المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةسبيل الفلاح
التوضيح
أهم مواضيع المحاضرة: 1. الهدف من خلق الإنسان. 2. التوكّل على الله والإنابة إليه. 3. عالم الآخرة حقيقة لا خيال . 4. مسير الكمال يكون بالاختيار ومن خلال العبودية لله .
هو العليم
هَدَفُ اللهِ تَعَالَى وَغَايَتُهُ مِنْ خَلْقِ الإِنْسَانِ
سبيل الفلاح - الجَلسَةُ الأُولَى
محاضرات ألقاها
سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أَعُوذُ بِاللـَهِ مِنَ الشَيْطَانِ الرَجِيْم
بِسْمِ اللـهِ الرَحْمَنِ الرَحِيْم
وَصَلّى اللـَهُ عَلى مُحَمّدٍ وَآلِهِ الطَاهِريْن
وَلَعْنَةُ اللـه عَلى أَعْدَائِهِم أَجْمَعِيْن
إنّ الغاية والهدف من خلق الإنسان هو الوصول إلى مقام العبوديّة، بحيث يَعدّ الإنسان نفسه عبدًا مطلقًا للّه تعالى، ويتحرّك في صراط العبوديّة المُطلقة، وفي النتيجة فإنّ كلّ ما كان يراه في عالم الوجود على نحوٍ من الاستقلال، من الوجود والاستقلال والحياة والعلم والقدرة...، مُسلِّمٌ بأجمعه لله تعالى، فيعترف ويقرّ بأنّه لله عزّ وجلّ؛ وأنّ كلّ الفقر والضعف والجهل والعدم هو من ناحية الإنسان نفسه، وأنّ الإنسان عبدٌ مطلقٌ لله تعالى، سواء في مقام أصلِ الوجود أم في مقام العمل والتكليف كذلك؛ وهذا هو مقامُ «الإنسان الكامل» وهو أعلى درجةٍ يمنحها الله العليّ الأعلى للإنسان.
وجوب الحركة على الجميع
وينبغي على جميع الأفراد الذين يعيشون في الدنيا ممّن لهم مذهبٌ وشريعةٌ أيضًا كالأفراد العاديّين، أن يتحرّكوا ويصلوا إلى هذا المقام؛ فقد جاء الأنبياء ليدعوننا إلى هذا المقام، ونبيّنا صلّى الله عليه وآله دعانا إلى هذا المقام، وقُرآننا دعانا إلى هذا المقام؛ فإذا عملنا بالقرآن وبسنّة رسول الله والأئمّة الأطهار عليهم السلام بنحوٍ صحيح دون أن نضيف أو نُنقص شيئًا من قبل أنفسنا، وإذا سرنا على صراط العبوديّة هذا، فسوف نصل إلى هذا المقام.
سبب عدم وصول البعض إلى الكمالات التوحيديّة هو عدم حركتهم
وأمّا سبب ما نشاهده من أنّ البعض قد بلغوا من العمر ستين أو سبعين أو ثمانين عامًا، ومع ذلك لم يصلوا بعدُ إلى هذا المقام، فهو يعود إلى أنّهم لم يعملوا. تجد أنّ لديهم معلوماتٍ اكتسبوها من القرآن والأخبار، إلّا أنّهم صرفوا علومهم في استجلاب الأمور الدنيويّة. ولا فرق في ذلك سواء كانت تلك الأمور مالًا أم جاهًا أم سُلطةً أم حُبًّا للرئاسة وأمثال ذلك؛ فقد جعلوا علم القرآن والتفسير والحديث والحِكمة وعلوم الشريعة فداءً لاكتساب حطام الدنيا، وحطام الدنيا يتجلّى للإنسان بهذه الصور أيضًا. وهذه الفائدة قليلةٌ جدّاً جدّاً، لأنّ الإنسان يكتسب هذه النتيجة الضئيلة جدّاً مِن رؤوس الأموال الضخمة تلك.
وقد ورد عندنا في القرآن الكريم: {فَأَعۡرِضۡ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكۡرِنَا وَلَمۡ يُرِدۡ إِلَّا ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا * ذَٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِۚ}۱.
أي: يا أيّها النبيّ! أعرض عن الأشخاص الذين أعرضوا عن ذكرنا ولم يخطوا خطوةً واحدةً أعلى من الحياة الدنيّة، حياة الشهوات والإحساسات والرغبات، ولم يعتقدوا بوجود حياةٍ أخرى سوى هذه الحياة السافلة ولم يريدوا غيرها؛ فكان غاية ما بلغوه من الناحية العلميّة هو أن يتمتّعوا بالحياة الدنيا من خلال علمهم. أعرض عن هؤلاء! فهؤلاء لا ينفعونك.
تلك هي الحياة العليا، فالحياة العليا تعني: الحياة السامية؛ والحياة الدنيا تُسمّى دُنيا بمعنى الدنيئة، أمّا الحياة العُليا فمعناها الحياة العالية الرفيعة؛ وهي حياة العلم، حياة التقوى، حياة العبوديّة، حياة الصدق، حياة الورع، حياة الإيثار وتجاوز النفس، حياة الوجدان والعاطفة، حياة العبوديّة والسير على صراط الحضرة الأحديّة، حياة سَحقِ رغبات النفس الأمّارة، فهذه الحياة، هي الحياة العليا.
إذن، يجب علينا أن نسير في هذا المَمشى كي نصل إلى الدين والشريعة، ونتعرّف على حقيقة الدين ونحقّق في أنفسنا هدف بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية، ونحقّق إرادة الله تعالى التكوينيّة والتشريعيّة من إيجادنا، ونسير على صراط الرشد والرفعة لا على صراط الضلال والغيّ والجهل ورغبات النفس الأمّارة ومشتهياتها؛ فإذا عملنا بغير ما ورد في كتاب الله وسنّة النبيّ والأئمّة عليهم السلام، فلا فائدة أصلًا، فالفائدة تكمن فيما لديهم، وإذا تخطّى شخصٌ هذا المَمشى ولو بمقدار رأس الإبرة، فقد اشتبه وأخطأ.
نحن نعتقد أنّ أعلى مربٍّ ومعلّمٍ للبشريّة هو الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ وأمير المؤمنين وأبناؤه عليهم السلام، ونعتقد بأنّنا إذا تعاطينا مع تلك المسائل التي وصلتْ إلينا من القرآن ومن تعاليمهم عليهم السلام، واتخذناها سنّةً ومنهاجًا لأنفسنا [فسوف توصلنا إلى الصراط المستقيم]، ولو كان ثمّة شيءٌ أفضل لذهبنا إليه، ولكن ليس هناك ما هو أفضل، وبعد التحقيق فإنّ الطريق الذي سلكوه هو أشرف الطرق وأشدّها نورًا وأقلّها خطورةً، وهو الصراط المستقيم نحو المقصد، والصراط المستقيم واحدٌ لا أكثر؛ فلا يمكن أن نَخطَّ بين نقطتين أكثر من خطٍّ مستقيمٍ واحدٍ.
{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ * صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ}۱ أو {وَإِذٗا لَّأٓتَيۡنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجۡرًا عَظِيمٗا * وَلَهَدَيۡنَٰهُمۡ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا}٢ فيجب علينا أن نتحرّك كي نصل.
الخطوات الأولى بعد اليقظة
أن نعرف من نكون
بعد التنبّه والتيقّظ، فأوّل شيءٍ يجب القيام به في هذا الطريق هو أن نرجع لأنفسنا لنرى من نكون؟ ما حقيقتنا؟ نعم، نحن إنسان! ننهض في الصباح من النوم، ونبقى نكدّ ونقوم بالنشاطات إلى الليل، ثمّ ننام مرّةً أخرى، ثمّ نكرّر ذلك في الغد وبعد الغد، وهكذا تمرّ الأيّام، وكلّ واحدٍ من أفراد بني آدم مشغولٌ بعملٍ من الأعمال، وغير ملتفتٍ لماذا يقوم بكلّ هذه الأعمال؟ لماذا أتى؟ وما الهدف والغاية من ذلك؟ لماذا انقضى يومه؟ إنّ هذا اليوم من رأس مال العمر، والذي وهبه الله له، فلماذا انقضى؟ وماذا حصّل مقابل انقضاء هذا اليوم؟ فإن كان قد اكتسب شيئًا فهنيئًا له ولسعادته! لأنّه انقضى يومٌ من عمره واكتسب في مقابله شيئًا، وإن لم يكتسب شيئًا فهو مغبون، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: «مَن استَوَى يَومَاهُ فَهُوَ مَغبونٌ»٣ لأنّه قد انقضى يومٌ من العمر، ولا أحد يعلم إلّا الله عزّ وجلّ ما هي الأدوات التي عَمِلت من أجل أن يُعمّر الإنسان هذا اليوم الواحد.
