عن هذه النقطة لا في مجالسه ولا في كلامه وآثاره.

    1.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ۱۷۷.
    2.  نفس المصدر السابق، ص ۱۷٩.

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

5
  • إنّ الاختلاف بين هذه الفئة من العرفاء الإلهيّين وبين سائر العظماء من أهل الكشف والشهود- على اختلاف مراتب كمالهم وارتقائهم- هو أنّ هذه الفئة من الأولياء الإلهيّين والعرفاء بالله قد تبدّلت حقيقتهم من خلال الانغمار في حقيقة الذات، والاندكاك في مرتبة هوهويّة الحقّ، فصارت تلك الحقيقة محيطةً بهم وصارت ذاتهم مُتشئِّنة بشؤون الذات، لذا فقد صارت الآثار المترشّحة من وجودهم وما يظهر منهم من كلامٍ أو تصرفات تمثّل نفس آثار ذات الحقّ تعالى وظهوراته وبروزاته التي برزت وتجلّت في الكتاب المبين (القرآن الكريم).۱

  • كما أنّ الله سبحانه وتعالى جعل كلامه في القرآن الكريم وفي الأحاديث القدسيّة منصبًا على التوحيد، ولم يتنازل قيد أنملةٍ عن مرتبة التوحيد وشؤوناته إلى آثار غيره في مراتب التعيّن وشؤوناته، ولم يعط أحدًا من مخلوقاته- حتّى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم- شيئًا من الحيثيّة الاستقلاليّة والوجود المستقلّ ولو كان مقدارًا بسيطًا منه، بل كان- من خلال قهّاريته وبسبب غيرته- يخطف أنفاس كلّ من يتعرّض لكبريائه وجبروته وعظمته وغنائه ولو بمقدار جناح‌ بعوضةٍ، فكما أنّ الله تعالى كذلك، فكذا العارف الكامل ووليّ الله؛ فإنّ حديثه في جميع المجالس والمواعظ وفي جميع كتاباته عبارةٌ عن: التوحيد وشؤونات التوحيد وآثار التوحيد والاتّجاه نحو التوحيد، ولا يتنازل أبدًا عن هذه المرتبة إلى ما دونها من المراتب، لأنّ حيثيّته صارت حيثيّة الحقّ تعالى، وبات وجوده متحوّلاً بوجود الحقّ تعالى، وذاته متذوّتةٌ بذات الحقّ.‌٢

  • حقيقة التوسّل من منظور العارف

  • إنّ العارف لا ينظر إلى إمام الزمان عليه السلام بعنوان أنّه موجودٌ مستقلٌ عن وجود الحقّ تعالى، بل يرى أنّ حقيقة هذا الإمام هي ظهور التجلّي الأعظم لحضرة الحقّ تعالى، والتجلّي لا يمكن أن يكون متمايزًا ومستقلاً عن المتجلّي.٣

  • إنّ التوسّل بالإمام عليه السلام في نظر العارف هو عين التوسّل بذات الحقّ تعالى، وهو يرى الله في هذا التوسّل ويشاهد أن الأثر من الله ويدرك بذلك ولاية الله، ولا يرى أنّ الأثر من عند الإمام، بل يعتبر أنّ الإمام واسطة فقط ليس له في ذاته أيّ شي‌ء، بل هو مقابل ولاية الحقّ صفر؛ حيث لا يوجد إلّا الحقّ تعالى فقط.

    1.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ۱۸۰ ـ ۱۸۱.
    2.  نفس المصدر السابق، ص ۱۸٣ ـ ۱۸٤.
    3.  نفس المصدر السابق، ص ۱۸٤.

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

6
  • أما سائر الناس فليسوا كذلك، حيث إنّهم يفتحون للإمام عليه السلام في حياتهم حسابًا خاصًّا مقابل الله تعالى، ويعتبرون أنّ طريقهم إلى الله مغلقٌ بينما طريقهم إلى الإمام عليه السلام مفتوحٌ، فهم يضعون الله تعالى في مرتبةٍ بعيدةٍ عن إدراك البشر ومعرفتهم ويعتقدون أنّ الوصول إليه محالٌ، ويزعمون أنّهم قد تعلّقوا بحبل الإمام عليه السلام وعنايته، وهم يتصوّرون أنّهم بذلك يمشون في الطريق الموصل إلى باطن الولاية وحقيقتها، ويحسبون أنّ هذا الأمر سيجعلهم مشمولين لكرامة صاحب الولاية ولطفه، غافلين عن أنّ هذا الإمام الذي يتوسّلون به من خلال هذه النظرة ليس هو الإمام الحقيقيّ، بل هو وهمٌ مخلوقٌ لتخيّلاتهم‌.۱

