المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم العقائد
التوضيح
ما حقيقة عيد الغدير ولماذا يفوق سائر الأعياد؟ وما هي الأعمال النفسيّة والباطنيّة والمعنويّة فيه؟ ولماذا كانت الولاية شرطًا لقبول الأعمال؟ وما معنى إكمال الدين وإتمام النعمة فيه؟ ولماذا لا يقوم مقام النبيّ صلّى الله عليه وآله إلا عليّ عليه السلام؟ تجيب هذه المقالة المستفادة من محاضرات سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه عن ذلك بالاستفادة من الأدلّة القرآنيّة والأحاديث الشريفة والتحليل العقليّ.
هو العليم
حقيقة الغدير وأعماله الباطنيّة
عبادة بلا ولاية فعل بلا روح
بحث منتخب من محاضرات
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
و
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سرّهما
إعداد: الفريق العلمي في موقع مدرسة الوحي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على خير خلقه وأشرف بريّته
محمد الحميد المحمود وعلى آله أمناء المعبود
عيد الغدير عيد العلم والمعرفة
اليوم هو يوم عيد الغدير؛ وهو عيد أسنى من نور الشمس. وقد ورد عندنا في الروايات بأنّه يفوق عيدي الفطر والأضحى في فضلاً.
فمن تصدّق في هذا اليوم بدرهم واحد كمن أنفق جبل أبي قبيس في سبيل الله.
والعبادة، الصلاة، الصوم في هذا اليوم أفضُل منها في سائر الأيّام من جميع الجهات؛ فالصوم في هذا اليوم يعدل صوم الدهر، وهذا أمر مسلّم، لماذا كان الأمر كذلك؟
لأنّه عيد الغدير... وماذا يعني عيد الغدير؟! إنّه يعني عيد المحبّة، عيد الولاية، عيد الصدق، عيد الصفاء، عيد اتصال العبد بالله، عيد لقاء الله، عيد الجذبات الربّانيّة، عيد الوصول، عيد الإيصال، عيد المعرفة، ذلك هو عيد الغدير إذن!
وفي شهر رمضان المبارك، أدّى الناس الصيام وقاموا بالعبادة؛ ولهذا يُستحبّ لهم عندما يحين آخر الشهر أن يشتغلوا بالعبادة في الليل إلى أن يحلّ الصباح، وأن يحتفلوا كذلك بالعيد في يوم عيد الفطر. لماذا كلّ ذلك؟
لأنّهم تقرّبوا إلى الله طيلة شهر واحد، فصاروا أكثر خفّة، ووضعوا عن كاهلهم عبء الذنوب، واشتغلوا بالعبادة، فمن الطبيعي أن يخفّف عنهم ذلك من الذنوب.. (الذي جَعلتَه لِلمُسلمينَ عيداً) .
عيد الأضحى هو كذلك عيد. فلأنّ الناس قد حجّوا، وقفوا بعرفات، وقفوا بالمشعر، ذبحوا الأضاحي وحلقوا الرؤوس، فمن اللازم عليهم أن يحتفلوا بالعيد.. بذلك العيد.
وأمّا عيد الغدير، فهو عيد مختلف تماماً؛ إذ أنّه ليس عيداً للعبادة والنسك والعمل، بل هو أعلى من ذلك؛ فكأنّ حقيقته أرقى وروحه أعلى، وإذا صنّفنا الأعياد وفق درجاتها، فإنّ عيد الغدير سيتقدّم عليها بدرجات وسيمتلك بالمقارنة إليها حظّاً وافراً.
هذا العيد هو عيد العلم؛ لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام [صاحب هذا اليوم] هو اسم الله الأعظم والتجلّي الأعظم للّه والمتحقّق بعوالم القدس والطهارة، وهو اسم الله الحميد وحامل لواء الحمد والشفاعة الكبرى يوم القيامة. فكلّ هذه الأمور هي صادرة عن مقام علم أمير المؤمنين، وكلّ الأشياء قد ترشّحت من ذلك العلم؛ ولذلك فإنّ هذا العيد هو عيد الولاية؛ أي عيد الاطّلاع على الحقيقة وعيد المعرفة.