ابر و باد و مه و خورشید و فلک در کارند | *** | تا تو نانی به کف آری و به غفلت نخوری |
همه از بهر تو سرگشته و فرمانبردار | *** | شرط انصاف نباشد که تو فرمان نبری٤ |
[يقول: ۱- إنّ السّحاب والرياح والقمر والشمس والفلك تعمل وتكدّ، حتّى تحصل أيّها الإنسان على خبزك ورزقك فلا تأكله وأنت غافل.
٢- هي كلّها منقادةٌ ومطيعةٌ من أجلك، فليس من الإنصاف أن لا تنقاد أنت وتطيع أوامر الله].
لكي يتحقّق أيّ يومٍ من أيّام حياتنا، فإنّه يتوقّف في تحقّقه على حصول حركة الشمس والقمر والمجرّات، إذن جميع ذرّات الأشجار والحيوانات في العالم وموجودات العالم كلّها مرتبطةٌ ببعضها البعض، وهي تشكّل وجودًا واحدًا، وهي بأجمعها تُؤثّر في حياة هذا اليوم للإنسان؛ بحيث لو نزعنا هذا اليوم من أيّام الحياة من سلسلة العلل والمعلولات؛ لانهارت بأجمعها. إذن فكلّ هذه الموجودات هي من أجل أن نعيش يومًا واحدًا، وأن نتقدّم يومًا واحدًا، وليكون لدينا يومًا واحدًا لنرفع فيه حُجُب الغفلة عن أبصارنا، فإذا ارتفع الحجاب فسوف نعرف خالقنا ومسيرنا وهدفنا ومبدأنا ومعادنا.
فإذا كان الأمر بهذا النحو، سوف نكون هادئين وساكنين وصامتين ومسرورين ممتلئين بالنفع والنور، مع حيويّةٍ ونشاطٍ كاملين، كالتلميذ الذي نجح في الامتحان، فصار مرفوع الرأس وصار التلميذ الأوّل، وشهادته بيده، وليس لديه أيّ غمٍّ، فقد نجح! ولكن، إذا أمضى عمره في الغفلة ـ لا قدّر الله ـ وحَلّت ليلة الامتحان وأراد الإنسان أن يُنجز عمل سنةٍ كاملةٍ في ليلةٍ واحدةٍ، ثمّ راح في الغد يلتمس من هذا التلميذ ومن ذاك، ويقول: يا فلان لا تنساني وساعدني، فجميع ذلك يؤدّي إلى الذلّ والخجل.
أن نعرف طريقنا وغايتنا وقيمة هذا الطريق
إنّ أوّل ما ينبغي علينا فعله في هذا الطريق هو السير والحركة وأن نعلم بأنّ هذا هو طريقُ الله؛ وأنّنا مسافرون ولدينا هدفٌ وغايةٌ؛ وأمّا وسيلةُ سفرنا فهي نَفسُنا، وأمّا غايتنا فهي الله، وعلينا أن نعلم بأنّ الطريق الذي نريد قطعه ليس طريقًا صحراويًّا ولا قمّة جبلٍ، وإنّما هو عبورٌ عن صفات النفس، يعني: يجب علينا أن نُغيّر هذه الصفات، فنستبدل الصفات الإيجابيّة بالصفات السلبيّة، ونستبدل الصفات السيّئة بصفاتٍ حسنةً، ونرفع الحُجب، ونزيد من النور والإدراك يومًا بعد يومٍ، ونوصل أنفسنا من التقيُّد والتقييد ومن محدوديّة عالم المادّة والتعلّقات إلى عالم المجرّدات وعالم النور، وأن نقترب من هناك. هذا الأمر هو عبارةٌ عن الحركة في النفس، وغايتنا منها هي الله.
إنّ المسافر يحتاج إلى زادٍ وراحلةٍ؛ وزادنا هو التوكّل على الله، وراحلتنا هي الاستعانة بالله والعمل بالقرآن وسنّة النبيّ ومنهج الأئمّة عليهم السلام، وجميع هذه الأمور هي زاد الطريق؛ فيجب أن نأخذها معنا، ثمّ نسير ونُسافر ونصل إلى غايتنا.
هذا الطريق، يستحقّ أن يُمشى فيه، هذا هو الطريق الذي سلكوه، ويجب على الإنسان أن لا يقول: أنا كذا وكذا، وليس لديّ القابليّة، جميع هذا مجرّد لغوٍ؛ فهل يأتي الإنسان بالقابليّة من منزل والده؟! بل جميع هذه الأمور كانت بيد الله، وكانت بعنايةٍ منه، منحها، وسيمنحها مُجدّدًا. فليس بين الله وبيننا عداوة، وليس لديه معنا سابقةُ سوءٍ، لقد أوجدنا في عالم الوجود برحمته، ونحن نمضي نحو رحمة الله، نسير نحو رحمة الله؛ فبعد أن خلق الله الإنسان ضمن تلك السلسلة الطوليّة، وطوى المسافات من النطفة والحالات المختلفة للجنين حتّى صار في الدنيا، ما معنى أن يُهمل الله هذا الإنسان في الأمور الجزئيّة جدّاً، ولا يعتني به؟! ويقول: أريد أن أسخر منك! أريد أن أعاندك أيّها الإنسان! أستغفر الله! لو أنّ إنسانًا قام بهذا العمل مع إنسانٍ آخر، لعَابَ عليه فعله.
إذن، فالله خيرٌ محضٌ ورحمةٌ محضةٌ، وقد دعانا إلى الخير المحض والرحمة المحضة. كلّما وجدنا أنّ رأينا مخالفٌ لذلك، فذلك ليس من الله؛ بل علينا أن نبحث عن ذلك في أنفسنا وأن نُصلحه؛ لأنّ رأينا خاطئ، وإلّا فإنّ الله خيرٌ محضٌ.
نتائج السير والسلوك والحركة
وإن شاء الله، عندما نسير سوف نصل، وعندها سنرى أنّه يا للعجب، اتضح أنّ ما قالوه لنا صحيحٌ! وكلّ ما ذكروه من وصف الجنّة والحور العين و{جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ}۱ ـ يا للعجب! ـ تبيّن أنّه صحيحٌ! ومثلما ذُكر لدينا في القرآن المجيد مِن أنّ أهل الجنّة يقولون لأهل النار: {قَدۡ وَجَدۡنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّٗا فَهَلۡ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمۡ حَقّٗا}٢.
وكذلك يقول عزّ وجلّ: {وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ}٣، والغلّ هو ما يُطلق على القذارة، مثلًا: السُكّر عندما يُريدون إذابته ليصنعوا منه مُحلّي، يكون عليه في البداية مقدار من القذارة، فيجب عليهم أن يُضيفوا إليه مادّةً معيّنةً، وحينما يضيفوا تلك المادّة فإنّها تمتصّ جميع الشوائب والقذارات، فيصبح نظيفًا صافيًا طيّبًا طاهرًا، وكذلك ينزع الله من قلوب المؤمنين كلّ غلٍّ وظلمةٍ وكدورةٍ.