  • الموحّد الحقيقيّ ينسب تبدّل الحالات واختلاف المقامات إلى الحقّ تعالى

  • إنّ الدعوة في الآيات القرآنيّة هي دعوة للتوحيد لا دعوة للأمور الظاهريّة العابرة. فجميع الأمور من تبدّل الحالات واختلاف المقامات تنسب إلى الحقّ تعالى، ولا فرق في نظر الموحّد بين كلا الطرفين؛ لأن الموحّد يرى أنّ هذين الطرفين كلاهما محطّ للمشيئة الإلهيّة وموضع لتقدير الحقّ تعالى، فهو لا يلتفت إلى الظاهر، بل إنّه يقوم بتكليفه ويعمل بوظيفته؛ فالعمل- بالنسبة إلى الموحّد- على طبق تكليفه مع علمه بعدم الوصول إلى النتيجةِ محبوبٌ وجذّابٌ بنفس الدرجة التي لنفس العمل مع العلم بالوصول إلى النتيجة وتحقيق الغرض والغاية.٢

  • العارف يدعو إلى باطن الإمام وولايته لا إلى ظاهره فقط

  • لا سبيلَ في مدرسة العارف ومنهج أهل التوحيد للنظرة الظاهريّة إلى الإمام عليه السلام، فالعارف يدعو إلى باطن الإمام وولايته، وإلى المعرفة الحقيقيّة للإمام عليه السلام، لا أنّه يروّج لمعرفة الهويّة الظاهرية للإمام فحسب، فإلى أيّ شي‌ءٍ تدعو جميع هذه الروايات الحاثّة على زيارة الأئمّة عليهم السلام مع معرفتهم معرفةً حقيقيّةً، وإلى أيّ مقامٍ ترشدنا وعلى أيّ موقعيّةٍ للأئمّة تدلّنا؟ أليست تلك الروايات التي تعتبر أنّ معيار الأجر والثواب الذي يحصل عليه الزائر على زيارة الأئمّة عليهم السلام هو بمقدار القرب منهم ومعرفتهم .. أليست هذه الروايات دالّةً على أنّ قيمة زيارة الإمام إنّما تكون على أساس المعرفة؟٣

  • رؤية أولياء الله تعالى للكرامات وخوارق العادات

    1.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ۱٩۰.
    2.  نفس المصدر السابق، ص ٢۱٦.
    3.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٢۱٩.

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

7
  • إنّ الأولياء الإلهيّين والعرفاء بالله يحذّرون تلاميذهم دائمًا من التوجّه إلى هذه المسائل [الكرامات وخوارق العادات]، ويعتبرون أنّ الابتلاء بهذه الأمور من أخطر المخاطر وأهم المهالك والموانع أمام ارتقاء النفس والوصول إلى ذورة التوحيد، ويعتبرونها فخًّا خطيرًا يصطاد السالكين والماشين على طريق السلوك، ويُنبّهون بشكلٍ متواصلٍ أنّ: على الإنسان ألّا يتوجّه إلى هذه المسائل أبدًا وألّا يعطف ذهنه إليها بتاتًا؛ وسبب ذلك كما تقدّم هو أنّ نفس الإنسان، ونتيجةً لابتعادها عن الحقائق وعالم المعاني، تتعلّق بهذه‌ الأمور البرزخيّة وتنجذب أكثر للصور المثاليّة. ومن هنا، فما لم تصل نفس الإنسان إلى نقطة الثبات والملكة في مراحل المعرفة وفعليّة القوى، فيجب عليه أن يبتعد بشكلٍ جدّيٍ عن التفكير بهذه الأمور والانجذاب إليها، ويترك نفسه حرًا بين يدي الحقّ تعالى وإرادته واختياره، ويجب عليه أن يطلب فقط معرفة ذات الباري ولقائه‌۱