وإذا حصل الإنسان على المعرفة، سيكون حجُّه صحيحاً، وصيامه لشهر رمضان صحيحاً. وإذا لم يحصل عليها، فلن تكون تلك الأمور صحيحة أيضاً؛ لأنّ الله تعالى الذي أوجب علينا هذه التكاليف لا حاجة له بصورتها، بل يُريد تلك الروح والحقيقة المتضمَّنة في ذلك الهيكل والتي لا تتحقّق إلاّ بالولاية.
ولهذا السبب، توجد لدينا أخبار صحيحة رواها كلّ من الشيعة والسنّة مفادها أنّه:
لو أنّ عبداً قام الليل طوال عمره ما بين الركن والمقام، وكان صائماً في النهار أيضاً، واستشهد في سبيل الله في نفس ذلك المكان، وكان عمره بنفس عمر آدم إلى يوم القيامة، لكنّه كان خالي الوفاض من ولايتنا، لم ينفعه ذلك شيئاً.
لماذا؟
لأنّ الولاية تعني حقيقة المعرفة. فإن لم يكن الإنسان مالكاً للمعرفة، فإنّ الحائط كبير جدّاً، وجبل أبي قبيس كذلك، وجبال الهيمالايا بدورها كبيرة جدّاً، كما أنّ في هذا العالم حيوانات أقوى منّا، أجسادها أضخم، قدرتها أعظم، عمرها أطول (حتى يقال أنّ النسر والغراب يعمّران ألف سنة)، تتمتّع بصحّة بدنيّة أفضل، تعيش براحة أكبر، ومع كلّ ذلك فهي لا تمتلك أدنى قيمة. فلماذا يمتلك الإنسان هذه القيمة والمنزلة؟ سبب ذلك هو معرفته بالطبع.
وعليه، فإنّ أفراد الإنسان يتوفّرون على درجات وأجر أعلى عند الله تعالى بحسب علوّ درجاتهم في المعرفة.
فهذا العيد يعني عيد التعريف بالحقّ، لأنّ أمير المؤمنين استطاع أن يُعرّف الناس على الله والرسول والقرآن.
[وهناك] رواية صحيحة... ينقلها كلّ من الشيعة والسنّة وكذلك السيّد المرتضى، وهي تتضمّن أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم قال ما مفاده:
يا علي! أنت الذي تُسمع صوتي للعالمين وتوصل ندائي إلى أسماعم وأفئدتهم، وتُنجز عداتي، وأنت الذي يُمكنه أن يُؤدّي عنّي دَيني ويُبلّغ رسالتي! ۱
ما معنى هذا؟ يعني أنّه إذا لم تكن أنت، فأنا أيضاً لست بشيء! فحينما جئتُ ووضعت الحجر الأساس للنبوّة وهداية الناس، فإنّ ذلك سيظلّ عقيماً لو لم تكن أنت؛ ولهذا فإنّ وجودك ضروريّ من أجل إيصاله وتبليغه.
وعليه، لا مجال للتردّد عند الشيعة والسنّة في هذه الرواية التي قال فيها الرسول:
أنا قاتلت الناس على تنزيل القرآن، وأنت يا عليّ تقاتلهم على تأويله!
أي أنّك أنت المكلّف بتبليغ حقيقة القرآن، تفسير القرآن، معنى القرآن، مآل ومرجع الآيات القرآنيّة.۱
عيد الغدير عيد الارتباط بالله وحصول تأثير الأعمال
إنّ رسول الله أتى في يوم الغدير لنصب الحلَقة التي تربط بين الإنسان وبين الله، وهذا الأمر لا يتمّ بتولّي الزّبير أو طلحة أو أبي بكر أو سعد بن أبي وقّاص؛ فهؤلاء أناس عاديّون، أمّا رسول الله فقد جاء ليقول: إنّ تلك القضيّة وتلك المسألة التي ستسبّب اتّصالكم بالله، وبالتّالي ستؤدّي لاتّصال صلاتكم، واتّصال حجّكم، واتّصال صيامكم، وبواسطة هذا الاتّصال سيحصل لكم التّغيير، والرُّقي، وستخرجون من نفوسكم، ومن الدّنيا، وبواسطته سيحصل لكم التقرّب والتجرّد، فهذا الأمر ليس هو الصلاة والصيام؛ لأنّ جميع هذه الأمور قد أبلغتها لكم سابقًا؛ ولكن ما هو الأمر الذي بقي ولم أُخبركم به؟ ما بقي هو ذلك الارتباط بعليّ، وهذه المسألة هي المسألة التي إذا وُجدت فقد وُجد كلّ شيء، وإن لم تكن موجودة فستكون صلاتك كصلاة الروبوت، وصيامك كصيام الروبوت، وحجّك كذلك سيكون حجًّا روبوتيًّا، وإعطاؤك للخُمس والزّكاة سيكون كإعطاء الروبوت، وجميع أعمالك ستكون كأعمال الروبوت، مجرد أعمال ظاهريّة، وكثير من الناس يعيشون كما قلتُ لكم، يعيشون مثل الرّوبوتات تمامًا وهم راضون، ولا يواجهون أيّة مشاكل بهذا الأمر.٢
لا قيمة للأعمال بغير ولاية؛ فلو أنّ الإنسان عبد الله ألف سنة من دون أن يعرف أمير المؤمنين، فإنّه يكون قد عبد نفسه ولم يعبد الله تعالى، يكون قد عبد نفسه وميوله ورغباته وأمانيه الشخصيّة، وعبد ذلك الإله الذي نَحَته في قلبه.