ثمّ قليلًا قليلًا يصل الإنسان إلى مرتبةٍ بحيث ينظر إلى جميع أهل العالم ـ حتّى الكفّار والأشقياء ـ نظرة محبّةٍ وعطفٍ، ويُشفق عليهم.. يُشفق على الكفّار، ويقول: يا الله اهدِ هذا الفرد! هو كافرٌ، ومع ذلك قم بهدايته. يبذل جهده من أجل هدايتهم، ويبذل جهده كي يُصبحوا مسلمين، فقد كان النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يُقاتلهم وكان يُقتَل من أمّته ويَقتُل مِنهم من أجل أن يُصبحوا مسلمين، كي يجدوا الطريق ويسيروا فيه. [ففي تلك المرتبة] يصبح لدى الإنسان نظرة رحمةٍ واسعةٍ تجاه جميع الخلائق، يتمنّى الخير لهم جميعاً، ويرجو أن يصل كلّ واحدٍ منهم حسب درجته ومرتبته، فهو يحبّ أن يطوي الجميع الصراط المستقيم، صراط الإنسانيّة وصراط الإسلام، وأن يصلوا إلى الله وإلى الغاية، وأن يمشوا الممشى الصحيح. فلم يعد هناك في تلك النفوس أيّ غلٍّ أو حسدٍ أو كِبرٍ أو تشويشٍ أو غشٍ أو قلقٍ.
حينما كنّا راقدين في المستشفى، كانوا يحضرون أحيانًا وجبة الغداء، ومعها المناديل الورقيّة. كنّا نقتطع قسمًا من تلك المناديل الورقيّة، ونضعها أمامنا، فهذه كانت سُفرتنا، نفرشها هناك ونضع الطعام ونتناول منه لقمةً، مرّةً حلّ وقت الطعام، فقلتُ: يا سيّد محسن۱، أحضر هذه السفرة! أقسِم بروحك إنّ رئيس أمريكا لا يمتلك مثلها، هذه السفرة التي اقتطعناها [من المناديل الورقيّة]، ووضعناها هنا من أجلنا، ثمّ وضعنا هذا الطعام فوقها، وقد جلستَ أنتَ هنا بكامل الصفاء والوفاء والحُسن، بهذا القلب الفرح الخالي من الغمّ والغصّة. أقسم بالله إنّ رؤساء جمهوريّات الدنيا لا يملكون مثلها! يعني: هم لا يستطيعون أن يفرشوا سفرةً دون أن يكونوا مشغولي البال.
إذن، إذا كان الإنسان عاقلًا، وأراد أن يمتلك الدنيا فلا عيب في ذلك، إلّا أنّ طريقهم خاطئ؛ لأنّهم وبسبب سعيهم نحو الدنيا، فإنّهم يسيرون نحو العذاب ونحو جهنّم، إنّهم يسيرون نحو الانزعاج وعدم الراحة.
إنّ الإنسان لا يمشي في طريقٍ إلّا من أجل أن يرتاح باله، وعندما يرى أنّ ذلك الطريق يكدّر صفوه، فإنّه سينام ليلته منزعجًا، وسيستيقظ منزعجًا؛ تجده يرسم ألف خطّةٍ ماكرةٍ لكي يهزم الطرف الآخر، فأيّ حياةٍ هذه؟! وأيّ دنيا هي؟! حتّى لو كان قصره من الذهب وقد رفعه إلى عنان السماء! فأيّهما أفضل للإنسان، أن يكون لديه كأسٌ من الخشب تحتوي على ماءٍ باردٍ زلال، أم كأسٌ من الذهب تحتوي على دمٍّ يتقيّؤه؟ فرؤساء الجمهوريّات والسلاطين الذين يتقيّؤون الدماء ويموتون، ألم يتقيّؤوا تلك الدماء في الكؤوس الذهبيّة؟! والآن دعنا ننظر أيّهما أفضل: ذلك المسكين ذو الحظّ القليل الذي يعيش في القرية وهو مسلمٌ مؤمنٌ ويمتلك كأسًا خشبيّةً، يشرب وزوجته وأطفاله ماءً باردًا عذبًا، ويقول: الحمد للّه، أم ذاك [الرئيس]؟! أقسم بالله إنّ عبيد الدنيا مخطئون جميعًا! جميعًا!
اهل دنیا از کهین و از مهین | *** | لعنةُ الله عليهم أجمعین٢ |
[يقول: ألا لعنة الله على أهل الدنيا أجمعين صغيرهم وكبيرهم].
وهذا القيد (أي: أهل الدنيا) وُضع في قبال حياة الأولياء؛ يعني: غير أهل الله من الصغير والكبير، ولعنة الله، تعني: الإبعاد، أي: فليحلّ عليهم الابتعاد عن الله، وليُصبحوا أسرى لهذه الحياة الدنيا، ولكي تزول هذه اللعنة؛ عليهم أن يرفعوا الحجاب والستار عن أنفسهم من خلال المجاهدة، وأن يسيروا جميعًا من خلال توفيقات الله، ويأتوا إلى هذا السبيل، ويقولوا: {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ * ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ}٣. إنّ الحمد مختصٌّ بذلك الإله الذي جعلنا في هذه الدار؛ دار المقامة، في مكان الاستقرار هذا، في هذا المقام المكين والمقام الأمين، وقد أعطانا ذلك من فضله، فما هو هذا المكان؟ هنا حيث لا نصَب، لا تعب، لا قلق ولا انزعاج فكر؛ هنا عالم الأمن، عالم الأمان، عالم السلام، هنا حيث توجد أسماء الله الحُسنى، ويقع اسم السلام.. السلام..{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ}. لا وجود هنا لأيّ شيءٍ من تلك المتاعب، هذا هو مقام الإنسان الذي سعى ليبلغه، وهذا المقام لمن طوى هذا الطريق في الدنيا.
إذا نام الإنسان في الدنيا، وقال: سوف أصل إلى المقامات في الآخرة، فقد أخطأ واشتبه. إنّ الدنيا هي عالم العَمل، فمثلًا لو أنّ طالبًا يدرس في كلّية الطبّ، فواجبه أن يجدّ ويجتهد هناك، ولكنّه لو قال: حينما أحصل على الدبلوم عندها سوف أجتهد وأدرس، فهذا خطأ، إذ عليه أن يجتهد ويدرس في حينه، وفي المقابل لو أنّه جدَّ واجتهد ودرس، فحتّى لو لم يمنحوه شهادة الدبلوم، إلّا أنّه مع ذلك يكون قد امتلك علمًا ورأس مالٍ، وأينما ذهب في الدنيا فهو يمتلك رأس مالٍ وعِلمًا. وأمّا إذا لم يكن قد درس، فلن ينفعه ألف دبلومٍ، وقيمة شهادته قيمة الورق البالي، ويجب يكون مكانه الدكّان، يقف على رجليه ويبيع المثلّجات! إذ لا فائدة في ذلك.
الدنيا هي دار الحركة والمعين على الحركة هو الله دون النفس
الدنيا هي محلّ العمل، وقد أوجدنا الله لكي نبقى متيقّظين ومُبصرين، ولنسير إلىه بنحوٍ صحيحٍ، فجميع تلك المقامات التي شُرّعت في القرآن المجيد، وأكرمنا بها وبُيّنت لنا، هي للأشخاص الذين يعملون في الدنيا، «اليَوم عَمَلٌ ولا حِساب وغَدًا حِسابٌ ولا عَمَل»۱.
إنّ فائدة كلّ عملٍ نقوم به ونتيجته تكمن في نفس ذلك العمل؛ فكلّ كلمة «الله» نقولها بإخلاص، سوف تتضمن هذه «الله» التي لنا، «لبّيكَ» من الله في داخلها، وكلّ خطوةٍ نخطوها نحوه سبحانه وتعالى، نتيجتها تكمن وتنطوي في نفس هذا العمل.
حسنًا! فهل نريد أن نسير نحو الله؟! بعد أن نبّهنا الله؟! وبعد أن منحنا الفكر؟! وبعد أن فتح أعيننا؟! فرأيْنا أنّه يا للعجب! طلعت الشمس، ورحلت القافلة، أمّا نحن فبقينا هنا! لقد نِمنا كلّ الليل إلى الصبح، وا ويلاه! لقد كانت تلك هي قافلتنا! ذهبت، ولعلّها وصلت الآن؛ لماذا طلعت الشمس؟! الآن تناجي اللّه: يا الله! ماذا أفعل هنا؟ لقد طلعت الشمس! يا إلهي، إنّي غريبٌ في هذه الصحراء، وحيدٌ لا أحد معي، ولا أعرف أيّ مكان! أرجو أن تُداوي ألمي! يا إلهي! أنا أتوكّل عليك، وأضع كلّ حملي عندك، وأفوّض أمري إليك، لقد تخلّفت عن الركب، فخُذ بيدي!
