المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم العقائد
التوضيح
هو العليم
تنبيهات حول مسائل الفطرة
والأحكام المعتمدة عليها
بحث منتخب من آثار الأعاظم
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
تنبيهات حول مسائل الفطرة والأحكام المعتمدة عليها
فطرة الإنسان هي البنية الوجوديّة بما يشمل الجسم والروح، وذلك الطريق والمسير الذي يوصله إلى غاية الخلقة وهدفها من الكمال المنشود والسعادة المطلقة.
و المراد بدين الفطرة تلك القواعد والأحكام المؤثّرة في سير الإنسان باتّجاه سعادته وكماله، وهذه القواعد والقوانين والسنن بالرغم من أنّها أصبحت معتبرة باعتبار الشارع المقدّس، لكنّها كانت قائمة على أساس منطق العقل و وصول الإنسان إلى درجة الإنسانيّة، لا على أساس منطق الحسّ والشهوة الذي يهبط به إلى مرتبة الحيوانيّة والبهيميّة.
إنّ السعادة للإنسان أمر حقيقيّ، وهذه السنن الفطريّة التي هي أُمور اعتباريّة، توجب حركته وسيره إلى مقام الكمال الحقيقيّ، فإذا ما انحرفت تلك السنن أحياناً في اعتبارها، فإنّ تلك السعادة الحقيقيّة والكمال المنشود لن يكونا من نصيبه.۱
و نجد أنفسنا مجبرين على أن نذكّر بعدّة تنبيهات من أجل بيان بعض مسائل الفطرة والأحكام المعتمدة عليها.
عدم قدرتنا على اكتشاف جزئيات الفطرة من غير طريق الشرع
التنبيه الأوّل: هل نحن قادرون على اكتشاف جزئيّات أحكام الفطرة من غير طريق الشرع والشريعة؟
الجواب منفي بالطبع، أي أنّه لا إمكان مطلقاً في الوصول إلى أحكام الفطرة لعامّة البشر بدون الاتّصال بالوحي ومرحلة النبوّة.
و علّة ذلك كما ذكرنا أنّ أحكام الفطرة وضعت على أساس الاحتياجات الحقيقيّة للإنسان، وليس هناك غير علّام الغيوب من مطّلع على البواطن والسرائر والغرائز، وخبير بالسبل الموصلة إلى الهدف الغائيّ لخلق الإنسان، وعليم بالبناء البدنيّ والمادّيّ والنظام الروحيّ والنفسيّ له، ليمكنه جعل حكم يحفظ مصلحة الآدميّ المطلقة من جميع الجهات؛ فمهما ارتفعت درجات الأفراد الآخرين العلميّة، وارتقت مراتب الحكمة فيهم، إلّا أنّهم لن يحيطوا مع ذلك بجميع جوانب الإنسان: {ومَآ اوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.٢
... إنّ على المريض مهما كانت درجته العلميّة مراجعة الطبيب والعمل بوصفة الدواء، واتّباع تعاليمه بلا مناقشة، وذلك باعتبار جهل المريض لفنّ الطبّ، ولأنّ الطبيب حسب فرضنا حاذق ماهر، لذا فإنّ مفاد حكم الفطرة وحكم العقل وحكم الشرع يقول: {فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.}٣
و ينبغي على المريض أن يلتزم بالتعبّد المحض مقابل أقوال الطبيب، وإلّا فإنّ تخطّيها وتجاوزها سيعدّ تمرّداً واتّباعاً للرأي الشخصيّ ومستلزماً للهلاك، وهو أحد مصاديق الانتحار، ومعلوم أنّ الانتحار حرام عقلًا وشرعاً، لذا فإنّ رأي الطبيب صحيح ورأي المريض خطأ.
