المؤلّف آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسم السير الذاتية والتراجم
التوضيح
وهو عرض إجماليّ كتبه المؤلّف المعظّم للتعريف بالشخصيّة العلميّة والأخلاقيّة للعارف بالله سماحة العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة.
صورة العالم بالله و بأمر الله العارف السالك حضرة العلامة آية الله العظمى و حجّة الله الأكبر السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة
ديباجة
بسمِ الله الرّحمنِ الرّحيم
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وصَلّى الله عَلَى نَبِيِّنا سَيّدِ المرسلينَ
وعَلى آلهِ الأئمّةِ المعْصومين، ولَعنةُ الله عَلى أَعدائِهِم أَجمَعين
تَحَصّنتُ بالمَلِكِ الحيّ الذّي لا يموت، واعتصَمْتُ بِذي
العِزّةِ والعَدْلِ والجبروت، واسْتَعَنْتُ بِذي العَظَمَةِ
والقُدْرَةِ والمَلَكوت، مِنْ كُلّ مَا أَخافُ وأَحْذَر.
إلهي! إنّ الوجودَ والبقاءَ في جَميعِ مَراتِبِ تَعيّنِه وتحقّقِه مُنحَصِرٌ بِذاتِكَ الأَقْدَس، والحَمْدُ والثَّناءُ في دائِرتي النّزولِ والصّعودِ قائمٌ عَلى مَحوَرِيّة ظُهورِ بَهائِك وكِبرِيائِك.
نوِّرْ قُلوبَنا بِأَنوارِ عِشْقِ ذاتِك ومَحَبَّتِك، وارْوِ عُقولَنا بِفَيضِ سُحُبِ هِدايَتِك! وثَبّتْ أَقدامنا على نَهجِ الكرامَة الإنسَانيّة القَويمِ والصّراطِ المسْتَقيمِ لأَوْلِيائِكَ العِظام، وَصُنْ أَقلامَنا عَنْ الغوايَةِ وَالضّلالَةِ في بَيانِها العَلومَ وَالحَقائِق! آمين!
سُبحانَك! أيُّ عينٍ تقومُ نصبَ بهاءِ نورك، وتَرْقَى إِلى نورِ ضياءِ قُدرتِك؟! وأيّ فهمٍ يَفهمُ ما دونَ ذلك إلّا أبصارٌ كشفتَ عنها الأغطية .. وهتكتَ عنها الحجبَ العَميّة! فَرقَتَ أرواحُها إلى أَجنحَة الأَرْواح .. فناجَوك في أَركانك .. وَوَلجوا بينَ أَنوار بهائِك .. ونَظروا مِنْ مُرتقى التُّربَةِ إلى مُسْتَوَى كِبريائك .. فسمّاهم أَهلُ الملكوت زوّاراً .. ودَعَاهُم أَهلُ الجبروتِ عُمّاراً ۱.
في الوقت الذي شاءَ مُدوِّنُ التّقدير، ومَدبّرُ المشيئة المُتقنة، ومُنشِئُها حَسبما تقتضيه حِكْمَتُه البالغة رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى٢ أنْ يكشفَ النّقاب عن الطّلعة المنوّرة للحكيم المؤدّب، والعارفِ الكامِل، والسالكِ الواصِل، الحكيمِ الأَوحد، الفقيهِ الثّبت، حَضرةِ العلّامة آية الله الحاج السيّد مُحمّد حسين الحسيني الطهرانيّ -قدّسِ الله نفسه ونوّر ترابَ قبره- أُحيلت هذه المهمّة إلى القلمِ الخاوي، القاصرِ عن البيان، والحالُ أنّ مؤلفاتِه الثمينةَ تمثّلُ شهادةً صادقةً، وبُرهاناً قاطعاً يشهدُ على مراتبِ تَوحيدِهِ ومَدارجِ يَقينِهِ: فالشّمْسُ خيرُ دليلٍ عَلى الشّمْسِ .. إلّا أنّ سُلَيمانَ المعرِفةِ لمْ يَتعيّر مِنْ هَديّة نمَلَتِه .. ويوسفُ كِنعانَ لمْ
يَسأمْ منْ بِضاعَةِ تلكَ العجوزِ المُزْجَاة.
آب دريا را اگر نتوان كشيد | *** | هم بقدر تشنگى بايد چشيد۱ |
يك دهان خواهم به پهناى فلك | *** | تا بگويم وصف آن رشك ملك٢ |
هَجَمَ بهمُ العلمُ على حقيقةِ البصيرة، وباشروا روحَ اليقين، واستلانوا ما استوعَرَه المُترَفون، وأَنِسوا بِما استوحَشَ مِنْهُ الجاهلون، وصَحِبوا الدنيا بأَبدانٍ أَرواحُها مُعلّقةٌ بالمَحلّ الأَعلى، أُولئِك خُلفاءُ الله في أَرضِه، والدّعاةُ إِلى دِينِه، آهٍ آهٍ! شَوقاً إِلى رُؤْيَتِهم ٣.
لا صوّت الناعي بفقدك إنّه | *** | يومٌ على آل الرسول عظيم |
العلامة الطهراني من سلالة العلماء المشهورين
حلّ العلّامة آيةُ الله السيّد محمّد حُسَين الحُسَينيّ الطهرانيّ في هذا العالم سَنة ۱٣٤٥ هِجري قَمري. و والده هو المرحومُ آيةُ الله الحاجّ السيّد محمّد صادق، وهو من
أَعاظِم عُلماء طَهران، رَجلٌ شديد الغيرة والحميّة، قويّ البنيان، مشار إليه بالبَنان، حيثُ كانَ يُعدّ وحيدَ عصره إِزاءَ تحمّله أَعباءَ الشريعة الغرّاء، ومعارضته النظام الطاغوتيّ البهلويّ ومواجهتِه. فقد عادَ من سامرّاء قاصداً طهرانَ مع أَبيه الجليل المرحوم آيةِ الله المعظّم الحاجّ السيّد إِبراهيم الطهرانيّ، والذي كانَ أحدَ تلامذة أُستاذِه المعروف باسم آية الله العظمى الميرزا حسن الشيرازي رضوان الله عليه.
أمّا جدّه الأعلى، فهو السيّد محمّد وليّ، الذي ينتهي نَسبُه إلى حضرة الإمام السجّاد عليه السلام عن طريقِ زيدِ بنِ عليّ بنِ الحُسين عليهما السلام، وهو مدفونٌ في محلّة «دَرَكِه» الواقعة في طَهران، وله مزار هناك؛ وأمّا من ناحية الأم، فنَسبُه يصِلُ إلى العلّامة مَولَى محمّد تَقي المجلِسي رحمة الله عليه.
أَنهى دِراسته للهندسة الصناعيّة طِبقاً لمِا كانَ رائجاً آنذاك، فَحازَ على الشهادةِ الفنّية بصفته الطالب الجامعي الأوّل في كليّة الفنون الصناعيّةِ في طهران. وكانَ أنْ مَنَحتْهُ الحُكومة مِنحةً للسّفر إلى أَلمانيا ومتابعة دراسته، ليعودَ ويتسلّم المسؤوليات والمناصب العالية في هذا المجال، وذلك بعنوانه الطالب الأوّل من بين زملائه و (الحائزِ على وسام الفخر والتشجيع).
الفصل الأول: الهجرةُ إلى قُمْ واكتسابُ المعارفِ الإلهيّةِ بعنوانها الطريق الوحيد للسعادة
يقول العلّامة الطهرانيّ:
قد شَخصَ أمامي في تلك الفترة خياراتٌ متعدّدة وطرقٌ كثيرةٌ لمستقبلي، حتّى صِرتُ متحيّراً إِزاء تشخيص الخيارِ الأتمّ وانتخابِ المسار النفيس والأرشد، وفي النهاية، بعد الاستنابة الشديدة واللجوء إلى عَتبة قاضي الحاجات، والاتّكال على حَضرة الحقّ ومقدّر المشيئة المطلقة، وتفويض جميع شراشرِ وجودي وأزمّة اختيارِ الصلاح والرشاد، إلى قبضة تدبيرِ مُدبّر الأمور، وفي إحدى الليالي، عَمَدتُ إلى الاستخارة لأجل هذا الموضوع ثمانية عشر مرّة، وما كان إلّا أن جاءتْ -جميعُها واحدةً تِلوَ الأخرى- تصرّحُ بالإلزام والحصر، آمرةً بالاشتغال بخصوصِ العلوم الدينيّة دونَ غيرها، واكتسابِ المعارفِ
الإلهيّة، والورودِ في زُمرة الطلّاب والمشتغلين بعلومِ آلِ محمّدٍ صلواتُ الله عليهمْ أجميعن.
ففي هذا الحال الذي تراءَت أمامَه جميعُ الطرق وكلّ الخيارات، ولاحتْ أمام ناظريه النتائجُ الوافرة، والعواقب المؤثّرة على مستقبله الشخصي، إلّا أنّه وبعد التأمّل والتحقيق في حقيقة الدنيا الدنيئة وواقعيّتها، بما تمثّلُه من صِدام وعِراك في الأهواء الغاوية والمغويّة، الباعثة على اضمحلال جميع القُوَى البشريّة، ومحقِ الاستعدادات الملكوتيّة، كلّ ذلك دَعَاهُ -بفارغ الاطمئنان وهدوءِ البال- إلى التوجّه نحوَ «قُمْ» عُشّ آلِ محمّد، وشدّ الرحال نحو العتبة البهيّة المنوّرة، لحضرةِ فاطمةِ المعصومة سَلامُ الله عليها، وذلكَ بعزمٍ راسخٍ وقَدمٍ ثابت، ليَنهلَ من المعارف الإلهيّة الحقّة، ويَبلُغَ المصادرَ الحيّة والأُسسَ الحيويّة للأئمّة المعصومين صَلواتُ الله عَليهمْ أجمَعين. فكان أوّلَ طالبٍ يسكنُ في مدرسةِ المرحومِ آيةِ الله السيّد" محمّد حجّت كوه كمره اي" (الحجتيّة).
أساتذته في دروس السطوح وتعرفه على العلامة الطباطبائي
أمّا أساتذته في السطوح فهم: في «اللمعة» آية الله الشيخ محمّد صدوقي اليزدي، أمّا «القوانين» و «الرسائل» و «المكاسب» فقدْ دَرَسَها على يدَي الآيات العِظام؛ الشيخ عبد الجواد سدهي الأصفهاني، والحاج السيّد رضا بهاء الديني، و «الكفاية» لدى آية الله الشيخ مرتضى الحائري
اليزدي، وحضرَ سنتين بحثَ الخارج عندَ المرحوم آية الله السيّد محمّد داماد، رحمة الله عليهم أجمعين.
وأمّا دروس الفلسفة والحكمة المتعالية والتفسير والفقه والحديث والعرفان النظري، فقد أكمَلَها في محضرِ الأستاذِ الفريد الذي لا مَثيل له، علّامة الدهر، الحكيم على الإطلاق، العارف بالله وبأمر الله، المرحوم آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد حسين الطباطبائي التبريزي رضوان الله عليه.
فقد شرعَ ارتباطه بالمرحوم العلّامة الطباطبائي من خلال التّلمَذَة في دروس الفلسفة، وذلك حينما كانَ قد تجاوز مرحلة دراسة واكتساب العلوم الحوزويّة المتداولة، كان ذلك مقترناً مع بروزِ شغفه واندفاعه، وانجذابه إلى الصفات الملكوتية لهذا العظيم، واشتداد ظمئه إلى الارتواء من فيضان علوم التشيّع والولاية، والغوص في بحر معارفهما الحقّة، والتي كانتْ متجليّة في نفسه القدسية؛ فكان ذلك إيذاناً ببدءِ مرحلة جديدة من حياته العلميّة ونضوج بصيرته الباطنيّة، ليشخصَ أمامَ عينيه أفقٌ جديدٌ من المعارف الإلهيّة، يقوده إلى ناحية عوالم الغيب ومراتب الشهود.
الطبقات المختلفة للعلماء والمتلبسين بلباس العلم
ذاتَ يوم، يقول العلّامة:
قبل العزمِ على الذهاب إلى قمْ، والانخراط بالمجتمع العلمائي والارتباط مع المشتغلين بالعلوم الدينية، كانَ يخايلُني تصوّر أنّ تمامَ هؤلاءِ همْ منْ زُمرة الصلحاء
والأخيار، وأنّهم مِن أجلّة الخَلق، والمتصفين بالصفات القدسيّة، المتخلّقين بأخلاق الربّانيين، وبقيَ حسنُ الظنّ هذا يخالجني حتّى وردتُ إلى الحوزة، وعاينت الطبقات المختلفة من العلماء ومفكّريهم، والمتلبسين بلباس العلم، فأدركتُ أنّ حسنَ الظنّ هذا بالنسبة إلى جميعهم أمرٌ وهميّ نادرٌ، ومخالف للحقيقة والواقع، ولمستُ أنّ النظر إليهم على نسقٍ واحدٍ وجعلهم في زمرة الأتقياء والصلحاء مخالف للإنصاف، بل قد يُرى في أوساطهم أشخاصٌ ظاهرهم حَسَنٌ، قد تأدّبوا بآداب العلم، وأقاموا أنفسهم في سِلك العظماء والأولياء، إلّا أنّ باطنهم مُنغمسٌ في الشهوات والأَهواء الرديئة، قابعٌ في الخيالات الضالّة المضلّة، إلى حدٍّ أنّك لو ارتبطتَ بأحدهم وتعاملتَ معه، لأدركت أنّ رائحةَ التعفّن والكدورة تفوحُ منه، إلى الحدّ الذي تتأذّى من رائحته شامّة الروح، ويتكدّر منه القلبُ من على بُعد فراسخ متباعدة، تماماً كما ورَدَ في رواية الإمام الصادق عليه السلام، مخاطباً أصحابه في أحدِ الأيّام:
«تجدُ الرجلَ لا يُخطئُ بِلامٍ ولا وَاوٍ، خَطيباً مِسقَعَاً، ولَقلبُهُ أشدُّ ظُلمَةً مِنَ الليلِ المُظلِم»۱
يبدو من الأتقياء ظاهراً، أماّ باطنه فليلٌ مظلم، وحَسْبَ بيانِ الإمامِ جعفر الصادقِ عليه السّلام في ذمّ عُلماءِ السّوءِ:
«هُمْ أضَرُّ عَلَى ضُعَفاءِ شيعَتِنا مِنْ جَيشِ يزيد على الحسين بن عليّ عليه السلام وأصحابه»۱
وفي مقابل ذلك، صادفتُ علماءَ كانوا في أشدّ الخلوص ومنتهى الصفاء؛ بهاءٌ ومجدٌ وعظمة .. لا يمكّن للإنسان أن يجري على لسانه اسمهم لسانه، ولا يحقّ لأحدٍ أنْ يتخيّلَهم غير الملائكة. والعلّامة الطباطبائي -رضوانُ الله عليه- كانَ منْ هذه الطائفة، وكلّما كنتُ أتأمّل في رفعةِ هذا العظيم، وعلوِّ مجده، وكرامته وعظمته، لم يكنْ لفكري ولا للبّي أنْ يبلغَ شيئاً، فأظلّ والهاً حيراناً، مبهوتاً في السير والبحث، والغور في بحار فضائله.
حينما لَمَسَ العلّامة الطباطبائيّ ما لهذا التلميذ البارزِ من استعدادٍ لتلقّي جَميعِ مراتب المعرفة، وبلوغه الحقيقة، ووُرودِه كُنْهَ الشريعة، ووُقوفه على مَشرَعة مَدرسةِ الوحْي، فَدونَ أيّ بخلٍ أو شحّ، عمدَ إلى نقلِ لبِّ ولُبابِ الحقيقةِ والمعرفة إليه، والتي تمثّلُ نتيجةَ تجربته العلمية وخلاصة
سلوكه العرفاني، وصفوة سَيره وبحثه لسنينَ متمادية في محضر العظماء وأعلام حوزة النجف، نظير الشيخ محمّد حسين الغروي الأصفهاني والسيّد حسين" بادكوبه اى"، وبالأخصّ فريد العصر ووحيد الدهر، ترجمان القرآن وسلمان الزمان: آية الحقّ والعرفان آية الله العظمى السيّد علي القاضي الطباطبائي رضوان الله عليهم.
كلامُ سيّد الشهداء يدلّ على انحصار معرفة الإمام عليه السلام بطريق العرفان
يقول العلّامة الطهراني في أحدِ الأيّام لأستاذه العلّامة الطباطبائي:
كيفَ يمكنُ بلوغَ كُنْهِ هذا الحديث الشريف المروِيّ عنْ حضرةِ سيّد الشهداءِ عليه السلام حيثُ يقول:
أيّها الناس! إنّ الله ما خَلَقَ خَلْقَ الله إلا لِيَعرِفوه، فإذا عَرَفوه عَبَدوه واستَغْنَوا بعبادَتِه عنْ عِبادةِ ما سواه. فقالَ رَجل: يا ابنَ رسولِ الله! ما مَعرفةُ الله عَزّوجَلّ؟ فقالَ: معرفةُ أهْلِ كُلّ زمانٍ إِمامهُ الذي يجبُ عليهِم طاعَتَه۱.
يجيبه العلّامة الطباطبائي قائلًا: هناك طريقٌ واحدٌ لا ثانيَ له، فالوصولُ إلى معرفةِ الإمامِ عليه السلام، وإِدراكُ مقامِ الولايةِ المطلقةِ لحضراتِ المعصومينَ صلواتُ الله عليهم أجمعين منحصرٌ بالعرفان فحسب!
هذا الكلام يجرنا إلى نكتةٍ جديرةٍ بالتوقّفِ والتأمّلِ وهي:
أولًا: لماذا حَصرَ المرحوم العلّامة الطباطبائي طريقَ معرفةِ الإمام عليه السلام بخطّ العرفان وطريق السلوك إلى الله؟
وثانياً: كيفَ هو هذا الطريق؟ وبواسطة أيّ شخص يمكن أن يُجتازَ؟ وهل يمكنُ للإنسانِ أنْ يضعَ قدمه في طريق العرفان بمعزلٍ عن قائدٍ ومرشد، فيسلك إلى الله من تلقاءِ نفسه وسطَ كلّ هذه العقبات الكؤود، والمنزلقات الهائلة، ودونَ وجود عارفٍ خبيرٍ بهذا الطريق كان قد طواه واجتازه مسبقاً، أو لا يمكنه؟
وللإجابة عن السؤال الأوّل يبنغي أنْ يقال: إنّ معرفة الإمام عليه السلام على نحوين:
النحو الأوّل: المعرفة الإجمالية، أيْ معرفة الأب، الأم، الأولاد، الأخوة، الأخوات، كيفيّة حياته، ارتباطه مع سائر الأفراد، المقطع التاريخي الذي عاصره وعاش فيه، المسائل التي واجهها طوال حياته، ميزان علم الإمام بالنسبة لسائر العلوم والفنون، وذلك حسبَ رتبةِ المتتبِّع نفسه و سِعَتِه. كذلك معرفة كيفيّة مواجهته المسائل المختلفة المتطرّقة إليه طوال فترة حياته، وبكلمة واحدة:
المعرفة الإجماليّة للمسائل الاجتماعيّة والعلميّة والثقافيّة للإمامِ عليه السلام.
وهذا النوعُ منَ المعرفة إنّما يمثّل الهويّة الشخصيّة، ولكن للسؤال باب واسع، فهل تنحصرُ حقيقة الإمام عليه السلام بهذا المقدار؟ وهل هذا هو كلّ شيء بحيث لا توجد وراءَه حقائق وعوالم أُخرى؟ ألا يوجدُ تفاوتٌ بين مقامِ الإمامِ الثبوتي ومقامه الإثباتي؟ ثمّ ما نَراهُ من ظواهر أعمالِ الإمام وتجاربِهِ وأقوالهِ، ونسمعُهُ ونُشاهده، هلْ كلّ ذلك بنفس المقدار من النورانيّة والحقيقة المنطوية في وجود الإمام؟ أو أنّ المسألة شيءٌ آخر؟
وحينئذٍ ينفتحُ الباب أمامَ النحو الثاني من المعرفة:
وهو المعرفة الحقيقيّة والواقعيّة لوجود الإمام عليه السلام.
إنّ الاختلاف والافتراقَ بينَ الإمام عليه السلام وسائرِ الأفراد -بأيّ نحو من الأنحاء- لهو اختلافٌ وتمايزٌ جوهري، وليسَ مجرّدَ اختلافٍ في الأعراضِ والصفات الظاهريّة، فالعلومُ والمدركاتُ الإنسانية الكامنة في جميع الأفراد والطبقات، إنّما تتحدّد وتتقرّر على أساسِ الصور المرتَسِمةِ والعلومِ الحُصوليّة، وهذه العلومُ والمدركات بدورها منبعثةٌ من الحواس الظاهريّة، يرسمُها الإنسان بواسطة الجمع
والتفريق الذهنيين، نعمْ، من الممكن للإنسانِ أنْ يكتسبَ الكثيرَ بواسطة طريق الباطن، ومن خلال انكشاف العوالم الغيبية، والوصول إلى مدارج العوالم العلوية وطيّ معارجها، وذلك بواسطة الرياضات الشرعيّة، وتهيئة الظروف المستوجبة لتزكية النفس، ولكن أنّى هذا من علم الإمام عليه السلام القائمِ على أساس الشهود، والذي هو نتيجة للتبدّل والتغيير الجوهري الكائن في نفسه، الناتج من السير في طريق الله، والوصول إلى حريم كبرياء الحق، والفناء التام والمطلق في الذات الأحديّة، وحذفِ جميع التعيّنات الماهويّة والبشريّة، واندكاكها في الذات الإلهية و الهوهوية المحضة، فلمْ يَعُدْ بشراً، وقَد فَقَدَ أوصافَه البشريّة، فِعلُهُ فعلُ الله، وكلامُهُ كلامُ الله، وسِرّ سويدائِهِ ليست سوى الله.
ومن خلال هذا البيان نصلُ إلى هذه النتيجة: وهي أنّ معرفة الإمام بتمام معنى الكلمة والحقيقة، وبنحوٍ مطلق، والوصول إلى كنه ذاته المقدّس، هو عينُ معرفة الله، وهو المعرفة الواقعيّة والحقيقيّة للذّات الأَحَديّة بتمامِ المعنى والحقيقة، لذلك قال المرحوم العلّامة الطباطبائي: إنّ معرفة الإمام غير متيسّرة إلا بواسطة طريق العرفان والسلوك إلى الله.
بناءً عليه، ومع التوجّه إلى المطالب السابقة، يتضّح الجواب عن السؤال الثاني.
ففي مقام الإجابة لا بدّ وأنْ نقول: إنّ الشخصَ القادرَ على قيادة البشر وهدايتهم إلى الحقائق المنطوية في باطن الإمام عليه السلام وسرّه، وإيصالهم إلى باطن الإمام وحقيقته، هوَ منْ كانَ قد اندكّ وجوده في مقام الولاية، وفَنِيَ في الذات الأحديّة وانمحى بتمامِ معنى الكلمة وعلى الإطلاق. وإلا فمادام هناك شائبةٌ من شوائب إنّيته وتعيّنه، فأبداً وأبداً .. لنْ يعرفَ الإمامَ واقعاً وبشكل كلّي؛ وكلّ ما يتفوّه به من أوصافه وكمالاته فهو مجرّدُ كلامٍ نابعٍ عن محدوديّة سعته الوجوديّة، لا يتجاوز دائرة مدركاته، وكلّ ما يخالُ له أنّه الإمام غيرُ منطبقٍ عليه، وإنّما هو مرتبة من مراتبه، ومنزلة من منازله اللامتناهية.
نستنتج ممّا سبق، أنّ منْ شرطِ الأستاذِ أنْ يكونَ قدْ عَبَرَ من مقامِ الجزئيّة بشكلٍ تامّ وتحقّق بالكليّة، وخرجَ من شوائبِ النفس -بجميع مراتبها- وانكشفتْ أمامه جميعُ الحجب، فلا كدورةَ ولا ظلمةَ من الظلمات المبعّدة، ولا ستارَ أمامه ولا حجاب، سَواءً الحجب الظلمانيّة أمْ النورانيّة، بلْ نفسُهُ متّصلةٌ بنفس الإمام، بلْ مندكّة وفانية فيها. بناءً على ذلك، فأيّ شيءٍ يقومُ به ويفعلُه، فكأنّ الإمام قامَ بهِ بنفسه، وأيّ حديثٍ يُدلي به، فهو عنْ لسانِ الإمامِ عليه السلام، يظهرُ من خلاله بعنوانه أحد مظاهرِ الإمام، وإحدى بروزاته، وكلّ ما يخطرُ في ضميره النيّر، فهو رشحةٌ من نفس الإمام دون أيّ شائبة!
لا بدّ للمرشد والهادي في طريق السير والسلوك أنْ يكون قد فنيَ في مقام الولاية
وبعبارة أخرى، هما حقيقةٌ واحدةٌ (والتي هي عينُ مقام ولاية الإمام عليه السلام وإحاطته الكليّة والنورانيّة) قد تجلّت وبرزتْ في ظهورَين وتجلّيَين، فتجارب الوليّ وبياناته هي من تلك العين الزلال، ومن معيِن مشرعته النضرة. بَلَى! حينئذٍ يستطيعُ الأستاذُ أنْ يهدي إلى الذات الأحديّة، وإلى حقيقة مقام الولاية المطلقة، فهنا لا يبقى بين الولاية والتوحيد أيّ مائزٍ أو فارق، خلافاً لما تدعيه الشيخيّة من وجودِ التمايز والافتراق بين مفهوميهما ومعنييهما، حيثُ يقولون بالاختلاف الماهويّ بينهما، وأنّ كلًا منهما من رتبة خاصّة، وأنّ التوحيدَ أعلى وأشرف من الولاية. فكلّ هذه المسائلِ شركٌ وكفرٌ وإِلحاد، وابتعاد عن المباني الأصيلةِ والحقيقيّة للتوحيدِ الإسلامي، وخلاف للتشيُّع.