  • وعلى كل حال، فالإنسان في أيّ مرتبةٍ كان، ما دام أنّه يأنس بما دون لقاء الحقّ تعالى، فإنّه لم يصل بعد إلى أوج العروج، ولا يزال محجوبًا عن لذّة مناجاة المحبوب، ولم تحصل لديه بعد رؤية كعبة المقصود، من هنا تُسمِّي آيات القرآن الكريم آخر مرتبة من السعادة والفلاح ب: لقاء الله.٢

  • الهدف الوحيد للأئمّة عليهم السلام هو سوق الناس نحو التوحيد

  • نعم، فقد قال المرحوم الوالد مرارًا وتكرارًا:

  • «إنّ الهدف الوحيد الذي يريده الأئمّة عليهم السلام منّا ومرادهم الأخير؛ هو أن يتوجّه الناس نحو التوحيد لا نحو أشخاصهم، وأن يسقي الله تعالى مواليهم وشيعتهم من ذاك الشراب الذي جعله لخاصّة أوليائه (كما ورد سابقًا في مناجاة الإمام السجاد عليه السلام)».

  • هذا هو الهدف من إمامة أهل البيت وقبول ولايتهم، وبطبيعة الحال، فإنّه كلّما عزم الإنسان وكانت همّته أكثر في هذه المسألة، وضحّى أكثر للوصول إليها، وصبر أكثر وتحمّل أعباءها ومسؤوليّتها بشكلٍ أكمل؛ كلّما نال من الثواب والأجر أكثر، واستفاد أكثر من سفرة ألطافهم التي لا بخل فيها ولا حدّ لها.٣

  • الخصوصيّة الثالثة: الإشراف الكلّي للعارف الكامل على عالم الوجود وكونه مصونًا عن الاشتباه في القول والفعل‌

    1.  نفس المصدر السابق، ص ٢٤٥.
    2.  نفس المصدر السابق، ص ٢٥٤.
    3.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٢٦۸.

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

8
  • إنّ الخاصيّة الثالثة للعارف، هي أنّ العارف نتيجةً لامتلاكه إشرافًا تامًّا وولائيًّا على عالم الوجود، لديه إحاطةٌ كلّيةٌ حضوريّةٌ بجميع الأمور والنفوس ومصالحها ومفاسدها. وبمقتضى هذه المرتبة، فإنّه يمنح كلّ شخصٍ جميع ما يحتاجه من أمورٍ ضروريّةٍ في سيره وسلوكه، كما أنّه سيكون بعيدًا عن حالة الإفراط والتفريط كليًّا في دستوراته وبرامجه العمليّة.۱

  • مرتبة العارف الكامل هي مرتبة إدراك الكلّ؛ أي أنّ جميع الأشياء سوف تحضر في ذاته حضورًا فعليًا، ومن خلال العلم الحضوري الذي يحصل للعارف بالأشياء سوف توجد نفس هذه الأشياء في حضوره وشهوده، لا أنّ الذي يحضر هو مجرّد صورتها الماهوية، وسوف يمتلك العارف في وجوده إشرافًا على جميع هذه الموجودات، وعندها لا معنى لأن يحصل له اشتباه أو خطأ.٢

  • أوامر الأستاذ الكامل نابعة من مصالح السالك وناشئة من متن الواقع

  • الفرق بين العارف وغيره يكمن في أنّ العصمة والمصونيّة من الخطأ والحفظ عن الاشتباه في كلامه وأفعاله أمرٌ إلزاميٌّ في مجال العلاقات الاجتماعيّة وكذا في بيان المصالح الفرديّة للأشخاص. ورغم أنّ من الممكن لوليّ الله أن يخطئ ويشتبه في القضايا العاديّة والمسائل اليوميّة المتعارفة؛ كما هو مقتضى مقام الجمع الذي يقتضي أن يظهر الصفاتِ العاديّة للبشر، ولأجل أن يبرز الاختلاف بينه وبين المعصوم عليه السلام في مقام الإرشاد والتشريع والتبليغ في قالب التواضع والتأدّب أمام الساحة المقدّسة للأئمّة المعصومين عليهم السلام، إلّا أنّه عندما يصل الأمر إلى مسائل تتعلّق بصلاح المجتمع أو بالمصالح الواقعيّة للشخص، ففي هذه الحالة إذا استُشير وليّ الله وطُلب منه الدستور المناسب لهذا المقام، فلا شكّ ولا ريب أنّ وليّ الله والعارف الكامل سيقوم ببيان ما هو الخير المحض وما فيه المصلحة الحتميّة الواقعيّة للشخص، ولا يمكن في هذه الموارد أن يصدر منه أيّ اشتباهٍ أو خطأ أبدًا ولو كان خطأ بسيطًا، سواءً كان ذلك في المسائل الاجتماعيّة العامّة أو كان في المسائل الشخصيّة والمصالح الفرديّة.٣