و الأمر في الأمور الشرعيّة كما هو في أمر الطبيب الحاذق العارف ببواطن أُمور البدن وتركيبه وأفعاله وردود فعله، وخواصّ الدم، وتركيب السمّ والترياق، وأخيراً فهو مطّلع على مجموع حالات المريض وكيفيّة تأثير الدواء؛ فالشارع المقدّس مطّلع بأحسن وجه وأكمل طريق على جميع الأحوال المادّيّة والروحيّة للمريض وكيفيّة معيشته وحياته وعافيته المطلقة، وصحّة وسلامة نفسه، وتمتّعه بجميع المواهب الإلهيّة والاستعدادات الفطريّة، وكيفيّة جعلها فعّالة في جميع الشؤون الفرديّة والاجتماعيّة. والإيصال إلى ساحة قدس الحبيب على الإطلاق والفناء في ذاته المقدّسة. لذا، ينبغي متابعة النبيّ و وصيّه، واتّباع الإمام الحيّ، وإلّا فإنّ المخاطر ستواجه البشر بشكل حتميّ وقطعيّ، وسينزل بنا بسبب عدم التمسّك بميثاق النبوّة وحبلها ما نزل بالمجتمعات الكبيرة والأمم المتمدّنة في عالمنا الحاضر، فقد كانوا سعداء جذلين مبهورين بأضواء الدنيا الزائفة، مشغولين كالأطفال بالتفرّج على صندوق العجائب، فخسروا بلا مقابل جميع مزاياهم الأخلاقيّة والروحيّة وسجاياهم الفطريّة وغرائزهم الموهوبة من قبل الله، بل خسروا حتى صحّة المزاج الطبيعيّ وهدوء البال وراحة الفكر، فلم يربحوا في مقامرتهم هذه، بل كانوا هم الأخسرين، وعلى قول إقبال الباكستانيّ:
دل ودين باختهاى تا هنر آموختهاى | *** | آه از اين دُرّ گرانمايه كه درباختهاى |
يقول: «لقد خسرتَ روحك ودينك حتى تعلّمت فنّاً، فيا للحسرة على ذاك الدرّ الثمين الذي خسرته».
و يتّضح من هذا البيان أنّ ما ذكره بعض دعاة التجدّد المبهورون بالغرب في معنى خاتميّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من «أنّ العلوم البشريّة اليوم في حالة تزايد وتكامل، لذا فلا حاجة للبشر إلى نبيّ؛ لأنّ البشر يستطيعون بقواهم العقليّة وبحوثهم العلميّة أن يديروا أُمورهم بلا واسطة للرسول» ـ هو قول سخيف لا اعتبار له.
وينبغي العلم أنّ مرادنا بعدم قدرة العقل على اكتشاف الأحكام الفطريّة كما أشرنا قبل قليل، هو عدم قدرته على اكتشاف جزئيّات وتفاصيل الأحكام، ولا يمكن قبول الادّعاء بأنّ البشر يمكنه بعقله استخراج واستنباط الأحكام الفطريّة، إذ هو قول جزاف. أمّا في الأسس والأحكام الكلّيّة التي يتوافق البشر عليها، كحسن الإحسان إلى المحسن، وحسن الإيثار، والإنفاق على الغير في الموارد الصحيحة، أو قبح الكذب المضرّ وحسن الصدق النافع، وحسن العدالة وقبح الظلم، وكغريزة النزوع إلى المبدأ، وسائر الأحكام من هذا القبيل، فهي أحكام فطريّة يمكن إدراكها، بل إنّها من أوّل الأشياء التي يصل إليها العقل ويدركها، لأنّ الفطرة إن اعتُبرت بمعنى كيفيّة الخلق والبنية الوجوديّة الخاصّة للإنسان، فإنّ أُسسها عموماً ستكون قابلة لإدراك البشر وجداناً في بعض مواردها، ولو كانت هذه الأسس والأصول جملةً غير قابلة لإدراك البشر وفهمهم فإنّ ذلك يؤدّي إلى نفي الغرض، وسيصبح الادّعاء بأنّ أحكام الدين فطريّة أمراً لا معنى له، لأنّ الأحكام ستكون ما يأمر به الدين ويقوله، وهذا يستلزم الدور.
الفطرة هى ما طابق العقل الإنسانى دون العقل الحيواني
التنبيه الثاني: وكما صرّح آية الله العلّامة قدّس الله نفسه، فإنّ المراد بأحكام الفطرة هي الأحكام المطابقة للعقل، أي عقل الإنسان من حيث هو إنسان، لا العقل الحيوانيّ.
فالعقل الحيوانيّ عبارة عمّا يشترك به الإنسان مع الحيوانات، والشعور المرتبط بالحواسّ الظاهريّة والقوى الخياليّة الداعي لاتّباع اللذائذ البهيميّة والشهوات، وتحقيق الرغبات المادّيّة، ونيل الرياسة، وجمع الحطام الدنيويّ، وحسّ التفوّق والتظاهر، وعبادة الذات، وحبّ الظهور والجاه وأمثالها، و واضح أنّ هذا الشعور والإدراك لا يصل بالإنسان إلى مقام الإنسانيّة، بل يجعله في مرتبة الحيوانات وأجناسها التي هي أعلى من النباتات والجمادات.