إنّ هذا العالم هو عالم اليقظة والتنبّه.
الاعتماد على النفس في قبال الاعتماد على الله، اعتمادٌ على الصنم
إنّ الله يمدّه ويستجيب له: بما أنّك استيقظت وفتحت عينيك الآن، وانتبهت من غفلتك، فانظر كم تخلّفت عن الركب! لقد كُنتَ نائمًا من الليل حتّى الصباح، عليك أن تتدارك ذلك! عليك أن لا تنام وتغفل مرّةً أخرى! هنا صحراء، وفيها آفاتٌ وسباعٌ ولصوصٌ، يجب أن تنطلق وتتحرّك! فيمضي بالمدد الإلهي ويتحرّك، ويبكي ويُنيب، ويعود إلى الله بِمقدار ما غفل ونام؛ فالتوبة تعني الرجوع والعودة.
ينظر إلى تلك السيّئات التي التفتَ لها، فيُطالعها ويرجع، ويقول: إلهي! أنا أعترف الآن بخطئي، وأنتَ إلهي، أنتَ ربّي، أنتَ مولايَ، أنتَ سيّدي؛ سأكون مخطئًا من الآن فصاعدًا لو أنّي اعتمدتُ على نفسي، سوف أعتمد عليك؛ فالاعتماد على الله.
ليس هناك أيّ موضعٍ من القرآن يذكر بأنّ الثقة تكون بالنفس، وأنا لا أعرف من أين أتت كلمة الثقة بالنفس؟! لماذا تكون ثقة الإنسان بالنفس؟ إنّ القرآن الكريم يقول: ثق بالله! اجعل نفسك تحت أرجلك! اجعل هذه النفس فداءً للّه عزّ وجلّ! إنّ الثقة بالنفس تُقابل الثقة بالله، فهذه الثقة ثقةٌ بالصنم في قبال الحقيقة. فتلك النفس التي تكون نورانيّةً والتي تُمثّل آيةً للّه، إذا وثق بها، فهذه الثقة هي ثقة بالله؛ أمّا تلك النفس التي لم تتجاوز مراحل الإخلاص، وهي محجوبةٌ خلف ألف حجابٍ وحاجزٍ، إذا وثق بهذه النفس، فقد وثق بألف جهنّم! وما فائدة هذه الثقة بالنسبة له؟!
ولذلك ليس لدينا في القرآن المجيد (ثقةٌ بالنفس) أصلًا، بل ثقةٌ بالله:
{وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ}۱.
{وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡحَيِّ ٱلَّذِي لَا يَمُوتُ}٢.
{وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمۡ يَتَّخِذۡ وَلَدٗا وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٞ فِي ٱلۡمُلۡكِ وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلِيّٞ مِّنَ ٱلذُّلِّۖ وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِيرَۢا}٣.
{فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ}٤.
ومعنى جميع هذه الآيات هو أنّه: يا أيها النبيّ! أعطِ قلبك للّه، {وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلٗا}٥، اقطعه عن كلّ العالم وصِل نفسك بالله. انقطع إلى الله، واجعل عملك كلّه للّه! هذا ما يجعل الإنسان يتحرّك.
بعض موانع الحركة
إنّ أفراد البشر يستمرّون إلى آخر العمر في مسائل من قبيل: ماذا أفعل؟ نقص مالي، جاري خدش جداري، وضعي المالي أصبح كذا، فلانٌ أساء لي بالقول، أخت زوجتي قالت لي: كذا، شريكي قال لي: كذا، أنا لن أذهب إلى هناك ردّاً على ما قاله لي، أنا لن أجيبه؛ لأنّه في المرّة الفلانية لم يُجب على سلامي...، فهم عالقون في هذا النوع من الكلام، ومسجونون في هذه الأفكار، وسيموتون في نفس هذه الأفكار؛ لأنّ قبر الإنسان هو أفكاره. إنّ القبر الذي يأخذوننا إليه ويضعوننا فيه، ليس قبرنا، بل هو قبرُ البدن، فبدننا كان من تراب، وسيعود إلى التراب؛ أمّا نفسنا، فسوف تبقى في تلك الدرجة من العلوّ التي بلغت إليها [عند الوفاة]؛ فإن كانت نفسنا مُلوّثةً، فلن يأخذوننا إلى روحانيّة النفس؛ قبرنا هو نفس أفكارنا، قبرنا هو نفس خيالاتنا، قبرنا هو نفس هذه الأنا والأنت، فعلينا أن نتجاوز الأنا والأنت، وأن نجعلها فداءً للّه، فإنّ ذلك العالم الذي سيضع الله الإنسان فيه، يتناسب مع حقيقةٍ من الحقائق، وهي تلك الحقيقة التي ينطوي عليها الإنسان عند الموت.
لأمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ عبارةٌ عجيبةٌ جدّاً، يقول فيها: «قِيْمَةُ كُلِّ امرِئٍ مَا يُحْسِنُه»۱، عجيبةٌ جدّاً! فقيمة كلّ شخصٍ هي الأمر الذي ثبت الشخص عليه وقام على أساسه وغلب عليه، فإن كان قدر شخصٍ وقيمته هي الدنيا، وكان قد قضى عمره بأجمعه من أجل الدنيا، فهي قدره وقيمته. أمّا لو كان الإنسان يقول: إنّ الله يقول هكذا: افعل هذا العمل! فيستجيب: سمعًا وطاعةً. فعندما يقوم بهذا العمل، سيكون لهذا الأمر مقامٌ عالٍ جدّاً جدّاً، لا يُمكن أن يُقاس، ولا يقبل المعاوضة، فالإنسان لا يستطيع أن يعاوضه حتّى بالدنيا والآخرة، إنّ لحظةً واحدةً من تلك اللحظات تعادل جميع لذّات أهل الدنيا.
عند الوصول نشاهد نتائج سيرنا وحركتنا
حينها ستصبح الأخبار التي قالها الأئمّة ـ عليهم السلام ـ واضحةً كالشمس، تلك الأخبار التي رواها لنا الإمام الصادق والإمام الرضا عليهما السلام، والتي ذُكرت في علل الشرائع و عيون أخبار الرضا، وهي أخبارٌ عجيبةٌ! وقد كنّا نظنّ حتّى الآن أنّها أساطير أو توقّعات أو رسائل للترغيب وأنّها مخالفةٌ للحقيقة، وُضعت لترغيب الإنسان بالمعارف والإلهيّات والروحانيّات، أو أنّها مُنفّرات لكي نرتدع عن بعض الأعمال. لا! هي عين الواقع وعين الحقيقة. بل إنّ ذلك المقدار الذي أفصح عنه هؤلاء العظماء، ليس إلّا نموذجًا وإشارةً؛ أمّا ما سيراه الإنسان بنفسه، فهو أكثر ممّا ذُكر، والرؤية ليست كالحكاية والسماع.
لو أنّك قلتَ للطفل ذي السنوات الأربع: للنكاح لذّةٌ، للنكاح حلاوةٌ، فماذا سيفهم؟ فلو أنّه ضغط على نفسه بشدّةٍ، فأقصى ما سيتخيّله أنّه مثل الحلوى، فهو لن يفهم أكثر من ذلك، ولكن حينما يصل إلى سنّ البلوغ، ويستيقظ ذلك الحسّ داخل الإنسان، حينها لن يقول: حلو، بل سيلمس ذلك ويُحسّ به ويعرفه.
كذلك هي الآخرة، طالما أنّنا لم نطوِ تلك الدرجات والمقامات ولم نرها، فإنّنا نتخيّل بأنّ الأنبياء يُخبروننا عنها من مكانٍ بعيدٍ؛ ولكن عندما نذهب ونرى أنّ الأمر مطابقٌ لما قالوه، فسنقول: يا للعجب! شكر الله مساعيهم. فقد أرشد الأنبياء الإنسان ووضعوا الحقيقة بين يديه، جعلوه يلمسها؛ جعلوا الجنّة والنار ملموسين ومحسوسين، فخرج الأمر عن دائرة التصوّر والتفكّر، لقد جعلوا الإنسان يدخل؛ عندها سنقول: {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَ}۱. وعندها سنرفع الصلوات، اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد.