  • إنّ العارف الكامل يعرف جيدًا مواضع الوجع ويشخّص بدقّة أماكن المرض، وبإشرافه الكامل يحدّد الدواء المخصّص لهذا المرض أو ذاك. ففي المواضع التي يجب فيها العلاج بالجمال والسرور والشوق والابتهاج يصف ذلك، وفي المواضع التي يجب أن يستعمل فيها القهر والجلال والجبروت والعقاب والعتاب، تجده يقوم بذلك دون أيّ تقصير. في تربية العارف الكامل، لا يُسلَم التلميذ إلى حالةٍ من اليأس والخيبة والحزن والهم، كما أنه لا يُترك في حالة من العجب والدلال والركود وعدم التحرّك والإعجاب بالنفس، بل يقوم من خلال حركةٍ متينةٍ محكمةٍ بتحريكه نحو المقصود وإيصاله إلى الكمال.

    1.  نفس المصدر السابق، ص ٢۷٣.
    2.  نفس المصدر السابق، ص ٢۷٩.
    3.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٢۸۰.

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

9
  • إنّ العارف الكامل يعرف مصالح الإنسان بشكلٍ أدقّ وأفضل وأوضح من نفس الإنسان، وما يقترحه في سبيل ذلك هو عين الحقّ وحاقّ الواقع ونفس الأمر.۱

  • الأضرار الجسيمة المترتّبة على الانقياد لإنسان غير كامل

  • ومع الالتفات إلى أنّ النفس الإنسانيّة قبل وصولها إلى مرتبة الفعليّة العقلانيّة، تكون رهينةً للأحاسيس والعواطف والاعتبارات على الدوام، وأنّ تحوّل النفس وتبدّلها عند حصول الحوادث المختلفة أمر طبيعيٌّ وبديهيٌّ، وعليه فإنّ القوة الوحيدة التي يمكنها أن تحفظ الإنسان من الوقوع في المهالك والفتن وتهديه إلى الطريق القويم والصراط المستقيم هي تفويض الأمر إلى عقلٍ منفصلٍ وتسليم الزمام لمربٍ حكيمٍ، فهو الذي يستطيع من خلال إشرافه على جوانب الأمور، أن يبيّن الطريق الصحيح والسبيل القويم. فإذا فُقد مثل هذا الشخص، فإنّ تبعات التعبّد بأمر شخصٍ جاهلٍ غير عالمٍ ولا مؤهّلٍ أخطرُ بمئات المرّات وأشد ضررًا من تبعات عدم التعبّد وعدم الانقياد من الأساس. وحبّذا حينئذٍ لو يبقى الإنسان جاهلاً ويظلّ في مرحلة الاعتماد على قواه الخاصّة به واستعدادته دون أن يسلّم أمره إلى مثل هذا الرجل غير المسؤول وغير المتخصّص وغير المؤهّل، ودون أن يتعامل مع حكم هذا الإنسان معاملة الواقع كما يتعامل مع الوحي المنزل، أو يعتبر اتّباعه فرضًا حتميًّا عليه!٢

  • ضرورة انسجام الدستورات السلوكيّة مع الحالات الروحيّة للسالك

  • والحاصل أنّ الأستاذ السلوكيّ يجب أن يكون لديه اطّلاعٌ كاملٌ على أحوال السالك وخصائصه الروحيّة، بحيث يكون اختياره للدستورات السلوكيّة متوافقًا مع هذه الشروط والأحوال، وإلّا، فإنّه إمّا سيعطي دستورًا بمقدارٍ أقلّ ممّا ينبغي إعطاؤه، وعندها ستضيع استعدادات الطرف المقابل وسيتوقّف تكامله ويضيع عمره، ممّا قد يجعله عرضةً للصدمات، وسيكون موجبًا لبروز بعض المفاسد؛ وإمّا أن يحمّله أكثر ممّا يطيق وأكثر ممّا يتحمّل، وفي هذه الحالة تكون الأخطار والآفات الحاصلة جرّاء ذلك أكبر وأخطر بكثيرٍ والمصيبة أعظم.٣