ولذلك فإنّنا لا نُشاهد آثار العبوديّة ظاهرة عليهم؛ فكلامهم جامد وجافّ، تراهم يُصلّون ولكنّ قلوبهم جامدة؛ فلا رحمة ولا مروءة ولا إنصاف ولا عطف ولا قلب ليّن ولا حميّة. وأمّا أولئك الذين كانوا مرتبطين بأمير المؤمنين، فإنّهم يرأفون بالجميع: يرأفون بالكفّار، ويرأفون بالحيوان، ويرأفون بكلب الزقاق المغمور بالثلج ويشفقون عليه، ما هو السبب في ذلك؟
لأنّ أمير المؤمنين يمتلك جنبتين: جنبة في عالم التوحيد، وجنبة في هذا العالم، مع العلم بأنّ التوحيد قد ضمّ تحت جناحه جميع العوالم باسم الرحمة، ونشر عليها ظلال الرحمة. وبما أنّ أمير المؤمنين هو مثال للرحمة، فقد ساق أغصان الرحمة إلى جميع موجودات عالم الخلقة التي تمتلك حظّاً من الوجود. وعليه، يكون عيد الغدير هو أعظم الأعياد.٣
العلّة في انحصار الولاية في عليّ عليه السلام إشرافه على الباطن
إذن لقد جاء رسول الله وقال: إنّ الحلقة التي تربط الإنسان بالله هي عليّ لا غير، ولن تجدوا هذه الحلقة في سعد بن أبي وقّاص، ولن تجدوها في الزبير، ولن تكون موجودة في طلحة، مع العلم أنّ أولئك كانوا رجالًا جيّدين وكانوا من أصحاب الرأي بين النّاس، بالطّبع كانوا جيّدين في ذلك الوقت، أمّا بعد ذلك فقد ابتعدوا عن أمير المؤمنين واختلف وضعهم، ولكن قبل ذلك كانوا رجالًا جيّدين وقد خاضوا الحروب بثبات وإصرار، ولكنّهم لا يستطيعون القيام بما يقوم به عليّ، وأقصى ما يمكنهم فعله هو أن يقوموا بالعدل الذي يقتضيه عقلهم. أمّا [ما يقوم به عليّ] فيتطلّب عينًا أخرى ليستطيع العمل بها طبقًا لرضا الله وطبقًا لمصالح النّاس، وأولئك لا يمتلكون تلك العين، فتلك العين لا توجد إلا عند واحد فقط، وإن صلُحت تلك العين (عين الباطن) فهذه العين الأخرى [العين الظاهريّة] ستبصر بشكل صحيح، فلن ترى الواحد اثنين، ولن ترى الاثنين واحدًا، ولن يكون فيها انحراف، ولن ترى الأسود أبيض، وأمّا إذا لم تصلح تلك العين فسوف تفسد هذه العين كذلك، وسيحصل الاشتباه في المصداق.۱
عيد الغدير عيد التحرّر من الأغلال