الجهود العظيمة التي بذلها الأنبياء والأئمّة ليبيّنوا لنا الحقيقة؛ معركة بدر نموذجا
كم كانوا عظماء! وكم أجهدوا أنفسهم من أجلنا! إنّ ذلك الكسر الذي حصل في منزل السيّدة الزهراء سلام الله عليها، وإسقاط جنينها ـ الذي لا شكّ ولا شبهة فيه أبدًا ـ كان من أجلنا، إنّهم تكلّفوا العناء إلى هذا الحدّ من أجلنا! إلى الحدّ الذي قدّموا فيه حضرة عليٍّ الأكبر!
لقد أسَرَ رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في معركة بدر سبعين شخصًا، فقُيّدوا بالحبال وجُرّوا إلى المدينة المنوّرة، وكان من بينهم العبّاس عمّ النبيّ؛ وكان قد تكفّل بمصاريف يومٍ كاملٍ من مصاريف معركة بدر [لصالح مشركي قريش]، فهم كانوا قد تقاسموا مصاريف الحرب. وفي الليل كانوا قد قيّدوه كي لا يفرّ، وبات العبّاس يئنّ وينوح، فلم يتمكّن النبيّ تلك الليلة من النوم إلى الصباح.
فقالوا: يا رسول الله، لمَاذا لم تنم؟ قال: أنين عمي العباس منعني من النوم. قالوا: أعطِ أمرًا لكي يفكّوا أسره! قال: وهل أنا الذي أمرتُ بأسره؟ إنّه أمر الله، وهذا ليس من شأني، فلا فرق بين العبّاس وغيره من الأسرى، فجميعهم أسروا، ويجب أن يبقوا على هذا الوضع.
لقد جاء النبيّ ومرّ من أمام أولئك الأسرى ـ ومحلّ الشاهد هنا ـ فتبسّم ومضى، كانوا سبعين شخصًا، فقال أحدهم: انظر، إنّهم يقولون: «محمّدٌ رحمةٌ للعالمين» ولكنّه الآن ينظر إلينا ونحن في الأغلال والسلاسل فيتبسّم!
فوقف النبيّ وقال: أنا سعيدٌ؛ لأنّ الله أمرني أن أقود الناس إلى الجنّة ولو بالسلاسل والأغلال.۱
ففي نهاية المطاف لكلّ نبيٍّ مهمّةٌ؛ فيُقال لأحدهم: اذهب وبلّغ! سواء سمعوا لك أم لم يسمعوا. ويُقال لآخر: اذهب وبلّغ! واضغط عليهم أيضًا! ويقال لواحدٍ آخر: اذهب وبلّغ! واضغط عليهم، واضربهم أيضًا مثلًا! ويُقال لأحدهم: قم واذهب وعرّض نفسك للقتل والجراح واحمل جميع أرحامك وعشيرتك وخذهم معك في معركةٍ من قبيل معركة بدر! تلك المعركة التي كانت من أصعب وأهمّ المعارك التي جَرَت على النبيّ والمسلمين. في تلك المعركة كان للنبيّ ابن عمٍّ، وكان من أعاظم الأصحاب، وكان يُوازي أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ والحمزة، وقد قطعت رجله فاستشهد في طريق العودة من بدر إلى المدينة المنوّرة. كلّ هذا من أجل أن يُسلم المشركون. قم بجميع ذلك وقُل للمشركين: يا سادة تعالوا أنتم أيضًا وادخلوا في الإسلام! وامتنعوا عن القيام بهذه الأفعال [القبيحة]!
قال النبيّ: أنا إنّما تبسّمتُ؛ لأنّ مأموريّتي ومهمّتي هي أن أسوقكم إلى الجنّة ولو بالسلاسل والأغلال. إنّ الإنسان يجب أن يسوق بعض الناس ـ الذين لا يتوجّهون بأنفسهم إلى الجنّة ـ بالسلاسل والأغلال المعلّقة على ظهورهم ويجرّهم إليها.
[وبقي الأسرى على هذه الحالة] إلى أن نزلتْ آيةٌ على النبيّ من قبل الله بأنّه أنتم مخيّرون؛ إن أردتم فيُمكنكم أن تُحرّروهم، وإن أردتم فيُمكنكم أن تضربوا أعناقهم جميعًا. جميع هؤلاء ـ السبعون شخصًا ـ كانوا من وجوه أهلِ الشرّ والفساد منذ القِدم، فإن قطعتم رقابهم الآن، فلا بأس بذلك، وأمّا إذا أطلقتم سراحهم وأخذتم الفدية (أي: أخذتم عوضًا عن دمائهم) فيُمكنكم أن تعدّوا التجهيزات والسيوف والأحصنة بأموال تلك الفدية (والتي ستكون وافرةً) وتُشكّلوا جيشًا لكم؛ ولكن بعد مرور عامٍ ستندلع معركةٌ جديدةٌ، وسوف يُقتلُ منكم بعدد هؤلاء الأسرى الذين ستُحرّرونهم بالفداء وكانت تلك المعركة هي معركة أحد التي قُتل فيها سبعون رجلًا. لقد تحدّث النبيّ إلى الناس، وقال لهم: لقد أوحى الله إليّ بأنّ هؤلاء أسراكم، وهم يستحقّون القتل، بوسعكم أن تضربوا أعناقهم جميعًا، فجميعهم مشركون، أو يُمكنكم أن تطلقوا سراحهم وتأخذوا الفدية بدلًا من ذلك، {فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً}٢.
فقال المسلمون: يا رسول الله! اسمح لنا أن نأخذ الفدية؛ لأنّنا ضعفاء، ليس لدينا أموال، إذ لم يكن لدينا في معركة بدر التي وقعت أحصنةً ولا جِمالًا ولا سيوفًا ـ فقد كان عدد المسلمين بأجمعهم ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلًا، وكان لديهم عدّة أحصنةٍ وعدّة سيوفٍ ـ ونحن سنشتري بأموال الفدية (والتي ستكون أموالًا وفيرةً) الأحصنة وسنصنع السيوف ونُجهِّز أنفسنا في قبال الكفّار؛ وأمّا قتل سبعين رجلًا منّا في العام القادم في سبيل الله، فليس بالأمر المهمّ، دعهم يستشهدوا، لا بأس بذلك. فقبل النبيّ بذلك؛ وحرّروهم، وأخذوا من كلّ واحدٍ منهم فديةً، وحينما وصل دور العبّاس عمّ النبيّ، أن تعالَ وادفع فديةً وتحرّر.
قال العبّاس: يا نور عيني! يا ابن أخي العزيز! إنّك تعرف أنّي رجلٌ لا أملك المال ولا أستطيع أن أدفع الفدية، ومن جهةٍ أخرى لديَّ عائلة أعيلها.
فقال النبيّ: لا يُمكن ذلك. فأصرّ مرّةً أخرى، عندها قال له النبيّ: لا يُمكن ذلك، لا بدّ أن تدفع الفدية! كانت فديته كبيرةً جدّاً؛ فقال: يا رسول الله! لكنّك تعلم أنّي لا أمتلك هذا المال؟! فقال النبيّ: بل تملكه، ادفعه! قال: لا أملكه.
فقال النبيّ: حينما أردتَ الخروج من منزلك، دفعتَ كيسًا من الذهب إلى زوجتك، وقلت لها: «ضعيه في المكان الفلاني، وإذا عدتُ فأنا أعرف ما أصنع به، وإلّا فافعلي به كذا وكذا»؛ والآن أليس مقدار ذلك المال يُساوي مقدار مال فدائك؟! بل يكفيه.