  • الخصوصيّة الرابعة: الانطباق الكامل لأقوال الإنسان الكامل ومنهجه مع قوانين عالم الظاهر

  • إنّ الخصوصيّة الرابعة من خصوصيّات العارف الكامل هي: أنّ فعله وقوله وممشاه وتربيته تنطبق انطباقًا كاملاً مع قوانين عالم الظاهر؛ بمعنى أنّه قلّما يشاهد منه في حركاته وأعماله ما ينافي الأمور العاديّة والمسائل العموميّة المتعارفة، ولكنّ هذا لا يعني أنّه لا يُرى منه في جميع أطوار حياته مثل هذه الأمور أصلاً، بل بمعنى أنّ الأصل والأساس الذي يتعامل به في حياته وعلاقاته مع الأمور الخارجيّة قائمٌ على رعاية الآداب والقواعد الظاهريّة كسائر الأشخاص الآخرين، وكلّما كان مقدار هذا الأمر أقوى في نفسه، كانت سعته وظرفية بقائه أوسع من الآخرين.

    1.  نفس المصدر السابق، ص ٢۸٣ ـ ٢۸٤.
    2.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٢۸٩.
    3.  نفس المصدر السابق، ص ٢٩٥.

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

10
  • عدم خروج فعل الإنسان الكامل عن سلسلة العلل والأسباب

  • وسرّ هذه المسألة يكمن في أنّ وجود الحقّ تعالى عندما يتنزّل من مرتبة الصرافة المحضة إلى العوالم التي دونها، فإنّه يتشكّل بما يتناسب مع تلك المرتبة من آثار ذلك العالم وخصوصيّاته، وبما أنّ مراتب الوجود تختلف في الشدّة والضعف، والقوّة والفعلية وتتفاوت في مراتب تجرّدها، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى اختلاف الآثار واللوازم المناسبة لكلّ مرتبةٍ منه عمّا يناسب المراتب الأخرى، والحال أنّ جميع هذه العوالم ناشئةٌ من إرادة الباري ومشيئته، وقد تعلّقت إرادة الحقّ ومشيئته باختلاف كيفيّة هذه‌ الأمور وكمّيتها، وهذا أمرٌ تكوينيٌّ؛ بمعنى أنّ القوة والقدرة الموجودة في عالم الجبروت وتلك الهيمنة والسطوة والسلطة الحاكمة في تلك المرتبة؛ لا وجود لها في العوالم التي دونها، وقد وضع الله تعالى حكمًا خاصًا لكل مرتبة بما يتلاءم مع تلك المرتبة.

  • ولمّا كان نظام عالم المادّة والشهادة قائمًا على أساس إجراء القوانين الطبيعيّة والظاهريّة واستمرارها، فإنّ رعاية هذه القوانين- سواءً في الأمور التكوينيّة أم في الأمور الاعتباريّة والعلاقات الاجتماعيّة- إنّما هي على أساس قانون عالم الطبع وحفظ قواعد انتظامه وتكوّنه وبقائه.۱

  • رؤية أولياء الله تعالى للمصائب والابتلاءات

  • فالمشيئة الإلهيّة المتقنة قد قضت بأن يكون استمرار البقاء في عالم الدنيا قائمًا على هذا الأصل؛ وهو أن تكون الأمور جارية طبق هذه العلل والأسباب الظاهرية والفعل والانفعال الخارجي، فمن المناسب حينئذٍ للإنسان أنّه إذا ابتُلي بأمرٍ خلاف ما يتوقعه، فعليه مع توسّله إلى الله وطلبه منه أن يرفع البلاء، أن يحفظ إرادة الله تعالى ومشيئته في ضميره وداخله؛ بمعنى أن يجعل رغبته أنّه إذا كانت المصلحة في المرض فليقدّر الله له المرض وإذا كانت المصلحة في الصحّة والسلامة فلتتحقّق ويمنحها الله له؛ إذ كثيرًا ما يكون المرض مرجّحًا على الصحّة، والضيق مرجّحًا على السعة، والابتلاء مرجّحًا على عدمه، وخلاف المتوقّع مرجّحًا على المتوقّع.٢

  • تنظر مدرسة التوحيد والعرفان إلى المرض والشدّة وسائر أنواع الابتلاء بنفس النظرة التي تنظر بها إلى الصحّة والسلامة والسعة وما هو مرغوب عند الناس، وتراهما في خطٍّ واحدٍ، وهو نزول المشيئة الإلهيّة والإرادة الصادرة عن الحقّ تعالى، فلا فرق بين هاتين الحالتين، حيث إنّ صورتهما مختلفةٌ لكنّ باطنهما واحدٌ، والمظاهر متفاوتةٌ إلّا أنّ الظهور واحدٌ. فالعارف يرى هاتين الجهتين على أنّهما مشيئةٌ واحدةٌ وينظر إليهما بعينٍ واحدة.٣

    1.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٣۰٣ ـ ٣۰٤.
    2.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٣۰٥.
    3.  نفس المصدر السابق، ص ٣۰۸ ـ ٣۰٩.

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

11
  • أمّا في سائر المدارس فيشاهد منهم إعمال التصرّف والإرادة لرفع الابتلاء والمرض، وتُرفع هذه الابتلاءات بالتوسّلات المنافية لمقام الرضا والتسليم، فهم يريدون أن يدفعوا هذا التقدير عن أنفسهم وعن أصدقائهم بأيّة وسيلةٍ، ويسعون ليجعلوا أنفسهم يعيشون في حالةٍ من الراحة والانبساط، وكأنّ المرض والابتلاء والشدّة مكتوبةٌ على غيرهم بينما هم مستثنون منها، وكما يقول المثل: إنّ الموت مكتوبٌ على الجار لا على أهل الدار.۱

  • ضرورة انقياد العبد لإرادة مولاه من دون إظهار رأيه وذوقه الشخصيّين

  • يجب أن تكون العبادة للّه فقط، أمّا كيفيّة هذه العبادة وشكلها فغير مهمٍ بعد تحصيل هذا الشرط. فالصلاة يجب أن تكون لله، سواء كانت في حالة الصحّة والسلامة أو في حالة المرض والسقم، فلا ينبغي للإنسان عندما يكون مريضًا أن يطلب القوّة والقدرة من الله كي يتمكّن من أداء صلاته في حالة الصحّة والاستقامة. وكذا في حالة التيمّم فلا ينبغي للإنسان أن يطلب من الله أن يمكّنه من الطهارة المائيّة؛ فالله تعالى قد أراد من الإنسان في حال الصحّة والسلامة أن يتطهّر بالماء ويصلّي قائمًا، أمّا في حال المرض فقد أراد منه التطهّر بالتيمّم، فينبغي للإنسان أن لا يفرّق بين كلتا الحالتين أبدًا؛ إذ على العبد أن يكون في مقام العبوديّة فقط، وأن يقوم بما يريده المولى دون أن يُظهر أيّ رأيٍ أو إرادةٍ من تلقاء نفسه. ومن هنا، فالذي يكون في سفرٍ ويصلّي صلاةً تامّةً ويقول: «أنا لا أريد لنفسي الراحة في العبادة»، فصلاته باطلةٌ، لأنّ المولى يريد منه في السفر صلاةَ قصرٍ، وفي الحضر يريد منه صلاةَ تمامٍ، فلا ينبغي للإنسان أن يتدخّل متطفّلاً في أمر المولى.٢

  • ضرورة فعليّة الاستعدادات الإنسانيّة في جانبي جمال الله تعالى وجلاله

  • تحقّق الفعليّة الكامنة في ضمير الإنسان وظهور الاستعدادات الكامنة فيه متوقّف حتمًا على تجلّي كلا جانبي الجمال والجلال من أسماء الحقّ تعالى وصفاته، أمّا ظهور أحد الطرفين دون الآخر فإنّه موجبٌ إمّا لحالةٍ من الارتخاء والخفّة وعدم تحمّل آثار عالم الكثرة وشوائبه وبقاء سعة الإنسان وظرفيّته محدودةً بسيطةً، أو أنّه موجبٌ لليأس والإحباط والفتور وعدم التقدّم وعدم حصول الاستعدادات في جوانب مختلفة من النفس‌.٣

    1.  نفس المصدر السابق، ص ٣۱۰.
    2.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٣۱۰.
    3.  نفس المصدر السابق، ص ٣۱٥.

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

12
  • فالأستاذ الذي يتعامل مع تلامذته بأنّه متى أصيب أحدهم بمرضٍ أو ابتلي بابتلاءٍ اجتماعيٍّ، سارع الأستاذ إلى رفعه وتخليصه منه بالتوسّل والدعاء وغير ذلك .. مثل هذا الأستاذ لا يعلم أيّ ضررٍ وأية خسارةٍ يسبّبها لتلميذه، ولا يعلم أيّ نعمةٍ يحرمه من الوصول إليها، ولا يدري أيّ توفيقٍ لاستجلاب الفيوضات يسلبه‌.۱

  • إنّ أولياء الله يجرون المشيئة الإلهيّة كما هي دون أن يضيفوا عليها شيئًا من إرادتهم أو ميولهم، فالعارف الكامل هو الذي يفوّض جميع أموره وتمام مسائله ويوكل تدبيره إلى إرادة الحقّ تعالى بشكلٍ كاملٍ، فتصير وجهته في كلّ مسألةٍ موجّهةً نحو مشيئة الله وإرادته؛ فهو يدعو الله تعالى لانفراج الأمور ولرفع المعضلات وللصحّة والعافية، لكنّ دعاءه هذا مبنيٌّ على أساس العافية والصلاح الذي يراه الباري تعالى، لا أنّه مبنيٌّ على محور الإرادة الذاتيّة والميل النفسيّ الذي يراه هو. إنّ هناك فرقٌ بين دعائه ودعائنا؛ فالأولويّة عندنا هي لما نريده وما نطلبه نحن وهي مصبّ الاهتمام، وفي مرحلةٍ لاحقةٍ- ولأجل أن لا تخلو عريضةُ مطالبنا من إرادة الله- نقول تصنّعًا ومجازًا: ما تريده يا ربّ! أمّا العارف، فأوّل شي‌ءٍ عنده هو إرادة الحقّ تعالى ومشيئته وهي مصبّ اهتمامه وحرصه، ثمّ تأتي رغباته وميوله بعدها وفي ضمنها وذلك في إطار ما يريده الله وفي طوله. هذا هو الفرق بين العارف الكامل وبين سائر الأشخاص، إلى أيّ فئةٍ انتموا وإلى أيّ درجةٍ من درجات الكمال وصلوا.٢

  • وخلاصة المسألة: هي أنّه لا هدف للعارف الكامل والوليّ الواصل سوى تطبيق أموره وأمور تلاميذه على أساس تنزّل مشيئة الحقّ تعالى وإرادته، وهو لا يريد إلّا أن يعمل حذو القذّة بالقذّة على وفق تلك السنّة الإلهيّة الجارية في الحوادث التي تواجهه عالم الطبع وما يجري في هذه الدنيا، حتّى يمسي عمله وتصرّفاته بحيث كأنّه لم يكن قد وصل إلى هذه المرحلة من القدرة والقوّة والإشراف والسيطرة، فهو يقوم بعمله كما يقوم به أيّ شخصٍ آخر في السوق أو في الشارع ممّن لا يملك أيّة قدرةٍ أو إرادةٍ على تغيير المشيئة الظاهريّة للباري؛ فكما أنّ هذا الشخص العادي إنّما يقضي حوائجه ويقوم بتأمين ضرورات المعيشة التي يحتاجها من خلال الطرق الظاهريّة وبواسطة تنظيم العلل والأسباب العاديّة كما يقوم بها غيره من الناس، فكذلك العارف الكامل يتعامل بهذه الكيفيّة ويسلك هذا السبيل من العمل دون أن يكون لديه أيّة ذرةٍ أو تمايلٍ إلى تغيير الأمور خلافًا لإرادة الحقّ تعالى.٣

    1.  نفس المصدر السابق، ص ٣۱٦.
    2.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٣٢۱.
    3.  أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٣٢٥.

خصوصيّات العارف الكامل ومميّزاته - الجزء الأوّل

13
  • [يُتبع]