وهذا النبيّ يحلّ الأغلال والسلاسل التي تقيّد الأيدي والأرجل، من العباد والأهواء والكثرات والدنيا والشهوات والمواقع وكلّ ما يمنع من عبور الدنيا الدنيّة، ومن الوصول إلى عالم التجرّد، فيحلّها جميعاً ويجعلهم في راحة منها. هذه هي خصوصيّة النبي، فالنبيّ جاء لهذا الغرض، والنبيّ جاء من أجل هذه الحقيقة، جاء من أجل هذا الهدف. لم تكن المسائل التي جاء بها النبيّ للناس مختصّة بإقامة الصلاة، ولم يكن المنهاج الذي وضعه لهم مقتصراً على إقامة صلاة الظهر أربع ركعات؛ لأنّ عمر أيضاً كان يصلّي تلك الصلاة، ويزيد أيضاً كان يصلّيها، وعمر بن سعد كان أيضاً في ليلة العاشر يصلّي نفس هذه الصلاة، وعندما قطّع ابن رسول الله وأولاده، صلّى على أصحابه الذين كانوا قد قتلوا ووصلوا إلى الجحيم صلاة الميّت! عمر بن سعد نفسه صلّى صلاة الميّت! نعم، هؤلاء كانوا يصلّون هذه الصلاة، وكانوا أيضاً يصومون، وكانوا أيضاً يؤدّون الواجبات، وكانوا يتركون محرّمات كثيرة: كشرب الخمر والقمار والشطرنج والموسيقى والسفور؛ فإنّهم كثيراً ما كانوا لا يرتكبون هذه الأمور. ولكن ما هي مشكلتهم؟ مشكلتهم هي أنّهم لم يريدوا أن يحلّ رسول الله الأغلال والسلاسل عن أيديهم وأقدامهم، هذه هي مشكلتهم، يعني: يريدون الرسالة بلا مضمون، والبعثة بلا غاية! لم يأتوا ويجعلوا أنفسهم مسلّمة له ومطيعة، ولم يقولوا: الآن تعال وحلّ لنا الغلّ والسلسلة. النبيّ لم تكن له قرابة مع أحد، بل كان يتحرّك على أساس الضوابط. لذا جاءوا وقالوا: يا رسول الله، نحن نقبل أن نصلّي، ولكنّا لا نقبل ولاية صهرك وابن عمّك وخليفتك. حسناً ما فائدة ذلك؟ ما نتيجة ذلك؟ فلتضرب تلك الصلاة برأسك! يا رسول الله، نقبل أن نصوم الصوم الذي جئت به، ولكنّنا لا نقبل المسألة الأُخرى التي هي أصل، والتي هي قاعدة، والتي هي الولاية والتسليم. نحن نصلّي الصلاة التي نختارها نحن لا أنت! نصوم الصوم الذي نحن نشخّصه لا أنت! نحجّ الحجّ الذي نشخّصه نحن لا أنت! ما فائدة ذلك؟ ما نتيجة ذلك؟ أي أثر يترتّب على ذلك؟
إنّ الصلاة بدون تسليم مجرّد رياضة، وأنّ الصوم من دون تسليم للحقّ وتسليم في مقابل الإمام نظام غذائي، وأنّ الحجّ المجرّد عن الولاية نزهة وتجوال وسفر، والإنسان يسافر، فليكن أحد أسفاره الحجّ أيضاً! يروّح عن نفسه أيضاً، يرى هذا المكان ويرى ذلك المكان، يرى الأبواب والجدران والمتاجر!
نعم، ما جاء به النبيّ في القرآن ليس مجرّد الصلاة! كم آية عندنا في القرآن تتعلّق بالصلاة؟ كم آية عندنا تتعلّق بالصوم؟ كم أكّد على ذلك؟ بل ما أكّد عليه هو التسليم.
{فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْليماً}۱
وهذه آيات عجيبة؛ لأنّها تبيّن رمز وسرّ الإسلام، وتبيّن التشيّع للإنسان، تبيّن أنّ رمز وسرّ التشيّع والإسلام هو التسليم في مقابل إرادة رسول الله. عندما يأتون إليك، يجب أن لا يأتوا مع افتراض مسبق. عندما يأتون إليك لحلّ النزاع، يجب أن لا يجول في خاطرهم هذا: أن نذهب إلى النبيّ ليحكم لصالحنا، وإذا لم يحكم لصالحنا فماذا نفعل؟! من الآن نجلس ونرقّع القضايا بحيث نستطيع أن نبرّرها باستمرار عندما لا يحكم النبيّ لصالحنا، نبدأ عندما نخرج من البيت، ونمشي ونذهب إلى النبيّ، والأمر يكون هكذا، فمرّة يحكم النبيّ ويفتى لهذا الطرف، ومرّة النبيّ يحكم لذاك الطرف، فحكم النبيّ ليس في يدنا بل في يده، فإذا حكم بنفعنا نسرّ وترتسم على وجوهنا ابتسامة وتتغيّر ملامح وجوهنا، وإذا لم يحكم لصالحنا فجأة نعبس. يا إلهي لماذا حدث هكذا؟! فمنذ ذلك الوقت وقبل أن نصل إلى النبيّ نشرع باستمرار بتوجيه الجهة السلبيّة للحكم، وأنّ المسألة لم تبيّن للنبيّ بشكل جيّد، وأنّا لو كنّا قد أوضحناها بشكل آخر فربّما كان الأمر مختلفاً. الآن هذا النبيّ كان نظره هكذا، ولكن في النهاية نحن أنفسنا أيضاً نعلم ما الذي حدث، ما الذي فُعل، ما الذي يكون. هذه الأمور كلّها لمكان أنّنا لا نريد أن نحلّ الغلّ والسلسلة، تلك السلسلة الموجودة الآن في أيدينا وأرجلنا، مع أنّنا لا اطّلاع لنا عليها. الله الآن فسح لنا مجالاً، بسط لنا سفرة. لماذا قدّم لك قضيّة النزاع بينك وبين شخص آخر؟ لكي ترجع إلى رسول الله، ويحلّ غلّك وسلسلتك بواسطة الحكم عليك. نعم، أنت هربت وخرّبته، هذه المشقّة التي حصلت وهذا النزاع الذي وقع بينك وبين رفيقك، هذا النزاع جاء من فوق؛ لأجل أن يرفع عنك ذلك الغلّ، والدواء الذي يعطيه الطبيب ليس كلّه عصيراً، ليس دائماً أقراصاً حلوة، ليس دائماً بقلاوة وحلوى؛ ففي بعض الأوقات يحتاج العلاج إلى إبرة، فيوخز الطبيب مريضه بالإبرة، والإبرة مؤلمة، فنفس وخزها مؤلم، كما أنّ المادّة التي تحقن بها هي مؤلمة. وفي بعض الأوقات يحتاج الأمر أكثر من الإبرة، يكون هناك عمليّة، يجرون عمليّة ويفتحون ويخيطون. في ذلك الوقت الذي كان يذهب فيه المساكين المرضى إلى الطبيب لم يكن المسكّن متوفّراً. وكنت أقرأ في تاريخ الطبّ أنّهم كانوا في سالف الزمان يجرون العمليّات بغير مسكّن حتّى مثل عمليّة الزائدة، كانت تتوفّر لهم آنذاك بعض الأعشاب التي تترك أثراً بسيطاً من التخدير، وكان يبتلى ذلك المريض بالأذى والألم، لكن الآن يحصل التخدير وتوفّرت وسائل الراحة. إذن هذا الوضع الذي حدث من قبل الله، ويجب أن نعتبره منّة علينا. ونحن في زمان حياة المرحوم الوالد رضوان الله عليه كنّا نشاهد هذا الأمر بشكل واضح، فقد كنّا نشاهد أنّ كثيراً من الأمور التي تحدث لم تكن تحت اختيار الطرفين، كانت تحدث بشكل غير معتاد وكان يجب أن تحدث هذه القضيّة حتّى يعبر هذا بواسطة تلك النتائج التي تترتّب على هذه المسألة، وحتّى يجتاز. وكنّا نرى أنّ البعض كان يقبل وكان يبتهج وكان يستوعب، والبعض كان يرفض، وفجأة كان يصدر منه كلام في الاعتراض: ما هذا الحكم الذي حكم به السيّد؟! نحن لا نقبل هذا!! ويجب أن توضّح له القضيّة مرّة أخرى!! ويجب أن نذهب إليه مرّة أخرى!! ألا تعلم يا عبد الله أنّ هذا الشيء كان لأجلك، كان يجب أن تحدث هذه القضيّة من أجلك.٢
يوم الغدير هو يوم غلبة العقل على الإحساسات