عندها صاح بصوتٍ عالٍ: يا مُحمّد! من قال لك هذا؟! فهو لم يكن ليصدّق ما حدث، فما جرى كان بينه وبين زوجته، وكان حين خروجه من المنزل، ولم يكن هناك إلّا زوجته! عند ذلك أخبره النبيّ؛ فقال صلوات الله عليه وآله: الله الله، ربي ربي، جبرائيل حبيبي، لقد نزل جبرائيل مِن عند الله وأخبرنا.
عندها وفي نفس ذلك المكان، قال العباس: أشهَدُ أن لا إلَهَ إلّا اللَه وأنّكَ رَسولُ اللَه. وأرسل أيضًا يطلب المال مِن مكّة، فجُلب له وسلّمه للنبيّ وأفرج عنه.۱
المراد هو أنّ النبيّ يقوم بإخراج الناس من جهنّم، ويجرّهم إلى الجنّة حتّى لو كان ذلك بالأغلال والسلاسل، وهذا هو مقام رحمة رسول الله الواسعة التي يرى فيها أنّه لا بدّ للنّاس أن يدخلوا الجنّة؛ لأنّهم لم يُخلقوا من أجل جهنّم بل كما قال النبيّ: «خُلِقتُم لِلبَقاءِ لا لِلفَناءِ»٢.
بعض أسباب الضلال عن الطريق
إذا كان تفكير الإنسان هو هذا التفكير المُتدنّي، فسوف يتيه هنا؛ ولذلك نرى أنّ مادّة «ضلال» قد ذُكرت كثيرًا في القرآن المجيد، {فِي ضَلَٰلِ}۱ فهم تائهون وضالّون في أفكارهم ولا يستطيعون أن يرتقوا إلى الأعلى. إنّ الكفّار والمشركين في ضلالٍ، أي: إنّهم تائهون وضائعون في أفكارهم ونيّاتهم، ولا يستطيعون أن يتقدّموا أو يتجاوزوا هذه المرحلة. أمّا المؤمنون فلا يضلّون، بل هم في حالة من الترقّي من خلال ذلك النور، وكلّ واحدٍ منهم استقرّ في مكانٍ خاصٍّ به، كلٌّ حسب درجته ومقامه، فمَن كانَ نوره أقوى ومعرفته أكثر، وتقواه أشدّ، وطهارته أزيد، يكون لديه مكانٌ أفضل.
بعض ضروريّات السير والحركة في هذا الطريق
الحركة تكون عن اختيار لا عن إجبار
هذا الطريق لا بدّ أن يُطوى باختيار الإنسان، ولا فرق في ذلك سواء كان السالكُ نبيًّا أم إمامًا أم إنسانًا عاديّاً، فكلّ ما بَلَغَهُ النبيّ من الدرجات والمقامات إنّما وصل إليه من خلال المجاهدة، وكان تكليفه قد وصل إليه من قبل الله عزّ وجلّ.
لا بدّ من قيام الليل
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا * نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا * أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا * إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا}٢. قُم الآن الآن! فنفس النبيّ قامَ بجميع عباداته في غار حِراء٣، في ذلك المكان المُنعزل، ولمدّة أربعين سنة، فطوى جميع تلك الدرجات والكمالات، والآن وبعد أن صار نبيّاً، نجد أنّ الله يقول له من جديد: {قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا * نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا}.
إنّ الوقوف في محراب العبادة والدعاء والطلب والذكر والتوجّه نحو الله في الليل، هي أمورٌ حسنةٌ، وحينما يطلع النّهار، فاذهب واسبَحْ في هذا البحر الذي لا حدّ له من عالمِ الكثرة، وأمّا في الليل فتزوّد، ثمّ أنفق في النّهار. عليك أن تتزود في الليل ..! فإذا نِمتَ في الليل لن تتمكّن من التزوّد، وعندها ماذا ستُنفق في النهار؟! إنّ جُعبتك خاليةٌ، فماذا عساك أن تنفق؟! تعالَ في الليل واملأ جعبتك، ثمّ اذهب وأنفق في النّهار؛ ومع ذلك لن ينقص رأس مالك أبدًا، ولن ينقص شيءٌ من وجودك أيضًا، وسيبقى كلٌّ من نشاطِك وبهجتك وعزّة نفسك وقوّتك وكمالك المعنويّ على حاله؛ ولكن إذا أردت أن تُنفق من ذاتك، فستُصبح جعبتك فارغةً، وستبقى حينها خالي اليدين.
بعض التكاليف ومقتضيات العبوديّة والتوحيد الخالص
هذا الطريق لا بدّ أن يُطوى باختيار الإنسان، ولا فرق في ذلك سواء كان السالكُ نبيًّا أم إمامًا أم إنسانًا عاديّاً، فكلّ ما بَلَغَهُ النبيّ من الدرجات والمقامات إنّما وصل إليه من خلال المجاهدة، وكان تكليفه قد وصل إليه من قبل الله عزّ وجلّ.
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا * نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا * أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا * إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا}۱. قُم الآن الآن! فنفس النبيّ قامَ بجميع عباداته في غار حِراء٢، في ذلك المكان المُنعزل، ولمدّة أربعين سنة، فطوى جميع تلك الدرجات والكمالات، والآن وبعد أن صار نبيّاً، نجد أنّ الله يقول له من جديد: {قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا * نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا}.
إنّ الوقوف في محراب العبادة والدعاء والطلب والذكر والتوجّه نحو الله في الليل، هي أمورٌ حسنةٌ، وحينما يطلع النّهار، فاذهب واسبَحْ في هذا البحر الذي لا حدّ له من عالمِ الكثرة، وأمّا في الليل فتزوّد، ثمّ أنفق في النّهار. عليك أن تتزود في الليل ..! فإذا نِمتَ في الليل لن تتمكّن من التزوّد، وعندها ماذا ستُنفق في النهار؟! إنّ جُعبتك خاليةٌ، فماذا عساك أن تنفق؟! تعالَ في الليل واملأ جعبتك، ثمّ اذهب وأنفق في النّهار؛ ومع ذلك لن ينقص رأس مالك أبدًا، ولن ينقص شيءٌ من وجودك أيضًا، وسيبقى كلٌّ من نشاطِك وبهجتك وعزّة نفسك وقوّتك وكمالك المعنويّ على حاله؛ ولكن إذا أردت أن تُنفق من ذاتك، فستُصبح جعبتك فارغةً، وستبقى حينها خالي اليدين.
{إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا}٣، هذه هي وظائف النبيّ الذي هو «أَوّلُ ما خَلَقَ الله»٤ وأشرف بني آدم وأشرف المخلوقات، فالتكليف إنّما يأتي حسب الدرجات والمقامات، والنبيّ يتقبّلها بصدرٍ رحبٍ، ويقول: أهلًا وسهلًا ومرحبًا، سمعًا وطاعةً، إلهي أنا عبدك، إلهي فليكن المدد من عندك! إلهي لا تكلني إلى نفسي! أنا عبدٌ ضعيفٌ فقيرٌ حقيرٌ مسكينٌ، {وَلَا يَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗا وَلَا يَمۡلِكُونَ مَوۡتٗا وَلَا حَيَوٰةٗ وَلَا نُشُورٗا}٥.
يا جناب [الدكتور] المكرّم۱ حينما كنّا تحت مبضع جراحتكم، ألم يكن من الواضح تمامًا كالشمس، أنّني كنتُ موجودًا ضعيفًا عاجزًا، أفقر من جميع الفقراء، وكنتُ أصغر من أصغر شخصٍ في الدنيا، أصلًا كنّتُ ميّتًا! ألم أكن ميّتًا؟! قُلّ لي ألم أكن ميّتًا، ثمّ منحني الله الحياة؟! هل أتينا بهذه الحياة من عند أنفسنا؟! هل كنّا واقعًا من أوجد هذه الحياة لأنفسنا؟! إنّ الحياة والموت بيده، ولو أنّه لم يُرد إماتتنا لم نكن لنموت، ولن نفقد وَعْينا، ولو أنّ جميع أطباء العالم اجتمعوا وأرادوا تخديرنا وإفقادنا الوعي لما استطاعوا، ولكن حينما أراد الله تمّ تخديرنا وفقدنا الوعي، وعندما أراد الله استفقنا، وعندما أراد الله أُصبنا بالماء الأبيض في العين، وعندما شاء الله شُفينا منه، فنحن دائمًا تحت أمر الله عزّ وجل ونهيه التكويني والوجداني والخارجي.