فعلى هذا الأصل، لا فرقَ بين كلامِ الأستاذ والإمام، بلْ لا معنى له أبداً، لأنّ كلّ ما يقولُه الأستاذُ الواصل، والعارفُ الكامل والوليُّ المندكّ والفاني في ولاية الإمام هو عن الإمام، وكلّ ما يقومُ به فهو من الرشحات الوجوديّة للإمام عليه السلام، فكلام الأستاذ هو كلام الإمام، وفعلُه فعلُ الإمام، وضميره وسرّه وسويداؤه سوف تكون ضميرَ الإمام، فهنا مقام تجلّي الحقّ في مرآتين؛ فهو ظهورٌ لا شائبة فيه، نور للوجود قد تجلّى في موجودين، فاختلاف الأستاذ مع الإمام لا يعدو كونه اختلافاً في
الشكل فحسب؛ اختلافٌ في الصورة والعرض، اختلافٌ في المظاهر المُلكيّة والناسوتيّة، فهذه الجهة الشكليّة المُمَيِّزَةِ لِكلٍّ منهما لا تقبلُ التغيير والتبديل أبداً، إلّا أنّها لا توجبُ الافتراقَ والتباين.
من هذا المنظار، يمكنُنا إدراكُ حقيقة ما كانَ يذكُرُه المرحومُ العلّامة الطهرانيّ مراراً، حيثُ كانَ يقول:
كنت أنظر إلى أستاذي وكأنّه النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الإمام عليه السلام.
لذلك كان يرى أنّ المرحوم آية الله العظمى الحاج الشيخ محمّد جواد الأنصاري كالنبي الأكرم -بالطبع مع حذف الخصوصيّات الفرديّة-.
أيّ كلامٍ عرشيٍّ عظيم هذا الكلام؟! فهو كلامٌ عميق جداً، وبيانٌ واقعيّ جداً! ينبئُ عن سرّ السلوك، وحقيقة العرفان والتوحيد، والمعرفة الواقعيّة للإمام عليه السلام، ويكشفُ عن الوصول إلى أعلى مرتبة من المعرفة والدراية.
ها هو العلّامة الطهرانيّ يتوجّه إلى محضرِ العلّامة الطباطبائي مع شوقٍ عجيبٍ لاكتسابِ المعارفِ والعلوم الحقّة الإلهيّة، وهو بدوره كالأبِ الرقيقِ العطوف، يغوصُ مع تلميذه المهتدي في بحره الموّاج، الزاخر بالعلوم الإلهيّة، دون ذرّة بخلٍ أو حسرة، لينهلَ من الجواهر النضرة ولآلئ
الحكم الإلهيّة النفيسة صباحاً ومساءً، فالعلّامة الطباطبائي من خلال رؤيته المستقبلية ونظرته الثاقبة، لمْ يكتفِ من خلال تدريسه العلومَ الحوزويّةَ المتعارفة من (علم الحكمة والهيئة والتفسير والفقه والحديث وغيره) ببلوغه أعلى المراتب، والتربّع على قمّة العلم والمعرفة، واستيفائه تمام فعليّتهما، وإنّما يقومُ بفتحِ أبواب الهداية نحو العوالم الربوبيّة، واحداً تلوَ الآخر، من خلال بيان الحقائق المستترة والمختفية عن أنظار الخلق الحيارى، وبواسطة كشفِ النقابِ عن العوالم الربوبيّة، وتصويرِ حقيقة عالم الخلق والأمر وترسيمها، وبالتالي رفعِ الستار عن النوافذ التي يتمّ الولوج من خلالها إلى عوالم أسرارِ الوجود.
كذلك يذكرُ العلّامة الطهرانيّ فيما يتعلّق بهذه المسألة، في كتابه القيّم «الشمس الساطعة» فيقول:
العلّامة الطباطبائي هو المشرف المباشر على البناء العلمي والمعرفي للعلامة الطهراني
وفي بعض الأحيان كانَ يُلقي علينا بياناتٍ عديدةً يشرحُ فيها أحوالَ العلماء العظام وأولياء الله، ويستعرضَ أنحاء المدارس العرفانيّة، وبالأخصّ فيما يتعلّق بأستاذه في المعارف الإلهيّة والأخلاق مدّة مكوثه في النجف، المرحوم سيّد العارفين وسند المتألهين، آية الله المتفرّد، السيّد الحاج الميرزا علي السيّد القاضي -رضوان الله عليه- وكانت له بيانات مفصّلة، تبعثُ في نفوسنا البهجة والسرور، وقد كانتْ مجالسنا معه تمتدّ أحياناً -علاوة على
أوقات الدروس الرسميّة- إلى ساعتين أو ثلاث في كل يومٍ وليلة.
ولقد بلغتْ بنا درجةُ الشغف والوله به إلى حدٍ حَمَلَنا على تركِ حُجرة المدرسة، لنستأجرَ غرفةً قربَ منزله، ونلوذ بجواره بغية ازدياد اللقاء به، والاستفادة والاستفاضة منه بشكلٍ أكثر، فكانَ بشكلٍ مستمر، يلقي علينا المواعظَ الأخلاقيّة والعرفانيّة، وذلك قُبيلَ الغروبِ بساعةٍ أو ساعتين، وفي بعض الأحيان كانت تمتدّ الجلسة إلى ما بعدَ مضيّ قسطٍ من الليل، وأمّا في فصل الربيع، فكانَ يأتي إلى حديقة ال" قلعة" القريبة من منزله، فيلقي عليّ وعلى اثنين من الرفقاء مطالب متعدّدة، تدورُ حولَ سيرة الفلاسفة المتألّهين المسلمين ونهجهم، وتبيّن مسلك علماء الأخلاق، وسَيرِ وسلوكِ العُرفاء الأجلّاء، بالأخصّ فيما يتعلّق بأحوال المرحوم الآخوند الملّا حسين قلي الهمداني وتلامذته البارزين، أمثال السيّد أحمد الكربلائي الطهرانيّ، والسيّد الحاج ميرزا جواد الملكي التبريزي، والسيّد الحاج الشيخ محمّد البهاري، والسيّد محمّد سعيد الحبّوبي، وعن سيرة المرحوم السيّد ابن طاووس وبحر العلوم ونهجهما، وعن أستاذه المرحوم القاضي -رضوان الله عليهم أجمعين- كلّ ذلك بشكل مسهب مفصّل، حيث إنّها كانت مفتاحاً لطريقنا وهدايتنا إلى المعارف الإلهيّة.
وحقّاً، لو لم نكنْ لنعثرَ على هكذا شخص، لكنّا صفرَ اليدين .. خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، فلك الحمدُ وله المنّة۱
هذا مضافاً إلى توضيحه السلوك العملي والمنهج العرفاني لعلماء السير والسلوك، أمثالِ المرحومِ الآخوند الملّا حسينقلي الهمداني والسيّد أحمد الكربلائي والحاج الميرزا جواد ملكي التبريزي وبالأخصّ أستاذه: السيّد علي القاضي الطباطبائي، مضافاً إلى حثّه وتشويقه على الدخول في هذا الطريق، والذي يراه أنّه الطريق الوحيد الموصل إلى حقيقة التوحيد والولاية، كلّ ذلك جعلَ من العلّامة الطهرانيّ -علاوة على تتلمذه في العلوم المتداولة والمتعارفة- تلميذاً سلوكيّاً بشكلٍ أوّلي وأساسي، وأصبحَ تحتَ رعاية وهداية العلّامة الطباطبائي من حيث المداومة على الأذكار والأوراد وسائر الدستوارت والبرامج الأخلاقية.
فالمعرفة والإدراك في مدرسة العرفان لدى العلّامة الطباطبائي -رضوان الله عليه- تدور مدار حقيقة واحدة، هي ذاك التوحيد الخالص، وخالص التوحيد المتقن والمحكم، والطريقُ الوحيد لبلوغ هذه الحقيقة هو معرفة الإمام عليه السلام، والعبور من نافذة ولايته المطلقة.
فعلى أساس هذه المدرسة، تتشكّل هذه الحقيقة ضمن
قوالبَ متعدّدةٍ ومظاهرَ مختلفةٍ وطرقٍ متفاوتةٍ، ليتحقّق العبورُ من خلالِ هذه النوافذ المتنوّعةِ، الموصلةِ إلى ساحة القدسِ، والتحقّقِ بالوجود المطلق، وبالتالي بلوغ الهدف الغائي بشكل شامل، وحصول السعة الوجوديّة الحقيقيّة الإطلاقيّة. فلا يكون شيءٌ من هذه الطرق المتفاوتة متضادّاً مع الآخر، بل إنّ كلًّا منها مؤيّدٌ للآخر يقوّيه ويعضده ويُحكمه، سواء على المستويين التكويني أم التشريعي.
العلامة الطباطبائي يرى أنّ لمدرسة العرفان أركان ثلاث: العقل والشرع والشهود
إنّ حقانيّة هذه المدرسة قائمة على أساس" أصالة انطباق التكوين مع التشريع" أثناءَ تبدّل استعدادات الإنسان إلى الفعليّة التامة، وظهور شمس المعرفة، وعدم إهدارها هباءً، ليساند بعضها البعض الآخر ويدعمه. كما وقد ثبتتْ صحّة هذين الأصلَين بما لا غبار عليه من الروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، حيث عُبّر عنهما بحجيّة الباطن والظاهر، وحسب الاصطلاح بالعقل المتصل والعقل المنفصل.
يعتبرُ العقلُ في مدرسة العلّامة الطباطبائي وتلميذه العلّامة الطهرانيّ بعنوانه حجّة باطنيّة، مسدّداً ومؤيّداً من الحجّة الظاهريّة في جميع المراحل ودون استثناء، فهذه الحجّة الظاهريّة هي أصلُ التشريع وأساسُ الحقائق المنزلة من الوحي، التي هبطتْ بواسطة النفوس القدسيّة لحضراتِ المعصومين سلامُ الله عليهم أجمعين، ونتيجةً لهذا الاقتران
الميمون والمبارك، يتمُّ العبورُ من الكثرات الأنفسيّة، وتظهرُ مراتب الأسماء والصفات الجماليّة والجلاليّة للحق، والتي يُعبّرُ عنها اصطلاحاً بالمشاهدات الصوريّة والمعنويّة المتجلّية في وجود السالك، والمنتهية به إلى وروده حَرَمَ الأمن عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، واستحالة انفكاك هذه الأركان الثلاثة في نظام التربية والهداية الإلهية بشاهد الآية الشريفة رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى۱ جعلَ من الأستاذِ وتلميذه وإلى آخرِ حياتهما المملوءة بالبركة، أنْ يتمسّكا بحراسة هذه المقامات الثلاث الرفيعة، من العقل والشرع والشهود، وذلك بجعلها فريضة، ووضعِها نصبَ أعينهما، وحملِ ذلك وأخذه بكلّ ما لديهما من طاقة وقدرة، خلافاً لأصلِ التعبّد والطاعة العمياء، ممّا هو شائع لدى سائر الملل والنحل، من الفرق المدّعية للعرفان والتصوّف على حساب إِبعاد العقلِ، والمنعِ من الاعتماد عليه، وكم يتّفقُ أنْ يتعاملوا مع الشرع كأصلٍ مسلّم ومقدّم عليه. وأمّا في مدرسة هذين العلمين، فإنّ العملَ باليقين والاستناد إلى العقل لهو المحور الحيوي لرُقي السالك وبلوغه مراتب الكمال.
ولَطالما كانَ العلّامة الطهرانيّ يُطلقُ على أستاذه العرفانيّ الآخَر، حضرةِ آية الحق والعرفان الحاج السيّد هاشم الحدّاد
-رضوان الله عليه- بأنّه أعقلُ أفرادِ الدنيا. حيث لمْ يكنْ يرى أيّ قيمة في التعبّد الأعمى بالأستاذ، والإطاعة دون الالتفات إلى الجنبة المنطقيّة والعقلانية، وبعيداً عن الإدراك الصحيح لمباني الأستاذ، ممّا يؤدّي غالباً إلى الوقوع في المهالك والمخاطر الموبقة، التي لا تقبل التدارك والجبران.
وقد سُمعَ هذا المطلب من المرحوم الحدّاد -رضوان الله عليه- مراراً وتكراراً حيثُ يقول:
طريقُ العرفان هو طريقُ العقل، وأكثر السالكين توفيقاً في هذا المسلك أقواهم عقلًا، وأوفرهم نصيباً من القوى المدرِكة، فالمشاكلُ تتجلّى في مواضع عديدة وأشكال مختلفة، ممّا يضعُ سلوك السالك أمام سراب خطير، وخصوصاً مع عدم التمكّن من الوصول إلى الأستاذ، وبالأخصّ بعد رحيل الأستاذ، فعدمُ رعاية هذا الأصل قدْ يؤدّي إلى هبوط السالك وسقوطه من رتبته الوجوديّة، و وُرودِه في أهواء الأبالسة، ودخوله في جحيم الجهل والأهواء الغاوية والمُغوية.
وقد امتدّت العلاقة الوثيقة، والرفاقة والمعاشرة بين العلّامة الطهرانيّ وأستاذه سبع سنوات، كانَ قد أقامَ خلالها في قمْ، حتّى في فصل الصيف وسائر الفرص التعطيليّة للطلبة، أيّاماً يَنهلُ فيها من النبع الفيّاض لهذا الرجل العظيم، والعين الوافرة في جميع المعارف الإلهيّة: التفسير، الكلام،
الحكمة، فقه الحديث، العرفان النظري، والتربية السلوكيّة، فكانَ أنْ بدّله إلى حكيم متبحّر، ومجتهدٍ ضليع، ومفسّر فهيم، وفي آخر المطاف سالك متحرّر، ليحملَ البُشرى للخلائق، وينفعهم من رشحات فيضه في المستقبل المشرق. وفي هذه الأثناء كان والده المعظّم قد وَدّعَ الدّار الفانية وارتحلَ عنها، بعدَ أنْ نصّبه وصيّاً وخلفاً له، وَسَطَ جَبلٍ من المشاكل والصّعاب، وبحرٍ هائجٍ من الاضطرابات والبهتان والأذيّة، كانَ قدْ خاضَ غِمارها في تلك المرحلة السوداء بعد ارتحال والده.
الفصل الثاني: الهجرة إلى النجف
بقيَ العلّامة الطهرانيّ في طهران ما يناهزُ السنة الكاملة، بُغية عقدِ المسائل العالقة وحلّها، وإيصال حقوق الصّغار والقصّر، والعملِ على تنفيذ موارد الوصيّة، وهو ما كادَ يُودي بحياته وتزهق روحه من شدّة ما عاناه آنذاك .. وحيثُ لمْ يأُلُ الأمرُ في النّهاية إلّا إلى الفشل والاحباط، عَزَمَ على قطعِ سائر تعلّقاته بطهران وهجرِ جميع علاقاته بها، آخذاً الإجازة في ذلك من أستاذه العلمي والعملي والسّلوكي (العلّامة الطباطبائي)، شادّاً رحاله إلى النّجف الأشرف مع والدته وأهلِ بيته سنة ۱٣۷۱ هجري قمري، ليَحُطّ عندَ عتبة الملائكة الحافظين، عندَ مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السّلام.
وجاء في إحدى الرسائل التّي كان قد أرسلها إليه العلّامة الطباطبائي من قمْ، أن:
لولا عظمة زيارة المشهد العَلَوي المُقَدَّس، وجَلالة قَدره،
وفيوضات تلك العتبة المباركة وبركاتها، لَمَا كنتُ لأوافِقَ أبداً على مُضيّكَ وذهابك، ولَمَا استطعتُ تَحمّل فراقك.
وكما كان المرحوم العلّامة الطّباطبائي أستاذاً له في العلوم الحوزويّة المتداولة، كان كذلك أستاذه العَملي والسّلوكي أيضاً، حيثُ كانَ يعطيه البرامج، والدستور العملي، ويوصيه بالاشتغال بالأذكار، والأوراد التوحيديّة والتّهليلية واليونسيّة وغير ذلك.
و من جُملة دستورات العلّامة الطّباطبائي إليه:
التّفكر بالموت، التّفكر في النّفس، قراءة التّسبيحات عند النّوم، السّجدة الطويلة مع ذكر اليونسيّة أربعمائة مرّة على الأقل، المراقبة بتمام معناها، قراءة القرآن بشكلٍ يشعرُ فيه أنّ القارئ هو غيره وأنّه هو المُستمع، قراءة سورة" ص" في ليالي الجمعة، صلاة حضرة الإمام الحجّة في ليالي الجمعة، قراءة مائة مرة (إنّا أنزلناه) في ليالي الجمعة وعصرِها، النّوافل الليليّة والنّهاريّة. وحينما قصدَ النّجف الأشرف، كانَ قد أكّد عليه أنْ يرتبطَ هناك بشخصين ويعاشرهما ويختلط معهما، أحدهما المرحوم آية الله العظمى قدوة العلماء والعاملين وعماد الفقهاء الربانيين: الحاج السيّد جمال الدّين الموسوي الگلبايكاني -رضوان الله عليه- والآخر المرحوم آية الله سند الأعاظم الفخام وأسوة الصّلحاء الكرام: الحاج
الشيخ عباس هاتف القوچاني رحمة الله عليه.
وكذلك بالنّسبة لما يتعلّق بتحصيله العلمي، ونَحوِ ارتباطه بالحوزة العلمّية، فقد حذّره من حضور الاجتماعات بشدّة، والمشاركة في المجالس غير الضروريّة ولاالغير المفيدة، المتلفة للعمر، والمخالفة لمرضاة الله، وكذلك بالنّسبة إلى معاشرة الكمّ الهائل من الأشخاص والاختلاط بهم، سوى عدّة قليلة منهم، وكذلك الدّخول في المسائل المتداولة الرائجة، والغوص في الكثرات الأنفسية والأهواء المغوية، والانخراط في التكتّلات والتّجمعات، والآراء الدّنيئة المتدنّية، وكان يقول له:" انتخب الدّروس المفيدة لك، حتّى وإن كان عدد طلابها نزر قليل.
ارتباط العلامة الطهراني الوثيق بآية الله السيّد جمال الدين الكلبايكاني في النجف
إنّ من جُملة المعدودين من أعاظم النّجف، ممّن كان بينه وبين العلّامة الطهرانيّ ارتباطٌ وثيق ومعاشرةٌ مستمرة، الأخلاقيّ الكبير، والعارف النّزيه، والعالم المشهور، مرجع التّقليد: المرحوم آية الله العظمى الحاج السيّد جمال الدين الموسويّ الگلبايكانيّ تَغَمّده الله برحمته.
فمحاوراته ومحادثاته الحكميّة والعرفانيّة مع هذا الرجل العظيم، أثمرتْ الأثرَ العميقَ والحثيث في تشويقه وتثبيته بالنسبة لهذا المنهج.
وقد بلغَ الأمرُ من شدّة ارتباطه بالمرحوم الگلبايكاني
وتصادقه معه بشكل محكم ومتين، أنْ صار محطَّ أسراره وخزانة نجواه ومستودعه.
وكثيراً ما اتّفقَ أنْ كانَ المرحومُ الگلبايكاني يلقي على العلّامة الطهرانيّ من الأسرار الإلهية والمعارف الباطنيّة، فما إنْ يأتي أحدُ المقربين ويدخل الغرفة، يقوم فوراً بتغيير الموضوع، ويتظاهران بالاشتغال ببحثِ أحدِ الفروع الفقهيّة.
وكانَ المرحومُ العلّامة الطهرانيّ يقصُّ حكاياتٍ عديدةً عن ابتلاء المرحوم الگلبايكاني بأنواع الشّدائد والمشقّات التي لا تُتحمَّل، وذلك حينما كانَ منزله مجاوراً لمنزلِ المرحوم آية الله السيّد أبو الحسن الأصفهاني، في حال أنّه كلّما كانَ يأتي لزيارته، كان يتلألأ وكأنّه في غاية البهجة والانبساط والسرور إلى حدٍّ يُخالُ أنّه في بحرٍ من النّعم واللذات، وأنّه مستغرقٌ في الأنوار الجمالية والجلاليّة القاهرة للحق تعالى.
كان يقول:
ذهبتُ ذاتَ يومٍ لعيادة المرحوم الگلبايكاني، حيثُ كان مريضاً بالبروستات، فرأيته مستلقياً على الأرض، وقد اشتدّ عليه الألم من رأسه حتّى أخمص قدمه، وفي تلك الفترة كان ابنه طريحَ الفراش أيضاً جرّاء عارضٍ كان قدْ أصابه، مضافاً إلى ضيقٍ في المعاش، وفقرٍ مدقع ومفرطٍ
قدْ حلّ بأهل بيته، والخلاصة، أنّه استقبلنا في وضعٍ حرج! وهناك .. نظرَ المرحوم الگلبايكاني إليّ وضَحِكَ بصوتٍ عالٍ قائلًا: آقا سيّد محمّد حسين! من ليس له عرفان، فلا دنيا له ولا آخرة، أترى حالي الذي أكابده؟ فأنا مسرورٌ، تغمُرني البهجة والسرور، فلا أشعر بأيّ غمّ أصلًا، هل ترى الناس في أيّ مصائب يعيشون وبأيّ مسائل يبتلون!
كذلك بالنسبة لما حدثَ مع المرحوم آية الله العظمى الحاج السيّد عبد الهادي الشيرازي -رحمة الله عليه- حيثُ كان زميلًا في المباحثة مع المرحوم آية الله السيّد محمدّ صادق الحسيني الطهرانيّ والد العلّامة، فكانت تربطهما رفقة دائمة، ولطالما ينقلُ عن حالاته الروحيّة وفضائله الأخلاقية، إلى الحدّ الذي جعلَ العلّامة الطهرانيّ يقول مراراً:
بعد وفاة المرحوم السيّد عبد الهادي الشيرازي، لم أعيّن بعده مرجعاً للتقليد.
يقول العلامة الطهراني:
كانتْ النجف بالنسبة لي الجنّة الموعودة، وهواؤها المحرق في الصيف كالنسيم الربيعي الناعم.
فجذبات حريم القدس العلوي كأنّها نغمةٌ استوعبتْ كلّ وجوده، وفيوضات مقام الولاية ولطفه وعنايته جعلته مجذوباً
منقاداً دون حراك، إلى حدّ لم يَعدْ يخطرُ على باله الرجوع إلى إيران أبداً.
راحةٌ في البال .. وطمأنينةٌ في الخاطر .. فمن جهة، هو بعيدٌ عن القضايا المستجِدّة والمرعبة، غارقٌ في الجوار الميمون والمبارك لمولى الموحّدين أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، ومن جهة أخرى؛ يبذلُ جميعَ طاقاته واستعداداته وقواه الكامنة في وجوده الشريف، في كسب الكمالات العلميّة والمعنويّة، وعلى العموم، يستفيدُ من تلك العتبة السماويّة وينتفعُ منها بأفضل وأعلى ما يمكن، بعيداً عن القضايا والمسائل الحوزويّة المتداولة، والخوض في الأهواء، والآراء الباطلة والمعيقة الرائجة، مع تمام الجدّ وكمال الاجتهاد، وسعي حثيث لا مثيل له نحو الاقتناص من فضائل ومكارم تلك الديار.
كانَ العلامة الطهراني يقول مراراً:
حينما عزمتُ إلى النجف، وأثناء الزيارة الاعتياديةّ للسرداب المطهّر لحضرة بقيّة الله الأعظم أرواحنا فداه، التمستُ من حضرته: أنْ لا يكوننّ مآل هذه الهجرة ونتيجة هذه الدروس والبحوث هو المرجعيّة والتصدّي إلى الفتوى .. أسأل الله أن لا يبقيني إلى زمنٍ أُبتلى فيه بهذه المسائل.
والشيء الملفت هو أنّه في السفر الأخير إلى العتبات العالية في أواخر فترة الحكم البهلوي ومع بداية الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة، ذهبَ إلى الكوفة للتباحثِ مع حضرةِ آية الله الخوئي في مسألة رؤية الهلال، حيثُ كانَ مشغولًا في أمور المقلدّين والإجابة على أسئلتهم وحلّ مسائلهم، إلى حدّ ليس لديه مجال أبداً للتكلّم والمباحثة في تلك الفترة.
العلامة الطهراني يلحّ بالدعاء والتوسل في أن لا يبتلى بالتصدي للمرجعية
فكان يقول:
خرجت من محضره وتوجّهت قاصداً مسجد الكوفة، وصلّيت ركعتين في مقام أمير المؤمنين عليه السلام، ودعوت الله: أنْ لو كان قدْ قُدِّرَ لي التصدي إلى المرجعية والإفتاء، والتعهّد بزمام أمور الناس .. فَيَا مَنْ بِيدِهِ قَلَمُ التقديرِ والبشرى .. يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ۱ أرحني بالموت دون الابتلاءِ بشيءٍ من هذا القبيل.
ثمّ يقول:
في هذه الأثناء، أحسستُ براحة تغمرني، وهدوءٍ قد أحاطَ بجميعِ وجودي، واطمئنانٍ يملأُ خاطري إلى حدّ لا يقبلُ الوصف! فسجدتُ وشكرتُ الله على هذه الموهبة العظيمة.