أمّا العقل الإنسانيّ الذي يصوغ الفرد إنساناً، فهو عبارة عن العبوديّة المحضة والمطلقة مقابل الخالق الحكيم العليم، والانقياد والإطاعة الصرفة بلحاظ مقام العبوديّة مقابل عظمة ومقام ربوبيّة ذلك الخلّاق الخبير. كما أنّ حبّ الوصول إلى ذات ذلك المبدأ الأزلي والأبديّ، وشوق وعشق لقاء الجمال السرمديّ والفناء في ذاته الأحديّة جلّ وعزّ، وتكميل القوة العاقلة والعاملة والإيثار والتضحية والفتوّة والمروءة والصبر والتحمّل والإنفاق والخيرات وأعمال البرّ المطلوبة هي التي تفصل الإنسان عن وجوده المعار والمجاز وتلحقه بالوجود الأبديّ والحقّيقيّ، فهذه وأشباهها من صفات الأنبياء العظام والأئمّة المعصومين والأوّلياء المقرّبين هي الهدف الأصلي والغائيّ للإنسان. وبهذا اللحاظ فإنّ أحكام الفطرة هي الأحكام التي ينبغي تشريعها وتدوينها لهذا النهج من السير والسلوك،۱ لا الأحكام التي يجعلها ويدوّنها ويتوصّل إليها عقل الإنسان المادّيّ والشهوانيّ بما هو حيوان، إذ لا يمكن اعتبار هذا النمط من الأحكام والسنن سنناً فطريّة وأحكاماً حقيقيّة.
و من هنا، فإنّ الإنسان محتاج دوماً للاتّصال بالشرع والشريعة ومنهل الولاية ومعدن حكمة النبوّة، لا ملجأ له ولا علاج غيرها، ولا طريق له غير نهجها وطريقها.
أمّا إذا اعتبرت أحكام الفطرة على أنّها الأحكام التي تتوصّل إليها العقول البشريّة، فإنّ ضرورة الشريعة ستنتهي حينذاك، وسيرجع جميع الناس إلى عقولهم فيعملون بمقتضاها، وهذا ما يساوق نسخ الشريعة، ونسخ القرآن، ونسخ النبوّة، ونسخ الولاية، ونسخ معنى إمامة و ولاية الإمام الحيّ.
و هيهات هيهات أن تكون يد البشر القاصرة قد نالت ذلك أو تناله، وحريّ بنا أن نبعد هذه الأفكار الساذجة عن أذهاننا وأن لا نتطرّق إليها، ونزجر هذه الأفكار الشيطانية فلا ننخدع بها، وعلينا أن لا نتخطّى ما رُسم لنا من مقام وحدود، وأن ننهل دوماً من معين الإمام الحيّ الحجّة ابن الحسن العسكريّ أرواحنا فداه، فنروي أكبادنا الظمأي وقلوبنا الحرّى، وأن نعدّ أنفسنا بالعمل بشرعه وشريعته ونهجه وسيرته للتكامل والوصول للهدف المنشود، حينذاك يصبح أحدنا إنساناً يصدق عليه أنّ عالم الوجود والشمس والقمر وخلق الأرض مسخّر لأجله.۱
الدين الذي جاء به رسول الله هو دين الحقّ الذي لا يأتيه العبث والباطل، ويستطيع أن يلبّي حاجات الناس جميعهم؛ ويقودهم نحو الكمال الحقيقيّ والتوحيد المطلوب.
الإسلام دين التوحيد؛ إذ إنّ كافّة تعاليمه الأخلاقيّة والعلميّة نزلت على أساس التوحيد؛ ومُقَنّنها ومشرّعها هو التوحيد. ووضعت هذه
القوانين للوصول إلى التوحيد. وما نزلت إلّا على أساس التوحيد، وإذا ما طُبقّت، فهي تسمو على أساسه أيضاً.
وكما نرى في القوانين السائدة في العالم، وكذلك في الأنظمة الداخليّة للأحزاب أنّ تعاليم خاصّة قد انبثقت من روح الحزب وتمثّل أفكاره وآراءه، ولو تمسّك بها أحد، فإنّها ستقوده نحو آراء أصحابها وأفكارهم، فكذلك الإسلام فإنّه انبثق من التوحيد. والتوحيد يعني أن يرى أنّ جميع الكائنات بلا استثناء تخضع لعلم الله وقدرته وتأثيره، وأنّ الله هو المؤثّر في جميع عوالم الوجود. وأنّه لاقيمة ولا استقلال لأيّ أحد في وجوده حيال الخالق جلّ شأنه. فقد وضعت التعاليم الإسلاميّة كلّها على أساس هذا المبدأ. والإنسان المسلم المتمسّك بهذا القانون يرى نفسه مرتبطاً بعالم الوجود كلّه، غير مُعْرِضٍ عن أحد. يألف الجميع ويأنس معهم، ويلتذّ في معاشرته للناس، وصلة الأرحام، وعيادة المرضى وقضاء حوائج الناس، والألفة مع الفقراء والمساكين، وبذل الأموال من أجل راحة الآخرين ورفاههم، وتعاليم أخرى كثيرة تربط الإنسان مع الكائنات جميعها، وكأنّه قطعة واحدة لا تقبل الانفصال عن مصنع الوجود.٢
إنّ جميع الأحكام والسنن الإلهيّة الصادرة من منبع الوحي ينبغي أن تكون مشتملة على واقعيّة وحقيقة معرفيّة سامية تهدف إلى إصلاح النفس وتجرّدها عن الكثرات الآفاقيّة والأنفسيّة ورقيّ العقل الإنساني في المرتبة، سواءً اتّضحت لنا هذه الدرجة من المعرفة أو خفيت عنّا، وأنّ الله تعالى لم يُشرّع أيّ حكم لغوًا وعبثًا واستنادًا فقط لمسألة المولويّة، بل إنّ كلّ حكم صدر من مبدأ التشريع وصار منجّزًا وفعليًّا بالنسبة للإنسان ـ سواءً كان هذا الحكم إلزاميًّا كالوجوب والحرمة أو كان كالمستحبّ والمكروه ـ فإنّه يتّصف قطعًا بتلك الحيثيّة الربطيّة القائمة بين العبد وبين مراتب فعليّته، ويكون ناظرًا للمناسبة الدائرة بينهما...٣
أين تصحّ قاعدة كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل وعكسها؟
التنبيه الثالث: بشأن قاعدتي الملازمة المبحوثتين في علم أُصول الفقه:
الأولى: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ حَكَمَ بهِ العَقْلُ.
الثانية: عكسها: كُلُّ مَا حَكَمَ بهِ العَقْلُ حَكَمَ بهِ الشَّرْعُ.
فهل هاتان القاعدتان أو إحداهما صحيحة بشكل عامّ وكلي، أم أنّ هذه الملازمة غير تامّة؟
يمكن الحصول على إجابة هذا السؤال ممّا ذكرناه من انطباق حكم الفطرة مع حكم العقل الإنسانيّ والحكم الشرعيّ، لأنّه إن أريد من كلمة العقل في هاتين القاعدتين هذه العقول النظريّة العامّة التي يمتلكها عامّة البشر، فيستخدمونها لتنسيق أُمورهم البيتيّة وتنظيم مجتمعهم ومدنيّتهم، فلن يكون صحيحاً بشكل كلّيّ أيٌّ من هاتين الملازمتين، لأنّنا نرى في كثير من الموارد أنّ للعقلاء حكماً ما لكنّ الشرع يورد خلافه، كما في المعاملات الربويّة وأُسس معاملات البنوك، وكالتلقيح والحمل بحقن نطفة رجل أجنبيّ في رحم امرأة لا يربطها به عقد شرعيّ، ومثل تبنّي طفل أجنبيّ وإصدار شهادة الجنسيّة له ومعاملته معاملة الابن الحقّيقيّ في جميع المراتب، وكثير من أمثال هذه المسائل، في حين يمتلك الشرع وجهة نظر مخالفة كلّيّاً.
أمّا إن كان المراد من كلمة العقل نفس العقل الإنسانيّ الحقّيقيّ الموجود للأنبياء والأئمّة بلحاظ الجانب الملكوتيّ والعلويّ للإنسان، لا بلحاظ حيوانيّته وبهيميّته، وحيث إنّ: «العَقْل مَا عُبِدَ بهِ الرَّحْمنُ واكْتُسِبَ بهِ الجِنَانُ»۱؛ فإنّ كلا القاعدتين والملازمتين ستكون صحيحة، إذ ليس هناك من حكم عقليّ فطريّ إلّا وهناك حكم شرعيّ يطابقه ويوافقه، والعكس صحيح، وهذا هو معنى أنّ دين الإسلام هو دين الفطرة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لَلدِّينَ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.}٢
الأحكام الاضطرارية فطرية كالأحكام الأخرى
التنبيّه الرابع: يشاهد في بعض الموارد أنّ هناك لموضوع أو متعلّق واحد حكمين مختلفين، كالوجوب والحرمة، كما في موارد الاضطرار مثلًا، حيث يصبح الحرام حلالًا: مَا مِن شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللهُ إلَّا وقَدْ أحَلَّهُ عِنْدَ الاضْطِرَارِ إِلَيْهِ. كأكل لحم الميتة والدم ولحم الخنزير وذبيحة غير المسلمين المحرّمة في الحالات العاديّة، لكنّه يصبح حلالًا عند الاضطرار:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الْخِنزِيرِ ومَآ اهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولَا عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيه إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.٣
و نلحظ في هذه الآيات ونظائرها أنّ الله سبحانه جعل حكمَين مختلفين لموضوع ومتعلّق واحد، الحكم الأوّليّ في حال عدم الاضطرار وهو الحرمة، والحكم الثانويّ حال الاضطرار وهو الإباحة والجواز، فأيّ حكم من هذين الحكمين يا تُرى يطابق الفطرة؟
لقد عرفنا أنّ المراد بالحكم الفطريّ ليس ذلك الحكم التابع لأهوائنا ومشتهياتنا النفسيّة ورغباتنا الأوّلية، بل هو الحكم الذي يمثّل الواسطة للوصول إلى الغاية والهدف المنشود من الخلقة. وعلى هذا، فإنّ حكم المحاربة والدفاع والجهاد سيكون فطريّاً، لأنّه يقود الإنسان إلى الكمال المطلوب وسعادة الدنيا والآخرة والوصول إلى عزّ الإنسانيّة، وكذلك فإنّ صيام أيّام الصيف الحارّ وقيام ليالي الشتاء البارد، والحجّ والعمرة في تلك البلاد الحارّة القاحلة ستكون كلها فطريّة، لأنّها توصل الإنسان إلى الكمال الحقيقيّ، ولو لم يرغب بها الطبع الأوّليّ للإنسان ولم يرتضها في قرارة نفسه، أو أجراها على نحو الإكراه. وسنعرف في هذه الحال أنّ قسمي الحكم الاضطراريّ وغير الاضطراريّ مطابقان لحكم الفطرة، لأنّ كلّا منهما حسب دوره وظرفه الخاصّ يتكفّل بإيصال الإنسان إلى كماله وسعادته.
أمّا عند الاختيار وانتفاء القحط والمجاعة و وفور أنواع الأغذية المحلّلة، فمن الواضح أنّ أكل لحم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلّ لغيرالله به أمر مخالف للفطرة، لأضراره المادّيّة والجسميّة من جهة، ولأضراره الروحيّة والمعنويّة من جهة أخرى. ولذلك فإنّ حكم الفطرة ينطبق مع الشرع.
و أمّا في حال الاضطرار، فباعتبار أنّ حياة الإنسان ستكون منوطة بالتناول من الأغذية المحرّمة بمقدار رفع الضرورة، فإنّ من البديهيّ الحتميّ أن يكون ذلك جائزاً في الشريعة الكاملة، لأنّ الأكل بمقدار سدّ الرمق موجب لبقاء الحياة وحفظها، وبقاء الحياة مع تناول هذه الموادّ المحرّمة أفضل وأولى من استقبال الموت بتركها، لذا فحكم الفطرة المجعول والمعتبر على أساس المصالح والمفاسد الواقعيّة يتطابق هنا أيضاً مع حكم الشرع.
و نجد في بعض الموارد أنّ الأحكام الخمسة: الوجوب، الاستحباب، الإباحة، الكراهة والحرمة تُجعل جميعاً لمتعلّق واحد، كما في النكاح والزواج مثلًا الذي هو في حدّ ذاته أمر وسنّة مستحبّة.
أمّا حين تغلب الشهوة وينتفي السبيل المشروع لإشباع الغريزة، ومع خوف الوقوع في التهلكة والضرر والإصابة بالأمراض الجسميّة أو النفسيّة، فإنّ هذه الأمور تجعل النكاح أمراً واجباً.
و في الموارد التي يتزاحم فيها النكاح مع أمر واجب أهمّ، كتحصيل المعارف الإسلاميّة وأُصول العقائد، أو تمريض أُمّ عجوز ضعيفة لا تقوى بنفسها على إنجاز أعمالها الضروريّة وأمثال ذلك، فإنّ الزواج سيكون حراماً في هذه الصورة.
فإن تساوت الجهات الراجحة والمرجوحة صار النكاح مباحاً.
فإن زادت الجهات المرجوحة على الراجحة صار مكروهاً، كما في حال شابّ لم تغلب عليه شهوته، مشغول بتحصيل المعارف الدينيّة وتعلّم القرآن والأخبار والفقه والتفسير والحكمة والعرفان، فهذا الشابّ إذا أقدم على الزواج سيمكنه الاستمرار في دروسه وتحصيله، لكنّه شاء أم أبى سيتعرّض إلى وقفة ونكسة وفتور في اكتساب كمالاته المعنويّة، ففي هذه الحال ستكون الأوّلويّة في ترك النكاح.
و كان القصد من إيراد هذا الكلام أنّ جميع الأحكام الخمسة في موضوع النكاح هذا هي أحكام فطريّة ليس هناك بينها من تنافٍ ولا تعارض، وينبغي الدقّة التامّة في كلّ متعلّق خاصّ تمهيداً لاستخراج الحكم الفطريّ والشرعيّ.
خلاصة
و يمكن تلخيص ما ذكرناه بما يلي:
۱ ـ أنّ الفطرة بمعنى الخلقة الأوّليّة والبنية الوجوديّة للإنسان؛ وإنّ الإسلام قائم على أساس هذه الفطرة التي يصدر العقل الإنسانيّ المستقلّ وغيرالمشوب بشوائب الهوى والهوس أحكامه المطابقة لها.
٢ـ أنّ العقول العاديّة للناس، القائمة على أساس المصالح المتدنيّة للحياة والعيش هي في مرتبة الشعور الحيوانيّ، وباعتبار اشتراكها مع الحيوانات في التفكير بالمصلحة والانتفاع ودفع الضرر وقضاء الحاجات الشهويّة والغضبية والوهميّة، فهي عاجزة عن كشف الأحكام الأصيلة للبشر بما هو بشر وإنسان، لذا فهي غير قادرة على استخراج الأحكام من الفطرة، ومحتاجة إلى نبيّ و وليّ أمر معصوم قد تعدّى حدود ذاته وارتبط بالكلّيّة وصدر عن منهل العرفان والتشريع، ولولا ذلك لمّا كانت الحاجة إلى التكليف والقانون الإلهيّ، ولأمكن للناس إدارة أُمورهم وتسييرها بالرجوع إلى هذه الأفكار والاكتشافات والاعتماد على علومهم المادّيّة والطبيعيّة والتجربيّة.
٣ ـ إنّ الكثير من الأحكام التي تبدو بحسب النظر الابتدائيّ غير منافية للفطرة، كنكاح أُخت الزوجة، وأُمّها، ومحرّمات الرضاع، وبنت أُخت الزوجة وبنت أخيها بدون إذنها، وترك الجهاد (لا الدفاع) وغيرها؛ قد نهى الشرع المقدّس عنها لكونها بلحاظ النظرة الأصيلة منافية للفطرة لعدم وقوعها في طريق المصالح العالية، بل لإيجابها سدّ طريق تكامل الإنسان ومنعها طيّه للمدارج المعنويّة.
٤ ـ إنّ الأحكام الاضطراريّة والإكراهيّة والضروريّة والاستثنائيّة هي كالأحكام الأوّليّة، من أحكام الإسلام ومطابقة للفطرة. وعلى هذا، فإنّنا لا نجد في الإسلام أيّ قانون عامّ أو خاصّ، كلّيّ أو جزئيّ، جنسيّ۱ أو شخصيّ، إلّا وكان موافقاً للفطرة ومؤدّياً بالنتيجة إلى رشد ورقيّ وفاعليّة القوى والقابليّات المودعة في البنية الوجوديّة والحيويّة للإنسان.٢
[ملاحظة: تمّ انتخاب هذا البحث من كتابي: نظرة على مقالة بسط وقبض نظرية الشريعة، ومعرفة الإمام لسماحة آية الله العلامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهراني رضوان الله عليه، وكتاب نوروز در جاهليّت واسلام (النوروز في الجاهليّة والإسلام) لسماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه الله، وقد قامت الهيئة العلميّة بمراجعة النص ومقابلته مع أصله عند الضرورة، وجعلت الإضافات البيانيّة والتحقيقيّة بين معقوفتين]