إنّ الله العليّ الأعلى يقول لنبيّه: يا رسولي! يجب أن ينكشفَ لك هذا الأمر ـ وقد انكشف له فعلًا ـ وهو أنّه للوصول إلى تلك الدرجات العليا وإلى ذلك التوحيد العالي الذي هو أفضل وأشرف من توحيد جميع الأنبياء ـ فتوحيد رسول الله أعلى من توحيد الجميع ـ فلا بدّ أن يكون خالي الوفاض من أيّ نفعٍ أو ضرٍّ أو حياةٍ أو نشورٍ٢، {بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ}٣.
ولذا، انظر أيّ توحيدٍ يُبيّنه القرآن ـ وهو الصحيفة الإلهيّة ـ لرسول الله: {قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ}٤، لا يوجد أحد هو مالكٌ للمُلك غير الله، {تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ * تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ}٥.
إنّه يرزق دون حساب، ولا يقتصر الرزق على الخبز ومرق اللحم، ففكر الإنسان رزقٌ من الله أيضًا، وعقل الإنسان رزقٌ من الله، وحياة الإنسان رزقٌ من الله، وعقائد الإنسان رزقٌ من الله، وإيمان الإنسان رزقٌ من الله.
وبناءً على هذا، ينبغي علينا نحن الناس الحقيري الشأن [بالنسبة لله] أن نرفع جميعًا بأيدينا نحو الله، ونناديه ونقول: «إلهي! نحن لسنا إلّا عبيدًا لك، وكلّ ما نريده لا نطلبه إلّا مِنك، فإذا أردنا الخبز، سنطلبه منك، وإذا احتجنا للباس سنطلبه مِنك، وإذا تمزّقت ثيابنا فاحتجنا إلى إبرةٍ لرتقها فلن نطلبها من غيرك، بل سنطلبها منك».
وليس معنى أنّنا لن نطلب من غيرك، أن نقول للخيّاط: لا تخِطه، بل إنّنا لا نرى أنّ الخيَّاط غيرُك، فنحن لا نعتمد عليه، إذ [لو لا إرادتك] لتعطّلنا إلى يوم القيامة، ولبقيت ملابسنا ممزّقةً، ولما استطعنا أن نخيطها، ولما تحرّكت يد الخيّاط.
إنّ الخيّاط والبقّال والفلاّح والعامل... جميعهم آياتُكَ، وعبيدُكَ، يُنفّذون أوامركَ، فأنتَ الذي أمرتَهم أنْ يقوموا بتلك الأفعال بهذا المنوال، ونحن عبيدٌ لك، وكلّ شيءٍ بيدك أيضًا، ولا فرق في ذلك بين الأمور الروحانيّة والمادّيّة، جميعها للّه.
والآن بعد أن رأينا بالوجدان بأنّك أعطيتنا هذه الماديّات، ووهبتنا العقل، وجاوزت بنا ـ منذ طفولتنا إلى الآن ـ تلك المنحدرات والمنزلقات الوعرة والمطبّات والعقبات التي تهجم علينا كلّ يومٍ آلاف بل ملايين المرّات وكادت تودي بنا إلى الموت، فنجيّتنا منها وأحضرتنا إلى هنا، وكان قد خُيّل لنا أنّ جميع ما لدينا من قدرةٍ هو من أنفسنا؛ وأنّ هذا المنزل لنا، وأنّ هذا البِنطال مِنّا، وهذه السيّارة مِنّا، وهذا الخاتم مِنّا، وهذه الطاولة مِنّا.
أمّا الآن فنقول: يا إلهي! امنحنا أمورًا ذات قيمةٍ عاليةٍ! جميع هذه الأمور لك بنحوٍ مُستقلٍّ، جميعها لك، كلّ شيءٍ لك بلا أيّ فرقٍ، فنشكرك ونحمدك أنّك أفهمتنا، وإلّا لو لبقينا حيث كنّا إلى آخر عمرنا؛ نظنّ بأنّ الأمور التي تُقسَم من قبل الله [هي الأمور المعنويّة فقط]، ونتخيّل بأنّ هذه الأمور [الدنيويّة] إنّما تأتي بقوّة نفس الإنسان، بينما الأمور المعنويّة لله؛ ولكُنّا مِثل الإيرانيّين القُدماء؛ ثنويّين وعُبّادًا للأصنام، نقول بوجود إلهين، ونعتقد بوجود إله الظلمات وإله النور، ونعتقد بـ «يزدان» و«أهريمن».
يا إلهي! ليس هناك من مُؤثّرٍ في عالم الوجود غيرك، لا حول ولا قوّة إلّا لك، أنت وحدك العالم، وحدك القادر، وحدك الحكيم، وحدك الرازق، الأمر سيّان بالنسبة لك، إذا أردتَ فأعطنا رزقًا ماديًّا أو معنويًا، رزقًا عقليًّا أو روحيًا ونفسيًّا، فكلّها شيءٌ واحدٌ بالنسبة لك، ولكنّ الأمر يختلف بالنسبة لنا. فأنا العبد، حينما أرفع هذا الإناء، فإذا كان وزنه خمسمائة غرام مثلًا أو مائة غرام، أقول: إنّه خفيفٌ، ولكن إذا كان وزنه عشر كيلواتٍ، فسأقول: إنّه ثقيلٌ؛ لأنّ قدرتي محدودةٌ، فأنا أحدّد كون الشيء ثقيلًا أم خفيفًا من خلال هذه القدرة المحدودة، فأقول: هذا ثقيلٌ وذاك أثقل، ولكن لا حدّ بالنسبة لك، فليس هناك أشدّ وأضعف بالنسبة لك، ولا أقلّ وأكثر، ولا كثيرٌ وقليلٌ، فقدرتك بالنسبة لجميع الموجودات واحدةٌ، وسواء أردتَ أن تخلق جبرائيل أم أردت أن تخلق بعوضةً، فالأمر سيّانٌ بالنسبة لك.
هذه المسألة مهمّةٌ؛ إذا أراد الله خلق جبرائيل، أو خلق رسول الله، أو خلق بعوضةٍ، فلا فرق بالنسبة له، وإذا أراد خلق ذرّةٍ أو خلق مجرّةٍ، أو أراد إعدام مجرّةٍ أو إعدام ذرّةٍ، فكذلك لا فرق بالنسبة له، القدرة من ناحيته واحدةٌ.
والآن طالما أنّ الأمر كذلك، فها نحن قد فتحنا أعيننا وانتبهنا وأقرّينا واعترفنا بأنّ هذا التنبّه وهذه اليقظة مِنّةٌ منك، ولو لم تُرد لنا ذلك، لبقينا نغطّ في نومنا وغفلتنا، وهو ما نراه عند آلاف الأفراد من أمثالنا الذين يغطّون في سبات الغفلة، ولا يستيقظون. إنّك أيقظتنا، ولذا سنسجُد لك ونشكرك ونحمدك ونمدحك ونقول: بخٍ بخٍ! ما ألطفك من إله! ما أحسنك من إله! ما أرحمك من إله! الإرادة هي إرادتك أنت، كان والدي صالحًا، وكانت أمّي صالحةً، وكان حليبها طاهرًا، وكان جدّي صالحًا، وكان والد جدّي صالحًا، فمن أين أتوا بهذه الأمور الحسنة والصالحة؟! هل ذلك سوى أنّك منحتهم إيّاها؟! إذن فأنتَ الجميل، أنتَ الجميلُ.
وكُلُّ جَمِيلٍ حُسنُهُ مِن جَمالِها | *** | مُعارٌ لَهُ بَل حُسنُ كُلِّ مَليحَةِ۱ |
يعني: كلّ جميلٍ في الدنيا وكلّ حُسنٍ هو عاريةٌ جاء منك إليها، بل كلّ حُسنٍ لكلّ مليحةٍ، فكلّ مليحةٍ في الدنيا وكلّ مليحٍ ملاحتهما وحُسنهما منك.