يوم الغدير إنّما هو لأجل أن يرفع هذه الإحساسات عنّا، إنّه من أجل ذلك. فالنبي كان قد أتى طوال ثلاثة وعشرين سنة بأحكام وبيّنها للناس، لكن الله تعالى لم يقل: {اليوم أكملت لكم دينكم}، ولم يقل: {أتممت عليكم نعمتي}، والحال أن النبي أعلى من أمير المؤمنين، حيث أنّ النبي كان حائزاً على مقام الولاية الكلية ومقام ختم الرسالة، فضلاً عن كونه مربياً لأمير المؤمنين، فأمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: "كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمه"، يقول: كنت أتبع النبي حتى أني كنت أضع قدمي مكان قدم النبي، كما أن الفصيل يتبع أمّه الناقة ويضع قدمه محل قدمها، حتّى أنّي لم أكن أضع قدمي في غير المكان الذي وضع قدمه فيه، وهذا عجيب جداً .. لم أكن أخالفه في شيء أبداً، بحيث أن ذاك الممشى الذي وضعه النبي لي لم أكن أتخطاه إلى هذا الطرف أو ذاك. ألم يقل أمير المؤمنين عليه السلام: "أنا عبد من عبيد محمد"٢؟ فهل كان يمزح عندما قال ذلك؟! أم هل كان يتواضع؟! كلا هذا الكلام لا يصدر من أمير المؤمنين! نعم، يمكن أن يصدر منّا نحن، فالتواضع والاحتيال والسخرية والقول بخدمتكم مولانا وما شابه ذلك (بينما من جهة أخرى نعمل ما يحلو لنا!!) .. هذه لنا نحن، ولا يصدر هذا الكلام من أئمّتنا عليهم السلام، فالتواضع وخلاف الواقع لا يتّأتى من الأئمة، فعندما يقول
الإمام: "أنا عبد من عبيد محمد" فهو يقول الواقع والحقيقة لا أنّه يكذب. لكن مع ذلك يأتي البعض، ويقول بأن أمير المؤمنين كان أعلى من النبي، هذا كله مخالف للصواب؛ فالإفراط مخالف، كما أن التفريط أيضاً خلاف، والواجب علينا أن ننظر إلى رسول الله بعنوان كونه التجلي الأعظم لله والجامع لمقام الواحدية والأحدية وبكونه الظهور الأول للباري .. فهذا كله محفوظ، وبعده أمير المؤمنين.
فالنبي الذي هو علة وجود وتكوين نفس أمير المؤمنين، وهو من الناحية التشريـعية أستاذ أمير المؤمنين ومربّيه الذي أخرجه إلى حالة الفعلية؛ كما كان يقول: "كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثير أمه"، و ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان يقول: "كان يرفع لي في كل يوم درجة ويعلمني ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب" .. فالنبي الأكرم من كلا الطرفين أولى وأرجح من أمير المؤمنين؛ إذ هو أرجح من الناحية التكوينية، ومن الناحية التشريعية والتربوية أيضاً.
و مع ذلك فقد بقي النبي لمدّة ثلاثة وعشرين عاماً بين الناس، إلاّ أنّ الله تعالى لم يقل: {اليوم أكملت لكم دينكم}، فهل أضاف أمير المؤمنين يوم الغدير شيئاً على الدين؟ فهل أضاف حكم الصلاة؟ كلا بل الصلاة كانت مشرعة قبل ذلك. هل أضاف حكم الحج أو غير فيه، هل غيّر حكم الزكاة؟ ما الذي حصل يوم الغدير؟ ماذا قال أمير المؤمنين في ذلك اليوم؟ لم يقل شيئاً، بل الذي حصل هو أنّ النبي أتى وأخذ يده وقال: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه" ، فكل من كنت مولاه وأقرب إليه من نفسه .. يعني أن النبي بما له من الاختيار بالنسبة إلينا، وبما له من التصرف فينا بما لا نمتلكه نحن بحقّ أنفسنا ....۱
الآن يأتي الرسول ويقول هذه الأولوية التي كانت لي عليكم والتي ستبقى إلى يوم القيامة دون أن تنقـضي بموتي .. هذه الأولوية موجودة عند علي أيضاً، هذه هي المسألة! يعني لا تتوهموا أني راحل عنكم بعد شهرين، إذ سأموت بالسم الذي يدسه لي زوجتاي هاتين .. ففي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنهما اللتان سمّتا رسول الله .. طبعاً بإدارة وتوجيه من الخارج، لذا نحن نعتقد بأن رسول الله مات شهيداً مسموماً ...