نعمْ هؤلاء هم رجالُ الله
" أرادَتْهُم الدُّنيا فَلَمْ يُريدوها۱، وَأسَرْتهُم فَفَدَوا أنفُسَهُمْ مِنْها".
وكان يقول:
في تمامِ مدّة إقامتي في النجف، لمْ أشاركْ في مجالس السادة المراجع وجلسات العزاء التي يقيمونها في منازلهم، وإنّما كان ارتباطي معهم بحدودِ الدرس والبحثِ والاشتغال بتحصيلِ العلومِ الدينيّة والمباحثاتِ الرسميّة فحسبْ لا أتعدّى ذلك، ومهما كان الأصدقاء يصرّون ويلحّون عليّ أنْ أذهبَ وأشاركَ في صلاة الجماعة أو مجالس العزاء وأمثال ذلك، لم أكنْ لأوافق.
استفادَ العلّامة الطهرانيّ مدّة إقامته في النجف من جميعِ الفرص، بغية التقدّم والرقي في الاتجاهين العلمي والعملي:
تقسيم برنامجه وأوقاته في النجف على أساس المحورين العلمي والعملي
أمّا من الناحية العلميّة: فكانَ يُعدُّ الطالب المميّز في كلّ درسٍ من دروسه، وكانَ حريصاً على الاستفادة من كلّ لحظة من أوقاته إلى حدّ الوسوسة، فكانَ يحسبُ حساباً لكلّ فرصة يمكنه أنْ يطوي من خلالها المراحل العلمية، وبحقٍّ يمكن القول: إنّه لم يضيّع في هذه الفترة ساعة واحدة دون
جدوى، فلم يكن لديه أوقات للتحصيل وأوقات للفراغ والتعطيل، فمن كثرةِ المطالعات والتحقيقات، كان يكتب تقريرات دروسه اليوميّة أيام التعطيل، ومطالعاته في هذه الفترة، علاوة على الأصول والفقه والرجال، كانت تدور حول كتب الحديث، التفسير، العرفان، الفلسفة، التاريخ، الأخلاق والكلام (خاصّه وعامّه). وفي كلّ كتاب كان يطالعه، كانَ يكتبُ النكات الظريفة واللطيفة، ويدوّنها في دفتر تحت عنوان" الموسوعة"، وقد استمرّ على هذا المنوال إلى آخر عمره، ممّا أثمرَ ما يزيدُ عن العشرين مجلداً من المطالب القيّمة في شتّى العلوم المختلفة.
أمّا من الجهة العمليّة: فكانَ يقوم يوميّاً ضمن ساعة من ساعات يومه، بالاشتغال بالأذكار والأوراد وزيارة عاشوراء مع اللعن مائة مرة ومائة سلام. وكان من برنامجه السلوكي التهجّد والاستيقاظ من نصف الليل إلى طلوع الشمس، وكانَ يتعاملُ معها كواجبٍ أكيد. وكان يذهب ليالي الجمعة بشكلٍ أسبوعيّ من النجف إلى مسجد السهلة للمبيت فيه، يقضي الليلة في العبادة والتهجّد حتّى طلوع الشمس.
وفي تمام مدّة السبع سنوات، لمْ تنقطعْ المراسلة بينه وبين العلّامة الطباطبائي، يأخذُ منه الدستورات والمسائل الضروريّة السلوكيّة، فبقيتْ الإرشادات الحياتيّة العطوفة
والخالصة رفيقةَ دربه. وكانَ يطالعُ حديثَ عنوان البصري الشريف، مرّتين أسبوعياً، وحتّى آخر حياته كانَ يوصي تلاميذه بذلك.
أمّا أساتذته الحوزويين، فكانت آراؤهم مختلفة فيما يتعلّق بموضوع العرفان والشهود وبلوغ ذروته العليا، فالمرحوم آية الله العظمى الحاج الشيخ حسين الحلّي، مع تأييده لمسلكِ العرفان والتوحيد، والتزامه بامكانيّة بلوغ عوالم الغيب والشهود، إلّا أنّه كانَ يَرى نفسه عاجزاً عن الوصول إلى هذا المقام المنيع، وكانتْ له عبارات عديدة تحكي عن صفاء باطنه وحسن سريرته.
وأمّا المرحوم آية الله الحاج الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ، فإنّه كان ينظر إلى العرفاء الشامخين بعين التعظيم والتمجيد وعلوّ الشأن، أمثال المرحوم الآخوند الملّا حسينقلي الهمداني، وتلامذته المبرّزين، وبالأخص المرحوم آية الله الحاج السيّد أحمد الكربلائي والحاج الميرزا علي القاضي الطباطبائي، وكان يُبدي علاقة شديدة نحوهم، وللمرحوم العلّامة الطهرانيّ بياناتٌ عديدة تكشفُ عن مدى عمقِ اعتقاده بعظماء هذه السلسلة.
وأمّا أستاذه الآخر آية الله الحاج السيّد محمود
الشاهرودي -رحمة الله عليه- فقد كان في غاية الإنكار ونهاية المواجهة والمعارضة ضدّ أهل العرفان، ولم يَنْأ عن أيّ نحوٍ من أنحاء الردع أو الجرح والتوهين، وبشتّى العبارات.
وأمّا المرحوم آية الله الخوئي -رحمة الله عليه- فلم يكن لديه أيّ تصريح كما مرّ ذكره أعلاه، لا نفياً ولا إثباتاً، وكان يعبّر عن هذه المسائل بأنّها لا تقدح بالعدالة، وحتّى مع أنّه كانَ خلال مدّة من الزمن في محضر الآية الإلهيّة العظمى، العارف المتفرّد: المرحوم آية الله العظمى الحاج السيّد علي القاضي الطباطبائي -رضوان الله عليه- يَتَلَمّذُ على يديه ويسترشدُ ويستفيد منه، وقدْ انكشفتْ لديه بعض الحالات، لكن ومع الأسف، وبواسطة بعض الجهات والمسائل قد سُلبَ منه توفيق هذه الرفاقة والمعاشرة، وحُرمَ من هذه النعمة العظمى، نَعَمْ، قدْ وقعَتْ مباحثاتٌ بينه وبين المرحوم العلّامة الطهرانيّ فيما يتعلّق بهذه المسائل، إلّا أنّه لم يتنازلْ عن موقفه حتّى مع البراهين المتقنة والحججِ الواضحة.
الآراء المختلفة لأساتذة العلّامة الحوزويّين بالنسبة إلى العرفان والشهود
أذكرُ في إحدى الليالي، كنّا في منزل المرحوم آية الله الحاج الشيخ مرتضى المطهّري -رحمة الله عليه- حيثُ كنّا مدعوّين للإفطار، قالَ المرحومُ العلّامة بعد الإفطار:
حينما كنتُ في النجف، وبسبب ابتعادي عن الأهواء الباطلة وعدم الانخراط بالمسائل غير الضروريّة المتلفة للعمر والوقت، والاشتغال بعملي ومزاولة الدرس والبحث، أصبحتُ معروفاً بالتصوّف والاعتزال. ولكن حيثُ كنتُ أُعَدُّ طالباً ممتازاً مشاراً إليه بالْبَنان في الدروس، كان المرحوم آية الله الخوئي -رحمة الله عليه- يذكّرني في بعض الأحيان من باب الرأفة والنصيحة. ففي ليلة من الليالي، بعد انتهاءِ مجلسِ الدرس، قال لي في الطريق أثناء العودة إلى المنزل: آقا سيد محمّد حسين! على الإنسان أنْ يصرفَ وقته في البحث والدرس، دونَ أنْ يُتلفَ وقته في هذه المسائل (الاشتغال بالأوراد والأذكار والأربعينيّات)، فهذه أمور تحصلُ للإنسان من تلقاء نفسها، دون الحاجة إلى الجدّ والجهد وبذل العمر وإتلاف الوقت. نعم، نحن لا نرى أنّ هذه المسائل (العرفان والسلوك) قادحةً للعدالة، لذلك فإنّ من الأفضل لكَ أنْ تتركَ هذه الأمور. وبعد ذلك قال السيّد الخوئي: ذاك فلان، كان يشتغل بهذه المسائل، وكان يتردّد على المرحوم آقا السيّد علي القاضي -رحمة الله عليه- إلّا أنّ أباه أرسل إليه رسالة حذّره فيها من الارتباط بأستاذه، وقد وافقَ على ذلك وقطع علاقته مع السيّد علي القاضي ورجعَ إلى إيران ومسقط رأسه.
وقال العلّامة الطهرانيّ آنذاك:
قد أجبت السيّد الخوئي وقلت له:
أولًا: ما تقوله من ضرورة أنْ يصرفَ الطالبُ وَقتَهُ في البحث والدرس، دون أن يُتلفَ عمرَه في هكذا مسائل باطلة وعديمة الفائدة، فإنّك تعلمُ أنّي أقوى طالب في درسك ولا أتساهل أبداً في ذلك. فأينَ؟ ومتى قصّرت في درسي وبحثي حتّى أستحقّ هذه النصائح المشفقة؟!
ثانياً: أنا مستعدٌّ لأباحثك في أيّ مسألة فرعيّة تختارها أنتَ، كي يتّضحْ وينكشفَ لكَ من هو أشدّ تضلّعاً في المسائل الفرعيّة، وكيفيّة تطبيق الكبريات على الصغريات، ويتضّح من هو الأقوى أنتَ أم أنا!
ثالثاً: ما تفضّلت به: من أنّ فلاناً كانَ يأتي إلى المرحوم السيّد على القاضي، ثمّ نهاه أبوه عن ذلك وهو قد ابتعدَ عنه، فأنت تعرف أنّ والدي متوفّى، وبحمدِ الله لا يوجد أيّ أحدٍ يمنعني أو يردعني وحينئذٍ، فافعلْ ما تشاء.
عندها يقول للمرحوم المطهري:
الويلُ للحوزة التي تعتبرُ الآياتِ الإلهيّة العظام والمرأى التامّ لتجلّي رسولِ الله، وكأنّها محالٌّ لبيع اللبن أو قصّاب أو بقّال غير فاسق، فيَرَوْنَ عدالتَه نظيراً لعدالة التجّار! والويلْ للمجتمع الذي يرى أنّ اكتساب الفضائل
الأخلاقيّة والاهتمام بالتأسّي برسول الله وأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين مجرّد عملٍ غير قادح بالعدالة!
ثمّ هل من الممكن حصول هذه المسائل من تلقاء نفسها؟ فأيّ كلامٍ سطحيّ وبسيطٍ لا أساس له! هيهات هيهات! وألف هيهات! فكم سعَوا حثيثاً! وكم تحمّلوا من المشقّات والصعاب! وكم عاينوا من النكبات والغمّ والبلاء!؟ وأيّ مكروه وسوء تحمّلوه ا! هلْ مُنحوا الإذن بالدخول بهذه السهولة؟! جَلَّ جَنابُ الربِّ أنْ يَكونَ شَريعَةً لَكُلِّ وارِد۱. ومع كلّ ذلك يقول: تحصلُ هذه المطالب من تلقاءِ نفسها!
إنّ منْ أهمّ الأسسِ الحياتيّة والعلميّة والدينيّة للمسلم، والشيعيّ المقتدي بالأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين هو أصلُ التمسّك بالحقّ والواقعيّة، وبلوغِ حقيقة الدين، والوصولِ إلى ممشى الأولياء المقرّبين، والابتعادِ عنْ كلّ أنواعِ التقليدِ والتبعيّة العمياء للأهواءِ البشريّة، وآراء نوع بني آدم، الغير المنزهين عن الخطأ والعصيان. ويمكن أنْ يقال: إنّ التقليد الأعمى والتبعيّة بدون أساسٍ متين، ولا دليلٍ أو حجّة شرعيّة، والاكتفاء بالتخيّلات، والاعتماد على
الأوهام والظنون اللامشروعة، لهو أخطرُ قاطعٍ للطريق، وأكبرُ صادٍّ عن سبيلِ الله، وهو يوجب التحريف في طريق الحق. إنّ أغلب الأفراد الذين استفتحوا في طريق الكمال بضعة أيّام، وطووا بعض المراحل الروحانيّة، إنّما توقّفوا في هذه المرحلة لهذا السبب، بل ما أكثرَ الذين تقهقروا إلى الوراء، أو أنّهم -لا سمح الله- قد ابتلوا بزلّات وآفّاتٍ وذهول وضياع، كلّ ذلك بواسطة الإصغاء إلى الوساوس والهمهمات المنمّقة في ظاهرها، لكنّها سطحيّة خالية من التثبّت وبعيدة عن الوعي واليقظة، وبالطّبع إنّها نائية عن طريق التوحيد والسير إلى الله، وسوف تكون كذلك. إنّ آفّة التقليدِ تبدّدُ اعتقاد الإنسان بالحقّ، وتجعله مرتبكاً مضطرباً، ومتحيّراً ضالًا لا يتجاوز نفسه. فآفّة التقليد والإصغاء إلى الكلام الزائف يسلبُ من السالك قدرته على السير، ويجعله غريباً مطروداً.
آفّة التقليد تطمسُ نورَ الهداية وتطفئ السراج المضيء في الظلمات، فقد منَّ الله على الإنسان بالفهم والإدراك، والعقل والشعور، والبيّنة والحجّة، وأراه المعجزة وَوَهَبَه البرهان. وعلى الإنسان أنْ لا يصرفَ نظره عن جميع ذلك، فلا يجعلَنَّ أُذنَ قلبه أرضيّة خصبة للإصغاء، ومكاناً مُستعداً لاستماعِ نغمةِ أيّ خنّاس خدّاع، ومصداقاً للآية
الكريمة فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ۱.
ففي الآية الشريفة السابقة، كلامٌ إلهيٌّ في منتهى العلوّ والرقيّ، يرفعُ الستار عن هذه الحقيقة المريرة والمؤلمة، كذلك حيث يقول في سورة الزخرف بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ، وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ، قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ٢.
ضمن هذه الآيات الشريفة، يذمُّ الله هؤلاء الذين يحزمون مقاليد أمورهم بحبال أسلافهم وشيوخهم، ويوثقون أنفسهم برباط كهولهم الطاعنين في السن، فيهيلوا عليهم من الحرمة والاحترام لمجرّد اجتماع الأمّة على هذا الهدفٍ والمبنى الواحد، وكما يقال: كيْ لا تُفْتَضَحَ تَلَوَّنْ بِلَوْنِ زُمْرَتِهِم!
آفة التقليد أنّه يزيل الاعتقاد بالحقّ
أيّة خرافة تطرق أسماعهم يواجهونها بالتقليد الأعمى، ويتلقّونها بالقبول، وأيّ باطل أو أسطورة يسمعونها، يحتضنونها بصدورهم، فطريقتهم تؤدّي إلى اضمحلال الحقّ ومحق العدالة، والواقع كذلك. فهذا التقليد يؤدّي إلى تسلّط
الظالمين وتحكّم الدكتاتوريين، وسحقِ المظلومين والمضطهدين تحتَ الأقدام، فهو مسارٌ يستوجبُ صعودَ الجاهل وتربّعه على قمم الزعامة، وبالتالي هزيمة الأعلم وانزواء الأولى، وإبعادِ أهلِ الصلاح الواجدين لشروط القيادة. هذه المسألة تستلزم انسدادَ بابِ العلم والتحقيق، والمنعَ من البحثِ والحركة العلميّة للمجتمعِ البشري. فلولا التقليد، لما وَصَلَ أبو بكر إلى ما وصل، ولما تربّع على مسند الخلافة مكان عليٍّ! فلو لم تَتبّعْ عُميانُ أمّة النبيّ الشيخَ الخشنَ ذا اللحية البيضاء، الماكر المحتال الدجّال، لما كانت لِتُرَضَّ ابنةُ النبيّ وتُقْتَلَ! لولا تقليدُ البُلهِ والأغبياءِ من قبل أهلِ الغدرِ، الذين يبثّون التفرقة والتمرّد، لما حلّت هذه المصائب والابتلاءات في الأمة الإسلاميّة والشيعيّة، من زمان ارتحال رسول الله إلى زماننا الحاضر وما بعده! بلى، هذه الخيانات والجرائم والمتاعب واللكمات التي انهالت على المسلمين من قبل الكفّار والملحدين، إنّما نتجتْ من مصيبة التقليد الخاطئ، ومن تبعيّة أصحاب رسول الله المتعصّبين البعيدين عن الإنصاف والتثبّت، للأوباش الخشنين الآثمين، الفاسدين المفسدين، وهو ما كان قد استمرّ على طوال التاريخ إلا ما شذّ وندر.
مع الأسف، إنّ مجتمعنا العلمي والديني غيرُ مبرّأ من هذه المصيبة العُظمى، وما يزالُ الألُم الناشئُ من هذا النهج الباطل
والسيرة المنحرفة، يؤلمُ الأكثريّة من أهلِ العلمِ والعلماءِ، وينثرُ الرمدَ في عيونهم. فما يزال هناك عدّة في بعض الأماكن المباركة يدرسون العلوم الإلهيّة والحكمة المتعالية والعرفان الحقّ، إلّا أنّهم مدانون مطرودون، يعتبرونهم أهلَ الحرامِ والبدعة والكفر والشرك والضلالة والغواية.
فَيا للعجب! لا يرونَ أيّ ضيرٍ في مطالعة كتبِ الملحدين منَ العامّة، كَكُتبِ ابنِ تيميّة الخاليةِ عنِ ذكر الله، ويُباحُ بيعها وشراؤها بلا أيّ مانع، أمّا كتبُ حكماءِ الإسلام ذَوي المقام الشامِخ من مفاخرِ التشيّع، لا بدّ وأن تُبعَّدَ وتُهمَل.
فإنْ تَرْدَعوا طالبَ العلومِ الدينيّة عنْ تعلّم الفلسفة الإسلاميّة المتعالية، والحال أنّه هوَ الحارسُ والمدافعُ عن مذهبِ التشيّع، وزعيمُ المواجهة عن حريمِ الولايةِ والإمامةِ والتوحيد، والمدافعُ عنها، فمنْ الذي سيقومُ بالإجابةِ عن شبهاتِ الملحدين والمنحرفين، المتربّصين والكامنين، والمحترفين من الغرب والشرق؟ هلْ يمكنُ مواجهة هذه المسائل بالروايات الفقهيّة فيما يتعلّقُ بالطهارة والصلاة؟ وهل يمكن إنجاز هذه المهمّة بواسطة التعبّد بظواهر الآيات والروايات؟!
يقولون: فلانٌ العالم، حرّم تعلّم الحكمة! حسناً، ألمْ يتفطّنوا أنّه غير متأهّل للتقليد حتّى ولو بالفروع!! فكيفَ
تتّبعوه في الأصول الاعتقاديّة؟! ثمّ هل يحقّ للإنسان أنْ يعتمدَ على كلام هذا أو ذاك، ويُعرضَ عن المنهج الحقّ بدون فحصٍ وتأمّل تام، لمجرّد شأنيّة فردٍ -حتّى وإن كان كاذباً ولا واقعيّة لكلامه-؟ هلْ تنتهي مسؤوليّة الإنسان وتسقطُ حجيّة إتباع الحق، لمجرّد الناحية الظاهريّة، والتلبس ببعض الحيثيّات والشؤون -وكما يروق ويحلو له- ليصبحَ الإنسان معذوراً ومبرّأً من السؤال والجواب في محضر العدل الإلهي؟!
ففي الآية الشريفة التي تطرحُ مسألة إطاعة الوالدين، وتضعُها في أعلى المراتب أهميّة والتزاماً من الناحية العمليّة، إلّا أنّها تشجبها وتمنع منها وبشكلٍ صريح، فيما لو أصبحتْ في الطرف المقابل من الحق: وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ۱، فكيف حال الآخرين!
الفصل الثالث: أساتذته في العلوم المختلفة وتعرّفه على المرحوم الأنصاري
أساتذته في الفقه والأصول هم: المرحوم آية الله العظمى، وحيدُ العصر وفريد الزمان، آقا الحاج الشيخ حسين الحلّي -أعلى الله مقامه- والآيتين العلمين: الحاج السيّد أبو القاسم الخوئي والحاج السيّد محمود الشاهرودي -رحمة الله عليهما-. وقدْ خلّف وراءَه دوراتٍ متعدّدة من تقريرات بحوثهم في الأصول، وأبواب البيع وخيارات المكاسب وصلاة الجمعة والاجتهاد والتقليد. وكذلك فنّ الرجال وصناعة الدراية والحديث، فقد درسها في محضر الفيض والعطاء عند آية الله العظمى، الرجالي الكبير، المرحوم الحاج الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ -أعلى الله مقامه- يستفيدُ منه سبع سنوات متوالية.
فقد بذلَ جهداً حثيثاً ومساعي شديدة في هذه الفترة، حتّى أنّه كانَ متميّزاً من بين سائرِ الفضلاء وعلماءِ النجف الأشرف
ومشاراً إليه بالبَنان، إلى الحد الذي شهدَ له زملاؤه في محضر آية الله العظمى الحاج السيّد عبد الهادي الشيرازي:
بأنْ لو لمْ يرجعْ السيّد محمّد حسين إلى إيران ويبقى في النجف، لاستقرّت مرجعيّة الشيعة عنده وبشكلٍ مطلق.
تعرّفه على المرحوم الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه
والخلاصة، أنّه في السنوات الثلاثة الأخيرة مدّة إقامته في النجف، كانَ المرحومُ آيةُ الحقّ واليقين، ومهبطُ الرضوان، وسندُ العرفان، وترجمانُ القرآن المبين، آيةُ الله العظمى آقا الحاج الشيخ محمّد جواد الأنصاري الهمداني -رضوان الله عليه- قد أتى إلى النجف الأشرف قاصداً زيارة العتبات الشامخة، فكانت البداية في فتح بابِ المعاشرة والمودّة والإخلاص بينه وبين العلّامة الطهرانيّ، فأوصاه المرحوم الحاج الشيخ عباس القوچاني، أنْ من الآنَ فصاعداً عليك بمتابعة دستورات المرحوم الأنصاري والتوجّه إليه ومعاشرته. وقدْ استمرّ هذا الارتباط إلى زمانِ لقائه بحضرةِ الحدّاد -رضوان الله عليه- بواسطة المراسلات فيما بينهما.
كان المرحوم الأنصاري من خلال هذه الرسائل ينبّهه ويعطيه الدستورات السلوكيّة بشكلٍ مستمر. كالإعراض عن الدنيا، والتوجّه إلى النفس، وضرورة التعامل بشحّ وبخلٍ بالنسبة للوقت والعمر، والاحتراز عن مجالسةِ علماءِ السوء وأهلِ الهوى، وعدم الورودِ في المجالسِ المملوءة بالضوضاء
والضجيج والغوغاء، وكانَ ذلك من الدستورات الأكيدة الثابتة في تلك المدّة.
فكانَ العلّامة الطهرانيّ في معاشرته ومصاحبته لا يتجاوز أعلامَ أهلِ العرفان والسلوك إلى الله ومتميّزيهم، الجامِعِين بينَ الطريقَين الظاهريّ والباطنيّ، ممّن همْ متبحّرون في كلتا الجهتين: الشريعة والطريقة، كالعلّامة الطباطبائي الفيلسوف والحكيم على الإطلاق والعارف الواصل، وكذلك المرحوم آية الله الحاج السيّد جمال الدين الموسوي الگلبايكاني والمرحوم آية الله الحاج الشيخ محمّد جواد الأنصاري والمرحوم آية الله السيّد عبد الهادي الشيرازي والمرحوم آية الله الحاج الشيخ عباّس هاتف القوچاني، وكذلك كانَ بالنسبة إلى بعض تلامذة المرحوم القاضي، ومن طرفٍ آخر، كان لديه علاقة بالأساتذة البارزين الحوزويين في جميع الفنون، ومن مختلف الأنظار والآراء، ممّا أوجبَ له حصولَ نضوجٍ وتبلوُرٍ وجامعيّة في مُدركاته وتَبَصّرهِ وتَعَمّقه في جوهرِ التشريع وأصوله، ومنهاجِ حضرةِ المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ومسلكهم، جامعيّة متميّزة، تبتني على محوريّة العرفان والحق واليقين، وبلوغِ نفسِ الأمرِ بتمام معنى الكلمة، والعملِ على أساس ذلك، والالتزامِ به في مختلف الظروف، دون أدنى تسامح أو تهاون، أو مجاملة نابعة من الكثرات الضالّة والمضلّة، وبعيداً عن منافع الأفكار الفاسدة.
الفصل الرابع: التعرّف على المرحوم الحدّاد والرجوع إلى الوطن بأمرٍ من الأستاذ
في نهاية المطاف، وبعد مرور سبع سنوات من التوطّن في النجف، والاشتغال بالتربية والتهذيب، وبلوغِ أعلى المدارجِ العلميّةِ والدروسِ الحوزويّة، والحيازة على إجازات الاجتهاد من جهابذة الفن، وفّقَهُ اللهُ تعالى إلى نعمة العطاء والهداية والاتصال بأبرزِ التلامذة العرفانيين للمرحوم القاضي، العارف الكامل والسالك الواصل، سندِ العرفاءِ الربّانيين وقدوةِ الأولياءِ الإلهيين، نابغةِ ميدانِ التوحيد، وفاتحِ قُلل العماءِ والتجريد: حضرةِ آيةِ الحقّ والعرفان، الحاجّ السيّد هاشم الحداد الموسوي- رضوان الله عليه-. ويمكننا إدراك منزلة المرحوم الحدّاد واستنباط مكانته في ظلّ وجود الأعاظم من الأولياء، ومقارنةً مع الفحول من عظماء العرفاء، من خلال الرجوع إلى عبارة المرحوم العلّامة الطهرانيّ في كتابه النفيس «الروح المجرّد». حيثُ يذكر في
الصفحة ٣۱ فيما يتعلّقُ بلقائه مع المرحومِ الحدّاد:
كمْ كانَ مناسباً لحالي المتعبِ والمتحيّر، المهموم والمتألّمِ طوالَ السنين المتمادية، أنْ أصلَ إلى منبعِ الحياةِ ومركزِ عشقِ الذات السرمدية، والذي يشبه غزلَ الخواجا حافظ -رضوان الله عليه-:
هر چند پير و خسته دل و ناتوان شدم | *** | هر گه كه ياد روي تو كردم جوان شدم۱ |
فهذا الشخصُ يختلفُ عن سائر الأولياء والمقرّبين ويفترق عنهم. فهو اللؤلؤ الفريد المكنون في سرداب العزلة والخفاء .. والجوهرُ المتوهّج في بوتقة النسيان والإجمال .. والإكسير الذي إنْ تمسسه تبّدلَ وجودكَ إلى التبرِ الأحمر، والدرّة الباهظة التي تَنثرُ النورَ في قلبِ الشمس .. فهو شيءٌ آخر ... كانَ أقوى تلميذٍ سلوكيّ وعرفانيّ عند نادرةِ الدهر: المرحوم السيّد علي القاضي؛ والسالك الواصل العارف، الفاني في الله والباقي بأمر الله .. عالَمٌ في جسدٍ واحدٍ .. وكونٌ ضمن تعيّنٍ واحد .. حائزٌ على جميع مراتب المُلك والملكوت .. وجامعٌ لجميعِ عوالم الناسوت والجبروت واللاهوت، ومن هنا لمْ يَعُدْ السيّد محمّد حسين ذاك
الشخص السابق. فقد حطَّ في عالمٍ آخر، وفتحَ ناظريه متطلعاً إلى أُفقٍ جديد.
وهذه المسألة هي التي توضّحُ حقيقة رؤيته العميقة ونظرته إِزاء تحديدِ المكانة الوجوديّة لأيّ شخصٍ مع الحفاظ على علوِّ مقامه، ورفعة مجده وعظمته وتعاليه الروحي. وعلى هذا الأساس أحكمَ كيفيّة علاقته السلوكيّة بهذا الشخص، وعلى هذا الأساس حدّدَ رتبةَ طاعته له. فقدْ كانَ يصفُ المرحومَ الشيخَ عبّاس القوچاني بأنّه شخصٌ صادقٌ بعيدٌ عن الهوى، كذلك بياناته فيما يتعلّق بالعلّامة الطباطبائي وسائرِ أساتذتِهِ السلوكيين طِوالَ مدّة إقامتِهِ في النّجف:
مكانة أساتذته ورتبتهم بالنسبة إلى العلامة الطهراني وكيفية ابتناء ارتباطه ...
فالمرحوم آية الله الأنصاري قد توفّي، والملفتُ هو أنّ العلّامة الطهرانيّ مع ما كانَ عليه من الاعتقاد الراسخ بالنسبة إلى المرحوم الأنصاري، وعلوّ شأنه ورفعة مقامه، كانَ يُمعن النظرَ على الدوام في دستوراته الصادرة منه ويتأمّل ويدقّق فيها، ولطالمَا كانَ يراعي الاحتياطَ في موارد مختلفة، ويعملُ فيها على أساسِ أنّها أقربُ الطرقِ. وأما بالنسبة للمرحوم الحدّاد فقد كان الأمر بشكل آخر، حيث كان المرحوم الحدّاد بنظرِ العلّامة الطهرانيّ، إلى حدٍّ لم يكن يرى لنفسه أيّ وجودٍ مقابلَ وجوده، ولكمْ كان يقول:
أنا مقابل الحدّاد صفر!
نعم، إنّ رمزَ مكانة العلّامة الطهرانيّ وعلامة نُجحه
النادرة المتميّزة من بين سائر نجومِ سماءِ المعرفة والتجرّد والتوحيد هو هذه المسألة. حيثُ كان في أعلى وأدقّ نقطة من التفكّر والاعتقاد والتعهّد بالنسبة إلى هذه المسألة، وفي غاية الإتقان والإبرام والإحكام على مستوى العمل.
وعلى العموم، فإنّ العلّامة الطهرانيّ في منتهى الدقّة والاحتياط من حيث إطلاق العناوين والألقاب المختلفة على الأشخاص، وكيفيّة مراعاة تطابقها مع مراتبهم المتفاوتة، حسب واقعيّتهم الخارجيّة الحقيقية والنفس الأمريّة، تماماً كدفاعه عن حريم الإمامة والولاية؛ حيثُ إنّه يرى حُرمةَ إِطلاقِ لفظِ الإمامِ على غيِر الإمامِ المعصومِ عليه السلام، وذلك بصورة مطلقة دون ذكر مضافٍ إليه بعده، مثل" الجماعة" أو" الجمعة" أو" المسجد" وغيره. كما أنّه قد صرّح ببيانات متعدّدة وأبحاث عدّة فيما يتعلّقُ بهذه المسألة في المجلّد الثامن عشر من «معرفة الإمام». ومِثلُه إطلاقُ لفظِ" أولوا الأمر" على غيرِ المعصومين، أوْ الاستفادةِ من العناوين المختلفة مثل" عليّ الزمان" أو" حسينُ الزمان"، فكان يرى أنّ كلّ ذلك حرامٌ. كذلكَ كانَ ينزعجُ ويتضجّر من تشبيه شهداءِ الثورة الإسلامية الإيرانية بذريّة حضرةِ سيّدِ الشهداءِ وأبنائه، أو تشبيههم بنفس حضرته، كذلك كان يبدي حزازةً من التعبير عن واقعة كربلاء -كما قد صرّح به بعضُهم واصفاً إيّاها- (إنّ شهرَ محرّم هو شهرُ انتصارِ الدم على السيف)
حيثُ كانَ يعتقدُ أنّ هذا الشعارَ عامّ يشتركُ فيه الشيعةُ والمسلمون مع غيرهم، بلْ قدْ يطلقُهُ غيرهم كذلك، وبدلًا منه كان يطرحُ هذا الشعار: محرّم شهرُ انتصار الحق على الباطل.
كذلك إطلاقُ لفظ الوليّ على الشخص الذي مازال لمْ يتجاوزْ مراتبَ الكثرات، ولمْ يحصلْ لديه التبدّل الجوهريّ في حقيقة نفسه وذاته، بواسطة الفناء المحضِ في ذات الحضرة الأحديّة، ولم يطوِ السفرَ من الخلقِ إلى الحقّ، وعلى العموم، كلّ من لمْ يتحقّق بالبقاء بعد الفناء في ذات الله، فإنّ إطلاقَ لفظِ الوليّ عليه محرمٌ شرعاً.
العلّامة الطهرانيّ الذي فَقَدَ نفسه في دائرةِ وجودِ حضرة الحدّاد -رضوان الله عليه- وأدركَ أنّ ظهورَ مراتبِ الأسماءِ والصفات والذات للحضرة الأحديّة، إنّما هي بارقةٌ تلمعُ من مظاهرِ جلواتهِ وكمالهِ. فأصبحَ بتمام شراشر وجوده منقاداً مطيعاً إليه، فَسَدَّ نافذَةَ روحِهِ عنْ غيره، ولمْ يَنقُشْ على رقعةِ قلبِهِ إلا مقام أستاذه الشامخ، فكلّ وجوده طلبٌ وتمنٍ .. فذِكرُه على الدوام ذِكراه .. وكلّ وجوده طلبٌ وأمنية، وكانت تجارته المربحة ذكر أستاذه .. ففي رسالة كان قدَ أرسلها إلى أحد أصدقائه، يذكر في مطلعها مدحاً في حقّ شيخه وأستاذه:
بسم الله الرحمن الرحيم
يمكننا أنْ نستكشف شدّة علاقته بالمرحوم الحدّاد من خلال إحدى الرسائل
وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحُكم وإليه ترجعون.
سلامٌ متوالٍ وتحيّاتٌ متتالية وتسليمٌ وافرٌ وأدعيةٌ خالصة لعتبة حضرة الحبيب، الذي اتّخذ مكان أفقه المقدّس في القلب، فتصرّف بالكون والمكان بولايته التامّة، فالوالهون العاشقون غارقون بولههم وحبّهم لسلطان الحفل (والحال أنّه ليس شيئاً سواه).
قدْ عاينتُ كتابكم المبارك، وبحقّ أقولُ ودُونَ مبالغة أو إغراق، كانَ يحتوي مطالب حقّة، قد أجراها الله على لسانك وقلبك،، وإنْ كان من اللازم أن يقال: بادئ بدئٍ، إنّ هذا التمجيد والتحسين محدودٌ بحدود تفكيرنا، قاصرٌ عن بلوغ قامتِهِ الشامخة، وهذه الأفكار إنّما هي على قدر عقولنا، دون أن تحيطَ ببحر فضله، فمن الخطأ وزن ماء البحر بالمكيال، وغير سديدٍ تحديدُ أمواج الرياح العاتية بغربال مطوّق، أو منديل محدّد.
وإنّ قميصاً خيطَ من نسجِ تسعةٍ | *** | وعشرين حرفاً عن معاليه قاصر۱ |
فآلاف الشكر والمنّة أن جعلنا من جملة مريديه، ضمن زمرة المتلهّفين لجماله، الوالهين إلى حريم عتبته وبلاطه، والحال أنّنا لا نليق بكلّ ذلك، فالثّمنُ معدومٌ ومفقود، والمثمّنُ مطلقٌ غير محدود.
بهر طرف كه نگاه مي كنم تو در نظري | *** | چرا كه بهر تو در ديده جايگاهي نيست۱ |
أمرَ المرحومُ الحدادُ العلّامةَ الطهرانيّ بالعودة إلى إيران، والرجوعِ إلى حضرةِ آية الله الأنصاري، فأطاعَ أمرَ أستاذه دونَ أدنى مكثٍ أو تأمّل، حتّى ولو للحظة واحدة، فعادَ متجهاً إلى إيران مصطبحاً معه عائلته، وشَرَعَ بإقامةِ الجماعةِ في مسجدِ القائمِ في طهران، في ظلّ أوامر المرحوم الأنصاري وتعاليمه، مداوِماً على الوعظ والإرشاد وإقامة الجلسات الأسبوعيّة المتنقّلة.
إنّ المحور الأصلي والأساسي في وعظ العلّامة الطهرانيّ وإرشاده، قائم على تبيينِ المعارف الحقّة، بعيداً عنْ أيّة شائبةٍ من الكثرات والمجاملات والاعتبارات المتداولة، ودون أيّ مدخليّةٍ للأهواءِ المغوية، وما أكثرَ ما كانَ يؤدّي ذلك إلى المواجهة مع الآخرين. كذلك كانَ شديدَ الاهتمام
والتحرّز عن الورود في مهالك النفس، والسقوط في شباك إبليس، مع ذلك كان يتولّى تربية الأفراد المستعدّين وخصوصاً الناشئين، ويقوم بإلحاقهم في زمرة الرفقاء السلوكيين، والتعهد بتربيتهم. وخلافاً لما هو المألوف في المساجد عامّة، فقد كانَ غالباً يتولّى مسؤوليّة الوعظ والإرشاد والخطابة بنفسه. وكانت جلسات قراءة القرآن وتفسيره مستمرّة في ليالي الثلاثاء في مسجد القائم، وكانَ يهتمّ بإقامة صلاة الجماعة فورَ حلولِ وقتِ آذانِ الظهرِ والمغرب، سواءً حضرَ أحدٌ أم لا. ولم يُرَ في وقت من الأوقات أنّه كان يرجّح حال المأمومين أو المريدين -وعلى العموم- أحد المخلوقين على رضا الخالق.
وباختصار، من يريدُ البحثَ والتوسّعَ فيما يتعلّقُ بهذه النقطة، فما عليه إلا أن يطالعَ كتابَ «الروح المجرد» والغور فيه، ولنتابعَ استعراض جولتنا عن حياة العلّامة الطهرانيّ.
عودته إلى الوطن والتزامه بنشر المعارف الإسلاميّة إنّما كان بأمرٍ من أستاذه
سُئلَ العلّامة الطهرانيّ يوماً:
هلْ كانَ رجوعُكُم إلى إيران لأجلِ هدايةِ سالكي طريقِ الله وإرشادهم، وتربية النفوس المستعدّة؟ ثمّ ألمْ يكنْ لعودتكم ثمرةٌ وفائدةٌ لكمْ شخصياً؟
فأجاب:
إنّ دستوارت الأولياءِ الإلهيين تقعُ في الدرجة الأولى في
طريق إحراز المصلحة لنفس الإنسان، علاوة في ذلك على النفع والخير الذي يناله الآخرون ويصلُ إليهم وينتفعون به ويستفيدون منه.
وبعدَ بضع سنين ينتقلُ المرحوم الأنصاري إلى رحمة الله، ويصبحُ العلّامة الطهرانيّ خاضعاً لأوامر المرحوم الحدّاد ودستوراته السلوكيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة بشكلٍ تام. والتزاماً بأوامرِ أستاذه وتحقيقاً لإرادته، أصبحَ المسؤول عن رعاية شؤون مسجد القائم والمتصدّي لها، ومن حينها وقعَ عُرضة للمشاكل المختلفة، تحتَ نيرِ ألسنة النمامين والمخرّبين المتصدّين للمسجد. فلذلك، كانَ في سجالٍ دائمٍ ونزاعٍ حادّ معهم. وأمّا بالنسبة إلى بيانه الأحكام الشرعية وتبيانه الحقّ المُرّ، فلم يَألُ جهداً في ذلك، ولم يكن ليُداهنَ أو يقومَ بشيءٍ من المراعاة، بل كان مصداقاً تامّاً للأية" وَلا يَخَافُونَ في الله لومةَ لائِمٍ". كأنّه الوجود المتنزّل لمولى الموالي أمير المؤمنين عليه السلام في مواجهته ومقابلته مع الأمور، بغية إحقاق الحقّ وإجراء الأحكام الإلهيّة. فكثيراً ما كان ضحيّة للانتقاد والطعن من الآخرين والمتصدّين لإدارة الأمور حيثُ يقولون: فلانٌ، لا يداهن ولا يتعاون مع رفاقه. تماماً كما كانَ مدّة إقامته في النجف الأشرف، حيثُ أبرمَ حياته على
أساس هذا الطريق والمنهاج، وبكامل الجديّة والثبات، فكانَ في صراعٍ دائمٍ، وخصامٍ مستمر مع كثيرٍ ممّن يعتقدون بضرورة تقديم المصالح الشخصيّة غالباً، وترجيحها على الرضا الإلهي. وحيثُ كانَ ملازماً لممشاه المستقيم المنسجم مع منهاجه التكاملي والمخالف لنهج الآخرين، كانَ يكابدُ المتاعبَ والمشقّة بشكلٍ دائم، وكانَ يتجرّع كأسَ السمّ، ويتذوّق الغصص المكدّرة جراءَ هذه المصادمات والاختلافات. وما أكثرَ أنْ اتّفقَ له أنْ طلبَ الرخصة من أستاذه، يلتمسه الإجازة في التحرّر من تعهّده إدارةَ المسجدَ، وتركِ التصدّي لجميع هذه المسائل، إلّا أنّه كانَ يجيبه نفياً!
أمّا من حيث جدّيته في تربية أحداث السن المستعدّين، وتعهّده فتيانَ السلوك، فقد كانَ قويّا ثابتاً إلى حدّ لم تكن جميعُ تلك المصائب والمنغّصات لتؤثّر على روحيّته المرهفة، ولمْ يكنْ ليدَعَ عِبأ هذه الهموم تؤثّرُ على سكونه وهدوئه. يقول في يوم من الأيّام:
أُقسمُ بالله أنّي طِوالَ مدّة الاثنين والعشرين سنة التي قضيتها في طهران، لم أبقَ فيها باختياري ولا للحظة واحدة، ولم أستمرّ طبقاً لرغبتي وميلي! ولو لم يكن أمراً صادراً من أستاذي، لكان من المستحيل أن أرجع إلى إيران وأسكن في طهران وأتصدّى لهذه المسائل.
وكان يقول مراراً:
أقول بيني وبين الله: قد اتّفق لي مشاكل ومصائب خلال ارتباطي بهذه المسائل، لم أذكرها لأحدٍ إلى حدّ الآن، ولم يطّلع عليها أحدٌ إلّا الله.
وفي كثير من الأيّام ضمن فصل الشتاء وبرده القارص، حيث تكونُ الأرض مغطّاةً بالثّلوج الجليديّة وبشكلٍ غريبٍ عجيبٍ في ذاك الزمان في طهران، كانَ يذهبُ ماشياً من منزله الواقع في شارع" آهنگ" إلى مسجد القائم ويرجع ماشياً (مع ملاحظة أنّ المسافة تقارب الفرسخ)، ثمّ يتوجّه ثانية لصلاة المغرب والعشاء مشياً على قدميه ذهاباً وإياباً، كلّ ذلك مع ما كان عليه من الابتلاء بمرض الروماتيزم في المفاصل، وكان يقول:
في كثيرٍ من الليالي كنت أظلُّ مستيقظاً حتّى الصباح بسبب الألم الناتج من الذهاب والإياب، وكنت أضعُ قدمَي على" المنقل" حتّى تصبحَ حارّة ويخفّ ألمها.
فكانت هذه القدرة الروحيّة واهتمامه بامتثالِ أمرِ الأستاذ إلى الحدّ الذي يستوعب كلّ وجوده، فمع كونه غير مسرورٍ بتولّيه هذه المسؤولية إلّا أنّه كانَ يتعهّدها إلى هذا الحدّ! فقد كان يتحمّل المشقّة ويقوم بما لا يطاق بغية أداء أمر الأستاذ والالتزام بأمره.
وأمّا فيما يتعلّق بجلساته أيّام الجمعة، فقد كانت بياناته وإرشاداته تتمحور حولَ المسائلَ الأخلاقيّة والاجتماعيّة، ولزوم إعادة النظر في المجالات المختلفة للطروحات الفكريّة الإسلاميّة، وبناء الحكومة العادلة وإرساء النظام الإسلامي، ونفخ روح الحياة في الجسد الميّت للأمّة الإسلاميّة، فكانت جلساته تبعثُ اليقظة والحياة، وكلّ من كانَ يشارك في تلك الجلسات كان حاله يتبدّل ويرى أنّه قدْ بلغ مراده! وسرعانَ ما كان يعتنق نهجه، وينضمّ إلى دائرة نشاطه.
كانَ العلّامة الطهرانيّ يعتقدُ بعدم جدوى أيّة مبادرة سياسية غير نابعةٍ من تحوّلٍ ثقافيّ وتغيّر في الأذهان الخاملة والمغفّلة للأمّة الإسلامية. ومن جانب آخر، كان لا يلتزمُ بضرورة انحصار هذا التحوّل العظيم بظروف خاصّة أو دائرةٍ معيّنة.
فمدرسة الوحي هي المدرسة المتلائمة مع الفطرة، والقادرة على تنمية الكفاءات وتنشئة القوى الفطريّة الموصلة إلى الأهداف والغايات الكماليّة. وكلّ شخصٍ يتمتّعُ بهذه النعمة الإلهية العظمى مهما تفاوتت الظروف ومهما تغيّرت، كما ولا تختصّ هذه النعمة بفئة دون أخرى. لذلك، وخلافاً لما يعتقده البعض، فقد كان يرى أنّ عهدة التبليغ والدعوة
إلى إقامة الحكومة الحقّة الإلهيّة ليست حِكراً على فئةٍ خاصّة، ولا مقيّدة بظروف نادرة استثنائيّة، وإنّما كان يعتقد أنّ الحامل للواء الشريعة الإسلامية، وصاحب مقام الولاية الإلهيّة العظمى هو حضرة بقيّة الله الحجّة بن الحسن العسكري أرواحنا فداه، وباقي الأفراد سواء الجاهل أم العالم، المرأة أم الرجل، الملتزم وغيره، السياسي وغيره، كلّهم يَنضوونَ تحتَ رعاية هذا العظيم، وعلى نسقٍ واحدٍ وعلى السواء، وليس لأحدٍ غيره أنْ يدّعي لنفسه هذه الزعامة والرئاسة وانحصار الولاية في وجوده. فجميع الأفراد عيالُ صاحب الولاية الكلّية، وهو أبٌ لهم وصاحب اختيارهم، وهو أقرب إلى الإنسان من نفسه وكفى!
لذلك، ومِن هذا المنطلق، كانَ يرى أنّ باب التفاوض والحوار، وإظهار المواقف الإسلاميّة والإنسانيةّ الحقّة، لهو حقّ طبيعي وأوّلِيّ لجميعِ أفرادِ الشعب الإيرانيّة، بما فيهم الشاه والدولة، الصالح والطالح، العالم وغيره، المحجّبة والسافرة، وحتّى أولئك المفضوحين ومعلومي الحال، كلّ أولئك لهم الحقّ في الدعوة إلى التوحيد وإرساء الحكومة الحقّة، بل حتّى غير الملتزمين بالإسلام، وزعماء الدول الأجنبيّة، فإنّ لهم حقّ الحياة والعيش السرمدي والسعادة الأبديّة، وكان يقول:
الهداية حقّ فطري لجميع البشر
أليسوا بشراً يحملون ما نحمله من المواهب الفطريّة والاستعدادات الكامنة فيهم، كما هو في وجودنا نحن؟ ألمْ يُبعثُ النبيّ لجميع هؤلاء المشركين؟ فلماذا يجب علينا مقابلتهم بصورة ومظهر غير إسلامي ولا إنساني، بحيث لا يقدرون على تبرير هذه التصرفات وهضمها ضِمنَ إِطارهم الفكري وأُسسهم الفطريّة. فلماذا نغلقُ نافذةَ إيناع الحقائق الكامنة في نفوسهم، ونُصيب تلك الشجيرات اليانعة باليبوسة، ونُزهقَ الاستعدادات المختبئة عندهم؟!
وعلى هذا الأساس، كانَ يلتقي بالكثير من العلماء ويشاورُ الشخصيّات المختلفة لأجل تطبيق أهدافه الذهبيّة، وكان من ضمنهم القائد فقيد الثورة حضرة آية الله الخميني -رحمة الله عليه- وكان يشجّعه ويسانده على قبول الزعامة وحمل راية هذه النهضة المقدّسة، واستلام لواء هذا الحدث العظيم، متعهّداً التعاون والمساعدة ما دام هناك مشاركة في بذل الجهود، ومشاورة وتبادل في الآراء والأفكار.
ويجدر بالذّكر، أنّه واجه الكثير من البهتان والموانع، والخطوات اللامسؤولة من أئمّة الجماعات ورجال الدين، إلى الحدّ الذي ضاقَ منه صدره، وأُنهِكت فيه روحه. وكان يقول:
كانَ يخالُ لي في بادئ الأمر، أنّ هذا الطريق حيثُ هو طريق تحقيق العدالة وإقامة الفرائض وإحياء السنن الإلهيّة، والقيام بأمر الله، وبشكلٍ عام فهو عين رضا الله من جميع الجهات، لذلك فإنّ من المسلّم أنّه سوف يكون لعلماء الدين التأثير الكبير والحضور الفعّال وفي الطليعة ضمن مقدّمة الصفوف المتراصّة للأمّة والشعب، وسوف يخففون من عبء هذا الحمل الخطير الذي أثقلَ كاهلنا، إلّا أنّي لم أكنْ أعلم حقيقة الأشخاص الذين سوف أقابلهم؛ أشخاصٌ لا همّ ولا غمّ عندهم إلّا التوغّل في الكثرات والأَهواء النفسانيّة، والشيءُ الوحيدُ الذي لا وجود له في مخيّلتهم هو القيام بالفرائض ومرضاة الله.
بذلَ العلّامة الطهرانيّ كلّ طاقته، وسارع قدماً وفي منتهى الجدّ والاجتهاد بغية تحقيق هدفه الإلهي، حتّى بلغَ الأمرُ أنْ عقدَ بينه وبين المرحوم آية الله الميلاني -رحمة الله عليه- والمرحوم اللواء" ولي الله قرني" مجلسَ" المعاهدة" لقسمِ اليمين، حيث اجتمعَ هؤلاء الثلاثة في مشهد، وقسمَ كلٌّ منهم اليمينَ، وتعاهدوا على أنْ يبذلوا قصارى جهودهم وكلّ ما بوسعهم حتّى آخر رمقٍ من حياتهم في سبيل تحقيق هذا الهدف المقدّس.
عدم ذكر شيءٍ عنه ضمن تاريخ الانقلاب
ومع الأسف، بعدَ حادثة عام اثنين وأربعين۱، واعتقال حضرة آية الله الخميني ثمّ الإفراج عنه وإخراجه من السجن، وبسبب عدم استمرار هذه المشاورة والتبادل الفكري والذي يمثّل الأرضيّة الأساسيّة للتعاون بين العلّامة الطهرانيّ وقائد الثورة، اعتزلَ العلّامة الطهرانيّ وابتعدَ عن مجريات الأحداثَ وقضايا الثورة وتنحّى عنها بشكلٍ كلّي. ومن المؤسف أنّ الكتابات المؤرِّخة للثورة الإيرانيّة، والكتبَ المدوّنة من المؤلفين المحترمين، لم تذكرْ شيئاً عن هكذا شخصيّة مهمّة، كانَ لها الدورُ الرائد والفعّال في تكوين الثورة الإسلامية الإيرانيّة وإيجادها، أو أنّها ذكرت النزرَ القليل وبشكلٍ عابرٍ، مكتفية بالعرض السطحي والبسيط، ممّا أدّى إلى غياب عموم أبناء الشعب الإيراني وسائر الدول الخارجيّة عن هذه الوقائع، وعدم امتلاكهم حتّى أبسط المعلومات عن ذلك.
الفصل الخامس: أسسه التربويّة ومنهاجه في المسائل المختلفة
تتمحورُ إرشاداتُ العلّامة الطهرانيّ ومنهجيّته التربوية، حول ثلاثة محاور أساسية كلّية:
المحور الأوّل: إنّ عامّة الأفراد، الذين كانوا يشاركون في مسجد القائم ويحضرون البيانات الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسية وغيرها، ضمن أيّام شهر رمضان المبارك وليالي الثلاثاء، وإحياء مناسبات الأعياد والوفيات (فيما يختصّ بولادات الأئمّة عليهم السلام ووفياتهم) كانوا تحتَ عهدته وتعهّده المباشر، بحيث أنّهم كانوا يستفيدون منه جميعاً سواء من أيّة فئة كانوا ومن أيّ صنف، وكثيرٌ من المؤلفات التي دونها إنّما هي ثمرة تلك الفترة من الوعظ والإرشاد، وإقامة المنابر والخطب في مسجد القائم. وكان في المناسبات المختلفة، يتصدّى غالباً بنفسه للوعظ والإرشاد دون أن يتّكلَ على أحدٍ غيره، خلافاً للعرف السائد لدى الوعّاظ فيما يخصّ هذا
الجانب. فكان يفسّر القرآن لسنين متمادية خلال ليالي الثلاثاء بعد القراءة والتلاوة. كما وقد عمد إلى بيان الأحاديث المعراجيّة الواردة في المجلّد الثامن عشر من البحار وتوضيحها وشرحها. وأمّا في السنين الأخيرة من إقامته في طهران، فقد كان في أغلب الأحيان يلقي ويبيّن بحوث الإمامة والتوحيد.
وعلى العموم، فإنّ محور إرشاد المرحوم العلّامة وتعاليمه إنّما يدور حول مَدّ يدِ العون والمساعدة لعامّة الناس ومن سائر طبقات المحصّلين، العالمِ منهم والعامّي، الجامعي وغيره، فبعضهم كان ينشدُّ إليه وينجذب نحوه بواسطة افتتانه بحسن سلوكه ورِفعة سيرته وآدابه، فالأطبّاء والمتخصّصون، خصوصاً في مشهد المقدّسة، كانوا ينشدّون إلى نفحاته الروحيّة والمعنويّة، لمِا يرونَه من مسلكه الإسلامي، وخلقه الكريم، وبياناته العذبة اللائقة بمنزلتهم ومقامهم، والمنسجمة مع فهمهم ونظرهم، كذلك تواضعه والتزامه العملي بأوامر الأطبّاء دون أدنى اعتراض أو كلام، وتفويضه اختيار المعالجة والتداوي إليهم -مع ملاحظة موقعيّته الاجتماعيّة البارزة والشاخصة- كلّ ذلك كانَ يتركُ الأثرَ البليغَ في نفوسهم، بحيث أنّه ضِمن أيّ قسمٍ أو أيّ طابق في المستشفى، كانَ هناك جمعٌ غفير من الموظّفين من كلّ فئة ينشدّون وينجذبون إليه، والملفت أنّه لم يكن لينسى الآخرين ويعرضَ عنهم وإنّما كان يتواصل معهم ويسأل عن أحوالهم ويستفسر عنهم.
وطوالَ المدّة التي كان يعاني فيها من الأمراض المختلفة، من الحصى في المرارة،" ديسك" في الظهر، تمزّق في الشبكيّة وإجراء عملية جراحية، ذبحة قلبيّة وغيره، لم يصدرْ أبداً منه أيّ كلام يُظهرُ فيه الرغبة في السفر إلى الخارج بقصد المداواة والعلاج في بلاد الكفر، بل كان يرفض ذلك ويدينه بشدّة.
السفر إلى الخارج لأجل التداوي مع وجود الأطباء الحاذقين مخالفٌ لعزّة الإسلام
وفي حادثة مرضه وانسداد مجاري الصفراء، وبالرغم من كثرة التوصيات والتأكيدات الزائدة على رجحان ذهابه إلى الخارج، مضافاً إلى وفرة الإمكانات وتهيئة مقدّمات السفر، إلّا أنّه نَظَرَ إلى أطبّائه المعالجين وقالَ لهم:
كيفَ أذهبُ إلى الخارج؟ أترك الدولة الإسلاميّة وألجأ إلى بلاد الكفر والإلحاد، وألوذ بالأعداء! أليس من العار أنْ يقالَ: عالمٌ شيعيٌّ سافَرَ من البلاد الإسلاميّة بما فيها من أطبّاء حاذقين ومسلمين ومصلّين، قاصداً بلاد الكفر، ليضعَ نفسه تحتَ قبضة طبيب شارب للخمر وغافل عن ذكر الله؟! هذا عار للإسلام، عارٌ على التشيّع. فالإسلام عزيزٌ، منيعٌ، وهذه الأعمال مخالفةٌ لعزّة الإسلام. وسوفَ لنْ أسلّم بدني لهمْ حتّى وإنْ كلّفني ذلك فوات حياتي وفقدانها!
وأمّا حينَ مرضه، فكان الأطبّاء يصرّون عليه إصراراً شديداً على أن يبقى هو في المنزل للمعاينة .. إلّا أنّه لم يكن
يرضى بذلك بل كانَ يذهب إلى المعاينة في العيادة.
لنلاحظ كيفَ أثّر هذا الأسلوب وهذه التصرفات على مخيّلة أولئك الأطبّاء، وكيفَ أوجبَ لهم الانقلاب والتبدّل، ولنتأمّل كيفَ كانوا يواجهون هذه الظاهرة! فلعلّهم لم يقابلوا هكذا حالة من قبل. وحينئذ لنا أن نسأل: أليس هذا السلوك بنفسه إرشادٌ للحق والحقيقة والإسلام، أليس هو عينُ التحقّق بروحِ الدين وسنّة النبي وسيرة أئمّة الهدى عليهم السلام، والتطلّع إلى العوالم العليا، وبلوغُ الإنسانيّة والشرف والعزة؟
وهنا نكتةٌ هامّة جدّاً تستحقّ الوقوف عندها والتمعّن فيها، وهي أنّ جميع مسائل القضاء والتقدير المنبعثة من الإرادة الإلهية وإيكال الأمور إلى الأطباء والماهرين في هذا المجال، كلّ ذلك غير خارج عن حيطته بعنوانه سالك واصل، وعارف كامل، فهو مظهرٌ لجميع الأسماء والصفات الإلهيّة، وأهل الفنّ مطّلعون عارفون أنّ كلّ من بلغَ هذه المرحلة، لا يبقى أيّ أمرٍ مخفيٍّ أو مجهول أمامه، وسوف لا يعجز عن القيام بأيّ عمل من الأعمال. ولكن المعجزة الكبرى التي يظهرها أمام الآخرين هي أنّه كان يواجه هذه الأمور بنحوٍ وكأنّه لا اطلّاع له على شيء من الأمر لا كمّاً ولا كيفاً، ولا يعرف شيئاً عن حجم الضرر ولا كيفيّة حُسنه وصلاحه، فهو مسلّمٌ مقابل مشيئة حضرة الحق، كأنّه لا خيار
له ولا اختيار آخر، وليس أمامه إلا هذا المسير.
فقد أفصحَ له ذاتَ يوم أحدُ الأطبّاء المعروفين والمتخصّصين في جراحة الدماغ والأعصاب في مشهد، يُدعَى السيّد الدكتور الحاج علي رضا بيرجندي -سلّمه الله تعالى- وهو من أصدقائنا وأعزائنا المخلصين، فقال له:
لمْ أرَ مريضاً يُصغي ويُطيع مثلك!
نعم، هكذا كانت سيرته ورؤيته بالنسبة للمشيئة الإلهيّة، وتنظيم المسائل وفق النظام الأحسن، بحيث أنّه لا يتخطّى هذا المنهاج، ولا يتجاوز الطريق حتّى ولو بمقدار ذرّة واحدة، وهو الأمر الذي كان يستوجبُ تنبّه الأفراد وانجذابهم إليه، وهناك الكثير ممّا يتعلّق بهذا المجال ممّا لا يسعنا ذكره في هذه الجذوة.
المحور الثاني: تربية التلاميذ السلوكيين وتحريك النفوس المستعدة إلى الله وإلى لقائه، فطوالَ مدّة الاثنين وعشرين سنة التي توطّن فيها في طهران، وكذلك ما يناهز الستّة عشر سنة من الإقامة في الأرض المقدّسة للمشهد الرضوي، فقد جَذَبَ الكثيرَ من النفوس العاشقة لسُبلِ السلام، وأخذَ بقلوبِ الكثيرينَ من المستعدّين للحركةِ إلى الله، والمهاجرينَ إلى الله ورسوله، وذلكَ بواسطةِ توجيهاته العرفانيّة، وبياناته التوحيديّة، وكلماته الحكميّة الممتزجة في نفسه، ثمّ بواسطة التربية العمليّة والمباني السلوكيّة، وتشكيلِ
مجالسِ الذكر والأنس، كلّ ذلك أشعلَ نارَ الشوق في صدور المحبّين وسالكي طريق المحبوب.
تربيته للتلاميذ السلوكيين وطلّاب العلوم الدينيّة
المحور الثالث: تربية الطلّاب وتلاميذ العلوم الإسلاميّة، وذلك على أساس أصول ومبانٍ متّخذَةٍ من فقه أهلِ بيتِ العصمة والطهارة سلامُ الله عليهم أجمعين -الفقه بمعناه العام- دون أيّة شائبةِ وهمٍ أو تخيّل، وبعيداً عن أيّ نوعٍ من التدخّل والتصرّف، و منزّهاً عن كلّ آفّة وبلوى.
فقدْ كانَ يعتقدُ بوجوب تربية الطالب على أساسِ السننِ القطعيّة والسيرةِ المأثورة، والمتّخذة من متونِ الأحاديثِ والرواياتِ الواردةِ عن الأئمّةِ عليهم السلام، كما ولا بدّ من إبعادهِ عن الآراءِ الباطلةِ والأهواء الضالّة المضلّة، وعدم إغراقه بها بأيّ نحو من الأنحاء، وبأيّ أُسلوب وفي أيّ ظرف أو حالة من الأحوال، بل لا بدّ وأن يُنسجَ عقلُه ويَتحرّك منظاره بواسطة المنهجِ الرزين، والصراط المستقيم وممشى الأئمّة القويم.
وقد وُفِّق فيما يتعلّق بهذا المجال إلى تربيةِ عددٍ كبيرٍ من الطلّاب والفضلاء، وتعليمهم على هذا الأساس المذكور والطريق المعهود، حتّى أصبحَ كلّ واحدٍ من هؤلاء التلاميذ مؤهّلًا لهداية الخلق، وصارَ كلٌ منهم منارةً مضيئةً للعاجزين، الضائعينَ في الظلمات والبوادي المخيفة، وإنشاء الله يكونون في المستقبل القريب ببركةِ المددِ والتوفيقِ الإلهي، مصداقاً
لكلامِ الإمام الصادق عليه السلام: أنتم واللهِ نورُ اللهِ في ظُلماتِ الأرض؛ إنشاءَ الله.
كان المرحوم العلّامة الطهرانيّ يسعى سعياً حثيثاً بالنسبة لهذا الجانب الحيوي ومتابعته بشكل محكم، كذلك كانَ يقول مراراً وتكراراً:
إنّ المشكلة الأساسيّة في المجتمع هي عدمُ وجودِ العلماء العاملين، والفقهاءِ البصيرين بمدرسةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام، الخبراء بأهدافِ وممشى الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
وكانَ يمتلكُ عزماً أكيداً وإصرارا واجتهادا عجيباً لتحقيق هذا الأمر، إلى حدّ يمكن معه القول: بأنّ هذا المحور هو المحور الأهم في مراحل حياته العلميّة والاجتماعيّة، ففي مجالسه العموميّة حينما تكونُ أصنافُ الناس وطبقاتهم المختلفة (الأعمّ من الكسبة والمهندسين والأطبّاء) حاضرة في المجلس، كانَ يُعظّم الطلّابَ والفضلاءَ بصورة علنيّة، ويفتخر بحضورهم أمام الباقين، وكانَ يُبدي إكرامهم ويبرزُ تعظيمهم بشكل عملي.
وكان يعمدُ إلى تعميمِ الفتيان من الطلبة والمحصلين، المؤهلين لارتداء زيّ النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتحلّي بلباس العلم والمعرفة، وذلك خلال فرصتين في كلّ عام (يوم النصف من شعبان ويوم عيد الغدير)، وكانَ يخطب
بنفسه ما يقاربُ الساعةَ الكاملة، يتحدّثُ عن ضرورة الاهتمام بهذا الأمر الحيويّ والترويج له، وكان يحكي ضمناً عن دسائسِ الاستعمار وحيَلهم وخططهم المشؤومة، الساعية لاقتلاعِ هذه الجماعة، ومحوِ هذا اللباس وطرحه أرضاً، وإذهابِ ريح أهلِ العلمِ والمعرفة واضمحلالهم. وفي بعض الأيّام حينما كان الأطبّاء يمنعونه من المشاركة في المجالس العموميّة، بسبب المرض والإرهاق الشديد، ومشاكل القلب، وإلزامه بالحِمية الشديدة، كانَ يحضرُ هذه المجالس ويحاضر ويؤكّد على ضرورة تربية طلّاب العلوم الدينيّة، وتهذيبِ الناشئةِ والفتيانِ الفضلاء والعلماء والملتزمين بمباني أهل البيت عليهم السلام، غيرَ عابئٍ بما يلمّه من التعبِ والنصب والمشقّة وازدياد المرض، ليُقدّمَ نفسَه كأبٍ عطوفٍ حنونٍ، يفدي الآخرين بنفسه، ويقدّمها أُضحيةً كي ينبّه على الخطر المرعب المحدّق بالمجتمع الإسلامي، والذي يهدّده من كلّ جانب.
كانَ المرحومُ العلّامة الطهرانيّ يرى أنّ الفقه والدراية الإسلاميّة في مدرسةِ أهلِ البيت عليهم السلام غير محدودة بدائرة الأصول الاصطلاحيّة والفقه الكلاسيكي وعلم الرجال والدراية المعهودين. بل لا بدّ من التعلّم الجدّي للحكمة المتعالية والعرفان النظري وتفسير القرآن ودراستها بتدبّر جاد، والاطلاع الواسع والشامل على تاريخ أهل بيت العصمة سلام الله عليهم، والإحاطة بفقه العامّة وآرائهم المخالفة مع
الخاصّة، والاطّلاع على المسائل المتداولة المعاصرة، فإنّ ذلك دخيل في نضوج هذه المهمّة وتحقّقها، بلْ كانَ يراه ضرورياً، وكانَ يحثّ الجميع ويحرّكهم نحو هذا الاتجاه النيّر، فكما أنّه لا يمكن استنباط الأحكام الفقهيّة بمنأى عن الإحاطة بظروف الحكم، وشروط الفتوى في زمان صدورها، واستقصاء جميع أحوال الحكم وظروفه بشكلٍ تام، وتحديد الموضوع وضبطه، كذلك سوفَ يبرزُ خللٌ جدّي في الفهمِ الفقهيّ واستنباط الأحكام الشرعيّة فيما لو لمْ يكنِ المستنبطُ مطّلعاً على الحقائقِ التفسيريّة للقرآن المجيد، ولا متبصّراً بالروايات غير الفقهيّة، ولا ذي خبرة بالمعارف الإلهيّة.
ومن هنا، فإنّ من اللازم المحتّم والأكيد على العالم الديني، المتكفّل بزعامة المجتمع الإسلامي، أنْ يكونَ متحلّياً بهذه الشروط المهمّة، وحائزاً على هذه المراتب الضروريّة لإصدار الفتوى، كي يستطيعَ بلوغَ حقيقة الدين المبين، ويلامسَ واقعَ الشريعة المحمّديّة الحقّة" صلّى الله عليه وآله"، ولا يعودُ بإمكان الأوهام الباطلة أو الظروف المحيطة أن تُؤثّر في مسيره وممشاه.
ومن المناسب هنا أنْ نشيرَ إلى بعضِ مبانيه فيما يتعلّق بالمسائل الفقهيّة والاجتماعيّة المختلفة:
من أهمّ المسائل التي ينبغي ذكرُها والتوجّهُ إليها، هو
عدمُ اهتمامِ الكثير من علماء الدّين بوضعِ مبانٍ وأصول شرعيّة ثابتة، حيث وقعوا في معضلة التوجيه والتأويل القائم على أساسِ المصالح والمنافع الشخصيّة والميول والأهواء العامّة.
لقد وقف المرحوم العلّامة الطهرانيّ بحزم في وجه هذه الطرق، حيث جعل منهجه ومسلكه في التطبيق قائماً على أساس الموازين والضوابط المستنبطةِ -مائة بالمائة- من كلماتِ الوحي والسنن المأثورة عن أئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين. لذلك قامَ الكثيرُ من أهلِ العلم والمتلبّسين بلباسِ القداسة والتقوى بمخالفته في مواقعَ عديدة، ليهيلوا عليه طوفاناً من التهم والكلام الفارغ واللامسؤول من كلّ حدب وصوب، كتهم التعصّب والتحجّر والتفرّد بالرأي.
فمن الأمور التي كان المرحوم العلّامة الطهرانيّ يرفع فيها علم المخالفة الشديدة، هي الدخول في المعاملات الربَوِيّة وأخذِ القرضِ والتعامل مع البنوك والمراكز الربَوِيّة الأخرى المنتشرة في إيران.
المنع من دخول الأفراد في المعاملات الربويّة البنكيّة
وكان بعض الأشخاص يراجعه لإجراء حساب الحقوق الشرعيّة المتوجّبة عليه، فإذا علمَ أنّ أموال هؤلاء كانت مختلطة بالربا لم يكن يستلم منها شيئاً، ولا يجري لهم حساباتهم الشرعيّة، ممّا يضطرّهم إلى مراجعة علماء آخرين، فيقومون بإجراء بعض الحِيَل الشرعيّة والطرق المضحكة؛
لاستمالتهم من جهة، وحصولهم على حطامٍ دنيويّ من جهة أخرى، فكانوا بذلك يجرّون الناس إلى النيران ويوقعونهم في الغضب الإلهي، ويبتلونهم ببلوى الوقوف في عرَصات يوم القيامة وعقبات الحساب والسؤال؛ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ۱.
وقال له يوماً أحدُ أصدقائه وخواصّ رفقائه: إذا لم نتعامل مع البنك لن نقدر على المتاجرة، وسوف تركدُ جميعُ معاملاتنا وننكسر. فأجابَه المرحومُ العلّامة -دون ملاحظة مكانته وحيثيّتة وموقعيّته، وبحضور الآخرين-:
إذا كان الأمر كذلك، فاذهبْ وحصّل أمورَ معاشك بواسطةِ بيعِ اللّفت والشمندر في الشارع.
وكان في أيّام شهر رمضان المبارك يُبيِّن بعض الأحكام الشرعيّة العامّة البلوى؛ كمسائل الصوم وخصوصيّة الزمان والمعاملات وغيرها، وذلك بين صلاتي الظهر والعصر لمدّة ربع ساعة، وكان يُحذّر الناس بشدّة من المعاملات البنكيّة واختلاط أموالهم بالأموال الربويّة، وكثيراً ما كان يواجه اعتراضاً من الناس، لكنّه لم يكنْ ينثني عن بيانه للأحكام الشرعيّة بأيّ وجه من الوجوه.
والتقى به يوماً أحدُ التجّار المعروفين في السوق، فقالَ له:
سمعتُ أنّك -ضِمنَ كلامك في مسجد القائم- كنتَ تمنعُ الناس من الخوضِ في المعاملات البنكيّة والاقتراض منها؟
فأجابه العلّامة:
نعم، الأمرُ كذلك!
فقالَ له: هلْ تعلمُ أنّك الوحيد في طهران الذي يقول بحرمة التعامل مع البنوك، وليسَ أحدٌ سواك من جميع العلماء يمنع من ذلك، فهم يحلّون المشكلة للنّاس عَبرَ بعضِ الوجوه، ويُعملونَ الكثيرَ من التمحُّلات لحلّ هذه المعضلة، فأجابه العلّامة:
كلّ إنسان يتحمّل مسؤوليّة كلامه، فأنا لا أستطيعُ أن أتنازلَ قيدَ أنملة عمّا توصّلت إليه وشخّصته، والآخرون يعملون وفقَ تشخيصهم.
ومن الواضح جدّاً أنّه لو تعامل العلماء والمتديّنون من أهلِ السوق والتجّار من أوّل الأمر بنحوٍ شرعيٍّ وعلى أساس الحقّ، لما وصلتْ الأمور إلى هذه الوضعيّة المؤسفة من المعاملات الربويّة واللاشرعيّة.
ومن المسائل الأخرى التي أشار إليها مراراً وذكّر بها تكراراً في شهر رمضان، حرمة الرجوع إلى حكّام الظلم والجور، ووجوب إرجاع الدعاوى وفصل الخصومات إلى النوّاب العامّين لأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، والمجتهدين ذوي الصلاح الواجدين لشرائط القضاء والحكومة. وفي هذا الصدد، كان يُحضر معه إلى المسجد بعض الكتب من قبيل" الوافي" و" وسائل الشيعة" وغيرهما، ويقرأ للناس الروايات المأثورة من الكتاب مباشرة، فكان يحذّر الناس كثيراً من الرجوع إلى محاكم الطاغوت، أو العمل على إيجاد حلٍّ لمعضلاتهم بواسطة أهلِ الظلم والجور، وكانَ يعتبرُ أنّ نتيجة هذه المحاكمات باطلة، وأنّ المنافع المأخوذة منها سحتٌ وحرام يجبُ الاجتناب عنها، بل كانَ يرى حُرمةَ الرجوع إلى وجهاء القوم وأعوانهم لرفع المشاكل وفضّ الخصومات، لأنّها توجبُ الضعف والمذلّة والتملّق لهؤلاء المراجعين وأهلِ العلم، والاستخفاف بالإسلام مقابل الكفر والشرك.
حرمة الرجوع إلى الحكّام الظلمة في المرافعات والخصومات
وقال له أحد أصدقائه يوماً:" يوجد في منزل العقيد فلان ... مجلس عزاء يأتي إليه العديد من علماء طهران، والكثير منهم يطلبون منه حلّ مشاكلهم من قبيل الإعفاء من الخدمة العسكريّة لأقاربهم ومعارفهم، أو حلّ بعض مشاكلهم
الدنيويّة الأخرى، وكان يساعدهم في حلّ مشاكلهم هذه، وهذا الشخص متديّن جدّاً وملتزم بالصلاة، وليس لديه أيّ تساهل في أداء الواجبات الدينيّة كالحجّ مثلًا، والحكومة تحترمه لأجل صدقه وأمانته وحسن عمله ولا تردّ له طلباً، وقد ذهبتُ بنفسي إلى منزله وحضرتُ مجالس العزاء عنده، وقرأتُ العديد من القصائد في رثاء أهل البيت عليهم السلام ومدحهم، والحاصل أنّ منزله مليء بالعلماء والمتديّنين والأخيار. وكلّ من يأتي إلى بيته لا يرجع إلا بقضاء حاجته وحلّ مشكلته".
وكان العلّامة الطهرانيّ مطرقاً برأسه إلى الأسفل يستمعُ إليه، وحينما انتهى من كلامه رفعَ رأسه وقال:
أمينُ الخائنين خائن، إنّ خيانة هؤلاء وجنايتهم ليست أقلّ من الراعين للكفر والنفاق، والمباشرين للظلم والتعدّي، وإنّ بقاء الجهاز الظالمم واستمراره، بحاجة إلى وجود أمثال هؤلاء الأشخاص؛ (وجيه القوم والشعب) والمتظاهرين بالصلاح والتديّن، والمتعبّدين بالشرعيّات، المتخلّقين بالأخلاق الحسنة والمتظاهرين بمحبّة الناس، حتى ينخدعَ الناس بالظواهر الحسنة والمظاهر الشرعيّة، فتنجذب إليهم عقولهم وقلوبهم، وفي النهاية يعتبرون أنفسهم أنّهم هم المحامون عن الإسلام، والرافعون لواءه والمدافعون عن حريم العلماء والمتشرّعين، والعاملون
بالقانون والمساواة، لكنّ هؤلاء هم الذين قاموا على مرّ التاريخ بالتشويش على أئمة الهدى عليهم السلام والعلماء الصالحين، الحاملين للواء مدرسة التشيّع، وهم الذين ملؤوا قلوبهم قيحاً، وقد امتلأت صفحات الكتب بصرخات هؤلاء العلماء من ظلم المتظاهرين بالدين المنكبّين على الدنيا، الذين لا يعرفون عن الله شيئاً.
الحذر من المديح و المجاملات و الألقاب
وكان المرحوم العلّامة الطهرانيّ يحذَرُ من المديح والمجاملات المتداولة بين المعمّمين وكان يفرّ منها فرارا، وعندما يدعو أحدَ الخطباء إلى مسجد القائم، كان يشترطُ عليه أوّلًا أنْ لا يذكر له منقبة ولا يمدحه بشيء، وإذا تخلّف الخطيب عن شرطه، كان يذكّره في الأثناء. وفي بعض أيّام عاشوراء ذهبَ إلى مسجدِ" لاله زار" في طهران للمشاركة في إحدى مجالس العزاء، فكان الخطيب يقرأ على المنبر، وبعدما انتهى من خطبته أتى إليه واعتذر منه لعدم معرفة اسمه بالضبط كي يمدحه في نهاية المجلس ويثني عليه حسب المجاملات المتعارفة على المنبر. فأجابه المرحوم العلّامة:
لا داعي لذلك فأنا لستُ كما ظننت، وعليكَ أنتَ أن تكفّ عن مثل هذه الفعال، فلا تمدح ولا تمجّد أحداً في خطبتك، بل على الواعظ أن يترفّع عن ذلك، ليقوم فقط بعِظَة الناس وإرشادهم، ولا يُلبس النصائح الجليلة بالمسائل والاعتباريّات الباطلة، ولا يمزج الكلمات
الخالدة والحِكَم الرائعة للأئمّة المعصومين عليهم السلام بهذه الأباطيل والخرافات، كي تستقرّ الحقائق الإلهيّة بشكل أفضل في القلوب المتأهّلة، وتتمكّن أكثر في النفوس المستعدّة.
وكان يُسأل أحياناً عن علّة عدمِ رضاه بإطلاق لقبِ آية الله عليه، فكان يقول:
لأنّ هناك أفراداً في هذا الوقت أطلقوا على أنفسهم هذا اللقب، ووصفوا أنفسهم بهذا الوصف، حتّى صِرتُ أخجلُ أنْ أُطلقَ على نفسي ذاك اللقب أو أتّصف بذاك الوصف الذي منحوه لأنفسهم، فصرتُ أتعيّبُ من أنْ يقالَ لي آية الله وأعتبره عاراً عليّ بعد أن جرى هذا العنوان على مثل هؤلاء الأشخاص.
ومن المناسب هنا أن نشير إلى مسألة كتابة عنوان" حضرة العلّامة آية الله الطهرانيّ" على كتبه المطبوعة، حيث إنّه وإنْ كانَ يتنفّر كثيراً من نفس هذه العناوين، إلّا أنّه من الممكن أن تطرحَ هذه المسألة أحياناً من الذين يفرّون من هذه الألقاب. ومع صرفِ النظر عن مقام الثبوت والواقع، وأنّه هو المتأهل الحقيقي للاتصاف بهذا الوصف، بل إنّه أعلى وأرقى من ذلك، فمن الناحية الإثباتيّة يمكنُ أن يثارَ هذا السؤال لدى الناس؛ من أنّه كيفَ يمكنُ الجمع بين هاتين المسألتين؟
قال العلّامة الطهرانيّ يوماً:
لقد سمعتُ هذا السؤال مراراً من البعض ولم أجبْ عليه، ولكن أجيبُ الآنَ وأقول: لمْ أكنْ أرغب بوضع أيّ عنوان أو لقب أو أيّ وصف على غلاف أيّ كتابٍ من كتبي سوى اسم (سيّد محمّد حسين الحسيني الطهرانيّ)، لكنْ رأيتُ يوماً في عالم الرؤيا أنّ منادياً من جانب الإله الجليل يدعوني: أيّها السيّد محمّد حسين نحن من قرّرَ وضعَ هذا اللّقب (العلّامة آية الله) لك، وأنتَ الوحيد الذي تستحقّ هذا اللقب وهذا الوصف، لكنّ فلاناً ... يمانع من انتشار هذا العنوان وذيوعه، فنبّهه على هذا الأمر. وأنا الآن أضع هذا العنوان بناء على الوظيفة والتكليف من جانب ربّ العزّة بوضعه على غلاف الكتب، وليقل الناس ما شاءوا.
وكان العلّامة الطهرانيّ يذهب لزيارة المرحوم الأنصاري -رضوان الله عليه- في همدان كلّ شهرين، وكانَ يبقى عدّة أيّام في خدمته مستفيداً من محضره. وبقي على هذا الحال حتّى وافاه الأجلُ بسكتة دماغيّة ودّع فيها دار الفناء وحلّقت روحه إلى عالم القدس، وذلك بُعَيدَ هِجرةِ العلّامة إلى إيران بأربع سنوات، وبعد ارتحاله ارتبطَ العلّامة بالمرحوم السيّد الحدّاد بشكلٍ مباشر، وانقاد له بشكلٍ مطلق، وأخذَ عنه دستور العمل والأذكار والأوراد.
لقد صوّبَ المرحومُ الحدّاد البرنامج التبليغي للعلّامة
الطهرانيّ وأمضاه ضمن دستور صريح، وعلاوة على ذلك ألزمه أيضاً بهداية وتربية المستعدّين والمشتاقين لحريم المحبوب وكعبة المقصود والأخذ بأيديهم، وكان العلّامة يقول:
لو لم يكن هناك دستور ملزم من المرحوم الحدّاد -رضوان الله عليه- لي بوجوب العمل على هداية الناس وإرشادهم إلى الحقيقة وإيصالهم إلى طريق التوحيد، لمْ أكنْ لأصرفَ ساعةً واحدةً من عمري مع أحدٍ من الناس.
وكانَ لديه برنامج ليلِيّ في مسجدِ القائم، حيثُ كانَ يقيمُ الصلاة جماعة، ويفسّر القرآن ويجيب على المسائل الشرعيّة، ثمّ بعد عودته إلى المنزل، كان يجلسُ ويطالع لعدّة ساعات، ثمّ يستيقظ قبل أذان الصبح بساعتين تقريباً ويبدأ بالتهجّد والتضرّع وطلب حاجاته من قاضي الحاجات إلى طلوع الشمس، ثمّ قبل أذان الظهر بثلاث ساعات يصعد إلى السطح ويجلس في غرفة خاصّة لتهجّده وذكره وورده، ويشتغل بها إلى ما قبل أذان الظهر، ثمّ ينزل ويتوجّه إلى المسجد لإقامة صلاة الجماعة، وقد استمر على هذا البرنامج سنين عديدة.
برنامجه في مسجد القائم
وفي شهرَي محرّم وصفر، كانَ يحيي مجالسَ عزاءِ سيّد الشهداء عليه السلام، ويقيمُ مجالسَ الوعظ والخطابة، وكانَ يشرفُ على دعوة الخطباء الفاضلين والمرضيّين بشكلٍ مباشر،
وفي شهر رمضان المبارك كانَ في غالب السنوات يعتلي المنبر بنفسه، مضافاً لإقامة صلاتي الظهر والعصر في المسجد كان يبيّن المسائل الشرعيّة المُبتلى بها لمدة عشرين دقيقة، وأمّا في المساء فكانَ يُفيضُ الروْحَ والرضوان على قلوبِ أهلِ المعنى، وذلك بقراءة القرآن وشرح دعاء الافتتاح أو دعاء أبي حمزة الثمالي، ويطربهم بنسيم العشقِ ونفحات كلامه الملكوتي.
وقد انتفع من هذه المجالس العديدُ من تلاميذه العرفانيّين والوالهين إلى تلك المعاني والبيانات العرشيّة، ووُفّقوا لوضع ركابهم في طريق الحقّ والسير إلى الله تعالى، وطارت قلوب العشاق والهائمين المضحّين، محلّقة نحو قُلل المعرفة، وافدة إلى حريم خلوة الأنس.
لقد كان كلامه حقّاً، ونيّته صدقاً، وهدفه التوحيد الصرف، ومراده الوصول إلى ذات الحقّ الأقدس، وكانَ يقولُ:
لا أرضى بأن يكون تلاميذي أقلّ من مقام سلمان الفارسي ولا أدون من مرتبته.
وكانَ يعتبرُ ولاية الإمام عليه السلام المطلقة هي عين التوحيد، ولم يكن يرى أيّ فرق بينهما أبداً. فقول الإمام سيّد الشهداء عليه السلام يحكي عن هذا الاتحاد والعينيّة، حيث يقول:
أيّها الناس! إنّ الله ما خَلَقَ خَلْقَ الله إلا لِيَعرِفوه، فإذا عَرَفوه عَبَدوه واستَغْنَوا بعبادَتِه عنْ عِبادةِ ما سواه. فقالَ رَجل:
يا بنَ رسولِ الله! ما مَعرفةُ الله عَزّوجَلّ؟ فقالَ: معرفةُ أهْلِ كُلّ زمانٍ إِمامهُ الذي يجبُ عليهِم طاعَتَه۱.
ولذا كانَ كأستاذه المرحوم الحدّاد؛ لمْ يتحدّث في مجلسٍ خاصّ أو على منبر عامّ عن الرؤية الظاهريّة للإمامِ بقيّةِ الله أرواحنا فداه، أو عن علامات وكيفيّة ظهوره، أو حتّى لم يكنْ يتعرّض لنقل هذه المطالب عن الآخرين، كما أنّه لم يوجّه الناس إلى الاهتمام بنشأته الظاهريّة سواء المعنويّة أو الباطنيّة، بل كان جلّ اهتمامه وهمّه في الوصول إلى حقيقة النفس المباركة للإمام عليه السلام، والارتواء من نبعِ ماءِ المعين للولاية المطلقة للمعصوم.
ومن الضروري جداً الإشارة إلى هذا المطلب هو: أنّ نظام عالم الشهادة، وبعبارة أخرى، عالم الملك، قائم على أساس نظام العليّة والأسباب والمسبّبات، وكل ما يحدث في هذا العالم، فمن جهة النزول العلّي والمعلولي، لا بدّ وأنْ يتجاوز مراحله الوجوديّة ضمن سلسلة العلل والمعلول وعوالمهما، حتّى يمكنه التعيّن ضمن صورة معيّنة في هذا العالم، وإلّا فمن المحال أن يتجلّى في هذه النشأة متجاوزاً التدرّج في النظام التكويني للتحقّق والوجود بداهة استحالة الطفرة، وحينئذٍ، فمع الالتفات إلى وجود تصادمٍ بين سلسلة
الأسباب والمسببات وتعارض بعضها البعضَ وتصادمه مع الآخر -كما هو مبحوث في محلّه بشكل موسّع ومنمّق- فقد تكون بعضُ صُوَرِ الأعيان الخارجية موجودة ومتحقّقة في بعض عوالم العلّيّة، كعالم المثال والملكوت السفلي، وذلك لتحقّق علّتها الموجِدة لها في خصوص تلك العوالم، ولكنْ، بما أنّ بقيّة سلسلة أسبابها معدومة وغير متحقّقة في نشأتها العليا، وذلك لوجود علل قاهرة في تلك العوالم العليا قد منعتْ من تحقّقها، ممّا يؤدّي إلى وجودِ صوَرٍ مثاليةٍ أخرى تقوم بدور المانع والدافع لوجودها على مستوى عالم العيان الخارجي، وذلك لكونها أقوى علّة وأشدّ سببيّة في المراتب المتقدّمة على الصورة الأوليّة. لهذا، فقد يكون لشخصٍ إطلاعٌ وإحاطةٌ ببعض مراتب عالم المثال وعالم البرزخ مثلًا، ولديه إشراف على شيءٍ منها، لكنّه لا يمتلك أيّ اطلاع على تلك الصوَر الأصليّة والقاهرة، وهذا هو السبب فيما نلاحظه من الاختلاف في المشاهدات وإظهار المطالب المتفاوتة، فإنّ السبب في ذلك يعودُ إلى جهل الرائي ونقصان اطلاعه وعدم إحاطته بجميع سلسلة العلل الموجِدة للصوَر والأعيان الخارجيّة في عالم الشهادة.
الولاية المطلقة للإمام عليه السلام هي عين التوحيد
لذا فالأشخاص الذين يملكون اطّلاعاً على حقائق الأشياء وكنه نظام التكوين كالمعصومين والأولياء العظام، يكتمون ما يرون ولا يظهرونه، وأمّا الذين يعرضون بضاعتهم
المزجاة فليسوا مطّلعين على حقائق الأمور بشكلٍ واف، ومسألة البداء المذكورة في القرآن والروايات تشير إلى هذه الحقيقة.
لقد كانتْ صلابةُ العلّامة الطهرانيّ في طريقتهِ وممشاه، وإتقانُه إلى الحدّ الذي لم يكنْ معه أيّ مجالٍ للتنازل عن التوحيد والولاية إلى الكثرات والنشأة السفلى، فهذه الصلابة وذاك الإتقان هما نتيجة التجربتين الحياتيّة والعلميّة المتميّزة والراسخة في وجوده المبارك:
التجربة الأولى: التبحّر في العلوم الحِكَميّة والفلسفيّة والعرفان النظري، والوصول إلى سرّ الحياة ومبدأ الوجود عن طريق البرهان والدليل، واعتبار هذه المسألة أصلًا مسلّماً في النظام التربوي وتكامل النفوس. وكذلك مهارته في تأيّيد ما توصّل إليه من علوم عرفانيّة وفلسفيّة وتكميله بواسطة تضلّعه في منابع الوحي وتبحّره في كلمات المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. وفي الحقيقة إنّ الاستعداد الذاتي لهذا الرجل العظيم وتهيُئِه إلى تلقّي الأصول والمباني المتقنة -كما صرّح العلّامة الطباطبائي مراراً قائلًا له، لا يمكنني أن أجيب على أسئلتك أثناء الدرس- هذا من جهة، واستفادته من أستاذ الكلّ دون استثناء، وعلّامة دهره العلّامة الطباطبائي -رضوان الله عليه- في دروس الحكمة والتفسير وفقه الحديث، واستفادته كذلك من سائر أساتذته العلماء من جهة أخرى،
هي التي ساعدت في تحقّق هذه التجربة واستيفائها عند العلّامة الطهرانيّ.
وأما التجربة الثانية: فكانت عبارة عن السلوك العمَلي مع آخر أساتذته وأكملهم وأرقاهم؛ السيّد الحدّاد قدّس الله نفسه الزكيّة.
فقد كان المرحوم الحدّاد متوغّلًا في التوحيد، بحيث لا يمكن أن يتنازل عنه أبداً، فلم يكن في قلبه سوى الحقيقة الأحديّة، ولم يجرِ على لسانه غيرَ الذكر والورد، حتّى أنّه لم يكن يسمح في مجلسه بالحديث عن أقربِ سلسلة العلل والأسباب؛ أي العوالم الربوبيّة وعالم الأرواح والحجب القريبة وعالم الملائكة المقرّبين. وإذا أتى أحدهم على ذكر المراتب العالية للعوالم الربوبيّة، وعروج الملائكة المقرّبين كجبرائيل الأمين وغيره، كان يقول له:
العلامة الطهراني كأستاذه لا يتنازل عن التوحيد أبداً
ما لنا ولهذه المطالب؟ فنحن نحلّق في مكان لا يستطيع جبرائيل الأمين أنْ يصلَ إليه ويطير فيه، ويستحيل عليه بلوغ ذروةِ تلك العلياء.
ولم يُسمع منه في تمامِ حياته أنّه تحدّث عن أمورٍ غير عاديّة، حتّى وإنْ كانت حقّاً، إلّا أنّها مشوبة بشائبة الكثرة، مثل مسألة إحضار الأرواح وطيّ الأرض وأمثال ذلك، أو العلوم الغريبة كعلم الرمل والجفر وتسخير الأرواح والشمس
والنجوم والجنّ، كما أنّه لم يشجّع تلاميذه على الإقدام على هذه الأمور، بل كان يعتبر الاشتغال بها من الأمور المخلّة بالطريق، والموجبة لإتلاف الوقت والعمر، وضياع رأسمال السالك ووجوده.
لقد بلغَ العلّامة الطهرانيّ ما بلغَه من العلوّ والرقيّ في التجربة الثانية، بعناية هكذا إنسانٍ سالكٍ راقٍ متعال، ومع اجتماع هذين الأمرين، وُلدَ هذا التجلّي وأينعت الثمرة، والتي كانت عبارة عن إتقان جميع الأمور وإحكامها على أحسن وجه وأرقى سبيل.
تتركّز طريقة العلّامة الطهرانيّ في التربية حول الاتجاه نحو التوحيد فقط، ولم يكن يستحسن طرق بعض العلماء كالمرحوم آية الله الحاج الشيخ حسين علي النخودكي الأصفهاني أعلى الله مقامه، الذي كان يستفيد من قراءة الأذكار والأدعية فضلًا عن بعض التصرفات، لشفاء المرضى ورفع المشاكل ومساعدة المحتاجين. وكان يقول:
على العارف أن لا يسعى وراء تغيير مشيئة الحقّ تعالى المتنزّلة في جميع مراتب الظهور والمظاهر المختلفة، وعليه أنْ لا يضعَ نفسه باختيار عوامّ الناس ويعمل بناء على ما تمليه ميولهم وأهواؤهم، حيث يتحرّكون غالباً بدافعِ عقولهم الضعيفة والناقصة، مخالفين المشيئة والمصلحة الحكيمة اللامتناهية لذات الحقّ تعالى. والحال أنّه لا فرق
بين أن يُقدّر الله شفاء هذا المريض أو موته، فكلاهما واحد.
وكان العلّامة الطهرانيّ كأستاذه في مسألة التوحيد، لم يكن يرتضي أبداً أن يُبدّل مسألة التوحيد بأيّ أمر آخر مهما كان الثمن، وحيثُ كان يرى حقيقة الولاية بالحمل الشائع هي عين واقعيّة التوحيد، وأنّ حقيقة التوحيد الخالص متجلّية في شخص المعصوم عليه السلام، جعل محوريّة تربيته السلوكيّة لتلاميذه قائمة على أساس معرفة حقيقة الإمام عليه السلام وإدراك واقعيّتة، والتحقّق بحقيقة ولايته، كما قال العارف العظيم الشأن، ابن الفارض المصري:
عَلَيْكَ بِها صِرْفاً فإنْ شِئْتَ مَزجَها | *** | فَعَدْلُكَ عَن ظَلْمِ الحبيبِ هُوَ الظُّلْمُ۱ |
(أي عليك أن تدرك حقيقة ذات الأحد ومبدأ الوجود مباشرة، وإذا أردت أن تمزج هذه الحقيقة بمظهر من مظاهر التعيّن، فلا ينبغي لك أن تتنازل عن لُعابِ ثغرِ الحبيب وتتوجّه إلى غيره).
يقول المرحوم السيّد القاضي:
إنّ المقصود من لُعاب فمِ الحبيب هنا هم الأئمّة المعصومون عليهم السلام.
لا يستحسن الجمع بين زيارة الإمام الرضا وأمثال الحكيم السبزواري وبايزيد البسطامي
وكان العلّامة الطهرانيّ في صيف كلّ سنة، يشدُّ الركاب قاصداً زيارة عتبة حضرة علي بن موسى الرضا في مشهد المقدّس، وفي إحدى هذه السنوات التي كان قدْ تشرّف فيها المرحوم العلّامة الطباطبائي والمرحوم الشهيد آية الله مرتضى المطهّري بالزيارة أيضاً، قال له آية الله المطهّري: قرّرنا والعلّامة الطباطبائي الذهاب إلى سبزوار لزيارة المرحوم الحاج السبزواري۱، فإذا كانت لديك رغبة في رفقتنا تفضّل معنا. فأتى العلّامة الطهرانيّ بعذرٍ وأظهر عدمَ رغبته في الذهاب، فذهب هذان العالمان لزيارة المرحوم الحكيم السبزواري، وبعد ذلك قال المرحوم العلّامة الطهرانيّ:
كيفَ يمكنُ لزائر الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام، أنْ يصرف وقته في زيارة أمثال الحاج السبزواري؟ فالآلاف من أمثال الحاجّ السبزواري وغيره مندكّون وفانون في الولاية المطلقة للإمام، ومستفيضون من بحار الفيوضات اللا متناهية لذاك الظهور السرمدي الأتمّ، أليس مؤسفاً أنْ يصرفَ الإنسانُ توجّهه عن ساحة الملائكة الصافّين إلى أحد المقتاتين على فتات موائدهم كالحكيم السبزواري وغيره!.
وكان يقول:
إنّ أولئك الذين يأتون لزيارة الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام بالسيّارة، عليهم أن لا يقصدوا زيارة أحد من العلماء العظام في طريقهم، أمثال بايزيد البسطامي والشيخ أبو الحسن الخرقاني والشيخ فريد الدين العطّار في نيشابور، والحكيم السبزواري في سبزوار، وذلك لأنّ زائر علي بن موسى الرضا يجب أن يتوجّه فقط وفقط إلى شخص الإمام، ويغضّ الطرفَ عن كلّ أحدٍ سواه، فإنّهم جميعاً فانون في ذاته وولايته عليه السلام، هذا فضلًا عن أنّ زيارة علي بن موسى الرضا موجبة للثواب الأكثر بآلاف المرّات من زيارة المزارات الموجودة على طريق الزائر.
إنّ العرفان في مدرسة العلّامة الطهرانيّ قائمٌ على أساس البرهان واليقين، وهذان شرطان أساسيّان لصحّة الطريق واستقامة مسير السالك. وكانَ يسعى دائماً لإثبات صحّة طريق أستاذه السيّد الحدّاد بالموازين العقليّة والشرعيّة، وكان يتجنّب دعاوى الصوفيّين الفارغة، والخالية عن المضمون، والمفتقرة إلى العلم والبرهان.
إنّ عرفانَ العلّامة الطهرانيّ يتّسع لجميع النفوس البشريّة؛ العالم والجاهل، المسلم وغير المسلم، الحكيم والفقيه، الطبيب والكاسب، فقد جعل هؤلاء جميعاً مُلزمين بقبول هذا
العرفان. فلا مجال مدرسته ل: «هر چه ديدى دم مزن- عيش ما بر هم مزن»، «بنده چه دعوى كند حكم خداوند است»، «شرط، تسليم است ني راه دراز»
(لا تتفوّهنّ بكلمة عمّا رأيت، ولا تنغّص علينا عيشنا)، (فالحكم لله وليس للعبد شيءٌ من الأمر)، (فالشرط الأساسي هو التسليم، لا طول مدّة السير).
ففي مدرسة العلامة الطهرانيّ لا مجال لالتزام الصمت وإظهار السكون وإطراق الرؤوس وثنيها إلى الصدور، وإحالة الصحّة على الحكمِ الخاطئ والمخالف، وعدم الرويّة وعدم التدقيق، والوقوع في توجيه الأفعال المحرّمة المشينة، وتنزيل أعمال الأناس العاديين منزلة ما يصدرُ عن العصمة الذاتية لرسول الله والأئمّة الأطهار، وإيقاع الخلق الحيارى في شراك الغواية والضلال.
في عرفان العلّامة الطهرانيّ -وكما هو واضح من كتبه المدوّنة- ينحصرُ الميزان القيمي بالنسبة إلى صحّة أو عدم صحّة مسير السالك، بخصوصِ الموازين الحكميّة والعقليّة والشرعيّة المسلّمة من مصدر الوحي، دون الاعتماد على المنامات والمكاشفات والتخيّلات الموهومة، فلا يحصدنّ السالك منها سوى الوقوع في المهالك وشباك الأبالسة والانحراف عن مسير الحقّ.
الميزان في صحّة حال السالك الموافقة للموازين العقليّة والشرعيّة
إنّ معرفة الإنسان الكامل والوليّ، لا تحصل إلا باختياره الموجب لحصول القطع واليقين بعبور الحجب الظلمانيّة؛ النفسيّة والنوريّة، وعبور مراتب الأسماء والصفات الكلّية، وحصوله على الفناء الذاتي في الذات الأحديّة. وهذا العلم واليقين كثيراً ما يحصل بواسطة المحاورات والمباحثات في مراتب الأسماء والصفات، بل وحتّى من خلال التأمّل والإمعان في كيفيّة صدور أفعال الولي وأعماله ضمنَ مواقف مختلفة، والحصول على النتيجة في مقام الثبوت بواسطة مقام الإثبات (وهو ما يسمى بالبرهان اللّمّي).
كذلك الحال في معرفة الأنبياء العظام -طبقاً لما تصرّح به الآيات القرآنيّة- فهو من هذا القبيل، وكذا الحال بالنسبة لأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين. والأمر كذلك أيضاً بالنسبة لمعجزات الأولياء العظام الحاكية عن وجود تعلّقٍ وارتباطٍ بين ظهور نفس الإمام في مقام الفعل مع مبدأ الولاية المطلقة، ومن هذا الباب كانت مباحثات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصادقَي آل محمّد، والإمام علي بن موسى الرضا بحضور المأمون وجميع علماء الأديان، وجواد الأئمّة، وكذلك سائر الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.
نعم، ممّا لا شكّ فيه، أنّه في بعض الموارد النادرة، قد تستوجب العناية الإلهيّة تولّدَ هذا القطع وحدوثَ هذا العلم بدون توسّط هذه الوسائل وتلك الأسباب المذكورة.
تجدر الإشارة هنا إلى مسألة مهمّة جدّاً؛ وهي أنّه مع التوجّه إلى المطالب السالفة، وملاحظة أهميّة العلم واليقين بمرتبة الأستاذ والولي في مقام التربية والهداية، سوفَ تتمتّع جميعُ الأوامر والدساتير التي يطلقها الولي الكامل والأستاذ الواصل بحجّية ذاتيّة، لتكونَ شاهدة بدلالتها الطبعيّة والعقليّة (لا الوضعيّة) على صدق قوله وصحّة عمله. نعمْ يمكنُ أن يُعمد في بعض الموارد إلى الإثبات والاستعانة بالدلالة الوضعيّة لإتمام الحجّة من باب الاضطرار، نظير ما حدثَ في واقعة الغدير ونصب أمير المؤمنين عليه السلام وليّاً وخليفة وإماماً للمسلمين.
أمّا في غير هذه الصورة (عدم وصول السالك إلى الفناء الذاتي)، فلا بدّ أن تكون حجّية كلامه وتنجّز أوامره ونواهيه -مع التوجّه إلى عدم تحقّق مقام الثبوت- منوطة بتوسّط وليّ كامل، كأن يُصرّح في مقام الإثبات على وجه الملأ، أو أن يعمد إلى كتابة صريحة لا يشوبها أيّ إبهام أو إجمال. وقد أيّد المرحوم العلّامة الطهرانيّ هذا المطلب في كتابه" الروح المجرّد" صفحة ٤٥٦، حيث قال:
الوصاية قسمان: ظاهرية وباطنيّة. فالوصيّ الظاهري هو ذلك الذي يجعله الأستاذ وصيه أمام الملأ العام، فيكتب بذلك ويمضيه ويعلنه.
وفي غير هذه الصورة، لا يوجد أيّ مسوّغ لإطاعة أيّ
شخص فاقد لمقام الثبوت أو الإثبات، ومن يطع هكذا إنسان فسوف يتحمّل المسؤوليّة أمام الله تعالى.
كما ومن الواضح جدّاً أنّ تحقّق مقام الإثبات -بناء على ما ذكره المرحوم العلّامة الطهرانيّ- لا معنى له إذا كان منقولًا بصورة خبر الواحد أو كان مصرّحاً به في الخفاء، فهذا مما يتعارض مع نفس مقام الإثبات. كما أنّ نفس المرحوم العلّامة الطهرانيّ لم ينصب أيّ وصيٍّ ظاهري له، بمعنى أنّه لم يتكلّم في هذا الموضوع أمام الملأ، ولم يترك فيه أثراً مكتوباً.
من المؤسف أنّ عدم التوجّه إلى هذا الأصل الحيويّ الهامّ، أوجبَ الانصرافَ عن الأصولِ والموازين المتقنة للعلّامة، وأدّى إلى تبدّل الحقائق والأصول المنقّحة في العرفان الأصيل إلى الأوهام والخرافات، وبعبارة أخرى أدّى إلى التنزّل عن المنهاج المنيع والممشى الرفيع لذاك العالم الكبير إلى التخيّلات والأوهام.
طبعاً، لا يخفى أنّ عدداً من تلاميذ هذا العارف العظيم الشأن استطاعوا -بواسطة التأسّي بمرام العلّامة الطهرانيّ وحفظ أصوله وأسسه الجليّة والمحكمة- أن يحافظوا على استقامتهم ويظفروا في الامتحان، ويحقّقوا ممشى ذاك الرجل
العظيم ومسيره في حياتهم السلوكيّة، ولم يحيدوا عن صراط الحقّ ومسير الصدق مع كثرة الضغوط وتوالي الشدائد.
ومن المسائل الأخرى التي كان المرحوم آية الله العلّامة الطهرانيّ يسعى للحفاظ عليها، الاهتمامُ بالمميزات البارزة في الثقافة الإسلاميّة وبالأخصّ مدرسة التشيّع، فكان يعتقد بضرورة الاجتناب -في مقام المحاورة والكلام- عن استعمال الألفاظ المشتركة بين المذاهب والأديان فضلًا عن تلك المشتركة بين الملل والنحل المختلفة، وكذلك عدم استعمال الألفاظ المختصّة بالمدرسة الشيعيّة في غير ما وضعت له، وذلك كي تظهر الأصالة الثقافيّة للإسلام، وتتألّق معالم مدرسة التشيّع بوضوح وجلاء، وتكون الألفاظ مشيرة إلى محتواها، فضلًا عن أنّه يسدُّ الطريقَ أمامَ المحرّفين وأصحابِ البدع الضالّة المضلّة وقطّاع طرق الدين والإيمان. فمثلًا كان يقول:
إنّ استعمال لفظ (نيايش) أي الدعاء مكان لفظ الصلاة هو استعمال خاطئ، لأنّ هذا اللفظ يشير إلى معنى عبادي مشترك بين جميع الأديان، وكلٌّ من هؤلاء يقوم يوميّاً أو أسبوعيّاً بأعمال وطقوس للتقرّب إلى الله تعالى تحت عنوان الدعاء، لكن لا يمكن أن يُطلق على فعلهم اسم الصلاة، لأنّ الصلاة بهذه الخصوصيّات، أمرٌ مختصّ
بالدين الإسلامي، ومُنزلة من نفس النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم. وبناء عليه يجب أن لا تُعتبر الأعمال العباديّة المختصّة كسائر الأعمال العباديّة للشرائع والأديان الأخرى، ويؤتى بلفظِ" الدعاء" المشترك بين جميع الأديان ويستعمل في هذه الموارد.
كذلك استعمال الكلمة المباركة" بسم الله الرحمن الرحيم" فهي مختصّة بالمبدأ الأعلى، وتشير إلى الصفات الجماليّة للذات المقدّسة من العطوفة والرحمة والشفقة، وتستجمع ضمنها جميع صفات الله وأسمائه الكليّة. وعليه، فإنّ كتابة كلمة" بسمه تعالى" وإن كانت دالّة على الذات المباركة للحقّ تعالى بواسطة القرائن الحاليّة، لكن رجوع هذا الضمير إلى" الله" إنّما فُهم بعد ملاحظة القرائن، وإلّا فاللفظ بنفسه ليس مُشعراً بهذا المعنى أبداً.
وبناء عليه، فما هو المسوّغ للمسلم وللشيعي أنْ يعدلَ عن استعمال اللفظ المختصّ بذات المبدأ الأعلى ويجعلها نسياً منسيّاً في زاوية الإهمال، ويحذف اسم الحبيب من صفحات التحاور والكتابات، ويستعيض عنها بكلمات مبهمة ومشتركة تشير بإيماءٍ إلى المقام الأقدس لله تعالى؟ فهل كان دَيدنُ رسول الله وأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين كذلك؟ وهل كانوا يكتبون في رسائلهم وكتبهم بسمه تعالى؟ فهل لدينا أيّة رسالة عن النبيّ الأكرم استعاض
فيها لفظ" بسم الله الرحمن الرحيم" بلفظ بسمه تعالى؟! أوَليس عمل أولياء الدين حجّة علينا؟ أوَلسنا مكلّفين بالتأسي بسيرتهم؟ أوَلم يكن الأنبياء السابقون يفتتحون رسالاتهم بعبارة بسم الله؟ ففي قصّة النبي سليمان تذكر الآية المباركة: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ۱. وبهذه المناسبة نذكر حكايةً وقعتْ حين ارتحال أستاذه العالم الجليل في النجف الأشرف؛ المرحوم آية الله العظمى الحاج الشيخ حسين الحلي أعلى الله مقامه:
لا بدّ من كتابة الكلمة المباركة" بسم الله الرحمن الرحيم" بدلًا بسمه تعالى
لقد كان المرحوم آية الله العظمى سندُ الفقهاء والمجتهدين وعمادُ العلماء الصالحين الحاجّ الشيخ حسين الحلّي تغمّده الله برحمته أستاذاً للعلّامة الطهرانيّ في الفقه والأصول عندما كان في النجف الأشرف. وقد استفادَ من هذا البحر الزاخر بالعلم والفقاهة، المليءِ بالفهم والدراية مدّة سبع سنوات، وواقعاً يمكن القول بأنّه كان لدى المرحوم آية الله الحاج حسين الحلّي الأثر الكبير في اجتهاد العلّامة وعمقِ استنباطه للأحكام وتلقّيه المباني الشرعيّة. وكان المرحوم آية الله العلّامة يعظّمه ويجلّه طوال حياته، وكان
يعتبره بطل ميدان الفقاهة والتحقيق، فبعد ارتحال المرحوم الحلي عقدَ له العلّامة الطهرانيّ مجلسَ فاتحة في مسجد القائم، وطبعَ بياناً بهذه المناسبة نشره في مساجد طهران وشوارعها وكذلك في الصحف، وكان مُفتتحاً بعبارة" بسم الله الرحمن الرحيم".
وبعد ذلك بأيّام عُقد مجلسُ فاتحة للمناسبة ذاتها في مسجد سوق طهران، حضرَهُ المرحوم العلّامة الطهرانيّ أيضاً، وكانَ بجانبه عالم من علماء طهران المعروفين، فقال له أثناء قراءة القرآن -وكان يدخّن النارجيلة-: لماذا وضعت في بيان نعي المرحوم الحاج الشيخ حسين الحلّي عبارة بسم الله؟ فهذا العمل خلاف الشرع. فقال له العلّامة:
هل كتابة عبارة" بسم الله" خلاف الشرع؟
فقال له: نعم، خلاف الشرع، فاسم الله محترم ولا ينبغي أن يُوضع في الإعلانات والبيانات. فأجابه العلّامة:
إنّ احترام اسم الله يكون بنشره وإشاعته، لا بكتمانه وإخفائه.
ثمّ يحتدّ النقاش إلى أن يلتفت الحضور
إليهم؛ فالعلّامة مصرٌّ على قوله وذاك منكر.
حتى قال له ذاك العالم: إنّ انتشار هذا الاسم موجب لهتك الحرمة، لأنّه سوف يقع في يد أيّ إنسان، وقد يتّفق وقوعه على الأرض. فأجابه المرحوم العلّامة:
يجب أن ينتشر اسم الله، وعلى كلّ شخص أن يحافظ على وظيفته في ذلك، وأمّا أنّ هذا الاسم سوف يقع في يد غير المسلمين فليس دليلًا على حرمة نشره، ألمْ يرسل النبي الأكرم رسائل إلى غير المسلمين من النصارى واليهود والزردشت؟
فقال له ذاك الشخص: كان هؤلاء يحترمون هذه الرسائل ولا يهينوها، فأجابه المرحوم العلّامة:
أليس تمزيق خسرو پرويز ملك الفرس لرسالة رسول الله موجباً للهتك؟
فقال هذه قضيّة واحدة لا يقاس عليها، فأجابه:
لا علاقة لحرمة المسألة بوجود قضيّة واحدة أو قضايا متعدّدة، فهل يحترق قلبك على حرمة اسم الله أكثر من رسول الله؟
وعند ذلك توجّه إليه وخاطبه:
أريدُ أنْ أسألك سؤالًا:
ألا تنزعج إذا كنت تتكلّم على المنبر، وشخصٌ تحت المنبر يدخّن النارجيلة؟
قال وكيف لا! فعندها قال له:
إنّ القارئ يقرأ القرآن وأنتَ مشغولٌ بتدخين النارجيلة! فهل كلام الله تعالى أحطّ قدراً وأنزل وأقلّ قيمة من كلامك، حتّى تتعامل معه بهذا القدر من عدم الاعتناء، وتتكلّم بهذا الكلام وتشتغل بتدخين النارجيلة وتُقَرْقِر بها؟ إذاً، لا تتكلّم بكلام الدفاع عن الإسلام وحرمة ذكر اسم الله، ولا تكن أكثر حناناً من الأمّ، وليس من الضروري أن يحترق قلبك بهذا الشكل على الإسلام، فللإسلام أناس أحنّ و ...
فعند ذلك تقدّم أحد المعمّمين القريبين منه وقال للمرحوم العلّامة الطهرانيّ: اعلم أنّه لا يوافقك أحد على هذا الرأي، سوى آية الله السيّد أحمد الخوانساري، لذا لا تصرّ على كلامك هذا، فلا فائدة من ذلك.
انتسابِ الكلمة المعروفة" إنّما الحياة عقيدة وجهاد" إلى سيّد الشهداء غير سديد
ونظير هذا الذي حدث مع المرحوم العلامة من تحفّظه على ثوابت المذهب وغربلة الصحيح من السقيم، قد اتفق للمرحوم آية الله المطهري – رحمة الله عليه – وذلك أثناء أحد منابره حيث كان قد صرح قائلاً:
" إنّ نسبة هذه الجملة (إنّما الحياة عقيدة وجهاد) إلى سيّد الشهداء عليه السلام ليست صحيحة، لأنّه إنْ كان المقصود من الحياة؛ الحياة الدنيوية، فلا تتناسب مع
المحمول، وإنْ كان المقصود منها الحياة الأخرويّة والحياة الطيّبة والمرضيّة عند الله، فلازمه وجود عقيدة صحيحة وواقعية موصلة إلى الكمالات والغايات الإنسانيّة، لا كلّ عقيدة مهما كان انتماؤها ولو كانت منبثقة عن مدارس إلحاديّة أو علمانيّة، وإلا فأولئك لديهم عقائد وأهداف أيضاً، وكثيراً ما تكون ظاهرة بمظاهر جذّابة ومقبولة عند العوام. وكلمة (عقيدة) نكرة لا تدلّ على نوع العقيدة أو على مدرسة خاصة".
هذا الكلام متين جدّاً، وخطاب شامخ للغاية، وذلك لأنّ ما هو ممضى في الإسلام ومرضيّ عنده، هو انطباق أعمال الناس وأفعالهم على الموازين الشرعيّة والأوامر الإلهيّة، والاعتقاد بالمبدأ والمعاد وبعثِ الرسل وإنزال الكتب، والحشر والنشر والعالم الأخروي، وسائر المباني والأصول الموضوعة في الشرع المبين. فقد قرنَ القرآن الكريم في جميع المواضع بين العملِ الصالح والإيمان بالله ورسوله، حيث قال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا۱. وواضحٌ جدّاً أنّ مجرّد الاعتقاد بمدرسة غير توحيديّة، ولو لسبب وجيه، لن يكون أمراً ممضى شرعاً.
وكذلك ينسب بعضهم هذه الجملة المعروفة للخطيب المصري (إن كان دين محمّد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني) إلى سيّد الشهداء عليه السلام، وهذه العبارة وإن كانت مناسبة، إلا أنّ انتسابها إلى الإمام عليه السلام مسألة أخرى. ومن الأمور التي كانت موجبة للاختلاف من وقت لآخر، هي اهتمامه برؤية الهلال وأحكامه الفقهيّة الخاصة في ثبوت بداية الشهر وترتّب آثاره الشرعيّة، وكان هذا مدعاة للحديث هنا وهناك. فمع الالتفات إلى عدم حجيّة قول المنجّم والفلكي، لم يكن المرحوم العلّامة الطهرانيّ يحكم بدخول شهر رمضان وترتّب آثاره وأعماله المختصّة، إلا بالرؤية أو بالعلم بالرؤية أو بقيام دليل شرعي متين على ذلك، وكذا الحال في دخول شهر شوّال والحكم بالإفطار. وفي كثير من السنوات كان يقيم الأعمال اليوميّة لشهر رمضان متأخراً عن المساجد الأخرى للسبب ذاته، حتّى أنّه كان يحيي ليالي القدر متأخّراً عن بقيّة المحافل الأخرى، وهذا ما أدّى إلى اعتراض الكثير من العلماء وأئمّة الجماعات، باعتقادهم أنّ هذا الأمر يتنافى مع الوحدة والاجتماع وحفظ حدود رجال الدين. لكن لم تكن هذه العناوين لتنال من إرادته واهتمامه بالعمل بالمباني وإنجاز الأحكام الفقهيّة المستنبطة، وبقي مستمرّاً على طريقته هذه. وهذه الاستقامة والتشدّد في
إعمال الأصول لم تكن في أواخر إقامته في طهران فقط، بل إنّه منذ هجرته إلى طهران وإقامته صلاة الجماعة في مسجد القائم جعل هذا المنهج والطريق نصب عينيه، ولم يكن ليتجاوزه أبداً.
تأكيد العلّامة على ضرورة رؤية الهلال لترتيب الأحكام الشرعيّة وعدم اعتنائه بالتقويم
وفي سنة من السنوات أثناء إقامته في طهران -وفي حياة المرحوم آية الله العظمى البروجردي رحمة الله عليه- لم يُر هلال شهر شوّال، فبناء على المباني الشرعيّة حكم ببقاء شهر رمضان ولم يذهب إلى المسجد لصلاة العيد. وفي ذاك اليوم نُقل أنّ أحد العلماء المعروفين في طهران تناول المفطر أمام الملأ، ممّا حمل بقيّة المساجد في طهران على إعلان الإفطار، وقد تمّت مراجعة العلّامة الطهرانيّ في هذا الصدد وطُلب منه إعلان دخول شهر شوّال، لكنّه نفى هذا الأمر بشدّة وحكم ببقاء شهر رمضان، ولم يقبل العدول عن رأيه حتّى مع إصرار أطراف متعدّدة على ذلك. وحيثُ أنّ رؤية هلال شوّال لم تكن ثابتة عند المرحوم آية الله العظمى البروجردي -رضوان الله عليه- ولم يعلنْ دخول الشهر، فقد تلقّى ضغوطاً شديدة، وكانوا يرسلون إليه البرقيات المتوالية التي تحكم بدخول شهر رمضان، لكنّه لم يرضخ لجميع هذه الضغوط إلى أن استمرّ ذلك حتى الساعة الخامسة بعد الظهر، وعندها أُبلغ السيّد البروجردي بأنّه إذا لم يحكم بدخول شهر شوّال والإفطار -مع التوجّه إلى عملِ ذاك العالِمِ
وإشاعةِ فعله بين الناس- فإنّه لن يبقى للإسلام كرامة. فعندها حكم المرحوم آية الله البروجردي مضطرّاً بدخول شهر شوّال، وبما أنّ العلّامة الطهرانيّ يعتبر حكم المجتهد نافذ وواجب الاتّباع، فقد حكم أيضاً بالإفطار وأقام صلاة العيد.
وكان العلّامة يعتمد بشكل عام على خصوص التاريخ الهجري القمري في تواريخه، وهو التاريخ الثابت بدايته ونهايته على أساس الرؤية، وكان يطرح هذه المسألة ويصرّح بها كثيراً خلال إقامته في طهران، ولم يكن يعتدّ أو يعتني أبداً بالتقويم والحسابات الفلكيّة.
الفصل السادس: الشخصيّة السياسيّة ومشروع إيجاد الحكومة الإسلاميّة
من الأمور التي كانت تشغلُ بالَ العلّامة الطهرانيّ وفكره دائماً، مسألة تشكيل حكومة إسلاميّة، فكان يطرح هذه المسألة دائماً في جلسات العلماء والمحافل الخاصّة والعامّة، كما أنّه طرحها عندما كان في النجف على الجامعة العلميّة هناك، وتكلّم عنها بإلحاح وتأكيد في بحث صلاة الجمعة للمرحوم آية الله الشاهرودي، وقال بوجوب إقامة هذه الفريضة الإلهيّة وعقد صلاة الجمعة في زمن غيبة إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف في إطار الحكومة الإسلاميّة، وحرّر رسالة استدلاليّة مبيّنة حول هذا الموضوع، وقدّم لها المرحوم آية الله العظمى الحاج آغا بزرگ الطهرانيّ -رحمة الله عليه- وهي موجودة فعلًا في مكتبته.
وكان يقول:
عندما عدتُ إلى إيران كانَ جلّ اهتمامي وسعيي منصبّاً
على تربية النفوس المستعدّة وهداية الناس نحو الاهتمام والنظر بمباني الحكومة الإسلاميّة.
وكانت جميع أحاديثه في خطبه ومواعظه وجلساته ليلة الثلاثاء في مسجد القائم والجلسات الدوّارة يوم الجمعة، تدور حول ضرورة تشكيل حكومة إسلاميّة، وإخراج جراثيم الكفر والنفاق من البلاد الإسلاميّة والشيعيّة. وكانَ جهازُ الأمن يراقب تلك الجلسات والخُطب بشدّة، لذا كان العلّامة ينتخب القرّاء المشهورين لإحياءِ المناسبات بشكلٍ مدروس، وفي مناسبات مختلفة كان يدير المجلس بنفسه، وكان يضع على بطاقات المعايدة التي توزّع في المناسبات عبارات تفيد هذا المعنى. وفي إحدى السنوات في عيد النصف من شعبان، وبمناسبة ولادة بقيّة الله الأعظم أرواحنا فداه، كتبَ جزءً من دعاء الافتتاح على بطاقات المعايدة، وهي العبارة التالية؛ اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة ...
وفي بعض الأيّام صرّح المهندس مهدي بازرگان في جلسةٍ بقوله:
" عندما كانت جميع الأصوات خافتة وتمام الحركات نائمة، الصوتُ الوحيد الذي كانَ يدوّي، كان يصدر من مسجد القائم".
ويقول آية الله الحاج الشيخ صدر الدين الحائري الشيرازي دامت بركاته:
" عندما قامت ثورة سنة (۱٣٤٢)، كثرت الجماعات المنحرفة، وخوفاً من تسلّل هذه الجماعات إلى صفوف الأمّة الإسلاميّة في إيران، طلبَ آية الله الخميني -رحمة الله عليه- من الحاج السيّد محمّد حسين (العلّامة الطهرانيّ) أن يتولّى مسؤوليّة حفظ هذه الحركة، بحيث صار يجب على كل من يريدُ الدخول في نشاطات هذه الثورة المقدّسة -سواء كانَ من العلماء أو العوامّ- أن يدخل من خلاله، ويُزانَ من خلال شخصيّته ويعبر من هذا المكان الصافي؛ حتّى لا تتورّط الثورة الإسلاميّة بحوادث غير مدروسة وتبتلى بمصائب قطّاع الطرق".
وكان يقول:
" إنّ العلّامة الطهرانيّ بمثابة الحجر الأساس في هذه الثورة، لكن للأسف هذه مطالب لم يطّلع عليها أحد".
كان المرحوم العلّامة الطهرانيّ يرى أنّ الثورة الإسلاميّة هبةً إلهيّةً للأمّة الشيعيّة الاثني عشريّة في إيران، وكان يقول:
يجب على الناس أن يعرفوا قَدَرَ هذه الهديّة الإلهيّة، ويتلقَّوها بشكلٍ جيّد؛ فيعملوا على تقوية النقاط الإيجابيّة، ورفع السلبيّات وإصلاحها.
المرحوم العلامة كانَ يرى أنّ الثورة الإسلاميّة موهبة إلهيّة لجميع الأمّة الشيعيّة
وكان يشارك شخصيّاً في كثير من المظاهرات، كما أنّه شارك في جميع الانتخابات، سواء عندما كان في طهران أو بعد تشرّفه بالذهاب إلى ساحة القدس الرضويّة. وعند
الاستفتاء الشعبي على إقامة جمهوريّة إسلاميّة في إيران كان في طليعة الحاضرين في مسجد القائم صباحاً وبقي إلى ساعة متأخّرة من الليل يراقب سير الانتخابات، وعند وضعِ ورقة التصويت في الصندوق قال:
لقد دُفن النظام الشاهنشاهي تحت التراب إلى الأبد.
ينبغي التأمّل في هذه المسألة؛ وهي أنّه عندما فرّ الشاه محمّد رضا بهلوي من إيران إلى مصر، آلت المسائل الجارية في إيران إلى فوضى في النظام السياسي فضلًا عن القلقِ الناتج عن دسائس دول الكفر، وهو ما أبقى أكثر الناس وجلّ كوادر الثورة حيارى. وصار لدى الناس خوف حقيقي من احتمال حصول انقلاب على الثورة، وحصول مجازر عامّة تُرتكب بحقّ الناس العزّل وتؤدّي إلى ذهاب الكيان الإسلامي، وبشكل عام أدّى التخوّف من اتّحاد جميع الدول الإلحاديّة والظالمة مقابل أمّة إيران المظلومة، إلى تسرّب القلق لأذهانِ القيّمين على الثورة الإسلاميّة. ففي أحد الأيّام التقى به أحدُ رفقائه وكانَ قلقاً شديدَ الاضطراب، وأبدى توقّعه وتخوّفه من حصول انقلاب على الثورة برعايةٍ أمريكيّة في القريب العاجل، تُراق فيه دماء الناس ويُعاد الشاه المخلوع. فأجابه بلسان قاطع وجواب حاسم:
اعلم أنّ الشاه لن يعود إلى إيران أبداً، ولن يحصل أيّ شيء آخر.
وكان يقول:
علينا أنْ نحافظ على دماء شهدائنا المظلومين بمنتهى طاقتنا، ولا نقصّر في ذلك أبداً.
وكان يرى وجوب رعاية القوانين الحكوميّة، ويعتبر مخالفتها حراماً شرعاً، كما أنّه كان يرى وجوب الالتزام بمقررات شرطة السير، باعتبار أنّها تنشأ من الناحية الولائيّة لمقام الفقيه، وكان يقول:
عليكم أنْ لا تتأخّروا في دفع فواتير المياه والكهرباء وغيرها، ويجب الحفاظ على صندوق الدولة الإسلاميّة وإبقائه مملوّاً وغنيّا.
وكان يشارك في صلاة الجمعة من أوّل تشكيلها في طهران إلى حين انتقاله منها، وحينما تشرّف بالإقامة في المشهد الأقدس، بقي يشارك في صلاة الجمعة إلى أن منعه الأطباء من الذهاب. وكان يُقال له أحياناً:
إنّهم يُخضعوك للتفتيش حين ذهابك إلى صلاة الجمعة، وهذا يستوجب هتك الاحترام! فكان يجيبهم:
المشاركة في صلاة الجمعة واجبة، وهذه الأمور لن تستدعي رفع اليد عن الوجوب، وإذا كان قصد الإنسان
القربة، وميمّماً وجهه نحو مرضاة الله، فأيّ مشكلة في هذه المسائل!.
وقال يوماً:
كمْ هو مناسبٌ أنْ تقرأ كلمات رسول الله التوحيديّة حين فتحه مكّه
إنّ حكم الشاه البهلوي كانَ في الواقع حكمَ الكفر، وحكومته كانت حكومة كفر، أما الثورة الإسلاميّة فهي حكومة التوحيد والعدل والولاية والإسلام والتشيّع، هي حكومةٌ تَرفعُ لواءَ لا إله إلا الله، وتلغي أصنامَ الكفر والإلحاد، الشرقيّة والغربيّة، وتحوّل الناس من التوجّه إلى الشرق الملحد والغرب الكافر نحو الرضى الإلهي ومراتب التوحيد العالية. وبناء عليه، فكان من المناسب عندما سقط الشاه، وتولّت الحكومة الإسلاميّة الأمور وصارت الإذاعة بيد الأمّة الإسلاميّة، أن يُعمل بدلّا من بثّ الأناشيد، على بثّ الكلمات التوحيديّة لرسول الله عندما فتحت مكّة حيث كان أمير المؤمنين عليه السلام يرمي الأصنام من ظهر الكعبة ويهلّل قائلًا:" لا إله إلا الله إلهاً واحداً ونحن له مسلمون، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إيّاه مخلصين له الدين ولو كره المشركون، لا إله إلا الله ربّنا وربّ آبائنا الأولين، لا إله إلا الله وحده وحده وحده، صدق عبده، وأنجز وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فله الملك وله الحمد، يُحيي ويُميت و يُميت ويُحيي، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شئ قدير".
نعم، هكذا كان نظره واعتقاده بالنسبة إلى الحكومة الإسلاميّة والثورة الإسلاميّة في إيران.
وبقي العلّامة الطهرانيّ مدّة اثنين وعشرين عاماً في طهران مشغولًا بالإرشاد والإفاضة على المستعدّين، وتعليم الأفواج من الطلّاب ومحصّلي العلوم الدينية، وتربيتهم على الأسس العرشية لمدرسة الإمام الصادق عليه السلام، ومباني وحقائق علوم أهلِ بيت العصمة والطهارة، إلى أن وفّقه الله تعالى بعد نجاح الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة إلى الهجرة، لاثماً العتبة الملكوتيّة لساحة ثامنِ الحجج علي بن موسى الرضا عليهما السلام، وهاجر إليه بقصد التوطن الدائم والإقامة في ديار المحبوب.
الفصل السابع: الهجرة إلى مشهد والشروع بالتأليف
بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، سعَى العلّامة الطهرانيّ جاهداً إلى العمل على تثبيتِ المباني الإسلاميّة وإحكامها بشكل راسخ ومتين، وقال مِراراً:
لقد رأينا كيف قدّم هؤلاء الناس دماءهم وأرواحهم وأموالهم وبذلوا كلّ ما لديهم للإسلام، أليس من الواجب علينا أنْ نأخذ بأيدي هذه الأمّة المضحّية، ونُطلعها على المباني الإسلاميّة الأصيلة؟! أوَلا ينبغي علينا القيام بوظيفتنا الأساسيّة، من إِحياءِ السنن الإسلاميّة وإِرساءِ ثقافةِ الإسلام الحقيقيّة والواقعيّة، والتي تمّ نسيانها عبرَ سنين الحكم الجائر في عهد الشاه البهلوي؟!
وقال يوماً لأحد أرحامه:
وجدنا أنّ الناس بعد الثورة ليس لديهم الإطلاع الكافي على الإسلام، لذا رأيتُ أنّ الوظيفة الشرعيّة عليّ تقضي بالقيام بهذه المهمّة الاستثنائيّة في محافظة الإمام علي بن
موسى الرضا عليهما السلام، وأداء الدَّيْن الذي بعهدتي للأمّة الإسلاميّة.
لذلك، فقد شرع بتأليف دورة العلوم والمعارف الإسلاميّة، من حين هجرته إلى مشهد، ولثمه العتبة المقدّسة لحريم القدس الرضويّ صلوات الله وسلامه عليه. والله تعالى وحدَه الذي يعرف كمْ أعطى من اهتمام وسعي عظيم لهذا المشروع، وقد نشر آثاره الباعثة للحياة، بعيداً عن الطمع في حطام الدنيا والنظر إلى كلّ دنيّة، والحال أنّه كان مبتلى بشتّى أنواع المرض والبلاء؛ كانسداد مجاري المرارة وإجراء عمليّة جراحيّة لها، وتمزّق شبكية العين وإجراء عمليّة الماء الزرقاء، والإصابة ب" ديسك" في الظهر، وارتفاع ضغط الدم، والإصابة بروماتيزم المفاصل، وحصول ذبحة قلبيّة، وغيرها من الأمراض.
وقد قال له أحد أطبّائه يوماً:
قلّلْ من وقت عملك بعض الشيء، لحساب الاستراحة والترفيه، فأجابه:
إنّي على استعداد لفقد جميع أعضائي وجوارحي، لكنّي غير مستعدّ لتقليل سطر واحد ممّا أكتبه.
وقال يوماً:
قد استهلكت جسمي بمقدار أربعة أضعاف عمري.
لكن جميع هذه الأمور؛ من الاشتغال بالتأليف، وتنظيم الأمور، وتربية سالكي سبيل الله والسائرين في طريق السلام، وحلّ مشاكل المريدين ورفقاء طريق الله، لم يكن أيٌ منها باعثاً على التخطّي عن نَظْمِهِ الدقيق وتنسيق أموره على الوجه الأكمل والأتمّ، وتربية أطفاله وأحفاده. وفي ظلّ استغراق جميع أوقاته بالأمور العامّة، كان يقضي ما لا يقلّ عن ساعتين في الأذكار والأوراد والأربعينيّات المتواصلة والمستمرّة، هذا مضافاً إلى التهجّد والجلوس من منتصف الليل حتى شروق الشمس.
تعريف إجمالي لمؤلّفات العلّامة الطهراني
وكان يعتقد بوجوب الحفاظ على إيجابيّات الحكومة الإسلاميّة ودعمها وتقويتها، والعمل على إصلاح الجوانب الفاسدة وترميمها، وكانَ يوصي بشدّة على المشاركة في صلاة الجمعة، ويرى وجوب إطاعة حاكم المسلمين فيما لو لم يكن حكمه متعارضاً مع أمر مسلّم ومعلوم، وأما في غير هذه الحالة، فكان يرى أنّ طريق الصواب هو مراعاة الاحتياط وعدم معارضة الحاكم.
فَرَغَ في فترة إقامته في مشهد المقدّس من تأليف عدّة كتبٍ قيّمة، وهي عبارة عن:
معرفة الإمام: يتناول هذا الكتاب البحثَ في حقيقة ولاية الأئمّة المعصومين عليهم السلام وكيفيّة معرفتهم، ووجوب تولّي الأعلم من الأمّة زعامةَ المجتمع البشري،
وربط عالم التكوين بنظام التشريع، وتربية النفوس بواسطة النفس الملكوتيّة للإمام عليه السلام، وخلود كلام المعصوم عليه السلام إلى يوم القيامة، لاتصال نفسه بمبدأ الوحي والتشريع، وعدم موت كلام الإمام عليه السلام بوفاته بل يبقى إلى الأبد، لأنّ كلامه ليس منبعثاً من جسمه وبدنه، بل ينشأ من نفسه الراسخة والممزوجة بمعارفِ عالمِ التكوينِ والتربية وحقائقهما، ثمّ يجري على لسانه دون أيّ تصرّف من ناحية النفس البشريّة المختلطة دائماً بالصحيح والسقيم والاشتباه والخطأ والجهل، لذا ليس في هذا السبيل اضمحلال أو ضمور، بل كلام الإمام عليه السلام حجّة بذاته سواء كانَ حيّاً أو ميّتاً، ولا يمكن لأحدٍ أن يدّعي هذه المرحلة من الحجيّة لنفسه، فالمجتهدُ تذهب فتواه ويموت حكمه بموته، ويصير كسائر الناس. كما تناول البحث في مواضيع أخرى كثيرة، وقد أنهاه في ثمانية عشر مجلّداً.
معرفة المعاد: وهو يبحث في كيفيّة انتقال الإنسان من عالم المادّة إلى عالم المعنى ومعرفة أحوال البرزخ وتطوّراته والحشر والنشر وتطاير الكتب وكيفيّة المعاد، والإجابة عن الشبهات المطروحة حولها.
أنوار ملكوت القرآن: وهو عبارة عن مجموعة أبحاث حول الحقائق النورانيّة والراقيّة للقرآن المجيد، وكيفيّة
الاهتداء بالقرآن في جميع المعضلات والمشاكل الأخلاقيّة والسلوك البشري.
ولاية الفقيه في حكومة الإسلام: يبحث في هذا الكتاب بشكل مفصّل نسبياً عن كيفيّة الحكومة الإسلاميّة باعتبارها أفضل أنواع الحكومات في العالم، كما يبحث حول لزوم كون الفرد الأعلم من الأمّة هو المتصدّي لزعامتها.
توحيد علمي وعيني: وهو في إثبات نظريّة تشخّص الوجود وردّ مسألة التشكيك، وفي هذا الكتاب يدعم المباني الفلسفيّة والعرفانيّة للعارف المشهور المرحوم الحاج السيّد أحمد الكربلائي مقابل الآراء الفلسفيّة للحكيم المتألّه المرحوم الحاج الشيخ محمّد حسين الأصفهاني رضوان الله عليهما.
رسالة جديدة: وقد أكّد في هذا الكتاب على لزوم بناء الإسلام على الشهور القمريّة، وأرجع العلّامة الطهرانيّ أسباب تبديل التاريخ من الهجري إلى الشمسي ومنها إلى الشاهنشاهي إلى الاستعمار والأيادي الخفيّة من خارج إيران.
طبعاً، لا يخفى أنّه يستحيل الرجوع إلى التاريخ القمري في كثير من المسائل المرتبطة بتاريخ قطعي ومعيّن، وهذا ما يستدعي الاعتماد على تاريخ معيّن وواضح لهذه الأمور، وذلك لأمرين:
أحدهما: أنّ شروع ودخول الشهر الهجري هو بواسطة رؤية الهلال، والحال أنّه لا يوجد أيّة ضابطة محدّدة في تعين ذلك، حيث -كما هو مبنى الشرع- أُخذت رؤية الهلال شرطاً أساسيّاً في دخول الشهر، وهو ما يوجب طروء الشك وعدم الجزم بحسابات التقويم.
والثاني: إنّ نفس الرؤية تستوجبُ اختلاف دخول الشهر من مكان لآخر، بسبب كرويّة الأرض.
كذلك بالنسبة لما يتعلّقُ بتنظيم ساعات اليوم، حيث يرى أنّ بداية أيّ يوم إنما تشرع من الساعة الأولى من الليل الفائت، لذلك كان يرى أنّ ضبط الوقت والساعات بواسطة استعمال الساعة الغروبية أفضل منه بواسطة الساعة النهارية، لوجود محاسن كثيرة ومرجّحات متعدّدة لا توجد في الساعة النهارية، ويجب التذكير هنا بأن المطلب المذكور في مسألة التاريخ القمري ولزوم الاعتماد على تاريخ مشخص لإنجاز بعض الأمور الإداريّة وغيرها، يجري هنا في مسألة تحديد الساعة بشكل أولى.
وكان يظهر حساسيّة عالية من تغيير المصطلحات العربيّة -المتداولة في اللغة الفارسيّة- بكلمات فارسيّة، وكان يعتبر أنّ هذا المشروع يهدف خلال فترة معيّنة إلى محو الإسلام وقطع صلة الأمّة الإسلاميّة بالمتون الدينيّة، كما حصل في
تركيا. وكان يرى أنّ هذه المسألة فاجعة على الأمّة الإسلاميّة في إيران، وأرجع هذه القضيّة أيضاً إلى أيادي أجنبيّة، كما هو الحال في قضيّة تبديل التاريخ.
كما أنّه في مسألة تحديد النسل، كان يصرّح بوجود عوامل خارجيّة كانت هي المحرّك الأساسي والمسبّب لهذه الحركة المخالفة والمذمومة والمدمّرة لوجود الأسرة في المجتمع الإسلامي، وكان يواجهها بشدّة، وقد كشف بعض الدواعي التي تقف وراء هذا المشروع في كتاب (تحديد النسل ضربة قاضية على المسلمين).
ومن مؤلّفاته الأخرى: مذكّراته مع الأستاذ العلّامة الطباطبائي، باسم (الشمس الساطعة)، وكذلك كتابه الآخر حول السيّد الحدّاد باسم (الروح المجرّد)، وكان يقول في سبب تأليف الروح المجرّد:
إلى متى ستبقى هذه الحقيقة غامضة لا يطّلع عليها أحد، وقد سعيت في هذا الكتاب إلى نقل نزرٍ يسير من المطالب التي يمكن بيانها من حياته.
وله كتاب حول بعض الخطب والروايات الواردة عن سيّد الشهداء عليه السلام، مع ترجمتها إلى الفارسية، باسم (لمعات الحسين)، وله كتاب حول السير والسلوك باسم (لبّ اللباب)، وغيرها من الكتب الأخرى من قبيل: (رسالة السير
والسلوك المنسوبة إلى بحر العلوم) و (رسالة بديعة في تفسير آية: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا و (رسالة حول مسألة رؤية الهلال) و (وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام) و (نظرة في مقالة قبض وبسط نظريّة الشريعة للدكتور عبد الكريم سروش)، وآخر كتبه كتاب (معرفة الله) الذي كان من المقرّر أن يصل إلى عشر مجلدات تقريباً، لكنّه بعد إتمام الجزء الثالث لم تَسمح له المشيئة الإلهيّة بإدامة التأليف.
من الملاحظ أن القارئ لمؤلفاته، يلمسُ وجودَ روحِ الحياة في قلمه، وارتباط تلك المعاني والمطالب بالضمير والحقيقة الكامنة في نفس الإنسان، فيأنسُ ويرى نفسه حاضراً في القضايا التي يقرؤها، وربما يشاهد وحدة بين الوجود الذهني وما بازائه الخارجي، حتىّ كأنّ العلّامة الطهرانيّ هو الذي يُلقي هذه المعارف من قلبه ولسانه، لذا لا يشعر القارئ بالملل أبداً، بل إنّ تكرار القراءة موجب لانبساط الروح ومضاعفة نشاط النفس.
يلحظُ القارئ أنّ مؤلفات العلّامة تبعثُ في نفسه روح الحياة والانبساط
وكذلك كان السيّد الحدّاد يقول:
إنّ السيّد القاضي -رضوان الله عليه- قال: قرأت ديوان «مثنوي» ثماني مرات من أوّله إلى آخره، وفي كل مرّة أقرأه كنت أقف على مطالب جديدة وأفق جديد.
ونحن نشعر كذلك في أشعار حافظ وبعض الكتب الأخرى، وفي درجة أرقى نشعر بذلك من كلمات المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، وفي آخر مرتبة وأعلاها من كلام الله المجيد.
لم يهدأ العلّامة الطهرانيّ لحظة واحدة تمام مدّة إقامته في مشهد، بل أمضى جميع وقته في تأليف الكتب وإلقاء البيانات الحكيمة والإرشادات العرفانيّة، وكان يُحيي -على مدار السنة- مناسبات ولادة المعصومين عليهم السلام ووفيّاتهم، بإقامة مجالس الوعظ والإرشاد، وفي كثير من الأحيان كان يُتحفُ قلوبَ السامعين بمواعظه العرشيّة.
ودائماً كان يرى نفسه مديوناً للإسلام والنبي وأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، وكان لديه حِسّاً لا مثيل له بالنسبة لإحياء مدرسة أهل البيت عليهم السلام وحفظ حدود الإسلام ومقدّساته، ولم يكنْ يرى نفسه شيئاً مقابل الإمام عليه السلام والساحة المقدسة للأئمة المعصومين، وكان يقول:
يجب أن لا نحطّ من شأن الأئمّة عليهم السلام عبر أذواقنا الخاصّة و -لا قدّر الله- بأهوائنا النفسيّة.
كانَ العلامة الطهرانيّ يرى أنّ الذكرى السنويّة للأموات أمرٌ مختصّ بالإمام عليه السلام، وأنّ إقامة الأربعين من مختصّات سيّد الشهداء عليه السلام، ولم يكن يرى جواز
إقامتها لغيره. وبالنسبة للإعلانات في المجتمع كان يقول: علينا أنّ نستفيد من كلمات الأئمّة المعصومين عليهم السلام بدلًا من الشعارات وكلمات العلماء الكبار، لأنّ كلّ ما لدينا هو من الأئمّة، وينبغي أن لا تؤثّر كلماتنا -لا سمح الله- سلباً على كلمات المعصومين عليهم السلام، وتؤدّي إلى التقليل من إشراقها وضياع قيمتها.
لقد أدّى سلوكه الحسن وجاذبيّته الأخلاقيّة والاجتماعيّة التي كان يتمتّع بها -مضافاً إلى إحاطته وإشرافه بزوايا نفوس الأفراد وإمكانيّة الوصول إلى كنه واقعيّتهم- إلى تأثّر الكثير من الناس بخُلقه الكريم وآثاره الوجوديّة. وكان يخاطب كلّ إنسان بمقدار سعته وظرفيّته على ما يقتضيه حاله، فكأنّه مسْتولٍ على تمام وجوده، وكأنّ المخاطب واضع نفسه تحت قدرته الولائيّة.
وكان يؤكّد في تمام كلامه على خدمة الناس ومداراتهم، والإيثار والإعراض عن الدنيا وشراك الشيطان، ونشر المحبّة والصفاء بين الأصدقاء والرفقاء والأخلّاء الروحانيّين، والمحافظة على المودّة والمحبّة داخل الأسرة. وكانَ يقول:
إنّ الأسرة اليهوديّة التي تعيش بمحبّة وأنس وودّ، أقرب إلى الله من عائلة تُعتبر من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام تعيش بصراع دائم وكدورة، كما أنّ الممرّض المسيحي
في المستشفى الذي يخدم المرضى بأحسن وجه طلباً لرضا الله، هو واقعاً من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، بينما ذاك الممرّض الشيعي الذي يتعامل مع المرضى بعنف وقسوة ويكسر قلوبهم، فهو بعيدٌ عن ممشى أمير المؤمنين عليه السلام وسنّته.
من خصائص العلّامة الطهراني خدمة الناس وإيجاد المحبّة ونشر الصفاء بين الأفراد
كان العلامة الطهراني يرى أنّ سوء الظنّ بالأخ الإيماني والكدورة بين الأخوة، تهدم الطريق الإلهي وتُسقط الإنسان وتمنعه من الرقيّ والقرب، وعلى العكس من ذلك، لا بدّ من الاهتمام برفع الكدورات وإيجاد الألفة والودّ بين أفراد الأسرة وسائر الأصدقاء، دون أن يعمدَ إلى انتقاد القريب والبعيد، فالسلوك الإلهي أرقى من الأفكار القاصرة، وأنبلُ من القوقعة على الذات، وحصره بطبقة عاجيّة مخمليّة!! ليقوموا إلى فرز أنفهسم عن بقيّة خلقِ الله، فيتخيّلون أن حريم العالم القدسي الإلهي ملكاً شخصيّاً لهم، ويخالون أنّ مبدأ الوجود كالإماء والعبيد في خدمتهم!!
وكان يقول:
إنّ الكثير من المتلبّسين بلباس الدراويش والصوفيّة لديهم قلبٌ صاف وطريق واضح ومدركات صحيحة، إلّا أنّ طريقنا يختلف عن طريقهم
وكان يعارض العلماء والفقهاء الذين يتعرّضون لهؤلاء
بجهلهم وعدم علمهم بالواقع، وكثيراً ما كانوا يقتلونهم أو يُصدرون فتاوى بتكفيرهم. وكان يقول:
كلّ من يخطو خطوة في مسير الرضا الإلهي فهو سالك في تلك اللحظة، وكلّ سالك يقوم بأعمال مخالفة توجب سخط الرحمان وسرور الشيطان، فهو عدوّ للَه ونهجه.
وبعد هجرة العلّامة الطهرانيّ إلى مشهد بأمر من أستاذه السيّد الحدّاد بخمس سنوات، فقدَ مرادَه وكعبةَ مقصوده وأستاذه الذي لا بديل له؛ السيّد الحدّاد، وكانت مدّة استفادته من المرحوم السيّد الحدّاد -رضوان الله عليه- ثمانية وعشرين عاماً بالضبط، وهي الفترة بعينها التي استفاض فيها السيّد الحدّاد من أستاذه المرحوم السيّد علي القاضي الطباطبائي.
الفصل الثامن: غربته وعدم معرفة شخصيّته
إنّ عظمة هذا الرجل العظيم وتعالي نفسه القدسيّة، بلغتْ حدّاً لمْ يستطعْ أحدٌ من تلامذته ومريديه أنْ يطّلع ولو بمقدار ذرّة على تلك الدائرة الغامضة من حياته فيما يتعلّق بسوابقه وخصوصيّاته الشخصيّة التي لا يمكن بيانها، فالكلّ عضّ أنامله ندماً وتحسّراً، وأطرقَ رأسه في كنف الحيرة والدهشة، ولسان حاله:
عنقا شكار كس نشود دام بازچين | *** | كآنجا هميشه باد بدست است دام را۱ |
وقال السيّد الحدّاد يوماً لأحد أولاده:
اعلم أنّه ليسَ على وجه الأرضِ شخصٌ مثلُ أبيك.
وكان يقول:
إنّ السيد محمّد الحسين سيّد الطائفتين، علماء الظاهر، و علماء الباطن.
وقد أمضى الستّة عشر عاماً الأخيرة من عمره، مجاوراً العتبة الرضويّة المقدّسة سلام الله على صاحبها، والله وَحده الذي يعلمُ كمْ من الفيوضات والعنايات جرت عليه في تلك الساحة الملائكيّة.
ها هو العلّامة الطهرانيّ قد وفدَ إلى هذه الدنيا وأقام فيها بضعة أيّام ثمّ عَرجَ إلى الملكوت الأعلى، والحال أنّه لم يعرفه أحد، حتّى المقربون منه لم يعرفوه جيداً.
وبعد سبعين سنة من عمره، المليء بالبركة، جرّاء بعض الأمراض القلبيّة، خلعَ لباسَ البدن البالي، وتلبّس بخلعة التجرّد والغفران في التاسع من صفر سنة ۱٤۱٦ هجري قمري، ودُفن بجوار مرقدِ مولاه عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام.
نعم، لقد رحل العلّامة الطهرانيّ، آخذاً معه جميعَ ملَكاته الرحمانيّة وخصائصه الملكوتيّة، ولم يُبق شيئاً، وكما قال هو بحقّ أستاذه السيّد الحدّاد:
إنّ السيّد الحدّاد ذهب، وعلينا أنْ نحملَ الشموع بأيدينا ونتبعه.
وهكذا، عشيّة فراق هذا الرجل الإلهيّ العظيم، مثالِ الصدق والبهاء والعظمة، وشمسِ الهداية المنيرة، نسألُ الله تعالى في هذا الليل الدامس، وظلام عتمة الجهل، أن لا يحرمَنا من لطفه وعنايته، وأن يوفّقنا للاقتداء بهذا الرجل الإلهي، والأخذ بتعاليمه السلوكيّة، التي تقودنا نحوَ عالم القدس، وأنْ يوفّقنا للاهتداء إلى ذاك المنبع، وبلوغ عين ماء الحياة.
وبناء على وصيّة العلّامة الطهرانيّ، فقد دُفن في الصحن المبارك للإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام، عندَ مدخل الزوّار في الطرف الجنوبي الغربي من جهة قَدمَي الإمام، فرحمةُ الله عليه رحمةً واسعة.
إنّ السيّد محمّد حسين سيّد الطائفتين؛ علماء الظاهر، وعلماء الباطن.
اي برتر از خيال و قياس و گمان و وهم | *** | و ز هر چه گفته اند و شنيديم و خوانده ايم۱ |
مجلس تمام گشت و به آخر رسيد عمر | *** | ما همچنان در اول وصف تو مانده ايم٢ |
لكن سوف يأتي يوم يُرفع فيه النقاب عن الحقيقة
الساطعة لفارس ميدان التوحيد، وساحة عرفان الحقّ، وستظهر ثمرات حياة هذا الإنسان الإلهي عبَر بريقِ مؤلفاته بشكلٍ عامّ، وعبرَ تربية تلاميذه العقلاء بطور خاصّ. وعندها سوفَ يعانقُ العالمُ الإسلاميّ هدفَهَ الأقصى .. ويبلغُ غايته القصوى .. ويعاينُ نهاية كماله، وسينمحي الكفر والنفاق من الأرض .. وسينطلقُ الجميع بصوت واحد ووجهة واحدة نحو مظهرِ الحقّ الأتمّ ومرآة الجمال المطلق، إنشاء الله.
سخن سر بسته گفتى با حريفان | *** | خدا را زين معمّا پرده بردار۱ |
اللهمّ أُعلُ درجةَ أُستاذنا ووليّنا ومربّينا والهادي إلى الحقّ صراطنا؛ المرحومِ المبرور الحاجّ السيّد محمّد حسين الحسيني الطهرانيّ، واجعلنا من سالكي سبيله والثابتين على منهجه في صراطك المستقيم، واجعلنا من الموفّقين لأداءِ شُكره والمؤدّين لحقوقه، واحشره في زمرة محمّد وعترتِهِ الأطيبين الأكرمين، اللهمّ اجعله عندَكَ في أعلَى علّيّين واخلفْ على عقبِهِ في الغابرين وارحمْنا برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.