إنّها رشحاتٌ، وشعاعٌ، وأشعّةٌ من نورِ وجودك سطعتْ على هذه الموجودات، نشكرك أن مننتَ علينا بمحبّتك هذه، فلو شئتَ لما مننتَ بها، وما لأحدٍ أن يعترض عليك، {لَا يُسۡـَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ وَهُمۡ يُسۡـَٔلُونَ}٢.
لو شئتَ لخلقتنا من موجودٍ عنيفٍ وشقيٍّ أبوه شقيٌّ وأمّه شقيّةٌ وجدّه شقيٌّ فنصبح نحن أشقياء أيضًا، ففي نهاية المطاف الأمر بيدك، ولكنّك خلقتنا هكذا، فكذلك الأمر بيدك؛ نشكرك ونحمدك انطلاقًا من الجهة التي بِتنا ننظر إلى الأمور منها، إذ نرى كلّ هذه الأمور منك، حُسْن الأمّ منك، حُسْن الوالد منك، حُسْننا منك أيضًا، الكمال منك؛ والآن بما أنّ الأمر كذلك نسألك وندعوك بالنسبة لكلّ القوى التي مننتَ بها علينا وأوصلتها في مرحلة العلم والكمال إلى الفعليّة، فجعلتنا مؤمنين، وجعلتنا موقنين، وجعلتنا لا نعتني بالأمور الدنيويّة والشهويّة ولا للصعود والنزول، ولا بالجاه والاعتبار، وأيقظتنا، وفتحت بصيرتنا، فالحمد كلّ الحمد لك، ونشكرك على كلّ ذلك.
ولكن يا إلهي! حافظ على هذه الأمور عندنا، ثَبِّتنا عَلَى هَذا الصِّراط؛ لأنّك لو أردتَ أن تغيّر ذلك، لغيّرته في نفس اليوم، ولتحوّل بلمح البصر المسلم إلى كافر، والكافر إلى مسلم.
«عبدٌ» يعني: أن تستعطي، أن تستعطي للوصول نحو الله! «عبدٌ» يعني: أن يترك التسّول من كلّ العالم، ويحصر تسوّله في التسوّل من الله، أمّا مَن كان عبدًا لغير الله فهو لا يطلب من الله، ويتسوّل من جميع عالم الوجود، ولو كان هو من السلاطين ورؤساء جمهوريّات الدنيا، فهؤلاء هم أكبر المتسوّلين بين الناس!
كان بهلول ابن خالة أو ابن عمّ هارون، وكان مجنونًا، وفي يومٍ من الأيّام دخل بسرعة إلى قصر هارون وصعد إلى عرشه وفي يده درهمٌ ـ وبما أنّه كان شخصًا معروفًا كان الحجّاب يأذنون له بالدخول ـ فتقدّم وقال لهارون: «خُذ!»، فمدّ هارون يده، فوضع ذلك الدرهم في يد هارون، فرجع ونزل.
قال هارون: «دعني أرى ما هذا؟»، فقال: «اليوم جاء شخصٌ وأعطاني هذا الدرهم وقال: أعطِ هذا الدرهم لأكثر الناس تسوّلًا، وأنا رأيتُ أنّك أكثر الناس تسوّلًا!».
قال: «وا عجبًا! ما هذا الكلام؟! أي كذبٍ هذا؟!»، فقال: «حسنًا! جميع الناس يطلبون ويتسوّلون، ولكنّك تتسوّل أكثر منهم؛ لأنّ أحدهم يتسوّل ويطلب مائة تومان، والآخر يتسوّل ويطلب ألف تومان، والثالث يتسوّل ويطلب قافلة بأكملها، أمّا أنت فقد جلست هنا وصرت تتسوّل أكثر من الجميع لأنّك تختلس من جميع الناس، إذن فأنت أكثر الناس تسوّلًا».
لو شاء الله لخَلقكَ هكذا [مثل هارون]، والحمد للّه أنّه لم يفعل.
إلهي حافظ على هذه الحال عندنا! ثمّ إنّ استعداداتنا لم تصل بأكملها إلى فعليّتها، ولو أنّها وصلتْ لكنّا مرتاحي البال، ولكنّنا غير مرتاحي البال، ولذا نعاود الطلب منك مرّةً أخرى، وننتظر استجابتك، نطلب منك أن توصل تلك القابليّات إلى الفعليّة.
يا إلهي! إنّ مطلوبنا هو أنت، وننتظر أن تستجيب لنا، ومحبوبنا هو أنت، هذا هو طلبنا! وعلينا أن نَعود إلى أنفسنا في الخلوة والجلوة، وأن نفهم بأنّه لن يُشبعنا في عالم الوجود ويروينا ويُريحنا إلّا الوصول إليك، وإلى جمالك أنت، ولقاءك أنت، وزيارتك أنت؛ وهذا الاستعداد لم ينشأ لدينا الآن، بل أنت من وضع هذا الاستعداد فينا، وإلّا لما كان مطلوبًا لنا، ولا كنّا لنطلب هذا المعنى.
وإنّ طلب هذا المعنى دليلٌ على أنّه يُمكننا الوصول، وأنّك خلقتنا من أجل ذلك؛ وطالما أنّ الأمر كذلك، نطلبُ منك أن توصل استعداداتنا إلى فعليّتها، ولا تُخرجنا من هذه الدنيا ناقصين، وغير ناضجين، وطالما لم نصل إلى الفعليّة فلا تخرجنا من الدنيا؛ لأنّنا إذا كنّا غير ناضجين فسوف نَنْهمِك بالبكاء والنياحة عندما يحين وقت موتنا ونقول: سيخرب منزلي، وسيُصيب أبنائي، وزوجتي، وأموالي كيت وكيت ... .
نتائج وصول السالك إلى اللـه
ولكن إذا رحمنا الله ووصلنا فسوف نكون جذلين فرحين؛ لأنّنا نذهب من العالم الضيّق إلى العالم الواسع، ومن عالم الظلمة إلى عالم النور، ومن عالم الشيطان إلى عالم الملائكة، وسيكون ذلك العالم عالمًا جيّدًا جدّاً، وذا قيمةٍ عاليةٍ جدّاً، ومليئًا بالأجر والروح والريحان وجنّة النعيم ورضوان الله عزّ وجلّ ومُلاقاة أولياء الله والأئمّة والأنبياء والوصول إلى مقام {أَوْ أَدْنَى}۱، وستزول جميع الحُجُب، وسوف يكون الإنسان {فِي مَقۡعَدِ صِدۡقٍ عِندَ مَلِيكٖ مُّقۡتَدِرِ }٢ وبجانب حوض الكوثر وزمزم ومقام ولاية أمير المؤمنين ويكون له «ما لا عَينٌ رَأَت وَلَا أُذُنٌ سَمِعَت وَلا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَر»٣، فيسكن ويتوطّن هناك، وطبعًا إنّ الله يُعطي هذه الأمور للإنسان قبل الموت وفي الدنيا، فهل تريدون شيئًا أعلى من هذا؟!
واقعًا للإنسان سبيلٌ [إلى تلك المقامات] في هذه الدنيا بهذه البساطة.
يقول هاتف الأصفهاني:
هاتف! اربـاب معـرفت که گهی | *** | مست خوانندشان و گه هشیار |
از می و جام و مطرب و ساقی | *** | از مغ و دیر و شاهد و زنّار |
قصد ایشان نهفته اسراریست | *** | که به ایماء کنند گاه اِظهار |
پی بری گر به سرّشان دانی | *** | که همین است سرّ آن اسرار |
که یکی هست وهیچ نیـست جز او | *** | وَحدَهُ لا إلَهَ إلّا هُو |
ويقول في مكان آخر:
یار بیپرده از در و دیوار | *** | در تجلّی است یا أُولی الأبصار |
حتّى يصل بعد ذلك إلى هنا:
شمع جوییّ و آفتاب بلند | *** | روز بس روشن و تو در شب تار |
گر ز ظلمات خود رهی بینی | *** | همه عالم مشارق الأنوار ٤ |
اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وآلِ مُحمَّد