[يريد رسول الله أن يقول لنا: لا تتوهموا أني راحل عنكم بعد شهرين، لأنّ] هذه الولاية والأولوية سوف تبقى، وهنا يقول الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}. وإلاّ فما هو الحكم الذي جاء به أمير المؤمنين ولم يكن قبل ذلك؟ إذ النبي ذكر أحكام الصلاة للجميع قبل ذلك، وكذا أحكام الصوم والخمس والزكاة والحج والجهاد في سبيل الله، نعم بيّن بعضها بشكل مجمل في الروايات، وتم بيانها بشكل مفصل في زمن الأئمة عليهم السلام، وخصوصاً ما ورد في المجاميع الروائية الواردة عن الصادقَين بالذات. فلو فرضنا أن الله تعالى يريد أن يضيف حكمين بعد مائة سنة أو مائة وخمسين سنة، فهل يقول من أجل ذلك: {اليوم أكملت لكم دينكم}، فهل حقيقة الأمر كذلك؟ هل نتصوّر أنّ الله لم يعتبر جميع جهود النبي طوال ثلاثة وعشرين سنة، أما الأحكام التي سيأتي الأئمة ويبيّنوها فهي التي يكمل الدين بها؟! لا شك أن الأمر ليس كذلك. فما هي المسألة التي هي أعظم من التكليف؟ ما هي القضية التي هي أهم من هذه الثلاثة وعشـرين سنة؟ وما هو الشيء الأخطر والأهم والأرجح الذي جعل الله تعالى يهدّد رسوله بالقول: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}؟! إنّ بيان حكمين إضافيّين لا يستدعي تهديداً، إذ مفاد التهديد هو أنه إن لم تفعل هذا الأمر فإن جميع ما قمت به خلال ثلاثة وعشرين عاماً سيذهب هباءً. لماذا هذا التهديد؟ إذ الأحكام الشرعية قد بُيّنت، ومكارم الأخلاق قد عرضت، وسيرته قد كشفها للجميع .. فما الذي بقي حتى يأتي الخطاب الإلهي إليه ويهدّده عبر قوله: {يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} ؟! فالله كان قد طلب من النبيّ إبلاغ ولاية الإمام عليه السلام طوال هذه المدّة أكثر من مرّة، وكان النبي يخشى من بيانها مباشرة، وإن كان قد أبلغها بعبارات مختلفة ومسائل أخرى: كقوله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، و "لولا أن أخاف على أمتي ..."، و "علي كنفسي ..." وغيرها من الروايات، وكان يذكر هذه المسائل بين الأصحاب ويهيّئ بذلك الأرضيّة له، لكنه كان يخشى أن يقول لهم: (لقد نصبت لكم بعدي أمير المؤمنين، وما كان لي من حكم عليكم وأولوية من أنفسكم؛ حيث لا يمكنكم أن ترجحوا إرادتكم على إرادتي، ويجب عليكم شرعاً وعقلاً وتكليفاً أن ترجحوا اختياري وتقدموه على اختياركم وإرادتكم .. فهذا الترجيح والأولوية التي لي تنتقل إلى علي بعدي) ، لم يقل ذلك؛ لأنه يعلم بالأوضاع، وكان يرى الناس ويعرف ميولهم وأهواءهم ويشاهدهم كيف يفكرون، وكان يرى المنافقين .. الذين كانوا ينتظرون أن يحصل للنبي أمرٌ كي يأخذوا بزمام الأمور، كانوا ينتظرون حصول شيء حتى ينقضّوا بعد ارتفاع هذا المانع، ألم تروا الأحزاب السياسية كيف تتعامل؟ ينتظرون هذا كي يموت حتى يأتي الآخر مكانه، أو يحصل لذاك أمر حتى يتاح للآخر الفرصة، ويكون مقبولاً لدى الناس .. في ذلك الوقت كان الأمر كذلك أيضاً [ضحك] .. كانوا يعدّون أموراً و مكائد لهذا وذاك ويكذبون .. ويتحدّثون إلى هذا وذاك ويغيّرون رأي الناس فيه .. حتّى يأتي هذا المتآمر مكانه ضمن جوّ من الإعلام الخاص .. هذه الأمور كانت موجودة في زمن النبي. فهؤلاء كانوا يعدّون أنفسهم كي يحلوا محلّ النبي، ويشيعون حول علي الإشاعات ويلفقون عليه الأقوال: علي لا يصلح لهذا الأمر، علي رجل حرب فقط، وعلي لا يرغب به أحد من الناس، وهكذا .. إنّ هذه الأمور كانت تحصل في زمن النبي... .٢
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد