المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم العقائد
هو العليم
«معرفة الإمام» في كلام الإمام الحسين (عليه السلام)
سماحة العلاّمة
آية اللـه السيّد محمد الحسين الحسيني الطهراني
رضوان اللـه عليه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
ذات يوم سأل العلّامة الطهراني أستاذه العلّامة الطباطبائي قائلاً۱:
كيفَ يمكنُ بلوغُ كُنْهِ هذا الحديث الشريف المروِيّ عنْ حضرةِ سيّد الشهداءِ عليه السلام حيثُ يقول:
«أيّها الناس! إنّ الله ما خَلَقَ خَلْقَ الله إلا لِيَعرِفوه، فإذا عَرَفوه عَبَدوه واستَغْنَوا بعبادَتِه عنْ عِبادةِ ما سواه. فقالَ رَجل: يا ابنَ رسولِ الله! ما مَعرفةُ الله عَزّ وجَلّ؟ فقالَ: معرفةُ أهْلِ كُلّ زمانٍ إِمامهُ الذي يجبُ عليهِم طاعَتُه» ٢ ؟
ويجيبه العلّامة الطباطبائي قائلاً: هناك طريقٌ واحدٌ لا ثانيَ له، فالوصولُ إلى معرفةِ الإمامِ عليه السلام، وإِدراكُ مقامِ الولايةِ المطلقةِ لحضراتِ المعصومينَ صلواتُ الله عليهم أجمعين منحصرٌ بالعرفان فحسب! ٣
هذا الكلام يجرّنا إلى نكتةٍ جديرةٍ بالتوقّفِ والتأمّلِ وهي:
أوّلاً: لماذا حَصرَ المرحوم العلّامة الطباطبائي طريقَ معرفةِ الإمام عليه السلام بخطّ العرفان وطريق السلوك إلى الله؟
وثانياً: كيفَ هو هذا الطريق؟ وبواسطة أيّ شخص يمكن أن يُجتازَ؟ وهل يمكنُ للإنسانِ أنْ يضعَ قدمه في طريق العرفان بمعزلٍ عن قائدٍ ومرشد، فيسلك إلى الله من تلقاءِ نفسه وسطَ كلّ هذه العقبات الكؤودة، والمنزلقات الهائلة، ودونَ وجود عارفٍ خبيرٍ بهذا الطريق كان قد طواه واجتازه مسبقاً، أم لا يمكنه؟
وللإجابة عن السؤال الأوّل ينبغي أنْ يقال: إنّ معرفة الإمام عليه السلام على نحوين:
النحو الأوّل: المعرفة الإجماليّة، أيْ معرفة الأب، الأم، الأولاد، الإخوة، الأخوات، كيفيّة حياته، ارتباطه مع سائر الأفراد، المقطع التاريخيّ الذي عاصره وعاش فيه، المسائل التي واجهها طوال حياته، ميزان علم الإمام بالنسبة لسائر العلوم والفنون، وذلك حسبَ رتبةِ المتتبِّع نفسه وسِعَتِه. كذلك معرفة كيفيّة مواجهته المسائل المختلفة المتطرّقة إليه طوال فترة حياته، وبكلمة واحدة: المعرفة الإجماليّة للمسائل الاجتماعيّة والعلميّة والثقافيّة للإمامِ عليه السلام.
وهذا النوعُ منَ المعرفة إنّما يمثّل الهويّة الشخصيّة، ولكن للسؤال باب واسع، فهل تنحصرُ حقيقة الإمام عليه السلام بهذا المقدار؟ وهل هذا هو كلّ شيء بحيث لا توجد وراءَه حقائق وعوالم أُخرى؟ ألا يوجدُ تفاوتٌ بين مقامِ الإمامِ الثبوتيّ ومقامه الإثباتي؟ ثمّ ما نَراهُ من ظواهر أعمالِ الإمام وتجاربِهِ وأقوالهِ، ونسمعُهُ ونُشاهده، هلْ كلّ ذلك بنفس المقدار من النورانيّة والحقيقة المنطوية في وجود الإمام؟ أو أنّ المسألة شيءٌ آخر؟
وحينئذٍ ينفتحُ الباب أمامَ النحو الثاني من المعرفة؛ وهي المعرفة الحقيقيّة والواقعيّة لوجود الإمام عليه السلام.إنّ الاختلاف والافتراقَ بينَ الإمام عليه السلام وسائرِ الأفراد ـ بأيّ نحو من الأنحاء ـ لهو اختلافٌ وتمايزٌ جوهري، وليسَ مجرّدَ اختلافٍ في الأعراضِ والصفات الظاهريّة، فالعلومُ والمدركاتُ الإنسانيّة الكامنة في جميع الأفراد والطبقات، إنّما تتحدّد وتتقرّر على أساسِ الصور المرتَسِمةِ والعلومِ الحُصوليّة، وهذه العلومُ والمدركات بدورها منبعثةٌ من الحواس الظاهريّة، يرسمُها الإنسان بواسطة الجمع والتفريق الذهنيّين، نعمْ، من الممكن للإنسانِ أنْ يكتسبَ الكثيرَ بواسطة طريق الباطن، ومن خلال انكشاف العوالم الغيبيّة، والوصول إلى مدارج العوالم العلويّة وطيّ معارجها، وذلك بواسطة الرياضات الشرعيّة، وتهيئة الظروف المستوجبة لتزكية النفس، ولكن أنّى هذا من علم الإمام عليه السلام القائمِ على أساس الشهود، والذي هو نتيجة للتبدّل والتغيير الجوهري الكائن في نفسه، الناتج من السير في طريق الله، والوصول إلى حريم كبرياء الحق، والفناء التام والمطلق في الذات الأحديّة، وحذفِ جميع التعيّنات الماهويّة والبشريّة واندكاكها في الذات الإلهيّة وفي مقام الهوهويّة المحضة، فلمْ يَعُدْ بشراً، وقد فَقَدَ أوصافَه البشريّة، فِعلُهُ فعلُ الله، وكلامُهُ كلامُ الله، وسِرّ سويدائِهِ ليست سوى الله.
ومن خلال هذا البيان نصلُ إلى هذه النتيجة: وهي أنّ معرفة الإمام بتمام معنى الكلمة والحقيقة، وبنحوٍ مطلق، والوصول إلى كنه ذاته المقدّس، هي عينُ معرفة الله، وهي المعرفة الواقعيّة والحقيقيّة للذّات الأَحَديّة بتمامِ المعنى والحقيقة، لذلك قال المرحوم العلّامة الطباطبائي: إنّ معرفة الإمام غير متيسّرة إلا بواسطة طريق العرفان والسلوك إلى الله.بناءً عليه، ومع الالتفات إلى المطالب السابقة، يتضّح الجواب عن السؤال الثاني.
ففي مقام الإجابة لا بدّ وأنْ نقول: إنّ الشخصَ القادرَ على قيادة البشر وهدايتهم إلى الحقائق المنطوية في باطن الإمام عليه السلام وسرّه، وإيصالهم إلى باطن الإمام وحقيقته، هوَ منْ كانَ قد اندكّ وجوده في مقام الولاية، وفَنِيَ في الذات الأحديّة وانمحى بتمامِ معنى الكلمة وعلى الإطلاق. وإلّا فما دام هناك شائبةٌ من شوائب إنّيته وتعيّنه، فأبداً وأبداً .. لنْ يعرفَ الإمامَ واقعاً وبشكل كلّي؛ وكلّ ما يتفوّه به من أوصافه وكمالاته فهو مجرّدُ كلامٍ نابعٍ عن محدوديّة سعته الوجوديّة، لا يتجاوز دائرة مدركاته، وكلّ ما يخالُ له أنّه الإمام غيرُ منطبقٍ عليه، وإنّما هو مرتبة من مراتبه، ومنزلة من منازله اللامتناهية.
نستنتج ممّا سبق، أنّ منْ شرطِ الأستاذِ أنْ يكونَ قدْ عَبَرَ من مقامِ الجزئيّة بشكلٍ تامّ وتحقّق بالكليّة، وخرجَ من شوائبِ النفس ـ بجميع مراتبها ـ وانكشفتْ أمامه جميعُ الحجب، فلا كدورةَ ولا ظلمةَ من الظلمات المبعّدة، ولا ستارَ أمامه ولا حجاب، سَواءً الحجب الظلمانيّة أمْ النورانيّة، بلْ نفسُهُ متّصلةٌ بنفس الإمام، بلْ مندكّة وفانية فيها. بناءً على ذلك، فأيّ شيءٍ يقومُ به ويفعلُه، فكأنّ الإمام قامَ بهِ بنفسه، وأيّ حديثٍ يُدلي به، فهو عنْ لسانِ الإمامِ عليه السلام، يظهرُ من خلاله بعنوانه أحد مظاهرِ الإمام، وإحدى بروزاته، وكلّ ما يخطرُ في ضميره النيّر، فهو رشحةٌ من نفس الإمام دون أيّ شائبة!۱
[ملاحظة: انتخب هذا البحث من كتاب الشمس المنيرة، تأليف: سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ حفظه الله، وقد تمّ توثيقه ومقارنته مع المصدر الفارسي من قبل الهيئة العلميّة في لجنة الترجمة والتحقيق، وتجدر الإشارة إلى أنّ العبارات والهوامش التي وقعت بين معقوفتين هي من الهيئة العلميّة]