10

تفسير الميزان ج10

تفسير الميزان ج10 16082
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة الطباطبائي

القسم القرآن والحديث والدعاء

المجموعة الميزان في تفسير القرآن


التوضيح

تعرّض العلامة الطباطبائي في هذا الجزء إلى تفسير سورة يونس كاملة و سورة هود إلى الآية 99

/۳۸٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

تفسير الميزان ج۱۰

1
  •  

تفسير الميزان ج۱۰

2
  •  

  •  

  • الميزان في تفسير القرآن 

  • الجزء العاشر

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تأليف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

  •  

  •  

تفسير الميزان ج۱۰

3
  •  

تفسير الميزان ج۱۰

4
  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تمتاز هذه الطبعة عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل

  • واضافات و تغییرات هامه من قبل المؤلف

  •  

  • ملاحظة: تم تطبيق الصفحات مع طبعة الأعلمي الثالثة المطبوعة في سنة ۱٩۷٣ م

  •  

  •  

تفسير الميزان ج۱۰

5
  • (١٠) سورة يونس و هي مائة و تسع آيات (١٠٩) 

  • [سورة يونس (١٠) : الآیات ١ الی ١٠]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْحَكِيمِ ١ أَ كَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ اَلْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ٢ إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ ٣ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اَللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ٤ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِيَاءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسَابَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٥ إِنَّ فِي اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ٦ إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَ رَضُوا بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا 

تفسير الميزان ج۱۰

6
  • وَ اِطْمَأَنُّوا بِهَا وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ٧ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٨ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ ٩ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اَللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَ آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٠} 

  • (بيان) 

  • السورة كما يلوح من آياتها مكية من السور النازلة في أوائل البعثة و قد نزلت دفعة للاتصال الظاهر بين كرائم آياتها، و قد استثنى بعضهم قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} إلى تمام ثلاث آيات فذكر أنها مدنية، و بعضهم قوله تعالى: {وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} فذكر أنها نزلت في اليهود بالمدينة، و لا دليل من جهة اللفظ على شي‌ء من القولين. 

  • و غرض السورة و هو الذي أنزلت لأجل بيانه هو تأكيد القول في التوحيد من طريق الإنذار و التبشير كأنها أنزلت عقيب إنكار المشركين الوحي النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تسميتهم القرآن بالسحر فرد الله سبحانه ذلك عليهم ببيان أن القرآن كتاب سماوي نازل بعلمه تعالى، و أن الذي يتضمنه من معارف التوحيد كوحدانيته تعالى و علمه و قدرته و انتهاء الخلقة إليه و عجائب سننه في خلقه و رجوعهم جميعا إليه بأعمالهم التي سيجزون بها خيرا أو شرا كل ذلك مما تدل عليه آيات السماء و الأرض و يهتدي إليه العقل السليم فهي معانٍ حقة و لا يدل على مثلها إلا كلامٌ حكيم لا سحر مزوّق باطل. 

تفسير الميزان ج۱۰

7
  • و الدليل على ما ذكرنا افتتاح السورة بالكلام على تكذيبهم القرآن: {أَ كَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا} إلى قوله: {قَالَ اَلْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} و اختتامها بمثل قوله: {وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَ اِصْبِرْ} (الآية) ثم عوده تعالى إلى مسألة الإيحاء بالقرآن و تكذيبهم له في تضاعيف الآيات مرة بعد مرة كقوله: {وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} (الآية) و قوله: {وَ مَا كَانَ هَذَا اَلْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اَللَّهِ} (الآية) ، و قوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ} (الآية) ، و قوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} (الآية) . 

  • فتكرر هذه الآيات و الافتتاح و الاختتام بها يدل على أن الكلام مبني على تعقيب إنكارهم لكلام الله و تكذيبهم الوحي و لذلك كان من عمدة الكلام في هذه السورة الوعيد على مكذبي آيات الله من هذه الأمة بعذاب يقضي بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بينهم و أن ذلك من سنة الله في خلقه، و على تعقيبه تختتم السورة حتى كاد يكون بيان هذه الحقيقة من مختصات هذه السورة فمن الحري أن تعرف السورة بأنها سورة الإنذار بالقضاء العدل بين النبي و بين أمته و قد اختتمت بقوله: {وَ اِصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ} 

  • قوله تعالى{الر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْحَكِيمِ} الإشارة باللفظ الدال على البعد للدلالة على ارتفاع مكانة القرآن و علو مقامه فإنه كلام الله النازل من عنده و هو العلي الأعلى رفيع الدرجات ذو العرش. 

  • و الآية و معناها العلامة و إن كان من الجائز أن يسمى بها ما هو من قبيل المعاني أو الأعيان الخارجية كما في قوله: {أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الشعراء - ١٩٧ و في قوله: {وَ جَعَلْنَاهَا وَ اِبْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} : الأنبياء - ٩١ و كذا ما هو من قبيل القول كما في قوله ظاهرا: {وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} : النحل: - ١٠١ و نحو ذلك لكن المراد بالآيات هاهنا هي أجزاء الكلام الإلهي قطعا فإن الكلام في الوحي النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو كلام متلوّ مقروّ بأي معنى من المعاني صورنا نزول الوحي. 

  • فالمراد بالآيات أجزاء الكتاب الإلهي و تتعين في الجملة من جهة المقاطع التي 

تفسير الميزان ج۱۰

8
  • تفصل الآيات بعضها من بعض مع إعانة ما من ذوق التفاهم و لذلك ربما وقع الخلاف في عدد آيات بعض السور بين علماء الإحصاء كالكوفيين و البصريين و غيرهم. 

  • و المراد بالكتاب الحكيم هو الكتاب الذي استقرت فيه الحكمة، و ربما قيل: إن الحكيم من الفعيل بمعنى المفعول و المراد به المحكم غير القابل للانثلام و الفساد، و الكتاب الذي هذا شأنه و قد وصفه تعالى في الآية التالية بأنه من الوحي هو القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و ربما قيل: إن الكتاب الحكيم هو اللوح المحفوظ، و كون الآيات آياته هو أنها نزلت منه و هي محفوظة فيه، و هو و إن لم يخل عن وجه بالنظر إلى أمثال قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} البروج: - ٢٢ و قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} الواقعة - ٧٨ لكن الأظهر من الآية التي نحن فيها و سائر ما في سياقها من آيات أوائل هذه السور المفتتحة بالحروف {الر} و سائر الآيات المشابهة لها أو الناظرة إلى وصف القرآن أن المراد بالكتاب و بآياته هو هذا القرآن المتلو المقرو و آياته المتلوة المقروة بما أنه من اللوح المحفوظ من التغيير و البطلان كالكتاب المأخوذ بوجه من الكتاب كما يستفاد من مثل قوله تعالى ‌ {تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ} الحجر - ١، و قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هود: - ١، و غير ذلك. 

  • قوله تعالى{أَ كَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ} إلى آخر الآية الاستفهام للإنكار فهو إنكار لتعجبهم من إيحاء الله إلى رجل منهم ما اشتملت عليه الدعوة القرآنية. 

  • و قوله: {أَنْ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ} إلخ تفسير لما أوحاه إليه، و يتبين به أن الذي ألقاه إليه من الوحي هو بالنسبة إلى عامة الناس إنذار و بالنسبة إلى الذين آمنوا منهم خاصة تبشير فهو لا محالة يضر الناس على بعض التقادير و هو تقدير الكفر و العصيان و ينفعهم على تقدير الإيمان و الطاعة. 

  • و قد فسر البشرى الذي أمره أن يبشر به المؤمنين بقوله: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} و المراد بقدم الصدق هو المنزلة الصادقة كما يشير إليه قوله: {فِي 

تفسير الميزان ج۱۰

9
  • مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} : القمر - ٥٥ فإن الإيمان لما استتبع الزلفى و المنزلة عند الله كان الصدق في الإيمان يستتبع الصدق في المنزلة التي يستتبعها فلهم منزلة الصدق كما أن لهم إيمان الصدق. 

  • فإطلاق القدم على المنزلة و المكانة من الكناية و لما كان إشغال المكان عادة إنما هو بالقدم استعملت القدم في المكان إن كان في الماديات، و في المكانة و المنزلة إن كان في المعنويات ثم أضيفت القدم إلى الصدق، و هو صدق صاحب القدم في شأنه أي قدم منسوبة إلى صدق صاحبها أو قدم هي صادقة لصدق صاحبها في شأنه. 

  • و هناك معنى آخر و هو أن يراد بالصدق طبيعته كأن للصدق قدما و للكذب قدما و قدم الصدق هي التي تثبت و لا تزول. 

  • و قوله: {قَالَ اَلْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} أي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قرئ: «إن هذا لسحر مبين» أي القرآن و مآل القراءتين واحد فإنهم إنما كانوا يرمونه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالسحر من جهة القرآن الكريم. 

  • و الجملة كالتعليل لقوله: {كَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} يمثل به معنى تعجبهم و هو أنهم لما سمعوا ما تلاه عليهم من القرآن وجدوه كلاما من غير نوع كلامهم خارقا للعادة المألوفة في سنخ الكلام يأخذ بمجامع القلوب و تتوله إليه النفوس فقالوا: إنه لسحر مبين، و إن الجائي به لساحر مبين. 

  • قوله تعالى{إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} لما ذكر في الآية السابقة عجبهم من نزول الوحي و هو القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تكذيبهم له برميه بالسحر شرع تعالى في بيان ما كذبوا به من الجهتين أعني من جهة أن ما كذبوا به من المعارف المشتمل عليها القرآن حق لا ريب فيه و من جهة أن القرآن الذي رموه بالسحر كتاب إلهي حق و ليس من السحر الباطل في شي‌ء. 

  • فقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ} إلخ، شروع في بيان الجهة الأولى و هي أن ما يدعوكم إليه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مما يعلّمكم القرآن حق لا ريب فيه و يجب عليكم أن تتبعوه. 

  • و المعنى: أن ربكم معاشر الناس هو الله الذي خلق هذا العالم المشهود كله 

تفسير الميزان ج۱۰

10
  • سماواته و أرضه في ستة أيام ثم استوى على عرش قدرته و قام مقام التدبير الذي إليه ينتهي كل تدبير و إدارة فشرع يدبر أمر العالم، و إذا انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد لم يكن لشي‌ء من الأشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الأمور و هو الشفاعة إلا من بعد إذنه تعالى فهو سبحانه هو السبب الأصلي الذي لا سبب بالأصالة دونه، و من دونه من الأسباب أسباب بتسبيبه و شفعاء من بعد إذنه. 

  • و إذا كان كذلك كان الله تعالى هو ربكم الذي يدبر أمركم لا غيره مما اتخذتموها أربابا من دون الله و شفعاء عنده و هو المراد بقوله: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي هلا انتقلتم انتقالا فكريا إلى ما يستنير به أن الله هو ربكم لا رب غيره بالتأمل في معنى الألوهية و الخلقة و التدبير. 

  • و قد تقدم الكلام في معنى العرش و الشفاعة و الإذن و غير ذلك في ذيل قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ} الأعراف: - ٥٤ في الجزء الثامن من الكتاب. 

  • قوله تعالى{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اَللَّهِ حَقًّا} تذكير بالمعاد بعد التذكير بالمبدإ، و قوله: {وَعْدَ اَللَّهِ حَقًّا} من قيام المفعول المطلق مقام فعله و المعنى: وعده الله وعدا حقا. 

  • والحق هو الخبر الذي له أصل في الواقع يطابق الخبر فكون وعده تعالى بالمعاد حقا معناه كون الخلقة الإلهية بنحو لا تتم خلقة إلا برجوع الأشياء - و من جملتها الإنسان - إليه تعالى و ذلك كالحجر الهابط من السماء فإنه يعد بحركته السقوط على الأرض فإن حركته سنخ أمر لا يتم إلا بالاقتراب التدريجي من الأرض و السقوط و الاستقرار عليها، و الأشياء على حال كدح إلى ربها حتى تلاقيه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} الانشقاق: - ٦ فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى{إِنَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} إلخ تأكيد لقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} و تفصيل لإجمال ما يتضمنه من معنى الرجوع و المعاد. 

  • و يمكن أن يكون في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} إلخ 

تفسير الميزان ج۱۰

11
  • أشير به إلى حجتين من الحجج المستعملة في القرآن لإثبات المعاد: أما قوله: {إِنَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فلأن الجاري من سنة الله سبحانه أنه يفيض الوجود على ما يخلقه من شي‌ء و يمده من رحمته بما تتم له به الخلقة فيوجد و يعيش و يتنعم برحمة منه تعالى ما دام موجودا حتى ينتهي إلى أجل معدود. 

  • و ليس انتهاؤه إلى أجله المعدود المضروب له فناء منه و بطلانا للرحمة الإلهية التي كان بها وجوده و بقاؤه و سائر ما يلحق بذلك من حياة و قدرة و علم و نحو ذلك بل بقبضه تعالى ما بسطه عليه من الرحمة فإن ما أفاضه الله عليه من عنده هو وجهه تعالى و لن يهلك وجهه. 

  • فنفاد وجود الأشياء و انتهائها إلى أجلها ليس فناء منها و بطلانا لها على ما نتوهمه بل رجوعا و عودا منها إلى عنده و قد كانت نزلت من عنده، و ما عند الله باق فلم يكن إلا بسطا ثم قبضا فالله سبحانه يبدأ الأشياء ببسط الرحمة و يعيدها إليه بقبضها و هو المعاد الموعود. 

  • و أما قوله: {لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} إلخ فإن الحجة فيه أن العدل و القسط الإلهي و هو من صفات فعله يأبى أن يستوي عنده من خضع له بالإيمان به و عمل صالحا و من استكبر عليه و كفر به و بآياته، و الطائفتان لا يحس بينهما بفرق في الدنيا فإنما السيطرة فيها للأسباب الكونية بحسب ما تنفع و تضر بإذن الله. 

  • فلا يبقى إلا أن يفرق الله بينهما بعدله بعد إرجاعهما إليه فيجزي المؤمنين المحسنين جزاء حسنا و الكفار المسيئين جزاء سيئا من جهة ما يتلذذون به أو يتألمون. 

  • فالحجة معتمدة على تمايز الفريقين بالإيمان و العمل الصالح و بالكفر و على قوله: {بِالْقِسْطِ} هذا، و قوله: {لِيَجْزِيَ} متعلق بقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} على ظاهر التقرير. 

  • و يمكن أن يكون قوله: {لِيَجْزِيَ} إلخ متعلقا بقوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} و يكون الكلام مسوقا للتعليل و إشارة إلى حجة واحدة و هي الحجة الثانية المذكورة، و الأقرب من جهة اللفظ هو الأخير. 

تفسير الميزان ج۱۰

12
  • قوله تعالى{هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِيَاءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً} إلى آخر الآية، الضياء على ما قيل مصدر ضاء يضوء ضوء و ضياء كعاذ يعوذ عوذا و عواذا، و ربما كان جمع ضوء كسياط جمع سوط، و اللفظ على ما قيل على تقدير مضاف و الأصل جعل الشمس ذات ضياء و القمر ذا نور. 

  • و كذلك قوله: {وَ قَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي و قدر القمر ذا منازل في مسيره ينزل كل ليلة منزلا من تلك المنازل غير ما نزله في الليلة السابقة فلا يزال يتباعد من الشمس حتى يوافيها من الجانب الآخر، و ذلك في شهر قمري كامل فترتسم بذلك الشهور و ترتسم بالشهور السنون، و لذلك قال: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسَابَ} 

  • و الآية تنبئ عن حجة من الحجج الدالة على توحده تعالى في ربوبيته للناس و تنزهه عن الشركاء، و المعنى أنه هو الذي جعل الشمس ضياء تستفيدون منه في جميع شئون حياتكم كما يستفيد منه ما في عالمكم الأرضي من موجود مخلوق، و كذا جعل القمر نورا يستفاد منه، و قدره ذا منازل يؤدي اختلاف منازله إلى تكون الشهور و السنين فتستفيدون من ذلك في العلم بعدد السنين و الحساب و لم يخلق ما خلق من ذلك بما يترتب عليه من الغايات و الفوائد إلا بالحق فإنها غايات حقيقية منتظمة تترتب على خلقة ما خلق فليست بلغو باطل و لا صدفة اتفاقية. 

  • فهو تعالى إنما خلق ذلك و رتبه على هذا الترتيب لتدبير شئون حياتكم و إصلاح أمور معاشكم و معادكم فهو ربكم الذي يملك أمركم و يدبر شأنكم لا رب سواه. 

  • و قوله: {يُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} من المحتمل أن يراد به التفصيل بحسب التكوين الخارجي أو بحسب البيان اللفظي، و لعل الأول أقرب إلى سياق الآية. 

  • قوله تعالى{إِنَّ فِي اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} قال في المجمع، الاختلاف ذهاب كل واحد من الشيئين في جهة غير جهة الآخر فاختلاف الليل و النهار ذهاب أحدهما في جهة الضياء و الآخر في جهة الظلام، انتهى. و الظاهر أنه مأخوذ من الخلف، و الأصل في معناه أخذ أحد الشيئين الآخر في جهة خلفه ثم اتسع فاستعمل في كل تغاير كائن بين شيئين. 

تفسير الميزان ج۱۰

13
  • يقال اختلفه‌ أي جعله خلفه، و اختلف الناس في كذا ضد اتفقوا فيه، و اختلف الناس إليه أي ترددوا بالدخول عليه و الخروج من عنده فجعل بعضهم بعضا خلفه. 

  • و المراد باختلاف الليل و النهار إما ورود كل منهما على الأرض خلف الآخر و هو توالي الليل و النهار الراسم للأسابيع و الشهور و السنين، و إما اختلاف كل من الليل و النهار في أغلب بقاع الأرض المسكونة فالليل و النهار يتساويان في الاعتدال الربيعي ثم يأخذ النهار في الزيادة في المناطق الشمالية فيزيد النهار كل يوم على النهار السابق عليه حتى يبلغ أول الصيف فيأخذ في النقيصة حتى يبلغ الاعتدال الخريفي و هو أول الخريف فيتساويان. 

  • ثم يأخذ الليل في الزيادة على النهار إلى أول الشتاء و هو منتهى طول الليالي ثم يعود راجعا إلى التساوي حتى ينتهي إلى الاعتدال الربيعي و هو أول الربيع هذا في المناطق الشمالية و الأمر في المناطق الجنوبية بالخلاف منه فكلما زاد النهار طولا في أحد الجانبين زاد الليل طولا في الجانب الآخر بنفس النسبة. 

  • و الاختلاف الأول بالليل و النهار هو الذي يدبر أمر أهل الأرض بتسليط حرارة الأشعة ثم بسط برد الظلمة و نشر الرياح و بعث الناس للحركة المعاشية ثم جمعهم للسكن و الراحة، قال تعالى: {وَ جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِبَاساً وَ جَعَلْنَا اَلنَّهَارَ مَعَاشاً} النبأ: - ١١. 

  • و الاختلاف الثاني هو الذي يرسم الفصول الأربعة السنوية التي يدبر بها أمر الأقوات و الأرزاق كما قال تعالى: {وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} حم السجدة: - ١٠. 

  • و النهار و اليوم مترادفان إلا أن في النهار على ما قيل فائدة اتساع الضياء و لعله لذلك لا يستعمل النهار إلا بعناية مقابلته الليل بخلاف اليوم فإنه يستعمل فيما لا عناية فيه بذلك كما في مورد الإحصاء يقال: عشرة أيام و عشرين يوما و هكذا، و لا يقال: عشرة نهارات و عشرين نهارا و هكذا. 

  • و الآية تشتمل على حجة تامة على توحده تعالى في ربوبيته فإن اختلاف الليل 

تفسير الميزان ج۱۰

14
  • و النهار و ما خلق الله في السماوات و الأرض يحمل نظاما واحدا عاما متقنا يدبر به أمر الموجودات الأرضية و السماوية و خاصة العالم الإنساني تدبيرا واحدا يتصل بعض أجزائه ببعض على أحسن ما يتصور. 

  • و هو يكشف عن ربوبية واحدة ترب كل شي‌ء و منه الإنسان فلا رب إلا الله سبحانه لا شريك له في ربوبيته. 

  • و من المحتمل أن يكون قوله: {إِنَّ فِي اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ} إلخ، في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: {يُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لمكان إن، و الأنسب على هذا أن يكون المراد باختلاف الليل و النهار تواليهما على الأرض دون الاختلاف بالمعنى الآخر فإن هذا المعنى من الاختلاف هو الذي يسبق إلى الذهن من قوله في الآية السابقة: {جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِيَاءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنَازِلَ} و هو ظاهر. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَ رَضُوا بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ اِطْمَأَنُّوا بِهَا} إلى آخر الآيتين؛ شروع في بيان ما يتفرع على الدعوة السابقة المذكورة بقوله: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} من حيث عاقبة الأمر في استجابته و رده و طاعته و معصيته. 

  • فبدأ سبحانه بالكافرين بهذا الأمر فقال: {إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَ رَضُوا بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ اِطْمَأَنُّوا بِهَا وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} فوصفهم أولا بعدم رجائهم لقاءه و هو الرجوع إلى الله بالبعث يوم القيامة و قد تقدم الكلام في وجه تسميته بلقاء الله في مواضع من هذا الكتاب و منها ما في تفسير آية الرؤية من سورة الأعراف فهؤلاء هم المنكرون ليوم الجزاء و بإنكاره يسقط الحساب و الجزاء فالوعد و الوعيد و الأمر و النهي، و بسقوطها يبطل الوحي و النبوة و ما يتفرع عليه من الدين السماوي. 

  • و بإنكار البعث و المعاد ينعطف همٌّ الإنسان على الحياة الدنيا فإن الإنسان و كذا كل موجود ذي حياة له هم فطري ضروري في بقائه و طلب لسعادة تلك الحياة فإن كان مؤمنا بحياة دائمة تسع الحياة الدنيوية و الأخروية معا فهو، و إن لم يذعن إلا بهذه الحياة المحدودة الدنيوية علقت همته الفطرية بها، و رضي بها 

تفسير الميزان ج۱۰

15
  • و سكن بسببها عن طلب الآخرة، و هو المراد بقوله: {وَ رَضُوا بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ اِطْمَأَنُّوا بِهَا} 

  • و من هنا يظهر أن الوصف الثاني أعني قوله: {وَ رَضُوا بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ اِطْمَأَنُّوا بِهَا} من لوازم الوصف الأول أعني قوله: {لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} و هو بمنزلة المفسر بالنسبة إليه، و أن الباء في قوله: {اِطْمَأَنُّوا بِهَا} للسببية أي سكنوا بسببها عن طلب اللقاء و هو الآخرة. 

  • و قوله: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} في محل التفسير لما تقدمه من الوصف لمكان ما بينهما من التلازم فإن نسيان الآخرة و ذكر الدنيا لا ينفك عن الغفلة عن آيات الله. 

  • و الآية قريبة المضمون من قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} (الآية) : النجم - ٣٠حيث دل على أن الإعراض عن ذكر الله و هو الغفلة عن آياته يوجب قصر علم الإنسان في الحياة الدنيا و شئونها فلا يريد إلا الحياة الدنيا و هو الضلال عن سبيل الله، و قد عرف هذا الضلال بنسيان يوم الحساب في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ} ص - ٢٦. 

  • فقد تبين أن إنكار اللقاء و نسيان يوم الحساب يوجب رضى الإنسان بالحياة الدنيا و الاطمئنان إليها من الآخرة و قصر العلم عليه و انحصار الطلب فيه، و إذ كان المدار على حقيقة الذكر و الطلب لم يكن فرق بين إنكاره و الرضى بالحياة الدنيا قولا و فعلا أو فعلا مع القول الخالي به. 

  • و تبين أيضا أن الاعتقاد بالمعاد أحد الأصول التي يتقوم بها الدين إذ بسقوطه يسقط الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و النبوة و الوحي و هو بطلان الدين الإلهي من رأس. 

  • و قوله: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} بيان لجزائهم بالنار الخالدة قبال أعمالهم التي كسبوها. 

تفسير الميزان ج۱۰

16
  • قوله تعالى{إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} إلى آخر الآية، هذا بيان لعاقبة أمر المؤمنين و ما يثيبهم الله على استجابتهم لدعوته و طاعتهم لأمره. 

  • ذكر سبحانه أنه يهديهم بإيمانهم، و إنما يهديهم إلى ربهم لأن الكلام في عاقبة أمر من يرجو لقاء الله، و قد قال تعالى: {وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} الرعد: - ٢٧. 

  • فإنما يهدي الإيمانُ بإذن الله إلى الله سبحانه و كلُّ ما اهتدى المؤمنون إلى الحق أو إلى الصراط المستقيم أو غير ذلك مما يشتمل عليه كلامه فإنما هي وسائل و مدارج تنتهي بالأخرة إليه تعالى، قال تعالى: {وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى } النجم: - ٤٢. 

  • و قد وصف المؤمنين بالإيمان و الأعمال الصالحة ثم نسب هدايتهم إليه إلى الإيمان وحده فإن الإيمان هو الذي يصعد بالعبد إلى مقام القرب، و ليس للعمل الصالح إلا إعانة الإيمان و إسعاده في عمله كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} المجادلة: - ١١ حيث ذكر للرفع الإيمان و العلم و سكت عن العمل الصالح، و أوضحه منه في الدلالة قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر: - ١٠. 

  • هذا في الهداية التي هي شأن الإيمان، و أما نعم الجنة فإن للعمل الصالح دخلا فيها كما أن للعمل الطالح دخلا في أنواع العذاب و قد ذكر تعالى في المؤمنين قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ} كما ذكر في الكافرين قوله: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 

  • و ليتنبه الباحث المتدبر أنه تعالى ذكر لهؤلاء المهتدين بإيمانهم من مسكن القرب جنات النعيم، و من نعيمها الأنهار التي تجري من تحتهم فيها، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} الحمد: - ٧ و قوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} (الآية) : النساء: - ٦٩ أن النعيم‌ بحقيقة معناه في القرآن الكريم هو الولاية الإلهية، و قد خص الله أولياءه المقربين بنوع من شراب الجنة اعتنى به في حقهم كما قال‌ {إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اَللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} الإنسان - ٦، و قال أيضا {إِنَّ اَلْأَبْرَارَ لَفِي 

تفسير الميزان ج۱۰

17
  • نَعِيمٍ} إلى أن قال {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} إلى أن قال {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا اَلْمُقَرَّبُونَ} المطففين: - ٢٨، و عليك بالتدبر في الآيات و تطبيق بعضها على بعض حتى ينجلي لك بعض ما أودعه الله سبحانه في كلامه من الأسرار اللطيفة. 

  • قوله تعالى{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اَللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَ آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} أول ما يكرم به الله سبحانه أولياءه و هم الذين ليس في قلوبهم إلا الله و لا مدبر لأمرهم غيره أنه يطهر قلوبهم عن محبة غيره فلا يحبون إلا الله فلا يتعلقون بشي‌ء إلا الله و في الله سبحانه فهم ينزهونه عن كل شريك يجذب قلوبهم إلى نفسه عن ذكر الله سبحانه و عن أي شاغل يشغلهم عن ربهم. 

  • و هذا تنزيه منهم لربهم عن كل ما لا يليق بساحة قدسه من شريك في الاسم أو في المعنى أو نقص أو عدم، و تسبيح منهم له لا في القول و اللفظ فقط بل قولا و فعلا و لسانا و جنانا، و ما دون ذلك فإن له شوبا من الشرك، و قد قال تعالى: {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} يوسف - ١٠٦. 

  • و هؤلاء الذين طهر الله قلوبهم عن قذارة حب غيره الشاغلة عن ذكره و ملأها بحبه فلا يريدون إلا إياه و هو سبحانه الخير الذي لا شر معه قال {وَ اَللَّهُ خَيْرٌ} طه: - ٧٣. 

  • فلا يواجهون بقلوبهم التي هي ملأى بالخير و السلام أحدا إلا بخير و سلام اللهم إلا أن يكون الذي واجهوه بقلوبهم هو الذي يبدل الخير و السلام شرا و ضرا كما أن القرآن شفاء لمن استشفى به لكنه لا يزيد الظالمين إلا خسارا. 

  • ثم إن هذه القلوب الطاهرة لا تواجه شيئا من الأشياء إلا و هي تجده و تشاهده نعمة لله سبحانه حاكية لصفات جماله و معاني كماله واصفة لعظمته و جلاله فكلما وصفوا شيئا من الأشياء و هم يرونه نعمة من نعم الله و يشاهدون فيه جماله تعالى في أسمائه و صفاته و لا يغفلون و لا يسهون عن ربهم في شي‌ء كان وصفهم لذلك الشي‌ء وصفا منهم لربهم بالجميل من أفعاله و صفاته فيكون ثناء منهم عليه و حمدا منهم له 

تفسير الميزان ج۱۰

18
  • فليس الحمد إلا الثناء على الجميل من الفعل الاختياري. 

  • فهذا شأن أوليائه تعالى و هم قاطنون في دار العمل يجتهدون في يومهم لغد فإذا لقوا ربهم فوفى لهم بوعده و أدخلهم في رحمته و أسكنهم دار كرامته أتم لهم نورهم الذي كان خصهم به في الدنيا كما قال تعالى: {نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} التحريم - ٨. 

  • فسقاهم شرابا طهورا يطهر به سرائرهم من كل شرك جلي و خفي، و غشيهم بنور العلم و اليقين، و أجرى من قلوبهم على ألسنتهم عيون التوحيد فنزهوا الله و سبحوه أولا و سلموا على رفقائهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين ثم حمدوا الله سبحانه و أثنوا عليه بأبلغ الحمد و أحسن الثناء. 

  • و هذا هو الذي يقبل الانطباق عليه و الله أعلم قوله في الآيتين: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ} و فيه ذكر جنة الولاية و تطهير قلوبهم: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اَللَّهُمَّ} و فيه تنزيهه تعالى و تسبيحه عن كل نقص و حاجة و شريك تنزيها على وجه الحضور لأنهم غير محجوبين عن ربهم {وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} و هو توسيم اللقاء بالأمن المطلق، و لا يوجد في غيرها من الأمن إلا اليسير النسبي {وَ آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} و فيه ذكر ثنائهم على الله بالجميل بعد تسبيحهم له و تنزيههم، و هذا آخر ما ينتهي إليه أهل الجنة في كمال العلم. 

  • و قد قدمنا في تفسير قوله تعالى: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} الحمد: - ٢ أن الحمد توصيف، و لا يسع وصفه تعالى لأحد من خلقه إلا للمخلصين من عباده الذين أخلصهم لنفسه و خصهم بكرامة من القرب لا واسطة فيها بينهم و بينه قال تعالى: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} الصافات: - ١٦٠. 

  • و لذلك لم يحك في كلامه حمده إلا عن آحاد من كرام أنبيائه كنوح و إبراهيم و محمد و داود و سليمان (عليهم السلام) كقوله فيما أمر به نوحا {فَقُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي نَجَّانَا مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} المؤمنون: - ٢٨، و قوله حكاية عن إبراهيم‌ {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ} إبراهيم - ٣٩، و قوله فيما أمر به محمدا (صلى الله عليه و آله وسلم) 

تفسير الميزان ج۱۰

19
  • في عدة مواضع‌ {قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ} النمل - ٩٣، و قوله حكاية عن داود و سليمان: {وَ قَالاَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ} النمل: - ١٥. 

  • و قد حكى سبحانه حمده عن أهل الجنة في عدة مواضع من كلامه كقوله: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} الأعراف - ٤٣، و قوله أيضا: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ} فاطر: - ٣٤، و قوله أيضا {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} الزمر: - ٧٤، و قوله في هذه الآية: {وَ آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} . و الآية تدل على أن الله سبحانه يلحق أهل الجنة من المؤمنين بالآخرة بعباده المخلصين ففيها وعد جميل و بشارة عظيمة للمؤمنين. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي عن يونس بن عبد الرحمن عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قوله تعالى: {وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (الآية) قال: الولاية.

  • و في الكافي بإسناده عن إبراهيم بن عمر اليماني عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول الله: {وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال: هو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) .

  • أقول: و رواه القمي في تفسيره، مسندا و العياشي، في تفسيره مرسلا عن إبراهيم بن عمر عمن ذكره عنه (عليه السلام) . و الظاهر أن المراد به شفاعته (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و يدل على ذلك‌ ما رواه الطبرسي في المجمع، حيث قال: قيل: قدم صدق شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) : قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) . 

  • و ما رواه في الدر المنثور عن ابن مردويه عن علي بن أبي طالب: في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال: محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) شفيع لهم يوم القيامة. 

  • و في تفسير العياشي عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن التسبيح قال: هو اسم من أسماء الله و دعوى أهل الجنة. 

تفسير الميزان ج۱۰

20
  • أقول: و مراده بالتسبيح قولنا سبحان الله و معنى اسميته دلالته على تنزيهه تعالى. 

  • و في الإختصاص بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في حديث طويل مع يهودي و قد سأله عن مسائل: 

  • قال (صلى الله عليه وآله و سلم) : إذا قال العبد: سبحان الله سبح كل شي‌ء معه ما دون العرش فيعطى قائلها عشر أمثالها، و إذا قال: الحمد لله أنعم الله عليه بنعيم الدنيا حتى يلقاه بنعيم الآخرة، و هي الكلمة التي يقولها أهل الجنة إذا دخلوها، و الكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمد لله، و ذلك قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} .

  • أقول: و قوله: «و الكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمد لله» أي جميع الكلام المستعمل في الدنيا لمقاصد تعود إلى مستعمله كالكلام المستعمل لمقاصد المعاش كجميع المحاورات الإنسانية و الكلام المستعمل في العبادات لغرض الثواب و نحو ذلك ينقطع بانقطاع الدنيا إذ لا خبر بعد ذلك عن هذه المقاصد الدنيوية، و لا يبقى بعدئذ إلا الحمد لله و الثناء عليه بالجميل و هو كلام أهل الجنة فيها. 

  • و قوله: و ذلك قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} معناه أن كون التحية يومئذ هو السلام المطلق يدل على أن ليس هناك إلا موافقة كل شي‌ء و ملائمته لما يريده الإنسان فكل ما يريده فهو له فلا يستعمل هناك كلام لتحصيل غاية من الغايات على حد الكلام الدنيوي إلا الثناء على جميل ما يشاهد منه تعالى فافهم ذلك. 

  •  

  • [سورة يونس (١٠) : الآیات ١١ الی ١٤]

  • {وَ لَوْ يُعَجِّلُ اَللَّهُ لِلنَّاسِ اَلشَّرَّ اِسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ١١ وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ اَلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ 

تفسير الميزان ج۱۰

21
  • مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٢ وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ ١٣ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ١٤} 

  • (بيان) 

  • لما ذكر سبحانه الأصلين من أصول الدعوة الحقة و هما التوحيد و المعاد و احتج عليهما من طريق العقل الفطري ثم أخبر عن عاقبة الإيمان و الكفر بهما بحث عن سبب إمهال الناس و عدم تعجيل نزول العذاب بساحتهم مع تماديهم في غيهم و ضلالتهم و عمههم في طغيانهم و ما هو السبب الذي يوجب لهم ذلك فبين أن الأمر بيّنٌ لا ستر عليه، و قد بينه لهم رسل الله بالبينات لكن الشيطان زين لهؤلاء المسرفين أعمالهم فأغفلهم عن ذكر المعاد فذهلوا و نسوا بعد ما ذكروا ثم لم يعجل الله لهم العذاب بل أمهلهم في الدنيا إلى حين ليبتليهم و يمتحنهم فإنما الدار دار ابتلاء و امتحان. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ يُعَجِّلُ اَللَّهُ لِلنَّاسِ اَلشَّرَّ اِسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} إلخ، تعجيل‌ الشي‌ء الإتيان به بسرعة و عجلة و الاستعجال‌ بالشي‌ء طلب حصوله بسرعة و عجلة، و العمه‌ شدة الحيرة. 

  • و معنى الآية: و لو يعجل الله للناس الشر و هو العذاب كما يستعجلون بالخير كالنعمة لأنزل عليهم العذاب بقضاء أجلهم لكنه تعالى لا يعجل لهم الشر فيذر هؤلاء المنكرين للمعاد المارقين عن ربقة الدين يتحيرون في طغيانهم أشد التحير. 

تفسير الميزان ج۱۰

22
  • و توضيحه أن الإنسان عجول بحسب طبعه يستعجل بما فيه خيره و نفعه أي أنه يطلب من الأسباب أن تسرع في إنتاج ما يبتغيه و يريده فهو في الحقيقة يطلب الإسراع المذكور من الله سبحانه لأنه السبب في ذلك بالحقيقة فهذه سنة الإنسان و هي مبنية على الأهواء النفسانية؛ فإن الأسباب الواقعة: ليست في نظامها تابعةً لهوى الإنسان، بل العالم الإنساني هو التابع الجاري على ما يجريه عليه نظام الأسباب اضطرارا أحب ذلك أو كرهه. 

  • و لو أن السنة الإلهية في خلق الأشياء و الإتيان بالمسببات عقيب أسبابها اتبعت أو شابهت هذه السنة الإنسانية المبنية على الجهل فعجلت المسببات و الآثار عقيب أسبابها لأسرع الشر و هو الهلاك بالعذاب إلى الإنسان فإن سببه قائم معه، و هو الكفر بعدم رجاء لقاء الله و الطغيان في الحياة الدنيا لكنه تعالى لا يعجل الشر لهم كاستعجالهم بالخير لأن سنته مبنية على الحكمة بخلاف سنتهم المبنية على الجهالة فيذرهم في طغيانهم يعمهون. 

  • و قد بان بذلك أولا: أن في قوله: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} نوعا من التضمين فقد ضمن فيه {لَقُضِيَ} معنى مثل الإنزال أو الإبلاغ و لذا عدي بإلى. 

  • و المعنى قضي منزلا أو مبلغا إليهم أجلهم أو أنزل أو أبلغ إليهم أجلهم مقضيا و هو كناية عن نزول العذاب فالكلمة من الكناية المركبة. 

  • و ثانيا: أن في قوله: {فَنَذَرُ اَلَّذِينَ} التفاتا من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و لعل النكتة فيه الإشارة إلى توسيط الأسباب في ذلك فإن المذكور من أفعاله تعالى في الآية و ما بعدها كتركهم في عمههم و كشف الضر و التزيين و الإهلاك أمور يتوسل إليها بتوسيط الأسباب، و العظماء إذا أرادوا أن يشيروا إلى دخل أعوانهم و خدمهم في بعض أمورهم أتوا بصيغة المتكلم مع الغير. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ اَلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} إلى آخر الآية. الضر بالضم ما يمس الإنسان من الضرر في نفسه، و قوله: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} أي دعانا منبطحا لجنبه إلخ، و الظاهر أن الترديد للتعميم أي دعانا على أي حال من أحواله فرض من انبطاح أو قعود أو قيام مصرا على دعائه لا 

تفسير الميزان ج۱۰

23
  • ينسانا في حال و يمكن أن يكون {لِجَنْبِهِ} إلخ، أحوالا ثلاثة من الإنسان لا من فاعل دعانا و العامل فيه {مَسَّ} و المعنى إذا مس الإنسان الضر و هو منبطح أو قاعد أو قائم دعانا في تلك الحال و هذا معنى ما ورد في بعض المرسلات: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ} العليل الذي لا يقدر أن يجلس {أَوْ قَاعِداً} الذي لا يقدر أن يقوم {أَوْ قَائِماً} الصحيح. 

  • و قوله: {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ} كناية عن النسيان و الغفلة عما كان لا يكاد ينساه. 

  • و المعنى: و إذا مس الإنسان الضر لم يزل يدعونا لكشف ضره و أصر على الدعاء فإذا كشفنا عنه ضره الذي مسه نسينا و ترك ذكرنا و انجذبت نفسه إلى ما كان يتمتع به من أعماله كذلك زين للمسرفين المفرطين في التمتع بالزخارف الدنيوية أعمالهم فأورثهم نسيان جانب الربوبية و الإعراض عن ذكر الله تعالى. 

  • و في الآية بيان السبب في تمادي منكري المعاد في غيهم و ضلالتهم و خصوصية سببه و هو أن هؤلاء مثلهم كمثل الإنسان يمسه الضر فيذكر ربه و يلح عليه بالدعاء لكشف ضره حتى إذا كشف عنه الضر و لذلك كان يدعوه مر لوجهه متوغلا في شهواته و قد نسي ما كان يدعوه و يذكره فلم يكن تركه لدعاء ربه بعد ذكره إلا معلولا لما زين له من عمله فأورثه النسيان بعد الذكر. 

  • فكذلك هؤلاء المسرفون زين لهم أعمالهم فجذبتهم إلى نفسها فنسوا ربهم بعد ذكره، و قد ذكرهم الله مقامه بإرسال الرسل إلى من قبلهم بالبينات و ما كانوا ليؤمنوا و إهلاك القرون من قبلهم بظلمهم و هذه هي السنة الإلهية يجزي القوم المجرمين. 

  • و من هنا يظهر أن الآية التالية: {وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلخ، متمم للبيان في هذه الآية: {وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ اَلضُّرُّ دَعَانَا} إلى آخر الآية. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلى آخر الآية، قد ظهر معناه مما تقدم، و في الآية التفات في قوله: {مِنْ قَبْلِكُمْ} من الغيبة إلى الخطاب، 

تفسير الميزان ج۱۰

24
  • و كأنّ النكتة فيه التشديد في الإنذار لأن الإنذار و التخويف بالمشافهة أوقع أثرا و أبلغ من غيره. 

  • ثم في قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ} التفات آخر بتوجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و النكتة فيه أنه إخبار عن السنة الإلهية في أخذ المجرمين، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هو الأهل لفهمه و الإذعان بصدقه دونهم و لو أذعنوا بصدقة لآمنوا به و لم يكفروا، و هذا بخلاف قوله: {وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ... {وَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} فإنه خبر تاريخي لا ضير في تصديقهم به. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} معناه ظاهر، و فيه بيان أن سنة الامتحان و الابتلاء عامة جارية. 

  •  

  • [سورة يونس (١٠) : الآیات ١٥ الی ٢٥]

  • {وَ إِذَا تُتْليَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إلى إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ قُلْ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ١٦ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْمُجْرِمُونَ ١٧ وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اَللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ١٨ وَ مَا كَانَ اَلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً

تفسير الميزان ج۱۰

25
  • وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ١٩ وَ يَقُولُونَ لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا اَلْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ ٢٠وَ إِذَا أَذَقْنَا اَلنَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اَللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ٢١ هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَ جَاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ ٢٢ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَليَ أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٢٣ إِنَّمَا مَثَلُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ اَلْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ اَلنَّاسُ وَ اَلْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَ اِزَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢٤ وَ اَللَّهُ يَدْعُوا إلى دَارِ اَلسَّلاَمِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٢٥} 

تفسير الميزان ج۱۰

26
  • (بيان) 

  • احتجاجات يلقنها الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) ليرد بها ما قالوه في كتاب الله أو في آلهتهم أو اقترحوه في نزول الآية. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} هؤلاء المذكورون في الآية كانوا قوما وثنيين يقدسون الأصنام و يعبدونها، و من سننهم التوغل في المظالم و الآثام و اقتراف المعاصي، و القرآن ينهى عن ذلك كله، و يدعو إلى توحيد الله تعالى و رفض الشركاء، و عبادة الله مع التنزه عن الظلم و الفسق و اتباع الشهوات. 

  • و من المعلوم أن كتابا هذا شأنه إذا تليت آياته على قوم ذلك شأنهم لم يكن ليوافق ما تهواه أنفسهم بما يشتمل عليه من الدعوة المخالفة فلو قالوا: ائت بقرآن غير هذا دل على أنهم يقترحون قرآنا لا يشتمل على ما يشتمل عليه هذا القرآن من الدعوة إلى رفض الشركاء و اتقاء الفحشاء و المنكر، و إن قالوا: بدل القرآن كان مرادهم تبديل ما يخالف آراءهم من آياته إلى ما يوافقها حتى يقع منهم موقع القبول، و ذلك كالشاعر ينشد من شعره أو القاص يقص القصة فلا تستحسنه طباع السامعين فيقولون: ائت بغيره أو بدله، و في ذلك تنزيل القرآن أنزل مراتب الكلام و هو لهو الحديث الذي إنما يلقى لتلهو به نفس سامعه و تنشط به عواطفه ثم لا يستطيبه السامع فيقول: ائت بغير هذا أو بدله. 

  • فبذلك يظهر أن قولهم إذا تليت عليهم آيات القرآن: {اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} يريدون به قرآنا لا يشتمل من المعارف على ما يتضمنه هذا القرآن بأن يترك هذا و يؤتى بذاك، و قولهم: {أَوْ بَدِّلْهُ} أن يغير ما فيه من المعارف المخالفة لأهوائهم إلى معان يوافقها مع حفظ أصله فهذا هو الفرق بين الإتيان بغيره و بين تبديله. 

  • فما قيل: إن الفرق بينهما أن الإتيان بغيره قد يكون معه و تبديله لا يكون 

تفسير الميزان ج۱۰

27
  • إلا برفعه، غير سديد فإنهم ما كانوا يريدون أن يأتيهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بهذا القرآن و غيره معا قطعا. 

  • و كذا ما ذكره بعضهم أن قولهم: {اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} إنما أرادوا به أن يمتحنوه بذلك فيغروه حتى إذا أجابهم إلى ذلك كان ذلك نقضا منه لدعوى نفسه أنه كلام الله، و ذلك أنهم لما سمعوا ما بلغهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من آيات القرآن و تلاه عليهم و تحداهم بالإتيان بمثله و عجزوا عن الإتيان بمثله، و كانوا في ريب من كونه كلام الله، و في ريب من كونه من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نفسه و لم يكن يفوقهم في الفصاحة و البلاغة و العلم، بل كانوا يرونه دون كبار فصحائهم و مصاقع خطبائهم أرادوا أن يمتحنوه بهذا القول حتى إذا أتاهم بما سألوه كان ذلك ناقضا لأصل دعواه أنه كلام الله. و كان قصارى أمره أنه امتاز عليهم بهذا النوع من البيان لقوة نفسية فيه كانت خفية عليهم كأسباب السحر لا بوحي. هذا. 

  • و فيه مضافا إلى مناقضة آخره أوله أنه مدفوع بما يلقنه الله سبحانه من الحجة فإن السؤال الذي لم يصدر إلا بداعي الامتحان و الاختبار من غير داع جدي لا معنى للجواب عنه بالإثبات الجدي بحجة جدية و هو ظاهر. 

  • و في قوله: {وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} التفات من الخطاب إلى الغيبة، و الظاهر أن النكتة فيه أن يكون توطئة إلى إلقاء الأمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} إلخ، فإن ذلك لا يتم إلا بصرف الخطاب عنهم و توجيهه إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • قوله تعالى{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ} إلى آخر الآية؛ التلقاء بكسر التاء مصدر كاللقاء نظير التبيان و البيان و يستعمل ظرفا. 

  • و الله سبحانه على ما أجاب عن مقترحهم بقولهم: {اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} في أثناء كلامه بقوله: {بَيِّنَاتٍ} فإن الآيات إذا كانت بينات ظاهرة الاستناد إلى الله سبحانه كشفت كشفا قطعيا عما يريده الله سبحانه منهم من رفض الأصنام و الاجتناب من كل ما لا يرتضيه بما أوحى إلى رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) من تفصيل دينه رد 

تفسير الميزان ج۱۰

28
  • سؤالهم إليهم تفصيلا بتلقين نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) الحجة في ذلك بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي} إلى آخر الآيات الثلاث. 

  • فقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} إلخ، جواب عن قولهم: {أَوْ بَدِّلْهُ} و معناه: قل لا أملك و ليس لي بحق أن أبدله من عند نفسي لأنه ليس بكلامي و إنما هو وحي إلهي أمرني ربي أن أتبعه و لا أتبع غيره، و إنما لا أخالف أمر ربي لأني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم و هو يوم لقائه. 

  • فقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} نفي الحق و سلب الخيرة، و قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ} في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: {مَا يَكُونُ لِي} و قوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} إلخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ} إلخ، بما يلوح منه أنه مما تعلق به الأمر الإلهي. 

  • و في قوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} نوع محاذاة لما في صدر الكلام من قوله: {قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ} إلخ فإن الإتيان بالوصف للإشعار بأن الباعث لهم أن يقولوا ما قالوا إنما هو إنكارهم للمعاد و عدم رجائهم لقاء الله فقابلهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأمر من ربه بقوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فيئول المعنى إلى أنكم تسألون ما تسألون لأنكم لا ترجون لقاء الله لكنني لا أشك فيه فلا يمكنني إجابتكم إليه لأني أخاف عذاب يوم اللقاء، و هو يوم عظيم. 

  • و في تبديل يوم اللقاء بيوم عظيم فائدة الإنذار مضافا إلى أن العذاب لا يناسب اللقاء تلك المناسبة. 

  • قوله تعالى{قُلْ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} أدراكم به‌ أي أعلمكم الله به، و العمر بضمتين أو بالفتح فالسكون هو البقاء، و إذا استعمل في القسم كقولهم: لعمري و لعمرك تعين الفتح. 

  • و هذه الآية تتضمن رد الشق الأول من سؤالهم و هو قولهم: {اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} و معناها على ما يساعد عليه السياق: أن الأمر فيه إلى مشية الله لا إلى 

تفسير الميزان ج۱۰

29
  • مشيتي فإنما أنا رسول و لو شاء الله أن ينزل قرآنا غير هذا و لم يشأ هذا القرآن ما تلوته عليكم و لا أدراكم به فإني مكثت فيكم عمرا من قبل نزول القرآن و عشت بينكم و عاشرتكم و عاشرتموني و خالطتكم و خالطتموني فوجدتموني لا خبر عندي من وحي القرآن، و لو كان ذلك إلي و بيدي لبادرت إليه قبل ذلك، و بدت من ذلك آثار و لاحت لوائحه، فليس إلي من الأمر شي‌ء، و إنما الأمر في ذلك إلى مشية الله و قد تعلقت مشيته بهذا القرآن لا غيره أ فلا تعقلون؟ 

  • قوله تعالى{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْمُجْرِمُونَ} استفهام إنكاري أي لا أحد أظلم و أشد إجراما من هذين الفريقين: المفتري على الله كذبا، و المكذب بآياته فإن الظلم يعظم بعظمة من يتعلق به و إذا اختص بجنب الله كان أشد الظلم. 

  • و ظاهر سياق الاحتجاج في الآيتين أن هذه الآية من تمامها و المعنى: لا أجيبكم إلى ما اقترحتم علي من الإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله فإن ذلك ليس إلي و لا لي حق فيه، و لو أجبتكم إليه لكنت أظلم الناس و أشدهم إجراما و لا يفلح المجرمون فإني لو بدلت القرآن و غيرت بعض مواضعه مما لا ترتضونه لكنت مفتريا على الله كذبا و لا أظلم منه، و لو تركت هذا القرآن و جئتكم بغيره مما ترتضونه لكنت مكذبا لآيات الله، و لا أظلم منه. 

  • و ربما احتمل كون الاستفهام الإنكاري بشقيه تعريضا للمشركين أي أنتم أظلم الناس بإثباتكم لله شركاء و هو افتراء الكذب على الله و بتكذيبكم بنبوتي و الآيات النازلة علي و هو تكذيب بآيات الله و لا يفلح المجرمون. 

  • و ذكر بعضهم أن الأول من شقي الترديد للنبي على تقدير إجابتهم و الثاني للمشركين، أي لا أحد أظلم عند الله من هذين الفريقين: المفترين على الله و المكذبين بآياته، و أنا أنعى عليكم الثاني منهما فكيف أرضى لنفسي بالأول و هو شر منه؟ و أي فائدة لي من هذا الاجرام العظيم و أنا أريد الإصلاح؟ 

  • و الذي ذكره من المعنى لا بأس به في نفسه لكن الشأن في استفادته من الآية 

تفسير الميزان ج۱۰

30
  • و دلالة لفظها عليه، و كذا الوجه السابق عليه بالنظر إلى السياق. 

  • قوله تعالى{وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اَللَّهِ} إلى آخر الآية الكلام: موجه نحو عبدة الأصنام من المشركين و إن كان ربما شمل غيرهم كأهل الكتاب بحسب سعة معناه، و ذلك لمكان {مَا} و كون السورة مكية من أوائل ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من القرآن. 

  • و قد كانت عبدة الأصنام يعبدون الأصنام ليتقربوا بعبادتها إلى أربابها و بأربابها إلى رب الأرباب و هو الله سبحانه، و يقولون: «إننا على ما بنا من ألواث البشرية المادية و قذارات الذنوب و الآثام لا سبيل لنا إلى رب الأرباب لطهارة ساحته و قدسها و لا نسبة بيننا و بينه. 

  • فمن الواجب أن نتقرب إليه بأحب خلائقه إليه و هم أرباب الأصنام الذين فوض الله إليهم أمر تدبير خلقه، و نتقرب إليهم بأصنامهم و تماثيلهم و إنما نعبد الأصنام لتكون شفعاء لنا عند الله لتجلب إلينا الخير و تدفع عنا الشر فتقع العبادة للأصنام حقيقة، و الشفاعة لأربابها و ربما نسبت إليها. 

  • و قد وضع في الكلام قوله: {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنْفَعُهُمْ} موضع الأصنام للتلويح إلى موضع خطئهم في مزعمتهم، و هو أن هذا السعي إنما كان ينجح منهم لو كانت هذه الأصنام ضارة نافعة في الأمور و كانت ذوات شعور بالعبادة و التقرب حتى ترضى عن عبادها بعبادتهم لها فتشفع أو يشفع أربابها لهم عند الله إن كان الله يرتضي شفاعتهم و هؤلاء أجسام ميتة لا تشعر بشي‌ء و لا تضر و لا تنفع شيئا. 

  • و قد أمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يحتج على بطلان دعواهم الشفاعة مضافا إلى ما يلوح إليه قوله: {لاَ يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنْفَعُهُمْ} بقوله: {قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ} و محصله أن الله سبحانه لا علم له بهذه الشفعاء في شي‌ء من السماوات و الأرض فدعواكم هذه إخبار منكم إياه بما لا يعلم، و هو من أقبح الافتراء و أشنع المكابرة، و كيف يكون في الوجود شي‌ء لا يعلم به الله و هو يعلم ما في السماوات و الأرض؟ 

تفسير الميزان ج۱۰

31
  • فالاستفهام إنكاري، و نفي العلم بوجود الشفعاء كناية عن نفي وجودها، و لعل اختيار هذا التعبير لكون الشفاعة مما يتقوم بالعلم لذاته فإن الشفاعة إنما تتحقق إذا كان المشفوع عنده عالما بوجود الشافع و شفاعته فإذا فرض أنه لا يعلم بالشفعاء فكيف تتحقق الشفاعة عنده و هو لا يعلم. 

  • و قوله: {سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} كلمة تنزيه، و هي من كلام الله و ليست مقولة قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإن ظرف المشركين بالنسبة إليه هو الخطاب دون الغيبة فلو كان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لقيل: عما تشركون بالخطاب. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كَانَ اَلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} البقرة: - ٢١٣ أن الآية تكشف عن نوعين من الاختلاف بين الناس. 

  • أحدهما: الاختلاف من حيث المعاش و هو الذي يرجع إلى الدعاوي و ينقسم به الناس إلى مدع و مدعى عليه و ظالم و مظلوم و متعد و متعدى عليه و آخذ بحقه و ضائع حقه، و هذا هو الذي رفعه الله سبحانه بوضع الدين و بعث النبيين و إنزال الكتاب معهم ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و يعلمهم معارف الدين و يواجههم بالإنذار و التبشير. 

  • و ثانيهما: الاختلاف في نفس الدين و ما تضمنه الكتاب الإلهي من المعارف الحقة من الأصول و الفروع، و قد صرح القرآن في مواضع من آياته أن هذا النوع من الاختلاف ينتهي إلى علماء الكتاب بغيا بينهم، و ليس مما يقتضيه طباع الإنسان كالقسم الأول، و بذلك ينقسم الطريق إلى طريقي الهداية و الضلال فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، و قد ذكر سبحانه في مواضع من كلامه بعد ذكر هذا القسم من الاختلاف أنه لو لا قضاء من الله سبق لحكم بينهم فيما اختلفوا فيه و لكن يؤخرهم إلى أجل، قال تعالى: {وَ مَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً 

تفسير الميزان ج۱۰

32
  •  بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} الشورى: - ١٤ إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و سياق الآية السابقة أعني قوله تعالى: {وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنْفَعُهُمْ} إلخ، لا يناسب من الاختلافين المذكورين إلا الاختلاف الثاني و هو الاختلاف في نفس الدين لأنها تذكر ركوب الناس طريق الضلال بعبادتهم ما لا يضرهم و لا ينفعهم و اتخاذهم شفعاء عند الله و مقتضى ذلك أن يكون المراد من كون الناس سابقا أمة واحدة كونهم على دين واحد و هو دين التوحيد ثم اختلفوا فتفرقوا فريقين موحد و مشرك. 

  • فذكر الله فيها أن اختلافهم كان يقضي أن يحكم الله بينهم بإظهار الحق على الباطل و فيه هلاك المبطلين و إنجاء المحقين لكن السابق من الكلمة الإلهية منعت من القضاء بينهم، و الكلمة هي قوله تعالى لما أهبط الإنسان إلى الدنيا {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إلى حِينٍ} البقرة: - ٣٦. 

  • و للمفسرين في الآية أقوال عجيبة منها: أن المراد بالناس هم العرب كانوا على دين واحد حق و هو دين إبراهيم (عليه السلام) إلى زمن عمرو بن لحي الذي زوج بينهم الوثنية فانقسموا إلى حنفاء مسلمين، و عبدة أصنام مشركين و أنت خبير أنه لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة. 

  • و منها: أن المراد بالناس جميعهم، و المراد من كونهم أمة واحدة كونهم على فطرة الإسلام و إن كانوا مختلفين دائما، فلفظة {كَانَ} منسلخ الزمان، و الآية تحكي عما عليه الناس بحسب الطبع و هو التوحيد، و ما هم عليه بحسب الفعلية و هو الاختلاف فليس الناس بحسب الطبع الفطري إلا أمة واحدة موحدين لكنهم اختلفوا على خلاف فطرتهم. 

  • و فيه أنه خلاف ظاهر الآية و الآية التي في سورة البقرة، و كذا ظاهر سائر الآيات كقوله: {وَ مَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} الشورى: - ١٤ و قوله: {وَ مَا اِخْتَلَفَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} آل عمران: - ١٩. 

تفسير الميزان ج۱۰

33
  • على أن القول بوجود الاختلاف الدائم بين الناس مع عدم رجوعه إلى الفطرة مما لا يجتمعان. 

  • و منها: أن المراد أن الناس جميعا كانوا على ملة واحدة هي الكفر و الشرك ثم اختلفوا فكان مسلم و كافر. 

  • و هذا أسخف الأقوال في الآية فإنه مضافا إلى كونه قولا بغير دليل يأباه ظاهر الآيات فإن ظاهرها أن ظهور الاختلاف لانتهائه إلى بغي الناس من بعد ما جاءهم العلم أي ظهور الكفر و الشرك عن بغي كان هو المقتضي للحكم بينهم و القضاء عليهم بنزول العذاب و الهلاك فإذا كانوا جميعا على الكفر و الشرك من غير سابقة هدى و إيمان فما معنى استناد الاقتضاء إلى البغي عن علم؟ و ما معنى خلق الجميع و وجود المقتضي لإهلاكهم جميعا إلا انتقاض الغرض الإلهي؟ 

  • و هذا القول أشبه بما قالته النصارى في مسألة التفدية إن الله خلق الإنسان ليطعمه [ليطيعه] فيسكنه الجنة دائما لكنه عصاه و نقض بذلك غرض الخلقة فتداركه الله بتفدية المسيح. 

  • و منها: قول بعضهم: إن المراد بالكلمة في قوله: {وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} إلخ قوله تعالى في هذه السورة {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الآية) - ٩٣. 

  • و فيه: أن المراد بالسبق إن كان هو السبق بحسب البيان فالآية متأخرة عن هذه الآية لوقوعها في أواخر السورة، و الآيات متصلة جارية. على أن الآية في بني إسرائيل خاصة و الضمير في قوله: {بَيْنَهُمْ} راجع إليهم و هي قوله: {وَ لَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ فَمَا اِخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يونس - ٩٣. 

  • على أن قوله في بعض الآيات {وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} الشورى: - ١٤ لا يلائم هذا المعنى من السبق. 

تفسير الميزان ج۱۰

34
  • و إن كان المراد بالسبق السبق بحسب القضاء فينبغي أن يتبع في ذلك أول كلمة قالها الله تعالى في ضلال الناس و شركهم و معصيتهم، و ليست إلا ما قاله عند أول ما أسكن الإنسان الأرض و هو ما قدمناه من الآية. 

  • قوله تعالى{وَ يَقُولُونَ لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا اَلْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ} الآية كقوله قبلها: {وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} و قوله قبله: {وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} تعد أمورا من مظالم المشركين في أقوالهم و أعمالهم ثم ترد عليها بحجج تلقنها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليقيمها عليهم كما مر في أول الآيات فقوله: {وَ يَقُولُونَ لَوْ لاَ أُنْزِلَ} إلخ، عطف على قوله في أول الآيات: {وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} 

  • و فيها مع ذلك عود بعد عود إلى إنكارهم أمر القرآن فإن مرادهم بقولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} و إن كان طلب آية أخرى غير القرآن لكنهم إنما قالوه إزراء و تحقيرا لأمر القرآن و استخفافا به لعدم عده آية إلهية و الدليل عليه قوله تعالى: {فَقُلْ إِنَّمَا اَلْغَيْبُ لِلَّهِ} و لم يقل: «قل» كما قال في سائر الآيات كأنه يقول: و يطلبون منك آية أخرى غير مكتفين بالقرآن و لا راضين به فإذا لم يكتفوا به آية فقل: إنما الآيات من الغيب المختص بالله و ليست بيدي فانتظروا إني معكم من المنتظرين. 

  • فهذا هو المستفاد من الآية و فيها دلالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان ينتظر آية فاصلة بين الحق و الباطل غير القرآن قاضية بينه و بين أمته، و سيجي‌ء الوعد الصريح منه بهذه الآية التي يأمر بانتظارها هاهنا في قوله: {وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} يونس: - ٤٦ إلى تمام عدة آيات. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا أَذَقْنَا اَلنَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} إلى آخر الآية؛ مضمون الآية و إن كان من المعاني العامة الجارية في أغلب الناس في أكثر الأوقات فإن الفرد من الإنسان لا يخلو عن أن يمسه سراء بعد ضراء بل قلما يتفق أن لا يتكرر في حقه ذلك لكن الآية من جهة السياق المتقدم كأنها مسوقة للتعريض للمشركين و مكرهم في آيات الله، و الدليل عليه قوله: {قُلِ اَللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} فقد كان النظر معطوفا على مكر طائفة خاصة و هم المخاطبون بهذه الآيات 

تفسير الميزان ج۱۰

35
  • حيث كانوا يمكرون بآيات السراء و الضراء بعد ظهورها، و من مكرهم مكرهم في القرآن الذي هو آية إلهية و رحمة أذاقهم الله إياها بعد ضراء الجهالة العالقة بهم و شمول ضنك العيش و الذلة و التفرقة و تباعد القلوب و بغضائها لهم و هم يمكرون به فتارة يقولون {اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} و تارة يقولون: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} 

  • فالآية تبين لهم أن هذا كله مكر يمكرونه في آيات الله، و تبين لهم أن المكر بآيات الله لا يعقب إلا السوء من غير أن ينفعهم شيئا فإن الله أسرع مكرا يأخذهم مكره قبل أن يأخذ مكرهم آياته فإن مكرهم بآيات الله عين مكر الله بهم. 

  • فمعنى الآية: {وَ إِذَا أَذَقْنَا اَلنَّاسَ} عبر عن الإصابة بالإذاقة للإيماء إلى التذاذهم بالرحمة و عناية بالقلة فإن الذوق يستعمل في القليل من التغذي {رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} و التعبير بالرحمة في موضع السراء للإشارة إلى أنها من الرحمة الإلهية من غير أن يستوجبوا ذلك فكان من الواجب عليهم أن يقوموا بحقه، و يخضعوا لما تدعو إليه الآية و هو توحيد ربهم و شكر نعمته لكنهم يفاجئون بغير ذلك {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} كتوجيه الحوادث بما تبطل به دلالة الآيات كقولهم قد مس آباءنا السراء و الضراء، و الاعتذار بما لا يرتضيه الله كقولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} و قولهم: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} 

  • فأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيبهم بقوله: {قُلِ اَللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} ثم علله بقوله: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} فلنا عليكم شهداء رقباء أرسلناهم إليكم يكتبون أعمالكم و يحفظونها، و بمجرد ما عملتم عملا حفظ عليكم و تعين جزاؤه لكم قبل أن يؤثر مكركم أثره أو لا يؤثر كما فسروه. 

  • و هنا شي‌ء و هو أن الظاهر من قوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الجاثية: - ٢٩ على ما سيجي‌ء من البيان في تفسير الآية إن شاء الله تعالى أن معنى كتابة الملائكة أعمال العباد هو إخراجهم الأعمال من كمون الاستعدادات إلى مرحلة الفعلية الخارجية و رسم نفس الأعمال في صحيفة الكون و بذلك تنجلي علّيّة كتابة الرسل لأعمالهم لكونه تعالى أسرع مكرا تمام الانجلاء فإن حقيقة المعنى على هذا: أنا نحن نخرج أعمالكم التي تمكرون بها من 

تفسير الميزان ج۱۰

36
  • داخل ذواتكم و نضعها في الخارج فكيف يخفى علينا كونكم تريدون بنا المكر بذلك؟ و هل المكر إلا صرف الغير عما يقصده بحيلة و ستر عليه؟! بل ذاك الذي تزعمونه مكرا بنا مكر منا بكم حيث نجعلكم تزعمونه مكرا و تقدمون على المكر بنا، و هذه المزعمة و الإقدام ضلال منكم و إضلال منا لكم جزاء بما كسبته أيديكم، و سيأتي نظير هذا المعنى في قوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنْفُسِكُمْ} (الآية) : - ٢٣ من السورة. 

  • و في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} على قراءة تمكرون بتاء الخطاب و هي القراءة المشهورة و هو من عجيب الالتفات الواقع في القرآن و لعل النكتة فيه تمثيل معنى قوله: {قُلِ اَللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} في العين كأنه تعالى لما قال لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) : {قُلِ اَللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} أراد أن يوضحه لهم عيانا ففاجأهم بتجليه لهم دفعة فكلمهم و أوضح لهم السبب في كونه أسرع مكرا ثم حجبهم عن نفسه فعادوا إلى غيبتهم و عاد الكلام إلى حاله، و خوطب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ببقية الخطاب: {هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} إلخ، و هذا من لطيف الالتفات. 

  • قوله تعالى{هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ} إلى آخر الآية، الفلك‌ السفينة و تستعمل مفردا و جمعا، و المراد بها هاهنا الجمع بدليل قوله: {وَ جَرَيْنَ بِهِمْ} و الريح العاصف‌: الشديدة الهبوب، و قوله: {أُحِيطَ بِهِمْ} كناية عن الإشراف على الهلاك و تقديره أحاط بهم البلاء أو الأمواج، و الإشارة بقوله: {مِنْ هَذِهِ} إلى الشدة. و معنى الآية ظاهر. 

  • و فيها من عجيب الالتفات الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} إلى قوله: {بِغَيْرِ اَلْحَقِّ} و لعل النكتة فيه إرجاعهم إلى الغيبة و توجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و وصف أعجب جزء من هذه القصة الموصوفة له ليسمعه و يتعجب منه، و يكون فيه مع ذلك إعراض عن الأمر بمخاطبتهم لأنهم لا يفقهون القول. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ} أصل البغي‌ 

تفسير الميزان ج۱۰

37
  • هو الطلب و يكثر استعماله في مورد الظلم لكونه طلبا لحق الغير بالتعدي عليه و يقيد حينئذ بغير الحق، و لو كان بمعنى الظلم محضا لكان القيد زائدا. 

  • و الجملة من تتمة الآية السابقة، و المجموع أعني قوله: {هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ} إلى قوله: {بِغَيْرِ اَلْحَقِّ} بمنزلة الشاهد و المثال بالنسبة إلى عموم قوله قبله: {وَ إِذَا أَذَقْنَا اَلنَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} إلى آخر الآية، أو لخصوص قوله: {قُلِ اَللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} و على أي حال فقوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنْفُسِكُمْ} إلخ، مما يتوقف عليه تمام الغرض من الكلام في الآية السابقة و إن لم يكن من كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} إلى آخر الآية، في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب فقوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ} إلخ، خطاب منه تعالى للناس بلا واسطة، و ليس من كلام النبي (عليه السلام) مما أمره الله سبحانه أن يخاطب به الناس. 

  • و الدليل على ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} إلى آخر الآية، فإنه لا يصلح أن يكون من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و النكتة في هذا الالتفات هي نظير النكتة التي قدمنا ذكرها في قوله تعالى في أول الكلام: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} فكأنه سبحانه يفاجئهم بالاطلاع عليهم أثناء ما يخاطبهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم يحسبون أن ربهم غائب عنهم غافل عن نياتهم و مقاصدهم في أعمالهم فيشرف عليهم و يمثل بذلك كونه معهم في جميع أحوالهم و إحاطته بهم و يقول لهم: أنا أقرب إليكم و إلى أعمالكم منكم فما تعملونه من عمل تريدون به أن تبتغوا علينا و تمكروا بنا إنما توجد بتقديرنا و تجري بأيدينا فكيف يمكنكم أن تبغوا بها علينا؟ بل هي بغي منكم على أنفسكم فإنها تبعدكم منا و تكتب آثامها في صحائف أعمالكم فبغيكم على أنفسكم و هو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به أياما قلائل ثم إلينا مرجعكم فنخبركم و نوضح لكم هناك حقائق أعمالكم. 

  • و قوله: {مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} بالنصب في قراءة حفص عن عاصم و التقدير: 

تفسير الميزان ج۱۰

38
  • تتمتعون متاع الحياة الدنيا، و بالرفع في قراءة غيره و هو خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير هو أي بغيكم و عملكم متاع الحياة الدنيا. 

  • و على كلتا القراءتين فقوله: {مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} إلى آخر الآية، تفصيل لإجمال قوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنْفُسِكُمْ} فقوله: {مَتَاعَ} إلخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى كون بغيهم على أنفسهم من قبيل تعليل الإجمال بالتفصيل و بيانه به. 

  • قوله تعالى{إِنَّمَا مَثَلُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه في الآية السابقة متاع الحياة الدنيا مثل له بهذا المثل يصف فيه من حقيقة أمره ما يعتبر به المعتبرون، و هو من الاستعارة التمثيلية و ليس من تشبيه المفرد بالمفرد من شي‌ء و إن أوهم ذلك قوله: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ} ابتداء، و نظائره شائعة في أمثال القرآن، و الزخرف‌ الزينة و البهجة، و قوله: {لَمْ تَغْنَ} من غني في المكان إذا أقام فيه فأطال المقام، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{وَ اَللَّهُ يَدْعُوا إلى دَارِ اَلسَّلاَمِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الدعاء و الدعوة عطف نظر المدعو إلى ما يدعى إليه و جلب توجهه و هو أعم من النداء فإن النداء يختص بباب اللفظ و الصوت، و الدعاء يكون باللفظ و الإشارة و غيرهما، و النداء إنما يكون بالجهر و لا يقيد به الدعاء. 

  • و الدعاء في الله سبحانه تكويني و هو إيجاد ما يريده لشي‌ء كأنه يدعوه إلى ما يريده، قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} : إسراء: - ٥٢ أي يدعوكم إلى الحياة الأخروية فتستجيبون إلى قبولها، و تشريعي و هو تكليف الناس بما يريده من دين بلسان آياته، و الدعاء من العبد لربه عطف رحمته و عنايته إلى نفسه بنصب نفسه في مقام العبودية و المملوكية، و لذا كانت العبادة في الحقيقة دعاء لأن العبد ينصب فيها نفسه في مقام المملوكية و الاتصال بمولاه بالتبعية و الذلة ليعطفه بمولويته و ربوبيته إلى نفسه و هو الدعاء. 

  • و إلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَ قَالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ 

تفسير الميزان ج۱۰

39
  • يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} : المؤمن - ٦٠حيث عبر أولا بالدعاء ثم بدله ثانيا العبادة. 

  • و قد التبس الأمر على صاحب المنار فقال في تفسيره: إن قول بعض المفسرين و غيرهم: إن من معاني الدعاء العبادة لا يصح على إطلاقه في العبادة الشرعية التكليفية فإن الصيام لا يسمى دعاء لغة و لا شرعا و إنما الدعاء هو مخ العبادة الفطرية و أعظم أركان التكليفية منها كما ورد في الحديث فكل دعاء شرعي عبادة و ما كل عبادة شرعية دعاء. انتهى و منشأ خطئه زعمه أن معنى الدعاء هو النداء للطلب و غفلته عما تقدم من تحليل معناه. 

  • و الأصل في معنى السلام‌ على ما ذكره الراغب في المفردات، هو التعري عن الآفات الظاهرة و الباطنة، و إليه يرجع معناه في جميع مشتقاته، و السلام و السلامة واحد كالرضاع و الرضاعة، و الظاهر أن السلام و الأمن متقاربان معنى، و إنما الفارق أن السلام‌ هو الأمن مأخوذا في نفسه، و الأمن‌ هو السلام مضافا إلى ما يسلم منه يقال: هو في سلام، و هو في أمن من كذا و كذا. 

  • و السلام من أسمائه تعالى لأن ذاته المتعالية نفس الخير الذي لا شر فيه، و تسمى الجنة دار السلام حيث لا شر فيها و لا ضر على ساكنها، و قيل: إنما سميت دار السلام لأنها دار الله الذي هو السلام، و المآل واحد في الحقيقة لأنه تعالى إنما سمي سلاما لبراءته من كل شر و سوء، و في سياق الآية ما يشعر بكون معنى السلام الوصفي مقصودا في الكلام. 

  • و قد أطلق سبحانه السلام و لم يقيده بشي‌ء و لا ورد في كلامه ما يقيده ببعض الحيثيات فهو دار السلام على الإطلاق و ليست إلا الجنة فإن ما يوجد عندنا في الدنيا من السلام إنما هو الإضافي دون المطلق فما من شي‌ء إلا و هو مزاحم ممنوع من بعض ما يحبه و يهواه، و ما من حال إلا و فيه مقارنات من الأضداد و الأنداد. 

  • فإذا أخذت معنى السلام مطلقا غير نسبي تحصل عندك ما عليه الجنة من الوصف، و انكشف أن توصيفها بهذه الصفة نظير توصيفها في قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ 

تفسير الميزان ج۱۰

40
  • فِيهَا} : ق - ٣٥، فإن سلامة الإنسان من كل ما يكرهه و لا يحبه تلازم سلطانه على كل ما يشاؤه و يحبه. 

  • و في تقييد دار السلام بكونها عند ربهم دلالة على قرب الحضور و عدم غفلتهم عنه سبحانه هناك أصلا، و قد تقدم الكلام في معنى الهداية و معنى الصراط المستقيم في مواضع من الأبحاث السابقة كتفسير سورة الحمد و غيره. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي: في قوله تعالى: {قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} (الآية) ، قال فإن قريشا قالت: يا رسول الله ائتنا بقرآن غير هذا فإن هذا شي‌ء تعلمته من اليهود و النصارى، قال الله: قل لهم: لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا أدراكم به فقد لبثت فيكم أربعين سنة قبل أن يوحى إلي، و لم أتكلم بشي‌ء منه حتى أوحي إلي. 

  • أقولو في انطباق مضمونه على الآية خفاء، على ما فيه من مخاطبتهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالرسالة. 

  • و في تفسير العياشي عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال لم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام. 

  • أقول: و الرواية لا تخلو عن شي‌ء. 

  • و في الدر المنثور أخرج البيهقي في الدلائل عن عروة قال:فر عكرمة بن أبي جهل يوم الفتح فركب البحر فأخذته الريح فنادى باللات و العزى، فقال أصحاب السفينة: لا يجوز هاهنا أحد يدعو شيئا إلا الله وحده مخلصا، فقال عكرمة: و الله لئن كان في البحر وحده إنه لفي البر وحده، فأسلم. 

تفسير الميزان ج۱۰

41
  •  أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة مختلفة. 

  • و في تفسير العياشي عن منصور بن يونس عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ثلاث يرجعن على صاحبهن: النكث و البغي و المكر، قال الله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنْفُسِكُمْ} .

  • أقول: و هو مروي عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ثلاث هن رواجع على أهلها: النكث و المكر و البغي. ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنْفُسِكُمْ} {وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ على نَفْسِهِ} : أورده في الدر المنثور. 

  • و في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر محمد بن علي قال: ما من عبادة أفضل من أن تسأل، و ما يدفع القضاء إلا الدعاء، و إن أسرع الخير ثوابا البر، و أسرع الشر عقوبة البغي و كفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، و أن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه، و أن يؤذي جليسه بما لا يعنيه. 

  • و فيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما. 

  • و في تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن العلاء بن عبد الكريم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: في قول الله عز و جل: {وَ اَللَّهُ يَدْعُوا إلى دَارِ اَلسَّلاَمِ} فقال إن السلام هو الله عز و جل و داره التي خلقها لأوليائه الجنة.

  • و فيه عن ابن شهرآشوب عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه و زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) : في قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ يَدْعُوا إلى دَارِ اَلسَّلاَمِ} يعني به الجنة {وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يعني ولاية علي بن أبي طالب.

  • أقول: إن كانت الرواية موقوفة فهي من الجري أو من الباطن من معنى القرآن، و في معناها روايات أخر. 

تفسير الميزان ج۱۰

42
  • [سورة يونس (١٠) : الآیات ٢٦ الی ٣٠]

  • {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيَادَةٌ وَ لاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لاَ ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٢٦ وَ اَلَّذِينَ كَسَبُوا اَلسَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اَللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٢٧ وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَ قَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ٢٨ فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ٢٩ هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ٣٠} 

  • (بيان) 

  • استئناف يعود فيه إلى ذكر جزاء الأعمال و عود الجميع إلى الله الحق، و قد تقدم إيماء إلى ذلك، و فيه إثبات توحيد الربوبية. 

  • قوله تعالى{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيَادَةٌ وَ لاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لاَ ذِلَّةٌ} إلخ، الحسنى مؤنث أحسن و المراد المثوبة الحسنى، و المراد بالزيادة الزيادة على الاستحقاق بناء على أن الله جعل من فضله للعمل مثلا من الجزاء و الثواب ثم جعله حقا للعامل في مثل قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} : آل عمران - ١٩٩ ثم ضاعفه و جعل المضاعف منه أيضا حقا للعامل كما في قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ 

تفسير الميزان ج۱۰

43
  •  أَمْثَالِهَا} : الأنعام - ١٦٠و عند ذلك كان مفاد قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى } استحقاقهم للجزاء و المثوبة الحسنى، و تكون الزيادة هي الزيادة على مقدار الاستحقاق من المثل أو العشرة الأمثال نظير ما يفيده قوله: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} : النساء: - ١٧٣. 

  • و لو كان المراد بالحسنى في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى } العاقبة الحسنى، و ليس فيما يعقل فوق الحسنى شي‌ء كان معنى قوله: {وَ زِيَادَةٌ} الزيادة على ما يعقله الإنسان من الفضل الإلهي كما يشير إليه قوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} : الم السجدة - ١٧ و ما في قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ} : ق - ٣٥ فإن من المعلوم أن كل أمر حسن يشاؤه الإنسان فالمزيد على ما يشاؤه أمر فوق ما يدركه فافهم ذلك. 

  • و الرهق‌ بفتحتين اللحوق و الغشيان يقال: رهقه الدين أي لحق به و غشيه، و القتر الدخان الأسود أو الغبار الأسود، و في توصيفهم بقوله: {وَ لاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لاَ ذِلَّةٌ} محاذاة لما في الآية التالية من وصف أهل النار بسواد وجوههم بالقتر و هو سواد صوري و الذلة و هي سواد معنوي. 

  • و المعنى: للذين أحسنوا في الدنيا المثوبة الحسنى و زيادة من فضل الله أو العاقبة الحسنى و زيادة لا تخطر ببالهم و لا يغشى وجوههم سواد من قتر و لا ذلة، و أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. 

  • قوله تعالى{وَ اَلَّذِينَ كَسَبُوا اَلسَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} إلى آخر الآية، جملة {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} مبتدأ لخبر محذوف و التقدير: لهم جزاء سيئة بمثلها من العذاب، و الجملة خبر للمبتدإ الذي هو قوله: {اَلَّذِينَ كَسَبُوا اَلسَّيِّئَاتِ} و المراد أن الذين كسبوا السيئات لا يجزون إلا مثل ما عملوه من العقوبات السيئة فجزاء فعلة سيئة عقوبة سيئة. 

  • و قوله: {مَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي ما لهم عاصم يعصمهم من الله أي من عذابه و فيه نفي لشركائهم الذين يظنونهم شفعاء على وجه ينفي كل عاصم مانع سواء كان شريكا شفيعا أو ضدا قويا ممانعا أو أي عاصم غيرهما. 

تفسير الميزان ج۱۰

44
  • و قوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اَللَّيْلِ مُظْلِماً} القطع جمع قطعة و مظلما حال من الليل، و المراد كأن الليل المظلم قسم إلى قطع فأغشيت وجوههم تلك القطع فاسودت بالتمام، و المتبادر منه أن يغشى وجه كل من المشركين بقطعة من تلك القطع لا كما فسره بعضهم أن المراد أن الوجوه أغشيت تلك القطع قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات بعضها فوق بعض. فليس في الكلام ما يدل على ذلك. 

  • و قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يدل على دوام بقائهم في النار لدلالة الصحابة و الخلود عليه كما أن نظيره في أصحاب الجنة يدل على نظيره. 

  • قوله تعالى{وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ} إلى آخر الآية. المراد حشر جميع من سبق ذكره من المؤمنين و المشركين و شركائهم فإنه تعالى يذكر المشركين و شركاءهم في هذه الآية و ما يتلوها ثم يشير إلى الجميع بقوله في الآية التالية: {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} 

  • و قوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ} أي الزموا مكانكم أنتم و ليلزم شركاؤكم مكانهم و تفرع على هذا الخطاب أن زيلنا بينهم، و قطعنا الرابطة التي كانت تربطهم بشركائهم و هي رابطة الوهم و الحسبان التي يتصلون بسببها بشركائهم فانقطعوا عن شركائهم و انقطع شركاؤهم عنهم فبان أن عبادتهم لم تقع عليهم و لم تتعلق بهم لأنهم إنما عبدوا الشركاء و هم ليسوا بشركاء. 

  • و الدليل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى بعده: {وَ قَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} فالكلام على ظاهره من النفي الجدي الصادق لعبادتهم إياهم، و ليسوا يكذبون في كلامهم هذا بدليل استنادهم إلى شهادة الله سبحانه، و لا أنهم يريدون أنا لم نكن ندعوكم إلى عبادتنا فإن الكلام لا يلائم هذا المعنى، و لا أن مرادهم التعريض لهم بأنكم كنتم تعبدون أهواءكم و شياطينكم المغوين لكم في الحقيقة فإن ذلك لا يلائم دعواهم الغفلة، و كذا لا يلائمه قوله بعده: {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} إلخ، على ما سيجي‌ء من معناه بل مرادهم نفي العبادة حقيقة بنفي حقيقة الشركة، و الاستشهاد على ذلك بشهادة الله و علمه بغفلتهم عن عبادتهم. 

تفسير الميزان ج۱۰

45
  • و العبادة التي هي اتصال ما بالمملوكية و التذلل من العابد بالمعبود إنما تكون عبادة إذا اتصلت و ارتبطت بالمعبود حتى يتم به معنى اللام في قولنا: العبادة له و لا يكون ذلك إلا بشعور من المعبود و علم منه بذلك فإذا لم يتحقق هناك علم لم تتحقق عبادة حقيقة، و إنما هي صورة عبادة. 

  • فقد تبين أن المراد بقوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} إظهاره و إبرازه تعالى يومئذ حقيقة الأمر الذي سترت عليه الأوهام و حجبته الأهواء في الدنيا و هو أن حقيقة المولوية و مالكية زمام التدبير لله سبحانه و ليس لغيره من المولوية و الربوبية شي‌ء حتى يصح الالتجاء إليه و تصدق عبادته. 

  • فإذا كشف الله الغطاء عن وجه هذه الحقيقة يومئذ بانَ للمشركين أن شركاءهم لم يكونوا شركاء و لا معبودين لهم في الحقيقة - لغفلتهم عن عبادتهم، و إنما كانوا يأتون لهم بصورة العبادة التي كان الوهم و الهوى يصور أنها عبادة و ليست بها. 

  • و إليه يشير أيضا قوله تعالى: {وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاَءِ شُرَكَاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} النحل: - ٨٦. 

  • و قد تبين بذلك أيضا أن قوله: {وَ قَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} قول من شركائهم لهم على الجد و الحقيقة، و يظهر به فساد قول بعضهم: المراد أنكم لم تعبدونا بأمرنا و دعائنا لا أنكم لم تعبدونا أصلا لأن ذلك كذب لا يجوز أن يقع في الآخرة لكونهم ملجئين فيها إلى ترك القبيح. 

  • فإن نفي أصل العبادة بما عرفت من معناه هو حق الصدق و إثبات العبادة و إن لم يكن كذبا إلا أنه لا يخلو عن مجاز في الجملة بالنظر إلى حقيقة الأمر على أن ما ذكره أن المراد نفي العبادة بأمرهم و دعوتهم معنى لا دليل عليه من جهة اللفظ. 

  • على أن الكذب إنما لا يقع في الآخرة إذا كان عملا و كسبا و أما بمعنى نتيجة الملكات الدنيوية فلا مانع من إمكانه بل هو واقع كما يحكيه تعالى في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا على أَنْفُسِهِمْ} الأنعام: - ٢٤ و غيره من الآيات. 

تفسير الميزان ج۱۰

46
  • و كذا قول بعضهم: إن المراد ما كنتم تخصوننا بالعبادة، و إنما كنتم تعبدون أهواءكم و شهواتكم و شياطينكم المغوية لكم فإن صدق عبادة الأهواء و الشيطان على عملهم من جهة أنه اتباع للهوى و الشيطان لا ينفي عنه صدق كونه عبادة للأصنام كما أنه تعالى يصدق في كلامه الجهات الثلاث جميعا قال تعالى: {وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنْفَعُهُمْ} يونس: - ١٨ و قال {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الجاثية: - ٢٣، و قال {أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} يس: - ٦٠. 

  • و من المعلوم أن الشركاء يحتجون لنفي كونهم معبودين لهم لا لإثبات كون الهوى و الشيطان معبودين لهم مع الشركاء فإن هذا لا ينفعهم في الحجة البتة، و يستلزم لغوية إثباتهم الغفلة لأنفسهم في قولهم: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} لأن الأهواء أيضا ما كانت شاعرة بعبادتهم كما أن الأصنام و هي أجسام ميتة كذلك. 

  • و لعل القائل اعتمد في قوله على الحصر المفهوم من قوله: {مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} بتقديم المفعول على فعله، و ظاهره أنه قصر قلب مدلوله نفي المعبودية عن أنفسهم و إثباته لغيرهم، ليس نفيا لأصل العبادة فإنهم يثبتونها في قولهم: {عَنْ عِبَادَتِكُمْ} فإن إضافة المصدر إلى معموله يفيد الثبوت. 

  • لكن الحق أن هؤلاء الشركاء إنما قالوا لهم: {مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} تجاه ما قاله المشركون على ما حكاه الله {رَبَّنَا هَؤُلاَءِ شُرَكَاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ} النحل: - ٨٦ فنفوا عبادتهم عن الله سبحانه و أثبتوها للشركاء و الشركاء لم يكن ينفعهم إلا نفي عبادة المشركين عن أنفسهم، و أما أنها ثابتة لمن؟ فلا غرض لهم يتعلق بذلك و إنما همهم تنزيه أنفسهم عن دعوى الشركة، و قد احتجوا على ذلك بإثبات الغفلة عن ذلك لأنفسهم، و لو كانوا شاعرين بعبادتهم و عبدوهم كان لزمهم أعني الشركاء دعوى الشركة. 

  • قوله تعالى{فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ} إلى آخر الآية، ظهر معناه بما مر من التقرير و الفاء في قوله: {فَكَفى بِاللَّهِ} يفيد التعليل كقولنا: اعبد الله فهو ربك، و هو شائع في الكلام. 

  • قوله تعالى{هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} إلى آخر الآية، البلاء 

تفسير الميزان ج۱۰

47
  • الاختبار، و الإشارة بقوله: {هُنَالِكَ} إلى الموقف الذي ذكره بقوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} 

  • فذلك الموقف موقف تختبر و تمتحن كل نفس ما أسلفت و قدمت من الأعمال فتنكشف لها حقيقة أعمالها و تشاهدها مشاهدة عيان لا مجرد الذكر أو البيان، و بمشاهدة الحق من كل شي‌ء عيانا ينكشف أن المولى الحق هو الله سبحانه، و تسقط و تنهدم جميع الأوهام، و تضل جميع الدعاوي التي يفتريها الإنسان بأوهامه و أهوائه على الحق. 

  • فهذه الافتراءات و الدعاوي جميعا إنما نشأت من حيث الروابط التي نضعها في هذه الدنيا بين الأسباب و المسببات و الاستقلال و المولوية التي نعطيها الأسباب و لا إله إلا الله و لا مولى حقا إلا هو سبحانه فإذا انجلت حقيقة الأمر، و انكشف غيم الوهم و انهتك حجاب الدعاوي ظهر أن لا مولى حقا إلا هو سبحانه، و بطل جميع الآلهة التي إنما أثبتها الافتراء من الإنسان، و سقطت و حبطت جميع الأعمال إلا ما عبد به الله سبحانه عبادة حق. 

  • فالفقرات الثلاث من الآية أعني قوله: {تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ} إلخ، و قوله: {رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ} إلخ، و قوله: {وَ ضَلَّ عَنْهُمْ} إلخ، كل منها تعين الأخريين على إفادة حقيقة معناها، و محصل مفاد المجموع ظهور حقيقة الولاية الإلهية يومئذ ظهور عيان و أن ليس لغيره تعالى إلا الفقر و المملوكية المحضة فيبطل عند ذلك كل دعوى باطلة و ينهدم بنيان الأوهام. 

  • كما يشير إلى ذلك قوله: {هُنَالِكَ اَلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ اَلْحَقِّ} : الكهف: - ٤٤، و قوله: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفى عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‌ءٌ لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} غافر - ١٦: و قوله: {وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} : الانفطار: - ١٩، إلى غير ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۰

48
  • (بحث روائي) 

  • في أمالي المفيد بإسناده إلى أبي إسحاق الهمداني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : فيما كتب إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر و أمره أن يقرأه على الناس، و فيما كتب: قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيَادَةٌ} و الحسنى هي الجنة و الزيادة هي الدنيا.

  • و في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية: فأما الحسنى فهي الجنة، و أما الزيادة فالدنيا ما أعطاهم الله في الدنيا يحاسبهم الله في الآخرة، و يجمع الله لهم ثواب الدنيا و الآخرة (الحديث) . 

  • أقول: و الروايتان ناظرتان إلى المعنى الأول الذي قدمناه في البيان المتقدم و روى ما في معنى الثاني الطبرسي في المجمع، عن الباقر (عليه السلام) . 

  • و في تفسير البرهان روي في نهج البيان عن علي بن إبراهيم قال:قال الزيادة هبة الله عز و جل. 

  • و في الدر المنثور أخرج الدارقطني و ابن مردويه عن صهيب في الآية قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : الزيادة النظر إلى وجه الله.

  • أقول: و روي هذا المعنى بعدة طرق من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد تقدم توضيح معناها في تفسير قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} : الأعراف: - ١٤٣ في الجزء الثامن من الكتاب. 

  • و في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اَللَّيْلِ مُظْلِماً} قال: أ ما ترى البيت إذا كان الليل كان أشد سوادا من خارج فكذلك وجوههم يزدادون سوادا.

  • أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و كأنه (عليه السلام) يريد تفسير القطع من الليل الواقعة في الآية. 

تفسير الميزان ج۱۰

49
  • و في الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن السدي:في قوله: {وَ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ} قال: نسختها قوله: {مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ اَلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلى لَهُمْ} 

  • أقول: و هو من أسخف القول بل الآيتان ناظرتان إلى جهتين مختلفتين من المعنى و هما الظاهر و الباطن.

  • [سورة يونس (١٠) : الآیات ٣١ الی ٣٦ ]

  • {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اَللَّهُ فَقُلْ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ ٣١ فَذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ فَماذا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٣٢ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٣٣ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اَللَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٣٤ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ قُلِ اَللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ٣٥ وَ مَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ اَلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ٣٦} 

تفسير الميزان ج۱۰

50
  • (بيان) 

  • حجج ساطعة على توحيده تعالى في الربوبية يأمر نبيه (صلى الله عليه و آله وسلم) بإقامتها على المشركين، و هي ثلاث حجج مرتبة بحسب الدقة و المتانة فالحجة الأولى تسلك من الطريق الذي يعتبره الوثنيون و عبدة الأصنام فإنهم إنما يعبدون أرباب الأصنام بأصنامهم من جهة تدبيرهم للكون فيعبدون كلا منهم لأجل ما يخص به من الشأن، و ما يرجع إليه من التدبير ليرضى بذلك عمن يعبده فيفيض عليه بركاته أو ليؤمنه فلا يرسل إليه سخطه و عقابه كما كان يعبد سكان السواحل رب البحر، و أهل الجبال و أهل البر و أهل العلوم و الصنائع و أهل الحروب و الغارات و غيرهم كل يعبد من يناسب تدبيره الشأن الذي يهمه ليرضى عنه ربه فيبارك عليه برضاه أو يكف عنه غضبه. 

  • و محصل الحجة أن تدبير العالم الإنساني و سائر الموجودات جميعا يقوم به الله سبحانه لا غير على ما يعترفون به فمن الواجب أن يوحدوه بالربوبية و لا يعبدوا إلا إياه. 

  • و الحجة الثانية ما يعتبره عامة المؤمنين و ذلك أنهم لا يلتفتون كثيرا إلى زخارف هذه النشأة من لذائذ المادة، و إنما جل اعتنائهم بالحياة الدائمة الأخروية التي تتعين سعادتها و شقاوتها بالجزاء الإلهي بأعمالهم فإذا قامت البينة العقلية على الإعادة كالبدء كان من الواجب أن لا يعبد إلا الله سبحانه، و لا يتخذ أرباب من دونه طمعا في ثوابه و خوفا من عقابه. 

  • و الحجة الثالثة و هي التي تحن إليها قلوب الخاصة من المؤمنين و هي أن المتبع عند العقل هو الحق، و لما كان الحق سبحانه هو الهادي إلى الحق دون ما يدعونه من الأرباب من دون الله فليكن هو المتبع دون ما يدعونه من الأرباب، و سيأتي في تفسير الآيات توضيح هذه الحجج الثلاث بما تنجلي به مزيد انجلاء إن شاء الله. 

  • و لو لا اعتبار هذه النكتة كان الظاهر أن تذكر أولا الحجة الثانية ثم الثالثة ثم الأولى أو تذكر الثانية ثم يجمع بين الأولى و الثالثة فيذكر بعدها. 

تفسير الميزان ج۱۰

51
  • قوله تعالى{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ} إلى آخر الآية. الرزق‌ هو العطاء الجاري، و رزقه تعالى للعالم الإنساني من السماء هو نزول الأمطار و الثلوج و نحوه، و من الأرض هو بإنباتها نباتها و تربيتها الحيوان و منهما يرتزق الإنسان، و ببركة هذه النعم الإلهية يبقى النوع الإنساني و المراد بملك السمع و الأبصار كونه تعالى متصرفا في الحواس الإنسانية التي بها ينتظم له أنواع التمتع من الأرزاق المختلفة التي أذن الله تعالى أن يتمتع بها فإنما هو يشخص و يميز ما يريده مما لا يريده بإعمال السمع و البصر و اللمس و الذوق و الشم فيتحرك نحو ما يريده، و يتوقف أو يفر مما يكرهه بها. 

  • فالحواس‌ هي التي تتم بها فائدة الرزق الإلهي، و إنما خص السمع و البصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الأعمال الحيوية أكثر من غيرهما، و الله سبحانه هو الذي يملكهما و يتصرف فيهما بالإعطاء و المنع و الزيادة و النقيصة. 

  • و قوله: {وَ مَنْ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ} الحياة بحسب النظر البادئ في الإنسان هي المبدأ الذي يظهر به العلم و القدرة في الشي‌ء فيصدر أعماله عن العلم و القدرة ما دامت الحياة، و إذا بطلت بطل الصدور كذلك. 

  • ثم اكتشف من طريق النظر العلمي أن ذلك لا يختص بأقسام الحيوان كما كان يعطيه النظر الابتدائي فإن الملاك الذي كان يوجب للحيوان كونه ذا حياة و هو كونه ذا نفس يصدر عنها أعمال مختلفة لا على وتيرة واحدة طبيعية كحركته إلى جهات مختلفة بحركات مختلفة و سكونه من غير حركة، موجودٌ في النبات. 

  • و كذلك الأبحاث الجارية على الطرق الحديثة تعطي ذلك فإن جراثيم الحياة الموجودة في الحيوان التي إليها تنتهي أعماله الحيوية توجد في النبات نظيرها فهو ذو حياة كمثل الحيوان فالنظر العلمي على أي حال يهدي إلى عموم الحياة لجميع أنواع الحيوان و النبات. 

  • ثم الحياة و هي تقابل الموت الذي هو بطلان مبدإ الأعمال الحيوية تعود بحسب التحليل إلى كون الشي‌ء بحيث تترتب عليه آثاره المطلوبة منه كما أن الموت عدم كونه كذلك فحياة الأرض هي كونها نابتة مخضرة و موتها خلافه، و حياة العمل 

تفسير الميزان ج۱۰

52
  • كونه بحيث ينتهي إلى الغرض الذي أتي به لأجله و موته خلافه، و حياة الكلمة كونها بحيث تؤثر في السامع أثرا مطلوبا و موتها خلافه، و حياة الإنسان كونه جاريا على ما تهدي إليه الفطرة الإنسانية ككونه ذا عقل سليم و نفس زاكية، و لذا عد القرآن الشريف الدين حياة للإنسان لأنه يرى أن الدين الحق و هو الإسلام هو الفطرة الإلهية. 

  • إذا تبين هذا اتضح أن خروج الحي من الميت و خروج الميت من الحي يختلف معناه بحسب اختلاف المراد بالحياة و الموت فعلى النظرتين الأوليين هو خروج الحيوان أو الحيوان و النبات بالكينونة من غيرها كالمني و البيضة و البذر فإن الحي كما لا تدوم له هذه الحياة بقاء إلى غير النهاية لا تذهب أيضا بحسب البدء في حياة غير متناهية و لا طريق إلى إثباته، و خروج أجزاء غير ذات حياة من الحيوان أو الحيوان و النبات بالانفصال. 

  • و على النظرة الأخيرة أعني نظرة تعميم الحياة لكل ما يترتب عليه آثارها المطلوبة منها هو أن يخرج من الأمور غير المفيدة في بابٍ أمورًا مفيدة في ذلك الباب بالكينونة و التولد كخلق الإنسان الحي و الحيوان الحي و النبات الحي من التراب الميت و بالعكس، و كخروج الإنسان العاقل الصالح من الإنسان الذي لا عقل له و لا صلاح و بالعكس، و خروج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن. 

  • و ظاهر الآية الكريمة بالنظر إلى سياقها و مقام المخاطبة فيها أن يكون المراد بإخراج الحي من الميت و بالعكس فيها هو هذا المعنى الأخير، و ذلك أن الآية تقيم الحجة على المشركين من المسلك الذي كانوا يسلكونه في الاحتجاج على اتخاذ الآلهة المختلفة و هو أن العالم المشهود مجموعةٌ من موجودات مختلفة متشتتة علوية و سفلية و السفلية من إنسان و حيوان و نبات و بحر و بر و أمور وراء ذلك كثيرة، و كل منها تحت تدبير مدبر شفيع عند الله نعبده بعبادة صنمه ليقربنا إلى الله زلفى و بالجملة انتهاء التدبيرات على اختلافها إلى مدبرات مختلفة يوجب وجود أرباب من دون الله كثيرة. 

  • و الآية ترد عليهم حجتهم ببيان انتهاء التدبيرات المختلفة إليه تعالى و أن ذلك 

تفسير الميزان ج۱۰

53
  • يدل على أن الله سبحانه رب كل شي‌ء وحده، فهي تخاطبهم بأنكم تعترفون بأن ما يخصكم من التدبير كرزقكم و ما يعمكم و غيركم منه ينتهي إلى الله سبحانه فهو المدبر لأمركم و أمر غيركم فهو الرب لا رب سواه. 

  • و قد بدأت في التعداد بما يخص الإنسان أعني قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} و ختمت بما يعمه و غيره أعني قوله: {وَ مَنْ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ} و ظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: {أَمَّنْ يَمْلِكُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ} هو التدبير الخاص بالإنسان فيكون المراد ملك السمع و الأبصار التي لأفراد الإنسان، و كذا إخراج الحي من الإنسان من ميتة و بالعكس، و قد تبين أن الحياة المخصوصة بالإنسان هو كونه ذا نعمة العقل و الدين. 

  • فالمراد بإخراج الحي من الميت و بالعكس و الله أعلم إخراج الإنسان الحي بالسعادة الإنسانية من الإنسان الميت الذي لا سعادة له و بالعكس. 

  • فالله سبحانه يلقن نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) الحجة على توحيده بالربوبية فأمره بقوله: {قُلْ} أن يقول لهم في سياق الاستفهام: {مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} بالأمطار و الإنبات و التكوين {أَمَّنْ يَمْلِكُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ} منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث ترتزقون بتشخيصهما من طيبات الرزق، و لولاهما لم توفقوا لذلك و فنيتم عن آخركم {وَ مَنْ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ} أي كلَّ أمر مفيد في بابه من غيره {وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ} فيتولد الإنسان السعيد من الشقي و الشقي من السعيد {وَ مَنْ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ} في جميع الخليقة. 

  • {فَسَيَقُولُونَ اَللَّهُ} اعترافا بأنه الذي ينتهي إليه جميع هذه التدبيرات في الإنسان و غيره لأن الوثنيين يعتقدون ذلك فأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يوبخهم أولاً على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى فقال: {فَقُلْ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ} ثم قال: {فَذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمُ} 

  • قوله تعالى{فَذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ فَماذا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} الجملة الأولى نتيجة الحجة السابقة، و قد وصف الرب بالحق ليكون توضيحا لمفاد الحجة، و توطئة و تمهيدا لقوله بعده: {فَماذا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاَلُ} 

تفسير الميزان ج۱۰

54
  • و قوله: {فَماذا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاَلُ} أخذ بلازم الحجة السابقة لاستنتاج أنهم ضالون في عبادة الأصنام فإنه إذا كانت ربوبيته تعالى حقة فإن الهدى في اتباعه و عبادته فإن الهدى مع الحق لا غير فلا يبقى عند غيره الذي هو الباطل إلا الضلال. 

  • فتقدير الكلام: فماذا بعد الحق الذي معه الهدى إلا الباطل الذي معه الضلال فحذف من كل من الطرفين شي‌ء و أقيم الباقي مقامه إيجازا، و قيل: فماذا بعد الحق إلا الضلال، و لذا قال بعضهم: إن في الآية احتباكا و هو من المحسنات البديعية و هو أن يكون هناك متقابلان فيحذف من كل منهما شي‌ء يدل عليه الآخر فإن تقدير الكلام: فماذا بعد الحق إلا الباطل؟ و ماذا بعد الهدى إلا الضلال؟ فحذف الباطل من الأول و الهدى من الثاني و بقي قوله: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ و الوجه هو الذي قدمناه. 

  • ثم تمم الآية بقوله: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي إلى متى تصرفون عن الحق الذي معه الهدى إلى الضلال الذي مع الباطل. 

  • قوله تعالى{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ظاهر السياق أن الكلمة التي تكلم الله سبحانه بها على الفاسقين هي أنهم لا يؤمنون أي أنه سبحانه قضى عليهم قضاء حتما و هو أن الفاسقين و هم على فسقهم لا يؤمنون و لا تنالهم الهداية الإلهية إلى الإيمان، و قد قال تعالى: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ} المائدة: - ١٠٨. 

  • و على هذا فالإشارة بقوله: {كَذَلِكَ} إلى ما تحصل من الآية السابقة: أن المشركين صرفوا عن الحق و فسقوا عنه فوقعوا في الضلال إذ ليس بعد الحق إلا الضلال. 

  • فمعنى قوله: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} إلخ، أن الكلمة الإلهية و القضاء الحتمي الذي قضي به في الفاسقين و هو أنهم لا يؤمنون هكذا حقت و ثبتت في الخارج و أخذت مصداقها و هو أنهم خرجوا عن الحق فوقعوا في الضلال أي أنا لم نقض عدم هدى الفاسقين و عدم إيمانهم ظلما و لا جزافا و إنما قضينا ذلك لأنهم صرفوا عن الحق و فسقوا فوقعوا في الضلال و لا واسطة بينهما فافهم ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۰

55
  • و في الآية دلالة على أن الأمور الضرورية و الأحكام و القوانين البينة التي تجري في النظام المشهود كقولنا: لا واسطة بين الحق و الباطل و لا بين الهدى و الضلال لها نوع استناد إلى القضاء الإلهي، و ليست ثابتة في ملكه تعالى من تلقاء نفسها. 

  • و ربما ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالكلمة في الآية كلمة العذاب و قوله: {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} في موضع التعليل بتقدير لامه، و التقدير كثبوت هذه الحجة عليهم حقت كلمة ربك على الذين فسقوا و هي وعيدهم بالعذاب و إنما حقت عليهم العذاب لأنهم لا يؤمنون. 

  • و لا يخلو عن سقم فإن وجه الشبه غير ظاهر و لا متفق فيهما فالحجة ثابتة عليهم بذاتها و أما العذاب فليس ثبوته كذلك بل لأمر آخر و هو أنهم لا يؤمنون. 

  • و الحجة كما سمعت في البيان المتقدم حجة ساذجة يعترف بحقيتها الوثنية، و قد صرفوها عن وجهها و أقاموا على ما يدعونها من ربوبية أربابهم و استحقاقها للعبادة من دون الله حيث قالوا: إن تدبير كل شأن من شئون العالم العامة إلى واحد من هذه الأرباب فهو رب ذلك الشأن، و إنما نعبد أصنامها و تماثيلها لنرضيها بذلك فتشفع لنا عند الله بما لها من القرب عنده. 

  • فأخذت الآية اعترافهم بأن هذه التدابير لله سبحانه و كيف لا تكون له و هو خالق الكل و مبقيها؟ فله سبحانه وحده حقيقة الربوبية و هو المستحق للعبادة لا غيره. 

  • قوله تعالى{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} إلى آخر الآية. تلقين للاحتجاج من جهة المبدإ و المعاد فإن الذي يبدأ كل شي‌ء ثم يعيده يستحق أن يعبده الإنسان اتقاء من يوم لقائه ليأمن من أليم عذابه و ينال عظيم ثوابه يوم المعاد. 

  • و لما كان المشركون و هم المخاطبون بالحجة غير قائلين بالمعاد أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتصدى جواب سؤاله بنفسه و قال: {قُلِ اَللَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} و إلى متى تصرفون عن الحق. 

تفسير الميزان ج۱۰

56
  • و ليس اعتماد الآية على مسألة الإبداء و الإعادة في احتجاجها اعتمادا على مقدمة غير بينة و لا مبينة فقد احتج عليها في كلامه تعالى من طرق مختلفة كالاحتجاج من طريق لزوم الغاية في فعله، و من طريق وجوب الجزاء على الأعمال في العدل و غير ذلك و قد نفى سبحانه الريب عن البعث و القيامة فيما يبلغ عشر مواضع من كلامه. 

  • و الحجة كما تقدم الإيماء إليه حجة عامة المؤمنين الذين يعبدونه تعالى خوفا من العقاب أو رغبة في الثواب الذي أعد لهم يوم القيامة. 

  • قوله تعالى{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ قُلِ اَللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} إلى آخر الآية، يهدي للحق و إلى الحق بمعنى واحد فالهداية تتعدى بكلتا الحرفين، و قد ورد تعديتها باللام في مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله: {أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ} الم السجدة: - ٢٦، و قوله: {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} إسراء: - ٩ إلى غير ذلك فما ذكره بعضهم من كون اللام في قوله: {يَهْدِي لِلْحَقِّ} للتعليل ليس بشي‌ء. 

  • لقن سبحانه نبيه (صلى الله عليه و آله وسلم) هذه الحجة و هي ثالثة الحجج، و هي حجة عقلية يعتمد عليها الخاصة من المؤمنين، و توضيحها أن من المرتكز في الفطرة الإنسانية و به يحكم عقله أن من الواجب على الإنسان أن يتبع الحق حتى إنه إن انحرف في شي‌ء من أعماله عن الحق و اتبع غيره لغلطٍ أو شبهة أو هوى فإنما اتبعه لحسبانه إياه حقا و التباس الأمر عليه، و لذا يعتذر عنه بما يحسبه حقا فالحق واجب الاتباع على الإطلاق و من غير قيد أو شرط. 

  • و الهادي إلى الحق واجب اتباعه لما عنده من الحق، و من الواجب ترجيحه على من لا يهدي إليه أو يهدي إلى غيره لأن اتباع الهادي إلى الحق اتباع لنفس الحق الذي معه وجوب اتباعه ضروري. 

  • و قد اعتمد في الحجة على هذه المقدمة الضرورية فافتتح الكلام فيها بسؤالهم عن شركائهم هل فيهم من يهدي إلى الحق؟ و من البين أن لا جواب للمشركين في ذلك مثبتا إذ شركاؤهم سواء أ كانوا جمادا غير ذي حياة كالأوثان و الأصنام أم كانوا من الأحياء كالملائكة و أرباب الأنواع و الجن و الطواغيت من فرعون و نمرود و غيرهما لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا. 

تفسير الميزان ج۱۰

57
  • و إذ لم يكن لهم في ذلك جواب مثبت فإنهم لا يجيبون، و لذلك أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يخلفهم في الجواب فيجيب في ذلك أعني الهداية إلى الحق بإثباتها لله سبحانه فقيل: {قُلِ اَللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} فإن الله سبحانه هو الذي يهدي كل شي‌ء إلى مقاصده التكوينية و الأمور التي يحتاج إليها في بقائه كما في قوله: {رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى } : طه – ٥٠و قوله: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى } الأعلى: - ٣ و هو الذي يهدي الإنسان إلى سعادة الحياة و يدعوه إلى الجنة و المغفرة بإذنه بإرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع، و أمرهم ببث الدعوة الحقة الدينية بين الناس. 

  • و قد مر في تفسير قوله تعالى: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ} آل عمران: - ٦٠إن الحق من الاعتقاد و القول و الفعل إنما يكون حقا بمطابقة السنة الجارية في الكون لذي هو فعله؛ فالحق بالحقيقة إنما يكون حقا بمشيته و إرادته. 

  • و إذ تحقق أنه ليس من شركائهم من يهدي إلى الحق، و أن الله سبحانه يهدي إلى الحق سألهم بقوله: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى } ؟ أن يقضوا في الترجيح بين اتباعه تعالى و اتباع شركائهم و هو تعالى يهدي إلى الحق و هم لا يهدون و لا يهتدون إلا بغيرهم، و من المعلوم أن الرجحان لمن يهدي على من لا يهدي أي لاتباعه تعالى على اتباعهم، و المشركون يحكمون بالعكس، و لذلك لامهم و وبخهم بقوله: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ؟ 

  • و التعبير في الترجيح في قوله: {أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ} بأفعل التفضيل الدال على مطلق الرجحان دون التعين و الانحصار مع أن اتباعه تعالى حق لا غير و اتباعهم لا نصيب له من الحق إنما هو بالنظر إلى مقام الترجيح و ليسهل بذلك قبولهم للقول من غير إثارة لعصبيتهم و تهييج لجهالتهم. 

  • و قد أبدع تعالى في قوله: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى } و القراءة الدائرة: {لاَ يَهِدِّي} بكسر الهاء و تشديد الدال و أصله يهتدي، و ظاهر قوله: {لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى } و قد حذف متعلقات الفعل فيه أنه إنما يهتدي بغيره لا بنفسه. 

تفسير الميزان ج۱۰

58
  • و الكلام قد قوبل فيه قوله: {يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ} بقوله: {أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي} مع أن الهداية إلى الحق يقابلها عدم الهداية إلى الحق، و عدم الاهتداء إلى الحق يقابله الاهتداء إلى الحق فلازم هذه المقابلة الملازمة بين الاهتداء بالغير و عدم الهداية إلى الحق، و كذا الملازمة بين الهداية إلى الحق و الاهتداء بالذات فالذي يهدي إلى الحق يجب أن يكون مهتديا بنفسه لا بهداية غيره و الذي يهتدي بغيره ليس يهدي إلى الحق أبدا. 

  • هذا ما تدل عليه الآية بحسب ظاهرها الذي لا ريب فيه و هو أعدل شاهد على أن الكلام موضوع فيها على الحقيقة دون التجوزات المبنية على المساهلة التي نبني عليها و نداولها فيما بيننا معاشر أهل العرف فننسب الهداية إلى الحق إلى كل من تكلم بكلمة حق و دعا إليها و إن لم يعتقد بها أو اعتقد و لم يعمل بها أو عمل و لم يتحقق بمعناها، و سواء اهتدى إليها بنفسه أو هداه إليها غيره. 

  • بل الهداية إلى الحق أعني الإيصال إلى صريح الحق و متن الواقع ليس إلا لله سبحانه أو لمن اهتدى بنفسه أي هداه الله سبحانه من غير واسطة تتخلل بينه و بينه فاهتدى بالله و هدى غيره بأمر الله سبحانه، و قد تقدمت نبذة من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: {وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (الآية) البقرة: - ١٢٤. 

  • و قد تبين بما قدمناه في معنى الآية أمور: 

  • أحدها: أن المراد بالهداية إلى الحق ما هو بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون ما هو بمعنى إراءة الطريق المنتهي إلى الحق فإن من الضروري أن وصف طريق الحق يتأتى من كل أحد سواء اهتدى إلى الحق بنفسه أو بغيره أو لم يهتد. 

  • و ثانيها: أن المراد بقوله: {أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى } من لا يهتدي بنفسه، و هذا أعم من أن يكون ممن يهتدي بغيره أو يكون ممن لا يهتدي أصلا، لا بنفسه و لا بغيره كالأوثان و الأصنام التي هي جماد لا يقبل هداية من غيره، و ذلك أن قوله: {إِلاَّ أَنْ يُهْدى } استثناء من قوله: {أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي} الأعم من أن لا يهتدي أصلا أو يهتدي بغيره و المأخوذ في قوله: {أَنْ يُهْدى } فعل دخلت عليه أن المصدرية 

تفسير الميزان ج۱۰

59
  • المأولة إلى المصدر، و الجملة الفعلية المأولة إلى المصدر كذلك لا يدل على التحقق بخلاف المصدر المضاف إلى معموله ففرق بين قوله: {أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} البقرة: - ١٨٤ فلا يدل على الوقوع و بين نحو قوله: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} يونس: - ٢٩ فيدل على الوقوع، و يقال: ضربك زيدا عجيب إذا ضربته، و أن تضرب زيدا عجيب إذا هممت أن تضربه. 

  • فقوله: {أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى } معناه من لا يكون هداه من نفسه إلا أن تأتيه الهداية من ناحية الغير، و من المعلوم أنها إنما تأتيه من الغير إذا كان في طبعه أن يقبل ذلك، و أما إذا لم يقبل فإنما يبقى له من الوصف أنه لا يهتدي فافهم ذلك. 

  • و للمفسرين في معنى هذا الاستثناء أقوال عجيبة: 

  • منها: أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال لأن من نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى بن مريم و عزيرا و الملائكة (عليهم السلام) ، و هؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله و وحيه كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم‌ {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} الأنبياء: - ٧٣. 

  • و فيه: أن محصله أن المعنى لا يهدي إلا أن يهديه الله تعالى فيهدي غيره بعد اهتدائه بهدايته تعالى، و قد اختل عليه معنى الآية من أصله فإن من لا يهتدي إلى الحق بنفسه لا يتأتى له أن يهدي إلى الحق فإنه إنما يماس الحق من وراء حجاب فكيف يوصل إليه؟ 

  • على أن ما ذكره لا ينطبق على الأصنام التي هي مورد الاحتجاج في الآية فإنها لا تقبل الهداية من أصلها، و قد ذكر المسيح و عزيرا و هما ممن قدسته النصارى و اليهود و ليس وجه الكلام في الآية إليهم و إن شملتهما و غيرهما الآية بحسب عموم الملاك. 

  • و منها: أن الاستثناء منقطع و المراد بمن لا يهدي الأصنام التي لا تقبل الهداية أصلا فحسب، و المعنى: أم من لا يهتدي أصلا كالأصنام إلا أن يهديه الله فيهتدي حينئذ. 

تفسير الميزان ج۱۰

60
  • و فيه: أنه لا يفي بتوجيه المقابلة التي بين قوله: {مَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ} و قوله: {أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي} فإن الهداية إلى الحق و الاهتداء إليه لا يتقابلان إلا أن يئول المعنى إلى مثل قولنا: أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهتدي أصلا إلا أن يهديه الله فيهتدي فيهدي غيره، و يرد عليه أنه لا وجه حينئذ لتخصيصه بمثل الأصنام ممن لا يهتدي أصلا حتى يصير الاستثناء منقطعا بل يعم ما لا يهتدي أصلا لا بنفسه و لا بغيره، و من لا يهتدي بنفسه و يهتدي بغيره كالملائكة مثلا، و يرد عليه ما ورد على الوجه السابق. 

  • و منها: أن المراد بمن لا يهدي الأصنام التي لا تقبل الهداية و {إِلاَّ} بمعنى حتى و المعنى لا يهتدي و لا يقبل الهداية حتى يهدى. 

  • و فيه: أن الترديد يرجع حينئذ إلى مثل قولنا: أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهتدي أصلا حتى يهدى إلى الحق، و يعود الاستثناء مستدركا لا يتعلق به غرض في الكلام. مضافا إلى أن مجي‌ء إلا بمعنى حتى غير ثابت و على تقدير ثبوته قليل في الكلام لا يحمل على مثله أفصح الكلام. 

  • و منها: أن المراد بمن لا يهدي إلا أن يهدى الملائكة و الجن ممن يعبدون من دون الله و هم يقبلون الهداية من الله و إن لم يهتدوا من عند أنفسهم أو المراد الرؤساء المضلون الذين يدعون إلى الكفر فإنهم و إن لم يهتدوا لكنهم يقبلون الهداية و لو هدوا إلى الحق لهدوا إليه. 

  • و فيه: أن الآيات واقعة في سياق الاحتجاج على عبدة الأصنام، و القول بأن المراد بمن لا يهدي إلا أن يهدى الملائكة و الجن أو الرؤساء المضلون يخرجها عن صلاحية الانطباق على المورد. 

  • و ثالثها: أن الهداية إلى الحق بمعنى الإيصال إليه إنما هي شأن من يهتدي بنفسه أي لا واسطة بينه و بين الله سبحانه في أمر الهداية إما من بادئ أمره أو بعناية خاصة من الله سبحانه كالأنبياء و الأوصياء من الأئمة، و أما الهداية بمعنى إراءة 

تفسير الميزان ج۱۰

61
  • الطريق و وصف السبيل فلا يختص به تعالى و لا بالأئمة من الأنبياء و الأوصياء كما يحكيه الله تعالى عن مؤمن آل فرعون إذ يقول {وَ قَالَ اَلَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} المؤمن: - ٣٨ و قال {إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً} الإنسان: - ٣. 

  • و أما قوله تعالى خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو إمام {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} القصص: - ٥٦ و غيره من الآيات فهي مسوقة لبيان الأصالة و التبع كما في آيات التوفي و علم الغيب و نحو ذلك مما سيقت لبيان أن الله سبحانه هو المالك لها بالذات و الحقيقة، و غيره يملكها بتمليك الله ملكا تبعيا أو عرضيا، و يكون سببا لها بإذن الله، قال تعالى: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} الأنبياء: - ٧٣ و في الأحاديث إشارة إلى ذلك و أن الهداية إلى الحق شأن النبي و أهل بيته (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد مر بعض الكلام في الهداية فيما تقدم. 

  • و قوله في ذيل الآية: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} استفهام للتعجيب استغرابا لحكمهم باتباع شركائهم مع حكم العقل الصريح بعدم جواز اتباع من لا يهتدي و لا يهدي إلى الحق. 

  • قوله تعالى{وَ مَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ اَلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً} أغنى يغني يتعدى بمن و عن كلتيهما و قد جاء في الكلام الإلهي بكل من الوجهين فعدي بمن كما في الآية، و بعن كما في قوله: {مَا أَغْنى عَنِّي مَالِيَهْ} الحاقة: - ٢٩. 

  • و إنما نسب اتباع الظن إلى أكثرهم لأن الأقل منهم و هم أئمة الضلالة على يقين من الحق، و لم يؤثروا عليه الباطل و يدعوا إليه إلا بغيا كما قال تعالى: {وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} البقرة: - ٢١٣. و أما الأكثرون فإنما اتبعوا آباءهم تقليدا لهم لحسن ظنهم بهم. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} تعليل لقوله: {وَ مَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} و المعنى أن الله عليم بما يأتونه من الأعمال يعلم أنها اتباع للظن. 

تفسير الميزان ج۱۰

62
  • [سورة يونس (١٠) : الآیات ٣٧ الی ٤٥]

  • {وَ مَا كَانَ هَذَا اَلْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ لَكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ اَلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٣٧ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٣٨ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلظَّالِمِينَ ٣٩ وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ٤٠وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي‌ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ٤١ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ وَ لَوْ كَانُوا لاَ يَعْقِلُونَ ٤٢ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي اَلْعُمْيَ وَ لَوْ كَانُوا لاَ يُبْصِرُونَ ٤٣ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَظْلِمُ اَلنَّاسَ شَيْئاً وَ لَكِنَّ اَلنَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٤ وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنَ اَلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّهِ وَ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ٤٥} 

تفسير الميزان ج۱۰

63
  • (بيان) 

  • رجوع إلى أمر القرآن و أنه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه و تلقين الحجة في ذلك، و للآيات اتصال بما تقدمها من قوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ قُلِ اَللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} (الآية) ، فقد تقدم أن من هدايته تعالى إلى الحق هدايته الناس إلى دينه الذي يرتضيه من طريق الوحي إلى أنبيائه و الكتب التي أنزلها إليهم ككتب نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (عليه السلام) ، و هذه الآيات تذكرها و تقيم الحجة على أن القرآن منها هاد إلى الحق، و لذلك أشير إليها معه حيث قيل: {وَ لَكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ اَلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} 

  • و في آخر الآيات الرجوع إلى ذكر الحشر و هو من مقاصد السورة كما تقدم. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كَانَ هَذَا اَلْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية، قد تقدمت الإشارة إلى أن نفي صفة أو معنى بنفي الكون يفيد نفي الشأن و الاستعداد، و هو أبلغ من نفيه نفسه ففرق بين قولنا ما كان زيد ليقوم، و قولنا: لم يقم أو ما قام زيد إذ الأول يدل على أن القيام لم يكن من شأن زيد و لا استعد له استعدادا، و الثاني ينفي القيام عنه فحسب، و في القرآن منه شي‌ء كثير كقوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} يونس: - ٧٤ و قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَ لاَ اَلْإِيمَانُ} الشورى: - ٥٣: و قوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} . العنكبوت: - ٤٠.

  • فقوله: {وَ مَا كَانَ هَذَا اَلْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ‌مِنْ دُونِ اَللَّهِ} نفي لشأنية الافتراء عن القرآن كما قيل و هو أبلغ من نفي فعليته، و المعنى ليس من شأن هذا القرآن و لا في صلاحيته أن يكون افتراء من دون الله يفتريه على الله سبحانه. 

  • و قوله: {وَ لَكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي تصديقا لما هو حاضر منزل من الكتاب و هو التوراة و الإنجيل كما حكى عن المسيح قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ} الصف: - ٦، و إنما وصفهما بما بين 

تفسير الميزان ج۱۰

64
  • يديه مع تقدمهما لأن هناك كتابا غير الكتابين ككتاب نوح و كتاب إبراهيم (عليه السلام) فإذا لوحظ تقدم جميعها عليه كان الأقرب منها زمانا إليه و هو التوراة و الإنجيل موصوفا بأنه بين يديه. 

  • و ربما قيل: إن المراد بما بين يديه هو ما يستقبل نزوله من الأمور كالبعث و النشور و الحساب و الجزاء، و ليس بشي‌ء. 

  • و قوله: {وَ تَفْصِيلَ اَلْكِتَابِ} عطف على {تَصْدِيقَ} و المراد بالكتاب بدلالة من السياق جنس الكتاب السماوي النازل من عند الله سبحانه على أنبيائه و التفصيل‌ إيجاد الفصل بين أجزائها المندمجة بعضها في بعض المنطوية جانب منها في آخر بالإيضاح و الشرح. 

  • و فيه دلالة على أن الدين الإلهي المنزل على أنبيائه (عليه السلام) واحد لا اختلاف فيه إلا بالإجمال و التفصيل، و القرآن يفصل ما أجمله غيره كما قال تعالى: {إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْإِسْلاَمُ} آل عمران: - ١٩. 

  • و إن القرآن الكريم مفصل لما أجمله الكتب السماوية السابقة مهيمن عليها جميعا كما قال تعالى: {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ} المائدة: - ٤٨ و قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} أي لا ريب فيه هو من رب العالمين، و الجملة الثانية كالتعليل للأولى. 

  • قوله تعالى{أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} إلى آخر الآية، أم منقطعة و المعنى بل يقولون افتراه، و الضمير للقرآن، و اتصاف السورة بكونها مثل القرآن شاهد على أن القرآن يصدق على الكثير منه و القليل. 

  • و المعنى قل للذين يقولون افتراه: إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة مثل هذا القرآن المفترى و ادعوا كل من استطعتم من دون الله مستمدين مستظهرين فإنه لو كان كلاما مفترى كان كلاما بشريا و جاز أن يؤتى بمثله و في ذلك تحد ظاهر بسورة واحدة من سور القرآن طويلة كانت أو قصيرة. 

  • و من هنا يظهر أولا: أن التحدي ليس بسورة معينة فإنهم لم يرموا بالافتراء 

تفسير الميزان ج۱۰

65
  • بعض القرآن دون بعض بل جميعه، و هو يكلفهم أن يأتوا بسورة مثل ما يدعون أنه افتراه، و إنما ادعوه لجميع القرآن دون بعضه. 

  • و لا يصغى إلى قول من يقول: إن التنكير في {بِسُورَةٍ} للتعظيم أو للتنويع و المراد سورة من السور يذكر فيها قصص الأنبياء و أخبار وعيد الدنيا و الآخرة لأن الافتراء إنما يتهم به الإخبار دون الإنشاء. أو يقول: المراد سورة طويلة مثل هذه السورة سورة يونس في اشتمالها على أصول الدين و الوعد و الوعيد. 

  • و ذلك أن القرآن بجميع آياته منسوب إلى الله سبحانه، و لا يختلف في ذلك ما يتضمن الإخبار و ما يتضمن الإنشاء، و ما كانت سورة طويلة أو قصيرة حتى الآية الواحدة، و الرمي بالافتراء يصح أن يتعلق بالجميع لأنه تكذيب للنسبة المتعلقة بالجميع. 

  • و ثانيا: أن الآية لا تتحدى ببلاغة القرآن و فصاحته فحسب بل السياق في هذه الآية و في سائر الآيات التي وردت مورد التحدي يشهد على أن التحدي إنما هو بما عليه القرآن من صفة الكمال و نعت الفضيلة من اشتماله على مخ المعارف الإلهية، و جوامع الشرائع من الأحكام العبادية و القوانين المدنية السياسية و الاقتصادية و القضائية، و الأخلاق الكريمة و الآداب الحسنة، و قصص الأنبياء و الأمم الماضية، و الملاحم و الأخبار الغيبية، و وصف الملائكة و الجن و السماء و الأرض و الحكمة و الموعظة و الوعد و الوعيد، و أخبار البدء و العود، و قوة الحجة و جذالة البيان و النور و الهداية من غير أن يختلف جزء منه عن جزء، أضف إلى ذلك وقوعه في بلاغته و فصاحته موقعا يقصر عن البلوغ إليه أيدي البشر. 

  • و لقد قصر الباحثون من علماء الصدر الأول و من يتلونهم إذ قصروا إعجازه على بلاغته و فصاحته و كتبوا في ذلك كتبا و ألفوا رسائل فصرفهم ذلك عن التدبر في حقائقه و التعمق في معارفه و أنهاهم إلى أن عدوا المعاني أمورا مطروحة في الطريق يستوي فيه البدوي و الحضري و العامي و الخاصي و الجاهل و العالم، و أن الفضل لنظم اللفظ على نظم المعنى و لا قيمة لما وراء ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۰

66
  • و قد وصفه الله تعالى بكل وصف جميل دخيل في التحدي كوصفه بأنه نور و رحمة و هدى و حكمة و موعظة و برهان و تبيان لكل شي‌ء و تفصيل الكتاب و شفاء للمؤمنين و قول فصل و ما هو بالهزل، و أنه مواقع للنجوم، و أنه لا اختلاف فيه و لم يصرح ببلاغته بعينها. 

  • و أطلق القول بأنهم لا يأتون بمثله و لو دعوا من استطاعوا من دون الله، و لو اجتمع على ذلك الجن و الإنس و كان بعضهم لبعض ظهيرا و لم يقيد الكلام بالبلاغة و الفصاحة. 

  • و قد فصلنا القول في إعجاز القرآن في تفسير قوله: {وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} البقرة: - ٢٣ في الجزء الأول من الكتاب. 

  • قوله تعالى{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} إلى آخر الآية. الآية تبين وجه الحقيقة في عدم إيمانهم به و قولهم إنه افتراء و هو أنهم كذبوا من القرآن بما لم يحيطوا بعلمه أو كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ففيه معارف حقيقية من قبيل العلوم الواقعية لا يسعها علمهم، و لم يأتهم تأويله بعد أي تأويل ذاك الذي كذبوا به حتى يضطرهم إلى تصديقه. 

  • هذا ما يقتضيه السياق من المعنى فقوله: {وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} يشير إلى يوم القيامة كما يؤيده قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} الأعراف - ٥٣. 

  • و هذا يؤيد ما قدمناه في تفسير قوله: {اِبْتِغَاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللَّهُ} آل عمران - ٧ في الجزء الثالث من الكتاب أن المراد بالتأويل‌ في عرف القرآن هو الحقيقة التي يعتمد عليها معنى من المعاني من حكم أو معرفة أو قصة أو غير ذلك من الحقائق الواقعية من غير أن يكون من قبيل المعنى، و أن لجميع القرآن و ما يتضمنه من معرفة أو حكم أو خبر أو غير ذلك تأويلا. 

  • و يؤيد ذلك أيضا قوله بعد: {كَذَلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فإن التشبيه 

تفسير الميزان ج۱۰

67
  • يعطي أن المراد أن الذين من قبلهم من المشركين أيضا كذبوا بما دعاهم إليه أنبياؤهم لكونهم لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله، فلما جاء به سائر الأنبياء من أجزاء الدعوة الدينية من معارف و أحكام تأويل كما أن لمعارف القرآن و أحكامه تأويلا من غير أن يكون من قبيل المفاهيم و معاني الألفاظ كما توهموه. 

  • فمحصل المعنى أن هؤلاء المشركين الرامين للقرآن بأنه افتراء مثل المشركين و الكفار من الأمم السابقة استقبلتهم من الدعوة الدينية بمعارفها و أحكامها أمور لم يحيطوا بها علما حتى يوقنوا بها و يصدقوا، فحملهم الجهل على التكذيب بها و لما يأتهم اليوم الذي يظهر لهم فيه تأويلها و حقيقة أمرها ظهورا يضطرهم على الإيقان و التصديق بها و هو يوم القيامة الذي يكشف لهم فيه الغطاء عن وجه الحقائق بواقعيتها فهؤلاء كذبوا و ظلموا كما كذب الذين من قبلهم و ظلموا فانظر كيف كان عاقبة أولئك الظالمين حتى تحدس بما سيصيب هؤلاء. 

  • هذا ما يعطيه دقيق البحث في معنى الآية، و للمفسرين فيها أقوال شتى مختلفة مبنية على ما ذهبوا إليه من معنى التأويل لا جدوى في التعرض لها و قد استقصينا أقوالهم سابقا. 

  • قوله تعالى{وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} قسمهم قسمين من يؤمن بالقرآن و من لا يؤمن به ثم كنى عمن لا يؤمن به أنهم مفسدون فتحصل من ذلك أن الذين يكذبون بما في القرآن إنما كذبوا به لأنهم مفسدون. 

  • فالآية لبيان حالهم الذي هم عليه من إيمان البعض و كفر البعض و أن الكفر ناش من رذيلة الإفساد. 

  • و أما ما ذكره بعضهم في تفسير الآية: أن المراد أن قومك لن يكونوا كأولئك الظالمين من قبلهم الذين كذبوا رسلهم إلا قليلا منهم فكان عاقبتهم عذاب الاستئصال بل سيكون قومك قسمين قسم سيؤمن بهذا القرآن و قسم لا يؤمن به أبدا فهو معنى خارج عن مدلول الآية البتة. 

تفسير الميزان ج۱۰

68
  •  قوله تعالى{وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ} إلى آخر الآية، تلقين للتبري على تقدير تكذيبهم له، و هو من مراتب الانتصار للحق ممن انتهض لإحيائه فالطريق هو حمل الناس عليه إن حملوا و إلا فالتبري منهم لئلا يحملوه على باطلهم. 

  • و قوله: {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي‌ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} تفسير لقوله: {لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ} 

  • قوله تعالى{وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ وَ لَوْ كَانُوا لاَ يَعْقِلُونَ} الاستفهام للإنكار، و قوله: {وَ لَوْ كَانُوا لاَ يَعْقِلُونَ} قرينة على أن المراد بنفي السمع نفي ما يقارنه من تعقل ما يدل عليه الكلام المسموع و هو المسمى بسمع القلب. 

  • و المعنى: و منهم الذين يستمعون إليك و هم صم لا سمع لقلوبهم، و لست أنت قادرا على إسماعهم و لا سمع لهم. 

  • قوله تعالى{وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} إلى آخر الآية. الكلام فيها نظير الكلام في سابقتها. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَظْلِمُ اَلنَّاسَ شَيْئاً وَ لَكِنَّ اَلنَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} مسوق للإشارة إلى أن ما ابتلي به هؤلاء المحرومون من السمع و البصر من جهة الصمم و العمى من آثار ظلمهم أنفسهم من غير أن يكون الله تعالى ظلمهم بسلب السمع و البصر عنهم فإنهم إنما أوتوا ما أوتوا من قبل أنفسهم. 

  • قوله تعالى{وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنَ اَلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} «إلخ» ظاهر الآية أن يكون {يَوْمَ} ظرفا متعلقا بقوله: {قَدْ خَسِرَ} إلخ، و قوله: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً} إلخ، حالا من ضمير الجمع في {يَحْشُرُهُمْ} و قوله: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} حالا ثانيا مبينا للحال الأول. 

  • و المعنى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله في يوم يحشرهم إليه حال كونهم يستقلون هذه الحياة الدنيا فيعدونها كمكث ساعة من النهار و هم يتعارفون بينهم من غير أن 

تفسير الميزان ج۱۰

69
  • ينكر بعضهم بعضا أو ينساه. 

  • و قد ذكر بعضهم أن قوله: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} صفة ليوم أو صفة للمصدر المحذوف المدلول عليه بقوله: {يَحْشُرُهُمْ} ، و ذكر بعض آخر أن قوله: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} صفة لساعة، و هما من الاحتمالات البعيدة التي لا يساعد عليها اللفظ. 

  • و كيف كان ففي الآية رجوع إلى حديث اللقاء المذكور في أول السورة و انعطاف على ما ذكره آنفا أن من المتوقع أن يأتيهم تأويل الدين. 

  • فكأنها تقول: إنهم و إن لم يأتهم تأويل القرآن بعد لا ينبغي لهم أن يغتروا بالجمود على مظاهر هذه الحياة الدنيا و يستكثروا الأمد و يستبطئوا الأجل فإنهم سوف يحشرون إلى الله فيشاهدون أن ليست الحياة الدنيا إلا متاعا قليلا، و لا اللبث فيها إلا لبثا يسيرا كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم. 

  • فيومئذ يظهر لهم خسرانهم في تكذيبهم بلقاء الله ظهور عيان و ذلك بإتيان تأويل الدين و انكشاف حقيقة الأمر و ظهور نور التوحيد على ما كان، و وضوح أن الملك يومئذ لله الواحد القهار جل شأنه. 

  • [سورة يونس (١٠) : الآیات ٤٦ الی ٥٦]

  • {وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اَللَّهُ شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ وَ يَقُولُونَ مَتى هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا 

تفسير الميزان ج۱۰

70
  • يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ ٥٠أَ ثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ اَلْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ٥٢ وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي اَلْأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦} 

  • بيان 

  • الآيات تنبئ عن سنة إلهية جارية، و هي أن الله سبحانه قضى قضاء حق لا يرد و لا يبدل أن يرسل إلى كل أمة رسولا يبلغهم رسالته ثم يحكم بينه و بينهم حكما فصلا بإنزال العذاب عليهم و إنجاء المؤمنين و إهلاك المكذبين. 

  • ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يخبرهم أن هذه الأمة يجري فيهم ما جرى في الأمم الماضية من السنة الإلهية من غير أن يستثنوا من كليتها غير أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يذكر لهم فيما لقنه الله من جواب سؤالهم عن وقت العذاب إلا أن القضاء حتم و للأمة عمرا و أجلا كالفرد ينتهي إليه أمد حياتها، و أما وقت النزول فقد أبهم إبهاما. 

  • و قد قدمنا في قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الأنفال: - ٣٣ أن الآية لا تخلو عن إشعار بأن الأمة ستنتزع منهم نعمة الاستغفار بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فينزل عليهم العذاب، و قد تقدم أن 

تفسير الميزان ج۱۰

71
  • الشواهد قائمة على كون الآية مدنية فهي بعد هذه الآيات المكية من قبيل الإيضاح في الجملة بعد الإبهام و من ملاحم القرآن. 

  • و قد حمل بعض المفسرين ما وقع من حديث العذاب في هذه الآيات على عذاب الآخرة، و سياق الآيات يأبى ذلك. 

  • قوله تعالى{وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اَللَّهُ شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} إما نرينك أصله: إن نرك، زيد عليه ما و النون الثقيلة للتأكيد، و الترديد بين الإرادة و التوفي للتسوية و استيعاب التقادير، و المعنى إلينا مرجعهم على أي تقدير، و لفظة ثم للتراخي بحسب ترتيب الكلام دون الزمان و الآية مسوقة لتطييب نفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لتكون كالتوطئة لحديث قضاء العذاب الذي ستفصله الآيات التالية لهذه الآية. 

  • و المعنى طب نفسا فإنا موقعون بهم ما نعدهم سواء أريناك بعض ذاك أو توفيناك قبل أن نريك ذاك فإن أمرهم إلينا و نحن شاهدون لأفعالهم المستوجبة للعذاب لا تغيب عنا و لا ننساها. 

  • و الالتفات من قوله: {نُرِيَنَّكَ} إلى قوله: {ثُمَّ اَللَّهُ شَهِيدٌ} للدلالة على علة الحكم فإن الله سبحانه شهيد على كل فعل بمقتضى ألوهيته. 

  • قوله تعالى{وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} قضاء إلهي منحل إلى قضاءين أحدهما: أن لكل أمة من الأمم رسولا يحمل رسالة الله إليهم و يبلغها إياهم، و ثانيهما: أنه إذا جاءهم و بلغهم رسالته فاختلفوا من مصدق له و مكذب فإن الله يقضي و يحكم بينهم بالقسط و العدل من غير أن يظلمهم. هذا ما يعطيه سياق الكلام من المعنى. 

  • و منه يظهر أن قوله: {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ} فيه إيجاز بالحذف و الإضمار و التقدير: فإذا جاء رسولهم إليهم و بلغ الرسالة فاختلف قومه بالتكذيب و التصديق، و يدل على ذلك قوله: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فإن القضاء إنما يكون فيما اختلف فيه، و لذا كان السؤال عن القسط و عدم الظلم في القضاء في مورد العذاب 

تفسير الميزان ج۱۰

72
  • و الضرار أسبق إلى الذهن. 

  • و قد تقدم الفرق بين الرسول و النبي في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب، و هذا القضاء المذكور في الآية من خواص الرسالة دون النبوة. 

  • قوله تعالى{وَ يَقُولُونَ مَتى هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} سؤال منهم عن وقت هذا القضاء الموعود، و هو القضاء بينهم في الدنيا، و السائلون هم بعض المشركين من معاصري النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الدليل عليه أمره أن يجيبهم بقوله: {قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} إلخ، فقول بعضهم: إن السؤال عن عذاب يوم القيامة أو إن السائلين بعض المشركين من الأمم السابقة لا يلتفت إليه. 

  • قوله تعالى{قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} إلى آخر الآية، لما كان قولهم: {مَتى هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في معنى قولنا: أي وقت يفي ربك بما وعدك أو يأتي بما أوعدنا به أنه يقضي بيننا و بينك فيهلكنا و ينجيك و المؤمنين بك فيصفو لكم الجو و يكون لكم الأرض و تخلصون من شرنا؟ فهلا عجل لكم ذلك و ذلك أن كلامهم مسوق سوق الاستعجال تعجيزا و استهزاء كما تدل على استعجالهم الآيات التالية و هذا نظير قولهم {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ} الحجر: - ٧. 

  • لقن سبحانه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبدأهم في الجواب ببيان أنه لا يملك لنفسه ضرا حتى يدفعه عنها و لا نفعا حتى يجلبه إليها و يستعجل ذلك إلا ما شاء الله أن يملكه من ضر و نفع فالأمر إلى الله سبحانه جميعا، و اقتراحهم عليه بأن يعجل لهم القضاء و العذاب من الجهل. 

  • ثم يجيب عن سؤالهم عن أصل تعيين الوقت جوابا إجماليا بالإعراض عن تعيين الوقت و الإقبال على ذكر ضرورة الوقوع، أما الأول فإنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، و أمره الذي لا يتسلط عليه إلا هو، و قد تقدم قوله في آيات السورة {وَ يَقُولُونَ لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا اَلْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ} (الآية) - ٢٠من السورة. 

تفسير الميزان ج۱۰

73
  • و أما الثاني أعني ذكر ضرورة الوقوع فقد بين ذلك بالإشارة إلى حقيقة هي من النواميس العامة الجارية في الكون تنحل بها العقدة و تندفع بها الشبهة، و هي أن لكل أمة أجلا لا يتخطاهم و لا يتخطونه فهو آتيهم لا محالة، و إذا أتاهم لم يخبط في وقوعه موقعه و لا ساعة، و هو قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي و أنتم أمة من الأمم فلا محالة لكم أيضا أجل كمثلهم إذا جاءكم لا تستأخرون ساعة و لا تستقدمون. 

  • فإذا فقهوا هذا الكلام و تدبروه بان لهم أن لكل أمة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التي لكل واحد من أفرادها و لحياتها من البقاء و العمر ما قضى به الله سبحانه لها، و لها من السعادة و الشقاوة و التكليف و الرشد و الغي و الثواب و العقاب نصيبها، و هي مما اعتنى بها التدبير الإلهي نظير الفرد من الإنسان حذو النعل بالنعل. 

  • و يدلهم على ذلك ما يحدثهم به التاريخ و يفصح عنه الآثار من ديارهم الخربة و مساكنهم الخالية، و قد قص عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح، و عاد قوم هود، و ثمود قوم صالح، و كلدة قوم إبراهيم و أهل سدوم و سائر المؤتفكات قوم لوط و القبط قوم فرعون و غيرهم. 

  • فهؤلاء أمم منقرضة سكنت أجراسهم و خمدت أنفاسهم و لم ينقرضوا إلا بعذاب و هلاك، و لم يعذبوا إلا بعد ما جاءتهم رسلهم بالبينات و لم يأت قوما منهم رسوله إلا و اختلفوا في الحق الذي جاءهم فمنهم من آمن به و منهم من كذب به و هم الأكثرون. 

  • فهذا يدلهم على أن هذه الأمة و قد اختلفوا في الحق لما جاءهم سيقضي الله بين رسوله و بينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الأمم و إن الله لبالمرصاد. 

  • و على الباحث المتدبر أن يتنبه لأن الله سبحانه و إن بدأ في وعيده بالمشركين غير أنه هدد في أثناء كلامه المجرمين فتعلق الوعيد بهم، و من أهل القبلة مجرمون كغيرهم فلينتظروا عذابا واصبا يفصل به الله بينهم و بين نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و لينسوا ما يلقيه الشيطان في روعهم أن أمتهم هذه أمة مرحومة رفع الله عنهم عذاب الدنيا 

تفسير الميزان ج۱۰

74
  • إكراما منه لنبيهم نبي الرحمة فهم في أمن من عذاب الله و إن انهمكوا في كل إثم و خطيئة و هتكوا كل حجاب مع أنه لا كرامة عند الله إلا بالتقوى و قد خاطب المؤمنين من هذه الأمة بمثل قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَ لاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} النساء: - ١٢٣. 

  • و ربما تعدى المتعدي فعطف عذاب الآخرة على عذاب الدنيا فذكر أن الأمة مغفور لهم محسنهم و مسيئهم فلا يبقى لهم في الدنيا إلا كرامة أن لهم أن يفعلوا ما شاءوا فقد أسدل الله عليهم حجاب الأمن و لا في الآخرة إلا المغفرة و الجنة. 

  • و لا يبقى على هذا للملة و الشريعة إلا أنها تكاليف و أحكام جزافية لعب بها رب العالمين و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون تعالى عما يقولون علوا كبيرا. 

  • فهذا كله من الإعراض عن ذكر الله و هجر كتابه ‌ {وَ قَالَ اَلرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هَذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً} 

  • قوله تعالى{قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ} إلى آخر الآيتين، البيات و التبييت الإتيان ليلا و يغلب في الشر كقصد العدو عدوه ليلا. 

  • و لما كان قولهم: {مَتى هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في معنى استعجال آية العذاب التي يلجئهم إلى الإيمان رجع بعد بيان تحقق الوقوع إلى توبيخهم و ذمهم من الجهتين فوبخهم أولا على استعجالهم بالعذاب، و هو عذاب فجائي من الحزم أن يكون الإنسان منه على حذر لا أن يستعجل فيه فقال تعالى ملقنا لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) : {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ} و أخبروني {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً} ليلا {أَوْ نَهَاراً} فإنه عذاب لا يأتيكم إلا بغتة إذ لستم تعلمون وقت نزوله {ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ} من العذاب {اَلْمُجْرِمُونَ} أي ماذا تستعجلون منه و أنتم مجرمون لا يتخطاكم إذا أتاكم. 

  • ففي قوله: {ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ} التفات من الخطاب إلى الغيبة و كأن النكتة فيه رعاية حالهم أن لا يشافهوا بصريح الشر و ليكون تعرضا لملاك نزول العذاب عليهم و هو إجرامهم. 

تفسير الميزان ج۱۰

75
  • و وبخهم ثانيا على تأخير إيمانهم إلى حين لا ينفعهم الإيمان فيه و هو حين نزول العذاب فإن آية العذاب يلجئهم إلى الإيمان قطعا على ما هو المجرب من إيمان الإنسان عند إشراف الهلكة، و من جهة أخرى الإيمان توبة و التوبة غير مقبولة عند ظهور آية العذاب و الإشراف على الموت. 

  • فقال تعالى: {أَ ثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} العذاب {آمَنْتُمْ بِهِ} أي بالقرآن أو بالدين أو بالله {آلْآنَ} أي أ تؤمنون به في هذا الآن و الوقت {وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} و كان معنى استعجالهم عدم الاعتناء بشأن هذا العذاب و تحقيره بالاستهزاء به. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ اَلْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} الأشبه أن تكون الآية متصلة بقوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} إلخ، فتكون الآية الأولى تبين تحقق وقوع العذاب عليهم و إهلاكه إياهم، و الآية الثانية تبين أنه يقال لهم بعد الوقوع و الهلاك: ذوقوا عذاب الخلد و هو عذاب الآخرة و لا تجزون إلا أعمالكم التي كنتم تكسبونها و ذنوبكم التي تحملونها و الخطاب تكويني كني به عن شمول العذاب لهم و نيله إياهم، و على هذا المعنى فالآيتان: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ} إلى قوله: {تَسْتَعْجِلُونَ} واردتان مورد الاعتراض. 

  • قوله تعالى{وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} إلى آخر الآية يستنبئونك أي يستخبرونك و قوله: {أَ حَقٌّ هُوَ} بيان له، و الضمير على ما يفيده السياق راجع إلى القضاء أو العذاب، و المآل واحد، و قد أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يؤكد القول في إثباته من جميع جهاته، و بعبارة أخرى أن يجيبهم بوجود المقتضي و عدم المانع. 

  • فقوله: {قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} إثبات لتحققه و قد أكد الكلام بالقسم و الجملة الاسمية و إن و اللام، و قوله: {وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بيان أنه لا مانع هناك يمنع من حلول العذاب بكم. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي اَلْأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ} إلى آخر الآية، إشارة إلى شدة العذاب و أهمية التخلص منه عندهم، و إسرار الندامة إخفاؤها 

تفسير الميزان ج۱۰

76
  • و كتمانها خشية الشماتة و نحوها، و الظاهر أن المراد بالقضاء و العذاب في الآية هو القضاء و العذاب الدنيويان لا غير. 

  • قوله تعالى{أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} الآيةُ و ما بعدها بيان برهاني على حقية ما ذكره من كونه حقا واقعا لا يمنع عنه مانع فإن كل شي‌ء مما في السماوات و الأرض إذا كان مملوكا لله وحده لا شريك له كان كل تصرف مفروض فيها إليه تعالى، و لم يكن لغيره شي‌ء من التصرف إلا بإذنه فإذا تصرف في شي‌ء كان مستندا إلى إرادته فقط من غير أن يستند إلى مقتض آخر خارج يتصرف في ذاته المقدسة فيحمله على الفعل، أو يتقيد بعدم مانع خارجي إذا وجد تصرف فيه سبحانه بمنعه عن الفعل، فهو تعالى يفعل ما يفعل عن نفسه من غير أن يرتبط إلى مقتض من خارج أو مانع من خارج فإذا أراد سبحانه شيئا فعله من غير ممد أو عائق، و إذا وعد وعدا كان حقا لا مرد له من غير أن يتغير عن وعده بصارف. 

  • فإمعان النظر في ملكه تعالى المطلق الحقيقي يهدي إلى العلم بأن وعده حق لا يمازجه باطل و لكن أكثرهم و هم العامة من الناس لا يعلمون لعجزهم عن الإمعان في هذه الأبحاث الحقيقية أو إعجابهم بسذاجة الفهم و انسلاكهم في سلك العامة. 

  • فهم على ذلك يقيسون ملكه تعالى إلى ملك العظماء المستعلين من الإنسان فإنهم يجدون الواحد من عظمائهم و قد أوتي ملكا و سلطانا و من كل ما يتنافس فيه فيرون له القدرة المطلقة يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد ثم يجدونه ربما يهم و يسعى و لا يقع ما اهتم به أو وعد وعدا ثم لم يف به رعاية لمصلحة شخصه أو غيره أو لمانع عائق فيقيسون أمره تعالى إلى أمره، و وعده إلى وعده. على أن الوعد عندهم قول من شأنه جواز أن ينطبق على الخارج و أن لا ينطبق. 

  • مع أن حقيقة معنى ملكه و سلطانه و سعة قدرته و نفوذ إرادته أن الناس يعتقدون له ذلك و يتصورونه عظيما فيهم و لو طحنته نازلات الدهر يوما فأهلكته 

تفسير الميزان ج۱۰

77
  • أو تغيرت عليه عقائد الناس بسبب من الأسباب سلبته ما عنده من ملك و قدرة، و معنى وقوع ما أراده أو أحبه أن الأسباب الكونية ساعدته على ذلك و وافقته على ما أحبه، و لو لم تساعده و لم توافقه كلية الأسباب لم يكن له أن يضطرها إلى الخضوع لما يتوهم لنفسه من القدرة كما لا توافقه على مثل الموت و الحياة و الشباب و الشيب و الصحة و المرض و أمور أخرى كثيرة فليس له من الأمر شي‌ء. 

  • لكنه سبحانه مالك لخلقه بمعنى أن وجود كل شي‌ء قائم به متكون متحول بأمره منوط بإذنه، و ما تصرف فيه من شي‌ء فإنما يتصرف عن نفسه لا عن اقتضاء من مقتض خارج مؤثر فيه أو عدم مانع يعوقه عن فعله فلا ينتسب شي‌ء إلا إليه تعالى نفسه أو إلى غيره بإذنه بمقدار ما أذن فكيف يمكن أن يتخلف عن مشيته شي‌ء فيرجع إلى غيره و لا غير هناك يرجع نحوه و ينتسب إليه؟ 

  • و قوله تعالى فعله بما يدل بنفسه على مراده فكيف يتسرب إليه الكذب و هو متن الخارج، و العين الخارجي لا كذب فيه؟ و إنما الكذب و الخطأ شأن المفاهيم الذهنية من حيث انطباقها على الخارج، و كيف يكون وعده باطلا و وعده لنا هو فعله الغائب عن نظرنا المستقبل لنا، و قد وجه كلية الأسباب إليه و لا مرد له؟ 

  • فإمعان النظر في هذه الحقائق ينور للباحث المتدبر معنى ملكه تعالى لما في السماوات و الأرض، و أن لازم ذلك أن وعد الله حق، و أن الارتياب فيه إنما هو من الجهل بمقامه تعالى. 

  • و لذلك قال تعالى أولا: {أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} ثم عقبه بقوله كالاستنتاج منه: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ} ثم استدرك فقال: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ثم بين ملكه بقوله: {هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ} إلخ في الآية التالية. 

  • قوله تعالى{هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} احتجاج على ما تقدم في الآية السابقة من ملكه تعالى بالنسبة إلى نوع الإنسان كأنه تعالى يقول: إن أمركم جميعا من حياة و موت و رجوع إليه تعالى فكيف لا تكونون ملكا له. 

تفسير الميزان ج۱۰

78
  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قوله: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً} يعني ليلا {أَوْ نَهَاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ} فهذا عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة و هم يجحدون نزول العذاب عليهم.

  • أقول: و الرواية تتأيد بالآيات و تؤيد ما أسلفناه من البيان. 

  • و فيه بإسناده عن الحسن بن موسى الخشاب، عن رجل، عن حماد بن عيسى عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قوله تبارك و تعالى: {وَ أَسَرُّوا اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ} قال: قيل له: ما ينفعهم إسرار الندامة و هم في العذاب؟ قال: كرهوا شماتة الأعداء.

  • [سورة يونس (١٠) : الآیات ٥٧ الی ٧٠]

  • {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفَاءٌ لِمَا فِي اَلصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ٥٧ قُلْ بِفَضْلِ اَللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ٥٨ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَ حَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللَّهِ تَفْتَرُونَ ٥٩ وَ مَا ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّ اَللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ٦٠وَ مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ مَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ 

تفسير الميزان ج۱۰

79
  • ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ لاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ٦١ أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ ٦٣ لَهُمُ اَلْبُشْرى فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ٦٤ وَ لاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٦٥ أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَتَّبِعُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ٦٦ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ٦٧ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٦٨ قُلْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ٦٩ مَتَاعٌ فِي اَلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ اَلْعَذَابَ اَلشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ٧٠} 

  • (بيان) 

  • عاد الكلام في الآيات إلى وصف القرآن الكريم بما له من كرائم الأوصاف و يتلوه متفرقات ترتبط بسابق القول في غرض السورة، و فيها موعظة و حكمة و حجة على مقاصد شتى، و فيها وصف أولياء الله و بشارتهم. 

تفسير الميزان ج۱۰

80
  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إلى آخر الآية. قال الراغب في المفردات: الوعظ زجر مقترن بتخويف، و قال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب ، و العظة و الموعظة الاسم. انتهى. 

  • و الصدر معروف و الناس لما وجدوا القلب في الصدر و هم يرون أن الإنسان إنما يدرك ما يدرك بقلبه و به يعقل الأمور و يحب و يبغض و يريد و يكره و يشتاق و يرجو و يتمنى، عدوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره و الصفات الروحية التي في باطن الإنسان من فضائل و رذائل، و في الفضائل صحة القلب و استقامته، و في الرذائل سقمه و مرضه، و الرذيلة داء يقال: شفيت صدري بكذا إذا ذهب به ما في صدره من ضيق و حرج، و يقال: شفيت قلبي، فشفاء الصدور و شفاء ما في الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحية الخبيثة التي تجلب إلى الإنسان الشقاء و تنغص عيشته السعيدة و تحرمه خير الدنيا و الآخرة. 

  • و الهدى هي الدلالة على المطلوب بلطف على ما ذكره الراغب، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ} الأنعام: - ١٢٥ في الجزء السابع من الكتاب بحث فيها. 

  • و الرحمة تأثر خاص في القلب عن مشاهدة ضر أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره و إتمام نقصه، و إذا نسبت إليه تعالى كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيته تعالى و إفاضته الوجود على خلقه. 

  • و عطيته إذا نسبت إلى مطلق خلقه كانت هي ما ينسب إليه تعالى من وجودهم و بقائهم و رزقهم الذي يمد به بقاؤهم و سائر ما ينعم به عليهم من نعمه التي لا تحصى كثرة {وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} ، و إذا نسبت إلى المؤمنين خاصة كانت هي ما يختص بهم من سعادة الحياة الإنسانية بمظاهرها المختلفة التي ينعم الله بها عليهم من المعارف الحقة الإلهية و الأخلاق الكريمة و الأعمال الصالحة، و الحياة الطيبة في الدنيا و الآخرة و الجنة و الرضوان. 

  • و من ثم إذا وصف القرآن بأنه رحمة للمؤمنين كان معناه أنه يغشي المؤمنين 

تفسير الميزان ج۱۰

81
  • أنواع الخيرات و البركات التي كنزها الله فيه لمن تحقق بحقائقها و تلبس بمعانيها، قال تعالى: {وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} إسراء: - ٨٢. 

  • و إذا أخذت هذه النعوت الأربعة التي عدها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية أعني أنه موعظة و شفاء لما في الصدور و هدى و رحمة، و قيس بعضها إلى بعض ثم اعتبرت مع القرآن كانت الآية بيانا جامعا لعامة أثره الطيب الجميل و علمه الزاكي الطاهر الذي يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أول ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكن من نفوسهم و يستقر في قلوبهم. 

  • فإنه يدركهم أول ما يدركهم و قد غشيهم يم الغفلة و أحاطت بهم لجة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشك و الريب، و أمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل و كل صفة أو حالة ردية خبيثة فيعظهم موعظة حسنة ينبههم بها عن رقدة الغفلة، و يزجرهم عما بهم من سوء السريرة و الأعمال السيئة، و يبعثهم نحو الخير و السعادة. 

  • ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات، و لا يزال يزيل آفات العقول و أمراض القلوب واحدا بعد آخر حتى يأتي على آخرها. 

  • ثم يدلهم على المعارف الحقة و الأخلاق الكريمة و الأعمال الصالحة دلالة بلطف برفعهم درجة بعد درجة، و تقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين، و يفوزوا فوز المخلصين. 

  • ثم يلبسهم لباس الرحمة و ينزلهم دار الكرامة و يقرهم على أريكة السعادة حتى يلحقهم بالنبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا، و يدخلهم في زمرة عباده المقربين في أعلى عليين. 

  • فالقرآن واعظ شاف لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، و إنما يعظ بما فيه و يشفي الصدور و يهدي و يبسط الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنه السبب الموصول بين الله و بين خلقه فهو موعظة و شفاء لما في ـ 

تفسير الميزان ج۱۰

82
  • الصدور و هدى و رحمة للمؤمنين. فافهم ذلك. 

  • و قد افتتح سبحانه الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ} و هو خطاب لعامة الناس دون المشركين أو مشركي مكة خاصة و إن كانت الآية واقعة في سياق الكلام معهم و ذلك لأن النعوت المذكورة فيها بقوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفَاءٌ لِمَا فِي اَلصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} تتعلق بعامتهم دون قبيل خاص منهم. 

  • و من غريب التفسير قول بعضهم: إن المراد بالرحمة ما يتصف به المؤمنون من الرحمة و الرأفة فيما بينهم و هو خطأ يدفعه السياق البتة. 

  • قوله تعالى{قُلْ بِفَضْلِ اَللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} الفضل‌ هو الزيادة، و تسمى العطية فضلا لأن المعطي إنما يعطي غالبا ما لا يحتاج إليه من المال ففي تسمية ما يفيضه الله على عباده فضلا إشارة إلى غناه تعالى و عدم حاجته في إفاضته إلى ما يفيضه و لا إلى من يفيض عليه. 

  • و ليس من البعيد أن يكون المراد بالفضل ما يبسطه الله من عطائه على عامة خلقه، و بالرحمة خصوص ما يفيضه على المؤمنين فإن رحمة السعادة الدينية إذا انضمت إلى النعمة العامة من حياة و رزق و سائر البركات العامة كان المجموع منهما أحق بالفرح و السرور و أحرى بالانبساط و الابتهاج. 

  • و من الممكن أن يتأيد ذلك بقوله: {بِفَضْلِ اَللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ} حيث أدخلت باء السببية على كل من الفضل و الرحمة، و هو مشعر بكون كل واحد منهما سببا مستقلا و إن جمع بينهما ثانيا بقوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} للدلالة على استحقاق مجموعهما لأن ينحصر فيه الفرح. 

  • و يمكن أن يكون المراد بالفضل غير الرحمة من الأمور المذكورة في الآية السابقة أعني الموعظة و شفاء ما في الصدر و الهدى، و المراد بالرحمة الرحمة بمعناها المذكور في الآية السابقة و هي العطية الخاصة الإلهية التي هي سعادة الحياة في الدنيا و الآخرة. 

  • و المعنى على هذا أن ما تفضل الله به عليهم من الموعظة و شفاء ما في الصدور 

تفسير الميزان ج۱۰

83
  • و الهدى، و ما رحم المؤمنين به من الحياة الطيبة ذلك أحق أن يفرحوا به دون ما يجمعونه من المال. 

  • و ربما تأيد هذا الوجه بقوله سبحانه {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} النور: - ٢١ حيث نسب زكاتهم إلى الفضل و الرحمة معا و استناد الزكاة إلى الفضل بمعنى العطية العامة بعيد عن الفهم، و مما يؤيد هذا الوجه ملائمته لما ورد في الرواية من تفسير الآية بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي (عليه السلام) أو بالقرآن و الاختصاص به و سيجي‌ء إن شاء الله. 

  • و قوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} ذكروا أن الفاء في قوله: {فَلْيَفْرَحُوا} زائدة كقول الشاعر: «فإذا قتلت فعند ذلك فاجزعي.» و الظرف أعني قوله: {فَبِذَلِكَ} بدل من قوله: {بِفَضْلِ اَللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ} ، و متعلق بقوله: {فَلْيَفْرَحُوا} قدم عليه لإفادة الحصر، و قوله: {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} بيان ثان لمعنى الحصر. 

  • فظهر بذلك كله أن الآية تفريع على مضمون الآية السابقة فإنه تعالى لما خاطب الناس امتنانا عليهم بأن هذا القرآن موعظة لهم و شفاء لما في صدورهم و هدى و رحمة للمؤمنين منهم فرع عليه أنه ينبغي لهم حينئذ أن يفرحوا بهذا الذي امتن به عليهم من الفضل و الرحمة لا بالمال الذي يجمعونه فإن ذلك ـ و فيه سعادتهم و ما تتوقف عليه سعادتهم ـ خير من المال الذي ليس إلا فتنة ربما أهلكتهم و أشقتهم. 

  • قوله تعالى{قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَ حَلاَلاً} إلى آخر الآية. نسبة الرزق و هو ما يمد الإنسان في بقائه من الأمور الأرضية من مأكول و مشروب و ملبوس و غيرها إلى الإنزال مبني على حقيقة يفيدها القرآن و هي أن الأشياء لها خزائن عند الله تتنزل من هناك على حسب ما قدرها الله سبحانه، قال تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر: - ٢١ و قال تعالى: {وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ} الذاريات: - ٢٢ و قال {وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الزمر: - ٦ و قال {وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ} الحديد: - ٢٥. 

  • و أما ما قيل: إن التعبير بالإنزال إنما هو لكون أرزاق العباد من المطر الذي 

تفسير الميزان ج۱۰

84
  • ينزله الله من السماء، فوجه بسيط لا يطرد على تقدير صحته في جميع الموارد التي عبر فيها عن كينونتها بالإنزال كما في الأنعام و في الحديد، و الرزق الذي تذكر الآية أن الله أنزله لهم فجعلوا منه حراما و حلالا هو الأنعام من الإبل و الغنم كالوصيلة و السائبة و الحام و غيرها. 

  • و اللام في قوله: {لَكُمْ} للغاية و تفيد معنى النفع أي أنزل الله لأجلكم و لتنتفعوا به، و ليست للتعدية فإن الإنزال إنما يتعدى بعلى أو إلى، و من هنا أفاد الكلام معنى الإباحة و الحل أي أنزلها الله فأحلها، و هذا هو النكتة في تقديم التحريم على الإحلال في قوله: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَ حَلاَلاً} أي كان الله أحله لكم بإنزاله رزقا لكم تنتفعون به في حياتكم و بقائكم و لكنكم قسمتموه قسمين من عند أنفسكم فحرمتم قسما و أحللتم آخر؛ فالمعنى: قل لهم يا محمد: أخبروني عما أنزل الله لكم و لأجلكم من الرزق الحلال فقسمتموه قسمين و جعلتم بعضه حراما و بعضه حلالا ما هو السبب في ذلك؟ و من البين أنه افتراء على الله لا عن إذن منه تعالى. 

  • و قوله: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللَّهِ تَفْتَرُونَ} سؤال عن سبب تقسيمهم الرزق إلى حرام و حلال، و إذ كان من البين أنه ليس ذلك عن إذن منه تعالى لعدم اتصالهم بربهم بوحي أو رسول كان من المتعين أنه افتراء فالاستفهام في سياق الترديد كناية عن إثبات الافتراء لهم و توبيخ و ذم. 

  • و الذي يقضي به النظر الابتدائي أن الترديد في الآية غير حاصر إذ كما يجوز أن يكون تقسيمهم رزق الله إلى حرام و حلال عن إذن من الله أو افتراء عليه تعالى كذلك يجوز أن يكون عن مصلحة أحرزوها أو زعموها في ذلك أو عن هوى لهم فيه من غير أن ينسبوه إلى الله تعالى فيكون افتراء عليه. 

  • و من وجه آخر الترديد في الآية بين إذن الله و الافتراء على الله يشعر بأن الحكم إنما هو لله فالحكم بكون بعض الرزق حراما و بعضه حلالا و هو دائر بينهم إما أن يكون من الله أو افتراء عليه، و من الممكن أن يمنع ذلك في بادئ النظر فكثير من السنن الدائرة بين الناس كونتها طبيعة مجتمعهم أو عادتهم القومية و غير ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۰

85
  • لكن التدبر في كلامه تعالى و البحث العميق يدفع ذلك فإن القرآن يرى أن الحكم يختص بالله تعالى، و ليس لأحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم و وضعه في المجتمع الإنساني، قال تعالى: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} يوسف: - ٤٠. 

  • و قد أشار تعالى إلى لم ذلك في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ} الروم: - ٣٠فتبين به أن معنى كون الحكم لله كونه معتمدا على الخلقة و الفطرة منطبقا عليها غير مخالف لما ينطق به الكون و الوجود. 

  • و ذلك أن الله سبحانه لم يخلق الخلق عبثا كما قال {أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} المؤمنون: - ١١٥ بل خلقهم لأغراض إلهية و غايات كمالية يتوجهون إليها بحسب جبلتهم و يسيرون نحوها بفطرتهم بما جهزهم به من الأسباب و الأدوات و هداهم إليه من السبيل الميسر لهم كما قال {أَعْطى كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى } طه: - ٥٠، و قال {ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ} عبس: - ٢٠. 

  • فوجود الأشياء في بدء خلقها مناسب لما هيئ لها من منزلة الكمال مجهز بقوى و أدوات يتوسل بها إلى غايتها، و لا يسير شي‌ء منها إلى كماله المهيا له إلا من طريق الصفات الاكتسابية و الأعمال، فمن الواجب بالنظر إلى ذلك أن يكون الدين أعني القوانين الجارية في الصفات و الأعمال الاكتسابية منطبقا على الخلقة و الفطرة فإن الفطرة لا تنسى غايتها و لا تتخطاها، و لا تبعث نحو فعل و لا تزجر عن فعل إلا لدعوة ما جهزت به إليه، و لا يدعو الجهاز إلا لأجل ما جهز لأجله و هو الغاية. 

  • فالإنسان لما كان مجهزا بجهاز التغذية و النكاح كان حكمه الحقيقي في دين الفطرة هو التغذي و النكاح دون الجوكية و الرهبانية مثلا، و لما كان مطبوعا على الاجتماع و التعاون كان من حكمه أن يشارك سائر الناس في مجتمعهم و يقوم بالأعمال الاجتماعية، و على هذا القياس. 

  • فالذي يتعين للإنسان من الأحكام و السنن هو الذي يدعوه إليه الكون العالمي الذي هو جزء حقير منه، و قد جهز وجوده بما يسوقه إليه من مرحلة الكمال، فهذا 

تفسير الميزان ج۱۰

86
  • الكون العام المرتبط بعض أجزائه ببعض، و هو مركب إرادة الله تعالى هو الحامل للشريعة الفطرية الإنسانية، و الداعي إلى دين الله الحنيف. 

  • فالدين الحق هو حكم الله سبحانه لا حكم إلا له، و هو المنطبق على الخلقة الإلهية، و ما وراءه من حكم هو باطل لا يسوق الإنسان إلا إلى الشقاء و الهلاك و لا يهديه إلا إلى عذاب السعير. 

  • و من هنا ينحل ما تقدم من العقدتين فإن الحكم لما كان لله سبحانه وحده كان كل حكم دائر بين الناس إما حكما لله حقيقة مأخوذا من لدنه بوحي أو رسالة أو حكما مفترى على الله، و لا ثالث للقسمين. 

  • على أن المشركين كانوا ينسبون أمثال هذه الأحكام التي ابتدعوها و استنوا بها فيما بينهم إلى الله سبحانه كما يشير إليه قوله تعالى: {وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (الآية) الأعراف: - ٢٨. 

  • قوله تعالى{وَ مَا ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} إلى آخر الآية، لما كان جواب الاستفهام المتقدم: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللَّهِ تَفْتَرُونَ} معلوما من المورد، و هو أنه افتراء، استعظم وخامة عاقبته فإنه افتراء على الله سبحانه و الافتراء من الآثام و الذنوب بحكم البداهة فلا محالة له أثر سيئ، و لذلك قال تعالى إيعادا و تهديدا: {وَ مَا ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} 

  • و أما قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} فهو شكوى و عتبى يشار به إلى ما اعتاد عليه الناس من كفران أكثرهم لنعمة الله، و عدم شكرهم قبال عطيته و نعمته، و المراد بالفضل هاهنا هو العطية الإلهية فإن الكلام في الرزق الذي أنزله الله لهم و هو الفضل و تحريمهم بعضه و هو الكفران و عدم الشكر. 

  • و برجوع ذيل الآية إلى صدرها يكون الافتراء على الله من مصاديق كفران نعمته، و المعنى أن الله ذو فضل و عطاء على الناس و لكن أكثرهم كافرون لنعمته و فضله فما ظن الذين يكفرون بنعمة الله و رزقه بتحريمه افتراء على الله الكذب يوم القيامة. 

تفسير الميزان ج۱۰

87
  • قوله تعالى{وَ مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ مَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} إلى آخر الآية، قال الراغب: الشأن‌ الحال و الأمر الذي يتفق و يصلح، و لا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال و الأمور قال: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} انتهى. 

  • و قوله: {وَ مَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} الظاهر أن الضمير [راجع] إلى الله سبحانه، و "من" الأولى للابتداء و النشوء و الثانية للبيان، و المعنى و لا تتلو شيئا هو القرآن ناشئا و نازلا من قبله تعالى، و الإفاضة في الفعل الخوض فيه جمعا. 

  • و قد وقع في قوله: {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و النكتة فيه الإشارة إلى كثرة الشهود فإن لله شهودا على أعمال الناس من الملائكة و الناس و الله من ورائهم محيط، و العظماء يتكلمون عنهم و عن غيرهم للدلالة على أن لهم أعوانا و خدمة. 

  • و ليس ينبغي أن يغفل عن أن أصل الالتفات يبدأ من أول الآية فإن الآيات السابقة كانت تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تأخذ المشركين على الغيبة و تكلمهم بوساطته من غير أن تواجهه بشي‌ء من الخطاب يخص نفسه، و قد حولت هذه الآية وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما يخص به نفسه فقالت: {وَ مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ مَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} ثم جمعته و المشركين و غيرهم جميعا في خطاب واحد فقالت: {وَ لاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} و ذلك بضمهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم على غيبتهم و بسط الخطاب على الجميع بنوع من التغليب كما تقول لمخاطبك أنت و قومك تفعلون كذا و كذا. 

  • و الدليل على أن هذا الخطاب بنحو الضم و التغليب قوله بعده: {وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} إلخ، فإنه يكشف عن كون الخطاب معه (صلى الله عليه وآله و سلم) جاريا على ما كان. 

  • و على أي حال فالتحول المذكور في خطاب الآية للإشارة إلى أن السلطنة و الإحاطة التامة الإلهية واقعة على الأعمال شهادة و علما على أتم ما يكون من كل جهة من غير أن يستثني منه نبي و لا مؤمن و لا مشرك أو يغفل عن عمل من الأعمال فلا يتوهمن أحد أن الله يخفى عليه شي‌ء من أمره فلا يحاسبه عليه يوم القيامة، 

تفسير الميزان ج۱۰

88
  • و ليكن هذا هو ظنه بربه يوم القيامة و ليأخذ حذره. 

  • و ذكر تلاوة القرآن مستقلا مع دخوله في قوله قبلا: {وَ مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} فإن أحد شئونه (صلى الله عليه وآله و سلم) للإيماء إلى أهمية أمرها و مزيد العناية بها. 

  • و في الآية أولا تشديد في العظة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و على أمته و ثانيا: أن الذي يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من القرآن للناس من وحي الله و كلامه لا يطرقه تغيير و لا يدب فيه باطل لا في تلقيه من الله و لا في تلاوته للناس فالآية قريبة المضمون من قوله‌ {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} الجن: - ٢٨. 

  • و قوله: {وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} إلى آخر الآية. العزوب‌ الغيبة و التباعد و الخفاء، و فيه إشارة إلى حضور الأشياء عنده تعالى من غير غيبة و حفظه لها في كتاب من غير زوال، و قد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في ذيل قوله: {وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ} الأنعام: - ٥٩ في الجزء السابع من الكتاب. 

  • قوله تعالى{أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} استئناف في الكلام غير أنه متعلق بغرض السورة و هو الدعوة إلى الإيمان بكتاب الله و الندب إلى توحيد الله تعالى بمعناه الوسيع. 

  • و للدلالة على أهمية المطلب افتتح بلفظة {أَلاَ} التنبيهية، و الله سبحانه يذكر في هذه الآية و الآيتين بعدها أولياءه و يعرفهم و يصف آثار ولايتهم و ما يختصون به من الخصيصة. 

  • و الولاية و إن ذكروا لها معاني كثيرة لكن الأصل في معناها ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئين بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما، ثم استعيرت لقرب الشي‌ء من الشي‌ء بوجه من وجوه القرب كالقرب نسبا أو مكانا أو منزلة أو بصداقة أو غير ذلك و لذلك يطلق الولي على كل من طرفي الولاية، و خاصة بالنظر إلى أن كلا منهما يلي من الآخر ما لا يليه غيره فالله سبحانه ولي عبده المؤمن لأنه يلي أمره و يدبر شأنه فيهديه إلى صراطه المستقيم و يأمره و ينهاه فيما ينبغي له أو لا ينبغي و ينصره في الحياة الدنيا و في الآخرة. 

تفسير الميزان ج۱۰

89
  • و المؤمن حقا ولي ربه لأنه يلي منه إطاعته في أمره و نهيه و يلي منه عامة البركات المعنوية من هداية و توفيق و تأييد و تسديد و ما يعقبها من الإكرام بالجنة و الرضوان. 

  • فأولياء الله على أي حال هم المؤمنون فإن الله يعد نفسه وليا لهم في حياتهم المعنوية حيث يقول {وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ} آل عمران: - ٦٨. 

  • غير أن الآية التالية لهذه الآية المفسرة للكلمة تأبى أن تكون الولاية شاملة لجميع المؤمنين و فيهم أمثال الذين يقول الله سبحانه فيهم {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} يوسف: - ١٠٦ فإن قوله في الآية التالية: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} يعرفهم بالإيمان و التقوى مع الدلالة على كونهم على تقوى مستمر سابق على إيمانهم من حيث الزمان حيث قيل: {آمَنُوا} ثم قيل عطفا عليه: {وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} فدل على أنهم كانوا يستمرون على التقوى قبل تحقق هذا الإيمان منهم و من المعلوم أن الإيمان الابتدائي غير مسبوق بالتقوى بل هما متقاربان أو هو قبل التقوى و خاصة التقوى المستمر. 

  • فالمراد بهذه الإيمان مرتبة أخرى من مراتب الإيمان غير المرتبة الأولى منه. فقد تقدم في الجزء الأول من الكتاب آية ١٣٠من البقرة أن لكل من الإيمان و الإسلام و كذا الشرك و الكفر مراتب مختلفة بعضها فوق بعض فالمرتبة الأولى من الإسلام إجراء الشهادتين لسانا و التسليم ظاهرا، و تليه المرتبة الأولى من الإيمان و هو الإذعان بمؤدى الشهادتين قلبا إجمالا و إن لم يسر إلى جميع ما يعتقد في الدين من الاعتقاد الحق، و لذا كان من الجائز أن يجتمع مع الشرك من بعض الجهات، قال تعالى: {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} يوسف: - ١٠٦. 

  • و لا يزال إسلام العبد يصفو و ينمو حتى يستوعب تسليمه لله سبحانه في كل ما يرجع إليه و إليه مصير كل أمر، و كلما ارتفع الإسلام درجة و رقي مرتبة كان الإيمان المناسب له الإذعان بلوازم تلك المرتبة حتى يسلم العبد لربه حقيقة معنى ألوهيته و ينقطع عنه السخط و الاعتراض فلا يسخط لشي‌ء من أمره من قضاء و قدر و حكم، و لا يعترض على شي‌ء من إرادته، و بإزاء ذلك الإيمان باليقين بالله و جميع 

تفسير الميزان ج۱۰

90
  • ما يرجع إليه من أمر، و هو الإيمان الكامل الذي تتم به للعبد عبوديته. 

  • قال تعالى: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} النساء: - ٦٥، و الأشبه أن تكون هذه المرتبة من الإيمان أو ما يقرب منه هو المراد بالآية أعني قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} فإنه الإيمان المسبوق بتقوى مستمر دون الإيمان بمرتبته الأولى كما تقدم. 

  • على أن توصيفه أهل هذا الإيمان بأنهم {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يدل على أن المراد منه الدرجة العالية من الإيمان الذي يتم معه معنى العبودية و المملوكية المحضة للعبد الذي يرى معه أن الملك لله وحده لا شريك له، و أن ليس إليه من الأمر شي‌ء حتى يخاف فوته أو يحزن لفقده. 

  • و ذلك أن الخوف إنما يعرض للنفس عن توقع ضرر يعود إليها، و الحزن إنما يطرأ عليها لفقد ما تحبه أو تحقق ما تكرهه مما يعود إليها نفعه أو ضرره، و لا يستقيم تحقق ذلك إلا فيما يرى الإنسان لنفسه ملكا أو حقا متعلقا بما يخاف عليه أو يحزن لفقده من ولد أو مال أو جاه أو غير ذلك. و أما ما لا علقة للإنسان به بوجه من الوجوه أصلا فلا يخاف الإنسان عليه و لا يحزن لفقده البتة. 

  • و الذي يرى كل شي‌ء ملكا طلقا لله سبحانه لا يشاركه في ملكه أحد لا يرى لنفسه ملكا أو حقا بالنسبة إلى شي‌ء حتى يخاف في أمره أو يحزن، و هذا هو الذي يصفه الله من أوليائه إذ يقول: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فهؤلاء لا يخافون شيئا و لا يحزنون لشي‌ء لا في الدنيا و لا في الآخرة إلا أن يشاء الله و قد شاء أن يخافوا من ربهم و أن يحزنوا لما فاتهم من كرامته إن فاتهم و هذا كله من التسليم لله فافهم ذلك. 

  • فإطلاق الآية يفيد اتصافهم بهذين الوصفين: عدم الخوف و عدم الحزن في النشأتين الدنيا و الآخرة، و أما مثل قوله تعالى: {إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ وَ لاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِينَ} الزخرف: - ٧٠فإن ظاهر الآيات و إن كان هو أنها تريد الأولياء بالمعنى الذي تصفه الآية التي نحن فيها إلا أن إثبات عدم الخوف و الحزن لهم يوم القيامة لا ينفي ذلك عنهم في غيره. نعم 

تفسير الميزان ج۱۰

91
  • هناك فرق من جهة أخرى و هو خلوص النعمة و الكرامة و بلوغ صفائها يوم القيامة و كونها مشوبة غير خالصة في غيره. 

  • و نظيرها قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ} فصلت: - ٣١ فإن الآيات و إن كانت ظاهرة في كون هذا التنزل و القول و البشارة يوم الموت لمكان قوله: {كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} و قوله: {أَبْشِرُوا} غير أن الإثبات في وقت لا يكفي للنفي في وقت آخر كما عرفت. 

  • هذا ما يدل عليه الآية بحسب إطلاق لفظها و تأييد سائر الآيات لها، و قد قيد أكثر المفسرين قوله: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بالاستناد إلى آيات الآخرة بيوم الموت و القيامة، و أهملوا ما تفيده خصوصية اللفظ في قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} و أخذوا الإيمان و التقوى أمرين متقارنين فرجع المعنى إلى أن أولياء الله هم المتقون من أهل الإيمان و لا خوف عليهم في الآخرة و لا هم يحزنون و هذا كما عرفت من التقييد من غير مقيد. 

  • و عمم بعضهم نفي الخوف و الحزن فذكر أنهم متصفون به في الدنيا و الآخرة غير أنه أفسد المعنى من جهة أخرى فقال: إن المراد بالأولياء على ما تفسرهم به الآية الثانية جميع المتقين من المؤمنين، و المراد بعدم خوفهم و حزنهم أنهم لا يخافون في الآخرة مما يخاف منه الكافرون و الفاسقون و الظالمون من أهوال الموقف و عذاب الموقف و عذاب الآخرة و لا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم و أنهم لا يخافون في الدنيا كخوف الكفار و لا يحزنون كحزنهم. 

  • قال: و أما أصل الخوف و الحزن فهو من الأعراض البشرية التي لا يسلم منها أحد في الدنيا، و إنما يكون المؤمنون الصالحون أصبر الناس و أرضاهم بسنن الله اعتقادا و علما بأنه إذا ابتلاهم بشي‌ء مما يخيف أو يحزن فإنما يربيهم بذلك لتكميل نفوسهم و تمحيصها بالجهاد في سبيله الذي يزداد به أجرهم كما صرحت بذلك الآيات الكثيرة. انتهى. 

  • أما تقييده الآية بأن المنفي عن الأولياء هو الخوف و الحزن اللذين يعرضان 

تفسير الميزان ج۱۰

92
  • للكفار دون ما يعرض لعامة المؤمنين بحسب الطبع البشري و استناده في ذلك إلى الآيات الكثيرة فهو من التقييد من غير مقيد، و أما قوله إن أصل الخوف و الحزن مما لا يسلم منه أحد أصلا فهو من عدم تحصيل المراد بالكلام لعدم تعمقه في البحث عن الأخلاق العالية و المقامات المعنوية الإنسانية فحمله ذلك على أن يقيس حال المكرمين من عباد الله المقربين من الأنبياء و الأولياء إلى ما يجده من حال المتوسطين من عامة الناس فزعم أن ما يغشى العامة من الأعراض التي سماها أحوالا طبيعية يغشى الخاصة لا محالة، و أن ما يتعذر أو يتعسر على المتوسطين من الأحوال فهو كذلك عند الكاملين، و لا يبقى حينئذ للمقامات المعنوية و الدرجات الحقيقية إلا أنها أسماء ليس وراءها حقيقة، و اعتبارات وضعية اصطلح عليها نظير المقامات الوهمية و الدرجات الرسمية الاجتماعية التي نتداولها في مجتمعاتنا لمصلحة الاجتماع. 

  • فلا وفى حق البحث العلمي حتى يهديه إلى حق النتيجة فيتبين أن التوحيد الكامل يقصر حقيقة الملك في الله سبحانه فلا يبقى لغيره شي‌ء من الاستقلال في التأثير حتى يتعلق به لنفسه حب أو بغض أو خوف أو حزن و لا فرح و لا أسى و لا غير ذلك، و إنما يخاف هذا الذي غشيه التوحيد و يحزن أو يحب أو يكره بالله سبحانه، و يرتفع التناقض حينئذ بين قولنا: إنه لا يخاف شيئا إلا الله و بين قولنا: إنه يخاف كثيرا مما يضره و يحذر أمورا يكرهها فافهم ذلك. 

  • و لا البحث القرآني أتقن و استفرغ فيه الوسع حتى يظهر له أن قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أطلق فيه نفي الخوف و الحزن من غير تقييد بشي‌ء أو حال إلا ما صرح به آيات من وجوب مخافة الله فهؤلاء لا يخافون من شي‌ء في دنيا و لا آخرة إلا من الله سبحانه و لا يحزنون. 

  • و أما الآيات الكثيرة التي تصف المؤمنين بعدم الخوف و الحزن عند الموت أو يوم القيامة فهي إنما تصف أحوالهم في ظرف و لا يستوجب نفي شي‌ء أو إثباته في مورد خلافه في غيره و هو ظاهر. 

  • و الآية مع ذلك تدل على أن هذا الوصف إنما هو لطائفة خاصة من المؤمنين 

تفسير الميزان ج۱۰

93
  • يمتازون عن غيرهم بمرتبة خاصة من الإيمان تخصهم دون غيرهم من عامة المؤمنين و ذلك بما يفسرها من قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} بما تقدم من تقرير دلالته. 

  • و بالجملة ارتفاع الخوف من غير الله و الحزن عن الأولياء ليس معناه أن الخير و الشر و النفع و الضرر و النجاة و الهلاك و الراحة و العناء و اللذة و الألم و النعمة و البلاء متساوية عندهم و متشابهة في إدراكهم فإن العقل الإنساني بل الشعور العام الحيواني لا يقبل ذلك. 

  • بل معناه أنهم لا يرون لغيره تعالى استقلالا في التأثير أصلا، و يقصرون الملك و الحكم فيه تعالى فلا يخافون إلا إياه أو ما يحب الله و يريد أن يحذروا منه أو يحزنوا عليه. 

  • قوله تعالى{لَهُمُ اَلْبُشْرى فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ} يبشرهم الله تعالى بشارة إجمالية بما تقر به أعينهم فإن كان قوله: {لَهُمُ اَلْبُشْرى } إنشاء للبشارة كان معناه وقوع ما بشر به في الدنيا و في الآخرة كلتيهما، و إن كان إخبارا بأن الله سيبشرهم بشرى كانت البشارة واقعة في الدنيا و في الآخرة، و أما المبشر به فهل يقع في الآخرة فقط أو في الدنيا و الآخرة معا؟ الآية ساكتة عن ذلك. 

  • و قد وقع في كلامه تعالى بشارات للمؤمنين بما ينطبق على أوليائه تعالى كقوله تعالى: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ا لْمُؤْمِنِينَ} الروم: - ٤٧ و قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ} المؤمن: - ٥١ و قوله: {بُشْرَاكُمُ اَلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ} الحديد: - ١٢ إلى غير ذلك. 

  • و قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ} إشارة إلى أن ذلك من القضاء المحتوم الذي لا سبيل للتبدل إليه، و فيه تطييب لنفوسهم. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} تأديب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتعزيته و تسليته فيما كانوا يؤذونه به بالوقوع في ربه و الطعن في دينه و الاعتزاز بشركائهم و آلهتهم كما يشعر به القول في الآية التالية فكاد يحزن لله فسلاه 

تفسير الميزان ج۱۰

94
  • الله و طيب نفسه بتذكيره ما يسكن وجده و هو أن العزة لله و أنه سميع لمقالهم عليمٌ بحاله و حالهم و إذ كان له تعالى كل العزة فلا يعبأ بما اعتزوا به من العزة الوهمية فهذوا ما هذوا، و إذ كان سميعا عليما فلو شاء لأخذهم بالنكال و إذ كان لا يأخذهم فإنما في ذلك مصلحة الدعوة و خير العاقبة. 

  • و من هنا يظهر أن كلا من قوله: {إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ} و قوله: {هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} علة مستقلة للنهي و لذا جي‌ء بالفصل من غير عطف. 

  • قوله تعالى{أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآية فيه بيان مالكيته تعالى لكل من في السماوات و الأرض التي بها يتم للإله معنى الربوبية فإن الرب هو المالك المدبر لأمر مملوكه، و هذا الملك لله وحده لا شريك له فما يدعون له من الشركاء ليس لهم من معنى الشركة إلا ما في ظن الداعين و في خرصهم من المفهوم الذي لا مصداق له. 

  • فالآية تقيس شركاءهم إليه تعالى و تحكم أن نسبتهم إليه تعالى نسبة الظن و الخرص إلى الحقيقة و الحق، و الباقي ظاهر. 

  • و قد قيل: {مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ} و لم يقل: ما في السماوات و ما في الأرض لأن الكلام في ربوبية العباد من ذوي الشعور و العقل و هم الملائكة و الثقلان. 

  • قوله تعالى{هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهَارَ مُبْصِراً} (الآية) . الآية تتمم البيان الذي أورد في الآية السابقة لإثبات ربوبيته تعالى و الربوبية - كما تعلم - هي الملك و التدبير، و قد ذكر ملكه تعالى في الآية السابقة، فبذكر تدبير من تدابيره العامة في هذه الآية تصلح به عامة معيشة الناس و تستبقي به حياتهم يتم له معنى الربوبية. 

  • و للإشارة إلى هذا التدبير ذكر مع الليل سكنهم فيه، و مع النهار إبصارهم فيه الباعث لهم إلى أنواع الحركات و التنقلات لكسب مواد الحياة و إصلاح شئون المعاش فليس يتم أمر الحياة الإنسانية بالحركة فقط أو بالسكون فقط فدبر الله 

تفسير الميزان ج۱۰

95
  • سبحانه الأمر في ذلك بظلمة الليل الداعية إلى تجديد تجهيز القوى بعد ما لحقها من العي و التعب و النصب و إلى الارتياح و الأنس بالأهل و التمتع مما جمع و اكتسب بالنهار و الفراغ للعبودية، و بضوء النهار الباعث إلى الرؤية فالاشتياق فالطلب. 

  • قوله تعالى{قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآية الاستيلاد بمعناه المعروف عند الناس هو أن يفصل الموجود الحي بعض أجزاء مادته فيربيه بالحمل أو البيض تربية تدريجية حتى يتكون فردا مثله، و الإنسان من بينها خاصة ربما يطلب الولد ليكون عونا له على نوائب الدهر و ذخرا ليوم الفاقة، و هذا المعنى بجميع جهاته محال عليه تعالى فهو عز اسمه منزه عن الأجزاء متعال عن التدريج في فعله بري‌ء عن المثل و الشبه مستغن عن غيره بذاته. 

  • و قد نفى القرآن الولد عنه بالاحتجاج عليه من كل من الجهات المذكورة كما تعرض لنفيه من جميعها في قوله: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذَا قَضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} البقرة: - ١١٧ و قد مرت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و أما الآية التي نحن فيها فهي مسوقة للاحتجاج على نفي الولد من الجهة الأخيرة فحسب و هو أن الغرض من وجوده الاستعانة به عند الحاجة و ذلك إنما يتصور فيمن كان بحسب طبعه محتاجا فقيرا، و الله سبحانه هو الغني الذي لا يخالطه فقر فإنه المالك لما فرض في السماوات و الأرض من شي‌ء. 

  • و قوله: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي برهان‌ {بِهَذَا} إثبات لكونهم إنما قالوه جهلا من غير دليل فيكون محصل المعنى أنه لا دليل لكم على ما قلتموه بل الدليل على خلافه و هو أنه تعالى غني على الإطلاق، و الولد إنما يطلبه من به فاقة و حاجة، و الكلام على ما اصطلح عليه في فن المناظرة من قبيل المنع مع السند. 

  • و قوله: {أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} توبيخ لهم في قولهم ما ليس لهم به 

تفسير الميزان ج۱۰

96
  • علم، و هو مما يستقبحه العقل الإنساني و لا سيما في ما يرجع إلى رب العالمين عز اسمه. 

  • قوله تعالى{قُلْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} تخويف و إنذار بشؤم العاقبة، و في الآيتين من لطيف الالتفات ما هو ظاهر فقد حكى الله أولا عنهم من طريق الغيبة قولهم: {اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً} ثم خاطبهم خطاب الساخط الغضبان مما نسبوا إليه و افتروا عليه فقال: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} و إنما خاطبهم متنكرا من غير أن يعرفهم نفسه حيث قال: {عَلَى اَللَّهِ} و لم يقل: علي أو علينا صونا لعظمة مقامه أن يخالطهم معروفا ثم أعرض عنهم تنزها عن ساحة جهلهم و رجع إلى خطاب رسوله قائلا: {قُلْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} لأنه إنذار و الإنذار شأنه. 

  • قوله تعالى{مَتَاعٌ فِي اَلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ اَلْعَذَابَ اَلشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيه بيان وجه عدم فلاحهم بأنه كفر بالله ليس بحذائه إلا متاع قليل في الدنيا ثم الرجوع إلى الله و العذاب الشديد الذي يذوقونه. 

  • (بحث روائي) 

  • في أمالي الشيخ قال: أخبرنا أبو عمرو قال: أخبرنا أحمد قال: حدثنا يعقوب بن يوسف بن زياد قال: حدثنا نصر بن مزاحم قال: حدثنا محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال:{بفضل الله و برحمته}؛ بفضل الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و برحمته علي (عليه السلام) .

  • أقول: و رواه الطبرسي و ابن الفارسي عنه مرسلا، و رواه أيضا في الدر المنثور، عن الخطيب و ابن عساكر عنه. 

  • و في المجمع قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام) : فضل الله رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و رحمته علي بن أبي طالب (عليه السلام) . 

  • أقول: و ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نعمة أنعم الله بها على العالمين بما جاء به من 

تفسير الميزان ج۱۰

97
  • الرسالة و مواد الهداية، و علي (عليه السلام) هو أول فاتح لباب الولاية و فعلية التحقق بنعمة الهداية فهو الرحمة فينطبق الخبر على ما قدمناه في تفسير الآية. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي عن ابن عباس:قل بفضل الله؛ القرآن ، و برحمته؛ حين جعلهم من أهل القرآن. 

  • أقول: أي الفضل مواد المعارف و الأحكام التي فيه، و الرحمة فعلية تحقق ذلك في العاملين به فيرجع إلى ما قدمناه في تفسير الآية فتبصر، و لا مخالفة بين هذه الرواية و الرواية السابقة حينئذ بحسب الحقيقة. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} (الآية) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديدا.

  • أقول: و رواه في المجمع عن الصادق (عليه السلام) . 

  • و في أمالي المفيد بإسناده عن عباية الأسدي عن ابن عباس قال: سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فقيل له: من هؤلاء الأولياء؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : قوم أخلصوا لله في عبادته، و نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها فعرفوا آجلها حين غرت الخلق سواهم بعاجلها فتركوا ما علموا أنه سيتركهم، و أماتوا منها ما علموا أنه سيميتهم. 

  • ثم قال: أيها المطل نفسه بالدنيا الراكض على حبائلها المجتهد في عمارة ما سيخرب منها أ لم تر إلى مصارع آبائك في البلاد و مصارع أبنائك تحت الجنادل و الثرى؟ كم مرضت ببدنك و عللت بكفنك تستوصف لهم الأطباء و تستغيث لهم الأحباء فلم تغن عنهم غناؤك، و لا ينجع عنهم دواؤك؟ 

  • و في تفسير العياشي عن مرثد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي بن الحسين (عليه السلام): {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} 

تفسير الميزان ج۱۰

98
  • قال: إذا أدوا فرائض الله، و أخذوا بسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و تورعوا عن محارم الله، و زهدوا في عاجل زهرة الدنيا، و رغبوا فيما عند الله، و اكتسبوا الطيب من رزق الله، و لا يريدون هذا التفاخر و التكاثر ثم أنفقوا فيما يلزمهم من حقوق واجبة فأولئك الذين بارك الله لهم فيما اكتسبوا و يثابون على ما قدموا لآخرتهم.

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و الحكيم و الترمذي عن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إنه لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله و يبغض لله تعالى فإذا أحب الله و أبغض الله فقد استحق الولاء من الله (الحديث) . 

  • أقول: و الروايات الثلاث في معنى الولاية يرجع بعضها إلى بعض و ينطبق الجميع على ما قدمناه في تفسير الآية. 

  • و فيه أخرج ابن المبارك و ابن أبي شيبة و ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن النبي صلى الله عليه وآله: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون} قال: يذكر الله لرؤيتهم. 

  • أقول: ينبغي أن يحمل إلى أن من آثار ولايتهم ذلك لا أن كل من كان كذلك كان من أهل الولاية إلا أن يراد أنهم كذلك في جميع أحوالهم و أعمالهم، و في معناها ما روي عن أبي الضحى و سعد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في الآية قال: إذا رأوا ذكر الله. 

  • و فيه أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو القاسم بن منده في كتاب سؤال القبر من طريق أبي جعفر عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل من أهل البادية رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ اَلْبُشْرى فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ} فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : أما قوله: {لَهُمُ اَلْبُشْرى فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه، و أما قوله: {وَ فِي اَلْآخِرَةِ} فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن الله قد غفر لك و لمن حملك إلى قبرك. 

  • أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق أهل السنة و رواها الصدوق 

تفسير الميزان ج۱۰

99
  • مرسلا و قوله: «ترى للمؤمن» بصيغة المجهول أعم من أن يراها هو نفسه أو غيره و قوله: «عند الموت» قد أضيف إليه في بعض الروايات البشرى يوم القيامة بالجنة. 

  • و في المجمع: في قوله: {لَهُمُ اَلْبُشْرى فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ} : عن أبي جعفر (عليه السلام) : في معنى البشارة في الدنيا: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له، و في الآخرة الجنة و هي ما يبشرهم به الملائكة عند خروجهم من القبور، و في القيامة إلى أن يدخلوا الجنة يبشرونهم حالا بعد حال.

  • أقول: و قال بعد ذلك و روي ذلك في حديث مروي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) انتهى و روي مثله عن الصادق (عليه السلام) و رواه القمي في تفسيره، مضمرا. 

  • و في تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن زريق عن الصادق (عليه السلام) : في قوله تعالى: {لَهُمُ اَلْبُشْرى فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} قال: هو أن يبشراه بالجنة عند الموت يعني محمدا و عليا (عليه السلام) . 

  • و في الكافي بإسناده عن أبان بن عثمان عن عقبة أنه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الرجل إذا وقعت نفسه في صدره رأى. قلت: جعلت فداك و ما يرى؟ قال: يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، فيقول له رسول الله: أنا رسول الله أبشر، ثم قال: ثم يرى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فيقول: أنا علي بن أبي طالب الذي كنت تحب أما لأنفعنك اليوم. 

  • قال: قلت له: أ يكون أحد من الناس يرى هذا ثم يرجع إلى الدنيا؟ قال: إذا رأى هذا أبدا مات و أعظم ذلك قال: و ذلك في القرآن قول الله عز و جل: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ اَلْبُشْرى فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ} 

  • أقول: و هذا المعنى مروي عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) بطرق كثيرة جدا و قوله: «و أعظم ذلك» أي عده عظيما. و قد أخذ في الحديث قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} كلاما مستقلا ففسره بما فسر، و تقدم نظيره في رواية الدر المنثور، عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع أن ظاهر السياق كون الآية مفسرة لقوله قبلها: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ} (الآية) و هو يؤيد ما قدمناه في بعض الأبحاث 

تفسير الميزان ج۱۰

100
  • السابقة أن جميع التقادير من التركيبات الممكنة في كلامه تعالى حجة يحتج بها كما في قوله: {قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} الأنعام: - ٩١ و قوله: {قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} و قوله: {قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} و قوله: {قُلِ اَللَّهُ} 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و صححه و ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن الرسالة و النبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي و لا نبي و لكن المبشرات. قالوا: يا رسول الله و ما المبشرات قال: رؤيا المسلم و هي جزء من أجزاء النبوة.

  • أقول: و روي ما في معناه عن أبي قتادة و عائشة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و فيه أخرج ابن أبي شيبة و مسلم و الترمذي و أبو داود و ابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، و أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، و رؤيا المسلم جزء من ستة و أربعين جزء من النبوة، و الرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، و الرؤيا من تحزن و الرؤيا مما يحدث بها الرجل نفسه. و إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم و ليتفل و لا يحدث به الناس‌ الحديث. 

  • و فيه أخرج ابن أبي شيبة عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : الرؤيا على ثلاثة: تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم و منه الأمر يحدث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، و منه جزء من ستة و أربعين جزء من النبوة.

  • أقول: أما انقسام الرؤيا إلى الأقسام الثلاثة كما ورد في الروايتين و في معناهما روايات أخرى من طرق أهل السنة و أخرى من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) فسيجي‌ء توضيحه في تفسير سورة يوسف إن شاء الله تعالى. 

  • و أما كون الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزء من النبوة فقد وردت به روايات كثيرة من طرق أهل السنة رواها عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) جمع من الصحابة كأبي هريرة و عبادة بن الصامت و أبي سعيد الخدري و أبي رزين، و روى أنس و أبو قتادة و عائشة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) : أنها من أجزاء النبوة كما تقدم. 

تفسير الميزان ج۱۰

101
  • و عن الصفدي أنه وجه الرواية بأن مدة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثلاث و عشرون سنة دعا فيها إلى ربه ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة، و عشر سنين بعدها، و قد ورد أن الوحي كان يأتيه ستة أشهر من أولها من طريق الرؤيا الصالحة حتى نزل القرآن، و النسبة بين الستة الأشهر و بين الثلاث و عشرين سنة نسبة الواحد إلى الستة و الأربعين. 

  • و قد روي عن ابن عمر و أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) : أنها جزء من سبعين جزء من النبوة فإن صحت هذه الرواية كان المراد بالتعداد مجرد التكثير من غير خصوصية لعدد السبعين. 

  • و اعلم أن الرؤيا ربما أطلقت في لسان القرآن و الحديث على ما يشاهده الرائي ما لا يشاهده غيره و إن لم ينم نومه الطبيعي، و قد نبهنا عليه في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب و أحسن كلمة في تفسيرها قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) : تنام عيني و لا ينام قلبي.

  • [سورة يونس (١٠) : الآیات ٧١ الی ٧٤]

  • {وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَ تَذْكِيرِي بِآيَاتِ اَللَّهِ فَعَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اُقْضُوا إلى وَ لاَ تُنْظِرُونِ ٧١ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ٧٢ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ ٧٣ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ 

تفسير الميزان ج۱۰

102
  •  كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلُوبِ اَلْمُعْتَدِينَ ٧٤} 

  • (بيان) 

  • تذكر الآيات إجمال قصة نوح (عليه السلام) و من بعده من الرسل إلى زمن موسى و هارون (عليهما السلام) ، و ما عامل به الله سبحانه أممهم المكذبين لرسلهم حيث أهلكهم و نجا رسله و المؤمنين بهم ليعتبر بها أهل التكذيب من هذه الأمة. 

  • قوله تعالى{وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} إلى آخر الآية المقام‌ مصدر ميمي و اسم زمان و مكان من القيام، و المراد به الأول أو الثالث أي قيامي بأمر الدعوة إلى توحيد الله أو مكانتي و منزلتي و هي منزلة الرسالة، و الإجماع‌ العزم و ربما يتعدى بعلى قال الراغب: و أجمعت كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوسل إليه بالفكرة نحو فأجمعوا كيدكم و شركاءكم. 

  • و الغمة هي الكربة و الشدة و فيه معنى التغطية كأن الهم يغطي القلب، و منه الغمام للغيم سمي به لتغطيته وجه السماء، و القضاء إلى الشي‌ء إتمام أمره بقتل و إفناء و نحو ذلك. 

  • و معنى الآية: {وَ اُتْلُ} يا محمد {عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} و خبره العظيم حيث واجه قومه و هو واحد يتكلم عن نفسه، و هو مرسل إلى أهل الدنيا فتحدى عليهم بأن يفعلوا به ما بدا لهم إن قدروا على ذلك، و أتم الحجة على مكذبيه في ذلك {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} و نهضتي لأمر الدعوة إلى التوحيد أو منزلتي من الرسالة {وَ تَذْكِيرِي بِآيَاتِ اَللَّهِ} و هو داعيكم لا محالة إلى قتلي و إيقاع ما تقدرون عليه من الشر بي لإراحة أنفسكم مني {فَعَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْتُ} قبال ما يهددني من تحرج صدوركم و ضيق نفوسكم علي بإرجاع أمري إليه و جعله وكيلا يتصرف في شئوني و من غير أن أشتغل بالتدبير {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكَاءَكُمْ} الذين تزعمون أنهم ينصرونكم في الشدائد، و اعزموا علي بما بدا لكم، و هذا أمر تعجيزي، {ثُمَّ لاَ يَكُنْ 

تفسير الميزان ج۱۰

103
  •  أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} إن لم تكونوا اجتهدتم في التوسل إلى كل سبب في دفعي {ثُمَّ اُقْضُوا إِلَيَّ} بدفعي و قتلي {وَ لاَ تُنْظِرُونِ} و لا تمهلوني. 

  • و في الآية تحديه (عليه السلام) على قومه بأن يفعلوا به ما بدا لهم، و إظهار أن ربه قدير على دفعهم عنه و إن أجمعوا عليه و انتصروا بشركائهم و آلهتهم. 

  • قوله تعالى{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} إلى آخر الآية. تفريع على توكله بربه، و قوله: {فَمَا سَأَلْتُكُمْ} إلخ، بمنزلة وضع السبب موضع المسبب و التقدير فإن توليتم و أعرضتم عن استجابة دعوتي فلا ضير لي في ذلك فإني لا أتضرر في إعراضكم شيئا لأني إنما كنت أتضرر بإعراضكم عني لو كنت سألتكم أجرا على ذلك يفوت بالإعراض، و ما سألتكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله. 

  • و قوله: {وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ} أي الذين يسلمون الأمر إليه فيما أراده لهم و عليهم، و لا يستكبرون عن أمره بالتسليم لسائر الأسباب الظاهرة حتى يخضعوا لها و يتوقعوا به إيصال نفع أو دفع شر. 

  • قوله تعالى{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} إلى آخر الآية، الخلائف‌ جمع خليفة أي جعلنا هؤلاء الناجين خلائف في الأرض و الباقين من بعدهم يخلفون سلفهم و يقومون مقامهم، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} إلى آخر الآية، يريد بالرسل من جاء منهم بعد نوح إلى زمن موسى (عليه السلام) . و ظاهر السياق أن المراد بالبينات الآيات المعجزة التي اقترحتها الأمم على أنبيائهم بعد مجيئهم و دعوتهم و تكذيبهم لهم فأتوا بها و كان فيها القضاء بينهم و بين أممهم، و يؤيده قوله بعده: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} إلخ، فإن السابق إلى الذهن أنهم جاءوهم بالآيات البينات لكن الله قد كان طبع على قلوبهم لاعتدائهم فلم يكن في وسعهم أن يؤمنوا ثانيا بما كذبوا به أولا. 

  • و لازم ذلك أن يكون تكذيبهم بذلك قبل مجي‌ء الرسل بتلك الآيات البينات فقد كانت الرسل بثوا دعوتهم فيهم و دعوهم إلى توحيد الله فكذبوا به و بهم ثم اقترحوا 

تفسير الميزان ج۱۰

104
  • عليهم آية معجزة فجاءوهم بها فلم يؤمنوا. 

  • و قد أسلفنا بعض البحث عن هذه الآية في تفسير قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} : الأعراف: - ١٠١ في الجزء الثامن من الكتاب، و بينا هناك أن في الآية إشارة إلى عالم الذر غير أنه لا ينافي إفادتها لما قدمناه من المعنى آنفا فليراجع. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل عن صالح بن عقبة عن عبد الله بن محمد الجعفي و عقبة جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب فكان مما۱ أحب أن خلقه من طين الجنة و خلق من أبغض مما أبغض و كان ما أبغضه أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال، فقلت: و أي شي‌ء الظلال؟ فقال: أ لم تر إلى ظلك في الشمس شي‌ء و ليس بشي‌ء . 

  • ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله عز و جل: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ} ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعض و أنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها و الله من أحب و أنكرها من أبغض، و هو قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} . ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) : كان التكذيب من قبل.

  • أقول: و رواه في العلل، بإسناده إلى محمد بن إسماعيل عن صالح عن عبد الله و عقبة عنه (عليه السلام) ، و رواه العياشي عن الجعفي عنه (عليه السلام) . 

  • و في تفسير العياشي عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) : خلق الخلق و هم أظلة فأرسل رسوله محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) فمنهم من آمن به و منهم من كذبه ثم بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن به في الأظلة و جحده من جحده يومئذ 

    1. ما ظ. 

تفسير الميزان ج۱۰

105
  • فقال: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} .

  • أقول: قد فصلنا القول في ما يسمى عالم الذر في تفسير قوله تعالى: {وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ على أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى } (الآية) . و أوضحنا هناك أن آيات الذر تثبت عالما إنسانيا آخر غير هذا العالم الإنساني المادي التدريجي المشوب بالآلام و المصائب و المعاصي و الآثام المشهود لنا من طريق الحس. 

  • و هو مقارن لهذا العالم المحسوس نوعا من المقارنة لكنه غير محكوم بهذه الأحكام المادية، و ليس تقدمه على عالمنا هذا تقدما بالزمان بل بنوع آخر من التقدم نظير التقدم المستفاد من قوله: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس: - ٨٢ فإن «كن» و «يكون» يحكيان عن مصداق واحد و هو وجود الشي‌ء خارجا لكن هذا الوجود بعينه بوجهه الذي إلى الله متقدم عليه بوجهه الآخر، و هو بوجهه الرباني غير تدريجي و لا زماني و لا غائب عن ربه و لا منقطع عنه بخلاف وجهه إلى الخلق على التفصيل الذي تقدم هناك. 

  • و الذي أوردناه من الرواية في هذا البحث الروائي تشير إلى عالم الذر كالذي مرت سابقا غير أنها تختص بمزية و هي ما فيها من لطيف التعبير بالظلال فإن بإجادة التأمل في هذا التعبير يتضح المراد أحسن الاتضاح فإن في الأشياء الكونية أمورا هي كالظلال في أنها لازمة لها حاكية لخصوصيات وجودها و آثار وجودها، و مع ذلك فهي هي و ليست هي. 

  • فإنا إذا نظرنا إلى الأشياء و جردنا النظر و محضناه في كونها صنع الله و فعله المحض غير المنفك منه و لا المنفصل عنه و هي نظرة حقة واقعية - لم يتحقق فيها إلا التسليم لله و الخضوع لإرادته و التذلل لكبريائه و التعلق برحمته و أمر ربوبيته و الإيمان بوحدانيته و بما أرسل به رسله و أنزله إليهم من دينه. 

  • و هذه الوجودات ظلال أشياء و ليست بأشياء إذا قيست إلى وجودات الأشياء المادية، و أخذ العالم المادي أصلا مقيسا إليه و هو الذي بنت عليه الآيات من جهة كون غرضها بيان ثبوت التكليف بالتوحيد تكليفا لا محيص عنه مسئولا عنه يوم القيامة. 

تفسير الميزان ج۱۰

106
  • و لو أخذت جهة الرب تعالى أصلا و قيس إليه هذا العالم المادي بما فيه من الموجودات المادية و هو أيضا نظر حق كان هذا العالم هو الظل و كانت جهة الرب تعالى هو الأصل و الشخص الذي له الظل كما يشير إليه قوله تعالى: {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} القصص: - ٨٨ و قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ} الرحمن - ٢٧. 

  • و أما ما رواه العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} قال: «بعث الله الرسل إلى الخلق و هم في أصلاب الرجال و أرحام النساء فمن صدق حينئذ صدق بعد ذلك، و من كذب حينئذ كذب بعد ذلك‌». 

  • فظاهره أن للبعث تعلقا بالنطف التي في الأصلاب و الأرحام. و هم أحياء عقلاء مكلفون، و هذا مما يدفعه الضرورة كما تقدم في الكلام على آية الذر اللهم إلا أن يحمل على أن المراد كون عالم الذر محيطا بهذا العالم المادي التدريجي الزماني من جهة كونه غير زماني فلا يتعلق الوجود الذري بزمان دون زمان و هو مع ذلك محمل بعيد. 

  • [سورة يونس (١٠) : الآیات ٧٥ الی ٩٣]

  • {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هَارُونَ إلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ ٧٥ فَلَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ٧٦ قَالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هَذَا وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُونَ ٧٧ قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِيَاءُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ٧٨ وَ قَالَ فِرْعَوْنُ اِئْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ 

تفسير الميزان ج۱۰

107
  •  عَلِيمٍ ٧٩ فَلَمَّا جَاءَ اَلسَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ٨٠فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ إِنَّ اَللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ ٨١ وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ ٨٢ فَمَا آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْمُسْرِفِينَ ٨٣ وَ قَالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ٨٤ فَقَالُوا عَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٨٥ وَ نَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلْكَافِرِينَ ٨٦ وَ أَوْحَيْنَا إلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ٨٧ وَ قَالَ مُوسى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوَالاً فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اِطْمِسْ على أَمْوَالِهِمْ وَ اُشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ ٨٨ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَ لاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ٨٩ وَ جَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ٩٠آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ 

تفسير الميزان ج۱۰

108
  • مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ ٩١ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ٩٢ وَ لَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ فَمَا اِخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٩٣} 

  • (بيان) 

  • ثم ساق الله سبحانه نبأ موسى و أخيه و وزيره هارون مع فرعون و ملئه و قد أوجز في القصة غير أنه ساقها سوقا ينطبق بفصولها على المحصل من حديث بعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و دعوته عتاة قومه و الطواغيت من قريش و غيرهم، و عدم إيمانهم به إلا ضعفاؤهم الذين كانوا يفتنونهم حتى التجئوا إلى الهجرة فهاجر هو (صلى الله عليه وآله و سلم) و جمع من المؤمنين به إلى المدينة فعقبه فراعنة هذه الأمة و ملؤهم فأهلكهم الله بذنوبهم و بوأ الله المؤمنين ببركة الإسلام مبوأ صدق و رزقهم من الطيبات ثم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم و سيقضي الله بينهم. 

  • فكان ذلك كله تصديقا لما أسر الله سبحانه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في هذه الآيات فيما سيستقبله و قومه من الحوادث، و لقوله (صلى الله عليه وآله و سلم) يخاطب أصحابه و أمته: لتتبعن سنة بني إسرائيل حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هَارُونَ} إلخ، أي ثم بعثنا من بعد نوح و الرسل الذين من بعده موسى و أخاه هارون بآياتنا إلى فرعون و الجماعة الذين يختصون به من قومه و هم القبط فاستكبروا عن آياتنا و كانوا مستمرين على الاجرام. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} إلخ، الظاهر أن المراد بالحق هو الآية الحقة كالثعبان و اليد البيضاء، و قد جعلهما الله آية لرسالته بالحق فلما جاءهم 

تفسير الميزان ج۱۰

109
  • الحق قالوا و أكدوا القول: إن هذا يشيرون إلى الحق من الآية لسحر مبين واضح كونه سحرا، و إنما سمى الآية حقا قبال تسميتهم إياها سحرا. 

  • قوله تعالى{قَالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هَذَا} إلخ، أي فلما سمع مقالتهم تلك و رميهم الحق بأنه سحر مبين قال لهم منكرا لقولهم في صورة الاستفهام: {أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ} إنه لسحر؟ ثم كرر الإنكار مستفهما بقوله: {أَ سِحْرٌ هَذَا} ؟ فمقول القول في الجملة الاستفهامية محذوف إيجازا لدلالة الاستفهام الثاني عليه، و قوله: {وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُونَ} يمكن أن يكون جملة حالية معللة للإنكار الذي يدل عليه قوله: {أَ سِحْرٌ هَذَا} ، و يمكن أن يكون إخبارا مستقلا بيانا للواقع يبرئ به نفسه من أن يقترف السحر لأنه يرى لنفسه الفلاح و للساحرين أنهم لا يفلحون. 

  • قوله تعالى{قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} إلخ، اللفت‌ هو الصرف عن الشي‌ء، و المعنى: قال فرعون و ملؤه لموسى معاتبين له: {أَ جِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} و تصرفنا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} يريدون سنة قدمائهم و طريقتهم {وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِيَاءُ فِي اَلْأَرْضِ} يعنون الرئاسة و الحكومة و انبساط القدرة و نفوذ الإرادة، يؤمّون بذلك أنكما اتخذتما الدعوة الدينية وسيلة إلى إبطال طريقتنا المستقرة في الأرض، و وضع طريقة جديدة أنتما واضعان مبتكران لها موضعها تحوزان بإجرائها في الناس و إيماننا بكما و طاعتنا لكما الكبرياء و العظمة في المملكة. 

  • و بعبارة أخرى إنما جئتما لتبدلا الدولة الفرعونية المتعرقة في القبط إلى دولة إسرائيلية تدار بإمامتكما و قيادتكما، و ما نحن لكما بمؤمنين حتى تنالا بذلك أمنيتكما و تبلغا غايتكما من هذه الدعوة المزورة. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَ فِرْعَوْنُ اِئْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} كان يأمر به ملأه فيعارض بسحر السحرة معجزة موسى كما فصل في سائر الآيات القاصة للقصة و تدل عليه الآيات التالية. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا جَاءَ اَلسَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا} إلخ، أي لما جاءوا و واجهوا موسى و تهيئوا لمعارضته قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقوه من الحبال 

تفسير الميزان ج۱۰

110
  • و العصي، و قد كانوا هيئوها ليلقوها فيظهروها في صور الحيات و الثعابين بسحرهم. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ} ما قاله (عليه السلام) بيان لحقيقة من الحقائق لينطبق عليها ما سيظهره الله من الحق على يديه من صيرورة العصا ثعبانا يلقف ما ألقوه من الحبال و العصي و أظهروه في صور الحيات و الثعابين بسحرهم. 

  • و الحقيقة التي بينها لهم أن الذي جاءوا به سحر و السحر شأنه إظهار ما ليس بحق واقع في صورة الحق الواقع لحواس الناس و أنظارهم، و إذ كان باطلا في نفسه فإن الله سيبطله لأن السنة الإلهية جارية على إقرار الحق و إحقاقه في التكوين و إزهاق الباطل و إبطاله فالدولة للحق و إن كانت للباطل جولة أحيانا. 

  • و لذا علل قوله: {إِنَّ اَللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ} فإن الصلاح و الفساد شأنان متقابلان، و قد جرت السنة الإلهية أن يصلح ما هو صالح و يفسد ما هو فاسد أي أن يرتب على كل منهما أثره المناسب له المختص به و أثر العمل الصالح أن يناسب و يلائم سائر الحقائق الكونية في نظامها الذي تجري هي عليه، و يمتزج بها و يخالطها فيصلحه الله سبحانه و يجريه على ما كان من طباعه، و أثر العمل الفاسد أن لا يناسب و لا يلائم سائر الحقائق الكونية فيما تقتضيه بطباعها و تجري عليه بجبلتها فهو أمر استثنائي في نفسه، و لو أصلحه الله في فساده كان ذلك إفسادا للنظام الكوني. 

  • فيعارضه سائر الأسباب الكونية بما لها من القوى و الوسائل المؤثرة، و تعيده إلى السيرة الصالحة إن أمكن و إلا أبطلته و أفنته و محته عن صحيفة الوجود البتة. 

  • و هذه الحقيقة تستلزم أن السحر و كل باطل غيره لا يدوم في الوجود و قد قررها الله سبحانه في كلامه في مواضع مختلفة كقوله: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} و قوله: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ} و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} المؤمن: - ٢٨، و منها قوله في هذه الآية: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ} 

  • و أكده بتقريره في جانب الإثبات بقوله في الآية التالية: {وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ 

تفسير الميزان ج۱۰

111
  •  بِكَلِمَاتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ} كما سيأتي توضيحه. 

  • قوله تعالى{وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ} لما كشف الله عن الحقيقة المتقدمة في جانب النفي بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ} أبان عنه في جانب الإثبات أيضا في هذه الآية بقوله: {وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} و قد جمع تعالى بين معنيي النفي و الإثبات في قوله: {لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبَاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ} الأنفال: - ٨. 

  • و من هنا يقوى احتمال أن يكون المراد بالكلمات في الآية أقسام الأقضية الإلهية في شئون الأشياء الكونية الجارية على الحق فإن قضاء الله ماض و سنته جارية أن يضرب الحق و الباطل في نظام الكون ثم لا يلبث الباطل دون أن يفنى و يعفى أثره و يبقى الحق على جلائه، و ذلك قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ} الرعد: - ١٧، و سيجي‌ء استيفاء البحث فيه في ذيل الآية إن شاء الله تعالى. 

  • و الحاصل أن موسى (عليه السلام) إنما ذكر هذه الحقيقة لهم ليوقفهم على سنة إلهية حقة غفلوا عنها، و ليهيئ نفوسهم لما سيظهره عملا من غلبة الآية المعجزة على السحر و ظهور الحق على الباطل، و لذا بادروا إلى الإيمان حين شاهدوا المعجزة، و ألقوا أنفسهم على الأرض ساجدين على ما فصله الله سبحانه في مواضع أخرى من كلامه. 

  • و قوله: {وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ} ذكر الاجرام من بين أوصافهم لأن فيه معنى القطع فكأنهم قطعوا سبيل الحق على أنفسهم و بنوا على ذلك بنيانهم فهم على كراهية من ظهور الحق، و لذلك نسب الله كراهة ظهور الحق إليهم بما هم مجرمون في قوله: {وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ} و في معناه قوله في أول الآيات: {فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} 

  • قوله تعالى{فَمَا آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ} إلى آخر الآيتين ذكر بعض المفسرين أن الضمير في «قومه» راجع إلى فرعون، 

تفسير الميزان ج۱۰

112
  • و الذرية الذين آمنوا من قومه كانت أمهاتهم من بني إسرائيل و آباؤهم من القبط فتبعوا أمهاتهم في الإيمان بموسى، و قيل: الذرية بعض أولاد القبط، و قيل: أريد بها امرأة فرعون و مؤمن آل فرعون، و قد ذكرا في القرآن و جارية و امرأة هي مشاطة امرأة فرعون. 

  • و ذكر آخرون أن الضمير لموسى (عليه السلام) و المراد بالذرية جماعة من بني إسرائيل تعلموا السحر و كانوا من أصحاب فرعون، و قيل: هم جميع بني إسرائيل و كانوا ستمائة ألف نسمة سماهم ذرية لضعفهم، و قيل: ذرية آل إسرائيل ممن بعث إليهم موسى و قد هلكوا بطول العهد، و هذه الوجوه كما ترى لا دليل على شي‌ء منها في الآيات من جهة اللفظ. 

  • و الذي يفيده السياق و هو الظاهر من الآية أن يكون الضمير راجعا إلى موسى و المراد بالذرية من قوم موسى بعض الضعفاء من بني إسرائيل دون ملئهم الأقوياء و الشرفاء، و الاعتبار يساعد على ذلك فإنهم جميعا كانوا أسراء للقبط محكومين بحكمهم بأجمعهم، و العادة الجارية في أمثال هذه الموارد أن يتوسل الشرفاء و الأقوياء بأي وسيلة أمكنت إلى حفظ مكانتهم الاجتماعية و جاههم القومي، و يتقربوا إلى الجبار المسيطر عليهم بإرضائه بالمال و التظاهر بالخدمة و مراءاة النصح و التجنب عما لا يرتضيه فلم يكن في وسع الملإ من بني إسرائيل أن يعلنوا موافقة موسى على بغيته، و يتظاهروا بالإيمان به. 

  • على أن قصص بني إسرائيل في القرآن أعدل شاهد على أن كثيرا من عتاة بني إسرائيل و مستكبريهم لم يؤمنوا بموسى إلى أواخر عهده و إن كانوا يتسلمون له و يطيعونه في عامة أوامره التي كان يصدرها لبذل المساعي في سبيل نجاة بني إسرائيل لما كان فيها صلاح قوميتهم و حرية شعبهم و منافع أشخاصهم، فالإطاعة في هذه الأمور أمر و الإيمان بالله و ما جاء به الرسول أمر آخر. 

  • و يستقيم على هذا معنى قوله: {وَ مَلاَئِهِمْ} بأن يكون الضمير إلى الذرية و يفيد الكلام أن الذرية الضعفاء كانوا في إيمانهم يخافون الملأ و الأشراف من بني إسرائيل فإنهم ربما كانوا يمنعونهم لعدم إيمانهم أنفسهم أو تظاهروا بذلك ليرضوا به فرعون و قومه 

تفسير الميزان ج۱۰

113
  • و يطيبوا أنفسهم فلا يضيقوا عليهم و ينقصوا من إيذائهم و التشديد عليهم. 

  • و أما ما قيل: إن الضمير راجع إلى فرعون لأنه ذو أصحاب أو للذرية لأنهم كانوا من القبط فمما لا يصار إليه البتة و خاصة أول الوجهين. 

  • و قوله: {أَنْ يَفْتِنَهُمْ} أي يعذبهم ليعودوا إلى ملته و قوله: {وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي اَلْأَرْضِ} أي و الظرف هذا الظرف و هو أن فرعون عال في الأرض مسرف في الأمر. 

  • فالمعنى و الله أعلم فتفرع على قصة بعثهما و استكبار فرعون و ملئه أنه لم يؤمن بموسى إلا ضعفاء من بني إسرائيل و هم يخافون ملأهم و يخافون فرعون أن يعذبهم لإيمانهم و كان ينبغي لهم و من شأنهم أن يخافوا فإن فرعون كان يومئذ عاليا في الأرض مسلطا عليهم و إنه كان من المسرفين لا يعدل فيما يحكم و يجاوز الحد في الظلم و التعذيب. 

  • و لو صح أن يراد بقومه كل من بعث إليهم موسى و بلغهم الرسالة و هم القبط و بنو إسرائيل استقام الكلام من طريق آخر من غير حاجة إلى ما تقدم من تكلفاتهم. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} لما كان الإيمان بالله بما يفيده للمؤمن من العلم بمقام ربه و لو إجمالا و أنه سبب فوق الأسباب إليه ينتهي كل سبب، و هو المدبر لكل أمر، يدعوه إلى تسليم الأمر إليه و التجنب عن الاعتماد بظاهر ما يمكنه التسبب به من الأسباب فإنه من الجهل، و لازم ذلك إرجاع الأمر إليه و التوكل عليه، و قد أمرهم في الآية بالتوكل على الله، علقه أولا على الشرط الذي هو الإيمان ثم تمم الكلام بالشرط الذي هو الإسلام. 

  • فالكلام في تقدير: إن كنتم آمنتم بالله و مسلمين له فتوكلوا عليه. و قد فرق بين الشرطين و لعله لم يجمع بينهما فيقول: «إن كنتم آمنتم و أسلمتم فتوكلوا» لاختلاف الشرطين بحسب الحال فقد كان الإيمان واقعا محرزا منهم، و أما الإسلام فهو من كمال 

تفسير الميزان ج۱۰

114
  • الإيمان، و ليس من الواجب الضروري أن يكون كل مؤمن مسلما بل من الأولى الأحرى أن يكمل إيمانه بالإسلام. 

  • فالتفريق بين الشرطين للإشعار بكون أحدهما واجبا واقعا منهم، و الآخر مما ينبغي لهم أن يتحققوا به فالمعنى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله و قد آمنتم و كنتم مسلمين له و ينبغي أن تكونوا كذلك فتوكلوا على الله ففي الكلام من لطيف الصنعة ما لا يخفى. 

  • قوله تعالى{فَقَالُوا عَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} إلى آخر الآيتين، إنما توكلوا على الله لينجيهم من فرعون و ملئه فدعاؤهم بما دعوا به من قولهم: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} إلخ، سؤال منهم نتيجة توكلهم و هو أن ينزع الله منهم لباس الضعف و الذلة، و ينجيهم من القوم الكافرين. 

  • أما الأول فقد أشاروا إليه بقولهم: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} و ذلك أن الذي يغري الأقوياء الظالمين على الضعفاء المظلومين هو ما يشاهدون فيهم من الضعف فيفتتنون به فيظلمونهم فالضعيف بما له من الضعف فتنة للقوي الظالم كما أن الأموال و الأولاد بما عندها من جاذبة الحب فتنة للإنسان قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} التغابن: ١٥، و الدنيا فتنة لطالبها فسؤالهم ربهم أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين سؤال منهم أن يسلبهم الضعف و الذلة بسلب الغرض منه و هو سلب الشي‌ء بسلب سببه. 

  • و أما الثاني أعني التنجية فهو الذي ذكره حكاية عنهم في الآية الثانية: {وَ نَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلْكَافِرِينَ} 

  • قوله تعالى{وَ أَوْحَيْنَا إلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} إلخ، التبوي‌ أخذ المسكن و المنزل، و مصر بلد فرعون، و القبلة في الأصل بناء نوع من المصدر كجلسة أي الحالة التي يحصل بها التقابل بين الشي‌ء و غيره فهو مصدر بمعنى الفاعل أي اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضا و في جهة واحدة و كأن الغرض أن يتمكنا منهم بالتبليغ و يتمكنوا من إقامة الصلاة جماعة كما يدل عليه أو يشعر به قوله بعده: {وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ} لوقوعه بعده. 

تفسير الميزان ج۱۰

115
  • و أما قوله: {وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ} فالسياق يدل على أن المراد به البشارة بإجابة ما سألوه في دعائهم المذكور آنفا: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} إلى آخر الآيتين. 

  • و المعنى: و أوحينا إلى موسى و أخيه أن اتخذا لقومكما مساكن من البيوت في مصر و كأنهم لم يكونوا إلى ذاك الحين إلا كهيئة البدويين يعيشون في الفساطيط أو عيشة تشبهها و اجعلا أنتما و قومكما بيوتكم متقابلة و في جهة واحدة يتصل بذلك بعضكم ببعض و يتمشى أمر التبليغ و المشاورة و الاجتماع في الصلوات، و أقيموا الصلاة و بشر يا موسى أنت المؤمنين بأن الله سينجيهم من فرعون و قومه. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَ مُوسى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوَالاً} إلخ، الزينة بناء نوع من الزين و هي الهيأة التي تجذب النفس إلى الشي‌ء، و النسبة بين الزينة و المال العموم من وجه فبعض الزينة ليس بمال يبذل بإزائه الثمن كحسن الوجه و اعتدال القامة، و بعض المال ليس بزينة كالأنعام و الأراضي، و بعض المال زينة كالحلي و التقابل الواقع بين الزينة و المال يعطي أن يكون المراد بالزينة جهة الزينة من غير نظر إلى المالية كالحلي و الرياش و الأثاث و الأبنية الفاخرة و غيرها. 

  • و قوله: {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} قيل اللام للعاقبة، و المعنى و عاقبة أمرهم أنهم يضلون عن سبيلك و لا يجوز أن يكون لام الغرض لأنا قد علمنا بالأدلة الواضحة أن الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال و لا يريد أيضا منهم الضلال، و كذلك لا يؤتيهم المال ليضلوا. انتهى. 

  • و هو حق لكن في الإضلال الابتدائي المستحيل عليه تعالى، و أما الإضلال بعنوان المجازاة و مقابلة السوء بالسوء فلا دليل على امتناعه على الله سبحانه بل يثبته كلامه في موارد كثيرة، و قد كان فرعون و ملؤه مصرين على الاستكبار و الإفساد ملحين على الاجرام فلا مانع من أن يؤتيهم الله بذلك زينة و أموالا ليضلوا عن سبيله جزاء بما كسبوا. 

  • و ربما قيل: إن اللام في «ليضلوا» للدعاء، و ربما قيل: إن الكلام بتقدير لا أي لئلا يضلوا عن سبيلك، و السياق لا يساعد على شي‌ء من الوجهين. 

تفسير الميزان ج۱۰

116
  • و الطمس كما قيل تغير إلى الدثور و الدروس فمعنى «اطمس على أموالهم» غيرها إلى الفناء و الزوال، و قوله: {وَ اُشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ} من الشد المقابل للحل أي أقس قلوبهم و اربط عليها ربطا لا ينشرح للحق فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فهو الطبع على القلوب، و قول بعضهم: إن المراد بالشد تثبيتهم على المقام بمصر بعد الطمس على أموالهم ليكون ذلك أشد عليهم و آلم، و كذا قول آخرين: إنه كناية عن إماتتهم و إهلاكهم من الوجوه البعيدة. 

  • فمعنى الآية: و قال موسى و كان ذلك بعد يأسه من إيمان فرعون و ملئه و يقينه بأنهم لا يدومون إلا على الضلال و الإضلال كما يدل عليه سياق كلامه في دعائه ربنا إنك جازيت فرعون و ملأه على كفرهم و عتوهم جزاء السوء فآتيتهم زينة و أموالا في الحياة الدنيا ربنا إرادة منك لأن يضلوا من اتبعهم عن سبيلك، و إرادتك لا تبطل و غرضك لا يلغو ربنا أدم على سخطك عليهم و اطمس على أموالهم و غيرها عن مجرى النعمة إلى مجرى النقمة و اجعل قلوبهم مشدودة مربوطة فلا يؤمنوا حتى يقفوا موقفا لا ينفعهم الإيمان و هو زمان يرون فيه العذاب الإلهي. 

  • و هذا الدعاء من موسى (عليه السلام) على فرعون و ملئه إنما هو بعد يأسه التام من إيمانهم، و علمه أنه لا يترقب منهم في الحياة إلا أن يَضلوا و يُضلوا كدعاء نوح على قومه فيما حكاه الله {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} نوح: - ٢٧، و حاشا ساحة الأنبياء (عليه السلام) أن يتكلموا على الخرص و المظنة في موقف يشافهون فيه رب العالمين جلت كبرياؤه و عز شأنه. 

  • قوله تعالى{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَ لاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} الخطاب على ما يدل عليه السياق لموسى و هارون و لم يحك الدعاء في الآية السابقة إلا عن موسى، و هذا يؤيد ما ذكره المفسرون: أن موسى (عليه السلام) كان يدعو، و كان هارون يؤمن له و آمين دعاء فقد كانا معا يدعوان و إن كان متن الدعاء لموسى (عليه السلام) وحده. 

  • والاستقامة هو الثبات على الأمر، و هو منهما (عليه السلام) الثبات على الدعوة 

تفسير الميزان ج۱۰

117
  • إلى الله و على إحياء كلمة الحق، و المراد بالذين لا يعلمون الجهلة من شعب إسرائيل و قد وصفهم موسى (عليه السلام) بالجهل كما في قوله: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} الأعراف: - ١٣٨. 

  • و المعنى: «قال» الله مخاطبا لموسى و هارون {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} من سؤال العذاب الأليم لفرعون و ملئه، و الطمس على أموالهم و الشد على قلوبهم {فَاسْتَقِيمَا} و اثبتا على ما أمرتما به من الدعوة إلى الله و إحياء كلمة الحق {وَ لاَ تَتَّبِعَانِّ} البتة {سَبِيلَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} بإجابة ما يقترحون عليكما عن أهواء أنفسهم و دواعي شهواتهم، و فيه نوع تلويح إلى أنهم سيسألون أمورا فيها إحياء سنتهم القومية و سيرتهم الجاهلية. 

  • و بالجملة فالآية تذكر إجابة دعوتهما المتضمنة لعذاب فرعون و ملئه و عدم توفيقهم للإيمان و وعدهما بذلك و لذلك ذكر في الآية التالية وفاؤه تعالى بهذا الوعد بخصوصيته التي فيه. 

  • و لم يكن في الدعاء ما يدل على مسألة الفور أو التراخي في القضاء عليهم بالعذاب و على ذلك جرى أيضا سياق الآية الدالة على القبول و الإجابة و كذا الآية المخبرة عن كيفية إنجازه، و قد نقل في المجمع عن ابن جريح:أن فرعون مكث بعد هذا الدعاء أربعين سنة:قال: و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، و رواه عنه (عليه السلام) في الإحتجاج، و كذا في الكافي، و تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عنه (عليه السلام) و في تفسير القمي، عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عنه (عليه السلام) .

  • قوله تعالى{وَ جَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً} إلى آخر الآية، البغي و العدو كالعدوان الظلم و إدراك الشي‌ء اللحوق به و التسلط عليه كما أن إتباع الشي‌ء طلب اللحوق به. 

  • و قوله: {آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} أي آمنت بأنه. و قد وصف الله بالذي آمنت به بنو إسرائيل ليظفر بما ظفروا به بإيمانهم و هو مجاوزة البحر و الأمان من الغرق، و لذلك أيضا جمع بين الإيمان و الإسلام ليزيل بذلك أثر ما كان يصر عليه من المعصية و هو الشرك بالله و الاستكبار على الله، و الباقي ظاهر. 

تفسير الميزان ج۱۰

118
  • قوله تعالى{آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ} آلآن بالمد أصله أ الآن أي أ تؤمن بالله الآن و هو حين أدركك العذاب و لا إيمان و توبة حين غشيان العذاب و مجي‌ء الموت من كل مكان، و قد عصيت قبل هذا و كنت من المفسدين، و أفنيت أيامك في معصيته، و لم تقدم التوبة لوقتها فماذا ينفعك الإيمان بعد فوت وقته و هذا هو الذي كان موسى و هارون سألاه ربهما أن يأخذه بعذاب أليم و يسد سبيله إلى الإيمان إلا حين يغشاه العذاب فلا ينفعه الإيمان و لا تغني عنه التوبة شيئا. 

  • قوله تعالى{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} التنجية و الإنجاء تفعيل و إفعال من النجاة كالتخليص و الإخلاص من الخلاص وزنا و معنى. 

  • و تنجيته ببدنه تدل على أن له أمرا آخر وراء البدن فقده بدنه بغشيان العذاب و هو النفس التي تسمى أيضا روحا، و هذه النفس المأخوذة هي التي يتوفاها الله و يأخذها حين موتها كما قال تعالى: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الزمر: - ٤٢، و قال {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} الم السجدة: - ١١، و هي التي يخبر عنها الإنسان بقوله: «أنا» و هي التي بها تتحقق للإنسان إنسانيته، و هي التي تدرك و تريد و تفعل الأفعال الإنسانية بواسطة البدن بما له من القوى و الأعضاء المادية، و ليس للبدن إلا أنه آلة و أداة تعمل بها النفس أعمالها المادية. 

  • و لمكان الاتحاد الذي بينها و بين البدن يسمى باسمها البدن و إلا فأسماء الأشخاص في الحقيقة لنفوسهم لا لأبدانهم، و ناهيك في ذلك التغير المستمر الذي يعرض البدن مدة الحياة، و التبدل الطبيعي الذي يطرء عليه حينا بعد حين حتى ربما تبدل البدن بجميع أجزائه إلى أجزاء أخر تتركب بدنا آخر فلو كان زيد هو البدن الذي ولدته أمه يوم ولدته و الاسم له لكان غيره و هو ذو سبعين و ثمانين قطعا و الاسم لغيره حتما، و لم يثب و لم يعاقب الإنسان و هو شائب على ما عمله و هو شاب لأن الطاعة و المعصية لغيره. 

  • فهذه و أمثالها شواهد قطعية على أن إنسانية الإنسان بنفسه دون بدنه، و الأسماء للنفوس لا للأبدان يدركها الإنسان و يعرفها إجمالا و إن كان ربما أنكرها 

تفسير الميزان ج۱۰

119
  • في مقام التفصيل. 

  • و بالجملة فالآية: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} كالصريح أو هو صريح في أن النفوس وراء الأبدان، و أن الأسماء للنفوس دون الأبدان إلا ما يطلق على الأبدان بعناية الاتحاد. 

  • فمعنى {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} نخرج بدنك من اليمّ و ننجيه، و هو نوع من تنجيتك لما بين النفس و البدن من الاتحاد القاضي بكون العمل الواقع على أحدهما واقعا بنحو على الآخر لتكون لمن خلفك آية، و هذا بوجه نظير قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ} طه: - ٥٥ فإن الذي يعاد إلى الأرض هو جسد الإنسان دون الإنسان التام فليست نسبة الإعادة إلى الإنسان إلا لما بين نفسه و بدنه من الاتحاد. 

  • و قد ذكر المفسرون أن الإنجاء و التنجية لما كان دالا بلفظه على سلامة الذي أنجي إنجاء كان مفاد قوله: {نُنَجِّيكَ} أن يكون فرعون خارجا من أليم حيا و قد أخرجه الله ميتا فالمتعين أخذ قوله: {نُنَجِّيكَ} من النجوة و هي الأرض المرتفعة التي لا يعلوها السيل، و المعنى اليوم نخرج بدنك إلى نجوة من الأرض. 

  • و ربما قال بعضهم إن المراد بالبدن الدرع، و قد كان لفرعون درع من ذهب يعرف به فأخرجه الله فوق الماء بدرعه ليكون لمن خلفه آية و عبرة، و ربما قال بعضهم إن التعبير بالتنجية تهكم به. 

  • و الحق أن هذا كله تكلف لا حاجة إليه، و لم يقل: {نُنَجِّيكَ} و إنما قيل {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} و معناه ننجي بدنك، و الباء للآلية أو السببية، و العناية هي الاتحاد الذي بين النفس و البدن. 

  • على أن جعل {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} بمعنى نجعلك على نجوة من الأرض لا يفي بدفع الإشكال من أصله فإن الذي جعل على نجوة هو بدن فرعون على قولهم، و هو غير فرعون قطعا و إلا كان حيا سالما، و لا مناص إلا أن يقال: إن ذلك بعناية الاتحاد الذي بين الإنسان و بدنه، و لو صححت هذه العناية إطلاق اسم الإنسان على بدنه من غير نفس لكان لها أن تصحح نسبة التنجية إلى الإنسان من جهة وقوع 

تفسير الميزان ج۱۰

120
  • التنجية ببدنه، و خاصة مع وجود القرينة الدالة على أن المراد بالتنجية هي التي للبدن دون التي للإنسان المستتبع لحفظ حياته و سلامته نفسا و بدنا، و القرينة هي قوله: {بِبَدَنِكَ} 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} أي أسكناهم مسكن صدق، و إنما يضاف الشي‌ء إلى الصدق نحو وعد صدق و قدم صدق و لسان صدق و مدخل صدق و مخرج صدق للدلالة على أن لوازم معناه و آثاره المطلوبة منه موجودة فيه صدقا من غير أن يكذب في شي‌ء من آثاره التي يعدها بلسان دلالته الالتزامية لطالبه فوعد صدق مثلا هو الوعد الذي سيفي به واعده، و يسر بالوفاء به موعوده، و يحق أن يطمع فيه و يرجى وقوعه. فإن لم يكن كذلك فليس بوعد صدق بل وعد كذب كأنه يكذب في معناه و لوازم معناه. 

  • و على هذا فقوله: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} يدل على أن الله سبحانه بوأهم مبوءا يوجد فيه جميع ما يطلبه الإنسان من المسكن من مقاصد السكنى كطيب الماء و الهواء و بركات الأرض و وفور نعمها و الاستقرار فيها و غير ذلك، و هذه هي نواحي بيت المقدس و الشام التي أسكن الله بني إسرائيل فيها و سماها الأرض المقدسة المباركة و قد قص القرآن دخولهم فيها. 

  • و أما قول بعضهم: إن المراد بهذا المبوء مصر دخلها بنو إسرائيل و اتخذوا فيها بيوتا فأمر لم يذكره القرآن. على أنهم لو فرض دخولهم فيها ثانيا لم يستقروا فيها استقرارا مستمرا، و تسمية ما هذا شأنه مبوأ صدق مما لا يساعد عليه معنى اللفظ. 

  • و الآية أعني قوله: {وَ لَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى قوله: {مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} مسوقة سوق الشكوى و العتبى، و يشهد به تذييلها بقوله: {فَمَا اِخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ} ، و قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} إلى آخر الآية بيان لعاقبة اختلافهم عن علم و بمنزلة أخذ النتيجة من القصة. 

  • و المعنى: أنا أتممنا على بني إسرائيل النعمة و بوأناهم مبوأ صدق و رزقناهم من الطيبات بعد حرمانهم من ذلك مدة طويلة كانوا فيها في إسارة القبط فوحدنا 

تفسير الميزان ج۱۰

121
  • شعبهم و جمعنا شملهم فكفروا النعمة و فرقوا الكلمة و اختلفوا في الحق، و لم يكن اختلافهم عن عذر الجهل و إنما اختلفوا عن علم إن ربك يقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون‌ 

  • [سورة يونس (١٠) : الآیات ٩٤ الی ١٠٣]

  • {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلمُمْتَرِينَ ٩٤ وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ٩٥ إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٩٦ وَ لَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ ٩٧ فَلَوْ لاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَتَّعْنَاهُمْ إِلى حِينٍ ٩٨ وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ٩٩ وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ١٠٠قُلِ اُنْظُرُوا ماذا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا تُغْنِي اَلْآيَاتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٠١ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ ١٠٢ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٠٣} 

تفسير الميزان ج۱۰

122
  • (بيان) 

  • تتضمن الآيات الاستشهاد على حقية ما أنزله الله في السورة من المعارف الراجعة إلى المبدإ و المعاد و ما قصّه من قصص الأنبياء و أممهم و منهم نوح و موسى و من بينهما من الأنبياء (عليهم السلام) و أممهم إجمالا بما قرأه أهل الكتب السماوية فيها قبل نزول القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

  • ثم تذكر ما هو كالفذلكة و المعنى المحصل من البيانات السابقة و هو أن الناس لن يملكوا من أنفسهم أن يؤمنوا بالله و آياته إلا بإذن الله، و إنما يأذن الله في إيمان من لم يطبع على قلبه و لم يجعل الرجس عليه و إلا فمن حقت عليه كلمة الله لن يؤمن بالله و آياته حتى يرى العذاب. 

  • فالسنة الجارية أن الناس منذ خلقوا و اختلفوا بين مكذب بآيات الله و مصدق لها، و قد جرت سنة الله على أن يقضي فيهم بالحق بعد مجي‌ء رسلهم إليهم فينجي الرسل و المؤمنين بهم، و يأخذ غيرهم بالهلاك. 

  • قوله تعالى{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} إلى آخر الآية الشك‌ الريب، و المراد بقوله: {مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} المعارف الراجعة إلى المبدإ و المعاد و السنة الإلهية في القضاء على الأمم مما تقدم في السورة، و قوله: {يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} {يَقْرَؤُنَ} فعل مضارع استعمل في الاستمرار و {مِنْ قَبْلِكَ} حال من الكتاب عامله متعلقة المقدر، و التقدير منزلا من قبلك. كل ذلك على ما يعطيه السياق. 

  • و المعنى {فَإِنْ كُنْتَ} أيها النبي {فِي شَكٍّ} و ريب {مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} من المعارف الراجعة إلى المبدإ و المعاد و ما قصصنا عليك إجمالا من قصص الأنبياء الحاكية لسنة الله الجارية في خلقه من الدعوة أولا ثم القضاء بالحق {فَسْئَلِ} أهل الكتاب {اَلَّذِينَ} لا يزالون {يَقْرَؤُنَ} جنس {اَلْكِتَابَ} منزلا من السماء {مِنْ قَبْلِكَ} أقسم {لَقَدْ جَاءَكَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلمُمْتَرِينَ} المترددين. 

  • و هذا لا يستلزم وجود ريب في قلب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا تحقق شك منه فإن 

تفسير الميزان ج۱۰

123
  • هذا النوع من الخطاب كما يصح أن يخاطب من يجوز عليه الريب و الشك كذلك يصح أن يخاطب به من هو على يقين من القول و بيّنة من الأمر على نحو التكنية عن كون المعنى الذي أخبر به المخبر مما تعاضدت عليه الحجج و تجمعت عليه الآيات فإن فرض من المخاطب أو السامع شك في واحدة منها كان له أن يأخذ بالأخرى. 

  • و هذه طريقة شائعة في عرف التخاطب و التفاهم يأخذ بها العقلاء فيما بينهم جريا على ما تدعوهم إليه قرائحهم ترى الواحد منهم يقيم الحجة على أمر من الأمور ثم يقول: فإن شككت في ذلك أو سلمنا أنها لا توجب المطلوب فهناك حجة أخرى على ذلك و هي أن كذا كذا و ذلك كناية عن أن الحجج متوفرة متعاضدة كالدعائم المضروبة على ما لا يحتاج إلى أزيد من واحد منها لكن الغرض من تكثيرها هو أن تكون العريشة قائمة عليها على تقدير قيام الكل و البعض. 

  • فيئول معنى الكلام إلى أن هذه معارف بينها الله لك بحجج تضطر العقول إلى قبولها و قصص تحكي سنة الله في خلقه و الآثار تدل عليها، بينها في كتاب لا ريب فيه، فعلى ما بينه حجة و هناك حجة أخرى و هي أن أهل الكتب السماوية الموفين لها حق قراءتها يجدون ذلك فيما يقرءونه من الكتاب فهناك مبدأ و معاد، و هناك دين إلهي بعث به رسله يدعون إليه، و لم يدعوا أمة من الأمم إلا انقسموا قبيلين مؤمن و مكذب فأنزل الله آية فاصلة بين الحق و الباطل و قضى بينهم. 

  • و هذا أمر لا يسع أهل الكتاب أن ينكروه، و إنما كانوا ينكرون بشارات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بعض ما يختص به الإسلام من المعارف و ما غيروه في الكتب من الجزئيات، و من لطيف الإشارة أن الله سبحانه لم يذكر في القصص المذكورة في هذه السورة قصة هود و صالح لعدم تعرض التوراة الموجودة عندهم لقصتهما و كذا قصة شعيب و قصة المسيح لعدم توافق أهل الكتاب عليها و ليس إلا لمكان أن يستشهد في هذه الآية بما لا يمتنعون من تصديقه. 

  • فهذه الآية في إلقاء الحجة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وزانها وزان قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الشعراء: - ١٩٧ في إلقاء الحجة إلى الناس. 

  • على أن السورة من أوائل السور النازلة بمكة، و لم تشتد الخصومة يومئذ بين 

تفسير الميزان ج۱۰

124
  • المسلمين و أهل الكتاب و خاصة اليهود اشتدادها بالمدينة، و لم يركبوا بعد من العناد و اللجاج ذاك المركب الصعب الذي ركبوه بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و نشوب الحروب بينهم و بين المسلمين حتى بلغوا المبلغ الذي قالوا {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} الأنعام: - ٩١. 

  • فهذا ما يعطيه سياق الآية من المعنى، و أظنك إن أمعنت في تدبر الآية و سائر الآيات التي تناسبها مما يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بحقية ما نزل إليه من ربه، و يتحدى على البشر بعجزهم عن إتيان مثله، و ما يصف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه على بصيرة من أمره، و أنه على بيّنة من ربه أقنعك ذلك فيما قدمناه من المعنى، و أغناك عن التمحلات التي ارتكبوها في تفسير الآية بما لا جدوى في نقلها و البحث عنها. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} نهى عن الارتياب و الامتراء أوّ لا ثم ترقى إلى النهي عن التكذيب بآيات الله و هو العناد مع الحق استكبارا على الله فإن الآية لا تكون آية إلا مع وضوح دلالتها و ظهور بيانها و تكذيب ما هذا شأنه لا يكون مبنيا إلا على العناد و اللجاج. 

  • و قوله: {فَتَكُونَ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} تفريع على التكذيب بآيات الله فهو نتيجته و عاقبته فهو المنهي عنه بالحقيقة. و المعنى: و لا تكن من الخاسرين، و الخسران‌ زوال رأس المال بانتقاصه أو ذهاب جميعه، و هو الإيمان بالله و آياته الذي هو رأس مال الإنسان في سعادة حياته في الدنيا و الآخرة على ما يستفاد من الآية التالية حيث يعلل خسرانهم بأنهم لا يؤمنون. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَ لَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} إلخ، تعليل للنهي السابق ببيان ما للمنهي عنه من الشأن فإن أصل النظم بحسب المعنى المستفاد من السياق أن يقال: لا تكونن من المكذبين لأن المكذبين لا يؤمنون فيكونون خاسرين لأن رأس مال السعادة هو الإيمان فوضع قوله: {اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} موضع «المكذبين» للدلالة على سبب الحكم و أن المكذبين إنما يخسرون لأن كلمة الله سبحانه تحق عليهم فالأمر على كل حال إلى الله سبحانه. 

  • و الكلمة الإلهية التي حقت على المكذبين بآيات الله هي قوله يوم شرع الشريعة 

تفسير الميزان ج۱۰

125
  • العامة لآدم و زوجته فمن بعدهما من ذريتهما {قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً} إلى قوله: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة: - ٣٩. 

  • و هذا هو الذي يريده بقوله في مقام بيان سبب خسران المكذبين: {إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} و هم المكذبون حقت عليهم كلمة العذاب فهم {لاَ يُؤْمِنُونَ} و لذلك كانوا خاسرين لأنهم ضيعوا رأس مال سعادتهم و هو الإيمان فحرموه و حرموا بركاته في الدنيا و الآخرة، و إذ حق عليهم أنهم لا يؤمنون فلا سبيل لهم إلى الإيمان و لو جاءتهم كل آية {حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ} و لا فائدة في الإيمان الاضطراري. 

  • و قد كرر الله سبحانه في كلامه هذا القول و استتباعه للخسران و عدم الإيمان كقوله: {لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} يس: - ٧، و قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكَافِرِينَ} يس: - ٧٠أي بتكذيبهم بالآيات المستتبع لعدم إيمانهم فخسرانهم، و قوله: {وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} حم السجدة: - ٢٥ إلى غير ذلك. 

  • و قد ظهر من الآيات أولا أن العناد مع الحق و التكذيب بآيات الله يحق كلمة العذاب الخالد على الإنسان. 

  • و ثانيا: أن رأس مال سعادة الحياة للإنسان هو الإيمان. 

  • و ثالثا: أن كل إنسان فهو مؤمن لا محالة إما إيمانا اختياريا مقبولا يسوقه إلى سعادة الحياة الدنيا و الآخرة، و إما إيمانا اضطراريا غير مقبول حيثما يرى العذاب الأليم. 

  • قوله تعالى{فَلَوْ لاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ} إلخ، ظاهر السياق أن "لولا" للتحضيض، و أن المراد بقوله: {آمَنَتْ} الإيمان الاختياري الصحيح كما يشعر به قوله بعده: {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} و لوقوع التحضيض على أمر ماض لم يتحقق أفادت الجملة معنى اليأس المساوق للنفي فاستقام الاستثناء الذي في قوله: {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} 

  • و المعنى: هلا كانت قرية من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم 

تفسير الميزان ج۱۰

126
  • آمنت قبل نزول العذاب إيمانا اختياريا فنفعها إيمانها. لا و لم يؤمن إلا قوم يونس لما آمنت كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا و متعناهم بالحياة إلى حين آجالهم العادية الطبيعية. و منه يعلم أن الاستثناء متصل. 

  • و ذكر بعضهم أن المعنى لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم حتى لا يشذ منهم أحد إلا قوم يونس فهلا كانت القرى كلها هكذا. 

  • و فيه أنه في نفسه معنى لا بأس فيه إلا أن الآية بلفظها لا تنطبق عليه بما فيه من الخصوصيات و هو ظاهر. 

  • و ذكر بعض آخر: أن المعنى لم يكن معهودا من حال قرية من القرى أن يكفر ثم يؤمن فينفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنت كشفنا عنهم العذاب و متعناهم. و الإشكال عليه كالإشكال على سابقه. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} أي لكنه لم يشأ ذلك فلم يؤمن جميعهم و لا يؤمن فالمشيئة في ذلك إلى الله سبحانه و لم يشأ ذلك فلا ينبغي لك أن تطمع فيه و لا أن تجتهد لذلك لأنك لا تقدر على إكراههم و إجبارهم على الإيمان، و الإيمان الذي نريده منهم هو ما كان عن حسن الاختيار لا ما كان عن إكراه و إجبار. 

  • و لذلك قال بعد ذلك في صورة الاستفهام الإنكاري: {أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي بعد ما بينا أن أمر المشية إلى الله و هو لم يشأ إيمان جميع الناس فلا يؤمنون باختيارهم البتة لم يبق لك إلا أن تكره الناس و تجبرهم على الإيمان، و أنا أنكر ذلك عليك فلا أنت تقدر على ذلك و لا أنا أقبل الإيمان الذي هذا نعته. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} لما ذكر في الآية السابقة أن الأمر إلى الله سبحانه لو شاء أن يؤمن أهل الأرض جميعا لآمنوا لكنه لم يشأ فلا مطمع في إيمان الجميع زاد في هذه الآية في بيان ذلك ما محصله أن الملك بالكسر لله فله أصالة التصرف في كل أمر لا يشاركه في ذلك مشارك إلا أن يأذن لبعض ما خلقه في بعض التصرفات. 

تفسير الميزان ج۱۰

127
  • و الإيمان بالله عن اختيار و الاهتداء إليه أمر من الأمور يحتاج في تحققه إلى سبب يخصه، و لا يؤثر هذا السبب و لا يتصرف في الكون بإيجاد مسببه إلا عن إذن من الله سبحانه في ذلك لكن الله سبحانه بجعل الرجس و الضلال على أهل العناد و الجحود لم يأذن في إيمانهم، و لا رجاء في سعادتهم. 

  • و لو أنه تعالى أذن في ذلك لأحد لأذن في إيمان غير أولئك المكذبين فقوله: {وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ} حكم عام حقيقي ينيط تملك النفوس للإيمان إلى إذن الله، و قوله: {وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ} إلخ، يسلب عن الذين لا يعقلون استعداد حصول الإذن فيبقى غيرهم. 

  • و قد أريد في الآية بالرجس ما يقابل الإيمان من الشك و الريب بمعنى أنه هو المصداق المنطبق عليه الرجس في المقام لما قوبل بالإيمان، و قد عرف في قوله تعالى : {وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اَللَّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الأنعام: - ١٢٥. 

  • و قد أريد أيضا بقوله: {اَلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} أهل التكذيب بآيات الله من جهة أنهم ممن حقت عليه كلمة العذاب فإنهم الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون قال {وَ طَبَعَ اَللَّهُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} التوبة: - ٩٣. 

  • قوله تعالى{قُلِ اُنْظُرُوا ماذا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} أي من المخلوقات المختلفة المتشتتة التي كل واحد منها آية من آيات الله تعالى تدعو إلى الإيمان، و قوله: {وَ مَا تُغْنِي اَلْآيَاتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} ظاهره أن {مَا} استفهامية و الجملة مسوقة بداعي الإنكار و إظهار الأسف كقول الطبيب: بماذا أعالج الموت؟ أي أنا أمرناك أن تنذرهم بقولنا: {قُلِ اُنْظُرُوا ماذا فِي اَلسَّمَاوَاتِ} إلخ، لكن أي تأثير للنذر فيهم أو للآيات فيهم و هم لا يؤمنون أي عازمون مجمعون على أن لا يؤمنوا بالطبع الذي على قلوبهم و ربما قيل: إن ما نافية. 

  • قوله تعالى{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} تفريع على ما في الآية السابقة من قوله: {وَ مَا تُغْنِي اَلْآيَاتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي إذا لم تغن الآيات و النذر عنهم شيئا و هم لا يؤمنون البتة فهم لا ينتظرون إلا مثل أيام 

تفسير الميزان ج۱۰

128
  • الذين خلوا من قبلهم، و إنما يحبسون نفوسهم لآية العذاب الإلهي التي تفصل بينك و بينهم فتقضي عليهم لأنهم حقت عليهم كلمة العذاب. 

  • و لذا أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبلغهم ذلك بقوله: {قُلْ فَانْتَظِرُوا} أي مثل أيام الذين خلوا من قبلكم يعني يوم العذاب الذي يفصل بيني و بينكم فتؤمنون و لا ينفعكم إيمانكم {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ} 

  • و قد تبين بما مر أن الاستفهام في الآية إنكاري. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} الجملة تتمة صدر الآية السابقة و قوله: {قُلْ فَانْتَظِرُوا} إلخ، جملة معترضة و النظم الأصلي بحسب المعنى {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ} أي قومك هؤلاء {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم الذين كانت تحق عليهم كلمة العذاب فنرسل إليهم آية العذاب {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} 

  • و إنما اعترض بقوله: {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ} بين الكلام لأنه يتعلق بالجزء الذي يتقدمه من مجموع الكلام المستفهم عنه فإنه المناسب لأن يجعل جوابا لهم، و هو يتضمن انتظار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) للقضاء بينه و بينهم، و أما تنجيته و تنجية المؤمنين به فإن المنتظر لها هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنون لا هو وحده و لا يتعلق هذا الانتظار بفصل القضاء بل بالنجاة من العذاب و هو مع ذلك لا يتعلق به غرض في المقام الذي سيق فيه الكلام لإنذار المشركين لا لتبشير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين فافهم ذلك. 

  • و أما قوله: {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ} فمعناه كما كنا ننجي الرسل و الذين آمنوا في الأمم السابقة عند نزول العذاب كذلك ننجي المؤمنين بك من هذه الأمة حق علينا ذلك حقا، فقوله: {حَقًّا عَلَيْنَا} مفعول مطلق قام مقام فعله المحذوف، و اللام في {اَلْمُؤْمِنِينَ} للعهد و المراد به مؤمنوا هذه الأمة، و هذا هو الوعد الجميل للنبي (صلى الله عليه و آله وسلم) و المؤمنين من هذه الأمة بالإنجاء. 

  • و ليس من البعيد أن يستفاد من قوله: {نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ} أن فيه تلويحا إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يدرك هذا القضاء، و إنما يقع بعد ارتحاله حيث ذكر المؤمنون و لم يذكر 

تفسير الميزان ج۱۰

129
  • معهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع أنه تعالى ذكر في السابقين رسله مع المؤمنين بهم كما ربما يخطر بالبال من تكرر قوله تعالى في كلامه: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أو ما في معناه. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي عن محمد بن سعيد الأسدي أن موسى بن محمد بن الرضا أخبره أن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل:أخبرني عن قول الله تبارك و تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} من المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب فيها النبي فقد شك فيما أنزل الله، و إن كان المخاطب بها غيره فعلى غيره إذا نزل الكتاب . 

  • قال موسى: فسألت أخي عن ذلك. قال: فأما قوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} فإن المخاطب بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يكن في شك مما أنزل الله، و لكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث إلينا نبيا من الملائكة؟ أنه لم يفرق بينه و بين غيره في الاستغناء في المأكل و المشرب و المشي في الأسواق فأوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) : فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك بمحضر الجهلة هل بعث الله رسولا من قبلك إلا و هو يأكل الطعام و يشرب و يمشي في الأسواق؟ و لك بهم أسوة. 

  • و إنما قال: فإن كنت في شك، و لم يكن و لكن ليتبعهم كما قال له: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللَّهِ عَلَى اَلْكَاذِبِينَ} ، و لو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيئون للمباهلة، و قد عرف أن نبيه مؤد عنه رسالته و ما هو من الكاذبين، كذلك عرف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه صادق فيما يقول و لكن أحب أن ينصف من نفسه.

  • أقول: و رواه الصدوق في المعاني،بإسناده عن موسى بن محمد بن علي، و هو 

تفسير الميزان ج۱۰

130
  • يرجع إلى ما قدمناه، و قد ورد في بعض الروايات أن الآية نزلت ليلة المعراج فأمره الله أن يسأل أرواح الأنبياء عن ذلك، و هم الذين أرادهم بقوله: {اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} و روي الوجه أيضا عن الزهري لكن في انطباقه على لفظ الآية خفاء. 

  • و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن قتادة في الآية قال: ذكر لنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لا أشك و لا أسأل.

  • و في تفسير العياشي عن معمر قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام) : إن يونس أمره الله بما أمره فأعلم قومه فأظلهم العذاب ففرقوا بينهم و بين أولادهم و بين البهائم و أولادها ثم عجوا إلى الله و ضجوا فكف الله العذاب عنهم. (الحديث) . 

  • أقول: و سيأتي إن شاء الله قصة يونس و قومه في ذيل بعض الآيات المتعرضة لتفصيل قصته (عليه السلام) . 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم و اللالكائي في السنة عن علي بن أبي طالب قال: إن الحذر لا يرد القدر، و إن الدعاء يرد القدر، و ذلك في كتاب الله: {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ} (الآية) . 

  • أقول: و روي ما في معناه عن ابن النجار عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و في الكافي و البصائر مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الرجس هو الشك و لا نشك في ديننا أبدا.

  • [ سورة يونس (١٠) : الآیات ١٠٤ الی ١٠٩]

  • {قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ لَكِنْ أَعْبُدُ اَللَّهَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٠٤ وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لاَ

تفسير الميزان ج۱۰

131
  • تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ١٠٥ وَ لاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَ لاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ اَلظَّالِمِينَ ١٠٦ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ١٠٧ قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اِهْتَدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ١٠٨ وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَ اِصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ ١٠٩} 

  • (بيان) 

  • الآيات، ختام السورة تفرغ المحصل من بياناتها فتشير إجمالا إلى التوحيد و المعاد و النبوة، و تأمر باتباع القرآن و الصبر في انتظار حكم الله بينه و بين أمته. 

  • قوله تعالى{قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} إلخ، قد تقدم غير مرة أن الدين‌ هو السنة المعمول بها في الحياة لنيل سعادتها و فيه معنى الطاعة كما في قوله تعالى: {وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} النساء: - ١٤٦ و ربما استعمل بمعنى الجزاء. 

  • و قوله: {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} أي في طريقتي التي أسلكها و أثبت عليها و شك الإنسان في دين غيره و طريقته المعمولة له إنما يكون في ثباته عليه هل يستقر عليه و يستقيم؟ و قد كان المشركون يطمعون في دينه (صلى الله عليه وآله و سلم) و ربما رجوا أن يحولوه عنه فينجوا من دعوته إلى التوحيد و رفض الشرك بالآلهة. 

  • فالمعنى: إن كنتم تشكون فيما أدين به و أدعو إليه هل أستقيم عليه؟ أو شككتم في ديني ما هو؟ و لم تحصلوا الأصل الذي يبتني عليه فإني أصرح لكم القول فيه 

تفسير الميزان ج۱۰

132
  • و أبينه لكم و هو أني لا أعبد آلهتكم و أعبد الله وحده. 

  • و قد أخذ في قوله: {وَ لَكِنْ أَعْبُدُ اَللَّهَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} له تعالى وصف توفيهم دون غيره من أوصافه تعالى لأنهم إنما كانوا يعبدون الإله لزعمهم الحاجة إليه في دفع الضرر و جلب النفع، و التوفي أمر لا يشكون أنه سيصيبهم و أنه لله وحده فمساس الحاجة إلى الأمن من ضرره يوجب عبادة الله سبحانه. 

  • على أن اختيار التوفي للذكر ليكون في الكلام تلويح إلى تهديدهم فإن الآيات السابقة وعدتهم العذاب وعدا قطعيا، و وفاة المشركين ميعاد عذابهم، و يؤيد ذلك إتباع قوله: {وَ لَكِنْ أَعْبُدُ اَللَّهَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} بقوله: {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} فإن نجاتهم من العذاب جزء الوعد الذي ذكره الله في الآيتين السابقتين على هذه الآية: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله: {نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ} 

  • و المعنى: فاعلموا و استيقنوا أني لا أعبد آلهتكم و لكن أعبد الله الذي وعد عذاب المكذبين منكم و إنجاء المؤمنين و أمرني أن أكون منهم كما أمرني أن أجتنب عبادة الآلهة. 

  • قوله تعالى{وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} عطف على موضع قوله: {وَ أُمِرْتُ أَنْ} إلخ، فإنه في معنى و كن من المؤمنين، و قد مر الكلام في معنى إقامة الوجه للدين الحنيف غير مرة. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَ لاَ يَضُرُّكَ} نهي بعد نهي عن الشرك، و بيان أن الشرك يدخل الإنسان في زمرة الظالمين فيحق عليه ما أوعد الله به الظالمين في كلامه. 

  • و من لطيف التعبير قوله حين ذكر الدعاء: {مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَ لاَ يَضُرُّكَ} و حين ذكر العبادة: {اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} فإن العبادة بالطبع يعطي للمعبود شعورا و عقلا فناسب أن يعبر عنه بنحو {اَلَّذِينَ} المستعمل في ذوي العلم و العقل، و الدعاء و إن كان كذلك لمساوقته العبادة غير أنه لما وصف المدعو بما لا ينفع و لا يضر، و ربما توهم أن ذوي العلم و العقل يصح أن تنفع و تضر، عبر بلفظة {مَا} ليلوح إلى أنها جماد لا يتخيل في حقهم إرادة نفع أو ضرر. 

تفسير الميزان ج۱۰

133
  • و في التعبير نفسه أعني قوله: {مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَ لاَ يَضُرُّكَ} إعطاء الحجة على النهي عن الدعاء. 

  • قوله تعالى{إِنْ يَمْسَسْكَ اَللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} إلخ، الجملة حالية و هي تتمة البيان في الآية السابقة، و المعنى: و لا تدع من دون الله ما لا نفع لك عنده و لا ضرر، و الحال أن ما مسك الله به من ضر لا يكشفه غيره و ما أرادك به من خير لا يرده غيره فهو القاهر دون غيره يصيب بالخير عباده بمشيئته و إرادته، و هو مع ذلك غفور رحيم يغفر ذنوب عباده و يرحمهم، و اتصافه بهذه الصفات الكريمة و كون غيره صفر الكف منها يقتضي تخصيص العبادة و الدعوة به. 

  • قوله تعالى{قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} و هو القرآن أو ما يشتمل عليه من الدعوة الحقة، و قوله: {فَمَنِ اِهْتَدى } إلى آخر الآية، إعلام لهم بكونهم مختارين فيما ينتخبونه لأنفسهم من غير أن يسلبوا الخيرة ببيان حقيقة هي أن الحق و قد جاءهم من حكمه أن من اهتدى إليه فإنما يهتدي و نفعه عائد إليه، و من ضل عنه فإنما يضل و ضرره على نفسه فلهم أن يختاروا لأنفسهم ما يحبونه من نفع أو ضرر، و ليس هو (صلى الله عليه وآله و سلم) وكيلا لهم يتصدى من الفعل ما هو لهم فالآية كناية عن وجوب اهتدائهم إلى الحق لأن فيه نفعهم. 

  • قوله تعالى{وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَ اِصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ} أمر باتباع ما يوحى إليه و الصبر على ما يصيبه في جنب هذا الاتباع من المصائب و المحن، و وعد بأن الله سبحانه سيحكم بينه و بين القوم، و لا يحكم إلا بما فيه قرة عينه فالآية تشتمل على أمره بالاستقامة في الدعوة و تسليته فيما يصيبه، و وعده بأن العاقبة الحسنى له. 

  • و قد اختتمت الآية بحكمه تعالى، و هو الذي عليه يعتمد معظم آيات السورة في بيانها. و الله أعلم. 

تفسير الميزان ج۱۰

134
  • (١١) (سورة هود مكية و هي مائة و ثلاث و عشرين آية) (١٢٣) 

  • [سورة هود (١١) : الآیات ١ الی ٤]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ١ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ ٢ وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ٣ إِلَى اَللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ على كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ٤} 

  • (بيان) 

  • السورة كما يظهر من مفتتحها و مختتمها و السياق الذي يجري عليه آياتها تبين غرض الآيات القرآنية على كثرتها و تشتتها، و تصف المحصل من مقاصدها على اختلافها و الملخص من مضامينها. 

  • فتذكر أنها على احتوائها معارف الدين المختلفة من أصول المعارف الإلهية و الأخلاق الكريمة الإنسانية، و الأحكام الشرعية الراجعة إلى كليات العبادات و المعاملات و السياسات و الولايات ثم وصف عامة الخليقة كالعرش و الكرسي و اللوح و القلم و السماء و الأرض و الملائكة و الجن و الشياطين و النبات و الحيوان و الإنسان، و وصف بدء الخليقة و ما ستعود إليه من الفناء و الرجوع إلى الله سبحانه. 

تفسير الميزان ج۱۰

135
  • و هو يوم البعث بما يتقدمه من عالم القبر و هو البرزخ ثم القيام لرب العالمين و الحشر و الجمع و السؤال و الحساب و الوزن و شهادة الأشهاد ثم فصل القضاء ثم الجنة أو النار بما فيهما من الدرجات و الدركات. 

  • ثم وصف الرابطة التي بين خلقة الإنسان و بين عمله و ما بين عمله، و ما يستتبعه من سعادة أو شقاوة و نعمة أو نقمة و درجة أو دركة، و ما يتعلق بذلك من الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير بالموعظة و المجادلة الحسنة و الحكمة. 

  • فالآيات القرآنية على احتوائها تفاصيل هذه المعارف الإلهية و الحقائق الحقة تعتمد على حقيقة واحدة هي الأصل و تلك فروعه، و هي الأساس الذي بني عليه بنيان الدين و هو توحيده تعالى توحيد الإسلام بأن يعتقد أنه تعالى هو رب كل شي‌ء لا رب غيره و يسلم له من كل وجهة فيوفي له حق ربوبيته، و لا يخشع في قلب و لا يخضع في عمل إلا له جل أمره. 

  • و هذا أصل يرجع إليه على إجماله جميع تفاصيل المعاني القرآنية من معارفها و شرائعها بالتحليل، و هو يعود إليها على ما بها من التفصيل بالتركيب. 

  • فالسورة تبين ذلك بنحو الإجمال في هذه الآيات الأربع التي افتتحت بها ثم تأخذ في بيانه التفصيلي بسمة الإنذار و التبشير بذكر ما لله من السنة الجارية في عباده، و إيراد أخبار الأمم الماضية، و قصص أقوام نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و موسى (عليه السلام) ، و ما ساقهم إليه الاستكبار عن إجابة الدعوة الإلهية و الإفساد في الأرض و الإسراف في الأمر، و وصف ما وعد الله به الذين آمنوا و عملوا الصالحات و ما أوعد الله به الذين كفروا و كذبوا بالآيات، و تبين في خلال ذلك أمورا من المعارف الإلهية الراجعة إلى التوحيد و النبوة و المعاد. 

  • و مما تقدم يظهر ما في قول بعضهم عند ما ذكر غرض هذه السورة: أنها في معنى سورة يونس و موضوعها، و هو أصول عقائد الإسلام في الإلهيات و النبوات و البعث و الجزاء و عمل الصالحات و قد فصل فيها ما أجمل في سورة يونس من قصص الرسل (عليه السلام) . انتهى. 

  • و قد عرفت أن السورتين مسوقتان لغرضين مختلفين لا يرجع أحدهما إلى الآخر 

تفسير الميزان ج۱۰

136
  • البتة فسورة يونس تبين أن السنة الإلهية جارية على القضاء بين الرسل و بين أممهم المكذبين لهم، ثم توعد هذه الأمة بما جرى مثله على الذين من قبلهم، و سورة هود تبين أن المعارف القرآنية ترجع بالتحليل إلى التوحيد الخالص كما أن التوحيد يعود بحسب التركيب إلى تفاصيل المعارف الأصلية و الفرعية. 

  • و السورة على ما تشهد به آياتها بمضامينها و الاتصال الظاهر بينها مكية نازلة دفعة واحدة، و قد روي عن بعضهم استثناء قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ} (الآية) - ١٢ فذكر أنها مدنية. 

  • و استثنى بعضهم قوله: {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} (الآية) - ١٧، و بعضهم قوله تعالى: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ طَرَفَيِ اَلنَّهَارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ} (الآية) - ١١٤، و لا دليل على شي‌ء من ذلك من طريق اللفظ، و ظاهر اتصالها أنها جميعا مكية. 

  • قوله تعالى{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} المقابلة بين الإحكام و التفصيل الذي هو إيجاد الفصل بين أجزاء الشي‌ء المتصل بعضها ببعض، و التفرقة بين الأمور المندمجة كل منها في آخر تدل على أن المراد بالإحكام ربط بعض الشي‌ء ببعضه الآخر و إرجاع طرف منه إلى طرف آخر بحيث يعود الجميع شيئا واحدا بسيطا غير ذي أجزاء و أبعاض. 

  • و من المعلوم أن الكتاب إذا اتصف بالإحكام و التفصيل بهذا المعنى الذي مر فإنما يتصف بهما من جهة ما يشتمل عليه من المعنى و المضمون لا من جهة ألفاظه أو غير ذلك، و أن حال المعاني في الإحكام و التفصيل و الاتحاد و الاختلاف غير حال الأعيان فالمعاني المتكثرة إذا رجعت إلى معنى واحد كان هذا الواحد هو الأصل المحفوظ في الجميع و هو بعينه على إجماله هذه التفاصيل، و هي بعينها على تفاصيلها ذاك الإجمال و هذا كله ظاهر لا ريب فيه. 

  • و على هذا فكون آيات الكتاب محكمة أولا ثم مفصلة ثانيا معناه أن الآيات الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها و تشتت مقاصدها و أغراضها ترجع إلى معنى واحد بسيط، و غرض فارد أصلي لا تكثر فيه و لا تشتت بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصدا من المقاصد و لا ترمي إلى هدف إلا و الغرض الأصلي هو الروح 

تفسير الميزان ج۱۰

137
  • الساري في جثمانه و الحقيقة المطلوبة منه. 

  • فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتت آياته و تفرق أبعاضه إلا غرض واحد متوحد إذا فصل كان في مورد أصلا دينيا و في آخر أمرا خلقيا، و في ثالث حكما شرعيا و هكذا كلما تنزل من الأصول إلى فروعها و من الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ، و لا يخطيء غرضه؛ فهذا الأصل الواحد بتركبه يصير كلَّ واحدٍ واحدٍ من أجزاء تفاصيل العقائد و الأخلاق و الأعمال، و هي بتحليلها و إرجاعها إلى الروح الساري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد. 

  • فتوحيده تعالى بما يليق بساحة عزه و كبريائه مثلا في مقام الاعتقاد هو إثبات أسمائه الحسنى و صفاته العليا، و في مقام الأخلاق هو التخلق بالأخلاق الكريمة من الرضا و التسليم و الشجاعة و العفة و السخاء و نحو ذلك و الاجتناب عن الصفات الرذيلة، و في مقام الأعمال و الأفعال الإتيان بالأعمال الصالحة و الورع عن محارم الله. 

  • و إن شئت فقل: إن التوحيد الخالص يوجب في كل من مراتب العقائد و الأخلاق و الأعمال ما يبينه الكتاب الإلهي من ذلك كما أن كلا من هذه المراتب و كذلك أجزاؤها لا تتم من دون توحيد خالص. 

  • فقد تبين أن الآية في مقام بيان رجوع تفاصيل المعارف و الشرائع القرآنية إلى أصل واحد هو بحيث إذا ركب في كل مورد من موارد العقائد و الأوصاف و الأعمال مع خصوصية ذلك المورد أنتج حكما يخصه من الأحكام القرآنية، و بذلك يظهر: 

  • أولا: أن قوله: {كِتَابٌ} خبر لمبتدإ محذوف و التقدير: هذا كتاب، و المراد بالكتاب هو ما بأيدينا من القرآن المقسم إلى السور و الآيات، و لا ينافي ذلك ما ربما يذكر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن بما هو في اللوح فإن هذا الكتاب المقروّ متحد مع ما في اللوح اتحاد التنزيل مع التأويل. 

  • و ثانيا: أن لفظة {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ فُصِّلَتْ} إلخ، لإفادة التراخي بحسب ترتيب الكلام دون التراخي الزماني إذ لا معنى للتقدم و التأخر الزماني بين المعاني المختلفة بحسب الأصلية و الفرعية أو بالإجمال و التفصيل. 

تفسير الميزان ج۱۰

138
  • و يظهر أيضا ما في بعض ما ذكره أرباب التفاسير في معنى الآية كقول بعضهم: إن معناها أحكمت آياته فلم تنسخ منها كما نسخت الكتب و الشرائع ثم فصلت ببيان الحلال و الحرام و سائر الأحكام. 

  • و فيه: أن الواجب على هذا المعنى أن يقيد عدم النسخ بعدم النسخ بكتاب غير القرآن ينسخ القرآن بعده كما نسخ القرآن غيره فإن وجود النسخ بين الآيات القرآنية نفسها مما لا ينبغي الارتياب فيه. و التقييد المذكور لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية. 

  • و كقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته بالأمر و النهي ثم فصلت بالوعد و الوعيد و الثواب و العقاب. و فيه أنه تحكم لا دليل عليه أصلا. 

  • و كقول بعضهم: إن المراد إحكام لفظها بجعلها على أبلغ وجوه الفصاحة حتى صار معجزا، و تفصيلها بالشرح و البيان. و الكلام في هذا الوجه كسابقه. 

  • و كقول بعضهم: المراد بإحكام آياته جعلها محكمة متقنة لا خلل فيها و لا باطل، و المراد بتفصيلها جعلها متتابعة بعضها إثر بعض. و فيه: أن التفصيل بهذا المعنى غير معهود لغة إلا أن يفسر بمعنى التفرقة و التكثير و يرجع حينئذ إلى ما قدمناه من المعنى. 

  • و كقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته جملة ثم فرقت في الإنزال آية بعد آية ليكون المكلف أمكن من النظر و التأمل. 

  • و فيه: أن الأحرى بهذا الوجه أن يذكر في مثل قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} الدخان: - ٣، و قوله: {وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنَّاسِ على مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} إسراء: - ١٠٦ و ما في هذا المعنى من الآيات مما يدل على أن للقرآن مرتبة عند الله هي أعلى من سطح الأفهام ثم نزل إلى مرتبة تقبل التفهم و التفقه رعاية لحال الأفهام العادية كما يشير إليه أيضا قوله: {وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} الزخرف: - ٤. 

  • و أما آيتنا التي نحن فيها {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} إلخ، فقد علق ـ 

تفسير الميزان ج۱۰

139
  • فيها الإحكام و التفصيل معا على الآيات، و ليس ذلك إلا من جهة معانيها فتفيد أن الإحكام و التفصيل هما في معاني هذه الآيات المتكثرة فلها جهة وحدة و بساطة و جهة كثرة و تركب، و ينطبق على ما قدمناه من المعنى لا على ما ذكره الراجع إلى مسألة التأويل و التنزيل فافهم ذلك. 

  • و كقول بعضهم: إن المراد بالإحكام و التفصيل إجمال بعض الآيات و تبيين البعض الآخر، و قد مثل لذلك بقوله تعالى في هذه السورة {اَلْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ اَلْأَصَمِّ وَ اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ} (الآية) : - ٢٤، فإنه مجمل محكم يتبين بما ورد فيها من قصة نوح و هود و صالح. و هكذا. 

  • و فيه: أن ظاهر الآية أن الإحكام و التفصيل متحدان من حيث المورد بمعنى أن الآيات التي ورد عليها الإحكام بعينها هي التي ورد عليها التفصيل لا أن الإحكام وصف لبعض آياته و التفصيل وصف بعضها الآخر كما هو لازم ما ذكره. 

  • و قوله تعالى: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} الحكيم من أسمائه الحسنى الفعلية يدل على إتقان الصنع، و كذا الخبير من أسمائه الحسنى يدل على علمه بجزئيات أحوال الأمور الكائنة و مصالحها، و إسناد إحكام الآيات و تفصيلها إلى كونه تعالى حكيما خبيرا لما بينهما من النسبة. 

  • قوله تعالى{أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (الآية) ، و ما بعدها تفسير لمضمون الآية الأولى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} و إذ كانت الآية تتضمن أنه كتاب من الله إلى... له آيات محكمة ثم مفصلة كانت العناية في تفسيرها متوجهة إلى إيضاح هذه الجهات. 

  • و من المعلوم أن هذا الكتاب الذي أنزله الله تعالى من عنده إلى رسوله ليتلوه على الناس و يبلغهم له وجه خطاب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) و وجه خطاب إلى الناس بوساطته أما وجه خطابه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو الذي يتلقاه الرسول من وحي الله فهو أن أنذر و بشر و ادع الناس إلى كذا و كذا، و هذا الوجه هو الذي عني به في أول سورة يونس حيث قال تعالى: {أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ وَ بَشِّرِ 

تفسير الميزان ج۱۰

140
  •  اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يونس: - ٢. 

  • و أما وجه خطابه إلى الناس و هو الذي يتلقاه الناس من الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) فهو ما يلقيه إلى الناس من المعنى في ضمن تلاوته كلام الله عليهم بعنوان الرسالة أني أدعوكم إلى الله دعوة نذير و بشير، و هذا الوجه من الخطاب هو الذي عنى به في قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ} إلخ. 

  • فالآية من كلام الله تفسر معنى إحكام آيات الكتاب ثم تفصيلها بحكاية ما يتلقاه الناس من دعوة الرسول إياهم بتلاوة كتاب الله عليهم، و ليس كلاما للرسول بطريق الحكاية و لا بتقدير القول و لا من الالتفات في شي‌ء، و لا أن التقدير: أمركم بأن لا تعبدوا أو: «فصلت آياته لأن لا تعبدوا إلا الله» بأن يكون قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا} نفيا لا نهيا فإن قوله بعد: {وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} معطوف على قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ} ، و هو يشهد بأن {أَلاَّ تَعْبُدُوا} نهي لا نفي. 

  • على أن التقدير لا يصار إليه من غير دليل فافهم ذلك فإنه من لطيف صنعة البلاغة في الآية. 

  • و على هذا فقوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ} دعوة إلى توحيد العبادة بالنهي عن عبادة غير الله من الآلهة المتخذة شركاء لله، و قصر العبادة فيه تعالى، و قوله: {وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أمر بطلب المغفرة من الله و قد اتخذوه ربا لهم برفض عبادة غيره ثم أمر بالتوبة و الرجوع إليه بالأعمال الصالحة و يتحصل من الجميع سلوك الطريق الطبيعي الموصل إلى القرب و الزلفى منه تعالى، و هو رفض الآلهة دون الله ثم طلب المغفرة و الطهارة النفسانية للحضور في حظيرة القرب ثم الرجوع إليه تعالى بالأعمال الصالحة. 

  • و قد جي‌ء بأن التفسيرية ثانيا في قوله: {وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا} إلخ، لاختلاف ما بين المرحلتين اللتين يشير إليهما قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ} و هي مرحلة التوحيد بالعبادة مخلصا، و قوله: {وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} و هي مرحلة العمل الصالح و إن كانت الثانية من نتائج الأولى و فروعها. 

  • و لكون التوحيد هو الأصل الأساسي و الاستغفار و التوبة نتيجة و فرعا متفرعا 

تفسير الميزان ج۱۰

141
  • عليه أورد النذر و البشارة بعد ذكر التوحيد، و الوعد الجميل الذي يتضمنه قوله: {يُمَتِّعْكُمْ} إلخ، بعد ذكر الاستغفار و التوبة فقال: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ} فبين به أن النذر و البشرى كائنين ما كانا يرجعان إلى التوحيد و يتعلقان به ثم قال: {وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً} إلخ فإن الآثار القيمة و النتائج الحسنة المطلوبة إنما تترتب على الشي‌ء بعد ما تم في نفسه و كمل بصفاته و فروعه و نتائجه، و التوحيد و إن كان هو الأصل الوحيد للدين على سعته لكن شجرته لا تثمر ما لم تقم على ساقها و يتفرع عليها فروعها و أغصانها، {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} 

  • و الظاهر أن المراد بالتوبة في الآية الإيمان كما في قوله تعالى: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} المؤمن: - ٧ فيستقيم الجمع بين الاستغفار و التوبة مع عطف التوبة عليه بثم، و المعنى اتركوا عبادة الأصنام بعد هذا و اطلبوا من ربكم غفران ما قدمتم من المعصية ثم آمنوا بربكم. 

  • و قيل: إن المعنى اطلبوا المغفرة و اجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليه بالتوبة و هو غير جيد و من التكلف ما ذكره بعضهم أن المعنى: استغفروا من ذنوبكم الماضية ثم توبوا إليه كلما أذنبتم في المستقبل و كذا قول آخر: إن {ثُمَّ} في الآية بمعنى الواو لأن التوبة و الاستغفار واحد. 

  • و قوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إلى أَجَلٍ مُسَمًّى} الأجل المسمى هو الوقت الذي ينتهي إليه الحياة لا تتخطاه البتة، فالمراد هو التمتيع في الحياة الدنيا بل بالحياة الدنيا لأن الله سبحانه سماها في مواضع من كلامه متاعا، فالمتاع الحسن إلى أجل مسمى ليس إلا الحياة الدنيا الحسنة. 

  • فيئول معنى قوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً} على تقدير كون {مَتَاعاً} مفعولا مطلقا إلى نحو من قولنا: يمتعكم تمتيعا حسنا بالحياة الحسنة الدنيوية و متاع الحياة إنما يكون حسنا إذا ساق الإنسان إلى سعادته الممكنة له، و هداه إلى أماني الإنسانية من التنعم بنعم الدنيا في سعة و أمن و رفاهية و عزة و شرافة فهذه الحياة الحسنة تقابل 

تفسير الميزان ج۱۰

142
  • المعيشة الضنك التي يشير إليها في قوله: {وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} طه: - ١٢٤. 

  • و لا حسن لمتاع الحياة الدنيا و لا سعة في المعيشة لمن أعرض عن ذكر الله و لم يؤمن بربه فإن البعض من الناس و إن أمكن أن يؤتى سعة من المال و علوا في الأرض ثم يحسب أن لا أمنية من أماني الإنسانية إلا و قد أوتيها لكنه في غفلة عن ابتهاج من تحقق بحقيقة الإيمان بالله و دخل في ولاية الله فآتاه الله الحياة الطيبة الإنسانية، و آمنه من ذلة الحياة الحيوانية التي لا حكومة فيها إلا للحرص و الشره و الافتراس و التكلب و الجهالة، فالنفس الحرة الإنسانية تذم من الحياة ما يستأثره النفوس الرذيلة الخسيسة و إن استتبع الذلة و المسكنة و كل شناعة. 

  • فالحياة الحسنة لمجتمعٍ صالح حرّ أن يشتركوا في التمتع من مزايا النعم الأرضية التي خلقها الله لهم اشتراكا عن تراحم بينهم و تعاون و تعاضد من غير تعد و تزاحم بحيث يطلب كلٌ خيرَ نفسه و نفعها في خيرِ مجتمعه و نفعه من غير أن يعبّد نفسه و يستعبد الآخرين. 

  • و بالجملة التمتع بالحياة الحسنة إلى أجل مسمى هو تمتع الفرد بالحياة على ما تستحسنه الفطرة الإنسانية و هو الاعتدال في التمتعات المادية في ضوء العلم النافع و العمل الصالح هذا إذا نسب إلى الفرد، و أما إذا نسب إلى المجتمع فهو الانتفاع العام من نعم الحياة الأرضية الطيبة بتخصيص ما يناله الأفراد بكدهم و سعيهم بالمجتمع الملتئم الأجزاء من غير تضاد بين أبعاضه أو تناقض. 

  • و قوله: {وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} الفضل هو الزيادة و إذ نسب الفضل في قوله: {كُلَّ ذِي فَضْلٍ} إلى من عنده الفضل من الأفراد كان ذلك قرينة على كون الضمير في {فَضْلَهُ} راجعا إلى ذي الفضل دون اسم الجلالة كما احتمله بعضهم و الفضل و الزيادة من المعاني النسبية التي إنما تتحقق بقياس شي‌ء إلى شي‌ء و إضافته إليه. 

  • فالمعنى: و يعطي كل من زاد على غيره بشي‌ء من صفاته و أعماله و ما يقتضيه من الاختصاص بمزيد الأجر و خصوصه موهبة السعادة تلك الزيادة من غير أن يبطل حقه أو يغصب فضله أو يملكه غيره كما يشاهد في المجتمعات غير الدينية و إن كانت مدنية 

تفسير الميزان ج۱۰

143
  • راقية فلم تزل البشرية منذ سكنت الأرض و كونت أنواع المجتمعات الهمجية أو الراقية أو ما هي أرقى تنقسم إلى طائفتين مستعلية مستكبرة قاهرة، و مستذلة مستعبدة مقهورة، و ليس يعدل هذا الإفراط و التفريط و لا يسوي هذا الاختلاف إلا دين التوحيد. 

  • فدين التوحيد هو السنة الوحيدة التي تقصر المولوية و السيادة في الله سبحانه و تسوي بين القوي و الضعيف و المتقدم و المتأخر و الكبير و الصغير و الأبيض و الأسود و الرجل و المرأة و تنادي بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات: - ١٣، و قوله: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} آل عمران: - ١٩٥. 

  • ثم إن وقوع قوله: {وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} الحاكي عن الاعتناء بفضل كل ذي فضل بعد قوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إلى أَجَلٍ مُسَمًّى} الدال على تمتيع الجميع مشعر: 

  • أولا: بأن المراد بالجملة الأولى المتاع العام المشترك بين أفراد المجتمع و بعبارة أخرى حياة المجتمع العامة الحسنة، و بالجملة الثانية المزايا التي يؤتاها بعض الأفراد قبال ما يختصون به من الفضل. 

  • و ثانيا: أن الجملة الأولى تشير إلى التمتيع بمتاع الحياة الدنيا و الثانية إلى إيتاء ثواب الآخرة قبال الأعمال الصالحة القائمة بالفرد أو إيتاء كل ذي فضل فضله في الدنيا و الآخرة معا بتخصيص كل من جاء بزيادة في جهة دنيوية بما تقتضيه زيادته من المزية في جهات الحياة بإقامة كل ذي فضيلة في صفة أو عمل مقامه الذي تقتضيه صفته أو عمله و وضعه موضعه من غير أن يسوي بين الفاضل و المفضول في دينهما أو تزاح الخصوصيات و تبطل الدرجات و المنازل بين الأعمال و المساعي الاجتماعية فلا يتفاوت حال الناشط في عمله و الكسلان، و لا يختلف أمر المجتهد في العمل الدقيق المهم في بابه و اللاعب بالعمل الحقير الهين و هكذا. 

  • و قوله: {وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} أي فإن تتولوا 

تفسير الميزان ج۱۰

144
  • إلخ بالخطاب، و الدليل عليه قوله: {عَلَيْكُمْ} و ما تقدم في الآيتين من الخطابات المتعددة فلا يصغى إلى قول من يأخذ قوله: {تَوَلَّوْا} جمعا مذكرا غائبا من الفعل الماضي فإنه ظاهر الفساد. 

  • و قد أغرب بعض المفسرين حيث قال في قوله تعالى: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إلى أَجَلٍ مُسَمًّى} : و الآية تتضمن نجاة هذه الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال كما بيناه في تفسير سورة يونس أيضا انتهى، و لست أدري كيف استفاد من الآية ما ذكره و لعله بنى ذلك على أن الآية اشترطت للأمة الحياة الحسنة من غير استئصال إن آمنوا بالله و آياته ثم إنهم آمنوا و انتشر الإسلام في الدنيا، لكن من المعلوم أن الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) مرسل إلى أهل الدنيا عامة و لم يؤمن به عامتهم، و لا أن المؤمنين به أخلصوا جميعا إيمانهم من النفاق و سرى الإيمان من ظاهرهم إلى باطنهم و من لسانهم إلى جنانهم. 

  • و لو كان مجرد إيمان بعض الأمة مع كفر الآخرين كافيا في تحقق الشرط و ارتفاع عذاب الاستئصال لكفى في أمة نوح و هود (عليه السلام) و غيرهما و قد دعوا أممهم إلى ما دعا إليه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و اشترطوا لهم مثل ما اشترط لأمته ثم عمهم الله بعذاب الاستئصال و كان حقا عليه نصر المؤمنين. 

  • و قد حكى الله سبحانه عن نوح قوله لقومه في ضمن دعوته {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} نوح: - ١٢ و حكى عن هود قوله: {وَ يَا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ وَ لاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} هود: - ٥٢، و حكى جملة عن نوح و هود و صالح و الذين من بعدهم قولهم {أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى} إبراهيم: - ١٠. 

  • و أما قوله: «و قد بيناه في سورة يونس أيضا» فلم يأت هناك إلا بدعوى خالية و قد قدمنا هناك أن آيات سورة يونس صريحة في أن الله سيقضي بين هذه الأمة بين نبيها (صلى الله عليه وآله و سلم) فيعذبهم و ينجي المؤمنين سنة الله التي قد خلت في عباده 

تفسير الميزان ج۱۰

145
  • و لن تجد لسنة الله تبديلا. 

  • قوله تعالى{إِلَى اَللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ على كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} في مقام التعليل لما يفيده قوله: {وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} من المعاد، و ذيل الآية، مسوق لإزاحة ما يمكن أن يختلج في صدورهم من استبعاد البعث بعد عروض الموت، و المعنى و إن تتولوا عن إخلاص العبادة له و رفض الشركاء فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير سيستقبلكم فتواجهونه و هو يوم البعث بعد الموت لأن مرجعكم إلى الله و الله على كل شي‌ء قدير فلا يعجز عن إحيائكم بعد الإماتة فإياكم أن تستبعدوا ذلك. 

  • فالآية قرينة على أن المراد باليوم الكبير يوم القيامة،- و روى القمي في تفسيره، مضمرا :أن المراد بعذاب يوم كبير الدخان و الصيحة. 

  • [سورة هود (١١) : الآیات ٥ الی ١٦ ]

  • {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ٥ وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ٦ وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ٧ وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ 

تفسير الميزان ج۱۰

146
  •  لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٨ وَ لَئِنْ أَذَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ ٩ وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ اَلسَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ١٠إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ١١ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَ ضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اَللَّهُ على كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَكِيلٌ ١٢ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١٣ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ وَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ١٤ مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ١٥ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنَّارُ وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٦} 

  • (بيان) 

  • جمل و فصول من أعمال المشركين و أقوالهم في الرد على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما نزل عليه من الكتاب تذكرها الآيات و تجيب عنها بإلقاء الحجة كاستخفائهم من الله، 

تفسير الميزان ج۱۰

147
  • و قولهم: ما يحبس العذاب عنا، و قولهم: لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، و قولهم: إنه افترى القرآن. و فيها بعض معارف أخر. 

  • قوله تعالى{أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} إلى آخر الآية، ثنى الشي‌ء يثناه ثنيا كفتح يفتح فتحا أي عطفه و طواه و رد بعضه على بعض قال في المجمع: أصل الثني‌ العطف تقول: ثنيته عن كذا أي عطفته، و منه الاثنان لعطف أحدهما على الآخر في المعنى، و منه الثناء لعطف المناقب في المدح، و منه الاستثناء لأنه عطف عليه بالإخراج منه، انتهى. و قال أيضا: الاستخفاء طلب خفاء الشي‌ء يقال: استخفى و تخفى بمعنى، و كذلك استغشى و تغشى، انتهى. 

  • فالمراد بقوله: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} أنهم يميلون بصدورهم إلى خلف و يطأطئون رءوسهم ليتخفوا من الكتاب أي من استماعه حين تلاوته و هو كناية عن استخفائهم من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و من حضر عنده حين تلاوة القرآن عليهم للتبليغ لئلا يروا هناك فتلزمهم الحجة. 

  • و قوله: {أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ} إلخ، كأنهم كانوا يسترون رءوسهم أيضا بثيابهم عند استخفائهم بثني الصدور فذكر الله سبحانه ذلك و أخبر أنه تعالى يعلم عند ذلك ما يسرون و ما يعلنون فما يغنيهم التخفي عن استماع القرآن و الله يعلم سرهم و علانيتهم. 

  • و قيل: إن المراد باستغشائهم ثيابهم هو الاستغشاء في بيوتهم ليلا عند أخذ المضاجع للنوم، و هو أخفى ما يكون فيه الإنسان و أخلى أحواله، و المعنى: أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا من هذا الكتاب عند تلاوته عليهم، و الله يعلم سرهم و علانيتهم في أخفى ما يكونون عليه من الحال و هو حال تغشيهم بثيابهم للنوم، و لا يخلو الوجه من ظهور. 

  • هذا ما يفيده السياق في معنى الآية، و ربما ذكر لها معان أخر بعيدة من السياق منها قولهم: إن الضمير في {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} راجع إليه تعالى أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و منها قول بعضهم: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي يطوونها على الكفر، و قول آخرين: أي يطوونها على عداوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى غير ذلك من المعاني المذكورة و هي جميعا معان بعيدة. 

تفسير الميزان ج۱۰

148
  • قوله تعالى{وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا} إلى آخر الآية، الدابة على ما في كتب اللغة كل ما يدب و يتحرك، و يكثر استعماله في النوع الخاص منه، و قرينة المقام تقتضي كون المراد منه العموم لظهور أن الكلام مسوق لبيان سعة علمه تعالى، و لذلك عقب به قوله: {أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ} 

  • و هذا المعنى أعني كون ذكر وجوب رزق كل دابة على الله لبيان سعة علمه لكل دابة في جميع أحوالها يستوجب أن يكون قوله: {وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا} بمنزلة عطف التفسير لقوله: {عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا} فيعود المعنى إلى أن كل دابة من دواب الأرض على الله أن يرزقها و لن تبقى بغير رزق فهو تعالى عليم بها خبير بحالها أينما كانت فإن كانت في مستقر لا تخرج منه كالحوت في الماء و كالصدف فيما وقعت و استقرت فيه من الأرض رزقها هناك و إن كانت خارجة من مستقرها و هي في مستودع ستتركه إلى مستقرها كالطير في الهواء أو كالمسافر الغارب عن وطنه أو كالجنين في الرحم رزقها هناك و بالجملة هو تعالى عالم بحال كل دابة في الأرض و كيف لا و عليه تعالى رزقها و لا يصيب الرزق المرزوق إلا بعلم من الرازق بالمرزوق و خبرة منه بما حل فيه من محل دائم أو معجل و مستقر أو مستودع. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بالمستقر و المستودع المحل الذي تستقر فيه الدابة ما دامت دابة تدب في الأرض و تعيش عيشة دنيوية و المحل الذي تحل فيه ثم تودعه و تفارقه، و أما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالمستقر و المستودع أماكنها في الحياة و بعد الممات أو أن المراد بهما الأصلاب و الأرحام أو أن المراد بهما مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل و مودعها من المواد و المقار حين كانت بعد بالقوة فمعان بعيدة عن سياق الآية اللهم إلا أن يجعل قوله: {وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا} كلاما مستأنفا بحياله غير مفسر لما قبله. 

  • و قد تقدم في قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ} الأنعام - ٩٨ ما يناسب هذا المقام فليراجع إليه من شاء. 

  • و أما قوله: {عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا} فهو دال على وجوب الرزق عليه تعالى و قد 

تفسير الميزان ج۱۰

149
  • تكرر في القرآن أن الرزق من أفعاله تعالى المختصة به و أنه حق للخلق عليه تعالى قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا اَلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} الملك: - ٢١، و قال تعالى {إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ اَلْمَتِينُ} الذاريات: - ٥٨ و قال تعالى: {وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} الذاريات: - ٢٣. 

  • و لا ضير في أن يثبت عليه تعالى حق لغيره إذا كان تعالى هو الجاعل الموجب لذلك على نفسه من غير أن يداخل فيه غيره، و لذلك نظائر في كلامه تعالى كما قال‌ {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} الأنعام: - ١٢، و قال {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ} الروم: - ٤٧ إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و الاعتبار العقلي يؤيد ذلك فإن الرزق هو ما يديم به المخلوق الحي وجوده و إذ كان وجوده من فيض جوده تعالى فما يتوقف عليه من الرزق من قبله، و إذ لا شريك له تعالى في إيجاده لا شريك له في ما يتوقف عليه وجوده كالرزق. 

  • و قد تقدم بعض الكلام في معنى الكتاب المبين في سورة الأنعام آية: ٥٩ و في سورة يونس آية: ٦١ فليراجع. 

  • قوله تعالى{وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ} الكلام المستوفى في توصيف خلق السماوات و الأرض على ما يظهر من كلامه تعالى و يفسره ما ورد في ذلك عن أهل العصمة (عليه السلام) موكول إلى ما سيأتي من تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى. 

  • و إجمال القول الذي يظهر به معنى قوله: {سِتَّةِ أَيَّامٍ} و قوله: {وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ} هو أن الظاهر أن ما يذكره تعالى من السماوات بلفظ الجمع و يقارنها بالأرض و يصف خلقها في ستة أيام طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا فكل ما علاك و أظلك فهو سماء على ما قيل و العلو و السفل من المعاني الإضافية. 

  • فهي طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا و تحيط بها فإن الأرض 

تفسير الميزان ج۱۰

150
  • كروية الشكل على ما يفيده قوله تعالى: {يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} الأعراف - ٥٤. 

  • و السماء الأولى هي التي تزينه مصابيح النجوم و الكواكب فهي الطبقة التي تتضمنها أو هي فوقها و تتزين بها كالسقف يتزين بالقناديل و المشاكي و أما ما فوق السماء الدنيا فلم يرد في كلامه شي‌ء من صفتها غير ما في قوله تعالى: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} الملك: - ٣، و قوله: {أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اَللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَ جَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ اَلشَّمْسَ سِرَاجاً} نوح: - ١٦ حيث يدل على مطابقة بعضها بعضا. 

  • و قد ذكر الله سبحانه في صفة خلقها أنها كانت رتقاء ففتقها و متفرقة متلاشية فجمعها و ركمها و أنها كانت دخانا فصيرها سماوات، قال تعالى: {أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‌ءٍ حَيٍّ أَ فَلاَ يُؤْمِنُونَ} الأنبياء: - ٣٠: و قال {ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} حم السجدة - ١٢ فأفاد أن خلق السماوات إنما تم في يومين، و اليوم مقدار معتد به من الزمان و ليس من الواجب أن يطابق اليوم في كل ظرف و وعاء يوم أرضنا الحاصل من دورة واحدة من حركتها الوضعية كما أن اليوم الواحد في القمر الذي لهذه الأرض يعدل تسعة و عشرين يوما و نصفا تقريبا من أيام الأرض و استعمال اليوم في البرهة من الزمان شائع في الكلام. 

  • فقد خلق الله سبحانه السماوات السبع في برهتين من الزمان كما قال في الأرض‌ {خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى أن قال {وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} حم السجدة: - ١٠فأنبأ عن خلقها في يومين و هما عهدان و طوران و جعل الأقوات في أربعة أيام و هي الفصول الأربعة. 

  • فالمتحصل من الآيات أولا: أن خلق السماوات و الأرض على ما هي عليه اليوم من الصفة و الشكل لم يكن عن عدم بحت بل هي مسبوقة الوجود بمادة متشابهة 

تفسير الميزان ج۱۰

151
  • مركومة مجتمعة ففصل بعض أجزائها عن بعض فجعلت أرضا في برهتين من الزمان و قد كانت السماء دخانا ففصلت و قضيت سبع سماوات في برهتين من الزمان. 

  • و ثانيا: أن ما نراه من الأشياء الحية إنما جعلت من الماء فمادة الماء هي مادة الحياة. 

  • و بما قدمنا يظهر معنى الآية التي نحن فيها فقوله: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} المراد بخلقها جمع أجزائها و فصلها و فتقها من سائر ما يختلط بها من المادة المتشابهة المركومة، و قد تم أصل الخلق و الرتق في السماوات في يومين و في الأرض أيضا في يومين و يبقى من الستة الأيام يومان لغير ذلك. 

  • و أما قوله: {وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ} فهو حال و المعنى و كان عرشه يوم خلقهن على الماء و كون العرش على الماء يومئذ كناية عن أن ملكه تعالى كان مستقرا يومئذ على هذا الماء الذي هو مادة الحياة فعرش الملك مظهر ملكه، و استقراره على محل هو استقرار ملكه عليه كما أن استواءه على العرش احتواءه على الملك و أخذه في تدبيره. 

  • و قول بعضهم: إن المراد بالعرش البناء أخذا من قوله تعالى: {مِمَّا يَعْرِشُونَ} النحل: - ٦٨ أي يبنون كلام بعيد عن الفهم. 

  • قوله تعالى{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} اللام للغاية و البلاء الامتحان و الاختبار، و قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} بيان للاختبار و الامتحان في صورة الاستفهام و المراد أنه تعالى خلق السماوات و الأرض على ما خلق لغاية امتحانكم و تمييز المحسنين منكم من المسيئين. 

  • و من المعلوم أن البلاء و الامتحان أمر مقصود لغيره و هو تمييز الجيد من الردي و الحسن من السيئ، و كذلك الحسنة و السيئة إنما يراد تمييزهما لأجل ما يترتب عليهما من الجزاء، و كذلك الجزاء إنما يراد لأجل ما فيه من إنجاز الوعد الحق و لذلك نجده تعالى يذكر كل واحد من هذه الأمور المترتبة غاية للخلقة فقال في كون الابتلاء غاية للخلقة {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الكهف: - ٧، و قال في معنى التمييز و التمحيص {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ} الأنفال: - ٣٧، ـ 

تفسير الميزان ج۱۰

152
  • و قال في خصوص الجزاء {وَ خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} الجاثية: - ٢٢ و قال في كون الإعادة لإنجاز الوعد {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء: - ١٠٤ إلى غير ذلك من الآيات، و قال في كون العبادة غرضا في خلق الثقلين {وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الذاريات: - ٥٦. 

  • و عد العمل الصالح أو الإنسان المحسن غاية للخلقة لا ينافي اشتمال الخلقة على غايات أخرى بعد ما كان الإنسان أحد تلك الغايات حقيقة لأن الوحدة و الاتصال الحاكم على العالم يصحح كون كل واحد من أنواع الموجودات غاية للخلقة بما أنه محصول الارتباط و نتيجة الازدواج العام بين أجزائه فمن الجائز أن يخاطب كل نوع من أنواع الخليقة أنه المطلوب المقصود من خلق السماوات و الأرض بما أنها تؤدي إليه. 

  • على أن الإنسان أكمل و أتقن المخلوقات الجسمانية من السماوات و الأرض و ما فيهما صنعا و لئن نمى في جانب العلم و العمل نماء حسنا كان أفضل ذاتا مما سواه و أرفع مقاما و أعلى درجة من غيره و إن كان بعض الخليقة كالسماء أشد منه خلقا كما ذكره الله تعالى و من المعلوم أن كمال الصنع هو المقصود منه إذا اشتمل على ناقص و لذا كنا نعد مراحل وجود الإنسان المختلفة من المنوية و الجنينية و الطفولية و غيرها مقدمة لوجود الإنسان السوي الكامل و هكذا. 

  • و بهذا البيان يظهر أن أفضل أفراد الإنسان إن كان فيهم من هو أفضل مطلقا غاية لخلق السماوات و الأرض، و لفظ الآية أيضا لا يخلو عن إشارة أو دلالة على ذلك فإن قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} يفيد أن القصد إلى تمييز من هو أحسن عملا من غيره سواء كان ذلك الغير محسنا أو مسيئا فمن كان عمله أحسن من سائر الأفراد سواء كانوا محسنين و أعمالهم دون عمله أو مسيئين كان تمييزه منهم هو الغرض المقصود من الخلقة، و بذلك يستصح‌ ما ورد في الحديث القدسي من خطابه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) : «لولاك لما خلقت الأفلاك‌» فإنه (صلى الله عليه وآله و سلم) أفضل الخلق. 

  • و في المجمع: قال الجبائي: و في الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات 

تفسير الميزان ج۱۰

153
  • و الأرض و الملائكة لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف لمكلف يمكنه الاستدلال به فلا بد حينئذ من حي مكلف، و قال علي بن عيسى: لا يمتنع أن يكون في الإخبار بذلك مصلحة للمكلفين فلا يجب ما قاله الجبائي و هو الذي اختاره المرتضى قدس الله روحه. انتهى. 

  • أقول: و ما ذكراه مبني على ما ذهب إليه المعتزلة: أن أفعال الله سبحانه معللة بالأغراض و تابعة للمصالح و جهات الحسن و لو كان ذلك بأن يخلق خلقا ليخبر بذلك المكلفين فيعتبروا به و يؤمنوا له فيتم بذلك مصلحة من مصالحهم، و قد تقدم في أبحاثنا السابقة أن الله سبحانه لا يحكم عليه و لا يؤثر فيه غيره سواء كان ذلك الغير مصلحة أو أي شي‌ء آخر مفروض و أن غيره أي شي‌ء فرض مخلوق له مدبر بأمره إن كان أمرا ذا واقعية و وجود إن الحكم إلا لله و الله خالق كل شي‌ء. 

  • فجهات الحسن و المصلحة و هي التي تحكم علينا و تبعثنا نحو أفعالنا أمور خارجة عن أفعالنا مؤثرة فينا من جهة كوننا فاعلين نروم بها إلى سعادة الحياة، و أما هو سبحانه فإنه أجلّ من ذلك؛ و ذلك أن جهات الحسن و المصلحة هذه إنما هي قوانين عامة مأخوذة من نظام الكون و الروابط الدائرة بين أجزاء الخلقة، و من الضروري أن الكون و ما فيه من النظام الجاري فعله سبحانه، و من الممتنع جدا أن يتقدم المفهوم المنتزع على ما انتزع منه من الفعل ثم يتخطاه و لا يقنع حتى يتقدم على فاعله الموجد له. 

  • و أما ما في الآية من تعليل خلق السماوات و الأرض بقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} و نظائره الكثيرة في القرآن فإنما هو و أمثاله من قبيل التعليل بالفوائد المترتبة و المصالح المتفرعة و قد أخبر تعالى أن فعله لا يخلو من الحسن إذ قال {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ} الم السجدة: - ٧، فهو سبحانه هو الخير لا شر فيه و هو الحسن لا قبح عنده و ما كان كذلك لم يصدر عنه شر و لا قبيح البتة. 

  • و ليس مقتضى ما تقدم أن يكون معنى الحسن هو ما صدر عنه تعالى أو الذي أمر به و إن استقبحه العقل، و معنى القبيح هو ما لا يصدر عنه أو الذي نهى عنه 

تفسير الميزان ج۱۰

154
  • و إن استحسنه العقل و استصوبه فإن ذلك يأباه أمثال قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الأعراف: - ٢٨. 

  • قوله تعالى{وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} لما كان قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} إلخ، يشير إلى المعاد أشار إلى ما كان يواجه به الكفار ذكره (صلى الله عليه وآله و سلم) للمعاد برميه بأنه سحر من القول. 

  • فظاهر الآية أنهم كما كانوا يسمون لفظ القرآن الكريم بما فيه من الفصاحة و بلاغة النظم سحرا، كذلك كانوا يسمون ما يخبر به القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من حقائق المعارف التي لا يصدقه أحلامهم كالبعث بعد الموت سحرا، و على هذا فهو من مبالغتهم في الافتراء على كتاب الله و التعنت و العناد مع الحق الصريح حيث تعدوا عن رمي اللفظ لفصاحته و بلاغته بالسحر إلى رمي المعنى لصحته و استقامته بالسحر. 

  • و من الممكن أن يكون المراد بالسحر المغالطة و التمويه بإظهار الباطل في صورة الحق على نحو إطلاق الملزوم و إرادة اللازم لكن لا يلائمه ظاهر قوله تعالى في نظير المورد {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} المؤمنون: - ٨٩. 

  • قوله تعالى{وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} إلى آخر الآية. اللام في صدر الآية للقسم و لذلك أكد الجواب أعني قوله: {لَيَقُولُنَّ} باللام و النون و المعنى: و أقسم لئن أخرنا عن هؤلاء الكفار ما يستحقونه من العذاب قالوا مستهزئين: ما الذي يحبس هذا العذاب الموعود عنا و لماذا لا ينزل علينا و لا يحل بنا؟! 

  • و في هذا إشارة أو دلالة على أنهم سمعوا من كلامه تعالى أو من كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ما يوعدهم بعذاب لا محيص منه و أن الله أخر ذلك تأخيرا رحمة لهم فاستهزؤوا به و سخروا منه بقولهم: {مَا يَحْبِسُهُ} و يؤيده قوله تعالى عقيب ذلك: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} إلخ. 

تفسير الميزان ج۱۰

155
  • و بهذا يتأيد أن السورة سورة هود نزلت بعد سورة يونس لمكان قوله تعالى فيها: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} إلى آخر الآيات. 

  • و قوله: {إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} الأمة الحين و الوقت كما في قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} يوسف: - ٤٥ أي بعد حين و وقت. 

  • و ربما أمكن أن يراد بالأمة الجماعة فقد وعد الله سبحانه أن يؤيد هذا الدين بقوم صالحين لا يؤثرون على دينه شيئا و يمكن عند ذلك للمؤمنين دينهم الذي ارتضى لهم قال {فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ} المائدة: - ٥٤، و قال‌ {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ} إلى أن قال {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} النور: - ٥٥، و هذا وجه لا بأس به. 

  • و قيل: إن المراد بالأمة الجماعة و هم قوم يأتي الله بهم بعد هؤلاء فيصرون على الكفر فيعذبهم بعذاب الاستئصال كما فعل بقوم نوح، أو هم قوم يأتون بعد هؤلاء فيصرون على معصية الله فتقوم عليهم القيامة. 

  • و الوجهان سخيفان لبنائهما على كون المعذبين غير هؤلاء المستهزءين من الكفار و ظاهر قوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} إلخ، إن المعذبين هم المستهزءون بقولهم: {مَا يَحْبِسُهُ} 

  • و قوله: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} بمنزلة الجواب عن قولهم: {مَا يَحْبِسُهُ} الواقع موقع الاستهزاء فإنه في معنى الرد على ما أوعدوا به من العذاب، و محصله أن هذا العذاب الذي يهددنا لو كان حقا لم يكن لحبسه سبب فإنا كافرون غير عادلين عن الكفر و لا تاركين له فتأخر نزول العذاب من غير موجب لتأخره بل مع الموجب لتعجيله كاشف عن كونه من قبيل الوعد الكاذب. 

تفسير الميزان ج۱۰

156
  • فأجاب الله عن ذلك بأنه سيأتيهم و لا يصرفه يومئذ عنهم صارف و يحيق بهم هذا العذاب الذي كانوا به يستهزءون. 

  • و بما تقدم يظهر أن هذا العذاب الذي يهددون به عذاب دنيوي سيحيق بهم و ينزل عليهم دون عذاب الآخرة، و على هذا فهذه الآية و التي قبلها يذكر كل منهما شيئا من ما تهوس به الكفار بجهالتهم فالآية السابقة تذكر أنهم إذا ذكر لهم البعث و أنذروا بعذاب يوم القيامة قالوا: إن هذا إلا سحر مبين، و هذه الآية تذكر أن الله إذا أخر عنهم العذاب إلى أمة و أخبروا بذلك قالوا مستهزءين: ما يحبسه. 

  • قوله تعالى{وَ لَئِنْ أَذَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ} قال في المجمع: الذوق‌ تناول الشي‌ء بالفم لإدراك الطعم، و سمى الله سبحانه إحلال اللذات بالإنسان إذاقة لسرعة زوالها تشبيها بما يذاق ثم يزول كما قيل: أحلام نوم أو كظل زائل، و النزع‌ قلع الشي‌ء عن مكانه، و اليَئُوس‌ فَعُول من يئس صيغة مبالغة، و اليأس القطع بأن الشي‌ء المتوقع لا يكون و نقيضه الرجاء. انتهى. 

  • و قد وضعت الرحمة في الآية مكان النعمة للإشعار بأن النعم التي يؤتيها الله الإنسان عنوانها الرحمة و هي رفع حاجة الإنسان فيما يحتاج إليه من غير استحقاق و إيجاب و المعنى: أنا إن آتينا الإنسان شيئا من النعم التي يتنعم بها ثم نزعناها يئس منها و اشتد يأسه حتى كأنه لا يرى عودها إليه ثانيا ممكنا و كفر بنعمتنا كأنه يرى تلك النعمة من حقه الثابت علينا و يرانا غير مالكين لها فالإنسان مطبوع على اليأس عما أخذ منه و الكفران، و قد أخذ في الآية لفظ الإنسان و هو لفظ دال على نوعه للدلالة على أن الذي يذكر من صفته من طبع نوعه. 

  • قوله تعالى{وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ اَلسَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} قال في المجمع: النعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه و الضراء مضرة يظهر الحال بها لأنهما أخرجتا مخرج الأحوال الظاهرة مثل حمراء و عيناء مع ما فيهما من المبالغة، و الفرح و السرور من النظائر و هو انفتاح القلب بما يلتذ به و ضده الغم... إلى أن قال: و الفَخور الذي يكثر فخره و هو التطاول بتعديد المناقب و هي 

تفسير الميزان ج۱۰

157
  • صفة ذم إذا أطلقت لما فيها من التكبر على من لا يجوز أن يتكبر عليه. انتهى. 

  • و المراد بالسيئات بقرينة المقام المصائب و البلايا التي يسوء الإنسان نزولها عليه، و المعنى: و لئن أصبناه بالنعمة بعد الضراء ليقولن ذهب الشدائد عني، و هو كناية عن الاعتقاد بأن هاتيك الشدائد و النوازل لا تعود بعد زوالها و لا تنزل بعد ارتفاعها ثانيا. 

  • و قوله: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} بمنزلة التعليل لقوله: {ذَهَبَ اَلسَّيِّئَاتُ عَنِّي} فإنه يفرح و لا يزال على ذلك لما ذاقه من النعماء بعد الضراء، و لو كان يرى أن ما عنده من النعماء جائز الزوال لا وثوق على بقائه و لا اعتماد على دوامه، و أن الأمر ليس إليه بل إلى غيره و من الجائز أن يعود إليه ما تركه من السيئات لم يكن فرحا بذلك فإنه لا فرح في أمر مستعار غير ذي قرار. 

  • و إنه ليفخر بما أوتي من النعماء على غيره، و لا فخر إلا بكرامة أو منقبة يملكها الإنسان فهو يرى ما عنده من النعمة أمرا بيده زمامه ليس لغيره أن يسلبه و ينزعه منه و يعيد إليه ما ذهب عنه من السيئات و لذلك يفخر و يكثر من الفخر. 

  • قوله تعالى{إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ} ذكر سبحانه ما الإنسان مطبوع عليه عند الشدة و البلاء من اليأس و الكفر و عند الرخاء و النعماء من الفرح و الفخر، و مغزى الكلام أنه مخلوق كليل البصر قصير النظر إنما يرى ما يجده في حاله الحاضرة، و يذهل عما دون ذلك فإن زالت عنه نعمة لم ير لها عودة و أنها كانت من عند الله سبحانه، و له تعالى أن يعيدها إليه إن شاء حتى يصبر على بلائه و يتعلق قلبه به بالرجاء و المسألة، و إن عادت إليه نعمة بعد زوالها رأى أنه يملكها ففرح و فخر و لم ير لله تعالى صنعا في ذلك حتى يشكره عليها و يكف عن الفرح و عن التطاول على غيره بالفخر. 

  • استثنى سبحانه طائفة من الإنسان و وصفهم بقوله: {اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} ثم وعدهم وعدا حسنا بقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ} و ذلك أن التخلص من هذا الطبع المذموم إنما يتمشى من الصابرين الذين يصبرون عند 

تفسير الميزان ج۱۰

158
  • الضراء فلا يحملهم الجزع على اليأس و الكفر، و يعملون الصالحات من الشكر بثنائه تعالى على ما كشف الضراء و أعقب بالنعماء و صرف نعمه في ما يرضيه و يريح خلقه فلا يحملهم الاستغناء على الفرح و الفخر. 

  • و هؤلاء هم المتخلصون الناجون يغفر لهم ربهم بإمحاء آثار ذلك الطبع المذموم و وضع الخصال المحمودة موضعه و لهم عند ربهم مغفرة و أجر كبير. 

  • و في الآية دلالة على أن الصبر مع العمل الصالح لا ينفك عن الإيمان فإنها تعد هؤلاء الصابرين مغفرة و أجرا كبيرا، و المغفرة لا تنال المشركين، قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} النساء: - ١١٦. 

  • و قد ورد الوعد بعين ما ذكر في هذه الآية أعني المغفرة و الأجر الكبير للمؤمنين في قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ} فاطر: - ٧، و قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ} الملك: - ١٢. 

  • و اتصال الآيات الثلاث بما قبلها ظاهر فإن الكلام كان في الآيات السابقة مسوقا في كفر الكافرين و رميهم الوعد بالبعث بالسحر و مقابلتهم الإيعاد بنزول العذاب بالاستهزاء، فذكر سبحانه أنهم على حالهم الطبعي لا يرون لما عندهم من نعمة الله زوالا بنزول العذاب و لا لما بهم من رث الحال تبدلا إلى العيش الهني‌ء و المتاع الحسن الذي وعدهم الله به في صدر السورة. 

  • قوله تعالى{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَ ضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} إلى آخر الآية، لما كانت رسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما أيدت به من القرآن الكريم و الآيات البينات و الحجج و البراهين مما لا يسع لذي عقل إنكارها و لا لإنسان صحيح المشاعر ردها و الكفر بها كان ما حكى من كفر الكافرين و إنكار المشركين أمرا مستبعدا بحسب الطبع، و إذا كان وقوع أمر على صفة من الصفات مستبعدا أخذ الإنسان في تقرير ذلك الأمر من غير مجرى الاستبعاد طلبا للمخرج من نسبة الوقوع إلى ما يستبعده الطبع. 

تفسير الميزان ج۱۰

159
  • و لما كان المقام في الآية الكريمة هذا المقام، و كان ما حكاه الله سبحانه من كفر المنكرين و إنكار المشركين لما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إليهم من الحق الصريح و ما أنزل إليه من كلام الله تعالى مع ما يتلوه من البينات و الحجج مما لا ينبغي أن يذعن به لبعده طبعاً؛ بيّن تعالى لذلك وجهاً بعد وجه على سبيل الترجي فقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ} إلخ ‌ {أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ} إلخ. 

  • فكأنه قيل: من المستبعد أن تهديهم إلى الحق الواضح و يسمعوا منك كلامي ثم لا يستجيبوا دعوتك و يكفروا بالحق بعد وضوحه فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك و غير داعيهم إليه و لذلك جبهوك بالإنكار أم يقولون إن القرآن ليس من كلام الله بل هو افتراء افتريته على الله و لذلك لم يؤمنوا به. فإن كنت تركت بعض الوحي خوفا من اقتراحهم عليك الآيات فإنما أنت نذير و ليس لك إلا ما شاء الله، و أن يقولوا افتراه فقل لهم يأتوا بعشر سور مثله مفتريات «إلخ». 

  • و مما تقدم يظهر أن إيراد الكلام مورد الترجي و الاحتمال لرعاية ما يقتضيه المقام من طبع الاستبعاد فالمقام مقام الاستبعاد و مقتضاه ذكر كل سبب محتمل التأثير في الحادثة المستبعدة، اعتبر ذلك في ملك ينتهي إليه تمرد بعض ضعفاء رعيته فيبعث بعض عماله إلى دعوتهم إلى السمع و الطاعة و يكتب في ذلك كتابا يأمره أن يقرأه عليهم و يلومهم على تمردهم و استكبارهم على ما بهم من الضعف و الذلة و لمولاهم من القوة و السطوة و العزة ثم يبلغ الملك أنهم ردوا على رسوله ما بلغهم من قبله، و يكتب إليه كتابا ثانيا يأمره بقراءته عليهم و إذا فيه: لعلك لم تقرأ كتابي عليهم مخافة أن يقترحوا عليك بما لا تقدر عليه أو أنهم زعموا أن الكتاب ليس من قبلي و إنما افتريته علي افتراء فإن كان الأول فإنك رسول ليس عليك إلا البلاغ و إن كان الثاني فإن الكتاب بخطي كتبته بيدي و ختمت عليه بخاتمي و لا يقدر أحد غيري أن يقلدني في ذلك. 

  • و التأمل في هذا المثال يعطي أن المقام فيما يتضمنه الكتاب الثاني من الخطاب مقام الاستبعاد، و أن القصد من ذكر الاحتمالين ترك الإبلاغ و زعم الافتراء ليس هو توبيخ الرسول جدا أو احتمال زعمهم الكذب و الفرية جدا، و إنما ذكر الوجهان 

تفسير الميزان ج۱۰

160
  • لداعي أن يكونا كالمقدمة لذكر ما يزول به الشبهتان؛ و هو أن الرسول ليس له من الأمر شي‌ء حتى يقترح عليه بما يقترح و أن الكتاب للملك ليس فيه ريب و لا شك. 

  • و من هنا يظهر أن قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَ ضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} إلخ، ليس يفيد الترجي الجدي و لا مسوقا لتوبيخ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا مرادا به تسليته و تطييب نفسه إثر ما كان يناله من الحزن و الأسى بكفرهم و جحودهم لما أتى به من الحق الصريح بل الكلام مسوق ليتوصل به إلى ذكر قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اَللَّهُ على كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَكِيلٌ} 

  • فما ذكره بعض المفسرين أن الكلام مسرود لنهي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الحزن و ضيق الصدر بما كانوا يواجهونه به من الكفر و الجحود، و النهي نهي تسلية و تطييب للنفس نظير ما في قوله: {وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} النحل: - ١٢٧، و قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} الشعراء: - ٤ كلام ليس في محله. 

  • و يظهر أيضا أن قوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} إلخ، و قوله: {أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ} إلخ، كشقي الترديد و يتصلان معا بما قبلهما من وجه واحد كما ذكرناه. 

  • و قوله: {تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ} إنما ذكر البعض لأن الآيات السابقة متضمنة لتبليغ الوحي في الجملة أي لعلك تركت بعض ما أوحينا إليك من القرآن فما تلوته عليهم فلم ينكشف لهم الحق كل الانكشاف حتى لا يجبهوك بما جبهوك به من الرد و الجحود، و ذلك أن القرآن بعضه يوضح بعضا و شطر منه يقرب شطرا منه من القبول كآيات الاحتجاج توضح الآيات المشتملة على الدعاوي، و آيات الثواب و العقاب تقرب الحق من القبول بالتطميع و التخويف، و آيات القصص و العبر تستميل النفوس و تلين القلوب. 

  • و قوله: {وَ ضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا} إلخ، قال في المجمع، ضائق و ضيق‌ بمعنى واحد إلا أن ضائق هاهنا أحسن لوجهين: أحدهما: أنه عارض و الآخر أنه أشكل بقوله تارك. انتهى. 

تفسير الميزان ج۱۰

161
  • و الظاهر أن ضمير {بِهِ} راجع إلى قوله: {بَعْضَ مَا يُوحى } و إن ذكر بعضهم أن الضمير راجع إلى قولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} إلخ، أو إلى اقتراحهم و هذا أوفق بكون قوله: {أَنْ يَقُولُوا} إلخ، بدلا من الضمير في {بِهِ} و ما ذكرناه أوفق بكونه مفعولا له لقوله: {تَارِكٌ} و التقدير: لعلك تارك ذلك مخافة أن يقولوا: لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك. 

  • و قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} جواب عن اقتراحهم بقولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} ، و قد تكرر في مواضع من كلامه تعالى ذكر ما اقترحوه اقتصر في بعضها على ذكر مجي‌ء الملك و زيد في بعضها عليه غيره كاقتراح الإتيان بالله سبحانه ليشهد على الرسالة و أن يكون له جنة يأكل منها و أن ينزل من السماء كتابا يقرءونه. و قد أجاب الله سبحانه عنها جميعا بمثل ما أجاب به هاهنا و هو أن رسوله ليس له إلا الرسالة فليس بيده و هو بشر رسول أن يجيبهم إلى ما اقترحوا به عليه إلا أن يشاء الله في ذلك شيئا و يأذن في إتيان آية كما قال {وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ} المؤمن: - ٧٨. 

  • ثم عقب قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} بقوله: {وَ اَللَّهُ على كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَكِيلٌ} لتتميم الجواب عن اقتراحهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمعجزات و محصله: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بشر مثلهم و لم يؤمر إلا بالإنذار و هو الرسالة بإعلام الخطر، و القيام بالأمور كلها و تدبيرها سواء كانت جارية على العادة أو خارقة لها إنما هو إلى الله سبحانه فلا وجه لتعلقهم بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما ليس إليه. 

  • و ذلك أن الله سبحانه هو الموجد للأشياء كلها و فاطرها و هو القائم على كل شي‌ء فيما يجري عليه من النظام فما من شي‌ء إلا و هو تعالى المبدأ في أمره و شأنه و المنتهى سواء الأمور الجارية على العادة و الخارقة لها فهو تعالى الذي يسلم إليه أمره و يدبر شأنه فهو تعالى الوكيل عليه فإن الوكيل هو الذي يسلم إليه الأمر و ينفذ فيه منه الحكم فهو تعالى على كل شي‌ء وكيل. 

تفسير الميزان ج۱۰

162
  • و بذلك يظهر أن قوله: {وَ اَللَّهُ على كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَكِيلٌ} بمعونة من قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} يفيد قصر القلب فإنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أمرا ليس إليه و إنما هو إلى الله تعالى. 

  • قوله تعالى{أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} قد تقدم من الكلام ما يصح به أخذ {أَمْ} متصلة لكون قوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} إلخ، في معنى الاستفهام، و التقدير: أ فأنت تارك بعض ما يوحى إليك خوفا من اقتراحهم المعجزة أم يقولون إنك افتريته علينا فإن من المستبعد أن يقرأ عليهم كلامي ثم لا يؤمنوا به و قيل: إن أم منقطعة و المعنى: بل يقولون افتراه. 

  • و قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} في الكلام تحد ظاهر و الضمير راجع إلى القرآن أو إلى السورة بما أنها قرآن و الفاء في {فَأْتُوا} تفيد تفريع الأمر على قوله: {اِفْتَرَاهُ} و في الكلام حذف و إيصال رعاية للإيجاز، و التقدير: قل لهم: إن كان هذا القرآن مما افتريته على الله كان من عندي و كان من الجائز أن يأتي بمثله غيري فإن كنتم صادقين في دعواكم و مجدين غير هازلين فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و استعينوا في ذلك بدعوة كل من تستطيعون من دون الله من أوثانكم الذين تزعمون أنهم آلهة تتسرعون إليهم في الحاجات و غيرهم من سائر الخلق حتى يتم لكم جميع الأسباب و الوسائل و لا يبقى أحد ممن يطمع في تأثير إعانته و يرجى نفعه في ذلك فلو كان من عندي لا من عند الله جاز أن تأتوا حينئذ بمثله. 

  • و قد بان بهذا البيان أن التحدي بالقرآن في الآية الكريمة ليس من حيث نظمه و بلاغته فحسب فإنه تعالى يأمرهم بالاستمداد من كل من استطاعوا دعوته من دون الله سواء في ذلك آلهتهم و غير آلهتهم و فيهم من لا يعرف الكلام العربي أو جزالة نظمه و صفة بلاغته فالتحدي عام لكل ما يتضمنه القرآن الكريم من معارف حقيقية و الحجج و البراهين الساطعة و المواعظ الحسنة و الأخلاق الكريمة و الشرائع الإلهية و الأخبار الغيبية و الفصاحة و البلاغة نظير ما في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ على أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 

تفسير الميزان ج۱۰

163
  • إسراء: - ٨٨، و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على إعجاز القرآن في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و بذلك يظهر فساد ما قيل إن جهة إعجاز القرآن إنما هي البلاغة و الفصاحة في هذا النظم المخصوص لأنه لو كان جهة الإعجاز غير ذلك لما قنع في المعارضة بالافتراء و الاختلاق لأن البلاغة ثلاث طبقات فأعلى طبقاتها معجز و أدناها و أوسطها ممكن فالتحدي في الآية إنما وقع في الطبقة العليا منها، و لو كان وجه الإعجاز الصرفة لكان الركيك من الكلام أبلغ في باب الإعجاز. 

  • و المثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس لأن مثله في الجنس يكون حكايته فلا يقع بها التحدي، و إنما يرجع في ذلك إلى ما هو متعارف بين العرب في تحدي بعضهم بعضا كما اشتهر من مناقضات امرئ القيس و علقمة و عمر بن كلثوم و الحارث بن حلزة و جرير و الفرزدق و غيرهم. انتهى. 

  • فإن فيه أولا: أن لو كانت جهة الإعجاز في القرآن هي بلاغته فحسب و هي أمر لا يعرفه غير العرب لم يكن لتشريك غيرهم في التحدي معنى، و لم يرجع قوله: {وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} على ما فيه من العموم و كذا قوله: {لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ} (الآية) إلى معنى محصل و لكان من الواجب أن يقال: لئن اجتمعت العرب» و ادعوا من استطعتم من آلهتكم و من أهل لغتكم. 

  • و ثانيا: أنه لو كانت جهة الإعجاز هي البلاغة فقط لم يصح الاحتجاج بمثل قوله: {وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً} النساء: - ٨٢، الظاهر في نفي مطلق الاختلاف فإن أكثر الاختلافات و هي التي يرجع إلى المعاني لا تضر بلاغة اللفظ. 

  • و ثالثا: أنه تعالى يتحدى بمثل قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} الطور: - ٣٤، و بقوله في سورة يونس {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} آية - ٣٨، و قد استفدنا فيما تقدم أن سورة يونس قبل سورة هود في ترتيب النزول 

تفسير الميزان ج۱۰

164
  • و يؤيده الأثر، ثم بقوله في هذه السورة: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} و لو كان جهة الإعجاز هي البلاغة خاصة لكانت هذه التحديات خارجة عن النظم الطبيعي إذ لا يصح أن يكلف البلغاء من العرب المنكرين لكون القرآن من عند الله بإتيان مثل سورة منه ثم بعده بإتيان عشر سور مفتريات بل مقتضى الطبع أن يتحدى بتكليفهم بإتيان مثل القرآن أجمع فإن عجزوا فبإتيان عشر سور مثله مفتريات فإن عجزوا فبإتيان سورة مثله. 

  • و قد ذكر بعضهم في التفصي عن هذا الإشكال أن الترتيب بين السور و نزول بعضها قبل بعض لا يستلزم الترتيب بين آيات السور فكم من آية مكية موضوعة في سورة مدنية و بالعكس فمن الجائز حينئذ أن تكون آيات التحدي بتمام القرآن نازلة قبل غيرها مطلقا ثم تكون آية التحدي بعشر سور مفتريات نازلة بعدها، و آية التحدي بسورة واحدة نازلة بعد الجميع. 

  • و فيه: أنه إنما ينفع لو صح نزول الآيات على ما صوره و إلا فالإشكال على حاله و الحق أن القرآن معجز في جميع صفاته المختصة به من بلاغة و فصاحة و ما فيه من المعارف الحقيقية و الأخلاق الكريمة و الشرائع الإلهية و القصص و العبر و الإخبار بالمغيبات و ما له من السلطان على القلوب و الجمال الحاكم في النفوس. 

  • و أما الوجه في التحدي بعشر سور مع ما في سورة يونس من التحدي بواحدة فقد قال في المجمع: فإن قيل: لم ذكر التحدي مرة بعشر سور و مرة بسورة و مرة بحديث مثله؟ فالجواب: أن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الإعجاز من منظوم الكلام فيجوز أن يتحدى مرة بالأقل و مرة بالأكثر. انتهى. 

  • أقول: و هو يصلح وجها لأصل التحدي بالواحد و الكثير و أما التحدي بالعشر بعد الواحدة و لا سيما على ما يراه من كون إعجازه بالبلاغة فحسب فلا. 

  • و ذكر بعضهم في توجيه ذلك أن القرآن الكريم معجز في جميع ما يتضمنه من المعارف و الأخلاق و الأحكام و القصص و غيرها و ينعت به من الفصاحة و البلاغة 

تفسير الميزان ج۱۰

165
  • و انتفاء الاختلاف، و إنما يظهر صحة المعارضة و الإتيان بالمثل عند إتيان عدة من السور يظهر به ارتفاع الاختلاف و خاصة من بين القصص المودعة فيها مع سائر الجهات كالفصاحة و البلاغة و المعارف و غيرها. 

  • و إنما يتم ذلك بإتيان أمثال السور الطويلة التي تشتمل على جميع الشئون المذكورة و تتضمن المعرفة و القصة و الحجة و غير ذلك كسورتي الأعراف و الأنعام. 

  • و التي نزلت من السور الطويلة القرآنية مما يشتمل على جميع الفنون المذكورة قبل سورة هود على ما ورد في الرواية هي سورة الأعراف و سورة يونس و سورة مريم و سورة طه و سورة الشعراء و سورة النمل و سورة القصص و سورة القمر و سورة محمد (صلى الله عليه و آله وسلم) فهذه تسع من السور عاشرتها سورة هود، و هذا الوجه هو في التحدي بأمرهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، انتهى بتلخيص منا و قد أطنب في كلامه. 

  • أقول: فيه أولا: أن لا تعويل على الأثر الذي عول عليه في ترتيب نزول السور فإنما هو من الآحاد التي لا تخلو عن ضعف و لا ينبغي بناء البحث التفسيري على أمثالها. 

  • و ثانيا: أن ظاهر قوله: {أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} أن رميهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالافتراء على الله سبحانه قول تقولوه بالنسبة إلى جميع السور القرآنية طويلتها و قصيرتها من غير أن يخصوا به سورة دون سورة فمن الواجب أن يجابوا بما يحسم مادة الشبهة بالنسبة إلى كل سورة قرآنية، و التحدي بما يفي بذلك، و عجزهم عن إتيان عشر سور مفتريات طويلة تجمع الفنون القرآنية لا يثبت به كون الجميع حتى السور القصار كسورتي الكوثر و العصر من عند الله اللهم إلا ببيان آخر يضم إليه و اللفظ خال من ذلك. 

  • و ثالثا: أن قوله: {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} إن كان ما فيه من الضمير راجعا إلى القرآن كما هو ظاهر كلام هذا القائل أفاد التحدي بإتيان عشر سور مفتريات مثله مطلقا سواء في ذلك الطوال و القصار فتخصيص التحدي بعشر سور طويلة جامعة 

تفسير الميزان ج۱۰

166
  • تقييد للفظ الآية من غير مقيد و هو تحكم و أشد منه تحكما القول بأن المراد بالمثل مثل السور العشر التي عدها. 

  • و إن كان الضمير راجعا إلى سورة هود كان مستبشعا من القول و كيف يستقيم أن يقال لمن يقول: إن سورة الكوثر و المعوذتين من الافتراء على الله: ائت بعشر سور مفتريات مثل سورة هود و يقتصر على ذلك؟ اللهم إلا أن يهذروا بأن سورة هود وحدها من الافتراء على الله تعالى فيتحدى عندئذ بأن يأتوا بمثلها، و لم نسمع أحدا منهم تفوه بذلك. 

  • و يمكن أن يقال في وجه الاختلاف الذي يلوح من آيات التحدي كقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} يونس: - ٣٨ الظاهر في التحدي بسورة واحدة و قوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} الظاهر في التحدي بعدد خاص فوق الواحد و قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} الطور: - ٣٤ الظاهر في التحدي بحديث يماثل القرآن و إن كان دون السورة أن كل واحدة من الآيات تؤم غرضا خاصا في التحدي. 

  • بيان ذلك: أن جهات القرآن و شئونه التي تتقوم به حقيقته و هو كتاب إلهي مضافا إلى ما في لفظه من الفصاحة و في نظمه من البلاغة إنما ترجع إلى معانيه و مقاصده لست أعني من المعنى ما يقصده علماء البلاغة في قولهم: إن البلاغة من صفات المعنى و الألفاظ مطروحة في الطريق يعنون به المفاهيم من جهة ترتبها الطبعي في الذهن فإن الذي يعنون به من المعنى موجود في الكذب الصريح من الكلام و في الهزل و في الفحش و الهجو و الفرية إذا جرت على أسلوب البلاغة و توجد في الكلام الموروث من البلغاء نظما و نثرا شي‌ء كثير من هذه الأمور. 

  • بل المراد من معنى القرآن و مقصده ما يصفه تعالى بأنه كتاب حكيم، و نور مبين، و قرآن عظيم، و فرقان، و هاد يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم، و قول فصل و ليس بالهزل، و كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و ذِكْرٌ و أنه يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و أنه شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا، و أنه تبيان لكل شي‌ء و لا يمسه إلا المطهرون. 

تفسير الميزان ج۱۰

167
  • فمن البين أن هذه كلها صفات لمعنى القرآن. و ليست صفات لما يقصده علماء البلاغة بالمعنى البليغ الذي ربما يشتمل عليه الباطل من الكلام الذي يسميه القرآن الكريم لغوا من القول و إثما و ينهى الإنسان عن تعاطيه و التفوه به و إن كان بليغا بل المعنى المتصف بهذه الصفات هو شي‌ء من المقاصد الإلهية التي تجري على الحق الذي لا يخالطه باطل، و تقع في صراط الهداية، و يكون الكلام المشتمل على معنى هذا نعته و غرض هذا شأنه هو الذي تتعلق العناية الإلهية بتنزيله و جعله رحمة للمؤمنين و ذكرا للعالمين. 

  • و هذا هو الذي يصح أن يتحدى به بمثل قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} فإنا لا نسمي الكلام حديثا إلا إذا اشتمل على غرض هام يتحدث به فينقل من ضمير إلى ضمير، و كذا قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} فإن الله لا يسمي جماعة من آيات كتابه و إن كانت ذات عدد سورة إلا إذا اشتملت على غرض إلهي تتميز بها من غيرها. 

  • و لو لا ذلك لم يتم التحدي بالآيات القرآنية و كان للخصم أن يختار من مفردات الآيات عددا ذا كثرة كقوله تعالى: {وَ اَلضُّحى } {وَ اَلْعَصْرِ} {وَ اَلطُّورِ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} {مُدْهَامَّتَانِ} {اَلْحَاقَّةُ مَا اَلْحَاقَّةُ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْحَاقَّةُ} {اَلرَّحْمَنُ} {مَلِكِ اَلنَّاسِ إِلَهِ اَلنَّاسِ} {وَ خَسَفَ اَلْقَمَرُ} {كَلاَّ وَ اَلْقَمَرِ} {سَنَدْعُ اَلزَّبَانِيَةَ} إلى غير ذلك من مفردات الآيات ثم يقابل كلا منها بما يناظرها من الكلام العربي من غير أن يضمن ارتباط بعضها ببعض و اشتمالها على غرض يجمعها و يخرجها في صورة الوحدة. 

  • فالذي كلف به الخصم في هذه التحديات هو أن يأتي بكلام يماثل القرآن مضافا إلى بلاغة لفظه في بيان بعض المقاصد الإلهية المشتملة على أغراض منعوتة بالنعوت التي ذكرها الله سبحانه. 

  • و الكلام الإلهي مع ما تحدى به في آيات التحدي يختلف بحسب ما يظهر من خاصته فمجموع القرآن الكريم يختص بأنه كتاب فيه ما يحتاج إليه نوع الإنسان إلى يوم القيامة من معارف أصلية و أخلاق كريمة و أحكام فرعية، و السورة من القرآن تختص ببيان جامع لغرض من الأغراض الإلهية المتعلقة بالهدى و دين الحق على بلاغتها 

تفسير الميزان ج۱۰

168
  • الخارقة و هذه خاصة غير الخاصة التي يختص بها مجموع القرآن الكريم، و العدة من السور كالعشر و العشرين منها تختص بخاصة أخرى و هي بيان فنون من المقاصد و الأغراض و التنوع فيها فإنها أبعد من احتمال الاتفاق فإن الخصم إذا عجز عن الإتيان بسورة واحدة كان من الممكن أن يختلج في باله أن عجزه عن الإتيان بها إنما يدل على عجز الناس عن الإتيان بمثلها لا على كونها نازلة من عند الله موحاة بعلمه فمن الجائز أن يكون كسائر الصفات و الأعمال الإنسانية التي من الممكن في كل منها أن يتفرد به فرد من بين أفراد النوع اتفاقا لتصادق أسباب موجبة لذلك كفرد من الإنسان موصوف بأنه أطول الأفراد أو أكبرهم جثة أو أشجعهم أو أسخاهم أو أجبنهم أو أبخلهم. 

  • و هذا الاحتمال و إن كان مدفوعا عن السورة الواحدة من القرآن أيضا التي يقصدها الخصم بالمعارضة فإنها كلام بليغ مشتمل على معان حقة ذات صفات كريمة خالية عن مادة الكذب، و ما هذا شأنه لا يقع عن مجرد الاتفاق و الصدفة من غير أن يكون مقصودا في نفسه ذا غرض يتعلق به الإرادة. 

  • إلا أنه أعني ما مر من احتمال الاتفاق و الصدفة عن السور المتعددة أبعد لأن إتيان السورة بعد السورة و بيان الغرض بعد الغرض و الكشف عن خبي‌ء بعد خبي‌ء لا يدع مجالا لاحتمال الاتفاق و الصدفة و هو ظاهر. 

  • إذا تبين ما ذكرناه ظهر أن من الجائز أن يكون التحدي بمثل قوله: {قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ على أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} إسراء: - ٨٨ واردا مورد التحدي بجميع القرآن لما جمع فيه من الأغراض الإلهية و يختص بأنه جامع لعامة ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، و قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} لما فيها من الخاصة الظاهرة و هي أن فيها بيان غرض تام جامع من أغراض الهدى الإلهي بيانا فصلا من غير هزل، و قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} تحديا بعشر من السور القرآنية لما في ذلك من التفنن في البيان و التنوع في الأغراض من جهة الكثرة، و العشرة من ألفاظ الكثرة كالمائة و الألف؛

تفسير الميزان ج۱۰

169
  • قال تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} البقرة: - ٩٦؛ فالمراد بعشر سور و الله أعلم السور الكثيرة الحائزة لبعض مراتب الكثرة المعروفة بين الناس فكأنه قيل: فأتوا بعدةٍ من سورها و لتكن عشرا ليظهر به أن تنوع الأغراض القرآنية في بيانه المعجز ليس إلا من قبل الله. 

  • و أما قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} فكأنه تحد بما يعم التحديات الثلاثة السابقة فإن الحديث يعم السورة و العشر سور و القرآن كله فهو تحد بمطلق الخاصة القرآنية و هو ظاهر. 

  • بقي هنا أمران أحدهما أنه: لم يقع في شي‌ء من آيات التحدي المذكورة توصيف ما يأتي به الخصم بالافتراء إلا في هذه الآية إذ قيل فيها: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} بخلاف قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} فلم يقل فيه: «فأتوا بسورة مثله مفتراة» و كذا في سائر آيات التحدي. 

  • و لعل الوجه في ذلك أن نوع العناية في الآية المبحوث عنها غير نوع العناية في سائر آيات التحدي فإن العناية في سائر الآيات متعلقة بأنهم لا يقدرون على الإتيان بمثل القرآن أو بمثل السورة لما أنه قرآن مشتمل على جهات لا تتعلق بها قدرة الإنسان و لا يظهر عليها غيره تعالى و قد أطلق القول فيها إطلاقا. 

  • و أما هذه الآية فلما عقبت بقوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ} دل ذلك على أن التحدي فيها إنما هو بكون القرآن متضمنا لما يختص علمه بالله تعالى و لا سبيل لغيره إليه، و هذا أمر لا يقبل الافتراء بذاته فكأنه قيل: إن هذا القرآن لا يقبل بذاته افتراء فإنه متضمن لأمور من العلم الإلهي الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه، و إن ارتبتم في ذلك فأتوا بعشر سور مثله مفتريات تدعون أنها افتراء، و استعينوا بمن استطعتم من دون الله فإن لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من العلم المخصوص به تعالى. فافهم ذلك. 

  • و ثانيهما: معنى التحدي بالمثل حيث قيل: {بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ} {بِحَدِيثٍ 

تفسير الميزان ج۱۰

170
  •  مثْلِهِ}، {بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}، {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} و الوجه الظاهر فيه أن الكلام لما كان آية معجزة فلو أتى إنسان بما يماثله لكفى في إبطال كونه آية معجزة و لم يحتج إلى الإتيان بما يترجح عليه في صفاته و يفضل عليه في خواصه. 

  • و ربما يورد عليه أن عدم قدرة غيره (صلى الله عليه وآله و سلم) على ذلك لا يدل على كونه معجزة غير مستندة إليه لأن صفات الكمال التي توجد في النوع الإنساني كالبلاغة و الكتابة و الشجاعة و السخاء و غيرها لها مراتب متفاوتة مختلفة يفضل بعضها على بعض، و إذا كان كذلك كان من المراتب ما هو فوق الجميع و هو غاية ما يمكن أن ترتقي إليه النفس الإنسانية البتة. 

  • فكل صفة من صفات الكمال يوجد بين الأفراد الموصوفين بها من هو حامل للدرجة العليا و الغاية القصوى منها بحيث لا يعدله غيره و لا يعارضه أحد ممن سواه فبالضرورة بين أفراد الإنسان عامة من هو أبلغهم أو أكتبهم أو أشجعهم أو أسخاهم كما أن بينهم من هو أطولهم قامة و أكبرهم جثة، و لم لا يجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أفصح الناس جميعا و أبلغهم و القرآن من كلامه الذي لا يسع لأحد أن يعارضه فيه لوقوفه موقفا ليس لغيره فيه موضع قدم؛ فلا يكون عندئذ عجز غيره عن الإتيان دليلا على كونه كلاما إلهيا غير بشري لجواز كونه كلاما بشريا مختصا به (صلى الله عليه وآله و سلم) مضنونا عن غيره. هذا. 

  • و يدفعه أن الصفات الإنسانية التي يقع فيها التفاضل و إن كانت على ما ذكر لكنها أيّاً ما كانت فهي مما تسمح بها الطبيعة الإنسانية بما أودع الله فيها من الاستعداد من غير أن تنشأ عن اتفاق و من غير سبب يمكن الفرد الموصوف من الاتصاف بها. 

  • و إذا كان كذلك و فرض فرد من الإنسان اختص بصفة فاضلة لا يعدله غيره و لا يفوقه سواه كان لغيره أن يسلك ما مهده من السبيل و يتعود بالتمرن و التدرب و الارتياض بما يأتيه من الأعمال التي تصدر عما عنده من صفة الكمال فيأتي بما يماثل بعض ما يختص به من الكمال و يقلده في نبذة من أعماله و إن لم يقدر على أن يزاحمه في الجميع و يماثله في الكل، و يبقى للفرد النابغ المذكور مقام الأصالة و السبقة و التقدم 

تفسير الميزان ج۱۰

171
  • في ذلك فالحاتم مثلا و إن كان هو المتفرد غير المعارض في سخائه و جوده من غير أن يسع غيره أن يتقدم عليه و يسبقه لكن من الممكن أن يرتاض مرتاض في سبيله فيتمرن و يتدرب فيه فيأتي بشي‌ء من نوع سخائه و جوده و إن لم يقدر على مزاحمته في الجميع و في أصل مقامه، و الكمالات الإنسانية التي هي منابع للأعمال سبيلها جميعا هذا السبيل، و يتمكن الإنسان بالتمرن و التدرب على سلوك سبيل السابقين المبدعين فيها و الإتيان بشي‌ء من أعمالهم و إن لم يسع مزاحمتهم في أصل موقفهم. 

  • فلو كان القرآن من كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على فرض أنه أبلغ إنسان و أفصحه كان من الجائز أن يهتم غيره فيتمرن على سلوك ما أبدعه في كلامه من النظم البديع فيقدر على تقليده في شي‌ء من الكلام و إتيان شي‌ء من القول بسورة مثله و إن لم يقدر على تقليد القرآن كله و الإتيان بجميعه. 

  • و لم يقل فيما تحدى به: فليأتوا بحديث أبلغ منه أو أحسن أو بسورة هي أبلغ أو أحسن حتى يقال: إن القرآن أبلغ كلام بشري أو أحسنه ليس هناك ما هو أبلغ أو أحسن منه حتى يأتي به آت فلا يدل عدم القدرة على الإتيان بذلك على كونه كلاما لغير البشر، بل إنما قال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} و هكذا و في وسع البشر الإتيان بمثل كلام غيره من البشر و إن فرض كون ذلك الغير ذا موقف من الكلام لا يعارضه غيره على ما بيناه فالشبهة مندفعة بقوله تعالى: {مِثْلِهِ} 

  • قوله تعالى{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ وَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} إجابة الدعوة و استجابتها بمعنى. 

  • و الظاهر من السياق أن الخطاب في الآية للمشركين، و أنه من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي أمر بقوله تعالى: {قُلْ} أن يلقيه إليهم، و على هذا فضمير الجمع في قوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا} راجع إلى الآلهة و كل من استعانوا به المدلول عليهم بقوله: {وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} 

  • و المعنى: فإن لم يستجب لكم معاشر المشركين هؤلاء الذين دعوتموهم من 

تفسير الميزان ج۱۰

172
  • آلهتكم و من بلغاء أهل لسانكم العارفين بأساليب الكلام و علماء أهل الكتاب الذين عندهم الكتب السماوية و أخبار الأنبياء و الأمم و الكهنة المستمدين من إلقاء شياطين الجن، و جهابذة العلم و الفهم من سائر الناس المتعمقين في المعارف الإنسانية بأطرافها فاعلموا أنما أنزل هذا القرآن بعلم الله و لم يختلق عن علمي أنا و لا غيري ممن تزعمون أنه يعلمني و يملي علي، و اعلموا أيضا أن ما أدعوكم إليه من التوحيد حق فإنه لو كان هناك إله من دون الله لنصركم على ما دعوتموه إليه فهل أنتم أيها المشركون مسلمون لله تعالى منقادون لأمره؟

  • فقوله تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} في معنى قولنا: فإن لم تقدروا على المعارضة بعد الاستعانة و الاستمداد بمن استطعتم أن تدعوهم من دون الله، و ذلك أن الأسباب التي توجب قدرتهم على المعارضة هي ما عندهم من قدرة البيان و قريحة البلاغة و هم يرون أن ذلك من مواهب آلهتهم من دون الله و كذا ما عند آلهتهم مما لم يهبوهم بعد، و لهم أن يؤيدوهم به إن شاءوا على زعمهم، و أيضا ما عند غير آلهتهم من المدد، و إذا لم يستجبهم الذين يدعونهم في معارضة القرآن فقد ارتفع جميع الأسباب الموجبة لقدرتهم و ارتفعت بذلك قدرتهم فعدم إجابة الشركاء على معارضة القرآن ملازم لعدم قدرتهم عليها حتى بما عند أنفسهم من القدرة ففي الكلام كناية. 

  • و قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ} الظاهر أن المراد بعلم الله هو العلم المختص به و هو الغيب الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه إلا بإذنه كما قال تعالى: {لَكِنِ اَللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} النساء: - ١٦٦، و قال {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} يوسف: - ١٠٢، و قال {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ} الجن: - ٢٧، و قال {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} الواقعة: - ٨٠. 

  • فالمعنى: فإن لم تقدروا على معارضته بأي سبب ممد تعلقتم به من دون الله، فتيقنوا أنه لم ينزل إلا عن سبب غيبي و أنه من أنباء الغيب الذي يختص به تعالى فهو الذي أنزله علي و كلمني به و أراد تفهيمي و تفهيمكم بما فيه من المعارف الحقة و ذخائر الهداية. 

تفسير الميزان ج۱۰

173
  • و ذكر بعضهم أن المراد به أنه إنما أنزل على علم من الله بنزوله و شهادة منه له، و ذكر آخرون أن المراد أنه إنما أنزل بعلم من الله أنه لا يقبل المعارضة أو بعلم من الله بنظمه و ترتيبه و لا يعلم غيره ذلك و هذه معان واهية بعيدة عن الفهم. 

  • و الجملة أعني قوله: {أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ} إحدى النتيجتين المأخوذتين من عدم استجابة شركائهم لهم. و النتيجة الأخرى قوله: {وَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} و لزوم هذه النتيجة من وجهين: أحدهما: أنهم إذا دعوا آلهتهم لما يهمهم من الأمور فلم يجيبوهم كشف ذلك عن أنهم ليسوا بآلهة فليس الإله إلا من يجيب المضطر إذا دعاه و خاصة إذا دعاه لما فيه نفع الإله المدعو فإن القرآن الذي أتى به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقطع دابرهم و يميت ذكرهم و يصرف الناس عن التوجه إليهم فإذا لم يجيبوا أولياءهم إذا دعوهم لمعارضة كتاب هذا شأنه كان ذلك من أوضح الدليل على نفي ألوهيتهم. 

  • و ثانيهما: أنه إذا صح أن القرآن حق نازل من عند الله صادق فيما يخبر به، و مما يخبر به أنه ليس مع الله إله آخر علم بذلك أنه لا إله إلا الله سبحانه. 

  • و قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي لمّا علمتم و اتضح لكم من جهة عدم استجابة شركائكم من دون الله و عجزكم عن المعارضة فهل أنتم مسلمون لما وقع عليه علمكم هذا من توحيد الله سبحانه و كون هذا القرآن كتابا نازلا بعلمه؟! و هو أمر بالإسلام في صورة الاستفهام. هذا كله ما يقتضيه ظاهر الآية. 

  • و قيل: إن الخطاب في قوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} إلخ، للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خوطب بلفظ الجمع تعظيما له و تفخيما لشأنه، و ضمير الجمع الغائب راجع إلى المشركين أي: فإن لم يستجب المشركون لما دعوتهم أيها النبي إليه من المعارضة، فاعلم أنه منزل بعلم الله و أن الله واحد فهل أنت مسلم لأمره. 

  • و فيه أنه قد صح أن التعظيم بلفظ الجمع و الكثرة يختص في الكلام العربي بالمتكلم و أما الخطاب و الغيبة فلا تعظيم فيها بلفظ الجمع. 

تفسير الميزان ج۱۰

174
  • مضافا إلى أن استناد الوحي الإلهي و التكليم الرباني إليه تعالى استناد ضروري لا يقبل الشك حتى يستعان عليه بالدليل فما يتلقاه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دلالته على كونه كلاما من الله دلالة ضرورية غير محتاجة إلى حجة حتى يحتج عليه بعدم إجابة المشركين إلى معارضة القرآن و عجزهم عنها، بخلاف كلام المخلوقين من الإنسان و الجنّ و الملك و أي هاتف آخر فإنه يحتاج في حصول العلم باستناده إلى متكلمه إلى دليل خارجي من حسٍ أو عقل، و قد تقدمت إشارة إلى ذلك في قصة زكريا من سورة آل عمران، و سيجي‌ء البحث المستوفى عن ذلك فيما يناسبه من المورد إن شاء الله تعالى. 

  • على أن خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمثل قوله: {وَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، و قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لا يخلو عن بشاعة؛ على أن نفس الاستدلال أيضا غير تام كما سنبين. 

  • و قيل: إن الخطاب في الآية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين جميعا أو للمؤمنين خاصة لأن المؤمنين يشاركونه (صلى الله عليه وآله و سلم) في الدعوة الدينية و التحدي بالقرآن الذي هو كتاب ربهم المنزل عليهم، و المعنى: فإن لم يستجب المشركون لكم في المعارضة فاعلموا أن القرآن منزل بعلم الله و أن لا إله إلا هو فهل تسلمون أنتم لله؟ 

  • و لما تفطن بعضهم أن لا معنى لدعوة المؤمنين و هم مؤمنون بالله وحده و بكتابه إلى العلم بأنه كتاب نازل من عند الله و بأنه تعالى واحد لا شريك له، أصلحه بأنّ المراد فاثبتوا على علمكم أنه إنما أنزل بعلم الله و ازدادوا به إيمانا و يقينا و أنه لا إله إلا هو و لا يستحق العبادة سواه فهل أنتم ثابتون على إسلامكم و الإخلاص فيه؟ 

  • و فيه أنه تقييد للآية من غير مقيد و الحجة غير تامة، و ذلك أن المشركين لو كانوا وقفوا موقف المعارضة بما عندهم من البضاعة و استعانوا عليها بدعوة آلهتهم و سائر من يطمعون فيه من الجن و الإنس ثم عجزوا، كان ذلك دليلا واضحاً يدلهم على أن القرآن فوق كلام البشر و تمت بذلك الحجة عليهم، و أما عدم استجابة الكفار للمعارضة فليس يدل على كونه من عند الله لأنهم لم يأتمروا بما أمروا به بقوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} إما لعلمهم بأنه كلام الله الحق و إنما كان قولهم: 

تفسير الميزان ج۱۰

175
  • {اِفْتَرَاهُ} قولا ناشئا عن العناد و اللجاج لا عن إذعان به أو شك فيه، أو لأنهم كانوا آيسين من استجابة شركائهم للدعوة على المعارضة، أو لأنهم كانوا هازلين في قولهم ذلك يهذرون هذرا. 

  • و بالجملة عدم استجابة المشركين للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو للمؤمنين أو لهم جميعا لا يدل بنفسه على كون القرآن نازلا من عند الله إلا إذا كان عدم الاستجابة المذكورة بعد تحقق دعوتهم شركاءهم إلى المعارضة و عدم استجابتهم لهم، و لم يتحقق من المشركين دعوة على هذه الصفة، و مجرد عدم استجابة المشركين أنفسهم لا ينفع شيئا، و لا يبقى إلا أن يقال: إن معنى الآية: فإن دعا المشركون من استطاعوا من دون الله فلم يستجيبوا لهم و لم يستجب المشركون لكم أيها النبي و معاشر المؤمنين فاعلموا أنما أنزل بعلم الله إلخ، و هذا هو الذي أومأنا إليه آنفا أنه تقييد للآية من غير مقيد. 

  • على أن فيه أمرا للمؤمنين أن يهتدوا في إيمانهم و يقينهم بأمر فرضي غير واقع و كلامه تعالى يجل عن ذلك، و لو أريدت الدلالة على أنهم غير قادرين على ذلك و إن دعوا شركاءهم إلى المعارضة كان من حق الكلام أن يقال: فإن لم يستجيبوا لكم و لن يستجيبوا فاعلموا إلخ، كما قيل كذلك في نظيره قال تعالى: {وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا اَلنَّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} البقرة: - ٢٤. 

  • قوله تعالى{مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} التوفية إيصال الحق إلى صاحبه و إعطاؤه له بكماله، و البخس‌ نقص الأجر. 

  • و في الآية تهديدٌ لهؤلاء الذين لا يخضعون للحق لمّا جاءهم و لا يسلمون له إيثاراً للحياة الدنيا و نسيانا للآخرة، و بيانٌ لشي‌ء من سنة الأسباب القاضية عليهم باليأس من نعيم الحياة الآخرة. 

  • و ذلك أن العمل كيفما كان فإنما يسمح للإنسان بالغاية التي أرادها به و عمله 

تفسير الميزان ج۱۰

176
  • لأجلها، فإن كانت غاية دنيوية تصلح شئون الحياة الدنيا من مال و جمال و حسن حال ساقه العمل إن أعانته سائر الأسباب العاملة إلى ما يرجوه بالعمل و أما الغايات الأخروية فلا خبر عنها لأنها لم تقصد حتى تقع، و مجرد صلاحية العمل لأن يقع في طريق الآخرة و ينفع في الفوز بنعيمها كالبر و الإحسان و حسن الخلق لا يوجب الثواب و ارتفاع الدرجات ما لم يقصد به وجه الله و دار ثوابه. 

  • و لذلك عقبه بقوله تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنَّارُ وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فأخبر أنهم إذا وردوا الحياة الآخرة وقعوا في دار حقيقتها أنها نار تأكل جميع أعمالهم في الحياة كما تأكل النار الحطب و تبير و تهلك كل ما تطيب به نفوسهم من محاسن الوجود، و تحبط جميع ما صنعوا فيها و تبطل ما أسلفوا من الأعمال في الدنيا، و لذلك سماها سبحانه في موضع آخر بدار البوار أي الهلاك فقال تعالى: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} إبراهيم: - ٢٩، و بذلك يظهر أن كلا من قوله: {وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} و قوله: {وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يفسر قوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنَّارُ} نوعا ما من التفسير. 

  • و بما تقدم يظهر أولا: أن المراد من توفية أعمالهم إليهم توفية نتائجها و إيصال الآثار التي لها بحسب نظام الأسباب و المسببات، لا ما يقصده الفاعل بفعله و يرجوه بمسعاه؛ فإنّ الذي يناله الفاعل في هذه النشأة بفعله هو نتيجة الفعل التي يعِينه سائر الأسباب العاملة عليها، لا ما يؤمه الفاعل كيفما كان؛ فما كل ما يتمنى المرء يدركه. 

  • و قد عبر تعالى عن هذه الحقيقة في موضع آخر بقوله: {وَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} الشورى: - ٢٠، فقال تعالى: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} و لم يقل: نؤته إياها، و قال في موضع آخر {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} إسراء: - ١٨ فذكر ما يريده الإنسان من الدنيا و يناله منها و زاد بيانا أنه ليس كل من يريد أمرا يناله و لا كل ما يراد ينال، بل الأمر إلى الله سبحانه يعطي ما يشاء و يمنع ما يشاء و يقدم من يريد و يؤخر من يريد على ما تجري عليه سنة الأسباب. 

تفسير الميزان ج۱۰

177
  •  و ثانيا: أن الآيتين أعني قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} إلى آخر الآيتين تبينان حقيقة من الحقائق الإلهية. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي: في قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} (الآية) : بإسناده عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن سدير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أخبرني جابر بن عبد الله أن المشركين كانوا إذا مرّوا برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حول البيت طأطأ أحدهم رأسه و ظهره هكذا و غطى رأسه بثوب لا يراه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله: {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ} (الآية) .

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي رزين قال:كان أحدهم يحني ظهره و يستغشي بثوبه. 

  • و في المجمع روي عن علي بن الحسين و أبي جعفر و جعفر بن محمد (عليه السلام) : يثنوني على يفعوعل. 

  • و في تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) رجل من أهل البادية فقال: يا رسول الله إن لي بنين و بنات و إخوة و أخوات و بني بنين و بني بنات و بني إخوة و بني أخوات و المعيشة علينا خفيفة فإن رأيت يا رسول الله أن تدعو الله أن يوسع علينا . 

  • قال: و بكى فرق له المسلمون فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : {مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} من كفل بهذه الأفواه المضمونة على الله رزقها صب الله عليه الرزق صبا كالماء المنهمر إن قليل فقليلا و إن كثير فكثيرا. قال: ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمن له المسلمون . 

  • قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : فحدثني من رأى الرجل في زمن عمر فسأله عن 

تفسير الميزان ج۱۰

178
  •  حاله فقال: من أحسن من خوله حلالا و أكثرهم مالا. 

  • و في الدر المنثور أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني. 

  • أقول: و الرواية غير ظاهرة في تفسير الآية. 

  • و في الكافي بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في حجة الوداع: ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب، و لا يحملنكم استبطاء شي‌ء من الرزق أن تطلبوه بشي‌ء من معصية الله؛ فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسمها حراما فمن اتقى الله و صبر أتاه رزقه من حله، و من هتك حجاب ستر الله عز و جل و أخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال و حوسب عليه.

  • أقول: الرواية من المشهورات رواها العامة و الخاصة بطرق كثيرة. 

  • و في تفسير العياشي عن أبي الهذيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله قسم الأرزاق بين عباده و أفضل فضلا كبيرا لم يقسمه بين أحد قال الله: {وَ سْئَلُوا اَللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}. 

  • أقول: و الرواية مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قد تقدمت بعض ما في هذا المعنى من الأخبار في ذيل قوله تعالى: {وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} سورة آل عمران آية - ٢٧، و قوله تعالى: {وَ سْئَلُوا اَللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} سورة النساء: آية - ٣٢. 

  • و في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرا ما يقول: اعلموا علما يقينا أن الله جل و عز لم يجعل للعبد و إن اشتد جهده، و عظمت حيلته و كثرت مكايده أن يسبق ما سمي له في الذكر الحكيم. أيها الناس إنه لن يزداد امرؤ نقيرا بحذقه، و لن ينقص امرؤ نقيرا لحمقه فالعالم بهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعته و العالم بهذا التارك له أعظم الناس شغلا في مضرته، و رب 

تفسير الميزان ج۱۰

179
  • منعم عليه مستدرج بالإحسان إليه و رب مغرور في الناس مصنوع له. 

  • فاتق الله أيها الساعي عن سعيك، و قصر من عجلتك، و انتبه من سنة غفلتك و تفكر فيما جاء عن الله عز و جل على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) (الحديث) . 

  • و في الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أظن أن علي بن الحسين يدع خلقا أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني - فقال له أصحابه: بأي شي‌ء وعظك؟ فقال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني أبو جعفر محمد بن علي و كان رجلا بادنا ثقيلا و هو متكئ على غلامين أسودين أو موليين فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا أما إني لأعظنه . 

  • فدنوت منه و سلمت عليه فرد علي بنهر و هو ينصاب عرقا فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا أ رأيت لو جاء أجلك و أنت على هذه الحال؟ فقال: لو جاءني الموت و أنا على هذه الحال جاءني و أنا في طاعة من طاعة الله عز و جل أكف بها نفسي و عيالي عنك و عن الناس، و إنما كنت أخاف أن جاءني الموت و أنا على معصية من معاصي الله. فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني. 

  • و فيه بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: استقبلت أبا عبد الله في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحر فقلت: جعلت فداك حالك عند الله عز و جل و قرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال: يا عبد الأعلى خرجت في طلب الرزق لأستغني به عن مثلك.

  • أقول: و لا منافاة بين القضاء بالرزق و بين الأمر بطلبه. و هو ظاهر. 

  • و في الدر المنثور أخرج الطيالسي و أحمد و الترمذي و حسنه و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ في العظمة و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء و ما فوقه هواء، و خلق عرشه على الماء. 

تفسير الميزان ج۱۰

180
  • أقول: العماء الغيم الذي يمنع نفوذ البصر فيه، و «ما» في قوله: «ما تحته هواء و ما فوقه هواء» موصولة و المراد بالهواء هو الخالي من كل شي‌ء كما في قوله تعالى: {وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أو أنها نافية و المراد بالهواء معناه المعروف، و المراد به أنه كان عماء لا يحيط به الهواء على خلاف سائر العماءات. 

  • و الرواية من أخبار التجسم و لذا وجه بأن قوله: في عماء إلخ كناية عن غيب الذات الذي تكل عنه الأبصار و تتحير فيه الألباب. 

  • و فيه أخرج أحمد و البخاري و الترمذي و النسائي و أبو الشيخ في العظمة و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن: يا رسول الله أخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: كان الله قبل كل شي‌ء، و كان عرشه على الماء، و كتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شي‌ء، و خلق السماوات و الأرض. فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا بن الحصين فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فوالله لوددت أني تركتها. 

  • أقول: و روى عدة من رجال الحديث هذه الرواية عن بريدة: و قال بريدة في آخرها: «ثم أتاني آت فقال: هذه ناقتك قد ذهبت فخرجت و السراب ينقطع دونها فلوددت أني كنت تركتها» و هذا مما يوهن الحديثين. 

  • و فيه: في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} : أخرج داود بن المحبر في كتاب العقل و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم في التاريخ و ابن مردويه عن ابن عمر قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا. ثم قال: و أحسنكم عقلا أورعكم عن محارم الله و أعلمكم‌۱ بطاعة الله. 

  • و في الكافي مسندا عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول الله عز و جل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} قال: قال: ليس يعني أكثركم عملا و لكن أصوبكم عملا، و إنما الإصابة خشية الله و النية الصادقة. 

    1. أعملكم ظ.

تفسير الميزان ج۱۰

181
  • ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، و العمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز و جل و النية أفضل من العمل ألا إن النية هي العمل ثم تلا قوله عز و جل: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} يعني على نيته.

  • أقول: قوله ألا إن النية هي العمل يعني ليس للعمل أثر إلا لما معه من النية.

  • و في تفسير النعماني بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قوله: {لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} قال: العذاب خروج القائم (عليه السلام) و الأمة المعدودة أهل بدر و أصحابه.

  • أقول: و روى هذا المعنى الكليني في الكافي و القمي و العياشي في تفسيريهما عن علي و الباقر و الصادق (عليه السلام) . 

  • و في المجمع قيل: إن الأمة المعدودة هم أصحاب المهدي ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا كعدة أهل بدر يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف قال: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) .

  • و في تفسير القمي: في قوله: {إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} قال:قال: صبروا في الشدة و عملوا الصالحات في الرخاء. 

  • و في الدر المنثور: في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا} : أخرج البيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إذا كان يوم القيامة صارت أمتي ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصا، و فرقة يعبدون الله رياء، و فرقة يعبدون الله يصيبون به دنيا، فيقول للذي كان يعبد الله للدنيا: بعزتي و جلالي ما أردت بعبادتي؟ فيقول: الدنيا فيقول: لا جرم لا ينفعك ما جمعت و لا ترجع إليه انطلقوا به إلى النار، و يقول للذي يعبد الله رياء: بعزتي و جلالي ما أردت بعبادتي؟ قال: الرياء فيقول: إنما كانت عبادتك التي كنت ترائي بها لا يصعد إلي منها شي‌ء و لا ينفعك اليوم انطلقوا به إلى النار . 

  • و يقول للذي كان يعبد الله خالصا: بعزتي و جلالي ما أردت بعبادتي؟ فيقول: بعزتك و جلالك لأنت أعلم به مني كنت أعبدك لوجهك و لدارك قال: صدق عبدي 

تفسير الميزان ج۱۰

182
  •  انطلقوا به إلى الجنة. 

  • [سورة هود (١١) : الآیات ١٧ الی ٢٤] 

  • {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسى إِمَاماً وَ رَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٧ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ اَلْأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ ١٨ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ١٩ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ٢٠أُولَئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ٢١ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ ٢٢ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ أَخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٢٣ مَثَلُ اَلْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ اَلْأَصَمِّ وَ اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ ٢٤} 

تفسير الميزان ج۱۰

183
  • (بيان) 

  • ظاهر الآيات أنها واقعة موقع التطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تقوية إيمانه بكتاب الله و تأكيد ما عنده من البصيرة في أمره، فالكلام جارٍ على ما كان عليه من خطابه (صلى الله عليه وآله و سلم) فقد كان وجه الكلام إليه حتى انتهى إلى ما اتهموه به من الافتراء على الله سبحانه، فأمره أن يتحدى عليهم بإتيان عشر سور مثله مفتريات، ثم أمره أن يطيب نفسا و يثبت على ما عنده من العلم بأنه منزل من عند الله فإنما هو على الحق و ليس بمفترٍ فلا يستوحش من إعراض الأكثرين و لا يرتاب. 

  • قوله تعالى{أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسى إِمَاماً وَ رَحْمَةً} الجملة تفريع على ما مضى من الكلام الذي هو في محل الاحتجاج على كون القرآن كتابا منزلا من عند الله سبحانه، و {مَنْ} مبتدأ خبره محذوف و التقدير: كغيره، أو ما يؤدي معناه، و الدليل عليه قوله تلواً: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 

  • و الاستفهام إنكاري و المعنى: ليس من كان كذا و كذا كغيره ممن ليس كذلك و أنت على هذه الصفات فلا تك في مرية من القرآن. 

  • و قوله: {عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} البينة صفة مشبهة معناها الظاهرة الواضحة، غير أن الأمور الظاهرة الواضحة ربما أوضحت ما ينضم إليها و يتعلق بها كالنور الذي هو بيّن ظاهر و يظهر به غيره، و لذلك كثر استعمال البينة فيما يتبين به غيره كالحجة و الآية، و يقال للشاهد على دعوى المدعي بينة. 

  • و قد سمى الله تعالى الحجة بينة كما في قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} الأنفال: - ٤٢ و سمى آيته بينة كما في قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اَللَّهِ لَكُمْ آيَةً} الأعراف: - ٧٣ و سمى البصيرة الخاصة الإلهية التي أوتيها الأنبياء بينة كما في قوله حكاية عن نوح (عليه السلام): {يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} هود: - ،٢٨ أو مطلق البصيرة الإلهية كما هو ظاهر قوله تعالى: 

تفسير الميزان ج۱۰

184
  • {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اِتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} سورة محمد: - ١٤ و قد قال تعالى في معناه: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} الأنعام: - ١٢٢. 

  • و الظاهر أن المراد بالبينة في المقام هو هذا المعنى الأخير العام بقرينة قوله بعد: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} و إن كان المراد به بحسب المورد هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنّ الكلام مسوق ليتفرع عليه قوله: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} 

  • فالمراد بها البصيرة الإلهية التي أوتيها النبي (عليه السلام) لا نفس القرآن النازل عليه فإنه لا يحسن ظاهرا أن يتفرع عليه قوله: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} و هو ظاهر، و لا ينافيه كون القرآن في نفسه بينة من الله من جهة كونه آية منه تعالى كما في قوله: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ} الأنعام: - ٥٧ فإن المقام غير المقام. 

  • و بما مر يظهر أن قول من يقول: إن المراد بمن كان إلخ، النبي خاصة إرادة استعمالية ليس في محله و إنما هو مراد بحسب انطباق المورد. و كذا قول من قال: إن المراد به المؤمنون من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلا دليل على التخصيص. 

  • و يظهر أيضا فساد القول بأن المراد بالبينة هو القرآن، و كذا القول بأنها حجة العقل و أضيفت إلى الرب تعالى لأنه ينصب الأدلة العقلية و النقلية؛ و وجه فساده أنه لا دليل على التخصيص و لا تقاس البينة القائمة للنبي (عليه السلام) من ناحيته تعالى بالتعريف الإلهي القائم لنا من ناحية العقول. 

  • و قوله تعالى: {وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} المراد بالشهادة تأدية الشهادة التي تفيد صحة الأمر المشهود له دون تحملها فإن المقام مقام تثبيت حقّية القرآن و هو إنما يناسب الشهادة بمعنى التأدية لا بمعنى التحمل. 

  • و الظاهر أن المراد بهذا الشاهد بعض من أيقن بحقية القرآن و كان على بصيرة إلهية من أمره، فآمن به عن بصيرته و شهد بأنّه حق منزل من عند الله تعالى كما يشهد بالتوحيد و الرسالة؛ فإن شهادة الموقن البصير على أمر تدفع عن الإنسان مرية الاستيحاش و ريب التفرد فإن الإنسان إذا أذعن بأمر و تفرد فيه ربما أوحشه التفرد فيه إذا لم يؤيده أحد في القول به أما إذا قال به غيره من الناس و أيد نظره في ذلك زالت 

تفسير الميزان ج۱۰

185
  • عنه الوحشة و قوي قلبه و ارتبط جأشه، و قد احتج تعالى بما يماثل هذا المعنى في قوله: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ} الأحقاف: - ١٠. 

  • و على هذا فقوله: {يَتْلُوهُ} من التلو لا من التلاوة، و الضمير فيه راجع إلى {فَمَنْ} أو إلى {بَيِّنَةٍ} باعتبار أنه نور أو دليل، و مآل الوجهين واحد فإن الشاهد الذي يلي صاحب البينة يلي بينته كما يلي نفسه و الضمير في قوله: {مِنْهُ} راجع إلى {فَمَنْ} دون قوله: {رَبِّهِ} و عدم رجوعه إلى البينة ظاهر و محصل المعنى: من كان على بصيرة إلهية من أمر و لحق به من هو من نفسه فشهد على صحة أمره و استقامته. 

  • و على هذا الوجه ينطبق ما ورد في روايات الفريقين أن المراد بالشاهد علي (عليه السلام) إن أريد به أنه المراد بحسب انطباق المورد لا بمعنى الإرادة الاستعمالية. 

  • و للقوم في معنى الجملة أقوال شتى فقيل: إن «يتلو» من التلاوة كما قيل: إنه من التلو، و قيل: إن الضمير في {يَتْلُوهُ} راجع إلى {بَيِّنَةٍ} كما قيل: إنه راجع إلى {فَمَنْ} 

  • و قيل: المراد بالشاهد القرآن: و قيل: جبرائيل يتلو القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لعله مأخوذ من قوله تعالى: {لَكِنِ اَللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ} النساء: - ١٦٦، و قيل: الشاهد ملك يسدد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يحفظه القرآن، و لعله لنوع من الاستناد إلى الآية المذكورة. 

  • و قيل: الشاهد هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً} الأحزاب: ٤٥، و قيل: شاهد منه لسانه أي يتلو القرآن بلسانه. 

  • و قيل: الشاهد علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، و قد وردت به عدة روايات من طرق الشيعة و أهل السنة. 

  • و التأمل في سياق الآية و ظاهر جملها يكفي مئونة إبطال هذه الوجوه غير ما قدمناه من معنى الآية فلا نطيل الكلام بالبحث عنها و المناقشة فيها. 

تفسير الميزان ج۱۰

186
  • و قوله تعالى: {وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسى إِمَاماً وَ رَحْمَةً} الضمير راجع إلى الموصول أو إلى البينة على حد ما ذكرناه في ضمير {يَتْلُوهُ} و الجملة حال بعد حال، أي: أفمن كان على بصيرة إلهية ينكشف له بها أن القرآن حق منزل من عند الله، و الحال أنّ معه شاهدا منه يشهد بذلك عن بصيرة، و الحال أن هذا الذي هو على بينة سبقه كتاب موسى إماماً و رحمة، أو قبل بينته التي منها القرآن أو هي القرآن المشتمل على المعارف و الشرائع الهادية إلى الحق كتاب موسى إماما، فليس هو أو ما عنده من البينة ببدع من الأمر غير مسبوق بمثل و نظير بل هناك طريق مسلوك من قبل يهدي إليه كتاب موسى. 

  • و من هنا يظهر وجه توصيف كتاب موسى و هو التوراة بالإمام و الرحمة؛ فإنه مشتمل على معارف حقة و شريعة إلهية يؤتم به في ذلك و يتنعم بنعمته، و قد ذكره الله بهذا الوصف في موضع آخر من كلامه فقال {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ} إلى أن قال {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسى إِمَاماً وَ رَحْمَةً وَ هَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ} الأحقاف: - ١٢. 

  • و الآيات كما ترى أقرب الآيات مضمونا من الآية المبحوث عنها تذكر أولاً أن القرآن بينة إلهية أو أمر قامت عليه بينة إلهية، ثم تذكر شهادة الشاهد من بني إسرائيل عليه و تأيده بها، ثم تذكر أنه مسبوق فيما يتضمنه من المعارف و الشرائع بكتاب موسى الذي كان إماما و رحمة يأتم به الناس و يهتدون، و طريقا مسلوكا مجربا، و القرآن كتاب مثله مصدق له منزل من عند الله لإنذار الظالمين و تبشير المحسنين. 

  • و من هنا يظهر أيضا: أن قوله: {إِمَاماً وَ رَحْمَةً} حال من كتاب موسى لا من قوله: {شَاهِدٌ مِنْهُ} على ما ذكره بعضهم. 

  • قوله تعالى{أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} المشار إليهم بقوله: {أُولَئِكَ} بناء على ما تقدم من معنى صدر الآية هم الذين كانوا 

تفسير الميزان ج۱۰

187
  • على بينة من ربهم المدلول عليهم بقوله: {أَ فَمَنْ كَانَ} إلخ، و أما إرجاع الإشارة إلى المؤمنين لدلالة السياق عليهم فبعيد عن الفهم. 

  • و كذا الضمير في قوله: {رَبِّهِ} راجع إلى القرآن من جهة أنه بينة منه تعالى أو أمر قامت عليه البينة، و أما إرجاعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلا يلائم ما قررناه من معنى الآية؛ فإن في صدر الآية بيان حال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بنحو العموم حتى يتفرع عليه قوله: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} كأنه قيل: إنك على بينة كذا و معك شاهد و قبلك كتاب موسى، و من كان على هذه الصفة يؤمن بما أوتي من كتاب الله، و لا يصح أن يقال: و من كان على هذه الصفة يؤمن بك، و الكلام في الضمير في {وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ} كالكلام في ضمير {يُؤْمِنُونَ بِهِ} 

  • و أمر الآية فيما يحتمله مفردات ألفاظها و ضمائرها عجيب فضرب بعضها في بعض يرقى إلى ألوف من المحتملات بعضها صحيح و بعضها خلافه. 

  • قوله تعالى{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} المرية كجلسة النوع من الشك، و الجملة تفريع على صدر الآية، و المعنى أن من كان على بينة من ربه في أمر و قد شهد عليه شاهد منه و قبله إمام و رحمة ككتاب موسى ليس كغيره من الناس الغافلين المغفلين فهو يؤمن بما عنده من أمر الله و لا يوحشه إعراض أكثر الناس عما عنده، و أنت كذلك فإنك على بينة من ربك و يتلوك شاهد و من قبلك كتاب موسى إماما و رحمة و إذا كان كذلك فلا تك في مرية من أمر ما أنزل إليك من القرآن؛ إنه محض الحق من جانب الله و لكن أكثر الناس لا يؤمنون. 

  • و قوله: {إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} تعليل للنهي و قد أكد بإنّ و لام الجنس للدلالة على توافر الأسباب النافية للمرية و هي قيام البينة و شهادة الشاهد و تقدم كتاب موسى إماما و رحمة. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً} إلى آخر الآية، من الممكن أن يكون ذيلا للسياق السابق من حيث كان تطييبا لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيئول المعنى إلى أنك إذ كنت على بينة من ربك لست بظالم فحاشاك أن تكون مفتريا على الله 

تفسير الميزان ج۱۰

188
  • الكذب لأن المفتري على الله كذبا من أظلم الظالمين، و لهم من وبال كذبهم كذا و كذا. 

  • و كيف كان فالمراد بافتراء الكذب على الله سبحانه توصيفه تعالى بما ليس فيه أو نسبة شي‌ء إليه بغير الحق أو بغير علم، و الافتراء من أظهر أفراد الظلم و الإثم، و يعظم الظلم بعظم متعلقه حتى إذا انتهى إلى ساحة العظمة و الكبرياء كان من أعظم الظلم. 

  • و الكلام واقع موقع قلب الدعوى عليهم إذ كانوا يقولون للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : إنه افترى على الله كذبا بنسبة القرآن إليه، فقلب القول عليهم أنهم هم الذين افتروا على الله كذبا إذ أثبتوا له شركاء بغير علم و هو الله لا إله إلا هو، و إذ صدوا عن سبيل الله و معناه نفي كونه سبيلا لله و هو افتراء، و إذ طلبوا سبيلا أخرى فاستنوا بها في حياتهم و كان ذلك تغييرا لسبيل الله التي تهدي إليها الفطرة و النبوة، و إذ كفروا بالآخرة فنفوها و ذلك إثبات مبدإ من غير معاد و نسبة اللغو و فعل الباطل إليه تعالى و هو افتراء عليه. 

  • و بالجملة انتحالهم بغير دين الله و نحلته، و أخذهم بالعقائد الباطلة في المبدإ و المعاد و استنانهم بغير سنة الله في حياتهم الدنيوية الاجتماعية ـ و الذي من الله إنما هو الحق و لا سنة عند الله إلا دين الحق ـ افتراء على الله، و سيشهد عليهم الأشهاد بذلك يوم يعرضون على ربهم. 

  • و قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ} العرض‌ إظهار الشي‌ء ليرى و يوقف عليه، و لما كان ارتفاع الحجب بينهم و بين ربهم يوم القيامة بظهور آياته و وضوح الحق الصريح من غير شاغل يشغل عنه حضورا اضطراريا منهم لفصل القضاء سماه عرضا لهم على ربهم كما سمي بوجه آخر بروزا منهم لله فقال {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفى عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‌ءٌ} المؤمن: - ١٦، و قال {وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} إبراهيم: - ٤٨ فقال: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى ‌رَبِّهِمْ} أي يأتي بهم الملائكة الموكلون بهم فيوقفونهم موقفا ليس بينهم و بين ربهم حاجب حائل لفصل القضاء. 

  • و قوله: {وَ يَقُولُ اَلْأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا على رَبِّهِمْ} الأشهاد جمع شهيد كأشراف جمع شريف و قيل: جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب، و يؤيد الأول قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} النساء: - ٤١ و قوله: {وَ جَاءَتْ 

تفسير الميزان ج۱۰

189
  • كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَ شَهِيدٌ} ق: - ٢١. 

  • و قول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} شهادة منهم عليهم بالافتراء على الله، أي سجل عليهم بأنهم المفترون من جهة شهادة الأشهاد عليهم بذلك في موقف لا يذكر فيه إلا الحق و لا مناص فيه عن الاعتراف و القبول كما قال تعالى: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً} النبأ: - ٣٨ و قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} آل عمران: - ٣٠. 

  • قوله تعالى{أَلاَ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} إلخ، تتمة قول الأشهاد، و الدليل عليه قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} الأعراف: - ٤٥. 

  • و هذا القول منهم المحكي في كلامه تعالى تثبيت منهم للبعد و اللعن على الظالمين و تسجيل للعذاب، و ليس اللعن و الرحمة يوم القيامة كاللعن و الرحمة في الدنيا كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاَّعِنُونَ} البقرة: - ١٥٩ و ذلك أن الدنيا دار عمل و يوم القيامة يوم جزاء؛ فما فيه من لعنة أو رحمة هو إيصال ما ادخر لهم إليهم، فلعن اللاعن أحدا يوم القيامة طرده من رحمة الله الخاصة بالمؤمنين و تسجيل عذاب البعد عليه. 

  • ثم فسر سبحانه الظالمين بقوله حكاية عنهم: {اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} فهم الذين لا يذعنون بيوم الحساب حتى يعملوا له و إنما يعملون للدنيا و يسلكون من طريق الحياة ما يتمتعون به للدنيا المادية فحسب، و هو السنة الاجتماعية غير المعتنية بما يريده الله من عباده من دين الحق و ملة الفطرة، فهؤلاء سواء اعتقدوا بصانعٍ و عملوا بسنة محرفة منحرفة عن دين الفطرة و هو الإسلام، أم لم يعتقدوا به ممن يقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر، ظالمون مفترون على الله الكذب، و قد تقدم بعض الكلام المتعلق بهذه المعاني في سورة الأعراف آية ٤٤-٤٥. 

  • و قد بان مما تقدم من البحث في الآيتين أولا: أن الدين‌ في عرف القرآن هو 

تفسير الميزان ج۱۰

190
  • السنة الاجتماعية الدائرة في المجتمع. 

  • و ثانيا: أن السنن الاجتماعية إما دين حق فطري و هو الإسلام، أو دين محرف عن الدين الحق و سبيل الله عوجا. 

  • قوله تعالى{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} إلى آخر الآية. الإشارة إلى المفترين على الله الموصوفين بما مر في الآيتين السابقتين. 

  • و المقام يدل على أن المراد من كونهم غير معجزين في الأرض أنهم لم يكونوا معجزين لله سبحانه في حياتهم الأرضية حيث خرجوا عن زي العبودية فأخذوا يفترون على الله الكذب و يصدون عن سبيله و يبغونها عوجا، فكل ذلك لا لأن قدرتهم المستعارة فاقت قدرة الله سبحانه و مشيتهم سبقت مشيته، و لا لأنهم خرجوا من ولاية الله فدخلوا في ولاية غيره و هم الذين اتخذوهم أولياء من أصنامهم و كذا سائر الأسباب التي ركنوا إليها، و ذلك قوله: {وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} 

  • و بالجملة لا قدرتهم غلبت قدرة الله سبحانه و لا شركاؤهم الذين يسمونهم أولياء لأنفسهم أولياء لهم بالحقيقة يدبرون أمرهم و يحملونهم على ما يأتون به من البغي و الظلم بل الله سبحانه هو وليهم و هو المدبر لأمرهم يجازيهم على سوء نياتهم و أعمالهم بما يجرهم إلى سوء العذاب و يستدرجهم من حيث لا يشعرون كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ} الصف: - ٥، و قال {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} البقرة: - ٢٦. 

  • و قوله: {يُضَاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذَابُ} ذلك لأنهم فسقوا ثم لجوا عليه أو لأنهم عصوا الله بأنفسهم و حملوا غيرهم على معصية الله فيضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا المعصية قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ مِنْ أَوْزَارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} النحل: - ٢٥ و قال {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ} يس: - ١٢. 

  • و قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} في مقام التعليل و لذا جي‌ء بالفصل يقول تعالى إنهم لم يكفروا و لم يعصوا لظهور إرادتهم على إرادة 

تفسير الميزان ج۱۰

191
  • الله و لا لأن لهم أولياء من دون الله يستظهرون بهم على الله بل لأنهم ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا ما يأتيهم من الإنذار و التبشير من ناحيته أو يذكر لهم من البعث و الزجر من قبله و ما كانوا يبصرون آياته حتى يؤمنوا بها كما وصفهم في قوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَ لَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} الأعراف: - ١٧٩، و في قوله: {وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الأنعام: - ١١٠، و قوله: {خَتَمَ اَللَّهُ على قُلُوبِهِمْ وَ على سَمْعِهِمْ وَ على أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} البقرة: - ٧، و آيات أخرى كثيرة تدل على أنه تعالى سلبهم عقولهم و أعينهم و آذانهم، غير أنه تعالى يحكي عنهم مثل قولهم‌ {وَ قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} الملك: - ١١، و اعترافهم بأن عدم سمعهم و عقلهم كان ذنبا منهم مع أن ذلك مستند إلى سلبه تعالى منهم ذلك يدل على أنهم أنفسهم توسلوا إلى سلب هذه النعم بالذنوب كما يدل عليه ما تقدم من قوله تعالى: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} البقرة: - ٢٦ و غيره. 

  • و ذكروا في معنى قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} وجوها أخرى: 

  • منها: أن قوله: {مَا كَانُوا} «إلخ»، في محل النصب بنزع الخافض و هو متعلق بقوله: {يُضَاعَفُ} «إلخ»، و الأصل: بما كانوا يستطيعون السمع و بما كانوا يبصرون، و المعنى يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون و بما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون. 

  • و منها: أنه عنى بقوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ} إلخ، نفي السمع و البصر عن آلهتهم و أوثانهم، و تقدير الكلام أولئك الكفار و آلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض، و قال مخبرا عن الآلهة: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} 

  • و منها: أن لفظة ما في {مَا كَانُوا} ليست للنفي بل تجري مجرى قولهم: لأواصلنك ما لاح نجم، و المعنى أنهم معذبون ما داموا أحياء. 

  • و منها: أن نفي السمع و البصر بمعنى نفي الفائدة فإنهم لاستثقالهم استماع آيات الله و النظر فيها و كراهيتهم لذلك أجروا مجرى من لا يستطيع السمع و لا يبصر 

تفسير الميزان ج۱۰

192
  • فالكلام على الكناية. 

  • و أعدل الوجوه آخرها و هي جميعا سخيفة ظاهرة السخافة و الوجه ما قدمناه. 

  • قوله تعالى{أُولَئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أما خسرانهم فإن الإنسان لا يملك بالحقيقة و ذلك بتمليك من الله تعالى إلا نفسه، و إذا اشترى لنفسه ما فيه هلاكها و ضيعتها بالكفر و المعصية فقد خسر في هذه المعاملة التي أقدم عليها نفسَه، فخسران النفس كناية عن الهلاك. و أما ضلال ما كانوا يفترون فإنه كان كذبا و افتراء ليس له وجود في الخارج من أوهامهم و مزاعمهم التي زينتها لهم الأهواء و الهوسات الدنيوية، و بانطواء بساط الحياة الدنيا يزول و ينمحي تلك الأوهام و يضل ما لاح و استقر فيها من الكذب و الافتراء و يومئذ يعلمون أن الله هو الحق المبين، و يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. 

  • قوله تعالى{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ} عن الفراء: أن «لا جرم‌» في الأصل بمعنى لا بد و لا محالة، ثم كثرت فحولت إلى معنى القسم و صارت بمعنى «حقا» و لهذا تجاب باللام نحو لا جرم لأفعلن كذا. انتهى، و قد ذكروا أن «جرم‌» بفتحتين بمعنى القطع فلعلها كانت في الأصل تستعمل في نتائج الكلام كلفظة «لا محالة» و تفيد أنه لا يقطع هذا القول قاطع أن كذا كذا كما يتصور نظير المعنى في «لا محالة» فمعنى الآية على هذا: حقا إنهم في الآخرة هم الأخسرون. 

  • و وجه كونهم في الآخرة هم الأخسرين أن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى غيرهم من أهل المعاصي هو أنهم خسروا أنفسهم بإهلاكها و إضاعتها بالكفر و العناد فلا مطمع في نجاتهم من النار في الآخرة كما لا مطمع في أن يفوزوا في الدنيا و يسعدوا بالإيمان ما داموا على العناد، قال تعالى: {اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} الأنعام: - ١٢. و قال تعالى في هؤلاء المختوم على سمعهم و أبصارهم و قلوبهم {وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} يس: - ١٠. و قال أيضا في سبب عدم إمكان إيمانهم‌ {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ على عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللَّهِ} الجاثية: - ٢٣. 

تفسير الميزان ج۱۰

193
  • و إن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى الدنيا فذلك لكونهم بكفرهم و صدهم عن سبيل الله حرموا سعادة الحياة التي يمهدها لهم الدين الحق فخسروا في الدنيا كما خسروا في الآخرة لكنهم في الآخرة أخسر لكونها دائمة مخلدة و أما الدنيا فليست إلا قليلا، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} الأحقاف: - ٣٥. 

  • على أن الأعمال تشتد و تتضاعف في الآخرة بنتائجها كما قال تعالى: {وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً} إسراء: - ٧٢، و أحسن الوجهين أولهما لأن ظاهر الآية حصر الأخسرين فيهم دون إثبات أخسريتهم في الآخرة قبال الدنيا. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ أَخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ} إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: الخبت‌ المطمئن من الأرض و أخبت الرجل قصد الخبت أو نزله، نحو أسهل و أنجد ثم استعمل الإخبات في استعمال اللين و التواضع، قال الله تعالى: {وَ أَخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ} ، و قال: {وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ} أي المتواضعين نحو لا يستكبرون عن عبادته، و قوله: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تلين و تخشع. انتهى. 

  • فالمراد بإخباتهم إلى الله اطمئنانهم إليه بحيث لا يتزلزل ما في قلوبهم من الإيمان به فلا يزيغون و لا يرتابون كالأرض المطمئنة التي تحفظ ما استقر فيها فلا وجه لما قيل: إن الأصل أخبتوا لربهم فإن ما في معنى الاطمئنان يتعدى بإلى دون اللام. 

  • و تقييده تعالى الإيمان و العمل الصالح بالإخبات إليه يدل على أن المراد بهم طائفة خاصة من المؤمنين و هم المطمئنون منهم إلى الله ممن هم على بصيرة من ربهم، و هو الذي أشرنا إليه في صدر الآيات عند قوله: {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} إلخ أن الآيات تقيس ما بين فريقين خاصين من الناس و هم أهل البصيرة الإلهية و من عميت عين بصيرته. 

  • و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن هذه الآيات السبع يعني 

تفسير الميزان ج۱۰

194
  • قوله: {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} إلى قوله: {أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ} بيان لحال الفريقين و هم الذين يكفرون بالقرآن و الذين يؤمنون به. 

  • قوله تعالى{مَثَلُ اَلْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ اَلْأَصَمِّ وَ اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ} المثل‌ هو الوصف، و غلب في المثل السائر و هو بيان معنى من المعاني الخفية على المستمع بأمر محسوس أو كالمحسوس يأنس به ذهنه و يتلقاه فهمه لينتقل به إلى المعنى المعقول المقصود بيانه، و المراد بالفريقين من بُين حالُهما في الآيات السابقة، و الباقي واضح. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي بإسناده عن أحمد بن عمر الخلال قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الشاهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و رسول الله على بينة من ربه.

  • و في أمالي الشيخ بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن الحسن (عليه السلام) : في خطبة طويلة خطبها بمحضر معاوية منها: فأدت الأمور و أفضت الدهور إلى أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه و آله وسلم) للنبوة و اختاره للرسالة، و أنزل عليه كتابه ثم أمره بالدعاء إلى الله عز و جل، فكان أبي أول من استجاب لله عز و جل و لرسله و أول من آمن و صدق الله و رسوله، و قد قال الله عز و جل في كتابه المنزل على نبيه المرسل: {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} فرسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) الذي على بينة من ربه، و أبي الذي يتلوه و هو شاهد منه (الخطبة) . 

  • أقول: و كلامه (عليه السلام) أحسن شاهد على ما قدمناه في معنى الآية أن إرادته (عليه السلام) بالشاهد من باب الانطباق. 

  • و في بصائر الدرجات بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : لو كسرت لي الوسادة فقعدت عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم و أهل 

تفسير الميزان ج۱۰

195
  • الإنجيل بإنجيلهم و أهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يصعد إلى الله يزهر، و الله ما نزلت آية في كتاب الله في ليل أو نهار إلا و قد علمت فيمن أنزلت، و لا أحد ممن مر على رأسه المواسي إلا و قد أنزلت آية فيه من كتاب الله تسوقه إلى الجنة أو النار . 

  • فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما الآية التي نزلت فيك؟ قال: أ ما سمعت الله يقول: {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} فرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على بينة من ربه و أنا الشاهد له و منه.

  • أقول: و روى هذا المعنى المفيد في الأمالي، مسندا، و في كشف الغمة مرسلا عن عباد بن عبد الله الأسدي عنه (عليه السلام) ، و العياشي في تفسيره مرسلا عن جابر عن عبد الله بن يحيى عنه (عليه السلام) و كذا ابن شهرآشوب عن الطبري بإسناده عن جابر بن عبد الله عنه (عليه السلام) و كذا عن الأصبغ و عن زين العابدين و الباقر و الصادق (عليه السلام) عنه (عليه السلام) . 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أ ما تقرأ سورة هود {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على بينة من ربه، و أنا شاهد منه.

  • أقول: و في تفسير البرهان عن تفسير الثعلبي بإسناده عن الشعبي يرفعه إلى علي (عليه السلام) مثله و فيه عن ابن المغازلي يرفعه إلى عباد بن عبد الله عن علي (عليه السلام) مثله. و كذا عن كنوز الرموز للرسعني مثله. 

  • و فيه أخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أنا {وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} قال: علي.

  • أقول: و في تفسير البرهان عن ابن المغازلي في تفسير الآية عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مثله. 

  • و في تفسير البرهان عن ابن المغازلي بإسناده عن علي بن حابس قال: دخلت أنا و أبو مريم على عبد الله بن عطاء، قال أبو مريم: حدث علينا الحديث الذي حدثتني به عن أبي جعفر قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر علينا ابن عبد الله بن سلام 

تفسير الميزان ج۱۰

196
  •  قلت: جعلت فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب، قال: لا و لكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله تعالى: {مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ} {أَ فَمَنْ كَانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} 

  • و فيه عن ابن شهرآشوب عن الحافظ أبي نعيم بثلاثة طرق عن ابن عباس قال: قال سمعت عليا يقول: قول الله تعالى: {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على بينة و أنا الشاهد.

  • و فيه أيضا عن موفق بن أحمد قال: قوله تعالى: {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} قال ابن عباس: هو علي يشهد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو منه. 

  • أقول: و رواه عن الثعلبي في تفسيره يرفعه إلى ابن عباس: {أَ فَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} علي خاصة.

  • أقول: قال صاحب المنار في تفسير الآية عند ذكر معاني الشاهد: و منها: أنه علي رضي الله عنه ترويه الشيعة و يفسرونه بالإمامة، و روي: أنه كرم الله وجهه سئل عنه فأنكره و فسره بأنه لسانه (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قابلهم خصومهم بمثلها فقالوا: أنه أبو بكر، و هما من التفسير بالهوى. انتهى أما قوله: «إن الشيعة ترويه» فقد عرفت أن رواته من أهل السنة أكثر من الشيعة، و أما قوله: «إنه مثل تفسيره بأبي بكر من التفسير بالهوى» فيكفيك في ذلك ما تقدم في معنى الآية فراجع. 

  • و في الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إن عندنا رجلا يقال له: كليب فلا يجي‌ء عنكم شي‌ء إلا قال: أنا أسلم فسميناه كليب تسليم، قال: فترحم عليه ثم قال: أ تدرون ما التسليم؟ فسكتنا فقال: هو و الله الإخبات قول الله عز و جل: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ أَخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ} .

  • أقول: و روى مثله العياشي في تفسيره و الكشي و كذا صاحب البصائر عن أبي أسامة زيد الشحام عنه (عليه السلام) . 

تفسير الميزان ج۱۰

197
  • [سورة هود (١١) : الآیات ٢٥ الی ٣٥ ]

  • {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ٢٥ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ٢٦ فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَ مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ وَ مَا نَرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ٢٧ قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَ أَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ٢٨ وَ يَا قَوْمِ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَ لَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ٢٩ وَ يَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ ٣٠وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللَّهُ خَيْراً اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ ٣١ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٣٢ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللَّهُ إِنْ شَاءَ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٣٣ وَ لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ 

تفسير الميزان ج۱۰

198
  • إِنْ كَانَ اَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٣٤ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَ أَنَا بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ٣٥} 

  • (بيان) 

  • شروع في قصص الأنبياء (عليهم السلام) و قد بدأ بنوح و عقبه بجماعة ممن بعده كهود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى (عليهم السلام) . و قد قسم قصة نوح إلى فصول أولها احتجاجه (عليه السلام) على قومه في التوحيد فهو (عليه السلام) أول الأنبياء الناهضين للتوحيد على الوثنية على ما ذكره الله تعالى في كتابه، و أكثر ما قص من احتجاجه (عليه السلام) مع قومه من المجادلة بالتي هي أحسن و بعضه من الموعظة و قليل منه من الحكمة و هو الذي يناسب تفكر البشر الأولي و الإنسان القديم الساذج و خاصة تفكرهم الاجتماعي الذي لا ظهور فيه إلا للمركوم من أفكار الأفراد المتوسطين في الفهم. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} القراءة المعروفة {إِنِّي} بكسر الهمزة على تقدير القول و قرئ أني بفتح الهمزة بنزع الخافض و التقدير بأني لكم نذير مبين، و الجملة أعني قوله: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} على أي حال بيان إجمالي لما أرسل به فإن جميع ما بلغه قومه عن ربه و أرسل به إليهم إنذار مبين فهو نذير مبين. 

  • فكما أنه لو قال: ما سألقيه إليكم من القول إنذار مبين كان بيانا لجميع ما أرسل به إليهم بأوجز كلمة كذا قوله: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} بيان لذلك بالإجمال، غير أنه يزيد على سابقه ببيان سمة نفسه و هي أنه رسول من الله إليهم لينذرهم بعذاب الله، و ليس له من الأمر شي‌ء أزيد من أنه واسطة يحمل الرسالة. 

  • قوله تعالى{أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} : بيان ثان لما أرسل به أو بيان لقوله: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} و مآل الوجهين واحد، و أن 

تفسير الميزان ج۱۰

199
  • على أي حال مفسرة، و المعنى أن محصل رسالته النهي عن عبادة غير الله تعالى من طريق الإنذار و التخويف. 

  • و ذكر بعض المفسرين أن الجملة أعني قوله: {أَنْ لاَ تَعْبُدُوا} إلخ، بدل من قوله: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أو مفعول لقوله مبين، و لعل السياق يؤيد ما قدمناه. 

  • و الظاهر أن المراد بعذاب يوم أليم عذاب الاستئصال دون عذاب يوم القيامة أو الأعم من العذابين، يدل على ذلك قولهم له فيما سيحكيه الله تعالى عنهم: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللَّهُ إِنْ شَاءَ} (الآية) ، فإنه ظاهر في عذاب الاستئصال. 

  • فهو (عليه السلام) كان يدعوهم إلى رفض عبادة الأوثان و يخوفهم من يوم ينزل عليهم من الله عذاب أليم أي مؤلم و نسبة الإيلام إلى اليوم دون العذاب في قوله: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} من قبيل وصف الظرف بصفة المظروف. 

  • و بما تقدم يندفع ما ربما قيل: إن تعذيب المشركين مقطوع لا محتمل فما الوجه في خوفه (عليه السلام) من تعذيبهم المقطوع؟ و الخوف إنما يستقيم في محتمل الوقوع لا مقطوعه. 

  • و بالجملة كان (عليه السلام) يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه بتخويفهم من العذاب، و إنما كان يخوفهم لأنهم كانوا يعبدون الأوثان خوفا من سخطهم فقابلهم نوح (عليه السلام) بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم و دبر شئون حياتهم و أمور معاشهم بخلق السماوات و الأرض و إشراق الشمس و القمر و إنزال الأمطار و إنبات الأرض و إنشاء الجنات و شق الأنهار على ما يحكيه تعالى عنه (عليه السلام) في سورة نوح. 

  • و إذ كان كذلك كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه؛ فليخافوا عذابه و ليعبدوه وحده. 

  • و هذه الحجة في الحقيقة حجة برهانية مبنية على اليقين، لكنهم إنما كانوا يتلقونها حجة جدلية مبنية على الظن لأنهم لسذاجة أفهامهم كانوا يتوقعون سخط الرب و عذابه على المخالفة لأنهم يرونه وليا لأمرهم مصلحا لشأنهم فيقيسون أمره بأمر الأولياء من 

تفسير الميزان ج۱۰

200
  • الإنسان الحاكمين في مَن دونهم من أفراد المجتمع الذين يجب الخضوع لمقامهم و التسليم لإرادتهم و لو استكبر عن الخضوع لهم و التسليم لإرادتهم من دونهم سخطوا عليهم و عاقبوهم بما أجرموا و تمردوا. 

  • و على هذا القياس يجب إرضاء الرب أو الأرباب الذين يرجع إليهم أمر الكون و ولاية النظام الجاري فيه فيجب إرضاؤه و إخماد نار غضبه بالخضوع له و التقرب إليه بتقديم القرابين و التضحية و سائر أنحاء العبادة فهكذا كانوا يعتقدون و هو مبني على الظن. 

  • لكن مسألة نزول العذاب على الاستنكاف عن عبادة الله تعالى و الاستكبار عن التسليم و الخضوع لساحة الربوبية مسألة حقيقية يقينية؛ فإن من النواميس الكلية الجارية في الكون لزوم خضوع الضعيف للقوي و المتأثر المقهور للمؤثر القاهر فما قولك في الله الواحد القهار الذي إليه مصير الأمور. 

  • و قد أبدع الله سبحانه أجزاء الكون و ربط بعضها ببعض ثم أجرى الحوادث على نظام الأسباب و على ذلك يجري كل شي‌ء في نظام وجوده، فلو انحرف عما يخطه له سائر الأسباب من الخط أدى ذلك إلى اختلال نظامها و كان ذلك منازعة منه لها و عند ذلك ينتهض سائر الأسباب الكونية من أجزاء الوجود لتعديل أمره و إرجاعه إلى خط يلائمها، تدفع بذلك الشر عن نفسها فإن استقام هذا الجزء المنحرف عن خطه المخطوط له فهو، و إلا حطمتها حاطمات الأسباب و نازلات النوائب و البلايا، و هذا أيضا من النواميس الكلية. 

  • و الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون له في حياته خط خطه له الصنع و الإيجاد فإن سلكه هداه إلى سعادته و وافق بذلك سائر أجزاء الكون و فتحت له أبواب السماء ببركاتها و سمحت له الأرض بكنوز خيراتها، و هذا هو الإسلام الذي هو الدين عند الله تعالى المدعو إليه بدعوة نوح و من بعده من الأنبياء و الرسل (عليه السلام) . 

  • و إن تخطاه و انحرف عنه فقد نازع أسباب الكون و أجزاء الوجود في نظامها الجاري و زاحمها في شئون حياتها فليتوقع مُرّ البلاء و لينتظر العذاب و العناء، فإن استقام في أمره و خضع لإرادة الله سبحانه و هي ما تحطمه من الأسباب العامة فمن 

تفسير الميزان ج۱۰

201
  • المرجو أن تتجدد له النعمة بعد النقمة و إلا فهو الهلاك و الفناء و إن الله لغني عن العالمين، و قد تقدم هذا البحث في بعض أجزاء الكتاب السابقة. 

  • قوله تعالى{فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا} إلى آخر الآية، الفاء في صدر الآية لتفريع جوابهم عن قول نوح (عليه السلام) ، و فيه إشارة إلى أنهم بادروه بالرد و الإنكار من دون أن يفكروا في أنفسهم فيختاروا ما هو أصلح لهم. 

  • و المجيبون هم الملأ من قومه و الأشراف و الكبراء الذين كفروا به و لم يتعرضوا في جوابهم لما ألقى إليهم من حجة التوحيد بل إنما اشتغلوا بنفي رسالته و الاستكبار عن طاعته فإن قوله: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} إلى آخر الآيتين، كان مشتملا على دعوى الرسالة و ملوّحا إلى وجوب الاتباع، و قد صرح به فيما حكي عنه في موضع آخر، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ} نوح: - ٣. 

  • و محصل ما نقله الله تعالى من جوابهم هو أنه لا دليل على لزوم اتباعك بل الدليل على خلافه، فهو في الحقيقة حجتان منظومتان على طريق الإضراب و الترقي و لذلك أخر قولهم: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} 

  • و الحجة الأولى التي مدلولها عدم الدليل على وجوب اتباعه مبينة بطرق ثلاث هي قوله: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً} إلخ، و قوله: {وَ مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ} إلخ، و قوله: {وَ مَا نَرى لَكُمْ عَلَيْنَا} . إلخ. 

  • و الحجة بجميع أجزائها مبنية على إنكار ما وراء الحس كما سنبين و لذلك كرروا فيه قولهم: ما نراك و نرى. 

  • فقوله: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا} أول جوابهم عما يدعيه نوح (عليه السلام) من الرسالة، و قد تمسكوا فيه بالمماثلة كما هو دأب سائر الأمم مع أنبيائهم على ما حكاه الله تعالى في كتابه و تقريره: أنك مثلنا في البشرية، و لو كنت رسولا إلينا من عند الله لم تكن كذلك و لا نشاهد منك إلا أنك بشر مثلنا، و إذ كنت بشرا مثلنا لم يكن هناك موجب لاتباعك. 

تفسير الميزان ج۱۰

202
  • ففي الكلام تكذيب لرسالته (عليه السلام) بأنه ليس إلا بشرا مثلهم ثم استنتاج من ذلك أنه لا دليل على لزوم اتباعه، و الدليل على ما ذكرنا قول نوح (عليه السلام) فيما سيحكيه الله تعالى من كلامه: {يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} إلخ. 

  • و قد اشتبه الأمر على بعض المفسرين فقرر قولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا} بأنهم ساووه بأنفسهم في الزنة الاجتماعية و استنتجوا منها أنه لا وجه لاتباعهم له، قال في تفسير الآية: أجابوه بأربع حجج داحضة؛ إحداها: أنه بشر مثلهم فساووه بأنفسهم في الجملة، و هذا يدل على أنه (عليه السلام) كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته و في شخصه، و هكذا كان كل رسول من وسط قومه، و وجه الجواب أن المساواة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر بجعل أحدهما تابعا طائعا و الآخر متبوعا مطاعا لأنه ترجيح بغير مرجح. انتهى. 

  • و لو كان المعنى ما ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أنت مثلنا أو نراك مثلنا دون أن يقال: ما نراك إلا بشرا مثلنا فيذكر أنه بشر و لا حاجة إلى الإشارة إلى بشريته، و لكان معنى الكلام عائدا إلى المراد من قولهم بعد: و ما نرى لكم علينا من فضل، و كان فضلا من الكلام. 

  • و من العجب استفادته من الكلام مساواته (عليه السلام) لهم في البيت و الشخصية ثم قوله: «و هكذا كان كل رسول من وسط قومه» و في الرسل مثل إبراهيم و سليمان و أيوب (عليه السلام) . 

  • و قوله: {وَ مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ} قال في المفردات: الرذل بفتح الراء و الرذال بكسرها المرغوب عنه لرداءته قال تعالى: {وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ} و قال: {إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ} و قال: {قَالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ} جمع الأرذل. 

  • و قال في المجمع: الرذل‌ الخسيس الحقير من كل شي‌ء و الجمع أرذُل ثم يجمع على أراذل كقولك: كلب و أكلب و أكالب، و يجوز أن يكون جمع الأرذل فيكون مثل أكابر جمع أكبر. 

  • و قال: و الرأي‌ الرؤية من قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ} أي رؤية العين 

تفسير الميزان ج۱۰

203
  • و الرأي أيضا ما يراه الإنسان في الأمر و جمعه آراء. انتهى. 

  • و قال في المفردات: و قوله: {بَادِيَ اَلرَّأْيِ} أي ما يبدأ من الرأي و هو الرأي الفطير، و قرئ: بادي‌ بغير همزة أي الذي يظهر من الرأي و لم يترو فيه. انتهى. 

  • و قوله: {بَادِيَ اَلرَّأْيِ} يحتمل أن يكون قيدا لقوله: {هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي كونهم أراذل و سفلة فينا معلوم في ظاهر الرأي و النظر أو في أول نظرة. 

  • و يحتمل كونه قيدا لقوله: {اِتَّبَعَكَ} أي اتبعوك في ظاهر الرأي أو في أوله من غير تعمق و تفكر، و لو تفكروا قليلا و قلبوا أمرك ظهرا لبطن ما اتبعوك، و هذا الاحتمال لا يستغني عن تكرار الفعل ثانيا و التقدير: اتبعوك بادي الأمر و إلا اختل المعنى لو لم يتكرر. و قيل: ما نراك اتبعك في بادي الرأي إلا الذين هم أراذلنا. و بالجملة معنى الآية: أنا نشاهد أن متبعيك هم الأراذل و الأخساء من القوم و لو اتبعناك ساويناهم و دخلنا في زمرتهم و هذا ينافي شرافتنا و يحط قدرنا في المجتمع، و في الكلام إيماء إلى بطلان رسالته (عليه السلام) بدلالة الالتزام فإن من معتقدات العامة أن القول لو كان حقا نافعا لتبعه الشرفاء و العظماء و أولوا القوة و الطول فلو استنكفوا عنه أو اتبعه الأخساء و الضعفاء كالعبيد و المساكين و الفقراء ممن لا حظ له من مال أو جاه و لا مكانة له عند العامة فلا خير فيه. 

  • و قوله: {وَ مَا نَرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} المراد نفي مطلق الفضل من متاع دنيوي يختصون بالتنعم به أو شي‌ء من الأمور الغيبية كعلم الغيب أو التأيد بقوة ملكوتية و ذلك لكون النكرة "فضل" واقعة في سياق النفي فتفيد العموم. 

  • و قد أشركوا أتباع نوح (عليه السلام) و المؤمنين به منهم في دعوته إذ قالوا: {وَ مَا نَرى لَكُمْ عَلَيْنَا} و لم يقولوا: «و لا نرى لك» لأنهم كانوا يحثونهم و يرغبونهم في اتباع ما اتبعوه من الطريقة. 

  • و المعنى أن دعوتكم إيانا و عندنا ما نتمتع به من مزايا الحياة الدنيا كالمال و البنين و العلم و القوة إنما يستقيم و يؤثر أثره لو كان لكم شي‌ء من الفضل تفضلون به علينا من زينة الحياة الدنيا أو علم من الغيب أو قوة من الملكوت حتى يوجب 

تفسير الميزان ج۱۰

204
  • ذلك خضوعا منا لكم و لا نرى شيئا من ذلك عندكم فأي موجب يوجب علينا اتباعكم؟ 

  • و إنما عممنا الفضل في كلامه للفضل من حيث الجهات المادية و غيره كعلم الغيب و القوة الملكوتية خلافا لأكثر المفسرين حيث فسروا الفضل بالفضل المادي كالمال و الكثرة و غيرهما، لما يستفاد من كلامهم من العموم لوقوع النكرة في سياق النفي. 

  • مضافا إلى أن ما يحاذي قولهم هذا من جواب نوح (عليه السلام) يدل على ذلك و هو قوله: {وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} إلخ على ما سيأتي. 

  • و قوله تعالى: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} إضراب في الاحتجاج كما تقدمت الإشارة إليه فمحصله أنا لا نرى معكم أمرا يوجب اتباعنا لكم بل هناك أمر يوجب عدم الاتباع و هو أنا نظنكم كاذبين. 

  • و معناه على ما يعطيه السياق و الله أعلم أنه لما لم يكن عندكم ما يشاهد معه صحة دعوتكم و أنكم تلحون علينا بالسمع و الطاعة و أنتم صفر الأيدي من مزايا الحياة من مال و جاه و هذه الحال تستدعي الظن بأنكم كاذبون في دعواكم تريدون بها نيل ما بأيدينا من أماني الحياة بهذه الوسيلة و بالجملة هذه أمارة توجب عادةً الظن بأنها أكذوبة يتوسل بها إلى اقتناء الأموال و القبض على ثروة الناس و الاستعلاء عليهم بالحكم و الرئاسة، و هذا كما حكى الله سبحانه عنهم في مثل القصة إذ قال {فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} المؤمنون: - ٢٤. و بهذا يظهر وجه تعليقهم الكذب بالظن دون الجزم، و أن المراد بالكذب الكذب المخبري دون الخبري. 

  • قوله تعالى{قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} إلى آخر الآية بيان لما أجاب به نوح (عليه السلام) عن حجتهم إلى تمام أربع آيات، و التعمية الإخفاء فمعنى عُمّيت عليكم بالبناء للمفعول أخفيت عليكم من ناحية جهلكم و كراهتكم للحق. و قرئ عَمِيت بالتخفيف و البناء للفاعل أي خفيت عليكم تلك الرحمة. 

  • لما كانت حجتهم مبنية على الحس و نفي ما وراءه و قد استنتجوا منها أولا 

تفسير الميزان ج۱۰

205
  • عدم الدليل على وجوب طاعته و اتباعه ثم أضربوا عنه بالترقي إلى استنتاج الدليل على عدم الوجوب بل على وجوب العدم أجابهم (عليه السلام) بإثبات ما حاولوا نفيه من رسالته و ما يتبعه، و نفي ما حاولوا إثباته باتهامه و اتهام أتباعه بالكذب غير أنه استعطفهم بخطاب يا قوم بالإضافة إلى ضمير التكلم مرة بعد مرة ليجلبهم إليه فيقع نصحه موقع القبول منهم. 

  • و قد أبدع الآيات الكريمة في تقرير حجته (عليه السلام) في جوابهم فقطّعت حجتهم فصلا فصلا و أجابت عن كل فصل بوجهيه أعني من جهة إنتاجه أن لا دليل على اتباعه (عليه السلام) و أن الدليل على خلافه و ذلك قوله: {يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ} إلخ، و قوله: {وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلخ، و قوله: {وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ} إلخ، ثم أخذت من كل حجة سابقة شيئا يجري مجرى التلخيص فأضافته إلى الحجة اللاحقة بادئة به فامتزجت الحجة بالحجة على ما لكل منها من الاستقلال و التمام. 

  • فتمت الحجج ثلاثا كل واحدة منها مبدوءة بالخطاب و هي قوله: {يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ} إلخ، و قوله: {وَ يَا قَوْمِ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} إلخ، و قوله: {وَ يَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} إلخ، فتدبر فيها. 

  • فقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} جواب عن قولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا} يريدون به أنه ليس معه إلا البشرية التي يماثلهم فيها و يماثلونه فبأي شي‌ء يدعي وجوب اتباعهم له؟ بل هو كاذب يريد بما يدعيه من الرسالة أن يصطادهم فيقتنص بذلك أموالهم و يترأس عليهم. 

  • و إذ كان هذا القول منهم متضمنا لنفي رسالته، و سندهم في ذلك أنه بشر لا أثر ظاهر معه يدل على الرسالة و الاتصال بالغيب، كان من الواجب تنبيههم على ما يظهر به صدقه في دعوى الرسالة و هو الآية المعجزة الدالة على صدق الرسول في دعوى الرسالة، فإن الرسالة نوع من الاتصال بالغيب خارقٌ للعادة الجارية لا طريق إلى العلم بتحققه إلا بوقوع أمر غيبي آخر خارق للعادة يوقن به كون الرسول صادقا في دعواه الرسالة، و لذلك أشار (عليه السلام) بقوله: {يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ مِنْ 

تفسير الميزان ج۱۰

206
  • رَبِّي} إلى أن معه بينة من الله و آية معجزة تدل على صدقه في دعواه. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بالبينة الآية المعجزة التي تدل على ثبوت الرسالة لأن ذلك هو الذي يعطيه السياق فلا يعبأ بما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالبينة في الآية العلم الضروري الذي يعلم به النبي أنه نبي؛ و ذلك لكونه معنى أجنبيا عن السياق. 

  • و قوله: {وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} الظاهر أنه (عليه السلام) يشير به إلى ما آتاه الله تعالى من الكتاب و العلم، و قد تكرر في القرآن الكريم تسمية الكتاب و كذا تسمية العلم بالله و آياته رحمةً، قال تعالى: {وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسى إِمَاماً وَ رَحْمَةً} هود: - ١٧، و قال {وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً} النحل: - ٨٩، و قال {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} الكهف: - ٦٥، و قال {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ هَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} آل عمران: - ٨. 

  • و أما قوله: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} فالظاهر أن ضميره راجع إلى الرحمة، و المراد أن ما عندي من العلم و المعرفة أخفاها عليكم جهلكم و كراهتكم للحق بعد ما ذكرتكم به و بثثته فيكم. 

  • و قوله: {أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَ أَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} الإلزام‌ جعل الشي‌ء مع الشي‌ء بحيث لا يفارقه و لا ينفك منه، و المراد بإلزامهم الرحمة و هم لها كارهون إجبارهم على الإيمان بالله و آياته و التلبس بما يستدعيه المعارف الإلهية من النور و البصيرة. 

  • و معنى الآية و الله أعلم: أخبروني إن كانت عندي آية معجزة تصدق رسالتي مع كوني بشرا مثلكم، و كانت عندي ما تحتاج إليه الرسالة من كتاب و علم يهديكم الحق، لكن لم يلبث دون أن أخفاه عليكم عنادكم و استكباركم؛ أيجب علينا عندئذ أن نجبركم عليها؟ أي عندي جميع ما يحتاج إليه رسول من الله في رسالته و قد أوقفتكم عليه لكنكم لا تؤمنون به طغيانا و استكبارا و ليس علي أن أجبركم عليها، إذ لا إجبار في دين الله سبحانه. 

  • ففي الكلام تعريض لهم أنه قد تمت عليهم الحجة و بانت لهم الحقيقة فلم يؤمنوا 

تفسير الميزان ج۱۰

207
  • لكنهم مع ذلك يريدون أمرا يؤمنون لأجله و ليس إلا الإجبار و الإلزام على كراهية، فهم في قولهم: لا نراك إلا بشرا مثلنا، لا يريدون إلا الإجبار، و لا إجبار في دين الله. 

  • و الآية، من جملة الآيات النافية للإكراه في الدين تدل على أن ذلك من الأحكام الدينية المشرعة في أقدم الشرائع و هي شريعة نوح (عليه السلام) و هو باق على اعتباره حتى اليوم من غير نسخ. 

  • و قد ظهر مما تقدم أن الآية، أعني قوله: {يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ} إلخ، جواب عن قولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا} و يظهر بذلك فساد قول بعضهم: إنه جواب عن قولهم: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} و قول آخرين: إنه جواب عن قولهم: {مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ} و قول طائفة أخرى أنه جواب عن قولهم: {وَ مَا نَرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} و لا نطيل الكلام بالتعرض لتوضيحها و ردها. 

  • قوله تعالى{وَ يَا قَوْمِ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ} يريد به الجواب عما اتهموه به من الكذب و لازمه أن تكون دعوته طريقا إلى جلب أموالهم و أخذ ما في أيديهم طمعا فيه فإنه إذا لم يسألهم شيئا من أموالهم لم يكن لهم أن يتهموه بذلك. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَ لَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} جواب عن قولهم: {وَ مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ} و قد بدل لفظة الأراذل و هي لفظة إرزاء و تحقير من قوله: الذين آمنوا؛ تعظيما لأمر إيمانهم و إشارة إلى ارتباطهم بربهم. 

  • نفى في جوابه أن يكون يطردهم و علل ذلك بقوله: {إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ} إيذانا بأن لهم يوما يرجعون فيه إلى الله فيحاسبهم على أعمالهم فيجازيهم على ما عملوه من خير أو شر فحسابهم على ربهم و ليس لغيره من الأمر شي‌ء، فليس على نوح (عليه السلام) أن يحاسبهم فيجازيهم بشي‌ء لكن القوم لجهالتهم يتوقعون على الفقراء و المساكين و الضعفاء أن يطردوا من مجتمع الخير و يسلبوا النعمة و الشرافة و الكرامة. 

  • فظهر أن المراد بقوله: {إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ} الإيمان إلى محاسبة الله سبحانه 

تفسير الميزان ج۱۰

208
  • إياهم يوم يرجعون فيه إليه فيلاقونه كما وقع في نظير هذا المعنى في قوله تعالى: {وَ لاَ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَ مَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} الأنعام: - ٥٧. 

  • و أما قول من قال: إن معنى قوله: {إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ} إنه لا يطردهم لأنهم ملاقوا ربهم فيجازي من ظلمهم و طردهم، أو أنهم ملاقوا ثواب ربهم فكيف يكونون أراذل و كيف يجوز طردهم و هم لا يستحقون ذلك، فبعيد عن الفهم. على أن أول المعنيين يجعل الآية التالية أعني قوله: {وَ يَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} (الآية) زائدة مستغنى عنها كما هو ظاهر. 

  • و ظهر أيضا أن المراد بقوله: {وَ لَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} جهلهم بأمر المعاد و أن الحساب و الجزاء إلى الله لا إلى غيره، و أما ما ذكره بعضهم أن المراد به الجهالة المضادة للعقل و الحلم أي تسفهون عليهم أو المراد أنكم تجهلون أن حقيقة الامتياز بين إنسان و إنسان باتباع الحق و عمل البر و التحلي بالفضائل لا بالمال و الجاه كما تظنون فهو معنى بعيد عن السياق. 

  • قوله تعالى{وَ يَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ} النصر مضمن معنى المنع أو الإنجاء و نحوهما و المعنى من يمنعني أو من ينجيني من عذاب الله إن طردتهم أ فلا تتذكرون أنه ظلم، و الله سبحانه ينتصر للمظلوم من الظالم و ينتقم منه، و العقل جازم بأن الله سبحانه لا يساوي بين الظالم و المظلوم، و لا يدع الظالم يظلم دون أن يجازيه على ظلمه بما يسوؤه و يشفي به غليل صدر المظلوم و الله عزيز ذو انتقام. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} جواب عن قولهم: {وَ مَا نَرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} يرد عليهم قولهم بأني لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعون مني أن أدعيه بما أني أدعي الرسالة فإنكم تزعمون أن على الرسول أن يملك خزائن الرحمة الإلهية فيستقل بإغناء الفقير و شفاء العليل و إحياء الموتى و التصرف في السماء و الأرض و سائر أجزاء الكون بما شاء و كيف شاء. 

تفسير الميزان ج۱۰

209
  • و أن يملك علم الغيب فيحصل على كل خير محجوب عن العيون مستور عن الأبصار فيجلبه إلى نفسه، و يدفع كل شر مستقبل كامن عن نفسه و بالجملة يستكثر من الخيرات و يصان من المكاره. 

  • و أن يرتفع عن درجة البشرية إلى مقام الملكية أي يكون ملكا منزها من ألواث الطبيعة و مبرى من حوائج البشرية و نقائصها فلا يأكل و لا يشرب و لا ينكح و لا يقع في تعب اكتساب الرزق و اقتناء لوازم الحياة و أمتعتها. 

  • فهذه هي جهات الفضل التي تزعمون أن الرسول يجب أن يؤتاها و يمتلكها فيستقل بها، و قد أخطأتم فليس للرسول إلا الرسالة و إني لست أدعي شيئا من ذلك فلا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك، و بالجملة لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعونه حتى تكذبوني بفقده، و إنما أقول إني على بينة من ربي تصدق رسالتي و آتاني رحمة من عنده. 

  • و المراد بقوله: {خَزَائِنُ اَللَّهِ} جميع الذخائر و الكنوز الغيبية التي ترزق المخلوقات منها ما يحتاجون إليه في وجودهم و بقائهم و يستعينون به على تتميم نقائصهم و تكميلها. 

  • فهاتيك هي التي تزعم العامة أن الأنبياء و الأولياء يؤتون مفاتيحها و يمتلكون بها من القدرة ما يفعلون بها ما يشاءون و يحكمون ما يريدون كما اقترح على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد حكاه الله تعالى إذ يقول: {وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} إسراء: - ٩٣. 

  • و إنما قال: {وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ} و لم يقل: و لا أقول إني أعلم الغيب لأن هذا النوع من العلم لما كان مما يضن به و لا يسمح بإظهاره لم يكن قول القائل: لا أقول 

تفسير الميزان ج۱۰

210
  • إني أعلم الغيب نافيا لوجوده عند القائل بل يحتاج إلى أن يقال: لا أعلم الغيب ليفيد النفي بخلاف قوله: {لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ} و قوله: {وَ لاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} ، و لم يكرر قوله: {لَكُمْ} لحصول الكفاية بالواحدة. 

  • و قد أمر الله سبحانه نبيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يخاطب قومه بما خاطب به نوح (عليه السلام) قومه ثم ذيله بما يظهر به المراد إذ قال {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إليّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ أَ فَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} الأنعام: - ٥٠. 

  • انظر إلى قوله: {لاَ أَقُولُ لَكُمْ} إلخ، ثم إلى قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ} ثم إلى قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ} إلخ، فهو ينفي أولا الفضل الذي يتوقعه عامة الناس من نبيهم ثم يثبت للرسول الرسالة فحسب ثم يبادر إلى إثبات الفضل من جهة أخرى غير الجهة التي يتوقعها الناس و هو أنه بصير بإبصار الله تعالى و أن غيره بالنسبة إليه كالأعمى بالنسبة إلى البصير و هذا هو الموجب لاتباعهم له كما يتبع الأعمى البصير، و هو المجوز له أن يدعوهم إلى اتباعه. 

  • (كلام في قدرة الأنبياء و الأولياء فلسفي قرآني) 

  • الناس في جهلٍ بمقام ربهم و غفلة عن معنى إحاطته و هيمنته، فهم مع ما تهديهم الفطرة الإنسانية إلى وجوده و أحديته يسوقهم الابتلاء بعالم المادة و الطبيعة و التوغل في الأحكام و القوانين الطبيعية ثم السنن و النواميس الاجتماعية و الأنس بالكثرة و البينونة إلى قياس العالم الربوبي بما ألفوا من عالم المادة فالله سبحانه عندهم مع خلقه كجبار من جبابرة البشر مع عبيده و رعيته. 

  • فهناك فرد من الإنسان نسميه مثلا ملكا أو جبارا، دونه وزراء و أمراء و الجنديون و الجلاوزة يجرون ما يأمر به أو ينهى عنه، و له عطايا و مواهب لمن شاء و إرادة و كراهة و أخذ و رد و قبض و إطلاق و رحمة و سخط و قضاء و نسخ إلى غير ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۰

211
  • و كلٌّ من الملك و خدمه و أياديه العمالة و رعاياه و ما يدور بأيديهم من النعم و أمتعة الحياة أمر موجود محدود مستقل الوجود منفصلة عن غيره، إنما يرتبط بعضهم ببعض بأحكام و قوانين و سنن اصطلاحية لا موطن لها سوى ذهن الذاهن و اعتقاد المعتقد. 

  • و قد طبقوا العالم الربوبي أعني ما يخبر به النبوة من مقام الرب تعالى و صفاته و أفعاله و ملائكته و كتبه و رسله على هذا النظام، فهو تعالى يريد و يكره و يعطي و يمنع و يدبر نظام الخلقة كما يفعل ذلك الواحد منا المسمى ملكاً، و هو محدود الوجود منعزل الكون و كلٌّ من ملائكته و سائر خليقته مستقل الوجود يملك ما عنده من الوجود و النعم الموهوبة دون الله سبحانه، و قد كان تعالى في أزل الزمان وحده لا شي‌ء معه من خلقه ثم أبدع في جانب الأبد الخلق فكانوا معه. 

  • فقد أثبتوا كما ترى موجودا محدودا منطبق الوجود على الزمان غير أن وجوده الزماني دائمي، و له قدرة على كل شي‌ء، و علم بكل شي‌ء، و إرادة لا تنكسر و قضاء لا ترد، يستقل بما عنده من الصفات و الأعمال كما يستقل الواحد منا في ملك ما عنده من الحياة و العلم و القدرة و غير ذلك، فحياته حياة له و ليست لله، و علمه علمه لا علم الله، و قدرته قدرته لا قدرة الله و هكذا، و إنما يقال لوجودنا أو حياتنا أو علمنا أو قدرتنا أنها لله كما يقال لما عند الرعية من النعمة أنها للمَلِك، بمعنى أنها كانت عنده فأخرجها من عنده و وضعها عندنا نتصرف فيها، فجميع ذلك كما ترى يقوم على أساس المحدودية و الانعزال. 

  • لكن البراهين اليقينية تقضي بفساد ذلك كله فإنّها تحكم بسريان الفقر و الحاجة إلى الموجودات الممكنة في ذواتها و آثار ذواتها، و إذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات استحال الاستقلال عنه و الانعزال منه على الإطلاق، إذ لو فرض استقلالٌ لشي‌ء منه تعالى في وجوده أو شي‌ء من آثار وجوده بأي وجهٍ فرض في حدوث أو بقاء استغنى عنه من تلك الجهة و هو محال. 

  • فكلّ ممكنٍ غير مستقل في شي‌ء من ذاته و آثار ذاته، و الله سبحانه هو الذي يستقل في ذاته و هو الغني الذي لا يفتقر في شي‌ء و لا يفقد شيئا من الوجود و كمال 

تفسير الميزان ج۱۰

212
  • الوجود كالحياة و القدرة و العلم فلا حد له يتحدد به. و قد تقدم بعض التوضيح لهذه المسألة في ذيل تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} المائدة: - ٧٣. 

  • و على ما تقدم، كان ما للممكن من الوجود أو الحياة أو القدرة أو العلم متعلقَ الوجود به تعالى غير مستقل منه بوجه، و لا فرق في ذلك بين القليل و الكثير ما كانت خصيصة عدم الاستقلال محفوظة فيه، فلا مانع من فرض ممكنٍ له علم بكل شي‌ء أو قدرة على كل شي‌ء أو حياة دائمة، ما دام غير مستقل الوجود عن الله سبحانه و لا منعزل الكون منه كما لا مانع من تحقق الممكن مع وجود موقت ذي أمد أو علم أو قدرة متعلقين ببعض الأشياء دون بعض. نعم فرض الاستقلال يبطل الحاجة الإمكانية و لا فرق فيه بين الكثير و القليل كما عرفت، هذا من جهة العقل. 

  • و أما من جهة النقل، فالكتاب الإلهي و إن كان ناطقا باختصاص بعض الصفات و الأفعال به تعالى كالعلم بالمغيبات و الإحياء و الإماتة و الخلق كما في قوله: {وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} الأنعام: - ٥٩، و قوله: {وَ أَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَ أَحْيَا} النجم: - ٤٤: و قوله: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الزمر: - ٤٢، و قوله: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} الزمر: - ٦٢، إلى غير ذلك من الآيات لكنها جميعا مفسرة بآياتٍ أخر كقوله: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ} الجن: - ٢٧، و قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ} الم السجدة: - ١١، و قوله عن عيسى (عليه السلام) {وَ أُحْيِ اَلْمَوْتى بِإِذْنِ اَللَّهِ} آل عمران: - ٤٩، و قوله: {وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} المائدة: - ١١٠إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و انضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكا في أن المراد بالآيات النافية: اختصاص هذه الأمور به تعالى بنحو الأصالة و الاستقلال، و المراد بالآيات المثبتة: إمكان تحققها في غيره تعالى بنحو التبعية و عدم الاستقلال. 

  • فمن أثبت شيئا من العلم المكنون أو القدرة الغيبية، أعني العلم من غير طريق الفكر و القدرة من غير مجراها العادي الطبيعي لغيره تعالى من أنبيائه و أوليائه 

تفسير الميزان ج۱۰

213
  • كما وقع كثيرا في الأخبار و الآثار و نفى معه الأصالة و الاستقلال بأن يكون العلم و القدرة مثلا له تعالى و إنما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط و وقع ما وقع منه بإفاضته وجوده فلا حجر عليه. 

  • و من أثبت شيئا من ذلك على نحو الأصالة و الاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامي و إن أسنده إلى الله سبحانه و فيض رحمته لم يخل من غلو و كان مشمولا لمثل قوله: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاَ تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ} النساء: - ١٧١. 

  • (بيان) 

  • قوله تعالى{وَ لاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللَّهُ خَيْراً اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ} قال في المفردات: زريت‌ عليه عبته و أزريت به قصرت به و كذلك ازدريت به و أصله افتعلت قال: تزدري أعينكم أي تستقلهم، تقديره: تزدريهم أعينهم أي تستقلهم و تستهين بهم. انتهى. 

  • و هذا الفصل من كلامه (عليه السلام) إشارة إلى ما كان يعتقده الملأ الذين كفروا من قومه و بنوا عليه سنة الأشرافية و طريقة السيادة، و هو أن أفراد الإنسان تنقسم إلى قسمين الأقوياء و الضعفاء، أما الأقوياء فهم أولوا الطول و أرباب القدرة المعتضدون بالمال و العدة، و أما الضعفاء فهم الباقون. و الأقوياء هم السادة في المجتمع الإنساني لهم النعمة و الكرامة، و لأجلهم انعقاد المجتمع، و غيرهم من الضعفاء مخلوقون لأجلهم مقصودون لهم أضاحي منافعهم كالرعية بالنسبة إلى كرسي الحكومة المستبدة، و العبيد بالنسبة إلى الموالي، و الخدم و العملة بالنسبة إلى المخدومين و النساء بالنسبة إلى الرجال، و بالأخرة كل ضعيف بالنسبة إلى القوي المستعلي عليه. 

  • و بالجملة كان معتقدهم أن الضعيف في المجتمع إنسانٌ منحط أو حيوان في صورة إنسان إنما يرد داخل المجتمع و يشاركهم في الحياة ليستفيد الشريف من عمله و ينتفع من كد يمينه لحياته من غير عكس بل هو محروم من الكرامة مطرود عن حظيرة الشرافة آيس من الرحمة و العناية. 

  • فهذا هو الذي كانوا يرونه و كان هو المعتمد عليه في مجتمعهم، و قد رد نوح (عليه السلام) ذلك إليهم بقوله: {وَ لاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللَّهُ خَيْراً} 

تفسير الميزان ج۱۰

214
  • ثم بين خطأهم في معتقدهم بقوله: {اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} أي أن أعينكم إنما تزدريهم و تستحقرهم و تستهين أمرهم لما تحس ظاهر ضعفهم و هوانهم، و ليس هو الملاك في إحراز الخير و نيل الكرامة بل الملاك في ذلك و خاصة الكرامات و المثوبات الإلهية أمر النفس و تحليها بحلي الفضيلة و المنقبة المعنوية، و لا طريق لي و لا لكم إلى العلم ببواطن النفوس و خبايا القلوب إلا لله سبحانه فليس لي و لا لكم أن نحكم بحرمانهم من الخير و السعادة. 

  • ثم بين بقوله: {إِنِّي إِذاً لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ} السببَ في تحاشيه عن هذا القول و معناه أنه قول بغير علم، و تحريم الخير على من يمكن أن يستحقه جزافا من غير دليل ظلم لا ينبغي أن يرومه الإنسان فيدخل بذلك في زمرة الظالمين. 

  • و هذا المعنى هو الذي يشير تعالى إليه فيما يحكيه من كلام أهل الأعراف يوم القيامة خطابا لهؤلاء الطاغين إذ يقول {وَ نَادى أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنى ‌عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اَللَّهُ بِرَحْمَةٍ} الأعراف: - ٤٩. 

  • و في الكلام أعني قول نوح (عليه السلام) : {وَ لاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} إلخ، تعريض لهم أنهم كما كانوا يحرمون على ضعفاء المجتمع المزايا الحيوية الاجتماعية كذلك كانوا يحرمون عليهم الكرامة الدينية، و يقولون: إنهم لا يسعدون بدين و إنما يسعد به أشراف المجتمع و أقوياؤهم، و فيه أيضا تعريض بأنهم ظالمون. 

  • و إنما عقب نوح (عليه السلام) قوله: {وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} و هو ينفي فيه جهات الامتياز التي كانوا يتوقعونها في الرسول عن نفسه، بقوله: {وَ لاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللَّهُ خَيْراً} إلخ، مع أنه راجع إلى الضعفاء الذين آمنوا به من قومه لأن الملأ ألحقوهم به في قولهم: {وَ مَا نَرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} 

  • و توضيحه أن معنى قولهم هذا أن اتباعنا لك و لمن آمن بك من هؤلاء الأراذل إنما يستقيم لفضل يتم لكم علينا و لا نرى لكم علينا من فضل أما أنت فليس معك ما يختص به الرسول من قدرة ملكوتية أو علم بالغيب أو أن تكون 

تفسير الميزان ج۱۰

215
  • ملكا منزها من ألواث المادة و الطبيعة، و أما المؤمنون بك فإنما هم أراذلنا الآيسون من كرامة الإنسانية المحرومون من الرحمة و العناية. 

  • فأجاب عنهم نوح بما معناه: أما أنا فلا أدعي شيئا مما تتوقعون من رسالتي فليست للرسول إلا الرسالة و أما هؤلاء الضعفاء الذين لهم هوان عندكم فمن الجائز أن يعلم الله من نفوسهم خيرا فيؤتيهم خيرا و فضلا فهو أعلم بأنفسهم، و ملاك الكرامة الدينية و الرحمة الإلهية زكاء النفس و سلامة القلب دون الظاهر الذي تزدريه أعينكم، فلست أقول: لن يؤتيهم الله خيرا، فإنه ظلم يدخلني في زمرة الظالمين. 

  • قوله تعالى{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ} كلام ألقوه إلى نوح (عليه السلام) بعد ما عجزوا عن دحض حجته و إبطال ما دعا إليه من الحق، و هو مسوق سوق التعجيز و المراد بقولهم: {بِمَا تَعِدُنَا} ما أنذرهم به في أول دعوته من عذاب يوم أليم. 

  • و قد أورد الله سبحانه قولهم هذا فصلا من غير تفريع لأنهم إنما قالوه بعد ما لبث فيهم أمدا بعيدا يدعوهم إلى التوحيد و يخاصمهم و يحاجهم بفنون الخصام و الحجاج حتى قطع جميع معاذيرهم و أنار الحق لهم، كما يدل عليه قوله تعالى فيما يحكي عنه (عليه السلام) في دعائه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهَاراً} إلى أن قال {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} نوح: - ٩ و في سورة العنكبوت {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} العنكبوت: - ١٤. فهذا الذي أورده الله من حجاجه قومه و جوابهم في شكل محاورة واحدة إنما وقع في مئات من السنين، و هو كثير النظير في القرآن الكريم، و لا بدع فيه فإن الذي يقتص ذلك هو الله سبحانه المحيط بالدهر و بكل ما فيه و الذي يسمعها بالوحي هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد أوتي من سعة النظر ما يجتمع عنده أشتات الأمم و أطراف الزمان. 

  • و المعنى و الله أعلم: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا حتى سئمنا و مللنا و ما نحن لك بمؤمنين فأتنا بما تعدنا من العذاب، و هم لا يعترفون بالعجز عن خصامه و جداله بل يؤيسونه من أنفسهم في الحجاج و يطلبون منه أن يشتغل بما يشتغل 

تفسير الميزان ج۱۰

216
  • الداعي الآيس من السمع و الطاعة و هو الشر الذي يهددهم به و يذكره وراء نصحه. 

  • قوله تعالى{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللَّهُ إِنْ شَاءَ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} لما كان قولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} إلخ، طلبا منه أن يأتيهم بالعذاب و ليس ذلك إليه فإنما هو رسول، أجاب عن اقتراحهم هذا أيضا في سياق قصر القلب أن الإتيان بالعذاب ليس إليّ، بل إنما هو إلى الله فهو الذي يملك أمركم فيأتيكم بالعذاب الذي وعدتكموه بأمره فهو ربكم و إليه مرجع أمركم كله، و لا يرجع إلي من أمر التدبير شي‌ء حتى أن وعدي إياكم بالعذاب و اقتراحكم علي بطلبه لا يؤثر في ساحة كبريائه شيئا فإن يشأ يأتكم به و إن لم يشأ فلا. 

  • و من هنا يظهر أن قوله (عليه السلام) : {إِنْ شَاءَ} من ألطف القيود في هذا المقام أفيد به حق التنزيه و هو أن الله سبحانه لا يحكم فيه شي‌ء و لا يقهره قاهر يفعل ما يشاء و لا يفعل ما يشاء غيره نظير ما سيأتي في آخر السورة من الاستثناء في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} هود: - ١٠٨. 

  • و قوله: {وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} تنزيه آخر لله سبحانه و هو مع ذلك جواب عن الأمر التعجيزي الذي ألقوه إليه (عليه السلام) فإن ظاهره أنهم لا يعبئون بما هددهم به من العذاب كأنهم معجزون لا يقدر عليهم. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} إلخ، قال في المفردات: النصح‌ تحرّي فعل أو قول فيه صلاح صاحبه، قال و هو من قولهم نصحت له الود أي أخلصته و ناصح العسل خالصه، أو من قولهم: نصحت الجلد خطته و الناصح الخياط و النصاح الخيط. 

  • و قال أيضا: الغي‌ جهل من اعتقاد فاسد، و ذلك أن الجهل قد يكون من الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا و لا فاسدا، و قد يكون من اعتقاد شي‌ء فاسد، و هذا النحو الثاني يقال له غي؛ قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوى } ، و قال: {وَ إِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ} . انتهى. 

  • و على هذا فالفرق بين الإغواء و الإضلال أن الإضلال‌ إخراج من الطريق مع 

تفسير الميزان ج۱۰

217
  • بقاء المقصد في ذكر الضال، و الإغواء إخراجه منه مع زواله عن ذكره لاشتغاله بغيره جهلا. 

  • و الإرادة و المشية كالمترادفتين، و هي من الله سبحانه تسبيب الأسباب المؤدية لوجود شي‌ء بالضرورة فكون الشي‌ء مرادا له تعالى أنه تمم أسباب وجوده و أكملها فهو كائن لا محالة، و أما أصل السببية الجارية فهي مرادة بنفسها و لذا قيل: خلق الله الأشياء بالمشية و المشيةَ بنفسها. 

  • و بالجملة قوله: {وَ لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} إلخ، كأحد شقي الترديد و الشق الآخر قوله: {وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} كأنه (عليه السلام) يقول: أمركم إلى الله إن شاء أن يعذبكم أتاكم بالعذاب و لا يدفع عذابه و لا يقهر مشيته شي‌ء فلا أنتم معجزوه، و لا نصحي ينفعكم إن أردت أن أنصح لكم بعد ما أراد الله أن يغويكم لتكفروا به فيحق عليكم كلمة العذاب، و قيد نصحه بالشرط لأنهم لم يكونوا يسلمون له أنه ينصحهم. 

  • و الإغواء كالإضلال و إن لم يجز نسبته إليه تعالى إذا كان إغواء ابتدائيا لكنه جائز إذا كان بعنوان المجازاة كأن يعصي الإنسان و يستوجب به الغواية فيمنعه الله أسباب التوفيق و يخليه و نفسه فيغوي و يضل عن سبيل الحق قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} البقرة: - ٢٦. 

  • و في الكلام إشارة إلى أن نزول عذاب الاستئصال عليهم مسبوق بالإغواء الإلهي، كما يلوّح إليه قوله تعالى: {وَ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} إسراء: - ١٦، و قال {وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ} حم السجدة: - ٢٥. 

  • و قوله: {هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تعليل لقوله: {وَ لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} إلخ، أو لقوله: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللَّهُ إِنْ شَاءَ} إلى قوله: {يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} جميعا، و محصله أن أمر تدبير العباد إلى الرب الذي إليه يرجع الأمور، و الله سبحانه هو ربكم و إليه ترجعون فليس لي أن آتيكم بعذاب موعود، و ليس لكم أن تعجزوه إن شاء أن يأتيكم بالعذاب فأتاكم به لاستئصالكم و ليس لنصحي أن ينفعكم إن أراد هو أن يغويكم ليعذبكم. 

تفسير الميزان ج۱۰

218
  • و قد ذكروا في قوله: {إِنْ كَانَ اَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وجوها من التأويل: 

  • منها: أن المعنى يعاقبكم على كفركم، و قد سمى الله تعالى العذاب غيا في قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} مريم: - ٥٩. 

  • و منها: أن المراد إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق و إضلالكم إياهم و من عادة العرب أن يسمي العقوبة باسم الشي‌ء المعاقب عليه، و من هذا الباب قوله: {اَللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي يعاقبهم على استهزائهم و قوله: {وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللَّهُ} آل عمران: - ٥٤ أي عذبهم على مكرهم إلى غير ذلك. 

  • و منها: أن الإغواء بمعنى الإهلاك فالمعنى يريد أن يهلككم فهو من قولهم: غوي الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللبن. 

  • و منها: أن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى يضل عباده عن الدين، و أن ما هم عليه بإرادة الله، و لو لا ذلك لغيره و أجبرهم على خلافه فقال لهم نوح على وجه التعجب لقولهم و الإنكار لذلك أن نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون. 

  • و أنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الكلام في غنى من هذه التأويلات. 

  • قوله تعالى{أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَ أَنَا بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أصل الجرم على ما ذكره الراغب في مفرداته - قطع الثمرة من الشجرة و أجرم أي صار ذا جرم، و استعير لكل اكتساب مكروه فالجرم‌ بضم الجيم و فتحها بمعنى الاكتساب المكروه و هو المعصية. 

  • و الآية، واقعة موقع الاعتراض، و النكتة فيه أن دعوة نوح و احتجاجاته على وثنية قومه و خاصة ما أورده الله تعالى في هذه السورة من احتجاجه أشبه شي‌ء بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و احتجاجه على وثنية أمته. 

  • و إن شئت زيادة تصديق في ذلك فارجع إلى سورة الأنعام و هي في الحقيقة سورة الاحتجاج و قابل ما حكاه الله تعالى عن نوح في هذه السورة ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في تلك السورة بقوله: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} إلى أن قال {وَ لاَ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ 

تفسير الميزان ج۱۰

219
  • وَ اَلْعَشِيِّ} إلى أن قال {قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ} 

  • و لك أن تطبق سائر ما ذكر من حججه (عليه السلام) في سورة نوح و الأعراف على ما ذكر من الحجج في سورة الأنعام و في هذه السورة فتشاهد صدق ما ادعيناه. 

  • و لهذه المشابهة و المناسبة ناسب أن يعطف بعد ذكر حجج نوح (عليه السلام) في إنذاره قومه بأمر من الله سبحانه على ما اتهموا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و رموه بالافتراء على الله، و هو لا ينذرهم و لا يلقي إليهم من الحجج إلا كما أنذر به نوح (عليه السلام) و ألقاه من الحجج إلى قومه، و هذا كما ينذر رسول الملك قومه و المتمردين المستنكفين عن الطاعة و يلقي إليهم النصح و يتم عليهم الحجة فيرمونه بأنه مفتر على الملك و لا طاعة و لا وظيفة فيرجع إليهم بالنصح ثانيا، و يذكر لهم قصة رسول ناصح آخر من الملك إلى قوم آخرين نصح لهم بمثل ما نصح هو لهم فلم يتبصروا به فهلكوا، فحيثما يذكر لهم حججه و مواعظه يبعثه الوجد و الأسف إلى أن يتذكر رميهم إياه بالافتراء فيأسف لذلك قائلا: إنكم ترمونني بالافتراء و لم أذكر لكم إلا ما بثه هذا الرسول في قومه من كلمة الحكمة و النصيحة لا جرم إن افتريته فعلي إجرامي و لا تقبلوا قولي غير أني بري‌ء من عملكم. 

  • و قد عاد سبحانه إلى الأمر بمثل هذه المباراة ثانيا في آخر السورة بعد إيراد قصص عدة من الرسل حيث قال {وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} إلى أن قال {وَ قُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اِعْمَلُوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَ اِنْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} هود: - ١٢٢. 

  • و ذكر بعض المفسرين أن الآية، من تمام القصة و الخطاب فيها لنوح، و المعنى أم يقول قوم نوح افتراه نوح قل يا نوح إن افتريته فعلي إجرامي و أنا بري‌ء مما تجرمون، و على هذا فالكلام مشتمل على نوع التفات من الغيبة إلى الخطاب و هذا بعيد عن سياق الكلام غايته. 

  • و في قوله: {وَ أَنَا بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} إثبات إجرام مستمر لهم و قد أرسل إرسال المسلمات كما في قوله: {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} من إثبات الجرم و ذلك أن الذي 

تفسير الميزان ج۱۰

220
  • ذكر من حجج نوح إن كان من الافتراء كان كذبا من حيث إن نوحا (عليه السلام) لم يحتج بهذه الحجج و هي حقة، لكنها من حيث إنها حجج عقلية قاطعة لا تقبل الكذب و هي تثبت لهؤلاء الكفار إجراما مستمرا في رفض ما يهديهم إليه من الإيمان و العمل الصالح فهم في خروجهم عن مقتضى هذه الحجج مجرمون قطعا، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مجرم لا قطعا بل على تقدير أن يكون مفتريا و ليس بمفتر. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي عن ابن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله في نوح (عليه السلام) {وَ لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} قال: الأمر إلى الله يهدي و يضل.

  • أقول: قد مر بيانه. 

  • و في تفسير البرهان: في قوله تعالى: «أم يقولون افتراه» الآية: الشيباني في نهج البيان عن مقاتل قال:إن كفار مكة قالوا: إن محمدا افترى القرآن. قال: و روي مثل ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) . 

  • [سورة هود (١١) : الآیات ٣٦ الی ٤٩ ]

  • {وَ أُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ٣٦ وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ٣٧ وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ٣٨ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ٣٩ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ قُلْنَا 

تفسير الميزان ج۱۰

221
  •  اِحْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ مَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ٤٠وَ قَالَ اِرْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اَللَّهِ مَجْرَاهَا وَ مُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ٤١ وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَ نَادى نُوحٌ اِبْنَهُ وَ كَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ اِرْكَبْ مَعَنَا وَ لاَ تَكُنْ مَعَ اَلْكَافِرِينَ ٤٢ قَالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ اَلْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حَالَ بَيْنَهُمَا اَلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ اَلْمُغْرَقِينَ ٤٣ وَ قِيلَ يَا أَرْضُ اِبْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ اَلْمَاءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٤٤ وَ نَادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحَاكِمِينَ ٤٥ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ ٤٦ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ٤٧ قِيلَ يَا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَ بَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَ على أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ٤٨ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَ لاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ اَلْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ٤٩} 

تفسير الميزان ج۱۰

222
  • (بيان) 

  • تتمة قصة نوح (عليه السلام) و هي تشتمل على فصول كإخباره (عليه السلام) بنزول العذاب على قومه، و أمره بصنع الفلك، و كيفية نزول العذاب و هو الطوفان، و قصة ابنه الغريق، و قصة نجاته و نجاة من معه لكنها جميعا ترجع من وجه إلى فصل واحد و هو فصل القضاء بينه (عليه السلام) و بين قومه. 

  • قوله تعالى{وَ أُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} الابتئاس‌ من البؤس و هو حزن مع استكانة. 

  • و قوله: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} إيئاس و إقناط له (عليه السلام) من إيمان الكفار من قومه بعد ذلك، و لذلك فرع عليه قوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} لأن الداعي إلى أمر إنما يبتئس و يغتم من مخالفة المدعوين و تمردهم ما دام يرجو منهم الإيمان و الاستجابة لدعوته، و أما إذا يئس من إجابتهم فلا يهتم بهم و لا يتعب نفسه في دعوتهم إلى السمع و الطاعة و الإلحاح عليهم بالإقبال إليه و لو دعاهم بعدئذ فإنما يدعوهم لغرض آخر كإتمام الحجة و إبراز المعذرة. 

  • و على هذا ففي قوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} تسلية من الله لنوح (عليه السلام) و تطييب لنفسه الشريفة من جهة ما في الكلام من الإشارة إلى حلول حين فصل القضاء بينه و بين قومه، و صيانة لنفسه من الوجد و الغم لما كان يشاهد من فعلهم به و بالمؤمنين به من قومهم من إيذائهم إياهم في دهر طويل (مما يقرب من ألف سنة) لبث فيه بينهم. 

  • و يظهر من كلام بعضهم أنه استفاد من قوله: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} أن من كفر منهم فليس يؤمن بعد هذا الحين أبدا كما أن الذين آمنوا به ثابتون على إيمانهم دائمون عليه و فيه أن العناية في الكلام إنما تعلقت ببيان عدم إيمان الكفار بعد ذلك فحسب و أما إيمان المؤمنين فلم يعن به إلا بمجرد التحقق سابقا و لا دلالة في الاستثناء على أزيد من ذلك، و أما ثباتهم و دوامهم على الإيمان فلا دليل عليه. 

تفسير الميزان ج۱۰

223
  • و يستفاد من الآية أولا: أن الكفار لا يعذبون ما كان الإيمان مرجواً منهم فإذا ثبتت فيهم ملكة الكفر و رجس الشرك حق عليهم كلمة العذاب. 

  • و ثانيا: أن ما حكاه الله سبحانه من دعاء نوح بقوله: {وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} نوح: - ٢٧ كان واقعا بين قوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} إلخ، و بين قوله: {وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ} إلى قوله: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} 

  • و ذلك لأنه كما ذكر بعضهم لا سبيل إلى العلم بعدم إيمان الكفار في المستقبل من طريق العقل و إنما طريقه السمع بالوحي فهو (عليه السلام) علم أولا من وحيه تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن أن أحدا منهم لا يؤمن بعد ذلك و لا في نسلهم من سيؤمن بالله ثم دعا عليهم بالعذاب و ذكر في دعائه ما أوحي إليه فلما استجاب الله دعوته و أراد إهلاكهم أمره (عليه السلام) باتخاذ السفينة و أخبره أنهم مغرقون. 

  • قوله تعالى{وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} الفلك‌ هي السفينة مفردها و جمعها واحد و الأعين‌ جمع قلة للعين و إنما جمع للدلالة على كثرة المراقبة و شدتها فإن الجملة كناية عن المراقبة في الصنع. 

  • و ذكر الأعين قرينة على أن المراد بالوحي ليس هو هذا الوحي أعني قوله: {وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ} إلخ، حتى يكون وحيا للحكم بل وحي في مقام العمل و هو تسديد و هداية عملية بتأييده بروح القدس الذي يشير إليه أن افعل كذا و افعل كذا كما ذكره تعالى في الأئمة من آل إبراهيم (عليهم السلام) بقوله: {وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} الأنبياء: - ٧٣، و قد تقدمت الإشارة إليه في المباحث السابقة و سيجي‌ء إن شاء الله في تفسير الآية. 

  • و قوله: {وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي لا تسألني في أمرهم شيئا تدفع به الشر و العذاب و تشفع لهم لتصرف عنهم السوء لأن القضاء فصل و الحكم حتم و بذلك يظهر أن قوله: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} في محل التعليل لقوله: {وَ لاَ تُخَاطِبْنِي} إلخ، أو لمجموع قوله: {وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} و يظهر أيضا أن قوله: {وَ لاَ تُخَاطِبْنِي} إلخ، كناية عن الشفاعة. 

تفسير الميزان ج۱۰

224
  • و المعنى: و اصنع السفينة تحت مراقبتنا الكاملة و تعليمنا إياك و لا تسألني صرف العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا فإنهم مقضي عليهم الغرق قضاء حتم لا مرد له. 

  • قوله تعالى{وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} قال في المجمع: السخرية إظهار خلاف الإبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل، و منه التسخير لتذليل يكون استضعافا بالقهر، و الفرق بين السخرية و اللعب أن في السخرية خديعة و استنقاصا و لا تكون إلا في الحيوان و قد يكون اللعب بجماد، انتهى. 

  • و قال الراغب في المفردات: سخرت منه و استسخرته للهزء منه قال تعالى: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} {بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ} و قيل: رجل سُخَر بالضم فالفتح لمن سخر و سخرة بالضم فالسكون لمن يسخر منه، و السخرية بالضم و السخرية بالكسر لفعل الساخر، انتهى. 

  • و قوله: {وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ} حكاية الحال الماضية يمثل بها ما يجري على نوح (عليه السلام) من إيذاء قومه و قيام طائفة منهم بعد طائفة على إهانته و الاستهزاء به في عمل السفينة و صبره عليه في جنب الدعوة الإلهية و إقامة الحجة عليهم من غير أن يفشل و ينثني. 

  • و قوله: {كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} حال من فاعل يصنع و الملأ هاهنا الجماعة الذين يعبأ بهم، و في الكلام دلالة على أنهم كانوا يأتونه و هو يصنع الفلك جماعة بعد جماعة بالمرور عليه ساخرين، و أنه (عليه السلام) كان يصنعها في مرأى منهم و ممر عام. 

  • و قوله: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} في موضع الجواب لسؤال مقدر، كأنّ قائلا قال: فماذا قال نوح (عليه السلام) ؟ فقيل: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} و لذا فصل الكلام من غير عطف. 

  • و لم يقل (عليه السلام) : إن تسخروا مني فإني أسخر منكم ليدفع به عن نفسه و عن عصابة المؤمنين به و كأنه كان يستمد من أهله و أتباعه في ذلك و كانوا يشاركونه في 

تفسير الميزان ج۱۰

225
  • عمل السفينة و كانت السخرية تتناولهم جميعا، فظاهر الكلام أن الملأ كانوا يواجهون نوحا و من معه في عمل السفينة بسخرية نوح و رميه (عليه السلام) بالخبل و الجنون فيشمل هزؤهم نوحا و من معه و إن كانوا لم يذكروا في هزئهم إلا نوحا فقط. 

  • على أن الطبع و العادة يقضيان أن يكونوا يسخرون من أتباعه أيضا كما كانوا يسخرون منه فهم أهل مجتمع واحد تربط المعاشرة بعضهم ببعض و إن كانت سخريتهم من أتباعه سخرية منه في الحقيقة لأنه هو الأصل الذي تقوم به الدعوة، و لذا قيل: {سَخِرُوا مِنْهُ} و لم يقل: سخروا منه و من المؤمنين. 

  • و السخرية و إن كانت قبيحة و من الجهل إذا كانت ابتدائية لكنها جائزة إذا كانت مجازاة و بعنوان المقابلة و خاصة إذا كانت تترتب عليها فائدة عقلائية كإنفاذ العزيمة و إتمام الحجة قال تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اَللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} التوبة: - ٧٩، و يدل على اعتبار المجازاة و المقابلة بالمثل في الآية قوله: {كَمَا تَسْخَرُونَ} 

  • قوله تعالى{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} السياق يقضي أن يكون قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تفريعا على الجملة الشرطية السابقة {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} و تكون الجملة المتفرعة هو متن السخرية التي أتى بها نوح (عليه السلام) و يكون قوله: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} إلخ، متعلقا بتعلمون على أنه معلوم العلم. 

  • و المعنى: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم فنقول لكم: سوف تعلمون من يأتيه العذاب؟ نحن أو أنتم؟ و هذه سخرية بقول حق. 

  • و قوله: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا و هو الغرق الذي أخزاهم و أذلهم، و المراد بقوله: {وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي ينزل عليه عذاب ثابت لازم لا يفارق، هو عذاب النار في الآخرة، و الدليل على ما ذكرنا من كون العذاب الأول هو الذي في الدنيا و الثاني هو عذاب الآخرة هو المقابلة و تكرر العذاب منكرا في اللفظ و توصيف الأول بالإخزاء و الثاني بالإقامة. 

تفسير الميزان ج۱۰

226
  • و ربما أخذ بعضهم قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تاما من غير ذكر متعلق العلم و قوله: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} إلخ، ابتداء كلام من نوح و هو بعيد عن السياق. 

  • قوله تعالى{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ} إلى آخر الآية، يقال: فار القدر يفور فورا و فورانا إذا غلا و اشتد غليانه، و فارت النار إذا اشتعلت و ارتفع لهيبها، و التنور تنور الخبز، و هو مما اتفقت فيه اللغتان: العربية و الفارسية أو الكلمة فارسية في الأصل. 

  • و فوران التنور نبع الماء و ارتفاعه منه، و قد ورد في الروايات: أن أول ما ابتداء الطوفان يومئذ كان ذلك بتفجر الماء من تنور، و على هذا فاللام في التنور للعهد يشار بها إلى تنور معهود في الخطاب، و يحتمل اللفظ أن يكون كناية عن اشتداد غضب الله تعالى فيكون من قبيل قولهم: «حمي الوطيس» إذا اشتد الحرب. 

  • فقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ} : أي كان الأمر على ذلك حتى إذا جاء أمرنا أي تحقق الأمر الربوبي و تعلق بهم و فار الماء من التنور أو اشتد غضب الرب تعالى قلنا له كذا و كذا. 

  • و في التنور أقوال أخر بعيدة من الفهم كقول من قال: إن المراد به طلوع الفجر و كان عند ذلك أول ظهور الطوفان، و قول بعضهم: إن المراد به أعلى الأرض و أشرفها أي انفجر الماء من الأمكنة المرتفعة و نجود الأرض، و قول آخرين: إن التنور وجه الأرض هذا. 

  • و قوله: {قُلْنَا اِحْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ} أي أمرنا نوحا (عليه السلام) أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين و هي الذكر و الأنثى. 

  • و قوله: {وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ} أي و احمل فيها أهلك و هم المختصون به من زوج و ولد و أزواج الأولاد و أولادهم إلا من سبق عليه قولنا و تقدم عليه عهدنا أنه هالك، و كأن هذا المستثنى زوجته الخائنة التي يذكرها الله 

تفسير الميزان ج۱۰

227
  • تعالى في قوله: {ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَ اِمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} التحريم: - ١٠. و ابن نوح الذي يذكره الله تعالى في الآيات التالية و كان نوح (عليه السلام) يرى أن المستثنى هو امرأته فحسب حتى بيّن الله سبحانه أن ابنه ليس من أهله و أنه عمل غير صالح فعند ذلك علم أنه من الذين ظلموا. 

  • و قوله: {وَ مَنْ آمَنَ وَ مَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} أي و احمل فيها من آمن بك من قومك غير أهلك لأن من آمن به من أهله أمر بحمله بقوله: {وَ أَهْلَكَ} و لم يؤمن به من القوم إلا قليل. 

  • في قوله: {وَ مَا آمَنَ مَعَهُ} دون أن يقال: و ما آمن به تلويح إلى أن المعنى: و ما آمن بالله مع نوح إلا قليل، و ذلك أنسب بالمقام و هو مقام ذكر من أنجاه الله من عذاب الغرق، و الملاك فيه هو الإيمان بالله و الخضوع لربوبيته، و كذا في قوله: {إِلاَّ قَلِيلٌ} دون أن يقال: إلا قليل منهم بلوغا في استقلالهم أن آمن كان قليلا في نفسه لا بالقياس إلى القوم فقد كانوا في نهاية القلة. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَ اِرْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اَللَّهِ مَجْرَاهَا وَ مُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} قرئ مجراها بفتح الميم و هو مجرى السفينة و سيرها، و مجراها بضم الميم و هو إجراء السفينة و سياقها، و مرساها بضم الميم مصدر ميمي مرادف الإرساء، و الإرساء الإثبات و الإيقاف، قال تعالى: {وَ اَلْجِبَالَ أَرْسَاهَا} النازعات: - ٣٢. 

  • و قوله: {وَ قَالَ اِرْكَبُوا فِيهَا} معطوف على قوله في الآية السابقة: {جَاءَ أَمْرُنَا} أي حتى إذا قال نوح إلخ، و خطابه لأهله و سائر المؤمنين أو لجميع من في السفينة. 

  • و قوله: {بِسْمِ اَللَّهِ مَجْرَاهَا وَ مُرْسَاهَا} تسمية منه (عليه السلام) يجلب به الخير و البركة لجري السفينة و إرسائها فإن في تعليق فعل من الأفعال أو أمر من الأمور على اسم الله تعالى و ربطه به صيانة له من الهلاك و الفساد و اتقاء من الضلال و الخسران لما أنه تعالى رفيع الدرجات منيع الجانب لا سبيل للدثور و الفناء و العي و العناء إليه فما تعلق به مصون لا محالة من تطرق عارض السوء. 

  • فهو (عليه السلام) يعلق جري السفينة و إرساءها باسم الله و هذان هما السببان 

تفسير الميزان ج۱۰

228
  • الظاهران في نجاة السفينة و من فيها من الغرق، و إنما ينجح هذان السببان لو شملت العناية الإلهية من ركبها، و إنما تشمل العناية بشمول المغفرة الإلهية لخطايا ركابها و الرحمة الإلهية لهم لينجوا من الغرق و يعيشوا على رسلهم في الأرض، و لذلك علل (عليه السلام) تسميته بقوله: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إنما أذكر اسم الله على مجرى سفينتي و مرساها لأنه ربي الغفور الرحيم، له أن يحفظ مجراها و مرساها من الاختلال و التخبط حتى ننجو بذلك من الغرق بمغفرته و رحمته. 

  • و نوح (عليه السلام) أول إنسان حكى الله سبحانه عنه التسمية باسمه الكريم فيما أوحاه من كتابه فهو (عليه السلام) أول فاتح فتح هذا الباب كما أنه أول من أقام الحجة على التوحيد، و أول من جاء بكتاب و شريعة و أول من انتهض لتعديل الطبقات و رفع التناقض عن المجتمع الإنساني. 

  • و ما قدمناه من معنى قوله: {بِسْمِ اَللَّهِ مَجْرَاهَا وَ مُرْسَاهَا} مبني على ما هو الظاهر من كون الجملة تسمية من نوح (عليه السلام) و المجرى و المرسى مصدرين ميميين و ربما احتمل كونه تسمية ممن مع نوح بأمره أو كون مجراها و مرساها اسمين للزمان أو المكان فيختلف المعنى. 

  • قال في الكشاف في الآية: يجوز أن يكون كلاما واحدا و كلامين: فالكلام الواحد أن يتصل باسم الله باركبوا حالا من الواو بمعنى اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها و وقت إرسائها إما لأن المجرى و المرسى للوقت و إما لأنهما مصدران كالإجراء و الإرساء حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: خفوق النجم و مقدم الحاج، و يجوز أن يراد مكانا الإجراء و الإرساء، و انتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل أو بما فيه من إرادة القول. 

  • و الكلامان أن يكون بسم الله مجراها و مرساها جملة من مبتدإ و خبر مقتضبة۱ أي بسم الله إجراؤها و إرساؤها، يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله 

    1. اقتضاب الكلام ارتجاله و المراد من كون الجملة مقتضبة كونها ابتدائية أي كونها كلاما ابتدائيا من نوح مقطوعا عما قبله.

تفسير الميزان ج۱۰

229
  • فجرت، و إذا أن ترسو قال: بسم الله فرست، و يجوز أن يقحم۱ الاسم كقوله: ثم اسم السلام عليكما و يراد بالله إجراؤها و إرساءها. 

  • قال: و قرئ مجراها و مرساها٢ بفتح الميم من جرى و رسى إما مصدرين أو وقتين أو مكانين، و قرأ مجاهد: مجريها و مرسيها بلفظ اسم الفاعل مجروري المحل صفتين لله. 

  • قوله تعالى{وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} الضمير للسفينة، و الموج‌ اسم جنس كتمر أو جمع موجة على ما قيل و هي قطعة عظيمة ترتفع عن جملة الماء و في الآية إشعار بأن السفينة كانت تسير على الماء و لم تكن تسبح جوف الماء كالحيتان كما قيل. 

  • قوله تعالى{وَ نَادى نُوحٌ اِبْنَهُ وَ كَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ اِرْكَبْ مَعَنَا وَ لاَ تَكُنْ مَعَ اَلْكَافِرِينَ} المعزل‌ اسم مكان من العزل و قد عزل ابنه نفسه عن أبيه و المؤمنين في مكان لا يقرب منهم، و لذلك قال: {وَ نَادى ‌نُوحٌ اِبْنَهُ} و لم يقل: و قال نوح لابنه. 

  • و المعنى: و نادى نوح ابنه و كان ابنه في مكان منعزل بعيد منهم و قال في ندائه: يا بني بالتصغير و الإضافة دلالة على الإشفاق و الرحمة اركب معنا السفينة و لا تكن مع الكافرين فتشاركهم في البلاء كما شاركتهم في الصحبة و عدم ركوب السفينة، و لم يقل (عليه السلام) : و لا تكن من الكافرين لأنه لم يكن يعلم نفاقه و أنه غير مؤمن إلا باللفظ، و لذلك دعاه إلى الركوب. 

  • قوله تعالى{قَالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ اَلْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} إلخ، قال الراغب: المأوى مصدر أوى يأوي أويا و مأوى تقول: أوى إلى كذا: انضم إليه يأوي أويا و مأوى و آواه غيره يؤويه إيواء، انتهى. 

  • و المعنى: قال ابن نوح مجيبا لأبيه رادا لأمره: سأنضم إلى جبل يعصمني 

    1. التقحيم إدخال الكلمة بين الكلمتين المتلازمتين المتصلتين كالمضاف و المضاف إليه و المراد كون الاسم معترضا بين «ثم» و «السلام» و كذا بين الباء و لفظ الجلالة في قوله: بسم اللَّه‌
    2. قراءة مرساها بفتح الميم من الشواذ منسوب إلى ابن محيصن.

تفسير الميزان ج۱۰

230
  • و يقيني من الماء فلا أغرق، قال نوح: لا عاصم اليوم ـ و هو يوم اشتد غضب الله و قضى بالغرق لأهل الأرض إلا من التجأ منهم إلى الله ـ من الله لا جبل و لا غيره، و حال بين نوح و ابنه الموج فكان ابنه من المغرقين و لو لم يحل الموج بينهما و لم ينقطع الكلام بذلك لعرف كفره و تبرأ منه. 

  • و في الكلام إشارة إلى أن أرضهم كانت أرضا جبلية لا مئونة زائدة في صعود الإنسان إلى بعض جبال كانت هناك. 

  • قوله تعالى{وَ قِيلَ يَا أَرْضُ اِبْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ اَلْمَاءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} البلع‌ إجراء الشي‌ء في الحلق إلى الجوف، و الإقلاع‌ الإمساك و ترك الشي‌ء من أصله، و الغيض‌ جذب الأرض المائع الرطب من ظاهرها إلى باطنها و هو كالنشف يقال: غاضت الأرض الماء أي نقصته. 

  • و الجودي‌ مطلق الجبل و الأرض الصلبة، و قيل: هو جبل بأرض موصل في سلسلة جبال تنتهي إلى أرمينية و هي المسماة «آرارات». 

  • و قوله: {وَ قِيلَ يَا أَرْضُ اِبْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} نداء صادر من ساحة العظمة و الكبرياء لم يصرح باسم قائله و هو الله عز اسمه للتعظيم، و الأمر تكويني تحمله كلمة «كن» الصادرة من ذي العرش تعالى يترتب عليه من غير فصل أن تبتلع الأرض ما على وجهها من الماء المتفجر من عيونها، و أن تكف السماء عن أمطارها. 

  • و فيه دلالة على أن الأرض و السماء كانتا مشتركتين في إطغاء الماء بأمر الله كما يبينه قوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ اَلسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَ فَجَّرْنَا اَلْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى اَلْمَاءُ على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} القمر: - ١٢. 

  • و قوله: {وَ غِيضَ اَلْمَاءُ} أي نقص الماء و نشف عن ظاهر الأرض و انكشف البسيط، و ذلك إنما يكون بالطبع باجتماع ما يمكن اجتماعه منه في الغدران و تشكيل البحار و البحيرات، و انتشاف ما على سائر البسيطة. 

  • و قوله: {وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ} أي أنجز ما وعد لنوح (عليه السلام) من عذاب القوم و أنفذ الأمر الإلهي بغرقهم و تطهر الأرض منهم أي كان ما قيل له كن كما قيل، 

تفسير الميزان ج۱۰

231
  • فقضاء الأمر كما يقال على جعل الحكم و إصداره كذلك يقال على إمضائه و إنفاذه و تحقيقه في الخارج، غير أن القضاء الإلهي و الحكم الربوبي الذي هو عين الوجود الخارجي جعله و إنفاذه واحد، و إنما الاختلاف بحسب التعبير. 

  • و قوله: {وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ} أي استقرت السفينة على الجبل أو على جبل الجودي المعهود، و هو إخبار عن اختتام ما كان يلقاه نوح و من معه من أمر الطوفان. 

  • و قوله: {وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} أي قال الله عز اسمه: بعدا للقوم الظالمين أي ليبعدوا بعدا فأبعدهم بذلك من رحمته و طردهم عن دار كرامته، و الكلام في ترك ذكر فاعل {قِيلَ} هاهنا كالكلام فيه في {قِيلَ} السابق. 

  • و الأمر أيضا في قوله: {بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} كالأمرين السابقين: {يَا أَرْضُ اِبْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} تكويني فهو عين ما أنفذه الله فيهم من الغرق المؤدي إلى خزيهم في الدنيا و خسرانهم في الآخرة، و إن كان من وجه آخر من جنس الأمر التشريعي لتفرعه على مخالفتهم الأمر الإلهي بالإيمان و العمل، و كونه جزاء لهم على استكبارهم و استعلائهم على الله عز و جل. 

  • و للصفح عن ذكر الفواعل في قوله: {وَ قِيلَ يَا أَرْضُ} إلخ، و قوله: {وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ} و قوله: {وَ قِيلَ بُعْداً} إلخ، في الآية وجه آخر مشترك و هو أن هذه الأمور العظيمة الهائلة المدهشة لن يقدر عليها إلا الواحد القاهر الذي لا شريك له في أمره فلا يذهب الوهم إلى غيره لو لم يذكر على فعله فما هو إلا فعله ذكر أم لم يذكر. 

  • و لمثل هذه النكتة حذف فاعل {غِيضَ اَلْمَاءُ} و هو الأرض، و فاعل {اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ} و هو السفينة، و لم يعين القوم الظالمون بأنهم قوم نوح، و لا الناجون بأنهم نوح (عليه السلام) و من معه في السفينة فإن الآية بلغت في بلاغتها العجيبة من حيث سياق القصة مبلغا ليس فيه إلا سماء تنزل أمطارها، و أرض انفجرت بعيونها و انغمرت بالماء و سفينة تجري في أمواجه، و أمر مقضي، و قوم ظالمون هم قوم نوح و أمر إلهي بوعد القوم بالهلاك فلو غيض الماء فإنما تغيضه الأرض، و لو استقر شي‌ء و استوى فإنما هي السفينة تستقر على الأرض كما أنه لو قيل: يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي 

تفسير الميزان ج۱۰

232
  • و قيل: بعدا للقوم الظالمين فإنما القائل هو الله عز اسمه و القوم الظالمون هم المقضي عليهم بالعذاب، و لو قيل: قضي الأمر فإنما القاضي هو الله سبحانه، و الأمر هو ما وعده نوحا و نهاه أن يراجعه في ذلك و هو أنهم مغرقون، و لو قيل للسماء: أقلعي بعد ما قيل للأرض: ابلعي ماءك فإنما يراد إقلاعها و إمساكها ماءها. 

  • ففي الآية الكريمة اجتماع عجيب من أسباب الإيجاز و توافق لطيف فيما بينها كما أن الآية واقفة على موقف عجيب من بلاغة القرآن المعجزة يبهر العقول و يدهش الألباب و إن كانت الآيات القرآنية كلها معجزة في بلاغتها. 

  • و قد اهتم بأمرها رجال البلاغة و علماء البيان فغاصوا لجي بحرها و أخرجوا ما استطاعوا نيله من لئاليها، و ما هو - و قد اعترفوا بذلك - إلا كغرفة من بحر أو حصاة من بر. 

  • قوله تعالى{وَ نَادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحَاكِمِينَ} دعاء نوح (عليه السلام) لابنه الذي تخلف عن ركوب السفينة و قد كان آخر عهده به يوم ركب السفينة فوجده في معزل فناداه و أمره بركوب السفينة فلم يأتمر، ثم حال بينهما الموج فوجد نوح (عليه السلام) و هو يرى أنه مؤمن بالله من أهله و قد وعده الله بإنجاء أهله. 

  • و لما به من الوجد و الحزن رفع صوته بالدعاء كما يدل عليه قوله تعالى: {وَ نَادى نُوحٌ رَبَّهُ} و لم يقل: سأل أو قال أو دعا، و رفع الصوت بالاستغاثة من المضطر الذي اشتد به الضر و هاج به الوجد أمر طبعي. و الدعاء أعني نداء نوح (عليه السلام) ربه في ابنه و إن ذكر في القصة بعد ذكر إنجاز غرق القوم و ظاهره كون النداء بعد تمام الأمر و استواء الفلك لكن مقتضى ظاهر الحال أن يكون النداء بعد حيلولة الموج بينهما، و على هذا فذكره بعد ذكر انقضاء الطوفان إنما هو لمكان العناية ببيان جميع ما في القصة من الهيئة الهائلة في محل واحد لتكميل تمثيل الواقعة ثم الأخذ ببيان بعض جهاته الباقية. 

  • و قد كان (عليه السلام) رسولا أحد الأنبياء أولي العزم عالما بالله عارفاً بمقام ربه بصيرا بموقف نفسه في العبودية، و الظرف ظهرت فيه آية الربوبية و القهر الإلهي 

تفسير الميزان ج۱۰

233
  • أكمل ظهورها فأغرقت الدنيا و أهلها، و نودي من ساحة العظمة و الكبرياء على الظالمين بالبعد، فأخذ نوح (عليه السلام) يدعو لابنه و الظرف هذا الظرف لم يجترئ (عليه السلام) على ما يقتضيه أدب النبوة على أن يسأل ما يريده من نجاة ابنه بالتصريح، بل أورد القول كالمستفسر عن حقيقة الأمر، و ابتدر بذكر ما وعده الله من نجاة أهله حين أمره أن يجمع الناجين معه في السفينة فقال له: {اِحْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ} 

  • و كان أهله غير امرأته حتى ابنه هذا مؤمنين به ظاهرا و لو لم يكن ابنه هذا على ما كان يراه نوح (عليه السلام) مؤمنا لم يدعه البتة إلى ركوب السفينة فهو (عليه السلام) الداعي على الكافرين السائل هلاكهم بقوله: {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً} فقد كان يرى ابنه هذا مؤمنا و لم يكن مخالفته لأمر أبيه إذ أمره بركوب السفينة كفرا أو مؤديا إلى الكفر و إنما هي معصية دون الكفر. 

  • و لذلك كله قال (عليه السلام) : {رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ} فذكر وعد ربه و ضمّ إليه أن ابنه من أهله على ما في الكلام من دلالة {رَبِّ} على الاسترحام، و دلالة الإضافة في {اِبْنِي} على الحجة في قوله: {مِنْ أَهْلِي} و دلالة التأكيد بإن و لام الجنس في قوله: {وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ} على أداء حق الإيمان. 

  • و كانت الجملتان: {إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي} {وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ} ينتجان بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه لكنه (عليه السلام) لم يأخذ بما ينتجه كلامه من الحكم أدبا في مقام العبودية فلا حكم إلا لله بل سلم الحكم الحق و القضاء الفصل إلى الله سبحانه فقال: {وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحَاكِمِينَ} 

  • فالمعنى: رب إن ابني من أهلي، و إن وعدك حق كل الحق، و إن ذلك يدل على أن لا تأخذه بعذاب القوم بالغرق و مع ذلك فالحكم الحق إليك فأنت أحكم الحاكمين كأنه (عليه السلام) يستوضح ما هو حقيقة الأمر و لم يذكر نجاة ابنه و لا زاد على هذا الذي حكاه الله عنه شيئا و سيوافيك بيان ذلك. 

  • قوله تعالى{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ 

تفسير الميزان ج۱۰

234
  •  مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إلخ. بين سبحانه لنوح (عليه السلام) وجه الصواب فيما ذكره بقوله: {إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ} إلخ، و هو يستوجب به نجاة ابنه فقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} فارتفع بذلك أثر حجته. 

  • و المراد بكونه ليس من أهله و الله أعلم أنه ليس من أهله الذين وعده الله بنجاتهم لأن المراد بالأهل في قوله: {وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ} الأهل الصالحون، و هو ليس بصالح و إن كان ابنه و من أهله بمعنى الاختصاص، و لذلك علل قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} بقوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} 

  • فإن قلت: لازم ذلك أن يكون امرأته الكافرة من أهله لأنها إنما خرجت من الحكم بالاستثناء و هي داخلة موضوعا في قوله: {وَ أَهْلَكَ} و يكون ابنه ليس من أهله و خارجا موضوعا لا بالاستثناء و هو بعيد. 

  • قلت: المراد بالأهل في قوله: {وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ} هم الأهل بمعنى الاختصاص و بالمستثنى - من سبق عليه القول - غير الصالحين و مصداقه امرأته و ابنه هذا، و أما الأهل الواقع في قوله هذا: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} فهم الصالحون من المختصين به (عليه السلام) طبقا لما وقع في قوله: {رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي} فإنه (عليه السلام) لا يريد بالأهل في قوله هذا غير الصالحين من أولي الاختصاص و إلا شمل امرأته و بطلت حجته فافهم ذلك. 

  • فهذا هو الظاهر من معنى الآية، و يؤيده بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) مما سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله. 

  • و ذكروا في تفسير الآية معان أخر: 

  • منها: أن المراد أنه ليس على دينك فكأن كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام أهله، و نسب إلى جماعة من المفسرين. و فيه أنه في نفسه معنى لا بأس به إلا أنه غير مستفاد من سياق الآية لأن الله سبحانه ينفي عنه الأهلية بالمعنى الذي كان يثبتها له به نوح (عليه السلام) و لم يكن نوح يريد بأهليته أنه مؤمن غير كافر بل إنما كان يريد أنه أهله بمعنى الاختصاص و الصلاح و إن كان لازمه الإيمان، اللهم إلا أن يرجع إلى المعنى المتقدم. 

تفسير الميزان ج۱۰

235
  •  و منها: أنه لم يكن ابنه على الحقيقة و إنما ولد على فراشه فقال نوح (عليه السلام) : إنه ابني على ظاهر الأمر فأعلمه الله أن الأمر على خلاف ذلك، و نبهه على خيانة امرأته. و ينسب إلى الحسن و مجاهد. 

  • و فيه: أنه على ما فيه من نسبة العار و الشين إلى ساحة الأنبياء (عليه السلام) ، و الذوق المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم و ينزه جانبهم عن أمثال هذه الأباطيل، أنه ليس مما يدل عليه اللفظ بصراحة و لا ظهور فليس في القصة إلا قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} و ليس بظاهر فيما تجرؤوا عليه، و قوله في امرأة نوح {اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَ اِمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} التحريم: - ١٠و ليس إلا ظاهرا في أنهما كانتا كافرتين تواليان أعداء زوجيهما و تسران إليهم بأسرارهما و تستنجدانهم عليهما. 

  • و منها: أنه كان ابن امرأته (عليه السلام) و كان ربيبه لا ابنه من صلبه. و فيه أنه مما لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنه لا يلائم قوله في تعليل أنه ليس من أهله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} و لو كان كذلك كان من حق الكلام أن يقال: إنه ابن المرأة. 

  • على أن من المستبعد جدا أن لا يكون نوح (عليه السلام) عالما بأنه ربيبه و ليس بابنه حتى يخاطب ربه بقوله: {إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي} أو يكون عالما بذلك و يتكلم بالمجاز و يحتج على ربه العليم الخبير بذلك فينبه أنه ليس ابنه و إنما هو ربيب. 

  • و قوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ظاهر السياق أن الضمير لابن نوح (عليه السلام) فيكون هو العمل غير الصالح، و عده عملا غير صالح نوع من المبالغة نحو زيد عدل أي ذو عدل، و قولها: فإنما هي إقبال و إدبار، أي ذات إقبال و إدبار.

  • فالمعنى: إن ابنك هذا ذو عمل غير صالح فليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم. و يؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ: {إِنَّهُ عَملَ غَيْرَ صَالِحٍ} بالفعل الماضي أي عمل عملا غير صالح. 

  • و ذكر بعضهم: أن الضمير راجع إلى سؤال نوح (عليه السلام) المفهوم من قوله: {رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي} أي إن سؤالك نجاة ابنك عمل غير صالح لأنه سؤال لما ليس لك به علم و لا ينبغي لنبي أن يخاطب ربه بمثل ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۰

236
  • و هو من أسخف التفسير فإنه معنى لا يلائم شيئا من الجملتين المكتنفتين به لا قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} و لا قوله: {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} و هو ظاهر، و لو كان كذلك كان من حق الكلام أن يتقدم على قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} و يتصل بقول نوح (عليه السلام). 

  • على أنك عرفت أن قول نوح (عليه السلام) : {رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي} إلخ، لا يتضمن سؤالا و إنما كان يسوقه لو جرى في كلامه إلى السؤال لكن العناية الإلهية حالت بينه و بين السؤال. 

  • و قوله: {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} كان قول نوح (عليه السلام) : {رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ} في مظنة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه و هو لا يعلم أنه ليس من أهله فأخذته العناية الإلهية، و حالَ التسديدُ الغيبي بينه و بين السؤال فأدركه النهي بقوله: {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بتفريع النهي على ما تقدم، أي فإذ ليس من أهلك لكونه عملا غير صالح و أنت لا سبيل لك إلى العلم بذلك فإياك أن تبادر إلى سؤال نجاته لأنه سؤال ما ليس لك به علم. 

  • و النهي عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقق سؤال ذلك منه (عليه السلام) لا مستقلا و لا في ضمن قوله: {رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي} لأن النهي عن الشي‌ء لا يستلزم الارتكاب قبلا، و قد قال تعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} الحجر: - ٨٨ فنهى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن حب الدنيا و الافتتان بزينتها و حاشاه عن ذلك. 

  • و إنما يفتقر النهي في صحة تعلقه بفعل ما أن يكون فعلا اختياريا يمكن أن يبتلي به المكلف، و ما نهي عنه الأنبياء (عليه السلام) على هذه الصفة و إن كانوا ذوي عصمة إلهية و تسديد غيبي، فإن من العصمة و التسديد أن يراقبهم الله سبحانه في أعمالهم و كلما اقتربوا مما من شأنه أن يزل فيه الإنسان نبههم على وجه الصواب و يدعوهم إلى السداد و التزام طريق العبودية، قال تعالى: {وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} إسراء: - ٧٥ فأنبأ تعالى أنه هو الذي ثبته و لم يدعه يقترب من الركون إليهم فضلا عن نفس الركون. 

تفسير الميزان ج۱۰

237
  • و قال تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} النساء: - ١١٣. 

  • و من الدليل على أن النهي {فَلاَ تَسْئَلْنِ} إلخ نهي عما لم يقع بعد قول نوح (عليه السلام) بعد استماع هذا النهي: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} و لو كان سأل شيئا لقيل: أعوذ بك من سؤالي ذلك ليفيد المصدر المضاف إلى المعمول التحقق و الارتكاب. 

  • و من الدليل أيضا على أنه (عليه السلام) لم يسأل ذلك تعقيب قوله: {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بقوله: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ} فإن معناه: أني أنصح لك في القول أن لا تكون بسؤالك ذلك من الجاهلين، و لو كان نوح سأل ذلك لكان من الجاهلين لأنه سأل ما ليس له به علم. 

  • فإن قلت: إنه تعالى قال: {أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ} أي ممن استقرت فيه صفة الجهل، و استقرارها إنما يكون بالتكرار لا بالمرة و الدفعة، و بذلك يعلم أنه سأل ما سأل و تحقق منه الجهل مرة و إنما وعظه الله تعالى بما وعظ لئلا يعود إلى مثله فيتكرر منه ذلك فيدخل في زمرة الجاهلين. 

  • قلت: زنة الفاعل كجاهل لا تدل على الاستقرار و التكرر و إنما تفيده الصفة المشبهة كجهول على ما ذكروه، و يشهد لذلك قوله تعالى في قصة البقرة {قَالُوا أَ تَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ} البقرة: - ٦٧، و قوله في قصة يوسف {وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ} يوسف: - ٣٣ و قوله خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) {وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ} الأنعام: - ٣٥. 

  • و أيضا لو كان المراد من النهي عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع مرة لكان الأنسب أن يصرح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله كما وقع في نظير المورد من قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} إلى أن قال {يَعِظُكُمُ اَللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} النور: - ١٧. 

تفسير الميزان ج۱۰

238
  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} لما تبين لنوح (عليه السلام) أنه لو ساقه طبع الخطاب الذي خاطب به ربه إلى السؤال كان سائلا ما ليس له به علم و كان من الجاهلين و إن عناية الله حالت بينه و بين الهلكة، شكر ربه فاستعاذ بمغفرته و رحمته عن ذلك السؤال المخسر فقال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} 

  • و الكلام في الاستعاذة مما لم يقع بعد من الأمور المهلكة و المعاصي الموبقة كالنهي عما لم يقع من الذنوب و الآثام و قد تقدم الكلام فيه و قد أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالاستعاذة من الشيطان و هو معصوم لا سبيل للشيطان إليه، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اَلنَّاسِ} إلى أن قال {مِنْ شَرِّ اَلْوَسْوَاسِ اَلْخَنَّاسِ اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ اَلنَّاسِ} الناس: - ٥ و قال {وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} المؤمنون: - ٩٨ و الوحي مصون عن مس الشياطين كما قال تعالى: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} الجن: - ٢٨. 

  • و قوله: {وَ إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} كلام صورته صورة التوبة و حقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم و التأديب. 

  • أما صورة توبته فإن في ذلك رجوعا إلى ربه تعالى بالاستعاذة و لازمها طلب مغفرة الله و رحمته أي ستره على الإنسان ما فيه زلته و هلاكته و شمول عنايته لحاله و قد تقدم في أواخر الجزء السادس من الكتاب بيان أن الذنب أعم من مخالفة الأمر التشريعي بل كل وبال و أثر سيئ يسوء الإنسان بوجه، و أن المغفرة أعم من الستر على المعصية المعروفة عند المتشرعة بل كل ستر إلهي يسعد الإنسان و يجمع شمله. 

  • و أما حقيقة الشكر فإن العناية الإلهية التي حالت بينه و بين السؤال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين و عصمته ببيان وجه الصواب كانت سترا إلهيا على زلة في طريقه و رحمة و نعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقوله (عليه السلام) : {وَ إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} أي إن لم تعذني من الزلات لخسرت، ثناء و شكر لصنعه الجميل. 

تفسير الميزان ج۱۰

239
  •  قوله تعالى{قِيلَ يَا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَ بَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَ على أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} إلخ، السلام‌ هو السلامة أو التحية غير أن ذكر مس العذاب في آخر الآية يؤيد كون المراد به في صدرها السلامة من العذاب و كذا تبديل البركة في آخر الآية إلى التمتع يدل على أن المراد بالبركات ليس مطلق النعم و أمتعة الحياة بل النعم من حيث تسوق الإنسان إلى الخير و السعادة و العاقبة المحمودة. 

  • فقوله: {قِيلَ} و لم يذكر القائل و هو الله سبحانه للتعظيم {يَا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَ بَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} معناه و الله أعلم يا نوح انزل مع سلامة من العذاب الطوفان و نعم ذوات بركات و خيرات نازلة منا عليك أو أنزل بتحية و بركات نازلة منا عليك. 

  • و قوله: {وَ على أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} معطوف على قوله: {عَلَيْكَ} و تنكير أمم يدل على تبعيضهم لأن من الأمم من يذكره تعالى بعد في قوله: {وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} 

  • و الخطاب أعني قوله تعالى: {يَا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَ بَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} إلى آخر الآية بالنظر إلى ظرف صدوره و ليس وقتئذ متنفس على وجه الأرض من إنسان أو حيوان و قد أغرقوا جميعا و لم يبق منهم إلا جماعة قليلة في السفينة و قد رست و استوت على الجودي، و قد قضي أن ينزلوا إلى الأرض فيعمروها و يعيشوا فيها إلى حين، خطابٌ عام شامل للبشر من لدن خروجهم منها إلى يوم القيامة نظير ما صدر من الخطاب الإلهي يوم أهبط آدم (عليه السلام) من الجنة إلى الأرض و قد حكاه الله تعالى في موضع بقوله: {وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى حِينٍ} إلى أن قال {قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة: - ٣٩ و في موضع آخر بقوله: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ} الأعراف: - ٢٥. 

  • و هذا الخطاب خطاب ثان مشابه لذاك الخطاب الأول موجه إلى نوح (عليه السلام) و من معه من المؤمنين و إليهم ينتهي نسل البشر اليوم متعلق بهم و بمن يلحق بهم 

تفسير الميزان ج۱۰

240
  • من ذراريهم إلى يوم القيامة، و هو يتضمن تقدير حياتهم الأرضية و الإذن في نزولهم إليها و استقرارهم فيها و إيوائهم إياها. 

  • و قد قسم الله هؤلاء المأذون لهم قسمين فعبر عن إذنه لطائفة منهم بالسلام و البركات و هم نوح (عليه السلام) و أمم ممن معه، و لطائفة أخرى بالتمتيع، و عقب التمتيع بمس العذاب لهم، كما أنّ كلمتي السلام و البركات لا تخلوان من بشرى الخير و السعادة بالنسبة إلى من تعلقتا به. 

  • فقد بان من ذلك أن الخطاب بالهبوط في هذه الآية مع ما يرتبط به من سلام و بركات و تمتيع موجه إلى عامة البشر من حين هبوط أصحاب السفينة إلى يوم القيامة، و وزانه وزان خطاب الهبوط الموجه إلى آدم و زوجته (عليهما السلام) ، و في هذا الخطاب إذن في الحياة الأرضية و وعد لمن أطاع الله سبحانه و وعيد لمن عصاه كما أن في ذلك الخطاب ذلك طابق النعل بالنعل. 

  • و ظهر بذلك أن المراد بقوله: {وَ على أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} الأمم الصالحون من أصحاب السفينة و من سيظهر من نسلهم من الصالحين، و الظاهر على هذا أن يكون (مِنْ) في قوله: {مِمَّنْ مَعَكَ} ابتدائية لا بيانية، و المعنى و على أمم يبتدي تكونهم ممن معك، و هم أصحاب السفينة و الصالحون من نسلهم. 

  • و ظاهر هذا المعنى أن يكون أصحاب السفينة كلهم سعداء ناجين، و الاعتبار يساعد ذلك فإنهم قد محصوا بالبلاء تمحيصا و آثروا ما عند الله من زلفى و قد صدق الله سبحانه إيمانهم مرتين في أثناء القصة حيث قال عز من قائل {إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} آية - ٣٦ من السورة، و قال {وَ مَنْ آمَنَ وَ مَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} . آية - ٤٠من السورة. 

  • و قوله: {وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} كأنه مبتدأ لخبر محذوف و التقدير: و ممن معك أمم أو و هناك أمم سنمتعهم إلخ، و قد أخرجهم الله سبحانه من زمرة المخاطبين بخطاب الإذن فلم يقل: و متاع لأمم آخرين سيعذبون طردا لهم من موقف الكرامة، فأخبر أن هناك أمما آخرين سنمتعهم ثم نعذبهم و هم غير مأذون لهم في التصرف في أمتعة الحياة إذن كرامة و زلفى. 

  • و في الآية جهات من تعظيم القائل لا تخفى كالبناء للمفعول في {قِيلَ} و تخصيص نوح 

تفسير الميزان ج۱۰

241
  • (عليه السلام) بخطاب الهبوط و التكلم مع الغير في قوله: {مِنَّا} في موضعين و {سَنُمَتِّعُهُمْ} و غير ذلك. 

  • و ظهر أيضا: أن ما فسروا به قوله: {عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} أن معناه: على أمم من ذرية من معك ليس على ما ينبغي مع ما فيه من خروج من معه من الخطاب و كذا قول من قال: يعني بالأمم سائر الحيوان الذين كانوا معه لأن الله جعل فيهم البركة، و فساده أظهر. 

  • قوله تعالى{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ} أي هذه القصص أو هذه القصة من أنباء الغيب نوحيها إليك. 

  • و قوله: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَ لاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} أي كانت و هي على محوضة الصدق و الصحة مجهولة لك و لقومك من قبل هذا، و الذي عند أهل الكتاب منها محرف مقلوب عن وجه الصواب كما سيوافيك ما في التوراة الحاضرة من قصته (عليه السلام) . 

  • و قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ اَلْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} أمر منتزع عن تفصيل القصة أي إذا علمت ما آل إليه أمر نوح (عليه السلام) و قومه من هلاك قومه و نجاته و نجاة من معه من المؤمنين و قد ورّثهم الله الأرض على ما صبروا، و نصر نوحا على أعدائه على ما صبر فاصبر على الحق فإن العاقبة للمتقين، و هم الصابرون في جنب الله سبحانه. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج إسحاق بن بشر و ابن عساكر عن ابن عباس قال: إن نوحا (عليه السلام) كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات - ثم يخرج فيدعوهم حتى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل و معه ابنه و هو يتوكأ على عصا فقال: يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك قال: يا أبت أمكني من العصا ثم 

تفسير الميزان ج۱۰

242
  • أخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه و سالت الدماء. 

  • قال نوح (عليه السلام) : رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم، و إن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم و أنت خير الحاكمين، فأوحى الله إليه و آيسه من إيمان قومه و أخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال و لا في أرحام النساء مؤمن قال: يا نوح إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون يعني لا تحزن عليهم و اصنع الفلك. قال: يا رب و ما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء فأغرق أهل معصيتي و أطهر أرضي منهم. قال: يا رب و أين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير.

  • و في الكافي بإسناده عن المفضل قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس فلما انتهينا إلى الكناسة قال: هاهنا صلب عمي زيد رحمه الله، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين و هو آخر السراجين فنزل و قال: انزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي كان خطه آدم و أنا أكره أن أدخله راكبا. قلت: فمن غيره عن خطته؟ قال، أما أول ذلك فالطوفان في زمن نوح ثم غيره أصحاب كسرى و النعمان ثم غيره بعد زياد بن أبي سفيان فقلت: 

  • و كانت الكوفة و مسجدها في زمن نوح؟ فقال لي: نعم يا مفضل و كان منزل نوح و قومه في قرية على منزل من الفرات مما يلي غربي الكوفة. 

  • قال: و كان نوح رجلا نجارا فجعله الله عز و جل نبيا و انتجبه، و نوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء. قال: و لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز و جل فيهزءون به و يسخرون منه، فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} ، فأوحى الله عز و جل إلى نوح أن اصنع سفينة و أوسعها و عجل عملها فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بعد حتى فرغ منها . 

  • قال المفضل: ثم انقطع حديث أبي عبد الله (عليه السلام) عند زوال الشمس فقام 

تفسير الميزان ج۱۰

243
  • أبو عبد الله (عليه السلام) فصلى الظهر و العصر ثم انصرف من المسجد، فالتفت عن يساره و أشار بيده إلى موضع دار الدارين و هي موضع دار ابن حكيم و ذلك فرات اليوم فقال: يا مفضل و هاهنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث و يعوق و نسر. ثم مضى حتى ركب دابته . 

  • فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته؟ قال في: دورين. قلت: و كم الدوران؟ قال: ثمانين‌۱ سنة. قلت: فإن العامة يقولون عملها في خمس مائة سنة؟ فقال: كلا. كيف؟ و الله يقول: {وَ وَحْيِنَا} قال: قلت: فأخبرني عن قول الله عز و جل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ} فأين كان موضعه؟ و كيف كان؟ فقال: كان التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبله ميمنة المسجد. قلت له: فأين ذلك؟ قال: موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثم قلت له: و كان بدء خروج الماء من ذلك التنور؟ فقال نعم: إن الله عز و جل أحب أن يرى قوم نوح آية ثم إن الله تبارك و تعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضا و العيون كلهن فيضا فغرقهم الله و أنجى نوحا و من معه في السفينة الحديث. 

  • أقول: و الرواية على طولها غير متعلقة بالتفسير غير أنا أوردناها لتكون كالأنموذجة من روايات كثيرة وردت في هذه المعاني من طرق الشيعة و أهل السنة و لتكون عونا لفهم قصص الآيات من طريق الروايات. 

  • و في الرواية استفادة التعجيل في صنع السفينة من قوله تعالى: {وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا} (الآية) ، و في الرواية نسبة زياد إلى أبي سفيان و لعل الوارد في لفظ الإمام «زياد» فأضيف إليه «ابن أبي سفيان» في لفظ بعض الرواة. 

  • و فيه بإسناده عن أبي رزين الأسدي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن نوحا (عليه السلام) لما فرغ من السفينة و كان ميعاده فيما بينه و بين ربه في إهلاك قومه أن يفور التنور ففار التنور في بيت امرأة فقالت إن التنور قد فار فقام إليه فختمه فقام الماء و أدخل من أراد أن يدخل و أخرج من أراد أن يخرج ثم جاء إلى 

    1. ثمانون ظ.

تفسير الميزان ج۱۰

244
  •  خاتمه فنزعه، يقول الله عز و جل: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ اَلسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَ فَجَّرْنَا اَلْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى اَلْمَاءُ على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَ حَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَ دُسُرٍ} 

  • قال: و كان نجره في وسط مسجدكم. و لقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع.

  • أقول: و كون فوران التنور علامة له (عليه السلام) يعلم به اقتراب الطوفان من الوقوع واقع في عدة من روايات الخاصة و العامة و سياق الآية: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ قُلْنَا اِحْمِلْ} (الآية) ، لا يخلو من ظهور في كونه ميعادا. 

  • و فيه بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان شريعة نوح أن يعبد الله بالتوحيد و الإخلاص و خلع الأنداد و هي الفطرة التي فطر الناس عليها و أخذ الله ميثاقه على نوح و النبيين أن يعبدوا الله تبارك و تعالى و لا يشركوا به شيئا و أمر بالصلاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الحلال و الحرام، و لم يفرض عليه أحكام حدود و لا فرائض مواريث فهذه شريعته. فلبث فيهم نوح ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم سرا و علانية فلما أبوا و عتوا قال: رب إني {مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} فأوحى الله عز و جل إليه: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فذلك قول نوح: {وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} فأوحى الله إليه: {أَنِ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ} 

  • أقول: و رواه العياشي عن الجعفي مرسلا و ظاهر الرواية أن له (عليه السلام) دعاءين على قومه أحدهما و هو أولهما قوله: رب إني {مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} الواقع في سورة القمر، و ثانيهما بعد ما أيأسه الله من إيمان قومه و هو قوله: {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} الواقع في سورة نوح. 

  • و في معاني الأخبار بإسناده عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قول الله عز و جل {وَ مَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} قال: كانوا ثمانية.

  • أقول: و رواه العياشي أيضا عن حمران عنه (عليه السلام) ، و للناس في عددهم أقوال أخر: ستة أو سبعة أو عشرة أو اثنان و سبعون أو ثمانون و لا دليل على شي‌ء منها. 

  • و في العيون بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قال الرضا (عليه السلام) : 

تفسير الميزان ج۱۰

245
  • لما هبط نوح إلى الأرض كان نوح و ولده و من تبعه ثمانين نفسا فبنى حيث نزل قرية فسماها قرية الثمانين.

  • أقول: و لا تنافي بين الروايتين لجواز كون ما عدا الثمانية من أهل نوح (عليه السلام) و قد عمر ما يقرب من ألف سنة يومئذ. 

  • و فيه بإسناده عن الحسن بن علي الوشاء عن الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: قال أبي: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إن الله عز و جل قال لنوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} لأنه كان مخالفا له، و جعل من اتبعه من أهله. 

  • قال: و سألني كيف يقرءون هذه الآية في ابن نوح؟ فقلت: يقرؤها الناس على وجهين: إنه عمل غير صالح، و إنه عمل غير صالح. فقال: كذبوا هو ابنه و لكن الله نفاه عنه حين خالفه في دينه. 

  • أقول: و لعله (عليه السلام) يشير بقوله: «و جعل من اتبعه من أهله» إلى قوله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ} الأنبياء - ٧٦. فإن الظاهر أن المراد بأهله جميع من نجا معه. 

  • و كان المراد من قراءة الآية تفسيرها و الراوي يشير بإيراد القراءتين إلى تفسير من فسر الآية بأن المراد أن امرأة نوح حملت الابن من غيره فألحقه بفراشه و لذلك قرأ بعضهم: «و نادى نوح ابنها» أو «و نادى نوح ابنه» بفتح الهاء مخفف ابنها و نسبوا القراءتين إلى علي و بعض الأئمة من ولده (عليه السلام). 

  • قال في الكشاف: و قرأ علي رضي الله عنه «ابنها» و الضمير لامرأته، و قرأ محمد بن علي و عروة بن الزبير «ابنه» بفتح الهاء يريدان «ابنها» فاكتفيا بالفتحة عن الألف و به ينصر مذهب الحسن قال قتادة: سألته فقال: و الله ما كان ابنه فقلت: إن الله حكى عنه {إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي} و أنت تقول: لم يكن ابنه، و أهل الكتاب لا يختلفون أنه كان ابنه! فقال: و من يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ و استدل بقوله من أهلي و لم يقل: مني. انتهى. 

  • و استدلاله بما استدل به سخيف فإن الله وعده بنجاة أهله و لم يعده بنجاة من 

تفسير الميزان ج۱۰

246
  • كان منه حتى يضطر إلى قول: إن ابني مني عند سؤال نجاته، و قد تقدم بيان أن لفظ الآيات لا يلائم هذا الوجه. 

  • و ما ذكر من عدم الخلاف بين أهل الكتاب منظور فيه فإن التوراة ساكتة عن قصة ابن نوح هذا الغريق. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن الأنباري في المصاحف و أبو الشيخ عن علي رضي الله عنه: أنه قرأ: «و نادى نوح ابنها». 

  • و فيه أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي: في قوله: {وَ نَادى نُوحٌ اِبْنَهُ} قال هي بلغة طيئ لم يكن ابنه و كان ابن امرأته. 

  • أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه (عليه السلام) . 

  • و في تفسير العياشي عن موسى عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول الله: {وَ نَادى نُوحٌ اِبْنَهُ} قال ليس بابنه إنما هو ابن امرأته و هي لغة طيئ يقولون لابن امرأته: ابنه (الحديث). 

  • و فيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قول نوح: {يَا بُنَيَّ اِرْكَبْ مَعَنَا} قال: ليس بابنه. قال: قلت: إن نوحا قال: يا بني؟ قال: فإن نوحا قال ذلك و هو لا يعلم. 

  • أقول: و المعتمد ما تقدم من رواية الوشاء عن الرضا (عليه السلام). 

  • و فيه عن إبراهيم بن أبي العلاء عن أحدهما (عليه السلام) قال: لما قال الله: {يَا أَرْضُ اِبْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} قالت الأرض: إنما أمرت أن أبلع مائي أنا فقط، و لم أومر أن أبلع ماء السماء فبلعت الأرض ماءها و بقي ماء السماء فصير بحرا حول الدنيا. 

  • و فيه عن أبي بصير عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) : في حديث ذكر فيه الجودي قال: و هو جبل بالموصل. 

  • و فيه عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) : {اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ} هو 

تفسير الميزان ج۱۰

247
  • فرات الكوفة. 

  • أقول: و يؤيد الرواية السابقة روايات أخر. 

  • و فيه عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما ركب نوح (عليه السلام) في السفينة قيل: بعدا للقوم الظالمين.

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {قِيلَ يَا أَرْضُ اِبْلَعِي مَاءَكِ} (الآية) قال: و يروى أن كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البر و لحوم الضأن و سلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية فقال بعضهم لبعض هذا كلام لا يشبهه شي‌ء من الكلام، و لا يشبه كلام المخلوقين و تركوا ما أخذوا فيه و افترقوا. 

  • أبحاث حول قصة نوح في فصول و هي أبحاث قرآنية و روائية و تاريخية و فلسفية 

  • ١ - الإشارة إلى قصته

  • ذكر اسمه (عليه السلام) في القرآن في بضع و أربعين موضعا يشار فيها إلى شي‌ء من قصته إجمالا أو تفصيلا، و لم تستوف قصته (عليه السلام) في شي‌ء منها استيفاء على نهج الاقتصاص التاريخي بذكر نسبه و بيته و مولده و مسكنه و نشوئه و شغله و عمره و وفاته و مدفنه و سائر ما يتعلق بحياته الشخصية لما أن القرآن لم ينزل كتاب تاريخ يقتص تواريخ الناس من بر أو فاجر. 

  • و إنما هو كتاب هداية يصف للناس ما فيه سعادتهم، و يبين لهم الحق الصريح ليأخذوا به فيفوزوا في حياتهم الدنيا و الآخرة، و ربما أشار إلى طرف من قصص الأنبياء و الأمم لتظهر به سنة الله في عباده، و يعتبر به من شملته العناية و وفق للكرامة، و تتم به الحجة على الباقين. 

  • و قد فصلت قصة نوح (عليه السلام) في ست من السور القرآنية و هي سورة الأعراف و سورة هود، و سورة المؤمنون، و سورة الشعراء، و سورة القمر، و سورة نوح 

تفسير الميزان ج۱۰

248
  • و أكثرها تفصيلا سورة هود التي ذكرت قصته (عليه السلام) فيها في خمس و عشرين آية (٢٥-٤٩) .

  • ٢ - قصته (عليه السلام) في القرآن

  • بعثه و إرساله

  • كان الناس بعد آدم (عليه السلام) يعيشون أمة واحدة على بساطة و سذاجة، و هم على الفطرة الإنسانية حتى فشا فيهم روح الاستكبار و آل إلى استعلاء البعض على البعض تدريجيا و اتخاذ بعضهم بعضا أربابا و هذه هي النواة الأصلية التي لو نشأت و اخضرت و أينعت لم تثمر إلا دين الوثنية و الاختلاف الشديد بين الطبقات الاجتماعية باستخدام القوي للضعيف، و استرقاق العزيز و استدراره للذليل، و حدوث المنازعات و المشاجرات بين الناس. 

  • فشاع في زمن نوح (عليه السلام) الفساد في الأرض، و أعرض الناس عن دين التوحيد و عن سنة العدل الاجتماعي و أقبلوا على عبادة الأصنام، و قد سمى الله سبحانه منها ودا و سواعا و يغوث و يعوق و نسرا (سورة نوح) . 

  • و تباعدت الطبقات فصار الأقوياء بالأموال و الأولاد يضيعون حقوق الضعفاء، و الجبابرة يستضعفون من دونهم و يحكمون عليهم بما تهواه أنفسهم (الأعراف هود نوح) . 

  • فبعث الله نوحا (عليه السلام) و أرسله إليهم بالكتاب و الشريعة يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه و خلع الأنداد و المساواة فيما بينهم (البقرة آية ٢١٣) بالتبشير و الإنذار.

  • دينه و شريعته (عليه السلام) 

  • كان (عليه السلام) يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه و رفض الشركاء (كما يظهر من جميع قصصه القرآنية) و الإسلام لله (كما يظهر من سورتي نوح و يونس و سورة آل عمران آية ١٩) و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر (كما يظهر من سورة هود آية ٢٧) و الصلاة (كما يظهر من آية ١٠٣ من سورة النساء و آية ٨ من سورة الشورى) 

تفسير الميزان ج۱۰

249
  • و المساواة و العدالة و أن لا يقربوا الفواحش و المنكرات و صدق الحديث و الوفاء بالعهد (سورة الأنعام آية ١٥١-١٥٢) و هو (عليه السلام) أول من حكي عنه في القرآن التسمية باسم الله في الأمور الهامة (سورة هود آية ٤١) . 

  • اجتهاده (عليه السلام) في دعوته

  • و كان (عليه السلام) يدعو قومه إلى الإيمان بالله و آياته، و يبذل في ذلك غاية وسعه فيندبهم إلى الحق ليلا و نهارا و إعلانا و إسرارا فلا يجيبونه إلا بالعناد و الاستكبار و كلما زاد في دعائهم زادوا في عتوهم و كفرهم، و لم يؤمن به غير أهله و عدة قليلة من غيرهم حتى أيس من إيمانهم و شكا ذلك إلى ربه و طلب منه النصر (سورة نوح و القمر و المؤمنون) . 

  • لبثه في قومه

  • لبث (عليه السلام) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه فلم يجيبوه إلا بالهزء و السخرية و رميه بالجنون و أنه يقصد به أن يتفضل عليهم حتى استنصر ربه (سورة العنكبوت) فأوحى إليه ربه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن و عزاه فيهم (سورة هود) فدعا عليهم بالتبار و الهلاك، و أن يطهر الله الأرض منهم عن آخرهم (سورة نوح) فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا و وحينا (سورة هود) . 

  • صنعه (عليه السلام) الفلك

  • أمره الله تعالى أن يصنع الفلك بتأييده سبحانه و تسديده فأخذ في صنعها و كان القوم يمرون عليه طائفة بعد طائفة فيسخرون منه و هو يصنعها على بسيط الأرض من غير ماء، و يقول (عليه السلام) : {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (سورة هود) و قد نصب الله لنزول العذاب علما و هو أن يفور الماء من التنور (سورتا هود و المؤمنون) . 

تفسير الميزان ج۱۰

250
  • نزول العذاب و مجي‌ء الطوفان

  • حتى إذا تمت صنعة الفلك و جاء أمر الله و فار التنور، أوحى الله تعالى إليه أن يحمل في السفينة من كل من الحيوان زوجين اثنين و أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول الإلهي بالغرق و هو امرأته الخائنة و ابنه الذي تخلف عن ركوب السفينة، و أن يحمل الذين آمنوا (سورتا هود و المؤمنون) فلما حملهم و ركبوا جميعا فتح الله أبواب السماء بماء منهمر و فجر الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (سورة القمر) و علا الماء و ارتفعت السفينة عليه و هي تسير في موج كالجبال (سورة هود) فأخذ الناسَ الطوفان و هم ظالمون، و قد أمره الله تعالى إذا استوى هو و من معه على الفلك أن يحمد الله على ما نجاه من القوم الظالمين و أن يسأله البركة في نزوله فيقول: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي نَجَّانَا مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} ، و يقول: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ} 

  • قضاء الأمر و نزوله و من معه إلى الأرض

  • فلما عم الطوفان و أغرق الناس (كما يظهر من سورة الصافات آية ٧٧) أمر الله الأرض أن تبلع ماءها و السماء أن تقلع و غيض الماء و استوت السفينة على جبل الجودي و قيل بعدا للقوم الظالمين، و أوحي إلى نوح (عليه السلام) أن اهبط إلى الأرض بسلام منا و بركات عليك و على أمم ممن معك فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عام، و منهم أمم سيمتعهم الله بأمتعة الحياة ثم يمسهم عذاب أليم فخرج هو و من معه و نزلوا الأرض يعبدون الله بالتوحيد و الإسلام، و توارثت ذريته (عليه السلام) الأرض و جعل الله ذريته هم الباقين (سورتا هود و الصافات) .

  • قصة ابن نوح الغريق

  • كان نوح (عليه السلام) عندما ركب السفينة لم يركبها واحد من أبنائه، و كان لا يصدق أباه في أن من تخلف عنها فهو غريق لا محالة فرآه أبوه و هو في معزل فناداه: يا بني اركب معنا و لا تكن مع الكافرين فرد على أبيه قائلا: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح (عليه السلام) : لا عاصم اليوم من الله إلا من رحم - يريد أهل 

تفسير الميزان ج۱۰

251
  • السفينة فلم يلتفت الابن إلى قوله و حال بينهما الموج فكان من المغرقين. 

  • و لم يكن نوح (عليه السلام) يعلم منه إبطان الكفر كما كان يعلم ذلك من امرأته و لو كان علم ذلك لم يحزنه أمره و هو القائل في دعائه {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} الدعاء نوح - ٢٧ و هو القائل {فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} الشعراء: - ١١٨ و قد سمع قوله تعالى فيما أوحى إليه {وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} هود: - ٣٧. 

  • فوجد نوح (عليه السلام) و حزن فنادى ربه من وجده قائلا: رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق وعدتني بإنجاء أهلي و أنت أحكم الحاكمين لا تجور في حكمك و لا تجهل في قضائك، فما الذي جرى على ابني؟ فأخذته العناية الإلهية و حالت بينه و بين أن يصرح بالسؤال في نجاة ابنه و هو سؤال لما ليس له به علم و أوحى الله إليه: يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فإياك أن تواجهني فيه بسؤال النجاة فيكون سؤالا فيما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين. 

  • فانكشف الأمر لنوح (عليه السلام) و التجأ إلى ربه تعالى قائلا رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم أسألك أن تشملني بعنايتك و تستر علي بمغفرتك، و تعطف علي برحمتك، و لو لا ذلك لكنت من الخاسرين. 

  • ٣ - خصائص نوح (عليه السلام) 

  • هو (عليه السلام) أول أولي العزم سادة الأنبياء أرسله الله إلى عامة البشر بكتاب و شريعة فكتابه أول الكتب السماوية المشتملة على شرائع الله، و شريعته أول الشرائع الإلهية. 

  • و هو (عليه السلام) الأب الثاني للنسل الحاضر من الإنسان إليه ينتهي أنسابهم و الجميع ذريته لقوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ} الصافات: - ٧٧ و هو (عليه السلام) أبو الأنبياء المذكورين في القرآن ما عدا آدم و إدريس (عليه السلام) قال تعالى: {وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ} الصافات: - ٧٨. 

  • و هو (عليه السلام) أول من فتح باب التشريع و أتى بكتاب و شريعة و كلم الناس 

تفسير الميزان ج۱۰

252
  • بمنطق العقل و طريق الاحتجاج مضافا إلى طريق الوحي فهو الأصل الذي ينتهي إليه دين التوحيد في العالم فله المنّة على جميع الموحدين إلى يوم القيامة، و لذلك خصه الله تعالى بسلام عام لم يشاركه فيه أحد غيره فقال عز من قائل {سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي اَلْعَالَمِينَ} الصافات: - ٧٩. 

  • و قد اصطفاه الله على العالمين (آل عمران آية ٣٣) و عده من المحسنين (الأنعام ٨٤ الصافات ٨٠) و سماه عبدا شكورا (إسراء آية ٣) و عده من عباده المؤمنين (الصافات ٨١) و سماه عبدا صالحا (التحريم ١٠) . 

  • و آخر ما نقل من دعائه قوله: {رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ لاَ تَزِدِ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً} نوح: - ٢٨ 

  • ٤ - قصته (عليه السلام) في التوراة الحاضرة

  • و حدث‌۱ لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض و ولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد. لزيغانه هو بشر و تكون أيامه مائة و عشرين سنة. كان في الأرض طغاة في تلك الأيام. و بعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس و ولدن لهم أولادا هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم. 

  • و رأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض. و أن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض. و تأسف في قلبه. فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم و دبابات و طيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم. و أما نوح فوجد نعمة في عين الرب. 

  • هذه مواليد نوح. كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله و سار نوح مع الله. و ولد نوح ثلاثة بنين ساما و حاما و يافث. و فسدت الأرض أمام الله و امتلأت الأرض ظلما. و رأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت. إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض. 

    1. الإصحاح السادس من سفر التكوين.

تفسير الميزان ج۱۰

253
  • فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي. لأن الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن. و تطليه من داخل و من خارج بالقار. و هكذا تصنعه. ثلاث مائة ذراع يكون طول الفلك و خمسين ذراعا عرضه و ثلاثين ذراعا ارتفاعه. و تصنع كوا للفلك و تكمله إلى حد ذراع من فوق. و تضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفلية و متوسطة و علوية تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت. و لكن أقيم عهدي معك. فتدخل الفلك أنت و بنوك و امرأتك و نساء بنيك معك. و من كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا و أنثى. من الطيور كأجناسها. و من البهائم كأجناسها و من كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها. و أنت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل و اجمعه عندك. فيكون لك و لها طعاما. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله. هكذا فعل. 

  • و قال‌۱ الرب لنوح: ادخل أنت و جميع بنيك إلى الفلك. لأني إياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا و أنثى. و من البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكر و أنثى. و من طيور السماء أيضا سبعة سبعة ذكرا و أنثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض. لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما و أربعين ليلة. و أمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الرب. 

  • و لما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض. فدخل نوح و بنوه و امرأته و نساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. و من البهائم الطاهرة و البهائم التي ليست بطاهرة و من الطيور و كل ما يدب على الأرض. دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكر و أنثى. كما أمر الله نوحا. 

  •  

    1. الإصحاح السابع من سفر التكوين.

تفسير الميزان ج۱۰

254
  • و حدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض. في سنة ستمائة من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم و انفتحت طاقات السماء. و كان المطر على الأرض أربعين يوما و أربعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح و سام و حام و يافث بنو نوح و امرأة نوح و ثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك. هم و كل الوحوش كأجناسها و كل الدبابات التي تدب على الأرض كأجناسها و كل الطيور كأجناسها كل عصفور ذي جناح. و دخل إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة. و الداخلات دخلت ذكرا و أنثى من كل ذي جسد كما أمره الله. و أغلق الرب عليه. 

  • و كان الطوفان أربعين يوما على الأرض. و تكاثرت المياه و رفعت الفلك فارتفع عن الأرض. و تعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض فكان الفلك يسير على وجه المياه. و تعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. خمسة عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه فتغطت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض من الطيور و البهائم و الوحوش و كل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض و جميع الناس. كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات. فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض. الناس و البهائم و الدبابات و طيور السماء فانمحت من الأرض. و تبقى نوح و الذين معه في الفلك فقط. و تعاظمت المياه على الأرض مائة و خمسين يوما. 

  • ثم‌۱ ذكر الله نوحا و كل الوحوش و كل البهائم التي معه في الفلك و أجاز الله ريحا على الأرض فهدأت المياه. و انسدت ينابيع الغمر و طاقات السماء فامتنع المطر من السماء. و رجعت المياه عن الأرض رجوعا متواليا و بعد مائة و خمسين يوما نقصت المياه. و استقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. و كانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر و في العاشر في أول الشهر ظهرت رءوس الجبال. 

  •  

    1. الإصحاح الثامن سفر التكوين. 

تفسير الميزان ج۱۰

255
  • و حدث من بعد أربعين يوما أن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها. و أرسل الغراب فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض. ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض. فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك لأن مياها كانت على وجه كل الأرض فمد يده و أخذها و أدخلها عنده إلى الفلك. فلبث أيضا سبعة أيام أخر و عاد فأرسل الحمامة من الفلك. فأتت إليه الحمامة عند المساء و إذا ورقة زيتون خضراء في فمها فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض. فلبث أيضا سبعة أيام أخر فأرسل الحمامة فلم يعد يرجع إليه أيضا. 

  • و كان في السنة الواحدة و الستمائة في الشهر الأول في أول الشهر أن المياه نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك و نظر فإذا وجه الأرض قد نشف. و في الشهر الثاني في اليوم السابع و العشرين من الشهر جفت الأرض. 

  • و كلم الله نوحا قائلا: اخرج من الفلك أنت و امرأتك و بنوك و نساء بنيك معك. و كل الحيوانات التي معك من كل ذي جسد الطيور و البهائم و كل الدبابات التي تدب على الأرض أخرجها معك و لتتوالد في الأرض و تثمر و تكثر على الأرض. فخرج نوح و بنوه و امرأته و نساء بنيه معه، و كل الحيوانات و كل الدبابات و كل الطيور كل ما يدب على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك. 

  • و بنى نوح مذبحا للرب. و أخذ من كل البهائم الطاهرة و من كل الطيور الطاهرة و أصعد محرقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا و قال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته و لا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت. مدة كل أيام الأرض زرع و حصاد و برد و حر و صيف و شتاء و نهار و ليل لا يزال. 

  • و بارك الله۱ نوحا و بنيه و قال لهم أثمروا و أكثروا و املئوا الأرض و لتكن خشيتكم و رهبتكم على كل حيوانات الأرض و كل طيور السماء مع كل ما يدب على الأرض و كل أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم. كل دابة حية تكون لكم طعاما 

    1. الإصحاح التاسع من سفر التكوين.

تفسير الميزان ج۱۰

256
  • كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. غير أن لحما بجنابة دمه لا تأكلوه. و أطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط من يد كل حيوان أطلبه و من يد الإنسان أطلب نفس الإنسان من يد الإنسان أخيه. سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأن الله على صورته عمل الإنسان. فأثمروا أنتم و أكثروا و توالدوا في الأرض و تكاثروا فيها. 

  • و كلم الله نوحا و بنيه معه قائلا. و ها أنا مقيم ميثاقي معكم و مع نسلكم من بعدكم. و مع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم الطيور و البهائم و كل وحوش الأرض التي معكم من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الأرض. أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضا بمياه الطوفان و لا يكون أيضا طوفان ليخرب الأرض. و قال الله هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني و بينكم و بين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر. وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني و بين الأرض. فيكون متى أنشر سحابا على الأرض و تظهر القوس في السحاب. إني أذكر ميثاقي الذي بيني و بينكم و بين كل نفس حية في كل جسد فلا يكون أيضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقا أبديا بين الله و بين كل نفس حية في كل جسد على الأرض. و قال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني و بين كل ذي جسد على الأرض. 

  • و كان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما و حاما و يافث و حام هو أبو كنعان هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح و من هؤلاء تشعبت كل الأرض. 

  • و ابتدأ نوح يكون فلاحا و غرس كرما. و شرب من الخمر فسكر و تعرى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه و أخبر أخويه خارجا. فأخذ سام و يافث الرداء و وضعاه على أكتافهما و مشيا إلى الوراء و سترا عورة أبيهما و وجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما. 

  • فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته. و قال: مبارك الرب إله سام و ليكن كنعان عبدا لهم ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام و ليكن كنعان عبدا لهم. 

تفسير الميزان ج۱۰

257
  • و عاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة و خمسين سنة. فكانت كل أيام نوح تسع مائة و خمسين سنة و مات. انتهى ما قصدنا إيراده. 

  • و هو - كما ترى - يخالف ما جاء في القرآن الكريم من وجوه: 

  • منها: أنه لم يذكر فيه حديث استثناء امرأة نوح بل صرح بدخولها الفلك و نجاتها مع بعلها، و قد اعتذر عنه بعض: أن من الجائز أن يكون لنوح زوجان أغرقت إحداهما و نجت الأخرى. 

  • و منها: أنه لم يذكر فيه ابن نوح الغريق و قد قصه القرآن. 

  • و منها: أنه لم يذكر فيه المؤمنون غير نوح و أهله بل اقتصر عليه و على بنيه و امرأته و نساء بنيه. 

  • و منها: أنه ذكر فيه جملة عمر نوح تسع مائة و خمسين سنة، و ظاهر الكتاب العزيز أنها المدة التي لبث فيها بين قومه يدعوهم إلى الله قبل الطوفان. قال تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفَانُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ} العنكبوت: - ١٤. 

  • و منها: ما ذكر فيه من حديث قوس قزح و قصة إرسال الغراب و الحمامة للاستخبار و خصوصيات السفينة من عرضها و طولها و ارتفاعها و طبقاتها الثلاث و مدة الطوفان و ارتفاع الماء و غير ذلك فهي خصوصيات لم تذكر في القرآن الكريم و بعضها بعيد مستبعد كالميثاق بالقوس، و قد كثر الاقتصاص بمثل هذه المعاني في قصة نوح (عليه السلام) في لسان الصحابة و التابعين، و أكثرها بالإسرائيليات أشبه. 

  • ٥ - ما جاء في أمر الطوفان في أخبار الأمم و أساطيرهم

  • قال صاحب المنار في تفسيره: قد ورد في تواريخ الأمم القديمة ذكر للطوفان منها الموافق لخبر سفر التكوين إلا قليلا و منها المخالف له إلا قليلا. 

  • و أقرب الروايات إليه رواية الكلدانيين، و هم الذين وقع الطوفان في بلادهم 

تفسير الميزان ج۱۰

258
  • فقد نقل عنهم «برهوشع» و «يوسيفوس» أن «زيزستروس» رأى في الحلم بعد موت والده «أوتيرت» أن المياه ستطغى و تغرق جميع البشر، و أمره ببناء سفينة يعتصم فيها هو و أهل بيته و خاصة أصدقائه ففعل. و هو يوافق سفر التكوين في أنه كان في الأرض جيل من الجبارين طغوا فيها و أكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان. 

  • و قد عثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسمارية في عصر آشور بانيبال من نحو ستمائة و ستين سنة قبل ميلاد المسيح، و أنها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح أو قبله فهي أقدم من سفر التكوين. 

  • و روى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون و هو أن كهنة المصريين قالوا لسولون الحكيم اليوناني إن السماء أرسلت طوفانا غير وجه الأرض فهلك البشر مرارا بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شي‌ء من آثار من قبله و معارفهم. 

  • و أورد «مانيتون» خبر طوفان حدث بعد هرمس الأول الذي كان بعد ميناس الأول، و هذا أقدم من تاريخ التوراة أيضا، و روي عن قدماء اليونان خبر طوفان عم الأرض كلها إلا «دوكاليون» و امرأته «بيرا» فقد نجوا منه. 

  • و روي عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد و الشرور بفعل أهريمن إله الشر، و قالوا: إن هذا الطوفان فار أولا من تنور العجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه، و لكن المجوس أنكروا عموم الطوفان و قالوا: إنه كان خاصا بإقليم العراق و انتهى إلى حدود كردستان. 

  • و كذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرات في شكل خرافي آخرها أن ملكهم نجا هو و امرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعها إلهه فشنو و سدها بالدسر حتى استوت على جبل جيمافات هملايا و لكن البراهمة كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عام أغرق الهند كلها، و روي تعدد الطوفان عن اليابان و الصين و عن البرازيل و المكسيك و غيرهما، و كل هذه الروايات تتفق في أن سبب ذلك عقاب الله للبشر بظلمهم و شرورهم. انتهى. 

تفسير الميزان ج۱۰

259
  • و قد۱ وقع في «أوستا» و هو كتاب المجوس المقدس أن «أهورا مزدا» أوحى إلى «إيما» (و تعتقد المجوس أنه جمشيد الملك) أنه سيقع طوفان يغرق الأرض، و أمره أن يبني حائطا مرتفعا غايته يحفظ من في داخله من الغرق، و أن يجمع في داخله جماعة من الرجال و النساء صالحة للنسل، و يدخل فيه من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين، و يبني في داخل السور بيوتا و قبابا في طبقات مختلفة يسكنها الناس المجتمعون هناك و يأوي إليها الدواب و الطيور، و أن يغرس في داخله ما ينفع في حياة الناس من الأشجار المثمرة، و يحرث ما يرتزق به الناس من الحبوب الكريمة فيحتفظ بذلك ما به حياة الدنيا و عمارتها. 

  • و في تاريخ الأدب الهندي‌٢ في قصة الطوفان: أنه بينما كان «مانو» (هو ابن الإله عند الوثنيين) يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة، و مما اندهش به أن السمكة كلمته و طلبت إنقاذها من الهلاك و وعدته جزاء عليه أنها ستنقذ «مانو» في المستقبل من خطر عظيم، و الخطر العظيم المحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفانا سيجرف جميع المخلوقات و على ذلك حفظ «مانو» السمكة في المرتبان. 

  • فلما كبرت أخبرت «مانو» عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان ثم أشارت على مانو أن يصنع سفينة كبيرة و يدخل فيها عند طوفان الماء قائلة: أنا أنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة و السمكة كبرت أكثر من سعة المرتبان لذلك ألقاها في البحر. 

  • ثم جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، و حين دخل «مانو» السفينة عامت السمكة إليه فربط السفينة بقرن على رأسها فجرتها إلى الجبال الشمالية، و هنا ربط مانو السفينة بشجرة، و عندما تراجع الماء و جف بقي مانو وحده. انتهى. 

  • ٦- هل كانت نبوته ع عامة للبشر؟ 

  • مسألة اختلفت فيها آراء العلماء. فالمعروف عند الشيعة عموم رسالته، و قد ورد من طرق أهل البيت (عليه السلام) 

    1. ترجمة كتاب أوستا بالفرنسية المطبوعة بباريس.
    2. على ما في قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار.

تفسير الميزان ج۱۰

260
  • ما يدل عليه، و على أن أولي العزم من الأنبياء و هم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) كانوا مبعوثين إلى الناس كافة. 

  • و أما أهل السنة فمنهم من قال بعموم رسالته مستندا إلى ظاهر الآيات الناطقة بشمول الطوفان لأهل الأرض كلهم كقوله: {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً} نوح: - ٢٦ و قوله: {لاَ عَاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} هود: - ٤٣، و قوله: {وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ} الصافات - ٧٧، و ما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة أن نوحا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض و لازمه كونه مبعوثا إليهم كافة. 

  • و منهم من أنكر ذلك مستندا إلى ما ورد في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : «و كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة و بعثت إلى الناس كافة» و أجابوا عن الآيات أنها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كانوا يسكنونها و هي وطنهم كقول فرعون لموسى و هارون {وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِيَاءُ فِي اَلْأَرْضِ} يونس: - ٧٨. 

  • فمعنى الآية الأولى: لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديارا، و كذا المراد بالثانية: لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله، و المراد بالثالثة: و جعلنا ذريته هم الباقين من قومه. 

  • و الحق أن البحث لم يستوف حقه في كلامهم، و الذي ينبغي أن يقال: إن النبوة إنما ظهرت في المجتمع الإنساني عن حاجة واقعية إليها و رابطة حقيقية بين الناس و بين ربهم و هي تعتمد على حقيقة تكوينية لا اعتبارية جزافية فإن من القوانين الحقيقية الحاكمة في نظام الكون ناموس تكميل الأنواع و هدايتها إلى غاياتها الوجودية، و قد قال تعالى: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى } الأعلى: - ٣، و قال‌ {اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى } طه: - ٥٠. 

  • فكل نوع من أنواع الكون متوجه منذ أول تكونه إلى كمال وجوده و غاية خلقه الذي فيه خيره و سعادته، و النوع الإنساني أحد هذه الأنواع غير مستثنى من بينها فله كمال و سعادة يسير إليها و يتوجه نحوها أفراده فرادى و مجتمعين. 

تفسير الميزان ج۱۰

261
  • و من الضروري عندنا أن هذا الكمال لا يتم للإنسان وحده لوفور حوائجه الحيوية و كثرة الأعمال التي يجب أن يقوم بها لأجل رفعها فالعقل العملي الذي يبعثه إلى الاستفادة من كل ما يمكنه الاستفادة منه و استخدام الجماد و أصناف النبات و الحيوان في سبيل منافعه يبعثه إلى الانتفاع بأعمال غيره من بني نوعه. 

  • غير أن الأفراد أمثال و في كل واحد منهم من العقل العملي و الشعور الخاص الإنساني ما في الآخر و يبعثه من الانتفاع إلى مثل ما يبعث إليه الآخر ما عنده من العقل العملي، و اضطرهم ذلك إلى الاجتماع التعاوني بأن يعمل الكل للكل و ينتفع من عمل الغير بمثل ما ينتفع الغير من عمله فيتسخر كل لغيره بمقدار ما يسخره كما قال تعال {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا} الزخرف: - ٣٢. 

  • و هذا الذي ذكرناه من بناء الإنسان على الاجتماع التعاوني اضطراري له ألزمه عليه حاجة الحياة و قوة الرقباء فهو في الحقيقة مدني تعاوني بالطبع الثاني و إلا فطبعه الأولي أن ينتفع بكل ما يتيسر له الانتفاع حتى أعمال أبناء نوعه، و لذلك مهما قوي الإنسان و استغنى و استضعف غيره عدا عليه و أخذ يسترق الناس و يستثمرهم من غير عوض قال تعالى: {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إبراهيم: - ٣٤ و قال {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنى إِنَّ إلى رَبِّكَ اَلرُّجْعى } العلق: - ٨. 

  • و من الضروري أن الاجتماع التعاوني بين الأفراد لا يتم إلا بقوانين يحكم فيها و حفاظ تقوم بها، و هذا مما استمرت سيرة النوع عليه فما من مجتمع من المجتمعات الإنسانية كاملا كان أو ناقصا، راقيا كان أو منحطا إلا و يجري فيه رسوم و سنن جريانا كليا أو أكثريا، و التاريخ و التجربة و المشاهدة أعدل شاهد في تصديقه و هذه الرسوم و السنن و إن شئت فسمها القوانين هي مواد و قضايا فكرية تطبق عليها أعمال الناس تطبيقا كليا أو أكثريا في المجتمع فينتج سعادتهم حقيقة أو ظنا فهي أمور متخللة بين كمال الإنسان و نقصه، و أشياء متوسطة بين الإنسان و هو في أول نشأته و بينه و هو مستكمل في حياته عائش في مجتمعة تهدي الإنسان إلى غاية وجوده فافهم ذلك. 

  • و قد علم أن من الواجب في عناية الله أن يهدي الإنسان إلى سعادة حياته و كمال 

تفسير الميزان ج۱۰

262
  • وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه فكما هداه بواجب عنايته من طريق الخلقة و الفطرة إلى ما فيه خيره و سعادته و هو الذي يبعثها إليه نظام الكون و الجهازات التي جهز بها إلى أن يشعر بما فيه نفعه و يميز خيره من شره و سعادته من شقائه كما قال تعالى: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَ قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} الشمس: - ١٠. 

  • يهديه بواجب عنايته إلى أصول و قوانين اعتقادية و عملية يتم له بتطبيق شئون حياته عليها كماله و سعادته فإن العناية الإلهية بتكميل الأنواع بما يناسب نوع وجودها توجب هذا النوع من الهداية كما توجب الهداية التكوينية المحضة. 

  • و لا يكفي في ذلك ما جهز به الإنسان من العقل و هو هاهنا العملي منه فإن العقل كما سمعت يبعث نحو الاستخدام و يدعو إلى الاختلاف، و من المحال أن يفعل شي‌ء من القوى الفعالة فعلين متقابلين و يفيد أثرين متناقضين، على أن المتخلفين من هذه القوانين و المجرمين بأنواع الجرائم المفسدة للمجتمع كلهم عقلاء ممتعون بمتاع العقل مجهزون به. 

  • فظهر أن هناك طريقا آخر لتعليم الإنسان شريعة الحق و منهج الكمال و السعادة غير طريق التفكر و التعقل و هو طريق الوحي، و هو نوع تكليم إلهي يعلم الإنسان ما يفوز بالعمل به و الاعتقاد له في حياته الدنيوية و الأخروية. 

  • فإن قلت: الأمر سواء فإن شرع النبوة لم يأت بأزيد مما لو كان العقل لأتى به فإن العالم الإنساني لم يخضع لشرائع الأنبياء كما لم يصغ إلى نداء العقل، و لم يقدر الوحي أن يدير المجتمع الإنساني و يركبه صراط الحق فما هي الحاجة إليه؟ 

  • قلت: لهذا البحث جهتان: جهة أن العناية الإلهية من واجبها أن تهدي المجتمع الإنساني إلى تعاليم تسعده و تكمله لو عمل بها و هي الهداية بالوحي و لا يكفي فيها العقل، و جهة أن الواقع في الخارج و المتحقق بالفعل ما هو؟ و إنما نبحث في المقام من الجهة الأولى دون الثانية، و لا يضر بها أن هذه الطريقة لم تجر بين الناس إلى هذه الغاية إلا قليلا. و ذلك كما أن العناية الإلهية تهدي أنواع النبات و الحيوان إلى كمال خلقها و غاية وجودها و مع ذلك يسقط أكثر أفراد كل نوع دون الوصول 

تفسير الميزان ج۱۰

263
  • إلى غايته النوعية و يفسد و يموت قبل البلوغ إلى عمره الطبيعي. 

  • و بالجملة فطريق النبوة مما لا مناص منه في تربية النوع بالنظر إلى العناية الإلهية و إلا لم تتم الحجة بمجرد العقل لأن له شغلا غير الشغل و هو دعوة الإنسان إلى ما فيه صلاح نفسه، و لو دعاه إلى شي‌ء من صلاح النوع فإنما يدعوه إليه بما فيه صلاح نفسه، فافهم ذلك و أحسن التدبر في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبَاطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هَارُونَ وَ سُلَيْمَانَ وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اَللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ وَ كَانَ اَللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء: - ١٦٥. 

  • فمن الواجب في العناية أن ينزل الله على المجتمع الإنساني دينا يدينون به و شريعة يأخذون بها في حياتهم الاجتماعية دون أن يخص بها قوما و يترك الآخرين سدى لا عناية بهم، و لازمه الضروري أن يكون أول شريعة نزلت عليهم شريعة عامة. 

  • و قد أخبر الله سبحانه عن هذه الشريعة بقوله عز من قائل {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ} البقرة: - ٢١٣، فبين أن الناس كانوا أول ما نشئوا و تكاثروا على فطرة ساذجة لا يظهر فيهم أثر الاختلافات و المنازعات الحيوية ثم ظهر فيهم الاختلافات فبعث الله الأنبياء بشريعة و كتاب يحكم بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه، و يحسم مادة الخصومة و النزاع. 

  • ثم قال تعالى فيما امتن به على محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى } الشورى: - ١٣. و مقام الامتنان يقضي بأن الشرائع الإلهية المنزلة على البشر هي هذه التي ذكرت لا غير، و أول ما ذكر من الشريعة هي شريعة نوح، و لو لم يكن عامة للبشر كلهم و خاصة في زمنه (عليه السلام) لكان هناك إما نبي آخر ذو شريعة أخرى لغير قوم نوح و لم يذكر في الآية و لا في موضع آخر من كلامه تعالى، و إما إهمال سائر الناس غير 

تفسير الميزان ج۱۰

264
  • قومه (عليه السلام) في زمنه و بعده إلى حين. 

  • فقد بان أن نبوة نوح (عليه السلام) كانت عامة، و أن له كتابا و هو المشتمل على شريعته الرافعة للاختلاف، و أن كتابه أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة، و أن قوله تعالى في الآية السابقة {وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ} هو كتابه أو كتابه و كتاب غيره من أولي العزم: إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه وآله وسلم. 

  • و ظهر أيضا أن ما يدل من الروايات على عدم عموم دعوته (عليه السلام) مخالف للكتاب‌ و في حديث الرضا (عليه السلام) : أن أولي العزم من الأنبياء خمسة لكل منهم شريعة و كتاب و نبوتهم عامة لجميع من سواهم نبيا أو غير نبي‌، و قد تقدم الحديث في ذيل قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} البقرة - ٢١٣، في الجزء الثاني من الكتاب.

  • ٧ - هل الطوفان كانت عامة لجميع الأرض؟ 

  • تبين الجواب عن هذا السؤال في الفصل السابق فإن عموم دعوته (عليه السلام) يقضي بعموم العذاب، و هو نعم القرينة على أن المراد بسائر الآيات الدالة بظاهرها على العموم ذلك كقوله تعالى حكاية عن نوح (عليه السلام) {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً} نوح - ٢٦، و قوله حكاية عنه {لاَ عَاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} هود: - ٤٣، و قوله: {وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ} الصافات: - ٧٧. 

  • و من الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من كلامه تعالى أنه أمر نوحا أن يحمل من كل زوجين اثنين فمن الواضح أنه لو كان الطوفان خاصا بصقع من أصقاع الأرض و ناحية من نواحيها كالعراق كما قيل لم يكن أي حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين. و هو ظاهر. 

  • و اختار بعضهم كون الطوفان خاصا بأرض قوم نوح (عليه السلام) قال صاحب المنار في تفسيره: أما قوله في نوح (عليه السلام) بعد ذكر تنجيته و أهله: {وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ} فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيا أي الباقين دون غيرهم من قومه، و أما 

تفسير الميزان ج۱۰

265
  • قوله: {وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً} فليس نصا في أن المراد بالأرض هذه الكرة كلها فإن المعروف من كلام الأنبياء و الأقوام و في أخبارهم أن تذكر الأرض و يراد بها أرضهم و وطنهم كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى و هارون: {وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِيَاءُ فِي اَلْأَرْضِ} يعني أرض مصر، و قوله: {وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} فالمراد بها مكة، و قوله: {وَ قَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اَلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} و المراد بها الأرض التي كانت وطنهم، و الشواهد عليه كثيرة. 

  • و لكن ظواهر الآيات تدل بمعونة القرائن و التقاليد الموروثة عن أهل الكتاب على أنه لم يكن في الأرض كلها في زمن نوح إلا قومه و أنهم هلكوا كلهم بالطوفان و لم يبق بعده فيها غير ذريته، و هذا يقتضي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سهلها و جبلها لا في الأرض كلها إلا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين و بوجود البشر عليها فإن علماء التكوين و طبقات الأرض الجيولوجية يقولون إن الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة ثم صارت كرة مائية ثم ظهرت فيها اليابسة بالتدريج. 

  • ثم أشار إلى ما استدل به بعض أهل النظر على عموم الطوفان لجميع الأرض من أنا نجد بعض الأصداف و الأسماك المتحجرة في أعالي الجبال و هذه الأشياء مما لا تتكون إلا في البحر فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء قد صعد إليها مرة من المرات، و لن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض هذا. 

  • و رد عليه بأن وجود الأصداف و الحيوانات البحرية في قلل الجبال لا يدل على أنه من أثر ذلك الطوفان بل الأقرب أنه من أثر تكون الجبال و غيرها من اليابسة في الماء كما قلنا آنفا فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها. 

  • ثم قال ما ملخصه: أن هذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن و لذلك لم يبينها بنص قطعي فنحن نقول بما تقدم أنه ظاهر النصوص و لا نتخذه عقيدة دينية قطعية فإن أثبت علم الجيولوجية خلافه لا يضرنا لأنه لا ينقض نصا 

تفسير الميزان ج۱۰

266
  • قطعيا عندنا. انتهى. 

  • أقول: أما ما ذكره من تأويل الآيات فهو من تقييد الكلام من غير دليل، و أما قوله في رد قولهم بوجود الأصداف و الأسماك في قلل الجبال: إن صعود الماء إليها في أيام معدودة لا يكفي في حدوثها! ففيه أن من الجائز أن تحملها أمواج الطوفان العظيمة إليها ثم تبقى عليها بعد النشف فإن ذلك من طوفان يغمر الجبال الشامخة في أيام معدودة غير عزيز. 

  • و بعد ذلك كله قد فاته ما ينص عليه الآيات أنه (عليه السلام) أمر أن يحمل من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين فإن ذلك كالنص في أن الطوفان عم البقاع اليابسة من الأرض جميعا أو معظمها الذي هو بمنزلة الجميع. 

  • فالحق أن ظاهر القرآن الكريم ظهورا لا ينكر أن الطوفان كان عاما للأرض، و أن من كان عليها من البشر أغرقوا جميعا و لم يقم لهذا الحين حجة قطعية تصرفها عن هذا الظهور. 

  • بحث جيولوجي ملحق بهذا الفصل في فصول 

  • و قد كنت سألت صديقي الفاضل الدكتور سحابي المحترم أستاذ الجيولوجيا بكلية طهران أن يفيدني بما يرشد إليه الأبحاث الجيولوجية في أمر هذا الطوفان العام إن كان فيها ما يؤيد ذلك على وجه كلي فأجابني بإيفاد مقال محصله ما يأتي مفصلا في فصول: 

  • ١ - الأراضي الرسوبية

  • تطلق الأراضي الرسوبية في الجيولوجيا على الطبقات الأرضية التي كونتها رسوبات المياه الجارية على سطح الأرض كالبطائح و المسيلات التي غطتها الرمال و دقاق الحصى. 

  • نعرف الأراضي الرسوبية بما تراكم فيها من الرمال و دقاق الحصى الكروية المدورة فإنها كانت في الأصل قطعات من الحجارة حادة الأطراف و الزوايا حولتها إلى هذه الحالة الاصطكاكات الواقعة بينها في المياه الجارية و السيول العظيمة ثم إن الماء حملها و بسطها على الأرض في غايات قريبة أو بعيدة بالرسوب. 

  • و ليست تنحصر الأراضي الرسوبية في البطائح فغالب الأراضي الترابية من 

تفسير الميزان ج۱۰

267
  • هذا القبيل تخالطها أو تكونها رمال بالغة في الدقة، و قد حملها لدقتها و خفتها إليها جريان المياه و السيول. 

  • نجد الأراضي الرسوبية و قد غطتها طبقات مختلفة من الرمل و التراب بعضها فوق بعض من غير ترتيب و نظم، و ذلك أولا أمارة أن تلك الطبقات لم تتكون في زمان واحد بعينه و ثانيا أن مسير المياه و السيول أو شدة جريانها قد تغير بحسب اختلاف الأزمنة. 

  • و يتضح بذلك أن الأراضي الرسوبية كانت مجاري و مسائل في الأزمنة السابقة لمياه و سيول هامة و إن كانت اليوم في معزل من ذلك. 

  • و هذه الأراضي التي تحكي عن جريان مياه كثيرة جدا و سيلان سيول هائلة عظيمة توجد في أغلب مناطق الأرض منها أغلب نقاط إيران كأراضي طهران و قزوين و سمنان و سبزوار و يزد و تبريز و كرمان و شيراز و غيرها، و منها مركز بين النهرين و جنوبه، و ما وراء النهر، و صحراء الشام، و الهند، و جنوب فرنسا، و شرقي الصين، و مصر، و أكثر قطعات أمريكا، و تبلغ ضخامة الطبقة الرسوبية في بعض الأماكن إلى مئات الأمتار كما أنها في أرض طهران تجاوز أربعمائة مترا. 

  • و ينتج مما مر أولا: أن سطح الأرض في عهد ليس بذاك البعيد (على ما سيأتي توضيحه) كان مجرى سيول هائلة عظيمة ربما غطت معظم بقاعها. 

  • و ثانيا: أن الطغيان و الطوفان بالنظر إلى صخامة القشر الرسوبي في بعض الأماكن لم يحدث مرة واحدة و لا في سنة أو سنين معدودة بل دام أو تكرر في مئات من السنين كلما حدث مرة كون طبقة رسوبية ثم إذا انقطع غطتها طبقة ترابية ثم إذا عاد كون أخرى و هكذا و كذلك اختلاف الطبقات الرسوبية في دقة رمالها و عدمها يدل على اختلاف السيلان بالشدة و الضعف.

  • ٢ - الطبقات الرسوبية أحدث القشور و الطبقات الجيولوجية

  • ترسب الطبقات الرسوبية عادة رسوبا أفقيا و لكن ربما وقعت أجزاؤها المتراكمة تحت ضغطات جانبية قوية شديدة على ما بها من الدفع من فوق و من تحت فتخرج بذلك 

تفسير الميزان ج۱۰

268
  • تدريجا عن الأفقية إلى التدوير و الالتواء، و هذا غير ظاهر الأثر في الأزمنة القصيرة المحدودة لكن إذا تمادى الزمان بطوله كمرور الملايين من السنين ظهر الأثر و تكونت بذلك الجبال بسلاسلها الملتوية بعض تلالها في بعض و ترتفع بقللها من سطوح البحار. 

  • و يستنتج من ذلك أن الطبقات الرسوبية و القشور الأفقية الباقية على حالها من أحدث الطبقات المتكونة على البسيط، و الدلائل الفنية الموجودة تدل على أن عمرها لا يجاوز عشرة آلاف إلى خمس عشرة ألف سنة من زماننا هذا.۱

  • ٣ - انبساط البحار و اتساعها بانحدار المياه إليها

  • كان تكوّن القشور الرسوبية الجديدة عاملا في انبساط أكثر بحار الكرة و اتساعها بأطرافها فارتفعت مياهها و غطت أكثر سواحلها و عملت جزائر في السواحل أحاطت بها من معظم جوانبها. 

  • فمن ذلك جزيرة بريطانية انقطعت في هذا الحين من فرنسا و انفصلت من أوربا بالكلية، و كانت أوربا من ناحية جنوبها و إفريقا من ناحية شمالها مرتبطتين برابط بري إلى هذا الحين فانفصلتا باتساع البحر المتوسط (مديترانة) و تكون بذلك شبه جزيرة إيطاليا و شبه جزيرة تونس من شمالها الشرقي و جزائر صقلية و سردينيا و غيرها و كانت جزائر أندونيسيا من ناحية جاوا و سوماترا إلى جنوبي جزيرة اليابان متصلة بآسيا من جهة الجنوب الشرقي إلى هذا الحين فانفصلت و تحولت إلى صورتها الفعلية، و كذا انقطاع أمريكا الشمالية من جهة شمالها عن شمال أوربا أحد الآثار الباقية من هذا العهد عهد الطوفان. 

  • و للحركات و التحولات الأرضية الداخلية آثار في سير هذه المياه و استقرارها في البقاع الخافضة المنحدرة و لذلك كان ينكشف الماء عن بعض البقاع الساحلية المغمورة بماء البحار في حين كان الطوفان مستوليا على أكثر البسيط يكون بحيرات 

    1. و يستثني من ذلك بعض ما في أطراف بالتيك و سائر المناطق الشمالية من طبقات رسوبية أفقية باقية على حالها من أقدم العهود الجيولوجية لجهات مذكورة في محلها.

تفسير الميزان ج۱۰

269
  • و يوسع بحارا، و من هذا الباب سواحل خوزستان الجنوبية انكشف عنها ماء الخليج۱

  • ٤- العوامل المؤثرة في ازدياد المياه و غزارة عملها في عهد الطوفان

  • الشواهد الجيولوجية التي أشرنا إلى بعضها تؤيد أن النزولات الجوية كانت غير عادية في أوائل الدور الحاضر من أدوار الحياة الإنسانية و هو عهد الطوفان، و قد كان ذلك عن تغيرات جوية هامة خارقة للعادة قطعا. فكان الهواء حارا في هذه الدورة نسبة لكن كان ذلك مسبوقا ببرد شديد و قد غطى معظم النصف الشمالي من الكرة الثلج و الجمد و الجليد فمن المحتمل قويا أن المتراكم من جمد الدورة السابقة عليه كان باقيا لم يذب بعد في النجود في أكثر بقاع المنطقة المعتدلة الشمالية. 

  • فعمل الحرارة في سطح الأرض في دورتين متواليتين على ما به من متراكم الجمد و الجليد يوجب تغيرا شديدا في الجو و انقلابا عظيما مؤثرا في ارتفاع بخار الماء إليه و تراكمه فيه تراكما هائلا غير عادي و تعقبه نزولات شديدة و أمطار غزيرة غير معهودة. 

  • نزول هذه الأمطار الغزيرة الهاطلة ثم استدامتها النزول على الارتفاعات و النجود و خاصة على سلاسل الجبال الجديدة الحدوث في جنوب آسيا و مغربها و جنوب أوربا و شمال إفريقا كجبال٢ ألبرز و هيماليا و آلب و في مغرب أمريكا عقب جريان سيول عظيمة هائلة عليها تنحت الصخور و تحفر الأرض و تقلع أحجارا و تحملها إلى الأراضي و البقاع المنحدرة و تحدث أودية جديدة و تعمق أخرى قديمة و توسعها ثم تبسط ما تحمله من الحجارة و الحصى و الرمل تجاهها قشورا رسوبية جديدة. 

  • و مما كان يمد الطوفان السماوي في شدة عمله و يزيد حجم السيول الجارية أن حفر الأودية الجديدة كان يكشف عن ذخائر مائية في بطن الأرض هي منابع 

    1. و قد كانت مدينة شوش و قصر الكرخة في زمن الملوك الهخامنشية بإيران على ساحل البحر و كانت السفن الشراعية الجارية في خليج فارس تلقى مراسيها أمام القصر.
    2. فهي أقل عمرا من سائر جبال الأرض لم تعمر أكثر من مليوني سنة و لذلك كانت أشهق جبال الأرض و أعلى قللا من غيرها لقلة ما ورد عليها من أسباب النحت كالأمطار و الرياح.

تفسير الميزان ج۱۰

270
  •  

  • الآبار و العيون الجارية فيزيل القشور الحافظة لها المانعة من سيلانها فيفجر العيون و يجريها مع السيول المطرية، و يزيد في قوة تخريبها و يعينها في إغراق ما على الأرض من سهل و جبل و غمره. 

  • غير أن الذخائر الأرضية متناهية محدودة تنفد بالسيلان و بنفادها و إمساك السماء عن الإمطار ينقضي الطوفان و تنحدر المياه إلى البحار و الأراضي المنخفضة و إلى بعض الخلاء و السرب الموجود في داخل الأرض الذي أفرغته السيول بالتفجير و المص. 

  • ٥ - نتيجة البحث

  • و على ما قدمناه من البحث الكلي يمكن أن ينطبق ما قصه الله تعالى من خصوصيات الطوفان الواقع في زمن نوح (عليه السلام) كقوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ اَلسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَ فَجَّرْنَا اَلْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى اَلْمَاءُ على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} القمر: - ١٢، و قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ} هود: - ٤٠، و قوله: {وَ قِيلَ يَا أَرْضُ اِبْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ اَلْمَاءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ} . هود: - ٤٤ انتهى. 

  • و مما يناسب هذا المقام ما نشره بعض جرائد۱ طهران في هذه الأيام و ملخصه: أن جماعة من رجال العلم من أمريكا بهداية من بعض رجال الجند التركي عثروا في بعض قلل جبل آراراط في شرقي تركيا في مرتفع ١٤٠٠قدم على قطعات أخشاب يعطي القياس أنها قطعات متلاشية من سفينة قديمة وقعت هناك تبلغ بعض هذه القطعات من القدمة ٢٥٠٠قبل الميلاد. 

  • و القياس يعطي أنها قطعات من سفينة يعادل حجمه ثلثي حجم مركب «كوئين ماري» الإنجليزية التي طولها ١٠١٩ قدما و عرضها ١١٨ قدما، و قد حملت الأخشاب إلى سانفرانسيسكو لتحقيق أمرها و أنها هل تقبل الانطباق على ما تعتقده أرباب النحل من سفينة نوح؟ (عليه السلام) .

  • ٨ - عمره (عليه السلام) الطويل

  • القرآن الكريم يدل على أنه (عليه السلام) عمر طويلا، 

    1. جريدة كيهان المنتشرة أول سبتامبر ١٩٦٢ المطابق لغرة ربيع الأول ١٣٨٢ الهجرية القمرية عن لندن. آسوشتيدبرس.

تفسير الميزان ج۱۰

271
  • و أنه دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه، و قد استبعده بعض الباحثين لما أن الأعمار الإنسانية لا تتجاوز في الأغلب المائة أو المائة و العشرين سنة حتى ذكر بعضهم أن القدماء كانوا يعدون كل شهر من الشهور سنة فالألف سنة إلا خمسين عاما يعدل ثمانين سنة إلا عشرة شهور. و هو بعيد غايته. 

  • و ذكر بعضهم أن طول عمره (عليه السلام) كان كرامة له خارقة للعادة، قال الثعلبي في قصص الأنبياء في خصائصه (عليه السلام) : و كان أطول الأنبياء عمرا و قيل له أكبر الأنبياء و شيخ المرسلين، و جعل معجزته في نفسه لأنه عمر ألف سنة و لم ينقص له سن و لم تنقص له قوة. انتهى. 

  • و الحق أنه لم يقم حتى الآن دليل على امتناع أن يعمر الإنسان مثل هذه الأعمار بل الأقرب في الاعتبار أن يعمر البشر الأولي بأزيد من الأعمار الطبيعية اليوم بكثير لما كان لهم من بساطة العيش و قلة الهموم و قلة الأمراض المسلطة علينا اليوم و غير ذلك من الأسباب الهادمة للحياة، و نحن كلما وجدنا معمرا عمر مائة و عشرين إلى مائة و ستين وجدناه بسيط العيش قليل الهم ساذج الفهم فليس من البعيد أن يرتقي بعض الأعمار في السابقين إلى مئات من السنين. 

  • على أن الاعتراض على كتاب الله في مثل عمر نوح (عليه السلام) و هو يذكر من معجزات الأنبياء الخارقة للعادة شيئا كثيرا لعجيب. و قد تقدم كلام في المعجزة في الجزء الأول من الكتاب. 

  • ٩ - أين هو جبل الجودي

  • ذكروا أنه بديار بكر من موصل في جبال تتصل بجبال أرمينية، و قد سماه في التوراة آراراط. قال في القاموس: و الجودي‌ جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح (عليه السلام) ، و يسمى في التوراة «آراراط» انتهى، و قال في مراصد الاطلاع: الجودي مشددة جبل مطل على جزيرة ابن عمر في شرقي دجلة من أعمال الموصل استوت عليه سفينة نوح لما نضب الماء.

  • ١٠- شبهة و جوابها

  • ١٠–ربما قيل: هب أنه أغرق قوم نوح بذنبهم فما هو ذنب سائر الحيوان الذي على الأرض حيث هلكت بطاغية المياه؟ و هذا من أسقط الاعتراض فما كل هلاك و لو كان عاما عقوبة و انتقاما، و الحوادث العامة التي تهلك الألوف ثم الألوف 

تفسير الميزان ج۱۰

272
  • مثل الزلازل و الطوفانات و الوباء و الطاعون كثير الوقوع في الدهر، و لله فيما يقضي حكم.

  • (كلام في عبادة الأصنام في فصول) 

  • ١ - الإنسان و اطمئنانه إلى الحس

  • الإنسان يجري في حياته الاجتماعية على اعتبار قانون العلية و المعلولية الكلي و سائر القوانين الكلية التي أخذها من هذا النظام العام المشهود، و هو على خلاف ما نشاهده من أعمال سائر الحيوان و أفعاله يجري في التفكر و الاستدلال أعني القياس و الاستنتاج إلى غايات بعيدة. 

  • و هو مع ذلك لا يستقر في فحصه و بحثه على قرار دون أن يحكم في علة هذا العالم المشهود الذي هو أحد أجزائه بشي‌ء من الإثبات و النفي لما يرى أن سعادة حياته التي لا بغية عنده أحب منها تختلف على تقديري إثبات هذه العلة الفاعلة المسماة بالإله عز اسمه و نفيه اختلافا جوهريا فمن البين أن لا مضاهاة بين حياة الإنسان المتأله الذي يثبت للعالم إلها حيا عليما قديرا لا مناص عن الخضوع لعظمته و كبريائه و الجري على ما يحبه و يرضاه، و بين حياة الإنسان الذي يرى العالم سدى لا مبدأ له و لا غاية، و ليس فيه للإنسان إلا الحياة المحدودة التي تفنى بالموت و تبطل بالفوت، و لا موقف للإنسانية فيه إلا ما للحيوان العجم من موقف الشهوة و الغضب و بغية البطن و الفرج. 

  • فهذه نزعة فكرية أولى للإنسان إلى الحكم بأنه: هل للوجود من إله؟ و تتلوه نزعة ثانية و هي القضاء الفطري بالإثبات، و الحكم بأن للعالم إلها خلق كل شي‌ء بقدرته و أجرى النظام العام بربوبيته فهدى كل شي‌ء إلى غايته و كمال وجوده بمشيته و سيعود كل إلى ربه كما بدئ. هذا. 

  • ثم إن مزاولة الإنسان للحس و المحسوس مدى حياته و انكبابه على المادة و إخلاده إلى الأرض عوّده أن يمثل كل ما يعقله و يتصوره تمثيلا حسيا و إن كان مما لا طريق للحس و الخيال إليه البتة كالكليات و الحقائق المنزهة عن المادة على أن الإنسان إنما ينتقل إلى المعقولات من طريق الإحساس و التخيل فهو أنيس الحس 

تفسير الميزان ج۱۰

273
  • و أليف الخيال. 

  • و قد قضت هذه العادة اللازمة على الإنسان أن يصور لربه صورة خيالية على حسب ما يألفه من الأمور المادية المحسوسة حتى أن أكثر الموحدين ممن يرى تنزه ساحة رب العالمين تعالى و تقدس عن الجسمية و عوارضها يثبت في ذهنه له تعالى صورة مبهمة خيالية معتزلة للعالم تبادر ذهنه إذا توجه إليه في مسألة أو حدث عنه بحديث غير أن التعليم الديني أصلح ذلك بما قرر من الجمع بين النفي و الإثبات و المقارنة بين التشبيه و التنزيه يقول الموحد المسلم: أنه تعالى شي‌ء ليس كمثله شي‌ء له قدرة لا كقدرة خلقه، و علم لا كالعلوم و على هذا القياس. 

  • و قلّ أن يتفق لإنسان أن يتوجه إلى ساحة العزة و الكبرياء و نفسه خالية عن هذه المحاكاة، و ما أشذ أن يسمح الوجود برجل قد أخلص نفسه لله سبحانه غير متعلق القلب بمن دونه، و لا ممسوس بالتسويلات الشيطانية، قال تعالى: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} الصافات: - ١٦٠، و قال حكاية عن إبليس‌ {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} ص: - ٨٣. 

  • و بالجملة الإنسان شديد الولع بتخيل الأمور غير المحسوسة في صورة الأمور المحسوسة فإذا سمع أن وراء الطبيعة الجسمية ما هو أقوى و أقدر و أعظم و أرفع من الطبيعة و أنه فعال فيها محيط بها أقدم منها مدبر لها حاكم فيها لا يوجد شي‌ء إلا بأمره و لا يتحول عن حال إلى حال إلا بإرادته و مشيته لم يتلق من جميع ذلك إلا ما يضاهي أوصاف الجسمانيات و ما يتحصل من قياس بعضها إلى بعض. 

  • و كثيرا ما حكاه في نفسه بصورة إنسان فوق السماوات جالس على عرش الملك يدبر أمر العالم بالتفكر و يتممه بالإرادة و المشية و الأمر و النهي، و قد صرحت التوراة الموجودة بأن الله سبحانه كذلك، و أنه تعالى خلق الإنسان على صورته، و ظاهر الأناجيل أيضا ذلك. 

  • فقد تحصل أن الأقرب إلى طبع الإنسان و خاصة الإنسان الأولي الساذج أن يصنع لربه المنزه عن الشبه و المثل صورة يضاهي بها الذوات الجسمانية و تناسب 

تفسير الميزان ج۱۰

274
  • الأوصاف و النعوت التي يصفها بها كما يمثل الثالوث بإنسان ذو وجوه ثلاثة كأن كلا من النعوت العامة وجه للرب يواجه به خلقه.

  • ٢ - الإقبال إلى الله بالعبادة

  • إذا قضى الإنسان أن للعالم إلها خلقه بعلمه و قدرته لم يكن له بد من أن يخضع له خضوع عبادة اتباعا للناموس العام الكوني و هو خضوع الضعيف للقوي و مطاوعة العاجز للقادر، و تسليم الصغير الحقير للعظيم الكبير فإنه ناموس عام جار في الكون حاكم في جميع أجزاء الوجود، و به يؤثر الأسباب في مسبباتها و تتأثر المسببات عن أسبابها. 

  • و إذا ظهر الناموس المذكور لذوات الشعور و الإرادة من الحيوان كان مبدأً للخضوع و المطاوعة من الضعيف للقوي كما نشاهده من حال الحيوانات العجم إذا شعر الضعيف منها بقوة القوي آئسا من الظهور عليه و القدرة على مقاومته. 

  • و ظهوره في العالم الإنساني أوسع و أبين من سائر الحيوان لما في هذا النوع من عمق الإدراك و خصيصة الفكر فهو متفنن في إجرائه في غالب مقاصده و أعماله جلبا للنفع أو دفعا للضرر كخضوع الرعية للسلطان و الفقير للغني و المرءوس للرئيس و المأمور للآمر و الخادم للمخدوم و المتعلم للعالم و المحب للمحبوب و المحتاج للمستغني و العبد للسيد و المربوب للرب. 

  • و جميع هذه الخضوعات من نوع واحد و هو تذلل و هوان نفساني قبال عزة و قهر مشهود، و العمل البدني الذي يظهر هذا التذلل و الهوان هي العبادة أيا ما كانت، و ممن و لمن تحققت، و لا فرق في ذلك بين الخضوع للرب تعالى و بينه إذا تحقق من العبد بالنسبة إلى مولاه أو من الرعية بالنسبة إلى السلطان أو من المحتاج بالنسبة إلى المستغني أو غير ذلك فالجميع عبادة. 

  • و على أي حال لا سبيل إلى ردع الإنسان عن هذا الخضوع لاستناده إلى قضاء فطري ليس للإنسان أن يتجافى عنه إلا أن يتبين له أن الذي كان يظنه قويا و يستضعف نفسه دونه ليس على ما كان يظنه بل هما سواء مثلا. 

  • و من هنا ما نرى أن الإسلام لم ينه عن اتخاذ آلهة دون الله و عبادتهم إلا بعد ما بين للناس أنهم مخلوقون مربوبون أمثالهم، و أن العزة و القوة لله جميعا قال 

تفسير الميزان ج۱۰

275
  • تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} الأعراف: - ١٩٤ و قال:‌ {وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى اَلْهُدى لاَ يَسْمَعُوا وَ تَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} الأعراف: - ١٩٨ و قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلى ‌كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللَّهَ وَ لاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران: - ٦٤ ختم الآية بحديث التسليم لله تعالى بعد ما دعاهم إلى ترك عبادة غير الله تعالى من الآلهة و رفض الخضوع لسائر المخلوقين المماثلين لهم و قال تعالى: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} البقرة: - ١٦٥، و قال {فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} النساء: - ١٣٩ و قال {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ شَفِيعٍ} الم السجدة: - ٤ إلى غير ذلك من الآيات. 

  • فليس عند غيره تعالى ما يدعو إلى الخضوع له فلا يسوغ الخضوع لأحد ممن دونه إلا أن يئول إلى الخضوع لله و يرجع تعزيره أو تعظيمه و ولايته إلى ناحيته قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ} إلى أن قال {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ} الأعراف: - ١٥٧، و قال {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: {وَ هُمْ رَاكِعُونَ} المائدة: - ٥٥، و قال {وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ} التوبة: - ٧١، و قال {وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اَللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ} الحج: - ٣٢، فلا خضوع في الإسلام لأحد دون الله إلا ما يرجع إليه تعالى و يقصد به. 

  • ٣ - كيف نشأت الوثنية؟ 

  • و بماذا بدأت؟ اتضح في الفصل المتقدم أن الإنسان في مزلة من تجسيم الأمور المعنوية و سبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل و التصوير و هو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أي قوة فائقة قاهرة و الاعتناء بشأنها. 

  • و لذا كانت روح الشرك و الوثنية سارية في المجتمع الإنساني سراية تكاد لا تقبل التحرز و الاجتناب حتى في المجتمعات الراقية الحاضرة و حتى في المجتمعات المبنية على أساس رفض الدين فترى فيها من النصب و تماثيل الرجال و تعظيمها 

تفسير الميزان ج۱۰

276
  • و احترامها و البلوغ في الخضوع لها ما يمثل لك وثنية العهود الأولى و الإنسان الأولي. 

  • على أن اليوم من الوثنية على ظهر الأرض ما يبلغ مئات الملايين قاطنين في شرقها و غربها. 

  • و من هنا يتأيد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنية مبتدئة بين الناس باتخاذ تماثيل الرجال العظماء و نصب أصنامهم و خاصة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم، و قد ورد في روايات أئمة أهل البيت ما يؤيد ذلك‌ ففي تفسير القمي مضمرا، و في علل الشرائع مسندا عن الصادق (عليه السلام) : في قوله تعالى: {وَ قَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} (الآية) قال: كانوا يعبدون الله عز و جل فماتوا فضج قومهم و شق ذلك عليهم - فجاءهم إبليس لعنه الله و قال لهم: أتخذ لكم أصناما على صورهم فتنظرون إليهم و تأنسون بهم و تعبدون الله، فأعد لهم أصناما على مثالهم فكانوا يعبدون الله عز و جل و ينظرون إلى تلك الأصنام، فلما جاءهم الشتاء و الأمطار أدخلوا الأصنام البيوت . 

  • فلم يزالوا يعبدون الله عز و جل حتى هلك ذلك القرن و نشأ أولادهم فقالوا: إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله عز و جل فذلك قول الله تبارك و تعالى: {وَ لاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لاَ سُوَاعاً} (الآية) . 

  • و كان رب البيت في الروم و اليونان القديمين على ما يذكره التاريخ يعبد في بيته فإذا مات اتخذ له صنم يعبده أهل بيته، و كان كثير من الملوك و العظماء معبودين في قومهم، و قد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإبراهيم (عليه السلام) الذي حاجه في ربه، و فرعون موسى. 

  • و هو ذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم و كذا بين الآثار العتيقة المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كصنم بوذا و أصنام كثير من البراهمة و غيرهم. 

  • و اتخاذهم أصنام الموتى و عبادتهم لها من الشواهد على أنهم كانوا يرون أنهم لا يبطلون بالموت و أن أرواحهم باقية بعده، لها من العناية و الأثر ما كان في حال حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجودا و أنفذ إرادة و أشد تأثيرا لما أنها خلصت من 

تفسير الميزان ج۱۰

277
  • شوب المادة و نجت من التأثرات الجسمانية و الانفعالات الجرمانية، و كان فرعون موسى يعبد أصناما له و هو إله و معبود في قومه، قال تعالى: {وَ قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ} الأعراف: - ١٢٧. 

  • ٤ - اتخاذ الأصنام لأرباب الأنواع و غيرهم

  • كان اتخاذ تماثيل الرجال هو الذي نبه الناس على اتخاذ صنم الإله إلا أنه لم يعهد منهم أن يتخذوا تمثالا لله سبحانه المتعالي أن يحيط به حد أو يناله وهم، و كأن هذا هو الذي صرفهم عن اتخاذ صنمه بل تفرقوا في ذلك فأخذ كل ما يهمه من جهات التدبير المشهود في العالم فتوسلوا إلى عبادة الله بعبادة من وكله إلى الله على تدبير تلك الجهة المعنى بها بزعمهم. 

  • فالقاطنون في سواحل البحار عبدوا رب البحر لينعم عليهم بفوائدها و يسلموا من الطوفان و الطغيان، و سكان الأودية رب الوادي، و أهل الحرب رب الحرب، و هكذا. 

  • و لم يلبثوا دون أن اتخذ كل منهم ما يهواه من إله فيما يتوهمه من الصورة و الشكل، و مما يختاره من فلز أو خشب أو حجارة أو غير ذلك حتى روي أن بني حنيفة من اليمامة اتخذوا لهم صنما من أقط ثم أصابهم جدب و شملهم الجوع فهجموا عليه فأكلوه. 

  • و كان الرجل إذا وجد شجرة حسنة أو حجرا حسنا و هواه عبده، و كانوا يذبحون غنما أو ينحرون إبلا فيلطخونه بدمه فإذا أصاب مواشيهم داء جاءوا بها إليه فمسحوها به، و كانوا يتخذون كثيرا من الأشجار أربابا فيتبركون بها من غير أن يمسوها بقطع أو كسر و يتقربون إليها بالقرابين و يأتون إليها بالنذورات و الهدايا. 

  • و ساقهم هذا الهرج إلى أن ذهبوا في أمر الأصنام مذاهب شتى لا يكاد يضبطها ضابط، و لا يحيط بها إحصاء غير أن الغالب في معتقداتهم أنهم يتخذونها شفعاء يستشفعون بها إلى الله سبحانه ليجلب إليهم الخير و يدفع عنهم الشر، و ربما أخذها بعض عامتهم معبودة لنفسها مستقلة بالألوهية من غير أن تكون شفعاء و ربما كانوا يتخذونها شفعاء و يقدمونها أو يفضلونها على الله سبحانه كما يحكيه القرآن في قوله تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اَللَّهِ وَ مَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكَائِهِمْ} 

تفسير الميزان ج۱۰

278
  • (الآية) ، الأنعام: - ١٣٦. 

  • و كان بعضهم يعبد الملائكة و آخرون يعبدون الجن، و قوم يعبدون الكواكب الثابتة كشعرى، و طائفة تتخذ بعض السيارات إلها و قد أشير إلى جميع ذلك في الكتاب الإلهي كل ذلك طمعا في خيرها أو خوفا من شرها. 

  • و قل أن يتخذ إله من دون الله و لا يتخذ له صنم يتوجه إليه في العبادات به بل كانوا إذا اتخذوا شيئا من الأشياء إلها شفيعا عملوا له صنما من خشب أو حجر أو فلز، و مثلوا به ما يتوهمونه عليه من صورة الحياة فيسوونه في صورة إنسان أو حيوان و إن كان صاحب الصنم على غير الهيئة التي حكوه بها كالكواكب الثابتة و السيارة و إله العلم و الحب و الرزق و الحرب و نحوها. 

  • و كان الوجه في اتخاذ أصنام الشركاء قولهم: إن الإله لتعاليه عن الصورة المحسوسة كأرباب الأنواع و سائر الآلهة غير المادية أو لعدم ثباته على حالة الظهور كالكوكب الذي يتحول من طلوع إلى غروب يصعب التوجه إليه كلما أريد بالتوجه فمن الواجب أن يتخذ له صنم يمثله في صفاته و نعوته فيصمد إليه بوسيلته كلما أريد.

  • ٥ - الوثنية الصابئة

  • الوثنية و إن رجعت بالتقريب إلى أصل واحد هو اتخاذ الشفعاء إلى الله و عبادة أصنامها و تماثيلها، و لعلها استولت على الأرض و شملت العالم البشري مرارا كما يحكيه القرآن الكريم عن الأمم المعاصرة لنوح و إبراهيم و موسى (عليه السلام) إلا أن اختلاف المنتحلين بها بلغ من التشتت و اتباع الأهواء و الخرافات مبلغا كان حصر المذاهب الناشئة فيها كالمحال و أكثرها لا تبتني على أصول متقررة و قواعد منتظمة متلائمة. 

  • و مما يمكن أن يعد منها مذهبا قريبا من الانتظام و التحصل مذهب الصابئة و الوثنية البرهمية و البوذية: 

  • أما الوثنية الصابئة فهي تبتني على ربط الكون و الفساد و حوادث العالم الأرضي إلى الأجرام العلوية كالشمس و القمر و عطارد و الزهرة و مريخ و المشتري و زحل و أنها بما لها من الروحانيات المتعلقة بها هي المدبرة للنظام المشهود يدبر كل منها ما يتعلق به من الحوادث على ما يصفه فن أحكام النجوم، و يتكرر بتكرر دوراتها الأدوار 

تفسير الميزان ج۱۰

279
  • و الأكوار من غير أن تقف أو تنتهي إلى أمد. 

  • فهي وسائط بين الله سبحانه و بين هذا العالم المشهود تقرب عبادتها الإنسان منه تعالى ثم من الواجب أن يتخذ لها أصنام و تماثيل فيتقرب إليها بعبادة تلك الأصنام و التماثيل. 

  • و ذكر المورخون أن الذي أسس بنيانها و هذب أصولها و فروعها هو «يوذاسف» المنجم ظهر بأرض الهند في زمن طهمورث ملك إيران، و دعا إلى مذهب الصابئة فاتبعه خلق كثير، و شاع مذهبه في أقطار الأرض كالروم و اليونان و بابل و غيرها، و بنيت لها هياكل و معابد مشتملة على أصنام الكواكب، و لهم أحكام و شرائع و ذبائح و قرابين يتولاها كهنتهم. و ربما ينسب إليهم ذبح الناس. 

  • و هؤلاء يوحدون الله في ألوهيته لا في عبادته، و ينزهونه عن النقائص و القبائح، و يصفونه بالنفي لا بالإثبات كقولهم لا يعجز و لا يجهل و لا يموت و لا يظلم و لا يجور، و يسمون ذلك بالأسماء الحسنى مجازا و ليسوا بقائلين باسم حقيقة و قد قدمنا شيئا من تاريخهم في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلنَّصَارى وَ اَلصَّابِئِينَ} (الآية) ، البقرة: - ٦٢ في الجزء الأول من هذا الكتاب.

  • ٦ - الوثنية البرهمية

  • و البرهمية على ما تقدم من مذاهب الوثنية المتأصلة، و لعلها أقدمها بين الناس فإن المدنية الهندية من أقدم المدنيات الإنسانية لا يضبط بدء تاريخي لها على التحقيق، و لا يضبط بدء تاريخي لوثنية الهند غير أن بعض المورخين كالمسعودي و غيره ذكروا أن برهمن اسم أول ملوك الهند الذي عمر بلادها و أسس قواعد المدنية فيها و بسط العدل بين أهلها. 

  • و لعل البرهمية نشأت بعده باسمه فكثيرا ما كانت الأمم الماضية يعبدون ملوكهم و الأعاظم من أقوامهم لاعتقادهم أنهم ذوو سلطة غيبية و أن اللاهوت ظهر فيهم نوع ظهور، و يؤيده بعض التأييد أن الظاهر من «ويدا» و هو كتابهم المقدس أنه مجموع من رسائل و مقالات شتى ألف كل شطر منها بعض رجال الدين في أزمنة مختلفة ورثوها من بعدهم فجمعت و ألفت كتابا يشير إلى دين ذي نظام و قد صرح به علماء سانسكريت و لازم ذلك أن يكون البرهمية كغيرها من مذاهب الوثنية مبتدئة 

تفسير الميزان ج۱۰

280
  • من أفكار عامية غير قيمة، متطورة في مراحل التكامل حتى بلغت حظها من الكمال. 

  • ذكر البستاني في دائرة المعارف ما ملخصه: 

  • برهم (بفتحتين فسكون أو بفتح الباء و الهاء و سكون الراء) هو المعبود الأول و الأكبر عند الهنود و هو عندهم أصل كل الموجودات واحد غير متغير و غير مدرك أزلي مطلق سابق كل مخلوق خلق العالم كله بمجرد ما أراد دفعة واحدة بقوله: أوم‌ أي كن. 

  • و حكاية برهم تشبه من كل وجه حكاية «اى بوذة» فليس الفرق إلا في الاسم و الصفات و كثيرا ما يجعلون نفس برهم اسما للأقانيم الثلاثة المؤلف منها ثالوث الهنود، و هي: «برهما و وشنو و سيوا» و يقال لعبدة برهم: البرهميون أو البراهمة. 

  • و أما برهما فهو نفس برهم معبود الهنود بعد أن شرع في أعماله (بدليل زيادة الألف في آخره و هو من اصطلاحاتهم) و هو الأقنوم الأول من الثالوث الهندي أي إن برهم ينبثق في نفسه في ثلاثة أقانيم كل مرة في أقنوم فالأقنوم الأول الذي يظهر به أول مرة هو برهما، و الثاني وشنو، و الثالث سيوا. 

  • فلما انبثق برهما لبث مدة طويلة جالسا على سدرة تسمى بالهندية «كمالا» و بالسنسكريتية بدما، و كان ينظر من كل جهة، و كان له أربعة رءوس بثماني أعين فلم ير إلا فضاء واسعا مظلما مملوء ماء فارتاع لذلك و لم يقدر أن يدرك سر أصله فلبث ساكتا أبكم غارقا في التأملات. 

  • فمضت على ذلك أجيال و إذا بصوت قد طرق أذنيه بغتة و نبهه من سباته و أشار عليه أن يفزع إلى «باغادان» و هو لقب برهم فظهر برهم بصورة رجل له ألف رأس فسجد له برهما و جعل يسبحه فانشرح صدر باغادان و أبدع النور و كشف الظلمات، و أظهر لعبده حالة كينونته و الكائنات بصور جراثيم متخدرة و أعطاه القوة لإخراجها من هذا الخمول. 

  • فبقي برهما يتأمل في ذلك مائة سنة إلهية و هي عبارة عن ستة و ثلاثين ألف سنة شمسية ثم ابتدأ بالعمل فأبدع أولا سبع السماوات المسماة عندهم «سورغة» 

تفسير الميزان ج۱۰

281
  • و أنارها بالأجرام المسماة «ديقانة» ثم أبدع «مريثلوكا» أي مقر الموت ثم الأرض و قمرها، ثم المساكن السبعة السفلى المسماة بتالة، و أنارها بثمانية جواهر موضوعة على رءوس ثماني حيات. 

  • فالسماوات السبع و المساكن السفلى السبعة هي العوالم الأربعة عشر في الميثولوجيا الهندية. 

  • ثم خلق الأزواج السبعة لكي تعينه في أعماله فامتنع من مساعدته عشرة منها و هي «موني» و الريشة التسعة التي منها «ناريدا أو نوردام» و اقتصرت على التأملات الدنيوية فتزوج حينئذ أخته «ساراسواتي» و أولدها مائة ولد، و كان البكر اسمه «دكشا» فولد لدكشا خمسون بنتا فتزوجت ثلاث عشرة منهن «كاسيابا» الذي يسمونه أحيانا برهمان الأول، و هو الذي ولد لبرهما ولدا يسمى مارتشي». 

  • و ولدت إحدى البنات المذكورات و اسمها «أديتي» الأرواح المنيرة المسماة «ديقانة» و هي التي تفعل الخير و تسكن السماوات، و أما أختها «ديتي» فولدت جمهورا غفيرا من الأرواح الشريرة المسماة «داتينة» أو «أسورة» و هي سكان الظلام و فاعلة كل شر في العالم. 

  • و كانت الأرض إلى ذلك الوقت خالية من السكان فقال بعضهم: إن برهما أخرج من نفسه «مانوسويامبوقا» الذي يقول الآخرون: إنه سابق له و إنه نفس برهم المعبود الواحد ثم إن برهما زوجه «ساتاروبا» و قال لهما أن يكثرا و ينميا. 

  • و قال آخرون: إن برهما ولد أربعة أولاد و هم برهمان و كشتريا و قايسيا و سودارا فالأول خرج من فمه، و الثاني من ذراعه اليمنى، و الثالث من فخذه اليمنى و الرابع من رجله اليمنى فكانوا أربع أرومات لأربع فرق أصلية. 

  • و تزوج الثلاثة الأخيرون بثلاث نساء منه أيضا خرجت واحدة من ذراعه اليمنى و الثانية من فخذه اليسرى، و الثالثة من رجله اليسرى، و سمين باسم بعولتهن بزيادة علامة التأنيث و هي «نى»، و تزوج برهمان أيضا زوجة من أبيه، و لكن كانت من نسل الأسورة الشريرة، فهذا ما في الفيداس عن كيفية خلق العالم. 

  • ثم إن برهما بعد أن كان الإله الخالق القدير سقط عن رتبة وشنو الأقنوم 

تفسير الميزان ج۱۰

282
  • الثاني و سيوا الأقنوم الثالث و ذلك أنه انتفخ بالكبرياء و العجب، و ظن نفسه نظير العلي فسقط في ناراك أي الجحيم، و لم ينل العفو إلا بشرط أن يتجسد مرة في كل من الأجيال الأربعة، فتجسد أول مرة بصورة غراب شاعر اسمه «كاكابوسندا» و في الثانية بصورة «بارباقلميكي» فكان أولا لصا ثم رجلا عبوسا رزينا نادما ثم ترجمانا مشهورا للفيداس و مؤلفا للراميانا، و في المرة الثالثة بصورة «قياسا» و هو شاعر و مؤلف «المهابارانا» و البغاقة و عدة بورانات، و في المرة الرابعة و هو العصر الحالي المسمى «كالي‌يوغ» بصورة «كاليداسا» الشاعر التشخيصي العظيم و مؤلف «ساكنتالا» و منقح مؤلفات «قلميكي». 

  • ثم إن برهما ظهر في ثلاث أحوال ففي، الحال الأولى كان الواحد الصمد و الكل الأعظم العلي، و في الحال الثانية ظهر منبثقا من الأول أي شارعا في العمل و في الحال الثالثة ظهر متجسدا بصورة إنسان و حكيم. 

  • و ليس لبرهما عبادة عامة في الهند، و له هناك هيكل واحد فقط غير أن البراهمة يجعلونه موضوع عبادتهم، و يدعونه مساء و صباحا، و هم يرمون الماء ثلاث مرات براحة أيديهم على الأرض و نحو الشمس، و يجددون له عبادتهم وقت الظهر بتقديمهم له زهرة، و في تقديس النار يقدمون له سمنا مصفى كما يقدمون لإله النار، و هذا التقديس أهم و أقدس من كل ما سواه. و اسمه هوم أو هوما و رغيب. 

  • و يمثل برهما بصورة رجل ذي لحية طويلة بإحدى يديه سلسلة الكائنات و بالأخرى الإناء الذي فيه ماء الحياة السماوي راكبا الهمسا و هو الطير الإلهي الذي يشبه اللقلق و النسر. 

  • و أما برهمان فهو ابن برهما البكر أخرجه من فيه كما تقدم، و جعل نصيبه أربعة الكتب المقدسة المسماة «فيداس» كناية عن الكلمات الأربع التي نطق بها بأفواهه الأربعة. 

  • فلما أراد برهمان أن يتزوج نظير إخوته قال له برهما: إنك ولدت للدرس و الصلاة فيجب أن تبتعد عن العلاقات الجسدية فلم يقتنع برهمان بقول أبيه فغضب برهما و زوجه بواحدة من جنيات الشر المسماة أسورة، و من هذا ولد البراهمة و هم 

تفسير الميزان ج۱۰

283
  • الكهنة المقدسون الذين خصوا بتفسير الفيداس، و كانوا يتولون أمر كل التقدمات التي يقدمها الهنود للآلهة. 

  • و ولد كشتريا صنف الحربيين من البراهمة، و قايسيا صنف أهل الزراعة منهم، و سودرا صنف العبيد، فالبراهمة أربعة أصناف، انتهى ملخصا من دائرة المعارف للبستاني. 

  • و ذكر غيره أن البرهمية منقسمة إلى طبقات أربع هم البراهمة (علماء المذهب) و الحربيون و الزراع و التجار، و لا يعبأ بغيرهم كالنساء و العبيد، و قد نقلنا في ذيل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (الآية) ، المائدة: - ١٠٥ في الجزء السادس من الكتاب في بحث علمي عن كتاب ما للهند من مقولة لأبي ريحان البيروني شيئا من وظائف البراهمة و عباداتهم، و كذا عن الملل و النحل للشهرستاني شطرا من شرائع الصابئين. 

  • و المذاهب الوثنية الهندية و كان الصابئين مثلهم أيضا مطبقون على القول بالتناسخ و هو أن العوالم غير متناهية من ناحيتي الأزل و الأبد و لكل منها حظا من البقاء مؤجلا فإذا انقضى أمد بقائه بطلت صورته و تولد منه عالم آخر يعيش فيموت فيحدث ثالث و هكذا، و النفوس الإنسانية المتعلقة بالأبدان لا تموت بموت أبدانها بل موت أبدانها مبدأ حياة جديدة لها فإنها تتعلق بأبدان أخر تعيش فيها عيشة سعيدة إن كسبت في بدنها السابق فضائل نفسانية و عملت عملا صالحا، و عيشة شقية إن تلبست بالرذائل و اقترفت السيئات إلا الكاملون في معرفة البرهم (الله سبحانه) فإنهم أحياء بحياة الأبد آمنون من التولد الثاني خارجون عن سلطان التناسخ.

  • ٧ - الوثنية البوذية

  • و قد أصلحت الوثنية البرهمية۱ بالبوذية منسوبة إلى بوذا «سقياموني» المتوفى سنة خمس مائة و ثلاث و أربعين قبل المسيح على ما نقل عن التاريخ السيلاني و قيل غير ذلك حتى إن الاختلاف في ذلك ينسحب إلى ألفي سنة، و لذلك ربما ظُن أنه شخص 

    1. ملخص ما في دائرة المعارف للبستاني.

تفسير الميزان ج۱۰

284
  • خرافي لا حقيقة له لكن الحفريات الأخيرة التي وقعت في غايا الحديثة و آثارا أخرى في بطنه دلت على صحة وجوده، و قد انكشفت بها آثار أخرى من تاريخ حياته و تعاليمه التي ألقاها إلى تلامذته و أتباعه. 

  • و كان بوذا من بيت الملك، ابن ملك يدعى «سوذودانا» فعزفت نفسه الدنيا و شهواتها و اعتزل الناس في شبابه و لبث في بعض الغابات الموحشة سنين من عمره مكبا على التزهد و الارتياض حتى تنورت نفسه بالمعرفة فخرج إلى الناس و هو ابن ست و ثلاثين سنة على ما قيل فدعاهم إلى التخلص عن الشقاء و الآلام و الفوز بالراحة الكبرى و الحياة السماوية الأبدية السرمدية، و وعظهم و حثهم على التمسك بذيل شريعته بالتخلق بالأخلاق الكريمة و رفض الشهوات و اجتناب الرذائل. 

  • و كان بوذا على ما نقل يقول عن نفسه من دون كبرياء برهمية: «أنا۱ متسول، و لا توجد إلا شريعة واحدة للجميع و هي العقاب الشديد للمجرمين و الثواب العظيم للصالحين، و شريعتي شريعة نعمة للجميع، و فيها كالسماء مكان للرجال و النساء و الصبيان و البنات و الأغنياء و الفقراء على أنه يعسر على الغني أن يسلك طريقها». 

  • و كان تعليمه على ما عند البوذيين: أن الطبيعة ذات فراغ و أنها وهمية خداعة و أن العدم يوجد في كل مكان و كل زمان، و هو مملوء من الغش، و نفس هذا العدم يزيل كل الحواجز بين أصناف الناس و جنسياتهم و أحوالهم الدنيوية، و يجعل أحقر الديدان إخوة للبوذيين. 

  • و هم يعتقدون أن آخر عبارة نطق بها سقياموني هي «كل مركب فان» و الغاية القصوى عندهم هي نجاة النفس من كل ألم و غرور، و أن دور التناسخ الذي لا نهاية له ينتهي أو ينقطع بمنع النفس أن تولد ثانية، و يتوصل إلى ذلك بتطهيرها حتى من رغبة الوجود. 

  • فهذه القواعد الأساسية للبوذية موجودة صريحا في أقدم تعليمها المدرج في 

    1. أي تصيبني التسويلات و الوساوس النفسانية و في كلامه هذا نسخ لحكم الطبقات في الشريعة البرهمية القاضي بتفاوت الناس في التشرف بالسعادة الدينية و تحريم بعضهم كالنساء و الصبيان منها. 

تفسير الميزان ج۱۰

285
  • «الأرياني ستيانس» و هي أربع حقائق سامية تنسب إلى سقياموني ذكرها في عظته الأولى التي قام بها في غابة تعرف بغابة الغزال بالقرب من بنارس. 

  • و تلك الحقائق الأربع تتعلق بالألم و أصله و ملاشاته و بالطريقة المؤدية إلى الملاشاة فالألم هو الولادة و السن و المرض و الموت و مصادفة المكروه و مفارقة المحبوب و العجز عما يرام، و أسباب الألم الشهوات النفسانية و الجسدية و الأهواء، و ملاشاة جميع هذه الأسباب هي الحقيقة الثالثة، و لطريقة الملاشاة أيضا ثمانية أقسام و هي: نظر صحيح و حس صحيح، و نطق صحيح، و فعل صحيح، و مركز صحيح، و جد صحيح و ذكر صحيح، و تأمل صحيح، فهذه صورة الإيمان عندهم و قد وجدت محفورة على أبنية كثيرة و مدونة في عدة كتب. 

  • و أما خلاصة الأدب البوذي فهي اجتناب كل شي‌ء ردي، و عمل كل شي‌ء صالح و تهذيب العقل. 

  • فهذا هو الذي سلموه من تعليم بوذا و ما عداه من العبادات و الذبائح و الكهنوت و الفلسفة و الأسرار أمور أضيفت إليه بكرور الأيام و مرور الدهور، و هي تشتمل على أقاويل و آراء عجيبة في خلق العالم و نظمه و غير ذلك. 

  • و مما يقال إن بوذا لم يتكلم عن الإله قط، غير أن ذلك لم يكن لإعراض منه عن مبدإ الوجود و لا لإنكار بل لأن الرجل كان يبذل كل جهده في تجهيز الناس بالزهد عن زهرة الحياة الدنيا و تنفيرهم عن هذه الدار الغارة.

  • ٨ - وثنية العرب

  • و هم أول من عارضهم الإسلام بالدعوة إلى التوحيد من عبدة الأوثان، كان معظم العرب في عهد الجاهلية بدويين و أهل الحضارة منهم كاليمن في طبع البداوة يحكم فيهم من السنن و الآداب رسوم مختلطة مختلفة مأخوذة من جيرانهم الأقوياء كالفرس و الروم و مصر و الحبشة و الهند، و منها السنن الدينية. 

  • و كان أسلافهم الأقدمون و هم العرب العاربة و منهم عاد إرم و ثمود على دين الوثنية كما يحكيه الله سبحانه في كتابه عن قوم هود و صالح و عن أصحاب مدين و عن أهل سبإ في قصة سليمان و الهدهد، حتى أن جاء إبراهيم (عليه السلام) بابنه إسماعيل و أمه هاجر إلى أرض مكة و هي واد غير ذي زرع و بها قبيلة جرهم، و أسكنهما 

تفسير الميزان ج۱۰

286
  • هناك فنشأ إسماعيل (عليه السلام) و بنيت بلدة مكة، و بنى إبراهيم (عليه السلام) الكعبة البيت الحرام و دعا الناس إلى دينه الحنيف و هو الإسلام فاستجيب له في الحجاز و ما والاها و شرع لهم الحج كما يدل على جملة ذلك قول الله تعالى له فيما يحكيه القرآن‌ {وَ أَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَ على كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} الحج: - ٢٧. 

  • ثم تهود بعض الأعراب لمعاشرة كانت بينهم و بين اليهود النازلين بالحجاز، و تسربت النصرانية إلى بعض أقطار الجزيرة، و المجوسية إلى بعضها الآخر. 

  • ثم وقعت وقائع بين آل إسماعيل و جرهم بمكة حتى آل إلى غلبة آل إسماعيل و إجلاء جرهم منها و استولى عمرو بن لحي على مكة و ما والاها. 

  • ثم إنه مرض مرضا شديدا فقيل له: إن البلقاء من أرض الشام حمة لو استحممت بها برأت فقصدها و استحم بها فبرأ، و رأى هناك قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا: هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية و الأشخاص البشرية نستنصر بها فننصر و نستسقي بها فنسقى، فأعجبه ذلك فطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكة و وضعه على الكعبة، و كان معه إساف و نائلة و هما صنمان على شكل زوجين كما في الملل و النحل أو شابين كما في غيره فدعا الناس إلى عبادة الأصنام و روج ذلك بين قومه فعادوا يعبدونها بعد إسلامهم و قد كانوا يسمون حنفاء لاتباعهم ملة إبراهيم (عليه السلام) فبقي عليهم الاسم و هجرهم المعنى و صار الحنفاء اسما للوثنيين‌۱ منهم. 

  • و كان مما يقربهم إلى الوثنية أن الكعبة المشرفة كان يعظمها اليهود و النصارى و المجوس و الوثنية جميعا فكان لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه شيئا من حجارة الحرم تبركا و صبابة، و حيثما حلوا وضعوه و طافوا به تيمنا و حبا للكعبة و الحرم. 

  • و عن هذه الأسباب شاعت الوثنية بين العرب عاربهم و مستعربهم و لم يبق من أهل التوحيد بينهم إلا آحاد لا يذكرون، و كان من الأصنام المعروفة بينهم هبل و إساف و نائلة، و هي التي أتى بها عمرو بن لحي و دعا إليها الناس، و اللات و العزى 

    1. و لعل هذا هو الوجه في إصرار القرآن على توصيف إبراهيم بالحنيف و الإسلام بالحنيفية. 

تفسير الميزان ج۱۰

287
  • و مناة و ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر، و قد ذكرت هذه الثمان في القرآن و نسبت الخمس الأواخر منها إلى قوم نوح. 

  • و روي في الكافي بإسناده إلى عبد الرحمن بن الأشل بياع الأنماط عن الصادق (عليه السلام) : أن يغوث كان موضوعا قبالة باب الكعبة، و كان يعوق عن يمين الكعبة و نسر عن يسارها. 

  • و في الرواية أيضا: أن هبل كان على سطح الكعبة و إساف و نائلة على الصفا و المروة. 

  • و في تفسير القمي قال:كانت ود لكلب، و كانت سواع لهذيل و يغوث لمراد، و كانت يعوق لهمدان، و كانت نسر لحصين. 

  • و كانت في الوثنية التي عندهم آثار من وثنية الصابئة كالغسل من الجنابة و غيره. 

  • و فيها آثار من البرهمية كالقول بالأنواء و القول بالدهر كما تقدم عن وثنية بوذة قال تعالى: {وَ قَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا نَمُوتُ وَ نَحْيَا وَ مَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ اَلدَّهْرُ} الجاثية: - ٢٤ و إن ذكر بعضهم أنه قول الماديين المنكرين لوجود الصانع. 

  • و فيها شي‌ء من الدين الحنيف و هو إسلام إبراهيم (عليه السلام) كالختنة و الحج إلا أنهم خلطوه بسنن وثنية كالتمسح بالأصنام التي حول الكعبة و الطواف عريانا، و التلبية بقولهم: لبيك لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه و ما ملك. 

  • و عندهم أمور أخر اختلقوه من عند أنفسهم كالقول بالبحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام و القول بالصدى و الهام و الأنصاب و الأزلام و أمور أخر مذكورة في التواريخ و قد تقدم تفسير البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام في سورة المائدة في ذيل آية ١٠٣ و كذا ذكر الأزلام و الأنصاب في ذيل آية ٣ و آية ٩٠. 

  • ٩ - دفاع الإسلام عن التوحيد و منازلته الوثنية

  • لم تزل الدعوة الإلهية تخاصم الوثنية و تقاومه و تندب إلى التوحيد كما ذكره الله في كتابه فيما يقصه من دعوة الأنبياء و الرسل كنوح و هود و صالح و إبراهيم و شعيب و موسى (عليه السلام) ، و أشير إلى ذلك في قصص عيسى و لوط و يونس (عليه السلام) . 

  • و قد أجمل القول في ذلك في قوله تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ 

تفسير الميزان ج۱۰

288
  • إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} الأنبياء: - ٢٥. 

  • و قد بدأ النبي محمد (صلى الله عليه و آله وسلم) في دعوته العامة بدعاء الوثنيين من قومه إلى التوحيد بالحكمة و الموعظة و الجدال بالتي هي أحسن فلم يجيبوه إلا بالاستهزاء و الأذى و فتنة من آمن به منهم و تعذيبه أشد العذاب حتى اضطر جمع من المسلمين إلى ترك مكة و الهجرة إلى الحبشة، ثم مكروا لقتله (صلى الله عليه وآله و سلم) فهاجر إلى المدينة ثم هاجر إليها بعده عدة من المؤمنين. 

  • و لم يلبثوا حتى تعلقوا به بالقتال، و قاتلوه ببدر و أحد و الخندق و في غزوات أخرى كثيرة حتى أظهره الله تعالى عليهم بفتح مكة، فطهّر (صلى الله عليه وآله و سلم) البيت و الحرم من أوثانهم، و كسر الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرفة، و كان هبل منصوبا على سطح الكعبة فأصعد عليا (عليه السلام) إليه فرماه إلى الأرض و كان على ما يقال أعظم أصنامهم فدفن على ما ذكروه - في عتبة باب المسجد. 

  • و الإسلام شديد العناية بحسم مادة الوثنية و تخلية القلوب عن الخواطر الداعية إليها و صرف النفوس حتى عن الحومان حولها و الإشراف عليها، و ذلك مشهود مما ندب إليه من المعارف الأصلية و الأخلاق الكريمة و الأحكام الشرعية فتراه يعد الاعتقاد الحق أنه لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى يملك كل شي‌ء، له الوجود الأصيل الذي يستقل بذاته و هو الغني عن العالمين، و كل ما هو غيره منه يبتدئ و إليه يعود، و إليه يفتقر في جميع شئون ذاته حدوثا و بقاء فمن أسند إلى شي‌ء شيئا من الاستقلال بالقياس إليه تعالى لا بالقياس إلى غيره في شي‌ء من ذاته أو صفاته أو أعماله فهو مشرك بحسبه. 

  • و تراه يأمر بالتوكل على الله، و الثقة بالله، و الدخول تحت ولاية الله، و الحب في الله، و البغض في الله، و إخلاص العمل لله، و ينهى عن الاعتماد بغير الله، و الركون إلى غيره و الاطمئنان إلى الأسباب الظاهرة و رجاء من دونه، و العجب و الكبر إلى غير ذلك مما يوجب إعطاء الاستقلال لغيره و الشرك به. 

  • و تراه ينهى عن السجدة لغيره تعالى، و ينهى عن اتخاذ التماثيل ذوات الأظلال و عن تصوير ذوي الأرواح، و ينهى عن طاعة غير الله و الإصغاء إليه فيما يأمر و ينهى إلا ما رجع إلى طاعة الله كطاعة الأنبياء و أئمة الدين، و ينهى عن البدعة و اتباعها و عن اتباع خطوات الشيطان. 

تفسير الميزان ج۱۰

289
  • و الأخبار المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) متظافرة في أن الشرك ينقسم إلى جلي و خفي، و أن الشرك ذو مراتب كثيرة لا يسلم من جميعها إلا المخلصون، و أنه أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء،

  • و قد روي في الكافي عن الصادق (عليه السلام) : في قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء: - ٨٩، القلب السليم الذي يلقى ربه ليس فيه أحد سواه، قال: و كل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط و إنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة. 

  • و ورد أيضا: أن عبادته تعالى طمعا في الجنة عبادة الأجراء، و عبادته خوفا من النار عبادة العبيد، و حق العبادة أن يعبد تعالى حبا له و تلك عبادة الكرام، و هذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون‌ و قد تقدمت عدة من هذه الروايات في بعض الأبحاث السابقة من الكتاب. 

  • ١٠- بناء سيرة النبي على التوحيد و نفي الشركاء

  • أجمل تعالى سيرته (صلى الله عليه وآله و سلم) التي أمره باتخاذها و السير بها في المجتمع البشري في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللَّهَ وَ لاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران: - ٦٤، و قال تعالى يشير إلى ما داخل دينهم من عقائد الوثنية {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ لاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ اَلسَّبِيلِ} المائدة - ٧٧. 

  • و قال أيضا يذم أهل الكتاب {اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ مَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة: - ٣١. 

  • و كان (صلى الله عليه وآله و سلم) قد سوى بين الناس في إجراء الأحكام و الحدود و قارب بين طبقات المجتمع كالحاكم و المحكوم، و الرئيس و المرؤوس، و الخادم و المخدوم، و الغني و الفقير، و الرجل و المرأة، و الشريف و الوضيع فلا كرامة و لا فخر و لا تحكم لأحد على أحد إلا كرامة التقوى و الحساب إلى الله و الحكم إليه. 

تفسير الميزان ج۱۰

290
  • و كان (صلى الله عليه وآله و سلم) يقسم بالسوية، و ينهى عن تظاهر القوي بقوته بما يتأثر و ينكسر به قلب الضعيف المهين كتظاهر الأغنياء بزينتهم على الفقير المسكين، و الحكام و الرؤساء بشوكتهم على الرعية. 

  • و كان (صلى الله عليه وآله و سلم) يعيش كأحد من الناس لا يمتاز منهم في مأكل أو مشرب أو ملبس أو مجلس أو مشية أو غير ذلك، و قد تقدم جوامع سيرته في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب.

  • (كلام آخر ملحق بالكلام السابق في فصول) ‌ 

  • نزن فيه تعليم القرآن الكريم بقياسه إلى تعاليم ويدا، و أوستا، و التوراة، و الإنجيل على نحو الإجمال و الكلية في فصول و هذا بحث تحليلي شريف. 

  • ١ - التناسخ عند الوثنيين

  • من الأصول الأولية التي تبتني عليها البرهمية و مثلها البوذية و الصابئية هو التناسخ و هو أن العالم محكوم بالكون و الفساد دائما فهذا العالم المشهود لنا و كذا ما فيه من الأجزاء مكون عن عالم مثله سابق عليه و هكذا إلى غير النهاية، و سيفسد هذا العالم كما لا يزال يفسد أجزاؤه و يتكون منه عالم آخر و هكذا إلى غير النهاية، و الإنسان يعيش في كل من هذه العوالم على ما اكتسبه في عالم يسبقه فمن عمل صالحا و اكتسب ملكة حسنة فستتعلق نفسه بعد مفارقة البدن بالموت ببدن سعيد و يعيش على السعادة، و هو ثوابه، و من أخلد إلى الأرض و اتبع هواه فسوف يعيش بعد الموت في بدن شقي و يقاسي فيه أنواع العذاب إلا من عرف البرهم و اتحد به فإنه ينجو من الولادة الثانية و يعود ذاتا أزلية أبدية هي عين البهاء و السرور و الحياة و القدرة و العلم لا سبيل للفناء و البطلان إليها. 

  • و لذلك كان من الواجب الديني على الإنسان أن يؤمن بالبرهم (و هو الله أصل كل شي‌ء) و يتقرب إليه بالقرابين و العبادات، و يتحلى بالأخلاق الكريمة و الأعمال الصالحة فإن عزفت نفسه الدنيا و تخلق بكرائم الأخلاق و تحلى بصوالح الأعمال و عرف البرهم بمعرفة نفسه صار برهمنا و اتحد بالبرهم و صار هو هو، و هو السعادة 

تفسير الميزان ج۱۰

291
  • الكبرى و الحياة البحتة، و إلا فليؤمن بالبرهم و ليعمل صالحا حتى يسعد في حياته التالية و هي آخرته. 

  • لكن البرهم لما كان ذاتا مطلقة محيطا بكل شي‌ء غير محاط لشي‌ء كان أعلى و أجل من أن يعرفه الإنسان إلا بنوع من نفي النقائص أو يناله بعبادة أو قربان فمن الواجب علينا أن نتقرب بالعبادة إلى أوليائه و أقوياء خلقه حتى يكونوا شفعاء لنا عنده، و هؤلاء هم الآلهة الذين يعبدون من دون الله بعبادة أصنامهم، و هم على كثرتهم إما من الملائكة أو من الجن أو من أرواح المكملين من البراهمة، و إنما يعبد الجن خوفا من شرهم، و غيرهم طمعا في رحمتهم و خوفا من سخطهم و منهم الأزواج و البنون و البنات لله تعالى. 

  • فهذه جمل ما تتضمنه البرهمية و يعلمه علماء المذهب من البراهمة. 

  • لكن الذي يتحصل من «أوبانيشاد»۱ و هو القسم الرابع من كتاب «ويدا» المقدس ربما لم يوافق ما تقدم من كليات عقائدهم و إنْ أوّله علماء المذهب من البراهمة. 

  • فإن الباحث الناقد يجد أن رسائل «أوبانيشاد» المعلمة للمعارف الإلهية و إن كانت تصف العالم الألوهي و الشئون المتعلقة به من الأسماء و الصفات و الأفعال من إبداء و إعادة و خلق و رزق و إحياء و أماته و غير ذلك بما يوصف به الأمور الجسمانية المادية كالانقسام و التبعض و السكون و الحركة و الانتقال و الحلول و الاتحاد و العظم و الصغر و سائر الأحوال الجسمانية المادية إلا أنها تصرح في مواضع منها أن برهم‌٢ ذات مطلقة متعالية من أن يحيط به حد له الأسماء الحسنى و الصفات العليا من حياة و علم و قدرة، منزه عن نعوت النقص و أعراض المادة و الجسم ليس كمثله شي‌ء. 

  • و تصرح‌٣ بأنه تعالى أحدي الذات لم يولد من شي‌ء و لم يلد شيئا و ليس له 

    1. أوبانيشاد لكتب «ويدا» المقدسة و هي رسائل متفرقة مأثورة من كبار رجال الدين من عرفائهم القدماء الأقدمين تحتوي جمل ما حصلوه من المعارف الإلهية بالكشف و يعتبرها البراهمة وحيا سماويا.
    2. هذا كثر الورود يعثر عليه الراجع في أغلب فصول أوبانيشاد.
    3. «لم يولد منه شي‌ء و لم يتولد من شي‌ء و ليس كفؤا أحد» أوبانيشاد (شيت استر) ادهيا السادس آية ٨ (السر الأكبر).

تفسير الميزان ج۱۰

292
  • كفو و مثل البتة. 

  • و تصرح‌۱ بأن الحق أن لا يعبد غيره تعالى و لا يتقرب إلى غيره بقربان بل الحري بالعبادة هو وحده لا شريك له. 

  • و تصرح‌٢ كثيرا بالقيامة و أنه الأجل الذي ينتهي إليه الخلقة، و تصف ثواب الأعمال و عقابها بعد الموت بما لا يأبى الانطباق على البرزخ من دون أن يتعين حمله على التناسخ. 

  • و لا خبر في هذه الأبحاث الإلهية الموردة فيها عن الأوثان و الأصنام و توجيه العبادات و تقديم القرابين إليها. 

  • و هذه التي نقلناها من «أوبانيشاد» ـ وما تركناه أكثر ـ حقائق سامية و معارف حقة تطمئن إليها الفطرة الإنسانية السليمة، و هي كما ترى تنفي جميع أصول الوثنية الموردة في أول البحث. 

  • و الذي يهدي إليه عميق النظر أنها كانت حقائق عالية كشفها آحاد من أهل ولاية الله ثم أخبروا بما وجدوا بعض تلامذتهم الآخذين منهم غير أنهم تكلموا غالبا بالرمز و استعملوا في تعاليمهم الأمثال. 

  • ثم جعل ما أخذ من هؤلاء أساسا تبتني عليه سنة الحياة التي هي الدين المجتمع عليه عامة الناس، و هي معارف دقيقة لا يحتملها إلا الآحاد من أهل المعرفة لارتفاع سطحها عن الحس و الخيال اللذين هما حظ العامة من الإدراك، و كمال صعوبة إدراكها على العقول الراجلة غير المتدربة في المعارف الحقة. 

  • و اختصاصُ نيلها بالأقلين من الناس و حرمان الأكثرين من ذلك ـ وهي دين إنساني ـ أولُ المحذور فإن الفطرة أنشأت العالم الإنساني مغروزة على الاجتماع المدني، و انفصال بعضهم عن بعض في سنة الحياة و هي الدين إلغاء لسنة الفطرة و طريقة الخلقة. 

  • على أن في ذلك تركا لطريق العقل و هو أحد الطرق الثلاث الوحي و الكشف 

    1. قال شبت استر: «اعمل الصالحات لتلك الذات النورانية إلى أي ملك أقدم القربان و أترك تلك الذات الظاهرة؟» أوبانيشاد شيت استر. ادهيا الرابع آية ١٣.
    2. و هذا كثير الورود في فصول أوبانيشاد يعثر عليه المراجع.

تفسير الميزان ج۱۰

293
  • و العقل، و أعمها و أهمها بالنظر إلى حياة الإنسان الدنيوية فالوحي لا يناله إلا أهل العصمة من الأنبياء المكرمين، و الكشف لا يكرم به إلا الآحاد من أهل الإخلاص و اليقين، و الناس حتى أهل الوحي و الكشف في حاجة مبرمة إلى تعاطي الحجة العقلية في جميع شئون الحياة الدنيوية و لا غنى لها عن ذلك، و في إهمال هذا الطريق تسليط التقليد الإجباري على جميع شئون المجتمع الحيوية من اعتقادات و أخلاق و أعمال، و في ذلك سقوط الإنسانية. 

  • على أن في ذلك إنفاذا لسنة الاستعباد في المجتمع الإنساني و يشهد بذلك التجارب التاريخي المديد في الأمم البشرية التي عاشت في دين الوثنية أو جرت فيهم سنن الاستعباد باتخاذ أرباب من دون الله.

  • ٢ - سريان هذه المحاذير إلى سائر الأديان

  • الأديان العامة الأخر على ما فيها من القول بتوحيد الألوهية لم تسلم من شرك العبادة فساقهم ذلك إلى الابتلاء بعين ما ابتليت به الوثنية البرهمية من المحاذير التي أهمها الثلاثة المتقدمة. 

  • أما البوذية و الصابئة فذلك فيهم ظاهر و التاريخ يشهد بذلك، و قد تقدم شي‌ء مما يتعلق بعقائدهم و أعمالهم. 

  • و أما المجوس فهم يوحدون «أهورا مزدا» بالألوهية لكنهم يخضعون بالتقديس ليزدان و أهريمن و الملائكة الموكلين بشئون الربوبية و للشمس و النار و غير ذلك، و التاريخ يقص ما كانت تجري فيهم من سنة الاستعباد و اختلاف الطبقات و التدبر و الاعتبار يقضي أنه إنما تسرب ذلك كله إليهم من ناحية تحريف الدين الأصيل، و قد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيهم: «أنه كان لهم نبي فقتلوه و كتاب فأحرقوه»

  • و أما اليهود فالقرآن يقص كثيرا من أعمالهم و تحريفهم كتاب الله و اتخاذهم العلماء أربابا من دون الله، و ما ابتلاهم الله به من انتكاس الفطرة و رداءة السليقة. 

  • و أما النصارى فقد فصلنا القول فيما انحرفوا فيه من النظر و العمل في الجزء الثالث من الكتاب فراجع و إن شئت فطبق مفتتح إنجيل يوحنا و رسائل بولس على سائر الأناجيل و تممه بمراجعة تاريخ الكنيسة فالكلام في ذلك طويل. 

تفسير الميزان ج۱۰

294
  • فالبحث العميق في ذلك كله ينتج أن المصائب العامة في المجتمعات الدينية في العالم الإنساني من مواريث الوثنية الأولى التي أخذت المعارف الإلهية و الحقائق العالية الحقة مكشوفة القناع مهتوكة الستر فجعلتها أساس السنن الدينية، و حملتها على الأفهام العامة التي لا تأنس إلا بالحس و المحسوس فأنتج ذلك ما أنتج.

  • ٣ - إصلاح الإسلام لهذه المفاسد

  • أما الإسلام فإنه أصلح هذه المفاسد؛ إذ قلّب هذه المعارف العالية في قالب البيان الساذج الذي يصلح لهضم الأفهام الساذجة و العقول العادية فصارت تلامسها من وراء حجاب و تتناولها ملفوفة محفوفة، و هذا هو الذي يصلح به حال العامة. و أما الخاصة فإنهم ينالونها مسفرة مكشوفة في جمالها الرائع و حسنها البديع آمنين مطمئنين و هم في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا، قال الله تعالى: {وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} الزخرف: - ٤، و قال {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ} الواقعة: - ٧٩،- و قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم‌». 

  • و عالج غائلة الشرك و الوثنية في مرحلة التوحيد بنفي الاستقلال في الذات و الصفات عن كل شي‌ء إلا الله سبحانه فهو تعالى القيوم على كل شي‌ء، و ركز الأفهام في معرفة الألوهية بين التشبيه و التنزيه فوصفه تعالى بأن له حياة لكن لا كحياتنا، و علما لا كعلمنا، و قدرة لا كقدرتنا و سمعا لا كسمعنا، و بصرا لا كبصرنا، و بالجملة ليس كمثله شي‌ء و أنه أكبر من أن يوصف، و أمر الناس مع ذلك أن لا يقولوا في ذلك قولا إلا عن علم، و لا يركنوا إلى اعتقاد إلا عن حجة عقلية يهضمها عقولهم و أفهامهم. 

  • فوفق بذلك أولا لعرض الدين على العامة و الخاصة شرعا سواء، و ثانيا أن يعمل العقل السليم من غير أن يترك هذه الموهبة الإلهية سدى لا ينتفع بها، و ثالثا أن قرب بين الطبقات المختلفة في المجتمع الإنساني غاية ما يمكن فيها من التقريب من غير أن ينعم على هذا و يحرم ذاك أو يقدم واحدا و يؤخر آخر قال تعالى: {إِنَّ 

تفسير الميزان ج۱۰

295
  • هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} الأنبياء: - ٩٢ و قال {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات: - ١٣. 

  • و هذا إجمال من القول يمكنك أن تعثر على تفصيل القول في أطرافه في أبحاث متفرقة تقدمت في هذا الكتاب و الله المستعان.

  • ٤ - إشكال الاستشفاع و التبرك في الإسلام 

  • ٤ - ربما يظن أن ما ورد في الأدعية من الاستشفاع بالنبي و آله المعصومين (صلى الله عليه وآله و سلم) و مسألته تعالى بحقهم و زيارة قبورهم و تقبيلها و التبرك بتربتهم و تعظيم آثارهم من الشرك المنهي عنه و هو الشرك الوثني، محتجا بأن هذا النوع من التوجه العبادي فيه إعطاء تأثير ربوبي لغيره تعالى و هو شرك و أصحاب الأوثان إنما أشركوا لقولهم في أوثانهم: إن هؤلاء شفعاؤنا عند الله. و قولهم: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، و لا فرق في عبادة غير الله سبحانه بين أن يكون ذلك الغير نبيا أو وليا أو جبارا من الجبابرة أو غيرهم فالجميع من الشرك المنهي عنه. 

  • و قد فاتهم أولا أن ثبوت التأثير ـ سواء كان ماديا أو غير مادي ـ في غيره تعالى ضروري لا سبيل إلى إنكاره، و قد أسند تعالى في كلامه التأثير بجميع أنواعه إلى غيره، و نفي التأثير عن غيره تعالى مطلقا يستلزم إبطال قانون العلية و المعلولية العام الذي هو الركن في جميع أدلة التوحيد، و فيه هدم بنيان التوحيد. نعم المنفي من التأثير عن غيره تعالى هو الاستقلال في التأثير و لا كلام لأحد فيه، و أما نفي مطلق التأثير ففيه إنكار بديهة العقل و الخروج عن الفطرة الإنسانية. 

  • و من يستشفع بأهل الشفاعة الذين ذكرهم الله في مثل قوله: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ} الزخرف: - ٨٦ و قوله ‌ {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى } الأنبياء: - ٢٨. 

  • أو يسأل الله بجاههم و يقسمه بحقهم الذي جعله لهم عليه بمثل قوله مطلقا {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ} الصافات: - ١٧٣ و قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} المؤمن: - ٥١. 

  • أو يعظمهم و يظهر حبهم بزيارة قبورهم و تقبيلها و التبرك بتربتهم بما أنهم آيات 

تفسير الميزان ج۱۰

296
  • الله و شعائره تمسكا بمثل قوله تعالى: {وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اَللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ} الحج: - ٣٢، و آية القربى و غير ذلك من كتاب و سنة. 

  • فهو في جميع ذلك يبتغي بهم إلى الله الوسيلة و قد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ} المائدة: - ٣٥ فشرع به ابتغاء الوسيلة، و جعلهم بما شرع من حبهم و تعزيرهم و تعظيمهم وسائل إليه، و لا معنى لإيجاب حب شي‌ء و تعظيمه و تحريم آثار ذلك فلا مانع من التقرب إلى الله بحبهم و تعظيم أمرهم و ما لذلك من الآثار إذا كان على وجه التوسل و الاستشفاع من غير أن يعطوا استقلال التأثير و العبادة البتة. 

  • و ثانيا: أنه فاتهم الفرق بين أن يعبد غير الله رجاء أن يشفع عند الله أو يقرب إلى الله، و بين أن يعبد الله وحده مع الاستشفاع و التقرب بهم إليه ففي الصورة الأولى إعطاء الاستقلال و إخلاص العبادة لغيره تعالى و هو الشرك في العبودية و العبادة، و في الصورة الثانية يتمحض الاستقلال لله تعالى و يختص العبادة به وحده لا شريك له. 

  • و إنما ذم تعالى المشركين لقولهم: {إنما نعبدهم لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى } حيث أعطوهم الاستقلال و قصدوهم بالعبادة دون الله سبحانه، و لو قالوا: إنما نعبد الله وحده و نرجو مع ذلك أن يشفع لنا ملائكته أو رسله و أولياؤه بإذنه أو نتوسل إلى الله بتعظيم شعائره و حب أوليائه، لما كفروا بذلك بل عادت شركاؤهم كمثل الكعبة في الإسلام هي وجهة و ليست بمعبودة، و إنما يعبد بالتوجه إليها اللهُ. 

  • و ليت شعري ماذا يقول هؤلاء في الحجر الأسود و ما شرع في الإسلام من استلامه و تقبيله؟ و كذا في الكعبة؟ فهل ذلك كله من الشرك المستثنى من حكم الحرمة؟! فالحكم حكم ضروري عقلي لا يقبل تخصصا و لا استثناء، أو أن ذلك من عبادة الله محضا و للحجر حكم الطريق و الجهة، و حينئذ فما الفرق بينه و بين غيره إذا لم يكن تعظيمه على وجه إعطاء الاستقلال و تمحيض العبادة، و مطلقات تعظيم شعائر الله و تعزير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و حبه و مودته و حب أهل بيته و مودتهم و غير ذلك في محلها.

تفسير الميزان ج۱۰

297
  • [سورة هود (١١) : الآیات ٥٠الی ٦٠]

  • {وَ إِلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ٥٠يَا قَوْمِ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اَلَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ٥١ وَ يَا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ وَ لاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ٥٢ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَ مَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَ مَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ٥٣ إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اِعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اَللَّهَ وَ اِشْهَدُوا أَنِّي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ٥٤ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ ٥٥ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٥٦ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْ‌ءٍ حَفِيظٌ ٥٧ وَ لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ٥٨ وَ تِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اِتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ٥٩ وَ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ٦٠} 

تفسير الميزان ج۱۰

298
  • (بيان) 

  • تذكر الآيات قصة هود النبي و قومه و هم عاد الأولى، و هو (عليه السلام) أول نبي يذكره الله تعالى في كتابه بعد نوح (عليه السلام) ، و يشكر مسعاه في إقامة الدعوة الحقة و الانتهاض على الوثنية، و يعقب ذكر قوم نوح بذكر قوم هود، قال تعالى في عدة مواضع من كلامه: {قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ} 

  • قوله تعالى{وَ إلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} كان أخاهم في النسب لكونه منهم و أفراد القبيلة يسمون إخوة لانتسابهم جميعا إلى أب القبيلة، و الجملة معطوفة على قوله تعالى سابقا: {نُوحاً إلى قَوْمِهِ} و التقدير: «و لقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا» و لعل حذف الفعل هو الموجب لتقديم الظرف على المفعول في المعطوف على خلاف المعطوف عليه حيث قيل: {وَ إلى عَادٍ أَخَاهُمْ} إلخ، و لم يقل: و هودا إلى عاد مثلا كما قال: {نُوحاً إلى قَوْمِهِ} لأن دلالة الظرف أعني: {إِلى عَادٍ} على تقدير الإرسال أظهر و أوضح. 

  • قوله تعالى{قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} الكلام وارد مورد الجواب، كأن السامع لما سمع قوله: {وَ إلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} قال: فماذا قال لهم؟ فقيل: {قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ} إلخ، و لذا جي‌ء بالفصل من غير عطف. 

  • و قوله: {اُعْبُدُوا اَللَّهَ} في مقام الحصر أي اعبدوه و لا تعبدوا غيره من آلهة اتخذتموها أربابا من دون الله تعبدونها لتكون لكم شفعاء عند الله من غير أن تعبدوه تعالى. و الدليل على الحصر المذكور قولُه بعد: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} حيث يدل على أنهم كانوا قد اتخذوا آلهة يعبدونها افتراء على الله بالشركة و الشفاعة. 

  • قوله تعالى{يَا قَوْمِ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} إلى آخر الآية، قال في المجمع، الفطر الشق عن أمر الله كما ينفطر الورق عن الشجر، و منه فطر الله الخلق لأنه بمنزلة ما شق منه فظهر. انتهى، و قال الراغب: أصل الفطر الشق طولا يقال: 

  • فطر فلان كذا فطرا و أفطر هو فطورا و انفطر انفطارا إلى أن قال و فطر الله 

تفسير الميزان ج۱۰

299
  • الخلق و هو إيجاد الشي‌ء و إبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال فقوله: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع و ركز في الناس من معرفته، و فطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان و هو المشار إليه بقوله: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ} . انتهى. 

  • و الظاهر أن الفطر هو الإيجاد عن عدم بحت، و الخصوصية المفهومة من مثل قوله: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} إنما نشأت من بناء النوع الذي تشتمل عليه فطرة و هي فعلة، و على هذا فتفسير بعضهم الفطرة بالخلقة بعيد من الصواب، و إنما الخلق هو إيجاد الصورة عن مادة على طريق جمع الأجزاء، قال تعالى: {وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ} المائدة: - ١١٠. 

  • و الكلام مسوق لرفع التهمة و العبث و المعنى يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم أجرا و جزاء حتى تتهموني أني أستدر به نفعا يعود إلي و إن أضر بكم، و لست أدعوكم من غير جزاء مطلوب حتى يكون عبثا من الفعل بل إنما أطلب به جزاء من الله الذي أوجدني و أبدعني أ فلا تعقلون عني ما أقوله لكم حتى يتضح لكم أني ناصح لكم في دعوتي، ما أريد إلا أن أحملكم على الحق. 

  • قوله تعالى{وَ يَا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} إلى آخر الآية تقدم الكلام في معنى قوله: {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} في صدر السورة. 

  • و قوله: {يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} في موقع الجزاء لقوله: {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} إلخ، أي إن تستغفروه و تتوبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا، و المراد بالسماء السحاب فإن كل ما علا و أظل فهو سماء، و قيل المطر و هو شائع في الاستعمال، و المدرار مبالغة من الدر، و أصل الدر اللبن ثم استعير للمطر و لكل فائدة و نفع، فإرسال السماء مدرارا إرسال سحب تمطر أمطارا متتابعة نافعة تحيى بها الأرض و ينبت الزرع و العشب، و تنضر بها الجنات و البساتين. 

  • و قوله: {وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} قيل المراد بها زيادة قوة الإيمان على قوة الأبدان و قد كان القوم أولي قوة و شدة في أبدانهم و لو أنهم آمنوا انضافت 

تفسير الميزان ج۱۰

300
  • قوة الإيمان على قوة أبدانهم و قيل المراد بها قوة الأبدان كما قال نوح لقومه‌ {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ} نوح: - ١٢ و لعل التعميم أولى. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} بمنزلة التفسير لقوله: {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي إن عبادتكم لما اتخذتموه من الآلهة دون الله إجرام منكم و معصية توجب نزول السخط الإلهي عليكم فاستغفروا الله من إجرامكم و ارجعوا إليه بالإيمان حتى يرحمكم بإرسال سحب هاطلة ممطرة و زيادة قوة إلى قوتكم. 

  • و في الآية أوّلاً: إشعار أو دلالة على أنهم كانوا مبتلين بإمساك السماء و الجدب و السِّنة كما ربما أومأ إليه قوله: {يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ} و كذا قولهم على ما حكاه الله تعالى في موضع آخر {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} الأحقاف: - ٢٤. 

  • و ثانيا: أن هناك ارتباطا تاما بين الأعمال الإنسانية و بين الحوادث الكونية التي تمسه فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات و نزول البركات، و الأعمال الطالحة تستدعي تتابع البلايا و المحن، و تجلب النقمة و الشقوة و الهلكة كما يشير إليه قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} (الآية) الأعراف: - ٩٦، و قد تقدم تفصيل الكلام فيه في بيان الآيات ٩٤-١٠٢ من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، و في أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه. 

  • قوله تعالى{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَ مَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَ مَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} سألهم هود في قوله: {يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلى آخر الآيات الثلاث أمرين هما أن يتركوا آلهتهم و يعودوا إلى عبادة الله وحده و أن يؤمنوا به و يطيعوه فيما ينصح لهم فردوا عليه القول بما في هذه الآية إجمالا و تفصيلا: 

  • أما إجمالا فبقولهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} يعنون أن دعوتك خالية عن الحجة و الآية المعجزة و لا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه. 

  • و أما تفصيلا فقد أجابوا عن دعوته إياهم إلى رفض الشركاء بقولهم: {وَ مَا 

تفسير الميزان ج۱۰

301
  • نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} و عن دعوته إياهم إلى الإيمان و الطاعة بقولهم: {وَ مَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} فآيسوه في كلتا المسألتين. 

  • ثم ذكروا له ما ارتأوا فيه من الرأي لييأس من إجابتهم بالمرة فقالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اِعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} و الاعتراء الاعتراض و الإصابة يقولون: إنما نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل و الجنون لشتمك إياها و ذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك فلا يُعبأ بما تفوهت به في صورة الدعوة. 

  • قوله تعالى{قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اَللَّهَ وَ اِشْهَدُوا أَنِّي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ} أجاب هود (عليه السلام) عن قولهم بإظهار البراءة من شركائهم من دون الله ثم التحدي عليهم بأن يكيدوا به جميعا و لا ينظروه. 

  • فقوله: {أَنِّي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ} إنشاء و ليس بإخبار كما هو المناسب لمقام التبري، و لا ينافي ذلك كونه بريئا من أول أمره فإن التبرز بالبراءة لا ينافي تحققها من قبل، و قوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ} أمر و نهي تعجيزيان. 

  • و إنما أجاب (عليه السلام) بما أجاب ليشاهد القوم من آلهتهم أنها لا تمسّه (عليه السلام) بسوء مع تبرزه بالبراءة، و لو كانت آلهةً ذات علم و قدرة لقهرته و انتقمت منه لنفسها كما ادعوا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء، و هذه حجة بينة على أنها ليست بآلهة و على أنها لم تعتره بسوء كما ادعوه، ثم يشاهدوا من أنفسهم أنهم لا يقدرون عليه بقتل أو تنكيل مع كونهم ذوي شدة و قوة لا يعادلهم غيرهم في الشدة و البطش، و لو لا أنه نبي من عند الله صادق في ما يقوله مصون من عند ربه لقدروا عليه بكل ما أرادوه من عذاب أو دفع. 

  • و من هنا يظهر وجه إشهاده (عليه السلام) في تبريه ربه سبحانه و قومه أما إشهاده الله فليكون تبريه على حقيقته و عن ظهر القلب من غير تزويق و نفاق، و أما إشهاده إياهم فليعلموا به ثم يشاهدوا ما يجري عليه الأمر من سكوت آلهتهم و عجز أنفسهم من الانتقام منه و من تنكيله. 

  • و ظهر أيضا صحة ما احتمله بعضهم أن هذا التعجيز هو معجزة هود (عليه السلام) و ذلك أن ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الرد في صورة الحجة، و فيها 

تفسير الميزان ج۱۰

302
  • قولهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} و من المستبعد جدا أن يهمل النبي هود (عليه السلام) في دعوته و حجته التعرض للجواب عنه مع كون هذا التحدي و التعجيز صالحا في نفسه لأن يتخذ آية معجزة كما أن التبري من الشركاء من دون الله صالح لأن يكشف عن عدم كونهم آلهة من دون الله و عن أن بعض آلهتهم لم يعتره بسوء. 

  • فالحق أن قوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اَللَّهَ وَ اِشْهَدُوا} إلى آخر الآيتين مشتمل على حجة عقلية على بطلان ألوهية الشركاء، و على آية معجزة لصحة رسالة هود (عليه السلام) . 

  • و في قوله: {جَمِيعاً} إشارة إلى أن مراده تعجيزهم و تعجيز آلهتهم جميعا فيكون أتم دلالة على كونه على الحق و كونهم على الباطل. 

  • قوله تعالى{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ} إلى آخر الآية. لما كان الأمر الذي في صورة التعجيز صالحا لأن يكون بداعي إظهار عجز الخصم و عدم قدرته، و صالحا لأن يصدر بداعي أن الآمر لا يخاف الخصم و إن كان الخصم قادرا على الإتيان بما يؤمر به لكنه غير قادر على تخويفه و إكراهه على الطاعة و حمله على ما يريد منه كقول السحرة لفرعون {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا} طه: - ٧٢. 

  • و كان قوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ} محتملا لأن يكون المراد به إظهار أنه لا يخافهم و إن فعلوا به ما فعلوا، عقبه لدفع هذا الاحتمال بقوله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ} فذكر أنه متوكل في أمره على الله الذي هو يدبر أمره و أمرهم ثم عقبه بقوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فذكر أنه ناجح في توكله هذا فإن الله محيطٌ بهم جميعاً قاهرٌ لهم يحكم على سنة واحدة هي نصرة الحق و إظهاره على الباطل إذا تقابلا و تغالبا. 

  • فتبريه من أصنامهم و تعجيزهم على ما هم عليه من الحال بقوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ} ثم لبثه بينهم في عافية و سلامة لا يمسونه بسوء و لا يستطيعون أن ينالوه بشرٍ آيةٌ معجزة و حجة سماوية على أنه رسول الله إليهم. 

  • و قوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الدابة كل ما يدب في الأرض من أصناف الحيوان، و الأخذ بالناصية كناية عن كمال 

تفسير الميزان ج۱۰

303
  • السلطة و نهاية القدرة، و كونه تعالى على صراط مستقيم هو كون سنته في الخليقة واحدة ثابتة غير متغيرة و هو تدبير الأمور على منهاج العدل و الحكمة فهو يحق الحق و يبطل الباطل إذا تعارضا. 

  • فالمعنى أني توكلت على الله ربي و ربكم في نجاح حجتي التي ألقيتها إليكم و هو التبرز بالبراءة من آلهتكم، و أنكم و آلهتكم لا تضرونني شيئا فإنه المالك ذو السلطنة علي و عليكم و على كل دابة، و سنته العادلة ثابتة غير متغيرة فسوف ينصر دينه و يحفظني من شركم. 

  • و لم يقل: «إن ربي و ربكم على صراط مستقيم» على وزان قوله: {عَلَى اَللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ} فإنه في مقام الدعاء لنفسه على قومه يتوقع أن يحفظه الله من شرهم، و هو يأخذه تعالى ربا بخلاف القوم، فكان الأنسب أن يعده ربا لنفسه و يستمسك برابطة العبودية التي بينه و بين ربه حتى ينجح طلبته، و هذا بخلاف مقام قوله: {تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ} فإنه يريد هناك بيان عموم السلطة و الإحاطة. 

  • قوله تعالى{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} و هذه الجملة من كلامه (عليه السلام) ناظر إلى قولهم في آخر جدالهم: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اِعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} الدال على أنهم قاطعون على أن لا يؤمنوا به و دائمون على الجحد، و المعنى: إن تتولوا و تعرضوا عن الإيمان بي و الإطاعة لأمري فقد أبلغتكم رسالة ربي و تمت عليكم الحجة و لزمتكم البلية. 

  • قوله تعالى{وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْ‌ءٍ حَفِيظٌ} هذا وعيد و إخبار بالتبعة التي يستتبعها إجرامهم، فإنه كان وعدهم إن يستغفروا الله و يتوبوا إليه أن يرسل السماء عليهم مدرارا و يزيد قوة إلى قوتهم، و نهاهم أن يتولوا مجرمين ففيه العذاب الشديد. 

  • و قوله: {وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي يجعل قوما غيركم خلفاء في الأرض مكانكم فإن الإنسان خليفة منه في الأرض كما قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً} البقرة: - ٣٠، و قد كان (عليه السلام) بيّن لهم أنهم خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح كما قال تعالى حكاية عن قوله لقومه {وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ 

تفسير الميزان ج۱۰

304
  • نُوحٍ وَ زَادَكُمْ فِي اَلْخَلْقِ بَصْطَةً} (الآية) ، الأعراف: - ٦٩. 

  • و ظاهر السياق أن الجملة الخبرية معطوفة على أخرى مقدرة، و التقدير: و سيذهب بكم ربي و يستخلف قوما غيركم على حد قوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} الأنعام: - ١٣٣. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} ظاهر السياق أنه تتمة لما قبله أي لا تقدرون على إضراره بشي‌ء من الفوت و غيره إن أراد أن يهلككم و لا أن تعذيبكم و إهلاككم يفوّت منه شيئا مما يريده فإن ربي على كل شي‌ء حفيظ لا يعزب عن علمه عازب و لا يفوت من قدرته فائت، و للمفسرين في الآية وجوه أخر بعيدة عن الصواب أعرضنا عنها. 

  • قوله تعالى{وَ لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} المراد بمجي‌ء الأمر نزول العذاب و بوجه أدق صدور الأمر الإلهي الذي يستتبع القضاء الفاصل بين الرسول و بين قومه كما قال تعالى: {وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ} المؤمن: - ٧٨. 

  • و قوله: {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} الظاهر أن المراد بها الرحمة الخاصة بالمؤمنين المستوجبة نصرهم في دينهم و إنجاءهم من شمول الغضب الإلهي و عذاب الاستئصال، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ} المؤمن: - ٥١. 

  • و قوله: {وَ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} ظاهر السياق أنه العذاب الذي شمل الكفار من القوم فيكون من قبيل عطف التفسير بالنسبة إلى ما قبله، و قيل: المراد به عذاب الآخرة و ليس بشي‌ء. 

  • قوله تعالى{وَ تِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اِتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} الآية و ما بعدها تلخيص بعد تلخيص لقصة عاد فأول التلخيصين قوله: {وَ تِلْكَ عَادٌ} إلى قوله: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} يذكر فيه أنهم جحدوا بآيات ربهم من الحكمة و الموعظة و الآية المعجزة التي أبانت لهم طريق الرشد و ميزت لهم الحق من الباطل فجحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم. 

تفسير الميزان ج۱۰

305
  • و عصوا رسل ربهم و هم هود و من قبله من الرسل فإن عصيان الواحد منهم عصيان للجميع فكلهم يدعون إلى دين واحد فهم إنما عصوا شخص هود و عصوا بعصيانه سائر رسل الله و هو ظاهر قوله في موضع آخر {كَذَّبَتْ عَادٌ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لاَ تَتَّقُونَ} الشعراء: - ١٢٤. و يشعر به أيضا قوله: {وَ اُذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَ قَدْ خَلَتِ اَلنُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ} الأحقاف: - ٢١، و من الممكن أن يكون لهم رسل آخرون بعثوا إليهم فيما بين هود و نوح (عليه السلام) لم يذكروا في الكتاب العزيز لكن سياق الآيات لا يساعد على ذلك. 

  • و اتبعوا أمر كل جبار عنيد من جبابرتهم فألهاهم ذلك عن اتباع هود و ما كان يدعو إليه، و الجبار العظيم الذي يقهر الناس بإرادته و يكرههم على ما أراد و العنيد الكثير العناد الذي لا يقبل الحق، فهذا ملخص حالهم و هو الجحد بالآيات و عصيان الرسل و طاعة الجبابرة. 

  • ثم ذكر الله وبال أمرهم بقوله: {وَ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} أي و أتبعهم الله في هذه الدنيا لعنة و إبعادا من الرحمة، و مصداق هذا اللعن العذاب الذي عقبهم فلحق بهم، أو الآثام و السيئات التي تكتب عليهم ما دامت الدنيا فإنهم سنوا سنة الإشراك و الكفر لمن بعدهم، قال تعالى: {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ} يس: - ١٢. 

  • و قيل: المعنى لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا فكان كل من علم بحالهم من بعدهم، و من أدرك آثارهم، و كل من بلغهم الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم. 

  • و أما اللعنة يوم القيامة فمصداقه العذاب الخالد الذي يلحق بهم يومئذ فإن يوم القيامة يوم جزاء لا غير. 

  • و في تعقيب قوله في الآية: {وَ اتَّبَعُوا } بقوله: {وَ أُتْبِعُوا} لطف ظاهر. 

  • قوله تعالى{أَلاَ إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} أي كفروا بربهم فهو منصوب بنزع الخافض و هذا هو التلخيص الثاني الذي أشرنا إليه؛ لخّص به 

تفسير الميزان ج۱۰

306
  • التلخيص الأول فقوله: {أَلاَ إِنَّ عَاداً} إلخ، يحاذي به وصف حالهم المذكور في قوله: {وَ تِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا} إلخ، و قوله: {أَلاَ بُعْداً لِعَادٍ} إلخ، يحاذي به قوله: {وَ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً} إلخ. 

  • و يتأيد من هذه الجملة أن المراد باللعنة السابقة اللعنة الإلهية دون لعن الناس، و الأنسب به أحد الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة السابقة و خاصة الوجه الثاني دون الوجه الثالث. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي عن أبي عمرو السعدي قال: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : في قوله: {إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يعني أنه على حق يجزي بالإحسان إحسانا، و بالسيئ سيئا، و يعفو عمن يشاء و يغفر، سبحانه و تعالى.

  • أقول: و قد تقدم توضيحه، و قد ورد في الرواية عنهم (عليه السلام) : أن عادا كانت بلادهم في البادية، و كان لهم زرع و نخيل كثيرة، و لهم أعمار طويلة و أجساد طويلة فعبدوا الأصنام، و بعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام و خلع الأنداد فأبوا و لم يؤمنوا بهود و آذوه فكفت عنهم السماء سبع سنين حتى قحطوا. الحديث. 

  • و روي إمساك السماء عنهم من طريق أهل السنة عن الضحاك أيضا قال: أمسك عن عاد القطر ثلاث سنين فقال لهم هود: {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} فأبوا إلا تماديا، و قد تقدم أن الآيات لا تخلو من إشارة إليه. 

  • و اعلم أن الروايات في قصة هود و عاد كثيرة إلا أنها تشتمل على أمور لا سبيل إلى تصحيحها من طريق الكتاب و لا إلى تأييدها بالاعتبار و لذلك طوينا ذكرها. 

  • و ورد أيضا أخبار أخر من طرق الشيعة و أهل السنة في وصف جنة عاد التي تنسب إلى شداد الملك و هي المذكورة في قوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ اَلْعِمَادِ اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي اَلْبِلاَدِ} الفجر: - ٨، و سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفجر. 

تفسير الميزان ج۱۰

307
  • (كلام في قصة هود) 

  • ١ - عاد قوم هود

  • هؤلاء قوم من العرب من بشر ما قبل التاريخ كانوا يسكنون الجزيرة انقطعت أخبارهم و انمحت آثارهم لا يحفظ التاريخ من حياتهم إلا أقاصيص لا يطمئن إليها و ليس في التوراة الموجودة منهم ذكر. 

  • و الذي يذكره القرآن الكريم من قصتهم هو أن عادا، و ربما يسميهم عادا الأولى (النجم: ٥٠) و فيه إشارة إلى أن هناك عادا ثانية، كانوا قوما يسكنون الأحقاف‌۱ من شبه جزيرة العرب الأحقاف: ٢١) بعد قوم نوح (الأعراف: ٦٩) . 

  • كانت لهم أجساد طويلة (القمر: ٢٠، الحاقة: ٧) و كانوا ذوي بسطة في الخلق (الأعراف: ٦٩) أولي قوة و بطش شديد (حم السجدة: ١٥، الشعراء: ١٣٠) و كان لهم تقدم و رقي في المدنية و الحضارة، لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنات و نخيل و زروع و مقام كريم (الشعراء و غيرها) ، و ناهيك في رقيهم و عظيم مدنيتهم قوله تعالى في وصفهم {أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ اَلْعِمَادِ اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي اَلْبِلاَدِ} الفجر: - ٨. 

  • لم يزل القوم يتنعمون بنعمة الله حتى غيروا ما بأنفسهم فتعرّقت فيهم الوثنية، و بنوا بكل ريع آية يعبثون، و اتخذوا مصانع لعلهم يخلدون، و أطاعوا طغاتهم المستكبرين؛ فبعث الله إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحق و يرشدهم إلى أن يعبدوا الله و يرفضوا الأوثان، و يعملوا بالعدل و الرحمة (الشعراء: ١٣٠) فبالغ في وعظهم و بث النصيحة فيهم، و أنار الطريق و أوضح السبيل، و قطع عليهم العذر فقابلوه بالإباء و الامتناع، و واجهوه بالجحد و الإنكار و لم يؤمن به إلا شرذمة منهم قليلون و أصر جمهورهم على البغي و العناد، و رموه بالسفه و الجنون، و ألحوا عليه بأن ينزل 

    1. الأحقاف جمع حقف و الرمل المعوج، و الأحقاف المذكور في الكتاب العزيز واد بين عمان و أرض مهرة و قيل من عمان إلى حضرموت و هي و مال مشرفة على البحر بالشحر و قال الضحاك: الأحقاف جبل بالشام (المراصد).

تفسير الميزان ج۱۰

308
  • عليهم العذاب الذي كان ينذرهم و يتوعدهم به، قال {إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} : الأحقاف: - ٢٣. 

  • فأنزل الله عليهم العذاب و أرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شي‌ء أتت عليه إلا جعلته كالرميم (الذاريات: ٤٢) ريحا صرصرا في أيام نحسات سبع ليال و ثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية (الحاقة: ٧) و كانت تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (القمر: ٢٠) . 

  • و كانوا بادئ ما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا و قالوا: عارض ممطرنا و قد أخطئوا بل كان هو الذي استعجلوا به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شي‌ء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم (الأحقاف: ٢٥) فأهلكهم الله عن آخرهم و أنجى هودا و الذين آمنوا معه برحمة منه (هود: ٥٨) .

  • ٢ - شخصية هود المعنوية

  • و أما هود (عليه السلام) فهو من قوم عاد و ثاني الأنبياء الذين انتهضوا للدفاع عن الحق و دحض الوثنية ممن ذكر الله قصته و ما قاساه من المحنة و الأذى في جنب الله سبحانه، و أثنى عليه بما أثنى على رسله الكرام و أشركه بهم في جميل الذكر عليه سلام الله.

  • [سورة هود (١١) : الآیات ٦١ الی ٦٨ ]

  • {وَ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ٦١ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَ إِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ٦٢ قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا 

تفسير الميزان ج۱۰

309
  •  تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ٦٣ وَ يَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اَللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللَّهِ وَ لاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ٦٤ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ٦٥ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ ٦٦ وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٦٧ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِثَمُودَ ٦٨} 

  • (بيان) 

  • تذكر الآيات الكريمة قصة صالح النبي (عليه السلام) و قومه و هم ثمود، و هو (عليه السلام) ثالث الأنبياء القائمين بدعوة التوحيد الناهضين على الوثنية؛ دعا ثمود إلى التوحيد و تحمل الأذى و المحنة في جنب الله حتى قضي بينه و بين قومه بهلاكهم و نجاته و نجاة من معه من المؤمنين. 

  • قوله تعالى{وَ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} تقدم الكلام في نظيرة الآية في قصة هود. 

  • قوله تعالى{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} إلى آخر الآية. قال الراغب الإنشاء إيجاد الشي‌ء و تربيته و أكثر ما يقال ذلك في الحيوان قال: {هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ} . انتهى، و قال: العمارة ضد الخراب يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة قال: {وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} يقال: عمرته فعمر فهو معمور قال: {وَ عَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} {وَ اَلْبَيْتِ اَلْمَعْمُورِ} و أعمرته الأرض و استعمرته إذا فوضت إليه العمارة قال: {وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 

تفسير الميزان ج۱۰

310
  • انتهى، فالعمارة تحويل الأرض إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقبة منها كعمارة الدار للسكنى و المسجد للعبادة و الزرع للحرث و الحديقة لاجتناء فاكهتها و التنزه فيها و الاستعمار هو طلب العمارة بأن يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها. 

  • و على ما مر يكون معنى قوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} و الكلام يفيد الحصر أنه تعالى هو الذي أوجد على المواد الأرضية هذه الحقيقة المسماة بالإنسان ثم كملها بالتربية شيئا فشيئا و أفطره على أن يتصرف في الأرض بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته، و يرفع بها ما يتنبه له من الحاجة و النقيصة أي إنكم لا تفتقرون في وجودكم و بقائكم إلا إليه تعالى و تقدس. 

  • فقول صالح: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} في مقام التعليل و حجة يستدل بها على ما ألقاه إليهم من الدعوة بقوله: {يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} و لذلك جي‌ء بالفصل كأنه قيل له: لم نعبده وحده؟ فقال: لأنه هو الذي أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها. 

  • و ذلك لأنهم إنما كانوا يعبدون الأوثان و يتخذونها شركاء لله تعالى لأنهم كانوا يقولون على مزعمتهم إن الله سبحانه أعظم من أن يحيط به فهم و أرفع و أبعد من أن تناله عبادة أو ترتفع إليه مسألة، و لا بد للإنسان من ذلك فمن الواجب أن نعبد بعض مخلوقاته الشريفة التي فوض إليه أمر هذا العالم الأرضي و تدبير النظام الجاري فيه و نتقرب بالتضرع إليه حتى يرضى عنا فينزل علينا الخيرات، و لا يسخط علينا و نأمن بذلك الشرور، و هذا الإله الرب بالحقيقة شفيعنا عند الله لأنه إله الآلهة و رب الأرباب، و إليه يرجع الأمر كله. 

  • فدين الوثنية مبني على انقطاع النسبة بين الله سبحانه و بين الإنسان و استقرارها بينه و بين تلك الوسائط الشريفة التي يتوجهون إليها مع استقلال هذه الوسائط في التأثير، و شفاعتها عند الله. 

  • و لما كان الله تعالى هو الذي أنشأ الإنسان من الأرض و استعمره فيها فهو تعالى ذو نسبة إلى الإنسان قريب منه، و لا استقلال لشي‌ء من هذه الأسباب التي 

تفسير الميزان ج۱۰

311
  • نظمها و أجراها في هذا العالم حتى يرجى منها خير بالإرضاء أو يترقب شر بالإسخاط. 

  • فالله سبحانه هو الذي يجب أن يعبد فيرجى بذلك رضاه، و يتقى بذلك سخطه لمكان أنه هو الخالق للإنسان و لكل شي‌ء المدبر أمره و أمر كل شي‌ء فقوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} مسوق لتعليل سابقه و الاحتجاج عليه من طريق إثبات النسبة بينه تعالى و بين الإنسان و نفي الاستقلال من الأسباب. 

  • و لذلك عقبه بقوله: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} على وجه التفريع أي فإذا كان الله تعالى هو الذي يجب عليكم أن تعبدوه و تتركوا غيره لكونه هو خالقكم المدبر لأمر حياتكم فاسألوه أن يغفر لكم معصيتكم بعبادة غيره، و ارجعوا إليه بالإيمان به و عبادته. إنه قريب مجيب. 

  • و قد علل قوله: {فَاسْتَغْفِرُوهُ} إلخ، بقوله: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} لأنه استنتج من حجته المذكورة أنه تعالى يقوم بإيجاد الإنسان و تربيته و تدبير أمر حياته، و أنه لا استقلال لشي‌ء من الأسباب العمالة في الكون بل الله تعالى هو الذي يسوق هذا إلى هنا، و يصرف ذاك عن هناك فهو تعالى الحائل بين الإنسان و بين حوائجه و جميع الأسباب العمالة فيها، القريب منه لا كما يزعمون أنه لا يدركه فهم و لا يناله عبادة و قربان، و إذا كان قريبا فهو مجيب، و إذا كان قريبا مجيبا و هو الله لا إله غيره فمن الواجب أن يستغفروه ثم يتوبوا إليه. 

  • قوله تعالى{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} إلخ، الرجاء إنما يتعلق بالإنسان لا من جهة ذاته بل من جهة أفعاله و آثاره، و لا يرجى منها إلا الخير و النفع فكونه مرجوا هو أن يوجد ذا رشد و كمال في شخصه و بيته فيستهل منه الخير و يترقب منه النفع، و قوله: {قَدْ كُنْتَ فِينَا} دليل على كونه مرجوا لعامتهم و جمهورهم. 

  • فقولهم: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} معناه أن ثمود كانت ترجو منك أن تكون من أفرادها الصالحة تنفع بخدماتك مجتمعَهم و تحمل الأمة على صراط الترقي و التعالي لما كانت تشاهد فيك من أمارات الرشد و الكمال، لكنهم يئسوا منك و من رزانة رأيك اليوم بما أبدعت من القول و أقمت من الدعوة. 

تفسير الميزان ج۱۰

312
  • و قولهم: {أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} استفهام إنكاري بداعي المذمة و الملامة، و الاستفهام في مقام التعليل لما قبله محصله: أن سبب يأسهم منك اليوم أنك تنهاهم من إقامة سنة من سنن مليتهم و تمحو أظهر مظاهر قوميتهم فإن اتخاذ الأوثان من سنن هذا المجتمع المقدسة، و استمرار إقامة السنن المقدسة من المجتمع دليل على أنهم ذوو أصل عريق ثابت، و وحدة قومية لها استقامة في الرأي و الإرادة. 

  • و الدليل على ما ذكرنا قوله: {أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} الدال على معنى العبادة المستمرة باتصال عبادة الأبناء بعبادة الآباء و لم يقل: أ تنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا؟ و الفرق بين التعبيرين من جهة المعنى واضح. 

  • و من هنا يظهر أن تفسير بعض المفسرين كصاحب المنار و غيره قوله: {أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} بقولهم: «أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا» من الخطإ. 

  • و قوله: {وَ إِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} حجة ثانية لهم في رد دعوة صالح (عليه السلام) ، و حجتهم الأولى ما يتضمنه صدر الآية و محصلها أن ما تدعو إليه من رفض عبادة الأصنام بدعة منكرة تذهب بسنة ثمود المقدسة و تهدم بنيان مليتهم، و تميت ذكرهم فعلينا أن نرده، و الثانية أنك لم تأت بحجة بيّنة على ما تدعو إليه تورث اليقين و تميط الشك عنا فنحن في شك مريب مما تدعونا إليه و ليس لنا أن نقبل ما تندب إليه على شك منا فيه. 

  • و الإرابة الاتهام و إساءة الظن يقال: رابني منه كذا إذا أوجب فيه الشك و أرابني كذا إرابة إذا حملك على اتهامه و سوء الظن به. 

  • قوله تعالى{قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} إلى آخر الآية. المراد بالبينة الآية المعجزة و بالرحمة النبوة، و قد تقدم الكلام في نظير الآية من قصة نوح (عليه السلام) في السورة. 

  • و قوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} جواب الشرط، و حاصل المعنى: أخبروني إن كنت مؤيدا بآية معجزة تنبئ عن صحة دعوتي و أعطاني الله الرسالة فأمرني بتبليغ رسالته فمن ينجني من الله و يدفع عني إن أطعتكم فيما تسألون و وافقتكم فيما تريدونه مني و هو ترك الدعوة. 

تفسير الميزان ج۱۰

313
  • ففي الكلام جواب عن كلتا حجتيهم و اعتذار عما لاموه عليه من الدعوة المبتدعة. 

  • و قوله: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} تفريع على قوله السابق الذي ذكره في مقام دحض الحجتين و الاعتذار عن مخالفتهم و القيام بدعوتهم إلى خلاف سنتهم القومية فالمعنى فما تزيدونني في حرصكم على ترك الدعوة و الرجوع إليكم و اللحوق بكم غير أن تخسروني فما مخالفة الحق إلا خسارة. 

  • و قيل: المراد أنكم ما تزيدونني في قولكم: {أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} ؟ غير نسبتي إياكم إلى الخسارة. و قيل: المعنى ما تزيدونني إلا بصيرة في خسارتكم و الوجه الأول أوجه. 

  • قوله تعالى{وَ يَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اَللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللَّهِ وَ لاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} إضافة الناقة إلى الله إضافة تشريف كبيت الله و كتابة الله. و كانت الناقة آية معجزة له (عليه السلام) تؤيد نبوته، و قد أخرجها عن مسألتهم من صخر الجبل بإذن الله، و قال لهم: أنها تأكل في أرض الله محررة، و حذرهم أن يمسوها بسوء أي يصيبوها بضرب أو جرح أو قتل. و أخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك أخذهم عذاب قريب معجل، و هذا معنى الآية. 

  • قوله تعالى{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} عقر الناقة نحرها، و الدار هي المكان الذي يبنيه الإنسان فيسكن فيه و يأوي إليه هو و أهله، و المراد بها في الآية المدينة سميت دارا لأنها تجمع أهلها كما تجمع الدار أهلها، و قيل المراد بالدار الدنيا، و هو بعيد. 

  • و المراد بتمتعهم في مدينتهم العيش و التنعم بالحياة لأن الحياة الدنيا متاع يتمتع به، أو الالتذاذ بأنواع النعم التي هيئوها فيها من مناظر ذات بهجة و الأثاث و المأكول و المشروب و الاسترسال في أهواء أنفسهم. 

  • و قوله: {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} الإشارة إلى قوله: {تَمَتَّعُوا} إلخ، و {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} بيان له. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً} إلى آخر الآية. أما قوله: {فَلَمَّا 

تفسير الميزان ج۱۰

314
  • جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} فقد تقدم الكلام في مثله في قصة هود. 

  • و أما قوله: {وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} فمعطوف على محذوف و التقدير نجيناهم من العذاب و من خزي يومئذ، و الخزي‌ العيب الذي تظهر فضيحته و يستحيي من إظهاره أو أن التقدير: نجيناهم من القوم و من خزي يومئذ على حد قوله: {وَ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} 

  • و قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ} في موضع التعليل لمضمون صدر الآية و فيه التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة، و قد تقدم نظيره في آخر قصة هود في قوله: {أَلاَ إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ} و الوجه فيه ذكر صفة الربوبية ليدل به على خروجهم من زي العبودية و كفرهم بالربوبية و كفرانهم نعم ربهم. 

  • قوله تعالى{وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} يقال: جثم جثوما إذا وقع على وجهه، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} غني بالمكان أي أقام فيه و الضمير راجع إلى الديار. 

  • قوله تعالى{أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِثَمُودَ} الجملتان تلخيص ما تقدم تفصيله من القصة فالجملة الأولى تلخيص ما انتهى إليه أمر ثمود و دعوة صالح (عليه السلام) ، و الثانية تلخيص ما جازاهم الله به، و قد تقدم نظيرة الآية في آخر قصة هود. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَ بَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ وَ سُعُرٍ} قال: هذا فيما كذبوا صالحا، و ما أهلك الله عز و جل قوما قط حتى يبعث قبل ذلك الرسل فيحتجوا عليهم . 

  • فبعث الله إليهم صالحا فلم يجيبوه و عتوا عليه، و قالوا لن نؤمن لك حتى 

تفسير الميزان ج۱۰

315
  • تخرج إلينا من هذه الصخرة ناقة عشراء و كانت الصخرة يعظمونها و يعبدونها و يذبحون عندها في رأس كل سنة و يجتمعون عندها، فقالوا: إن كنت كما تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء فأخرجها الله كما طلبوا منه . 

  • ثم أوحى الله تبارك و تعالى إليه أن يا صالح قل لهم: إن الله قد جعل لهذه الناقة لها شرب يوم و لكم شرب يوم فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك اليوم فيحبسونها فلا يبقى صغير و كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك فإذا كان الليل و أصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم و لم تشرب الناقة ذلك اليوم فمكثوا بذلك ما شاء الله . 

  • ثم إنهم عتوا على الله و مشى بعضهم إلى بعض قال: اعقروا هذه الناقة و استريحوا منها لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم و لها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي يلي قتلها و نجعل له جعلا ما أحب؟ فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا لا يعرف له أب يقال له: قدار شقي من الأشقياء مشئوم عليهم فجعلوا له جعلا . 

  • فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت و أقبلت راجعة فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف ضربة فلم يعمل شيئا فضربها ضربة أخرى فقتلها و خرت على الأرض على جنبها، و هرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرات إلى السماء، و أقبل قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلا شركه في ضربته، و اقتسموا لحمها فيما بينهم فلم يبق منهم صغير و لا كبير إلا أكل منها . 

  • فلما رأى ذلك صالح أقبل إليهم و قال: يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم؟ أ عصيتم أمر ربكم؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إلى صالح (عليه السلام) : إن قومك قد طغوا و بغوا و قتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجة عليهم و لم يكن لهم فيها ضرر و كان لهم أعظم المنفعة فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام فإن هم تابوا و رجعوا قبلت توبتهم و صددت عنهم، و إن هم لم يتوبوا و لم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم الثالث . 

  • فأتاهم صالح و قال: يا قوم إني رسول ربكم إليكم و هو يقول لكم: إن تبتم و رجعتم و استغفرتم غفرت لكم و تبت عليكم، فلما قال لهم ذلك [قالوا ظ] كانوا 

تفسير الميزان ج۱۰

316
  • أعتى ما قالوا و أخبث و قالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . 

  • قال: يا قوم إنكم تصبحون غدا و وجوهكم مصفرة، و اليوم الثاني وجوهكم محمرة و اليوم الثالث وجوهكم مسودة فلما أن كان أول يوم أصبحوا وجوههم مصفرة فمشى بعضهم إلى بعض و قالوا: قد جاءكم ما قال صالح فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح و لا نقبل قوله و إن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح و لا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها و لم يتوبوا و لم يرجعوا فلما كان اليوم الثالث أصبحوا و وجوههم مسودة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال لنا صالح . 

  • فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ لهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم و فلقت قلوبهم و صدعت أكبادهم و قد كانوا في تلك الثلاثة الأيام قد تحنطوا و تكفنوا و علموا أن العذاب نازل بهم فماتوا جميعا في طرفة عين: صغيرهم و كبيرهم فلم يبق لهم ناعقة و لا راعية و لا شي‌ء إلا أهلكه الله فأصبحوا في ديارهم و مضاجعهم موتى فأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين، و كانت هذه قصتهم

  • أقول: و اشتمال الحديث على أمور خارقة للعادة كشرب الناس جميعا من لبن الناقة و كذا تغير ألوان وجوههم يوما فيوما لا ضير فيه بعد ما كان أصل وجودها عن إعجاز، و قد نص القرآن الكريم بذلك، و بأنها كانت لها شرب يوم و لأهل المدينة كلهم شرب يوم معلوم. 

  • و أما كون الصيحة من جبرئيل فلا ينافي كونها صاعقة سماوية نازلة عليهم أماتتهم بصوتها و أحرقتهم بنارها إذ لا مانع من نسبة حادث من الحوادث الكونية خارق للعادة أو جارٍ عليها إلى ملك روحاني إذا كان هو في مجرى صدوره كما أن سائر الحوادث الكونية من الموت و الحياة و الرزق و غيرها منسوبة إلى الملائكة العمالة. 

  • و قوله (عليه السلام) : إنهم قد كانوا في الثلاثة الأيام قد تحنطوا و تكفنوا كأنه كناية عن تهيئهم للموت. 

تفسير الميزان ج۱۰

317
  • و قد وقع في بعض الروايات في وصف الناقة أنه كانت بين جنبيها مسافة ميل و هو مما يوهن الرواية لا لاستحالة وقوعه فإن ذلك ممكن الدفع من جهة أن كينونتها كانت عن إعجاز، بل لأن اعتبار النسبة بين أعضائها حينئذ يوجب بلوغ ارتفاع سنامها مما يقرب من ثلاثة أميال و لا يتصور مع ذلك أن يتمكن واحد من الناس من قتله بسيفه و لم يقع ذلك عن إعجاز من عاقر الناقة قطعا، و مع ذلك لا يخلو قوله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} من دلالة أو إشعار على كون جثتها عظيمة جدا. 

  • كلام في قصة صالح في فصول 

  • ١ - ثمود قوم صالح (عليه السلام) 

  • ثمود قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون وادي القرى بين المدينة و الشام، و هم من بشر ما قبل التاريخ لا يضبط التاريخ إلا شيئا يسيرا من أخبارهم، و لقد عفت الدهور آثارهم فلا اعتماد على ما يذكر من جزئيات قصصهم. 

  • و الذي يقصه كتاب الله من أخبارهم أنهم كانوا أمة من العرب على ما يدل عليه اسم نبيهم و قد كان منهم (هود: ٦١)، نشئوا بعد قوم عاد و لهم حضارة و مدنية يعمرون الأرض و يتخذون من سهولها قصورا و ينحتون من الجبال بيوتا آمنين (الأعراف: ٧٤)، و من شغلهم الفلاحة بإجراء العيون و إنشاء الجنات و النخيل و الحرث (الشعراء: ١٤٨) . 

  • كانت ثمود تعيش على سنة الشعوب و القبائل يحكم فيهم سادتهم و شيوخهم و قد كانت في المدينة التي بعث فيها صالح تسعة رهط يفسدون في الأرض و لا يصلحون (النمل: ٤٨) فطغوا في الأرض و عبدوا الأصنام و أفرطوا عتوا و ظلما.

  • ٢ - بعثة صالح (عليه السلام) 

  • لما نسيت ثمود ربها و أسرفوا في أمرهم أرسل الله إليهم صالحاً النبي (عليه السلام) و كان من بيت الشرف و الفخار معروفا بالعقل و الكفاية (هود ٦٢ - النمل ٤٩) فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه و أن يتركوا عبادة الأصنام و أن يسيروا في مجتمعهم بالعدل و الإحسان، و لا يعلوا في الأرض و لا يسرفوا و لا يطغوا و أنذرهم بالعذاب (هود - الشعراء - الشمس و غيرها) . 

تفسير الميزان ج۱۰

318
  • فقام (عليه السلام) بالدعوة إلى دين الله بالحكمة و الموعظة الحسنة و صبر على الأذى في جنب الله فلم يؤمن به إلا جماعة قليلة من ضعفائهم (الأعراف: ٧٥)، و أما الطغاة المستكبرون و عامة من تبعهم فأصروا على كفرهم و استذلوا الذين آمنوا به و رموه بالسفاهة و السحر (الأعراف ٦٦ - الشعراء ١٥٣ - النمل ٤٧) . 

  • و طلبوا منه البينة على مقاله، و سألوه آية معجزة تدل على صدقه في دعوى الرسالة، و اقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة فأتاهم بناقة على ما وصفوها به، و قال لهم: إن الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوما و تكفوا عنها يوما فتشربها الناقة فلها شرب يوم و لكم شرب يوم معلوم، و أن تذروها تأكل في أرض الله كيف شاءت و لا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (الأعراف ٧٢ - هود ٦٤ - الشعراء ١٥٦) . 

  • و كان الأمر على ذلك حينا ثم إنهم طغوا و مكروا و بعثوا أشقاهم لقتل الناقة فعقرها، و قالوا لصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال صالح (عليه السلام) : {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (هود - ٦٥) . 

  • ثم مكرت شعوب المدينة و أرهاطها بصالح و تقاسموا بينهم لنبيتنّه و أهله ثم نقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله و إنا لصادقون، و مكروا مكرا و مكر الله مكرا و هم لا يشعرون (النمل ٥٠) {فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ} : الذاريات - ٤٤ و الرجفة و الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم و قال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم و لكن لا تحبون الناصحين (الأعراف ٧٩ - هود ٦٧) و أنجى الله الذين آمنوا و كانوا يتقون (حم السجدة ١٨) و نادى بعدهم المنادي الإلهي: ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود. 

  • ٣ - شخصية صالح (عليه السلام) 

  • لم يرد لهذا النبي الصالح في التوراة الحاضرة ذكر. كان (عليه السلام) من قوم ثمود ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن بالقيام بأمر الله و النهضة للتوحيد على الوثنية يذكره الله تعالى بعد نوح و هود، و يحمده و يثني عليه بما أثنى به على أنبيائه و رسله، و قد اختاره و فضله كسائرهم على العالمين (عليه السلام) . 

تفسير الميزان ج۱۰

319
  • [سورة هود (١١) : الآیات ٦٩ الی ٧٦] 

  • {وَ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ٦٩ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ ٧٠وَ اِمْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ٧١ قَالَتْ يَا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْ‌ءٌ عَجِيبٌ ٧٢ قَالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ رَحْمَتُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ٧٣ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ اَلرَّوْعُ وَ جَاءَتْهُ اَلْبُشْرى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ٧٤ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ٧٥ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ٧٦} 

  • (بيان) 

  • تتضمن الآيات قصة بشرى إبراهيم (عليه السلام) بالولد، و أنها كالتوطئة لما سيذكر بعده من قصة ذهاب الملائكة إلى لوط النبي (عليه السلام) لإهلاك قومه فإن تلك القصة ذيل هذه القصة و في آخر قصة البشرى ما يتبين به وجه قصة الإهلاك و هو قوله: {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} (الآية) . 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى } إلى آخر الآية البشرى هي البشارة، و العجل‌ ولد البقرة، و الحنيذ فعيل بمعنى المفعول أي المحنوذ و هو 

تفسير الميزان ج۱۰

320
  • اللحم المشوي على حجارة محماة بالنار كما أن القديد هو المشوي على حجارة محماة بالشمس على ما ذكره بعض اللغويين، و ذكر بعضهم أنه المشوي الذي يقطر ماء و سمنا، و قيل: هو مطلق المشوي، و قوله تعالى في سورة الذاريات في القصة: {فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} لا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني. 

  • و قوله: {وَ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى } معطوف على قوله سابقا: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} قال في المجمع: و إنما دخلت اللام لتأكيد الخبر و معنى قد هاهنا أن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، و قد للتوقع فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع. انتهى. 

  • و الرسل هم الملائكة المرسلون إلى إبراهيم للبشارة و إلى لوط لإهلاك قومه و قد اختلفت كلمات المفسرين في عددهم مع القطع بكونهم فوق الاثنين لدلالة لفظ الجمع (الرسل) على ذلك، و في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أنهم كانوا أربعة من الملائكة الكرام، و سيأتي نقلها إن شاء الله في البحث الروائي. 

  • و البشرى التي جاءت بها الرسل إبراهيم (عليه السلام) لم يذكر بلفظها في القصة، و التي ذكرت فيها منها هي البشارة لامرأته، و إنما ذكرت بشارة إبراهيم نفسه في غير هذا المورد كسورتي الحجر و الذاريات، و لم يصرح فيهما باسم من بشر به إبراهيم أ هو إسحاق أم إسماعيل (عليهم السلام) أو أنهم بشروه بكليهما؟ و ظاهر سياق القصة في هذه السورة أنها البشارة بإسحاق، و سيأتي البحث المستوفى عن ذلك في آخر القصة. 

  • و قوله: {قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} أي تسالموا هم و إبراهيم فقالوا: سلاما أي سلمنا عليك سلاما، و قال إبراهيم: سلام أي عليكم سلام. 

  • و السلام الواقع في تحية إبراهيم (عليه السلام) نكرة و وقوعه نكرة في مقام التحية دليل على أن المراد به الجنس أو أن له وصفا محذوفا للتفخيم و مزيد التكريم، و التقدير: عليكم سلام زاك طيب أو ما في معناه، و لذا ذكر بعض المفسرين: أن رفع السلام أبلغ من نصبه فقد حياهم بأحسن تحيتهم فبالغ في إكرامهم ظنا منه أنهم ضيف. 

تفسير الميزان ج۱۰

321
  • و قوله: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أي ما أبطأ في أن قدم إليهم عجلا مشويا يقطر ماء و سمنا و أسرع في ذلك. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} عدم وصول أيديهم إليه كناية عن أنهم ما كانوا يمدون أيديهم إلى الطعام، و ذلك أمارة العداوة و إضمار الشر، و نكرهم و أنكرهم بمعنى واحد و إنما كان أنكرهم لإنكاره ما شاهد منهم من فعل غير معهود. 

  • و الإيجاس‌ الخطور القلبي، قال الراغب: الوجس‌ الصوت الخفي، و التوجس‌ التسمع، و الإيجاس وجود ذلك النفس قال: و أوجس منهم خيفة، و الواجس قالوا: هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأن الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر. انتهى. فالجملة من الكناية كأن لطروق الخيفة و هو النوع من الخوف و خطوره في النفس صوتا تسمع بالسمع القلبي، و المراد أنه استشعر في نفسه خوفا و لذلك أمنوه و طيبوا نفسه بقولهم: {لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} 

  • و معنى الآية أن إبراهيم (عليه السلام) لما قدم إليهم العجل المشوي رآهم لا يأكلون منه كالممتنع من الأكل و ذلك أمارة الشر، استشعر في نفسه منهم خوفا قالوا تأمينا له و تطييبا لنفسه: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط فعلم أنهم من الملائكة الكرام المنزهين من الأكل و الشرب و ما يناظر ذلك من لوازم البدن المادية، و أنهم مرسلون لخطب جليل. 

  • و نسبة استشعار الخوف إلى إبراهيم (عليه السلام) لا ينافي ما كان عليه من مقام النبوة الملازم للعصمة الإلهية من المعصية و الرذائل الخلقية فإن مطلق الخوف و هو تأثر النفس عن مشاهدة المكروه التي تبعثها إلى التحذر منه و المبادرة إلى دفعه ليس من الرذائل، و إنما الرذيلة هي التأثر الذي يستوجب بطلان مقاومة النفس و ظهور العي و الفزع و الذهول عن التدبير لدفع المكروه و هو المسمى بالجبن كما أن عدم التأثر عن مشاهدة المكروه مطلقا و هو المسمى تهورا ليس من الفضيلة في شي‌ء. 

  • و ذلك أن الله سبحانه لم يخلق هذه الحالات النفسانية التي تظهر في النفوس، 

تفسير الميزان ج۱۰

322
  • و منها التأثر و الانفعال عند مشاهدة المكروه و الشر كالشوق و الميل و الحب و غير ذلك عند مشاهدة المحبوب و الخير، عبثاً باطلا فإن جلب الخير و النفع و دفع الشر و الضرر مما فطر على ذلك أنواع الموجودات على كثرتها و عليه يدور رحى الوجود في نظامه العام. 

  • و لما كان هذا النوع المسمى بالإنسان إنما يسير في مسير بقائه بالشعور و الإرادة كان عمل الجلب و الدفع فيه مترشحا عن شعوره و إرادته، و لا يتم إلا عن تأثر نفساني يسمى في جانب الحب ميلا و شهوة و في جانب البغض و الكراهة خوفا و وجلا. 

  • ثم لما كانت هذه الأحوال النفسانية الباطنة ربما ساقت الإنسان إلى أحد جانبي الإفراط و التفريط كان من الواجب على الإنسان أن يقوم من الدفع على ما ينبغي و هو فضيلة الشجاعة كما أن من الواجب عليه أن يبادر من الجلب إلى ما ينبغي على ما ينبغي و هو فضيلة العفة و هما حدا الاعتدال بين الإفراط و التفريط، و أما انتفاء التأثر بأن يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة الصريحة في باب الدفع و هو التهور، أو لا تنزع نفسه إلى شي‌ء مطلوب قط في باب الجلب و الشهوة و هو الخمول، و كذا بلوغ التأثر من القوة إلى حيث ينسى الإنسان نفسه و يذهل عن واجب رأيه و تدبيره فيجزع عن كل شبح يتراءى له في باب الدفع و هو الجبن، أو ينكب على كل ما تهواه نفسه و تشتهيه كالبهيمة على عليقها في باب الشهوة و هو الشره؛ فجميع هذه من الرذائل. 

  • و الذي آثر الله سبحانه به أنبياءه من العصمة إنما يثبت في نفوسهم فضيلة الشجاعة دون التهور، و ليست الشجاعة تقابل الخوف الذي هو مطلق التأثر عن مشاهدة المكروه، و هو الذي يدعو النفس إلى القيام بواجب الدفع، و إنما تقابل الجبن الذي هو بلوغ التأثر النفساني إلى حيث يبطل الرأي و التدبير و يستتبع العي و الانهزام. 

  • قال تعالى{اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ} الأحزاب: - ٣٩، و قال مخاطبا لموسى (عليه السلام) {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى } طه: - ٦٨، و قال حكاية عن قول شعيب له (عليه السلام) {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ 

تفسير الميزان ج۱۰

323
  • اَلظَّالِمِينَ} القصص: - ٢٥، و قال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) {وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ على سَوَاءٍ} الأنفال: - ٥٨. 

  • و الخليل (عليه السلام) هو النبي الكريم الذي قام بالدعوة الحقة إذ لا يُذكر اسم الله وحده، و نازع وثنية قومه فحاج أباه آزر و قومه و حاج الملك الجبار نمرود و كان يدعي الألوهية، و كسر أصنام القوم حتى ألقوه في النار فأنجاه الله من النار فلم يجبنه شي‌ء من تلك المهاول، و لا هزمه في جهاده في سبيل الله هازم، و مثل هذا النبي على ما له من الموقف الروحي إن خاف من شي‌ء أو وجل من أحد أو ارتاعه أمر على اختلاف تعبير الآيات فإنما يخافه خوف حزم و لا يخافه خوف جبن، و إذا خاف من شي‌ء على نفسه أو عرضه أو ماله فإنما يخاف لله لا لهوى من نفسه. 

  • قوله تعالى{وَ اِمْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ضحكت‌ من الضحك بفتح الضاد أي حاضت، و يؤيده تفريع البشارة عليه في قوله عقيبه: {فَبَشَّرْنَاهَا} إلخ، و يكون ضحكها أمارة تقرب البشرى إلى القبول، و آية تهيئ نفسها للإذعان بصدقهم فيما يبشرون به، و يكون ذكر قيامها لتمثيل المقام و أنها ما كانت تخطر ببالها أنها ستحيض و هي عجوز، و إنما كانت قائمة تنظر ما يجري عليه الأمر بين بعله و بين الضيفان النازلين به و تحادثهم. 

  • و المعنى أن إبراهيم (عليه السلام) كان يكلمهم و يكلمونه في أمر الطعام و الحال أن امرأته قائمة هناك تنظر إلى ما يجري بين الضيفان و بين إبراهيم و ما كان يخطر ببالها شي‌ء دون ذلك ففاجأها أنها حاضت فبشرته الملائكة بالولد. 

  • و أكثر المفسرين أخذوا الكلمة من الضحك بكسر الضاد ضد البكاء ثم اختلفوا في توجيه سببه، و أقرب الوجوه هو أن يقال: إنها كانت قائمة هناك و قد ذعرت من امتناع الضيوف من الأكل و هو يهتف بالشر فلما لاحت لها أنهم ملائكة مكرمون نزلوا ببيتهم و أن لا شر في ذلك يتوجه إليهم سرت و فرحت فضحكت فبشروه بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب. 

  • و هناك وجوه أخر ذكروها خالية عن الدليل كقولهم إنها ضحكت تعجبا من غفلة قوم لوط، و قولهم: إنها ضحكت تعجبا من امتناع الضيوف من الأكل 

تفسير الميزان ج۱۰

324
  • و الحال أنها تخدمهم بنفسها، و قولهم: إنها كانت أشارت إلى إبراهيم أن يضم إليه لوطا لأن فحشاء قومه سيعقبهم العذاب و الهلاك فلما سمعت من الملائكة قولهم: إنا أرسلنا إلى قوم لوط سرت و ضحكت لإصابتها في الرأي، و قولهم: إنها ضحكت تعجبا مما بشروها به من الولد و هي عجوز عقيم، و على هذا ففي الكلام تقديم و تأخير و التقدير: فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت. 

  • و قوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} إسحاق هو ابنها من إبراهيم، و يعقوب هو ابن إسحاق (عليه السلام) فالمراد أن الملائكة بشروها بأنها ستلد إسحاق و إسحاق سيولد له يعقوب ولد بعد ولد. هذا على قراءة يعقوب بالفتح و هو منزوع الخافض و قرئ برفع يعقوب و هو بيان لتتمة البشارة، و الأولى أرجح. 

  • و كأن في هذا التعبير: {وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} إشارة إلى وجه تسمية يعقوب (عليه السلام) بهذا الاسم، و هو أنه كان يعقب بحسب هذه البشارة أباه إسحاق و قد ذكر فيها أنه وراءه، و يكون فيها تخطئة لما في التوراة من السبب في تسمية يعقوب به. 

  • قال في التوراة الحاضرة: و كان إسحاق ابن أربعين سنة لما اتخذ لنفسه زوجه «رفقة» بنت بنوئيل الأرامي أخت لابان الأرامي من فدان الأرام، و صلى إسحاق إلى الرب لأجل امرأته لأنها كانت عاقرا فاستجاب له الرب فحبلت رفقة امرأته و تزاحم الولدان في بطنها فقالت: إن كان هكذا فلماذا أنا، فمضت لتسأل الرب فقال لها الرب: في بطنك أمتان، و من أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوى على شعب، و كبير يستعبد لصغير. 

  • فلما كملت أيامها لتلد إذا في بطنها توأمان فخرج الأول أحمر كله كفروة شعر فدعي اسمه عيسو، و بعد ذلك خرج أخوه و يده قابضة بعقب عيسو فدعي اسمه يعقوب. انتهى موضع الحاجة و هذا من لطائف القرآن الكريم. 

  • قوله تعالى{قَالَتْ يَا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْ‌ءٌ عَجِيبٌ} الويل‌ القبح و كل مساءة توجب التحسر من هلكة أو مصيبة أو فجيعة أو فضيحة، و نداؤه كناية عن حضوره و حلوله يقال: يا ويلي أي حضرني و حل بي ما 

تفسير الميزان ج۱۰

325
  • فيه تحسري، و يا ويلتا بزيادة التاء عند النداء مثل يا أبتا. 

  • و العجوز الشيخة من النساء، و البعل‌ زوج المرأة و الأصل في معناه القائم بالأمر المستغني عن الغير يقال للنخل الذي يستغني بماء السماء عن سقي الأنهار و العيون بعل، و يقال للصاحب و للرب: بعل. و منه بعلبك لأنه كان فيه هيكل بعض أصنامهم. 

  • و العجيب صفة مشبهة من العجب و هو الحال العارض للإنسان من مشاهدة ما لا يعلم سببه، و لذا يكثر في الأمور الشاذة النادرة للجهل بسببها عادة و قولها: {يَا وَيْلَتى أَ أَلِدُ} إلخ، وارد مورد التعجب و التحسر فإنها لما سمعت بشارة الملائكة تمثل لها الحال بتولد ولد من عجوز عقيم و شيخ هرم بالغين في الكبر لا يعهد من مثلهما الاستيلاد فهو أمر عجيب على ما فيه من العار و الشين عند الناس فيضحكون منهما و يهزءون بهما و ذلك فضيحة. 

  • قوله تعالى{قَالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ رَحْمَتُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} المجد هو الكرم و المجيد الكريم كثير النوال و قد تقدم معنى بقية مفردات الآية. 

  • و قولهم: {أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} استفهام إنكاري أنكرت الملائكة تعجبها عليها لأن التعجب إنما يكون للجهل بالسبب و استغراب الأمر، و الأمر المنسوب إلى الله سبحانه و هو الذي يفعل ما يشاء و هو على كل شي‌ء قدير لا وجه للتعجب منه. 

  • على أنه تعالى خص بيت إبراهيم بعنايات عظيمة و مواهب عالية يتفردون بها من بين الناس فلا ضير إن ضم إلى ما مضى من نعمه النازلة عليهم نعمةً أخرى مختصة بهم من بين الناس، و هو ولد من زوجين شائخين لا يولد من مثلهما ولد عادة. 

  • و لهذا الذي ذكرنا قالت الملائكة لها في إنكار ما رأوا من تعجبها أولا{أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} فأضافوا الأمر إلى الله لينقطع بذلك كل استعجاب و استغراب لأن ساحة الألوهية لا يشق شي‌ء عليها و هو الخالق لكل شي‌ء. 

  • و ثانيا{رَحْمَتُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ} فنبهوها بذلك أن الله أنزل رحمته و بركاته عليهم أهل البيت، و ألزمهم ذلك فليس من البعيد أن يكون من ذلك تولد مولود من والدين في غير سنهما العادي المألوف لذلك. 

تفسير الميزان ج۱۰

326
  • و قوله: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} في مقام التعليل لقوله: {رَحْمَتُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ} أي إنه تعالى مصدر كل فعل محمود و منشأ كل كرم و جود يفيض من رحمته و بركاته على من يشاء من عباده. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ اَلرَّوْعُ وَ جَاءَتْهُ اَلْبُشْرى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} الروع‌ الخوف و الرعب و المجادلة في الأصل الإلحاح في البحث و المساءلة للغلبة في الرأي، و المعنى أنه لما ذهب عن إبراهيم ما اعتراه من الخيفة بتبين أن النازلين به لا يريدون به سوءا و لا يضمرون له شرا. و جاءته البشرى بأن الله سيرزقه و زوجه إسحاق و من وراء إسحاق يعقوب أخذ يجادل الملائكة في قوم لوط يريد بذلك أن يصرف عنهم العذاب. 

  • فقوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} لحكاية الحال الماضية أو بتقدير فعل ماض قبله و تقديره: أخذ يجادلنا إلخ، لأن الأصل في جواب لما أن يكون فعلا ماضيا. 

  • و يظهر من الآية أن الملائكة أخبروه أولا بأنهم مرسلون إلى قوم لوط، ثم ألقوا إليه البشارة، ثم جرى بينهم الكلام في خصوص عذاب قوم لوط، فأخذ إبراهيم (عليه السلام) يجادلهم ليصرف عنهم العذاب فأخبروه بأن القضاء حتم، و العذاب نازل لا مرد له. 

  • و الذي ذكره الله من مجادلته (عليه السلام) الملائكة هو قوله في موضع آخر {وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ} العنكبوت: - ٣٢. 

  • قوله تعالى{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} الحليم‌ هو الذي لا يعاجل العقوبة و الانتقام، و الأواه‌ كثير التأوه مما يصيبه أو يشاهده من السوء، و المنيب‌ من الإنابة و هو الرجوع و المراد الرجوع في كل أمر إلى الله. 

  • و الآية مسوقة لتعليل قوله في الآية السابقة: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} و فيه مدح بالغ لإبراهيم (عليه السلام) و بيان أنه إنما كان يجادل فيهم لأنه كان حليما لا يعاجل نزول العذاب على الظالمين رجاء أن يأخذهم التوفيق فيصلحوا و يستقيموا، و كان 

تفسير الميزان ج۱۰

327
  • كثير التأثر من ضلال الناس و حلول الهلاك بهم مراجعا إلى الله في نجاتهم. لا أنه (عليه السلام) كان يكره عذاب الظالمين و ينتصر لهم بما هم ظالمون و حاشاه عن ذلك. 

  • قوله تعالى{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} هذا حكاية قول الملائكة لإبراهيم (عليه السلام) و بذلك قطعوا عليه جداله فانقطع حيث علم أن الإلحاح في صرف العذاب عنهم لن يثمر ثمرا فإن القضاء حتم و العذاب واقع لا محالة. فقولهم: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي انصرف عن هذا الجدال و لا تطمع في نجاتهم فإنه طمع فيما لا مطمع فيه. 

  • و قولهم: {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي بلغ أمره مبلغا لا يدفع بدافع و لا يتبدل بمبدل و يؤيده قوله في الجملة التالية: {وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} فإن ظاهره المستقبل و لو كان الأمر صادرا لم يتخلف القضاء عن المقضي البتة و يؤيده أيضا قوله في ما سيأتي من آيات قصة قوم لوط {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} إلخ، آية - ٨٢ من السورة. 

  • و قولهم: {وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} أي غير مدفوع عنهم بدافع فلله الحكم لا معقب لحكمه، و الجملة بيان لما أمر به، جي‌ء بها تأكيدا للجملة السابقة و المقام مقام التأكيد، و لذلك جي‌ء في الجملة الأولى بضمير الشأن و قد المفيد للتحقيق، و صدرت الجملتان معا بإن، و أضافوا الأمر إلى رب إبراهيم (عليه السلام) دون أمر الله ليعينهم ذلك على انقطاعه عن الجدال. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي بإسناده عن أبي يزيد الحمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله بعث أربعة أملاك في إهلاك قوم لوط: جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و كروبيل، فمروا بإبراهيم فسلموا عليه و هم معتمون فلم يعرفهم، و رأى هيئة حسنة فقال: لا يخدم هؤلاء إلا أنا بنفسي، و كان صاحب ضيافة فشوى لهم عجلا سمينا حتى أنضجه فقربه إليهم، فلما وضع بين أيديهم رأى أيديهم لا تصل إليه فنكرهم و أوجس منهم خيفة، فلما رأى ذلك جبرئيل حسر العمامة عن وجهه فعرفه إبراهيم فقال: أنت هو؟ 

تفسير الميزان ج۱۰

328
  • قال: نعم فمرت به امرأته فبشرها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فقالت: ما قال الله عز و جل و أجابوها بما في الكتاب . 

  • فقال لهم إبراهيم: لماذا جئتم؟ فقالوا في إهلاك قوم لوط. قال: إن كان فيها مائة من المؤمنين أ تهلكونها؟ قال جبرئيل: لا. قال: و إن كان فيهم خمسون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم ثلاثون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم عشرون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم عشرة؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم خمسة؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم واحد؟ قال: لا. قال: فإن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين ثم مضوا. 

  • قال: و قال الحسن بن علي: لا أعلم هذا القول إلا و هو يستبقيهم و هو قول الله عز و جل: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} الحديث. و له تتمة ستوافيك في قصة لوط. 

  • أقول: و قوله: «لا أعلم هذا القول إلا و هو يستبقيهم» يمكن استفادته من قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} فإنه أنسب بكون غرضه استبقاء القوم لا استبقاء نبي الله لوط. على أن قوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} و قوله: {إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} إنما يناسب استبقاء القوم. 

  • و في تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاء بعجل حنيذ مشويا نضيجا. 

  • و في معاني الأخبار بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول الله عز و جل: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} قال: حاضت. 

  • و في الدر المنثور أخرج إسحاق بن بشر و ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما رأى إبراهيم أنه لا تصل إلى العجل أيديهم نكرهم و خافهم، و إنما كان خوف إبراهيم أنهم كانوا في ذلك الزمان إذا هم أحدهم بامرئ سوء لم يأكل عنده يقول: إذا أكرمت بطعامه حرم عليّ أذاه، فخاف إبراهيم أن يريدوا به سوء فاضطربت مفاصله . 

  • و امرأته سارة قائمة تخدمهم، و كان إذا أراد أن يكرم ضيفا أقام سارة 

تفسير الميزان ج۱۰

329
  • ليخدمهم فضحكت سارة، و إنما ضحكت أنها قالت: يا إبراهيم و ما تخاف؟ إنهم ثلاثة نفر و أنت و أهلك و غلمانك. قال لها جبرئيل: أيتها الضاحكة أما إنك ستلدين غلاما يقال له: إسحاق و من ورائه غلام يقال له: يعقوب فأقبلت في صرة فصكت وجهها فأقبلت والهة تقول: وا ويلتاه و وضعت يدها على وجهها استحياء فذلك قوله: فصكت وجهها، و قالت: أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا . 

  • قال: لما بشر إبراهيم يقول الله: فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى بإسحاق يجادلنا في قوم لوط، و كان جداله أنه قال: يا جبرئيل أين تريدون؟ و إلى من بعثتم؟ قال: إلى قوم لوط و قد أمرنا بعذابهم . 

  • فقال إبراهيم إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته، و كانت فيما زعموا تسمى والقة. فقال إبراهيم: إن كان فيهم مائة مؤمن أ تعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم تسعون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم ثمانون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا حتى انتهى في العدد إلى واحد مؤمن قال جبرئيل: لا. فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنا واحدا قال: إن فيها لوطا. قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته. أقول: و في متن الحديث اضطراب ما من حيث ذكره قول إبراهيم: إن فيها لوطا أولا و ثانيا لكن المراد واضح. 

  • و في تفسير العياشي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى لما قضى عذاب قوم لوط و قدره، أحب أن يعوض إبراهيم من عذاب قوم لوط بغلام عليم يسلي به مصابه بهلاك قوم لوط . 

  • قال: فبعث الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسماعيل. قال: فدخلوا عليه ليلاً ففزع منهم و خاف أن يكونوا سُراقاً، فلما رأته الرسل فزعا مذعورا قالوا: سلاما. قال: سلام إنا منكم وجلون. قالوا: لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. قال أبو جعفر (عليه السلام) : و الغلام العليم إسماعيل من هاجر فقال إبراهيم للرسل: أ بشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. 

تفسير الميزان ج۱۰

330
  • قال إبراهيم للرسل: فما خطبكم بعد البشارة؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين قوم لوط إنهم كانوا قوما فاسقين لننذرهم عذاب رب العالمين، قال أبو جعفر (عليه السلام) : قال إبراهيم: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين

  • فلما عذبهم الله أرسل الله إلى إبراهيم رسلا يبشرونه بإسحاق و يعزونه بهلاك قوم لوط، و ذلك قوله{وَ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} قوم منكرون {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} يعني زكيا مشويا نضيجا فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط و امرأته قائمة. قال أبو جعفر (عليه السلام) : إنما عنوا سارة قائمة فبشروها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت يعني فعجبت من قولهم

  • أقول: و الرواية كما ترى تجعل قصة البشارة قصتين: البشارة بإسماعيل و البشارة بإسحاق و قد ولد بعد إسماعيل بسنين. ثم تحمل آيات سورة الحجر و لم يذكر فيها تقديم العجل المشوي إلى الضيوف على البشرى بإسماعيل و لما يقع العذاب على قوم لوط حين ذاك، و تحمل آيات سورتي الذاريات و هود و قد اختلطتا في الرواية على البشرى لسارة بإسحاق و يعقوب، و أنها إنما كانت بعد هلاك قوم لوط فراجعوا إبراهيم و أخبروه بوقوع العذاب و بشروه البشارة الثانية. 

  • أما آيات سورة الحجر فإنها في نفسها تحتمل الحمل على البشارة بإسماعيل و كذا الآيات الواقعة في سورة الذاريات تحتمل أن تقص عما بعد هلاك قوم لوط و تكون البشرى بإسحاق و يعقوب عند ذلك. 

  • و أما آيات سورة هود فإنها صريحة في البشرى بإسحاق و يعقوب، و لكن ما في ذيلها من قوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} إلى آخر الآيات تأبى أن تنطبق على ما بعد هلاك قوم لوط، و إن كان ما في صدرها من قوله: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} لا يأبى وحده الحمل على ما بعد الهلاك، و كذا جملة {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} لو لا ما يحفها من قيود الكلام. 

  • و بالجملة مفاد الآيات في سورة هود هو وقوع البشرى بإسحاق قبل هلاك قوم 

تفسير الميزان ج۱۰

331
  • لوط، و عند ذلك كان جدال إبراهيم (عليه السلام) ، و مقتضى ذلك أن تكون ما وقع من القصة في سورة الذاريات هي الواقعة قبل هلاك القوم لا بعد الهلاك، و كذا كون ما وقع من القصة في سورة الحجر و فيه التصريح بكونه قبل هلاكهم و فيه جدال إبراهيم (عليه السلام) خاليا عن بشرى إسحاق و يعقوب لا بشرى إسماعيل. 

  • و الحاصل أن اشتمال آيات هود على بشرى إسحاق و جدال إبراهيم (عليه السلام) الظاهر في كونها قبل هلاك قوم لوط يوجب أن يكون المذكور من البشرى في جميع السور الثلاث: هود و الحجر و الذاريات قصة واحدة هي قصة البشرى بإسحاق قبل وقوع العذاب، و هذا مما يوهن الرواية جدا. 

  • و في الرواية شي‌ء آخر و هو أنها أخذت الضحك بمعنى العجب و أخذت قوله: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} من التقديم و التأخير، و أن التقدير: فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت، و هو خلاف الظاهر، من غير نكتة ظاهرة. 

  • و في تفسير العياشي أيضا عن الفضل بن أبي قرة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أوحى الله إلى إبراهيم أنه سيلد لك فقال لسارة فقالت: أ ألد و أنا عجوز؟ فأوحى الله إليه: أنها ستلد و يعذب أولادها أربعمائة سنة بردها الكلام علي . 

  • قال: فلما طال على بني إسرائيل العذاب ضجوا و بكوا إلى الله أربعين صباحا فأوحى الله إلى موسى و هارون أن يخلصهم من فرعون فحط عنهم سبعين و مائة سنة. 

  • قال: و قال أبو عبد الله (عليه السلام) : هكذا أنتم. لو فعلتم فرج الله عنا فأما إذا لم تكونوا فإن الأمر ينتهي إلى منتهاه. 

  • أقول: وجود الرابطة بين أحوال الإنسان و ملكاته و بين خصوصيات تركيب بدنه مما لا شك فيه فلكل من جانبي الربط استدعاء و تأثير خاص في الآخر ثم النطفة مأخوذة من المادة البدنية حاملة لما في البدن من الخصوصيات المادية و الروحية طبعا فمن الجائز أن يرث الأخلاف بعض خصوصيات أخلاق أسلافهم المادية و الروحية. 

  • و قد تقدم كرارا في المباحث السابقة أن بين صفات الإنسان الروحية و أعماله 

تفسير الميزان ج۱۰

332
  • و بين الحوادث الخارجية خيرا و شرا رابطة تامة كما يشير إليه قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} الأعراف: - ٩٦، و قوله: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الشورى: - ٣٠. 

  • فمن الجائز أن يصدر عن فرد من أفراد الإنسان أو عن مجتمع من المجتمعات الإنسانية عمل من الأعمال صالح أو طالح أو تظهر صفة من الصفات فضيلة أو رذيلة ثم يظهر أثره الجميل أو وباله السيئ في أعقابه، و الملاك في ذلك نوع من الوراثة كما مر، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: {وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} النساء: - ٩ كلام في هذا المعنى في الجزء الرابع من الكتاب. 

  • و فيه عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) و عن عبد الرحمن عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} قال: دعّاء.

  • أقول: و روي في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله. 

  • و فيه عن أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام) قال: إن إبراهيم جادل في قوم لوط و قال: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها، فزاده إبراهيم فقال جبرئيل: يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف و الابتداء عن حسان بن أبجر قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل من هذيل فقال له ابن عباس: ما فعل فلان؟ قال: مات و ترك أربعة من الولد و ثلاثة من الوراء. فقال ابن عباس: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} قال: ولد الولد. 

  • (كلام في قصة البشرى) 

  • قصة البشرى و سماها الله تعالى حديث ضيف إبراهيم (عليه السلام) وقعت في خمس من السور القرآنية كلها مكية و هي على ترتيب القرآن سورة هود و الحجر و العنكبوت و الصافات و الذاريات. 

  • فالأولى ما في سورة هود ٦٩-٧٦ قوله تعالى: {و لقد جاءت رسلنا إبراهيم 

تفسير الميزان ج۱۰

333
  • بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، و امرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب ، قالت يا ويلتي أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا إن هذا لشي‌ء عجيب ، قالوا أ تعجبين من أمر الله رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ، فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ، إن إبراهيم لحليم أواه منيب ، يا إبراهيم أعرض عن هذا أنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود}. 

  • و الثانية ما في سورة الحجر: ٥١-٦٠قوله تعالى: {و نبئهم عن ضيف إبراهيم ، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون ، 

  • قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ، قال أ بشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ، قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين ، قال و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ، قال فما خطبكم أيها المرسلون ، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ، إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين ، إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين}. 

  • و الثالثة ما في سورة العنكبوت: ٣١-٣٢ قوله تعالى: {و لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ، قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين}. 

  • و الرابعة ما في سورة الصافات: ٩٩-١١٣ قوله تعالى: {و قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين ، رب هب لي من الصالحين ، فبشرناه بغلام حليم ، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ، فلما أسلما و تله للجبين ، و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ، إن هذا لهو البلاء المبين ، و فديناه بذبح عظيم ، و تركنا عليه في الآخرين ، سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين ، إنه من عبادنا المؤمنين ، و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ، و باركنا عليه و على إسحاق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين}

تفسير الميزان ج۱۰

334
  • و الخامسة ما في سورة الذاريات ٢٤-٣٠قوله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ، فقربه إليهم قال أ لا تأكلون ، فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف و بشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها و قالت عجوز عقيم ، قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم}

  • و يقع البحث في قصة البشرى من وجوه: 

  • [هل هي بشرى واحدة]

  • أحدها: أنها هل هي بشرى واحدة و هي المشتملة على بشرى إبراهيم و سارة بإسحاق و يعقوب و قد وقعت قبيل هلاك قوم لوط أو أنها قصتان: إحداهما تشتمل على البشرى بإسماعيل و الأخرى تتضمن البشرى بإسحاق و يعقوب. 

  • ربما رجح الثاني بناء على أن ما وقع من القصة في سورة الذاريات صريح في تقديم العجل المشوي، و أن إبراهيم خافهم لما امتنعوا من الأكل ثم بشروه و امرأته العجوز العقيم و هي سارة أم إسحاق قطعا، و ذيل الآيات ظاهر في كون ذلك بعد إهلاك قوم لوط حيث يقول الملائكة: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} إلى أن قالوا {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ تَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ} الآيات و نظير ذلك ما في سورة هود و قد قال فيها الملائكة لإزالة الروع عن إبراهيم ابتداء: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} 

  • و أما ما في سورة الحجر فليس يتضمن حديث تقديم العجل المشوي بل ظاهره أن إبراهيم و أهله خافوهم لدى دخولهم عليه فأسكنوا رعبه بالبشارة كما يقول تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ} و ذيل الآيات ظاهر في كون ذلك قبل هلاك لوط. 

  • و نظيره ما في سورة العنكبوت من القصة و هي أظهر في كون ذلك قبل الهلاك و يتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط، و قد تقدمت في البحث الروائي السابق حديث العياشي في هذا المعنى. 

  • لكن الحق أن الآيات في جميع السور الأربع سورة هود و الحجر و العنكبوت و الذاريات إنما تقص قصة البشارة بإسحاق و يعقوب دون إسماعيل. 

تفسير الميزان ج۱۰

335
  • و أما ما في ذيل آيات الذاريات من قوله: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا} الظاهر في المضي و الفراغ عن الأمر فنظيره واقع في آيات الحجر مع تسليمهم أنها تقص ما قبل الفراغ. 

  • على أن قول الملائكة المرسلين و هم بعد في الطريق: {إِنَّا أُرْسِلْنَا} لا مانع منه بحسب اللغة و العرف. 

  • و أما قوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} إلى آخر الآيات فهو من كلامه تعالى و ليس من تتمة كلام الملائكة لإبراهيم كما يدل عليه سياق القصص الواردة في سورة الذاريات. 

  • و أما ذكر الوجل في آيات الحجر في أول القصة بخلاف سورتي الذاريات و هود فالوجه فيه عدم ذكر تقديم العجل المشوي في آيات الحجر بخلافهما، على أن الارتباط التام بين أجزاء قصة مما يجوز أن يقدم بعضها على بعض حينا و يعكس الأمر حينا آخر كما أنه تعالى يذكر إنكار إبراهيم في آيات الذاريات في صدر القصة بعد سلامهم و في سورة هود في وسط القصة بعد امتناعهم من الأكل، و هذا كثير الورود في نظم القرآن. 

  • على أن آيات هود صريحة في البشرى بإسحاق و يعقوب و هي تتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط في سياق لا يشك معه أنه كان قبل هلاك لوط، و لازمه كون بشرى إسحاق قبله لا بعده. 

  • على أن من المتفق عليه أن إسماعيل كان أكبر سنا من إسحاق و بين ولادتيهما سنون، و لو كانت هؤلاء الملائكة بشروا إبراهيم بإسماعيل في مسيرهم إلى هلاك قوم لوط قبيل الهلاك و بشروه بإسحاق في منصرفهم عن هلاكهم بعيدة كان الفصل بين البشريين يوما أو يومين فيكون الفصل بين البشرى بإسحاق و بين ولادته سنون من الزمان و البشرى لا تطلق إلا على الإخبار بالجميل إذا كان مشرفا على الوقوع إلا إذا كانت هناك عناية خاصة و أما الإخبار بمطلق الجميل فهو وعد و نحو ذلك. 

  • [هل هناك بشرى بإسماعيل؟]

  • و ثانيها أنه هل هناك بشرى بإسماعيل؟ و الحق أن ما ذكرت من البشرى في صدر آيات الصافات إنما هي بشرى بإسماعيل و هي غير ما ذكرت في ذيل الآيات من البشرى بإسحاق صريحا فإن سياق الآيات في ذيل قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} 

تفسير الميزان ج۱۰

336
  • ثم استيناف البشارة بإسحاق في قوله أخيرا: {وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصَّالِحِينَ} لا يدع ريبا لمرتاب أن الغلام الحليم الذي بشر به أولا غير إسحاق الذي بشر به ثانيا، و ليس إلا إسماعيل. 

  • و ذكر الطبري في تاريخه أن المراد بالبشارة الأولى في هذه السورة أيضا البشارة بإسحاق قياسا على ذكر من البشارة في سائر السور، و هو كما ترى. و قد تقدم كلام في هذا المعنى في قصص إبراهيم (عليه السلام) في الجزء السابع من الكتاب.

  • [تطبيق ما في التوراة الحاضرة على ما استفيد من القرآن الكريم] 

  • و ثالثها: البحث في القصة من جهة تطبيق ما في التوراة الحاضرة منها على ما استفيد من القرآن الكريم، و سيوافيك ذلك عند الكلام على قصة لوط (عليه السلام) في ذيل الآيات التالية. 

  • [جدال إبراهيم مع الملائكة]

  • و رابعها: البحث فيها من جهة جدال إبراهيم الملائكة و قد وقع فيها مثل قوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} و قوله: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} 

  • و قد تقدم أن سياق الآيات و خاصة قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} لا يدل إلا على نعته بالجميل فلم يكن جداله إلا حرصا منه في نجاة عباد الله رجاء أن يهتدوا إلى صراط الإيمان. 

  •  

  • [سورة هود (١١) : الآیات ٧٧ الی ٨٣] 

  • {وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِي‌ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ٧٧ وَ جَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ٧٨ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ٧٩ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ٨٠قَالُوا يَا لُوطُ 

تفسير الميزان ج۱۰

337
  • إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ٨١ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ٨٢ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ٨٣} 

  • (بيان) 

  • الآيات تذكر عذاب قوم لوط، و هي من وجه تتمة الآيات السابقة التي قصت نزول الملائكة و دخولهم على إبراهيم (عليه السلام) و تبشيره بإسحاق فإنما كانت كالتوطئة لقصة عذاب قوم لوط. 

  • قوله تعالى{وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِي‌ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} يقال: ساءه‌ الأمر مساءة أي أوقع عليه السوء، و سي‌ء بالأمر بالبناء للمجهول أي أوقع عليه من ناحيته و بسببه. 

  • و الذرع‌ مقايسة الأطوال مأخوذ من الذراع العضو المعروف لأنهم كانوا يقيسون بها، و يطلق على نفس المقياس أيضا، و يقال: ضاق بالأمر ذرعا و هو كناية عن انسداد طريق الحيلة و العجز عن الاهتداء إلى مخلص ينجو به الإنسان من النائبة كالذي يذرع ما لا ينطبق عليه ذرعه. 

  • و العصيب‌ فعيل بمعنى المفعول من العصب بمعنى الشد و اليوم العصيب هو اليوم الذي شُد بالبلاء شدا لا يقبل الانحلال و لا بعض أجزائه ينفك عن بعض. 

  • و المعنى لما جاءت رسلنا لوطا و هم الملائكة النازلون بإبراهيم (عليه السلام) ساء مجيئهم لوطا، و عجز عن الاحتيال لنجاتهم من شر القوم فإنهم دخلوا عليه في صور غلمان 

تفسير الميزان ج۱۰

338
  • مرد صبيحي المنظر و كان قومه ذوي حرص شديد على إتيان الفحشاء ما كان من المترقب أن يعرضوا عنهم و يتركوهم على حالهم، و لذلك لم يملك لوط نفسه دون أن قال: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي شديد ملتف بعض شره ببعض. 

  • قوله تعالى{وَ جَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ} قال الراغب: يقال: هرع و أهرع‌ ساقه سوقا بعنف و تخويف، انتهى. و عن كتاب العين، الإهراع‌ السوق الحثيث، انتهى. 

  • و قوله: {وَ مِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ} أي و من قبل ذلك كانوا يقترفون المعاصي و يأتون بالمنكرات فكانوا مجترئين على إيقاع الفحشاء معتادين بذلك لا ينصرفون عنه بصارف، و لا يحجبهم عن ذلك استحياء أو استشناع، و لا ينزجرون بموعظة أو ملامة أو مذمة لأن العادة تسهل كل صعب و تزين كل قبيح و وقيح. 

  • و الجملة كالمعترضة بين قوله: {وَ جَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} و قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي} إلخ، و هي نافعة في مضمون طرفيها أما فيما قبلها فإنها توضح أن الذي كان يهرعهم و يسوقهم إلى لوط (عليه السلام) هو أنهم كانوا يعملون السيئات و صاروا بذلك معتادين على إتيان الفحشاء ولِعين به فسَاقهم ذلك إلى المجي‌ء إليه و قصد السوء بأضيافه. 

  • و أما فيما بعدها فإنها تفيد أنهم لرسوخ الملكة و استقرار العادة سلبوا سمع القبول و أن يزجرهم زاجر من عظة أو نصيحة، و لذلك بدأ لوط في تكليمهم بعرض بناته عليهم ثم قال لهم: {فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} إلخ. 

  • قوله تعالى{قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} إلى آخر الآية، لما رآهم تجمعوا على الشر لا يصرفهم عن ذلك مجرد القول بعظة أو إغلاظ في الكلام أراد أن يصرفهم عنه بتبديل ما يريدون من الفحشاء مما لا معصية فيه من الحلال فعرض بناته عليهم و رجحه لهم بأنهن أطهر لهم. 

  • و إنما المراد بصيغة التفضيل أطهر مجرد الاشتمال على الطهارة من غير شوب بقذارة، و المراد هي طهارة محضا، و هو استعمال شائع، قال تعالى: {مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ} الجمعة: - ١١، و قال {وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ} النساء: - ١٢٨. و تفيد معنى الأخذ بالمتيقن. 

تفسير الميزان ج۱۰

339
  • و تقييد قوله: {هَؤُلاَءِ بَنَاتِي} بقوله: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} شاهد صدق على أنه إنما عرض لهم مسهن عن نكاح لا عن سفاح و حاشا مقام نبي الله عن ذلك، و ذلك لأن السفاح لا طهارة فيه أصلا و قد قال تعالى: {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً} إسراء: - ٣٢، و قال {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ} الأنعام: - ١٥١، و قد تقدم في تفسير هذه الآية أن ما تتضمنه هو من الأحكام العامة المشرعة في جميع الشرائع الإلهية النازلة على أنبيائه. 

  • و من هنا يظهر فساد قول من يقول: إنه عرض عليهم بناته من غير تقييده بنكاح. و لست أدري ما معنى علاج فحشاء بفحشاء غيرها؟ و ما معنى قوله حينئذ: {فَاتَّقُوا اَللَّهَ} ؟ و لو كان يريد دفع الفضيحة و العار عن نفسه فقط لاكتفى بقوله: {وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} 

  • و ربما قيل: إن المراد بقوله: {هَؤُلاَءِ بَنَاتِي} الإشارة إلى نساء القوم لأن النبي أبو أمته فنساؤهم بناته كما أن رجالهم بنوه، يريد أن قصد الإناث و هو سبيل فطري خير لكم و أطهر من قصد الذكور من طريق الفحشاء. 

  • و هو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، و أما كونهم كفارا و بناته مسلمات و لا يجوز إنكاح المسلمة من الكافر فليس من المعلوم أن ذلك من شريعة إبراهيم حتى يتبعه لوط (عليه السلام) فمن الجائز أن يكون تزويج المؤمنة بالكافر جائزا في شرعه كما أنه كان جائزا في صدر الإسلام، و قد زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بنته من أبي العاص بن الربيع و هو كافر قبل الهجرة ثم نسخ ذلك. 

  • على أن قولهم في جوابه: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} لا يلائم كون المراد بالبنات في كلامه إنما هي نساؤهم لا بناته من صلبه فإنهم ما كانوا مؤمنين به حتى يعترفوا بكون نسائهم بناته إلا أن يكون المراد التهكم و لا قرينة عليه. 

  • لا يقال تعبيره (عليه السلام) بالبنات و ليس له عندئذ إلا بنتان يدل على أن مراده بناته من نساء أمته لا بنتاه غير الصادق عليه لفظ الجمع. 

  • لأنا نقول: لا دليل على ذلك من كلامه تعالى و لا وقع ذلك في نقل يعتمد عليه، نعم وقع في التوراة الحاضرة أنه كان للوط بنتان فقط. و لا اعتماد على ما تتضمنه. 

تفسير الميزان ج۱۰

340
  • و قوله: {فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} بيان للمطلوب، و قوله: {وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} عطف تفسيري لقوله: {فَاتَّقُوا اَللَّهَ} فإنه (عليه السلام) إنما كان يطلب منهم أن لا يتعرضوا لضيفه لتقوى الله لا لهوى نفسه و عصبية جاهلية منه، و لم يكن عنده فرق بين ضيفه و غيرهم فيما كان يردعهم، و قد وعظهم بالردع عن هذا الذنب الشنيع و ألح على ذلك سنين متمادية. 

  • و إنما علق الردع على معنى الضيافة و إضافة الضيف إلى نفسه و ذكر الخزي الوارد عليه من التعرض لهم كل ذلك رجاء أن يهيج صفة الفتوة و الكرامة فيهم و لذلك عقب ذلك بالاستغاثة و الاستنصار بقوله: {أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} لعله يجد فيهم ذا رشد إنساني فينتصر له و ينجيه و ضيوفه من أيدي أولئك الظالمين لكن القوم كانوا كما قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} الحجر: - ٧٢ و لم يؤثر ذلك فيهم أثرا و لم ينتهوا عن قوله بل أجابوا بما أيأسوه به من أي إلحاح في ذلك. 

  • قوله تعالى{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} هذا جواب القوم عما دعاهم إليه لوط من النكاح المباح أجابوا بنفي أن يكون لهم في بناته من حق و أنه يعلم ذلك و يعلم ما هو بغيتهم في هذا الهجوم و ماذا يريدون. 

  • و قد قيل في معنى نفيهم الحق: إن معناه ما لنا في بناتك من حاجة و ما ليس للإنسان فيه حاجة فكأنه لا حق له فيه ففي الكلام نوع استعارة. 

  • و قيل: إن المراد ليس لنا في بناتك من حق لأنا لا نتزوجهن و من لم يتزوج بامرأة فلا حق له فيها فالمراد بنفي الحق نفي سببه و هو الازدواج. 

  • و قيل: المراد بالحق هو الحظ و النصيب دون الحق الشرعي أو العرفي أي لا رغبة لنا فيهن لأنهن نساء و لا ميل لنا إليهن. 

  • و الذي يجب الالتفات إليه أنهم لم يقولوا: ما لنا في بناتك من حق بل قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} فلم يجيبوا عنه بذلك بل بعلمه بذلك و بين القولين فرق فالظاهر أنهم ذكروه بما كان يعلم من السنة القومية الجارية بينهم، و هو المنع من التعرض لنساء الناس و خاصة بالقهر و الغلبة أو ترك إتيان النساء بالمرة و استباحة التعرض للغلمان و قضاء الوطر منهم، و قد كان لوط يردعهم عن سنتهم ذلك إذ يقول لهم {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسَاءِ} الأعراف: - ٨١ 

تفسير الميزان ج۱۰

341
  • {أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرَانَ مِنَ اَلْعَالَمِينَ وَ تَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} شعراء - ٦٥ {أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ} العنكبوت - ٢٩، و لا شك أن السنة القومية الجارية على فعل شي‌ء يثبت حقا فيه، و الجارية على تركه ينفي الحق. 

  • و بالجملة هم يلفتون نظره (عليه السلام) إلى ما يعلم من انتفاء حقهم عن بناته بما هن نساء بحسب السنة القومية و ما يعلم من إرادتهم في الهجوم على داره هذا و لعل هذا أحسن الوجوه، و بعده الوجه الثالث. 

  • قوله تعالى{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} يقال: أوى إلى كذا يأوي أويا و مأوى أي انضم إليه، و آواه إليه يؤويه إيواء أي ضمه إليه. و الركن‌ هو ما يعتمد عليه البناء بعد الأساس. 

  • الظاهر أنه لما وعظهم لوط (عليه السلام) بالأمر بتقوى الله و تهييج فتوتهم في حفظ موقعه و رعاية حرمته في عدم التعرض لضيفه بما يجلب إليه العار و الخزي، و قد قطع عذرهم بعرض بناته عليهم بالنكاح ثم استغاث بالاستنصار من أولي الرشد منهم رجاء أن يوجد فيهم رجل رشيد ينصره عليهم و يدفعهم عنه فلم يجبه أحد فيما سأل و لا انماز من بينهم ذو رشد ينصره و يدفع عنه بل أيأسوه بقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} لم يبق له إلا أن يظهر ما به من البث و الحزن في صورة التمني فتمنى أن يكون له منهم قوة يقوى به على دفع عتاتهم الظالمين - و هو الرجل الرشيد الذي كان يسأل عنه في استغاثته - أو يكون له ركن شديد و عشيرة منيعة ينضم إليهم فيدفعهم بهم. 

  • فقوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أي ليت لي قدرة بسببكم بانضمام رجل منكم رشيد إلي يقوم بنصرتي فأدفعكم به، و قوله: {أَوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي أو كنت أنضم إلى ركن شديد أي عشيرة منيعة يمنعكم مني هذا ما يعطيه ظاهر السياق. 

  • و قيل: إن معنى قوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أتمنى أن يكون لي منعة و قدرة و جماعة أتقوى بها عليكم فأدفعكم عن أضيافي. و فيه أن فيه تبديل قوله: {بِكُمْ} إلى قولنا: بهم عليكم. و هو كما ترى. 

  • و قيل: إن معنى {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} لو قويت عليكم بنفسي. و فيه أنه أبعد 

تفسير الميزان ج۱۰

342
  • من لفظ الآية. 

  • و قيل: إن الخطاب في الآية للأضياف دون القوم، و معنى الآية أنه قال لأضيافه: أتمنى أن يكون لي بسببكم قوة ألقاهم بها. و فيه أن الانتقال من خطاب القوم إلى خطاب الأضياف و لا دليل من اللفظ ظاهرا يدل عليه إبهام و تعقيد من غير موجب، و كلامه تعالى أجل من ذلك. 

  • قوله تعالى{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} إلى آخر الآية عدم وصولهم إليه كناية عن عدم قدرتهم على ما يريدون، و المعنى لما بلغ الأمر هذا المبلغ قالت الملائكة مخاطبين للوط: إنا رسل ربك فأظهروا له أنهم ملائكة و عرفوه أنهم مرسلون من عند الله، و طيبوا نفسه أن القوم لن يصلوا إليه و لن يقدروا أن يصيبوا منه ما يريدون فكان ما ذكره الله تعالى في موضع آخر من كلامه {وَ لَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} القمر: - ٣٧، فأذهب الله بأبصار الذين تابعوا على الشر و ازدحموا على بابه فصاروا عميانا يتخبطون. 

  • و قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} الإسراء و السري‌ بالضم السير بالليل فيكون قوله: {بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ} نوع توضيح له، و الباء للمصاحبة أو بمعنى في. و القطع‌ من الشي‌ء طائفة منه و بعضه، و الالتفات‌ افتعال من اللفت، قال الراغب: يقال: لفته عن كذا صرفه عنه، قال تعالى: {قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} أي تصرفنا، و منه التفت فلان إذا عدل عن قبله بوجهه، و امرأة لفوت تلفت من زوجها إلى ولدها من غيره. انتهى. 

  • و القول دستور من الملائكة للوط (عليه السلام) إرشادا له إلى النجاة من العذاب النازل بالقوم صبيحة ليلتهم هاتيك، و فيه معنى الاستعجال كما يشعر به قوله بعد: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ} 

  • و المعنى أنا مرسلون لعذاب القوم و هلاكهم فانج أنت بنفسك و أهلك و سيروا أنت و أهلك بقطع من هذا الليل و اخرجوا من ديارهم فإنهم هالكون بعذاب الله صبيحة ليلتهم هذه، و لا كثير وقت بينك و بين الصبح و لا ينظر أحدكم إلى وراء. 

  • و ما ذكره بعضهم أن المراد بالالتفات الالتفات إلى مال أو متاع في المدينة يأخذه معه أو الالتفات بمعنى التخلف عن السري مما لا يلتفت إليه. 

تفسير الميزان ج۱۰

343
  • و قوله: {إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} ظاهر السياق أنه استثناء من قوله: {بِأَهْلِكَ} لا من قوله: {أَحَدٌ} و في قوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} بيان السبب لاستثنائها، و قال تعالى في غير هذا الموضع {إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ اَلْغَابِرِينَ} الحجر: - ٦٠. 

  • و قوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} أي موعد هلاكهم الصبح و هو صدر النهار بعد طلوع الفجر حين الشروق، كما قال تعالى في موضع آخر {فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} الحجر: - ٧٣. 

  • و الجملة الأولى تعليل لقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ} و فيه نوع استعجال كما تقدم، و يؤكده قوله: {أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} و من الجائز أن يكون لوط (عليه السلام) يستعجلهم في عذاب القوم فيجيبوه بقولهم: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} أي إن من المقدر أن يهلكوا بالصبح و ليس موعدا بعيدا أو يكون الجملة الأولى استعجالا من الملائكة، و الثانية تسلية منهم للوط في استعجاله. 

  • و لم يذكر في الآيات ما هي الغاية لسراهم و المحل الذي يتوجهون إليه، و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ اِتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ اُمْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} الحجر: - ٦٥، و ظاهره أن الملائكة لم يذكروا له المقصد و أحالوا ذلك إلى ما سيأتيه من الدلالة بالوحي الإلهي. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} ضمائر التأنيث الثلاث راجعة إلى أرض القوم أو القرية أو بلادهم المعلومة من السياق، و السجيل‌ على ما في المجمع، بمعنى السجين و هو النار، و قال الراغب: السجين‌ حجر و طين مختلط، و أصله فيما قيل فارسي معرب، انتهى. يشير إلى ما قيل إن أصله سنك كل۱، و قيل: إنه مأخوذ من السجل بمعنى الكتاب كأنها كتب فيها ما فيها من عمل الإهلاك، و قيل: مأخوذ من أسجلت بمعنى أرسلت. 

  • و الظاهر أن الأصل في جميع هذه المعاني هو التركيب الفارسي المعرب المفيد معنى الحجر و الطين، و السجل بمعنى الكتاب أيضا منه فإنهم على ما قيل كانوا يكتبون على الحجر المعمول ثم توسع فسمي كل كتاب سجلا و إن كان من قرطاس، 

    1. بالفارسية يقال : سنگ گل ، وتعني حجر الطين (المحقق)

تفسير الميزان ج۱۰

344
  • و الإسجال‌ بمعنى الإرسال مأخوذ من ذلك. 

  • و النضد هو النظم و الترتيب، و التسويم‌ جعل الشي‌ء ذا علامة من السيماء بمعنى العلامة. 

  • و المعنى: و لما جاء أمرنا بالعذاب و هو أمره تعالى الملائكة بعذابهم و هو كلمة {كُنْ} التي أشار إليها في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} يس: - ٨٣، جعلنا عالي أرضهم و بلادهم سافلها بتقليبها عليهم و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود معلمة عند ربك و في علمه ليس لها أن تخطئ هدفها الذي رميت لأجل إصابته. 

  • و ذكر بعضهم أن القلب وقع على بلادهم و الإمطار بالسجيل عذب به الغائبون منهم. و قيل: إن القرية هي التي أمطرت حين رفعها جبرئيل ليخسفها. و قيل: إنما أمطرت عليهم الحجارة بعد ما قلبت قريتهم تغليظا في العقوبة. و الأقوال جميعا من التحكم من غير دليل من اللفظ. 

  • و في قوله تعالى في غير هذا الموضع {فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} الحجر: - ٧٣، فقد كان هناك قلب و صيحة و إمطار بالحجارة و من الممكن أن يكون ذلك بحدوث بركان من البراكين بالقرب من بلادهم و تحدث به زلزلة في أرضهم و انفجار أرضي بصيحة توجب قلب مدنهم، و يمطر البركان عليهم من قطعات الحجارة التي يثيرها و يرميها، و الله أعلم. 

  • قوله تعالى{وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} قيل المراد بالظالمين ظالمو أهل مكة أو المشركون من قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الكلام مسوق للتهديد، و المعنى و ليست هذه الحجارة من ظالمي مكة ببعيد أو المعنى: ليست هذه القرى المخسوفة من ظالمي قومك ببعيد فإنه في طريقهم بين مكة و الشام، كما قال تعالى في موضع آخر {وَ إِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} الحجر: - ٧٦، و قال {وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} الصافات: - ١٣٨. 

  • و يؤيده العدول من سياق التكلم إلى الغيبة في قوله: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} فكأنه تعالى عدل عن مثل قولنا: مسومة عندنا إلى هذا التعبير ليتعرض لقومه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالتهديد أو بإنهاء الحديث إلى حسهم ليكون أقوى تأثيرا في الحجاج عليهم. 

تفسير الميزان ج۱۰

345
  • و ربما احتمل أن المراد تهديد مطلق الظالمين و المراد أنه ليست الحجارة أي أمطارها من عند الله من معشر الظالمين و منهم قوم لوط الظالمون ببعيد، و يكون وجه الالتفات في قوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} أيضا التعريض لقوم النبي الظالمين المشركين. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي بإسناده عن زكريا بن محمد [عن أبيه‌] عن عمرو عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله فطلبهم إبليس الطلب الشديد، و كان من فضلهم و خيرتهم أنهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم و تبقى النساء خلفهم فلم يزل إبليس يعتادهم فكانوا إذا رجعوا خرب إبليس ما يعملون . 

  • فقالوا بعضهم لبعض: تعالوا نرصد هذا الذي يخرب متاعنا فرصدوه فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان فقالوا له: أنت الذي تخرب متاعنا مرة بعد أخرى، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيتوه عند رجل فلما كان الليل صاح له فقال له: ما لك؟ فقال فإن: أبي ينومني على بطنه فقال له: تعال فنم على بطني . 

  • قال: فلم يزل يدلك الرجل حتى علمه أن يفعل بنفسه فأولا علمه إبليس و الثاني علمه هو ثم انسل يفر منهم، فأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام و يعجبهم منه و هم لا يعرفونه فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بعضهم ببعض ثم جعلوا يرصدون مارة الطريق فيفعلون بهم حتى تنكب مدينتهم الناس ثم تركوا نسائهم و أقبلوا على الغلمان . 

  • فلما رأى أنه قد أحكم أمره في الرجال جاء إلى النساء فصير نفسه امرأة فقال لهن: إن رجالكن يفعل بعضهم ببعض؟ قلن: نعم رأينا ذلك و كل ذلك يعظهم لوط و يوصيهم و إبليس يغويهم حتى استغنى النساء بالنساء . 

  • فلما كملت عليهم الحجة بعث الله جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل في زي غلمان عليهم أقبية فمروا بلوط و هو يحرث. قال: أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم قط. فقالوا: إنا رسل سيدنا إلى رب هذه البلدة. قال: أ و لم يبلغ سيدكم ما يفعل 

تفسير الميزان ج۱۰

346
  • أهل هذه القرية؟ إنهم و الله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتى يخرج الدم. قالوا: أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. قال: فلي إليكم حاجة. قالوا: و ما هي؟ قال: تصبرون هنا إلى اختلاط الظلام . 

  • قال: فجلسوا. قال: فبعث ابنته. قال: فجيئي لهم بخبز و جيئي لهم بماء في القرعة - و جيئي لهم بعباء يتغطون بها من البرد فلما أن ذهبت الابنة أقبل المطر و الوادي فقال لوط: الساعة تذهب بالصبيان الوادي قال: قوموا حتى نمضي، و جعل لوط يمشي في أصل الحائط، و جعل جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل يمشون وسط الطريق. قال: يا بني امشوا هاهنا فقالوا أمرنا سيدنا أن نمر في وسطها و كان لوط يستغنم الظلام . 

  • و مر إبليس فأخذ من حجر امرأة صبيا فطرحه في البئر فتصايح أهل المدينة كلهم على باب لوط فلما أن نظروا إلى الغلمان في منزل لوط قالوا: يا لوط قد دخلت في عملنا؟ فقال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحون في ضيفي. قالوا: هم ثلاثة خذ واحدا و أعطنا اثنين. قال: و أدخلهم الحجرة و قال: لو أن لي أهل بيت تمنعوني منكم . 

  • قال: و تدافعوا على الباب و كسروا باب لوط و طرحوا لوطا فقال له جبرئيل: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأخذ كفا من بطحاء فضرب بها وجوههم و قال: شاهت الوجوه فعمي أهل المدينة كلهم فقال لهم لوط: يا رسل ربي فما أمركم ربي فيهم؟ قالوا: أمرنا أن نأخذهم بالسحر. قال: فلي إليكم حاجة. قالوا: و ما حاجتك؟ قال: تأخذوهم الساعة فإني أخاف أن يبدو لربي فيهم. فقالوا: يا لوط إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب لمن يريد أن يأخذ فخذ أنت بناتك و امض و دع امرأتك . 

  • فقال أبو جعفر (عليه السلام) : رحم الله لوطا لو علم من معه في الحجرة لعلم أنه منصور حيث يقول: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي ركن أشد من جبرئيل معه في الحجرة؟ فقال عز و جل لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) : {وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} من ظالمي أمتك إن عملوا ما عمل قوم لوط، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : من ألح في وطي الرجال لم يمت حتى يدعو الرجال إلى نفسه. 

تفسير الميزان ج۱۰

347
  • أقول: و الرواية لا تخلو من تشويش ما في اللفظ، و قد ذكر فيها الملائكة المرسلون ثلاثة، و في بعض الروايات كالرواية المذكورة في الباب السابق عن أبي يزيد الحمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنهم كانوا أربعة بزيادة كروبيل، و في بعض الروايات من طرق أهل السنة أنهم كانوا ثلاثة و هم جبرئيل و ميكائيل و رفائيل، و الظاهر من الرواية أنها تأخذ قول لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} إلخ خطابا منه للملائكة لا للقوم، و قد تقدمت الإشارة إليه في بيان الآيات. 

  • و قوله (عليه السلام) : رحم الله لوطا لو علم «إلخ» في معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما روي عنه رحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد. 

  • و قوله (عليه السلام) : فقال عز و جل لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) إلخ إشارة إلى ما تقدم من احتمال كون الآية، مسوقا لتهديد قريش. 

  • و في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قوله: {وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} قال: ما من عبد يخرج من الدنيا يستحل عمل قوم لوط إلا رماه الله جندلة من تلك الحجارة تكون منيته فيه و لكن الخلق لا يرونه. 

  • أقول: و روي في الكافي بإسناده عن ميمون البان عنه (عليه السلام) مثله. و فيه: من بات مصرا على اللواط لم يمت حتى يرميه الله بحجارة تكون فيه منيته و لا يراه أحد، و في الحديثين إشعار بكون قوله: {وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} غير خاص بقريش، و إشعار بكون العذاب المذكور روحانيا غير مادي. 

  • و في الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول لوط: {هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} قال: عرض عليهم التزويج. 

  • و في التهذيب عن الرضا (عليه السلام) : عن إتيان الرجل المرأة من خلفها فقال: أحلتها آية من كتاب الله عز و جل: قول لوط: {هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} قد علم أنهم لا يريدون الفرج. 

  • و في الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: عشيرة الرجل للرجل خير من الرجل لعشيرته إنه إن كف يده عنهم كف يدا واحدة، و كفوا عنه أيدي كثيرة مع مودتهم و حفاظتهم و نصرتهم حتى لربما غضب 

تفسير الميزان ج۱۰

348
  • الرجل للرجل و ما يعرفه إلا بحسبه - و سأتلو عليكم بذلك آيات من كتاب الله تعالى فتلا هذه الآية: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} 

  • قال علي رضي الله عنه: و الركن الشديد العشيرة فلم يكن للوط عشيرة فوالذي لا إله غيره ما بعث الله نبيا بعد لوط إلا في ثروة من قومه.

  • أقول: و آخر الرواية مروي من طرق أهل السنة و الشيعة. 

  • و في الكافي في حديث أبي يزيد الحمار عن أبي جعفر (عليه السلام) المنقول في البحث الروائي السابق قال: فأتوا يعني الملائكة لوطا و هو في زراعة قرب القرية فسلموا عليه و هم معتمون فلما رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض و عمائم بيض قال لهم: المنزل فقالوا: نعم فتقدمهم و مشوا خلفه فندم على عرضه المنزل عليهم فقال: أي شي‌ء صنعت؟ آتي بهم قومي و أنا أعرفهم؟ فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله. 

  • قال جبرئيل: لا نعجل عليهم حتى يشهد عليهم ثلاث مرات. فقال جبرئيل: هذه واحدة فمشى ساعة ثم التفت إليهم فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله فقال جبرئيل: هذه ثنتان. ثم مشى فلما بلغ باب المدينة التفت إليهم ثم قال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله. فقال جبرئيل: هذه الثالثة ثم دخل و دخلوا معه حتى دخل منزله . 

  • فلما رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا فدخنت فلما رأوا الدخان أقبلوا إلى الباب يهرعون حتى جاءوا على الباب فنزلت إليهم فقالت: عندنا قوم ما رأيت قط قوما أحسن منهم هيئة فجاءوا إلى الباب ليدخلوا . 

  • فلما رآهم لوط قام إليهم فقال لهم: يا قوم اتقوا الله و لا تخزون في ضيفي أ ليس منكم رجل رشيد؟ ثم قال: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فدعاهم كلهم إلى الحلال فقالوا: ما لنا في بناتك من حق و إنك لتعلم ما نريد، فقال لهم: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، فقال جبرئيل: لو يعلم أي قوة له . 

  • فتكاثروه حتى دخلوا الباب فصاح بهم جبرئيل فقال: يا لوط دعهم يدخلون فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم و هو قول الله عز و جل: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} ثم ناداه جبرئيل فقال له: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر 

تفسير الميزان ج۱۰

349
  • بأهلك بقطع من الليل. و قال له جبرئيل: إنا بعثنا في إهلاكهم فقال: يا جبرئيل عجل فقال: إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب . 

  • فأمره يتحمل و من معه إلا امرأته ثم اقتلعها يعني المدينة جبرئيل بجناحه من سبع أرضين ثم رفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا نياح الكلاب و صراخ الديوك ثم قلبها و أمطر عليها و على من حول المدينة بحجارة من سجيل. 

  • أقول: و ما اشتمل عليه آخر الرواية من اقتلاعها من سبع أرضين ثم رفعها إلى حيث سمع أهل السماء الدنيا نياح كلابهم و صراخ ديوكهم أمر خارق للعادة، و هو و إن كان لا يستبعد من قدرة الله سبحانه لكنه مما لا يكفي في ثبوته أمثال هذه الرواية و هي من الآحاد. 

  • على أن السنة الإلهية جارية على أن تقتفي في الكرامات و المعجزات الحكمة و أي حكمة في رفعهم إلى هذا الحد و لا أثر له في عذابهم و لا في تشديده؟ 

  • و قول بعض أهل الكلام: من الجائز أن يكون هذا الفعال العجيب الخارق للعادة لطفا من الله ليكون الإخبار بذلك من طريق المعصومين مقربا للمؤمنين إلى الطاعة مبعدا لهم من المعصية كلام مدخول فإن خلق الأمور العظيمة المعجبة و الحوادث الخارقة للعادة ليتأكد بها إيمان المؤمنين و يعتبر بها المعتبرون و إن كان لا يخلو من لطف إلا أنه إنما يكون لطفا فيما كان بلوغه لهم من طريق الحس أو أي طريق علمي آخر، و أما رواية واحدة أو ضعيفة و هي خالية عن الحجية لا يعبأ بها فلا معنى لإيجاد الأمور الخارقة و الحوادث العجيبة لأجل حصول اعتبار أو مخافة من طريقها، و لا وجه لتشديد عذاب قوم ليعتبر به قوم آخرون إلا في سنة الجهال من طغاة البشر و جبابرتهم. 

  • قال صاحب المنار في تفسيره: و في خرافات المفسرين المروية عن الإسرائيليات أن جبرئيل قلعها من تخوم الأرض بجناحه و صعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب و الدجاج فيها ثم قلبها قلبا مستويا فجعل عاليها سافلها. 

  • و هذا تصور مبني على اعتقاد متصوره إن الأجرام السماوية المأهولة بالسكان مما يمكن أن يقرب منهم سكان الأرض و ما فيها من الحيوان و يبقون أحياء. و قد ثبت بالمشاهدة و الاختبار الفعلي في هذه الأيام التي يكتب هذا فيها أن الطيارات 

تفسير الميزان ج۱۰

350
  • و المناطيد التي تحلق في الجو تصل إلى حيث يخف ضغط الهواء و يستحيل حياة الناس فيها، و هم يصنعون أنواعا منها يصنعون فيها من أكسجين الهواء ما يكفي استنشاقه و تنفسه للحياة في طبقات الجو العليا و يصعدون فيها. 

  • و قد أشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جو السماء من التأثير في ضيق الصدر من عسر التنفس بقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ} 

  • فإن قيل: إن هذا الفعل المروي عن جبرئيل من الممكنات العقلية و كان وقوعه من خوارق العادات فلا يصح أن يجعل تصديقه موقوفا على ما عرف من سنن الكائنات. 

  • قلت: نعم و لكن الشرط الأول لقبول الرواية في أمر جاء على غير السنن و النواميس التي أقام الله بها نظام العالم من عمران و خراب أن تكون الرواية عن وحي إلهي نقل بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه و لا علة على الأقل، و لم يذكر في كتاب الله تعالى، و لم يرد فيه حديث مرفوع إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا تظهر حكمة الله فيه، و إنما روي عن بعض التابعين دون الصحابة. و لا شك أنه من الإسرائيليات. 

  • و مما قالوه فيها: أن عدد أهلها كان أربعة آلاف ألف و بلاد فلسطين كلها لا تسع هذا العدد فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع؟ انتهى. 

  • و الذي ذكره أن الحديث إنما روي عن التابعين دون الصحابة فإنه أن هذا المعنى مروي عن ابن عباس و عن الحذيفة بن اليمان، ففي رواية ابن عباس كما في الدر المنثور، عن إسحاق بن بشر و ابن عساكر من طريق جويبر و مقاتل عن الضحاك عنه: «فلما كان عند وجه الصبح عمد جبريل إلى قرى لوط بما فيها من رجالها و نسائها و ثمارها و طيرها فحواها و طواها ثم قلعها من تخوم الثرى ثم احتملها تحت جناحه ثم رفعها إلى السماء الدنيا فسمع سكان سماء الدنيا أصوات الكلاب و الطير و النساء و الرجال من تحت جناح جبرئيل ثم أرسلها منكوسة ثم أتبعها بالحجارة، و كانت الحجارة للرعاة و التجار و من كان خارجا عن مدائنهم‌» الحديث. 

  • و في رواية حذيفة بن اليمان على ما في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن جرير 

تفسير الميزان ج۱۰

351
  • و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه: «فاستأذن جبرئيل في هلاكهم فأذن له فاحتمل الأرض التي كانوا عليها، و أهوى بها حتى سمع أهل سماء الدنيا صغاء كلابهم و أوقد تحتهم نارا ثم قلبها بهم فسمعت امرأة لوط الوجبة و هي معهم فالتفتت فأصابها العذاب، و تبعت سفارهم الحجارة» الحديث. 

  • و أما من التابعين فقد روي هذا المعنى عن سعيد بن جبير و مجاهد و أبي صالح و محمد بن كعب القرظي و عن السدي ما هو أغلظ من ذلك قال: «لما أصبحوا نزل جبرئيل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ السماء الدنيا ثم أهوى بها جبرئيل إلى الأرض‌» الحديث. 

  • و أما ما ذكره من أنه «يشترط في قبول الرواية أن تكون منقولة بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه و لا علة» فمسألة أصولية، و الذي استقر عليه النظر اليوم في المسألة أن الخبر إن كان متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية فلا ريب في حجيتها، و أما غير ذلك فلا حجية فيه إلا الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان الخبر موثوق الصدور بالظن النوعي فإن لها حجية. 

  • و ذلك أن الحجية الشرعية من الاعتبارات العقلائية فتتبع وجود أثر شرعي في المورد يقبل الجعل و الاعتبار الشرعي و القضايا التاريخية و الأمور الاعتقادية لا معنى لجعل الحجية فيها لعدم أثر شرعي و لا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علما و تعبيد الناس بذلك، و الموضوعات الخارجية و إن أمكن أن يتحقق فيها أثر شرعي إلا أن آثارها جزئية و الجعل الشرعي لا ينال إلا الكليات و ليطلب تفصيل القول في المسألة من علم الأصول. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : رحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد

  • أقول: مقتضى المقام الذي كان يجاري فيه لوط قومه و يأمرهم بتقوى الله و الاجتناب عن الفجور، و ظاهر سياق الآيات الحاكية للمشاجرة بينه و بين قومه أن لوطا إنما كان يتمنى أنصارا أولي رشد من بين قومه أو من غيرهم فقوله: {أَوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} يريد به أنصارا من غير القوم من عشيرة أو أخلاء و أصدقاء في الله 

تفسير الميزان ج۱۰

352
  • ينصرونه في الدفع عن أضيافه هذا و الركن الشديد معه في داره و هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و لذلك لبوه من غير فصل و قالوا: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} 

  • و لم يكن ليغفل في حال من تلك الأحوال عن ربه و أن كل النصر من عنده حتى ينساه و يتمنى ناصرا غيره، و حاشا مقام هذا النبي الكريم عن مثل هذا الجهل المذموم و قد قال الله تعالى في حقه {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً} إلى أن قال {وَ أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ} الأنبياء: - ٧٥. 

  • فقول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : «إن كان ليأوي إلى ركن شديد» معناه أن معه جبرئيل و سائر الملائكة و هو لا يعلم بذلك، و ليس معناه أن معه الله سبحانه و هو جاهل بمقام ربه. 

  • فما في بعض الروايات الناقلة للفظة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من الإشعار بأن مراده بالركن الشديد هو الله سبحانه دون الملائكة إنما نشأ عن فهم بعض رواة الحديث كما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : رحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد يعني الله تعالى (الحديث) . 

  • و كما عنه من طريق آخر قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: «يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد» و لعل فيه نقلا بالمعنى و أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: رحم الله لوطا فغيره الراوي إلى قوله: يغفر الله للوط المشعر بكون لوط أهمل أدبا من آداب العبودية أو أذنب ذنبا بجهله مقام ربه و نسيانه ما لم يكن له أن ينساه. 

  • (كلام في قصة لوط و قومه في فصول) 

  • ١ - قصته و قصة قومه في القرآن

  • كان لوط (عليه السلام) من كلدان في أرض بابل و من السابقين الأولين ممن آمن بإبراهيم (عليه السلام) آمن به و قال {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلى رَبِّي} : العنكبوت - ٢٦ فنجاه الله مع إبراهيم إلى الأرض المقدسة أرض فلسطين (الأنبياء: ٧١) فنزل في بعض بلادها (و هي مدينة سدوم على ما في التواريخ و التوراة و بعض الروايات) . 

تفسير الميزان ج۱۰

353
  • و كان أهل المدينة و ما والاها من المدائن و قد سماها الله في كلامه بالمؤتفكات (التوبة ٧٠) يعبدون الأصنام، و يأتون بالفاحشة: اللواط، و هم أول قوم شاع فيهم ذلك (الأعراف: ٨٠) حتى كانوا يأتون به في نواديهم من غير إنكار (العنكبوت: ٢٩) و لم يزل تشيع الفاحشة فيهم حتى عادت سنة قومية ابتلت به عامتهم و تركوا النساء و قطعوا السبيل (العنكبوت: ٢٩) . 

  • فأرسل الله لوطا إليهم (الشعراء: ١٦٢) فدعاهم إلى تقوى الله و ترك الفحشاء و الرجوع إلى طريق الفطرة و أنذرهم و خوفهم فلم يزدهم إلا عتوا و لم يكن جوابهم إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، و هددوه بالإخراج من بلدتهم و قالوا له: لئن لم تنته لتكونن من المخرجين (الشعراء: ١٦٧) و قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (النمل: ٥٦) . 

  • ٢ - عاقبة أمرهم

  • لم يزل لوط (عليه السلام) يدعوهم إلى سبيل الله و ملازمة سنة الفطرة و ترك الفحشاء و هم يصرون على عمل الخبائث حتى استقر بهم الطغيان و حقت عليهم كلمة العذاب فبعث الله رسلا من الملائكة المكرمين لإهلاكهم فنزلوا أولا على إبراهيم (عليه السلام) و أخبروه بما أمرهم الله به من إهلاك قوم لوط فجادلهم إبراهيم (عليه السلام) لعله يرد بذلك عنهم العذاب، و ذكرهم بأن فيهم لوطا فردوا عليه بأنهم أعلم بموقع لوط و أهله، و أنه قد جاء أمر الله و أن القوم آتيهم عذاب غير مردود (العنكبوت: ٣٢ - هود: ٧٦) . 

  • فمضوا إلى لوط في صور غلمان مرد و دخلوا عليه ضيفا فشق ذلك على لوط و ضاق بهم ذرعا لما كان يعلم من قومه أنهم سيتعرضون لهم و أنهم غير تاركيهم البتة فلم يلبث دون أن سمع القوم بذلك و أقبلوا يهرعون إليه و هم يستبشرون و هجموا على داره فخرج إليهم و بالغ في وعظهم و استثارة فتوتهم و رشدهم حتى عرض عليهم بناته و قال: {يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} ثم استغاث و قال: {أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} فردوا عليه أنه ليس لهم في بناته إربة و أنهم غير تاركي أضيافه البتة حتى أيس لوط و {قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} : (هود: - ٨٠) . 

تفسير الميزان ج۱۰

354
  • قالت الملائكة عند ذلك يا لوط: إنا رسل ربك طب نفسا إن القوم لن يصلوا إليك فطمسوا أعين القوم فعادوا عميانا يتخبطون و تفرقوا (القمر: ٣٧) . 

  • ثم أمروا لوطا (عليه السلام) أن يسري بأهله من ليلته بقطع من الليل و يتبع أدبارهم و لا يلتفت منهم أحد إلا امرأته فإنه مصيبها ما أصابهم، و أخبروه أنهم سيهلكون القوم مصبحين (هود: ٨١ - الحجر: ٦٦) . 

  • فأخذت الصيحة القوم مشرقين، و أرسل الله عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين، و قلب مدائنهم عليهم فجعل عاليها سافلها و أخرج من كان فيها من المؤمنين فلم يجد فيها غير بيت من المسلمين و هو بيت لوط و ترك فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم (الذاريات: ٣٧ - و غيرها) . 

  • و في اختصاص الإيمان و الإسلام بيت لوط (عليه السلام) ، و شمول العذاب لمدائنهم دلالة أولا على أن القوم كانوا كفارا غير مؤمنين و ثانيا على أن الفحشاء ما كانت شائعة فيما بين الرجال منهم فحسب إذ لو كان الأمر على ذلك و النساء بريئات منها و كان لوط يدعو الناس إلى الرجوع إلى سبيل الفطرة و سنة الخلقة التي هي مواصلة الرجال و النساء لاتبعته عدة من النساء و اجتمعن حوله و آمن به طبعا، و لم يذكر من ذلك شي‌ء في كلامه سبحانه. 

  • و في ذلك تصديق ما تقدم في الأخبار المأثورة أن الفحشاء شاعت بينهم، و اكتفى الرجال بالرجال باللواط، و النساء بالنساء بالسحق. 

  • ٣ - شخصية لوط المعنوية

  • كان (عليه السلام) رسولا من الله إلى أهل المؤتفكات و هي مدينة سدوم و ما والاها من المدائن و يقال: كانت أربع مدائن: سدوم و عمورة و صوغر و صبوييم و قد أشركه في جميع المقامات الروحية التي وصف بها أنبياءه الكرام. 

  • و مما وصفه به خاصة ما في قوله: {وَ لُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَ أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ} الأنبياء: - ٧٥. 

  • ٤ - لوط و قومه في التوراة

  • ذكرت‌۱ التوراة أن لوطا كان ابن أخي 

    1. الصحاح الحادي عشر و الثاني عشر من سفر التكوين.

تفسير الميزان ج۱۰

355
  • أبرام إبراهيم هاران بن تارخ و كان هو و أبرام في بيت تارخ في أور الكلدانيين ثم هاجر تارخ أورا قاصدا أرض الكنعانيين فأقام بلدة حاران و معه أبرام و لوط و مات هناك. 

  • ثم إن أبرام بأمر من الرب خرج من حاران و معه لوط و لهما مال كثير و غلمان اكتسبا ذلك في حاران فأتى أرض كنعان، و كان يرتحل أبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب، ثم أتى مصر، ثم صعد من هناك جنوبا نحو بيت إيل فأقام هناك. 

  • و لوط السائر مع أبرام أيضا كان له غنم و بقر و خيام و لم يحتملهما الأرض أن يسكنا و وقعت مخاصمة بين رعاة مواشيهما فتفرقا فأحذرا من وقوع النزاع و التشاجر فاختار لوط دائرة الأردن و سكن في مدن الدائرة و نقل خيامه إلى سدوم، و كان أهل سدوم أشرارا و خطاة لدى الرب جدا، و نقل أبرام خيامه و أقام عند بلوطات ممرا التي في حبرون. 

  • ثم وقعت حرب بين ملوك سدوم و عمورة و أدمة و صبوييم، و صوغر من جانب و أربعة من جيرانهم من جانب، انهزم فيها ملك سدوم و من معه من الملوك، و أخذ العدو جميع أملاك سدوم و عمورة و جميع أطعمتهم، و أسر لوط فيمن أسر و سبي جميع أمواله، و انتهى الخبر إلى أبرام فخرج فيمن معه من الغلمان، و كانوا يزيدون على ثلاث مائة فحاربهم و هزمهم، و أنجى لوطا و جميع أمواله من الأسر و السبي، و رده إلى مكانه الذي كان مقيما (فيه ملخص ما في التوراة من صدر قصة لوط) . 

  • قالت التوراة۱ و ظهر له لأبرام الرب عند بلوطات ممرا و هو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار. فرفع عينيه و نظر و إذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة و سجد إلى الأرض. و قال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماء و اغسلوا أرجلكم و اتكئوا تحت هذه الشجرة. فأخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم 

    1. الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين.

تفسير الميزان ج۱۰

356
  • تجتازون لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت. 

  • فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة و قال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقا سميدا اعجني و اصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر و أخذ عجلا رخصا و جيدا و أعطاه للغلام فأسرع ليعمله. ثم أخذ زبدا و لبنا و العجل الذي عمله و وضعها قدامهم. و إذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا. 

  • و قالوا له: أين سارة امرأتك، فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة و يكون لسارة امرأتك ابن. و كانت سارة سامعة في باب الخيمة و هو وراءه. و كان إبراهيم و سارة شيخين متقدمين في الأيام. و قد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء. فضحكت سارة في باطنها قائلة: أ بعد فنائي يكون لي تنعم و سيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أ فبالحقيقة ألد و أنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شي‌ء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة و يكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، لأنها خافت. فقال: لا بل ضحكت. 

  • ثم قام الرجال من هناك و تطلعوا نحو سدوم، و كان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم. فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ و إبراهيم يكون أمة كبيرة و قوية و يتبارك به جميع أمم الأرض. لأني عرفته لكي يوصي بنيه و بيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برا و عدلا لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به. 

  • فقال الرب: إن صراخ سدوم و عمورة قد كثر و خطيئتهم قد عظمت جدا. أنزل و أرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إلي و إلا فأعلم. و انصرف الرجال من هناك و ذهبوا نحو سدوم. و أما إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الرب. 

  • فتقدم إبراهيم و قال: أ فتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارا في المدينة. أ فتهلك المكان و لا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم، حاشاك. أديان كل الأرض لا يصنع عدلا؟ فقال الرب: إن وجدت في سدوم خمسين بارا في المدينة فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم. 

  • فأجاب إبراهيم و قال: إني قد شرعت أكلم المولى و أنا تراب و رماد ربما نقص 

تفسير الميزان ج۱۰

357
  • الخمسون بارا خمسة أ تهلك كل المدينة بالخمسة؟ فقال الرب: لا أهلك إن وجدت هناك خمسة و أربعين. فعاد يكلمه أيضا و قال: عسى أن يوجد هناك أربعون، فقال: لا أفعل من أجل الأربعين. فقال: لا يسخط المولى فأتكلم عسى أن يوجد هناك ثلاثون. فقال: لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين. فقال: إني قد شرعت أكلم المولى عسى أن يوجد هناك عشرون، فقال: لا أهلك من أجل العشرين. 

  • فقال: لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط عسى أن يوجد هناك عشرة، فقال: لا أهلك من أجل العشرة. و ذهب الرب عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم و رجع إبراهيم إلى مكانه. 

  • فجاء۱ الملأ كان إلى سدوم مساء و كان لوط جالسا في باب سدوم فلما رآهما لوط قام لاستقبالهما و سجد بوجهه إلى الأرض. و قال: يا سيدي ميلا إلى بيت عبدكما و بيتا و اغسلا أرجلكما ثم تبكران و تذهبان في طريقكما، فقالا: لا بل في الساحة نبيت، فألح عليهما جدا، فمالا إليه و دخلا بيته، فصنع لهما ضيافة و خبزا فطيرا فأكلا. 

  • و قبل ما اضطجعا أحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ كل الشعب من أقصاها فنادوا لوطا و قالوا له: أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة؟ أخرجهما إلينا لنعرفهما. فخرج إليهم لوط إلى الباب و أغلق الباب وراءه. و قال: لا تفعلوا شرا يا إخوتي. هو ذا لي ابنتان لم يعرفا رجلا أخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم. و أما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما قد دخلا تحت ظل سقفي. 

  • فقالوا: ابعد إلى هناك. ثم قالوا: جاء هذا الإنسان ليتغرب و هو يحكم حكما. الآن نفعل بك شرا أكثر منهما. فألحوا على الرجل لوط جدا و تقدموا ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما و أدخلا لوطا إليهما إلى البيت و أغلقا الباب و أما الرجال الذين على باب البيت فضرباهم بالعمى من الصغير إلى الكبير فعجزوا عن أن يجدوا الباب. 

  •  

    1. الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين.

تفسير الميزان ج۱۰

358
  • و قال الرجلان للوط: من لك أيضا هاهنا أصهارك و بنوك و بناتك و كل من لك في المدينة أخرج من المكان لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فأرسلنا الرب لنهلكهم. فخرج لوط و كلم أصهاره الآخذين بناته و قال: قوموا اخرجوا من هذا المكان لأن الرب مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره. 

  • و لما طلع الفجر كان الملأ كان يعجلان لوطا قائلين: قم خذ امرأتك و ابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة. و لما توانى أمسك الرجلان بيده و بيد امرأته و بيد ابنتيه لشفقة الرب عليه و أخرجاه وضعاه خارج المدينة. 

  • و كان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال: اهرب لحياتك. لا تنظر إلى ورائك و لا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك فقال لهما لوط: لا يا سيد هو ذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك و عظمت لطفك الذي صنعت إلي باستبقاء نفسي. و أنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعل الشر يدركني فأموت. هو ذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها. و هي صغيرة أهرب إلى هناك أ ليست هي صغيرة فتحيا نفسي. فقال له: إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضا أن لا أقلب المدينة التي تكلمت عنها. أسرع اهرب إلى هناك لأني لا أستطيع أن أفعل شيئا حتى تجي‌ء إلى هناك - لذلك دعي اسم المدينة صوغر. 

  • و إذا أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الرب على سدوم و عمورة كبريتا و نارا من عند الرب من السماء. و قلب تلك المدن و كل الدائرة و جميع سكان المدن و نبات الأرض. و نظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح. 

  • و بكر إبراهيم في الغد إلى المكان الذي وقف فيه أمام الرب و تطلع نحو سدوم و عمورة و نحو كل أرض الدائرة. و نظر و إذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون. و حدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم. و أرسل لوطا من وسط الانقلاب حين قلب المدن التي سكن فيها لوط. 

  • و صعد لوط من صوغر و سكن في الجبل و ابنتاه معه لأنه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو و ابنتاه. و قالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ و ليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض هلم نسقي أبانا خمرا و نضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة. و دخلت البكر و اضطجعت 

تفسير الميزان ج۱۰

359
  • مع أبيها و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها و حدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد اضطجعت البارحة مع أبي. نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا. و قامت الصغيرة و اضطجعت معه. و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها. فحبلت ابنتا لوط من أبيهما. 

  • فولدت البكر ابنا و دعت اسمه موآب و هو أبو الموآبيين إلى اليوم و الصغيرة أيضا ولدت ابنا و دعت اسمه بن عمى و هو أبو بني عمون إلى اليوم. انتهى. 

  • هذا ما قصته التوراة في لوط و قومه نقلناه على طوله ليتضح به ما تخالف القرآن الكريم من وجه القصة و من وجوه غيرها. 

  • ففيها كون الملك المرسل للبشرى و العذاب ملكين اثنين. و قد عبر القرآن بالرسل بلفظ الجمع و أقله ثلاثة. 

  • و فيها أن أضياف إبراهيم أكلوا مما صنعه و قدمه إليهم، و القرآن ينفي ذلك و يقص أن إبراهيم خاف إذ رأى أن أيديهم لا تصل إليه. 

  • و فيها: إثبات بنتين للوط، و القرآن يعبر بلفظ البنات. و فيها كيفية إخراج الملائكة لوطا و كيفية تعذيب القوم و صيرورة المرأة عمودا من ملح و غير ذلك. 

  • و فيها نسبة التجسم صريحة إلى الله سبحانه، و ما ذكرته من قصة لوط مع بنتيه أخيرا، و القرآن ينزه ساحة الحق سبحانه عن التجسم و يبرئ أنبياءه و رسله عن ارتكاب ما لا يليق بساحة قدسهم. 

  • [سورة هود (١١) : الآیات ٨٤ الی ٩٥]

  • {وَ إلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَ لاَ تَنْقُصُوا اَلْمِكْيَالَ وَ اَلْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ٨٤ وَ يَا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيَالَ وَ اَلْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَ لاَ تَبْخَسُوا اَلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٨٥ 

تفسير الميزان ج۱۰

360
  • بَقِيَّتُ اَللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ٨٦ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَ صَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ ٨٧ قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاَحَ مَا اِسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ٨٨ وَ يَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَ مَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ٨٩ وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ٩٠قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَ لَوْ لاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَ مَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ٩١ قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اَللَّهِ وَ اِتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ٩٢ وَ يَا قَوْمِ اِعْمَلُوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَ اِرْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ٩٣ وَ لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٩٤ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ٩٥} 

تفسير الميزان ج۱۰

361
  • (بيان) 

  • تذكر الآيات قصة شعيب (عليه السلام) و قومه و هم أهل مدين، و كانوا يعبدون الأصنام، و كان قد شاع التطفيف في الكيل و الوزن عندهم و اشتد الفساد فيهم فأرسل الله سبحانه شعيبا (عليه السلام) إليهم فدعاهم إلى التوحيد و توفية الميزان و المكيال بالقسط و ترك الفساد في الأرض، و بشرهم و أنذرهم و بالغ في عظتهم‌ و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: كان شعيب خطيب الأنبياء. 

  • فلم يجبه القوم إلا بالرد و العصيان، هددوه بالرجم و الطرد من بينهم و بالغوا في إيذائه و إيذاء شرذمة من الناس آمنوا به و صدهم عن سبيل الله و داموا على ذلك حتى سأل الله أن يقضي بينه و بينهم فأهلكهم الله تعالى. 

  • قوله تعالى{وَ إلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} إلى آخر الآية عطف على ما تقدمه من قصص الأنبياء و أممهم، و مدين اسم مدينة كان يسكنها قوم شعيب ففي نسبة إرسال شعيب إلى مدين و كان مرسلا إلى أهله نوع من المجاز في الإسناد كقولنا: جرى الميزاب، و في عد شعيب (عليه السلام) أخا لهم دلالة على أنه كان ينتسب إليهم. 

  • و قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} تقدم تفسيره في نظائره. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَنْقُصُوا اَلْمِكْيَالَ وَ اَلْمِيزَانَ} المكيال و الميزان‌ اسما آلة بمعنى ما يكال به و ما يوزن به، و لا يوصفان بالنقص و إنما يوصف بالنقص كالزيادة و المساواة المكيل و الموزون فنسبة النقص إلى المكيال و الميزان من المجاز العقلي. 

  • و في تخصيص نقص المكيال و الميزان من بين معاصيهم بالذكر دلالة على شيوعه بينهم و إقبالهم عليه و إفراطهم فيه بحيث ظهر فساده و بان سيئ أثره فأوجب ذلك شدة اهتمامٍ به من داعي الحق فدعاهم إلى تركه بتخصيصه بالذكر من بين المعاصي. 

  • و قوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي أشاهدكم في خير، و هو ما أنعم الله تعالى عليكم من المال و سعة الرزق و الرخص و الخصب فلا حاجة لكم إلى نقص المكيال و الميزان، و اختلاس اليسير من أشياء الناس طمعا في ذلك من غير سبيله المشروع و ظلما و عتوا، و على هذا فقوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} تعليل لقوله: {وَ لاَ تَنْقُصُوا اَلْمِكْيَالَ وَ اَلْمِيزَانَ} 

تفسير الميزان ج۱۰

362
  • و يمكن تعميم الخير بأن يراد به أنكم مشمولون لعناية الله معنيون بنعمه آتاكم عقلا و رشدا و رزقكم رزقا فلا مسوغ لأن تعبدوا الآلهة من دونه و تشركوا به غيره، و أن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال و الميزان، و على هذا يكون تعليلا لما تقدمه من الجملتين أعني قوله: {اُعْبُدُوا اَللَّهَ} إلخ، و قوله: {وَ لاَ تَنْقُصُوا} إلخ، كما أن قوله: {وَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} كذلك. 

  • فمحصل قوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ} إلى آخر الآية أن هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله: أحدهما: أنكم في خير و لا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلها. و ثانيهما: أن وراء مخالفة أمر الله يوما محيطا يخاف عذابه. 

  • و ليس من البعيد أن يراد بقوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} : إني أراكم برؤية خير أي أنظر إليكم نظر الناصح المشفق الذي لا يصاحب نظره إلا الخير و لا يريد بكم غير السعادة، و على هذا يكون قوله: {وَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} كعطف التفسير بالنسبة إليه. 

  • و قوله: {وَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} يشير به إلى يوم القيامة أو يوم نزول عذاب الاستئصال و معنى كون اليوم و هو يوم القضاء بالعذاب محيطا أنه لا مخرج منه و لا مفر و لا ملاذ من دون الله فلا يدفع فيه ناصر و لا معين، و لا ينفع فيه توبة و لا شفاعة، و يئول معنى الإحاطة إلى كون العذاب قطعيا لا مناص منه، و معنى الآية أن للكفر و الفسوق عذابا غير مردود أخاف أن يصيبكم ذلك. 

  • قوله تعالى{وَ يَا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيَالَ وَ اَلْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَ لاَ تَبْخَسُوا اَلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} إلخ، الإيفاء إعطاء الحق بتمامه و البخس‌ النقص كرر القول في المكيال و الميزان بالأخذ بالتفصيل بعد الإجمال مبالغة في الاهتمام بأمرٍ لا غنى لمجتمعهم عنه، و ذلك أنه دعاهم أولا إلى الصلاح بالنهي عن نقص المكيال و الميزان، و عاد ثانيا فأمر بإيفاء المكيال و الميزان و نهى عن بخس الناس أشياءهم، إشارةً إلى أن مجرد التحرز عن نقص المكيال و الميزان لا يكفي في إعطاء هذا الأمر حقه و إنما نهى عنه أوّلاً لتكون معرفة إجمالية هي كالمقدمة لمعرفة التكليف تفصيلا بل يجب أن يوفي الكائل و الوازن مكياله و ميزانه و يعطياهما حقهما و لا يبخسا و لا ينقصا الأشياء المنسوبة إلى الناس بالمعاملة حتى يعلما أنهما أديا إلى الناس أشياءهم و ردا إليهم مالهم على ما هو عليه. 

تفسير الميزان ج۱۰

363
  • و قوله: {وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} قال الراغب: العيث و العثي‌ يتقاربان نحو جذب و جبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا و العثي فيما يدرك حكما يقال: عثي يعثى عثيا، و على هذا {وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} و عثا يعثو عثوا. انتهى. 

  • و على هذا فقوله: {مُفْسِدِينَ} حال من ضمير {لاَ تَعْثَوْا} لإفادة التأكيد نظير ما يفيده قولنا: لا تفسدوا إفسادا. 

  • و الجملة أعني قوله: {وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} نهي مستأنف عن الفساد في الأرض من قتل أو جرح أو أي ظلم مالي أو جاهي أو عرضي، لكن لا يبعد أن يستفاد من السياق كون الجملة عطفا تفسيريا للنهي السابق فيكون نهيا تأكيديا عن التطفيف و نقص المكيال و الميزان لأنه من الفساد في الأرض. 

  • بيان ذلك: أن الاجتماع المدني الدائر بين أفراد النوع الإنساني مبني على المبادلة حقيقة فما من مواصلة و مرابطة بين فردين من أفراد النوع إلا و فيه إعطاء و أخذ فلا يزال المجتمعون يتعاونون في شئون حياتهم يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما يماثله أو يزيد عليه و يدفع إليه نفعا ليجذب منه إلى نفسه نفعا و هو المعاملة و المبادلة. 

  • و من أظهر مصاديق هذه المبادلة المعاملات المالية و خاصة في الأمتعة التي لها حجم أو وزن مما يكتال أو يوزن فإن ذلك من أقدم ما تنبه الإنسان لوجوب إجراء سنة المبادلة فيه. 

  • فالمعاملات المالية و خاصة البيع و الشري من أركان حياة الإنسان الاجتماعية يقدر الواحد منهم ما يحتاج إليه في حياته الضرورية بالكيل أو الوزن، و ما يجب عليه أن يبذله في حذائه من الثمن ثم يسير في حياته بانيا لها على هذا التقدير و التدبير. 

  • فإذا خانه مُعامِلُه و نقص المكيال و الميزان من حيث لا يشعر هو فقد أفسد تدبيره و أبطل تقديره، و اختل بذلك نظام معيشته من الجهتين معا؛ من جهة ما يقتنيه من لوازم الحياة بالاشتراء و من جهة ما يبذله من الثمن الزائد الذي يتعب نفسه في تحصيله بالاكتساب فيسلب إصابة النظر و حسن التدبير في حياته و يتخبط في مسيرها خبط العشواء و هو الفساد. 

  • و إذا شاع ذلك في مجتمع فقد شاع الفساد فيما بينهم و لم يلبثوا دون أن يسلبوا 

تفسير الميزان ج۱۰

364
  • الوثوق و الاطمئنان و اعتماد بعضهم على بعض و يرتحل بذلك الأمن العام من بينهم و هو النكبة الشاملة التي تحيط بالصالح و الطالح و المطفف و الذي يوفي المكيال و الميزان على حد سواء، و عاد بذلك اجتماعهم اجتماعا على المكر و إفساد الحياة لا اجتماعا على التعاون لسعادتها، قال تعالى: {وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً} إسراء: - ٣٥. 

  • قوله تعالى{بَقِيَّتُ اَللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} البقية بمعنى الباقي و المراد به: الربح الحاصل للبائع و هو الذي يبقى له بعد تمام المعاملة فيضعه في سبيل حوائجه، و ذلك أن المبادلة و إن لم يوضع بالقصد الأول على أساس الاسترباح، و إنما كان الواحد منهم يقتني شيئا من متاع الحياة، فإذا كان يزيد على ما يحتاج إليه بدل الزائد المستغنى عنه من متاع آخر يحتاج إليه و لا يملكه، ثم أُخذت نفس التجارة و تبديل الأمتعة من الأثمان حرفة يكتسب بها المال و يقتنى بها الثروة فأخذ الواحد منهم متاعا من نوع واحد أو أنواع شتى و عرضه على أرباب الحاجة للمبادلة، و أضاف إلى رأس ماله فيه شيئا من الربح بإزاء عمله في الجمع و العرض و رضي بذلك الناس المشترون لما فيه من تسهيل أمر المبادلة عليهم، فللتاجر في تجارته ربح مشروع يرتضيه المجتمع بحسب فطرتهم يقوم معيشته و يحول إليه ثروة يقتنيها و يقيم بها صلب حياته. 

  • فالمراد أن الربح الذي هو بقية إلهية هداكم الله إليه من طريق فطرتكم هو خير لكم من المال الذي تقتنونه من طريق التطفيف و نقص المكيال و الميزان إن كنتم مؤمنين فإن المؤمن إنما ينتفع من المال بالمشروع الذي ساقه الله إليه من طريق حله، و أما غير ذلك مما لا يرتضيه الله و لا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير له فيه و لا حاجة له إليه. 

  • و قيل: إن الاشتراط بالإيمان في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} للدلالة على اشتراط الإيمان للعلم بذلك لا لأصله و المعنى إن كنتم مؤمنين علمتم صحة قولي: إن بقية الله خير لكم. 

  • و قيل معنى الآية ثواب طاعة الله ـ بكون البقية بمعنى ثواب الطاعة الباقي - خير لكم إن كنتم مؤمنين. و قيل غير ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۰

365
  • و قوله: {وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي و ما يرجع إلى قدرتي شي‌ء مما عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق و نعمة، فإنما أنا رسول ليس عليه إلا البلاغ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم و خيركم أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير إليكم أو دفع شر منكم فهو كقوله تعالى: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} الأنعام: - ١٠٤. 

  • قوله تعالى{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَ صَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} إلى آخر الآية، رد منهم لحجة شعيب عليه، و هو من ألطف التركيب، و مغزى مرادهم أنا في حرية فيما نختاره لأنفسنا من دين أو نتصرف به في أموالنا من وجوه التصرف و لست تملكنا حتى تأمرنا بكل ما أحببت أو تنهانا عن كل ما كرهت فإن ساءك شي‌ء مما تشاهد منا بما تصلي و تتقرب إلى ربك و أردت أن تأمر و تنهى فلا تتعد نفسك لأنك لا تملك إلا إياها. 

  • و قد أدوا مرادهم هذا في صورة بديعة مشوبة بالتهكم و اللوم معا و مسبوكة في قالب الاستفهام الإنكاري و هو أن الذي تريده منا من ترك عبادة الأصنام، و ترك ما شئنا من التصرف في أموالنا هو الذي بعثتك إليه صلاتك و شوهته في عينك فأمرتك به لما أنها ملكتك لكنك أردت منا ما أرادته منك صلاتك و لست تملكنا أنت و لا صلاتك لأننا أحرار في شعورنا و إرادتنا لنا أن نختار أي دين شئنا و نتصرف في أموالنا أي تصرف أردنا من غير حجر و لا منع و لم ننتحل إلا ديننا الذي هو دين آبائنا و لم نتصرف إلا في أموالنا و لا حجر على ذي مال في ماله. 

  • فما معنى أن تأمرك إياك صلاتك بشي‌ء و نكون نحن الممتثلون لما أمرتك به؟ و بعبارة أخرى ما معنى أن تأمرك صلاتك بفعلنا القائم بنا دونك؟ فهل هذا إلا سفها من الرأي؟ و إنك لأنت الحليم الرشيد و الحليم لا يعجل في زجر من يراه مسيئا و انتقام من يراه مجرما حتى ينجلي له وجه الصواب، و الرشيد لا يقدم على أمر فيه غي و ضلال فكيف أقدمت على مثل هذا الأمر السفهي الذي لا صورة له إلا الجهالة و الغي؟ 

  • و قد ظهر بهذا البيان أولا: أنهم إنما نسبوا الأمر إلى الصلاة لما فيها من البعث و الدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام و نقصهم المكيال و الميزان، 

تفسير الميزان ج۱۰

366
  • و هذا هو السر في تعبيرهم عن ذلك بقولهم: {أَ صَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ} إلخ، دون أن يقولوا: أ صلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أن التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك و لذلك عبر عنه شعيب بالنهي في جوابه عن قولهم إذ قال: {وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} و لم يقل إلى ما آمركم بتركه. و المراد على أي حال منعه إياهم عن عبادة الأصنام و التطفيف فافهم ذلك فإنه من لطائف هذه الآية التي ملئت لطافة و حسنا. 

  • و ثانيا: أنهم إنما قالوا: {أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} دون أن يقولوا: أن نترك آلهتنا أو أن نترك الأوثان ليشيروا بذلك إلى الحجة في ذلك و هي أن هذه الأصنام دام على عبادتها آباؤنا فهي سنة قومية لنا، و لا ضير في الجري على سنة قومية ورثها الخلف من السلف، و نشأ عليها الجيل بعد الجيل فإنا نعبد آلهتنا و ندوم على ديننا و هو دين آبائنا و نحفظ رسما مليا عن الضيعة. 

  • و ثالثا: أنهم إنما قالوا: {أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا} فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم ليكون في ذلك إيماء إلى الحجة فإن الشي‌ء إذا صار مالا لأحد لم يشك ذو ريب في أن له أن يتصرف فيه و ليس لغيره ممن يعترف بماليته له أن يعارضه في ذلك، و للمرء أن يسير في مسير الحياة و يتدبر في أمر المعيشة بما يستطيعه من الحذق و الاحتيال، و يهديه إليه الذكاء و الكياسة. 

  • و رابعا: أن قولهم: {أَ صَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ} إلى قوله: {إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ} مبني على التهكم و الاستهزاء إلا أن التهكم في تعليقهم أمر الصلاة شعيبا على تركهم ما يعبد آباؤهم، و كذا في نسبة الأمر إلى الصلاة لا غير، و أما نسبة الحلم و الرشد إليه فليس فيها تهكم و استهزاء، و لذلك أكد قوله: {إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ} بإن و اللام و إتيان الخبر جملة اسمية ليكون أقوى في إثبات الحلم و الرشد له فيصير أبلغ في ملامته و الإنكار عليه، و أن الذي لا شك في حلمه و رشده قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهي، و ينتهض على سلب حرية الناس و استقلالهم في الشعور و الإرادة. 

  • و ظهر بذلك أن ما ذكره كثير منهم أنهم وصفوه بالحلم و الرشد على سبيل الاستهزاء ـ يعنون به أنه موصوف بضدهما و هو الجهالة و الغي ـ ليس بصواب. 

تفسير الميزان ج۱۰

367
  • قوله تعالى{قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} إلى آخر الآية، المراد بكونه على بينة من ربه كونه على آية بينة و هي آية النبوة و المعجزة الدالة على صدق النبي في دعوى النبوة، و المراد بكونه رزق من الله رزقا حسنا أن الله آتاه من لدنه وحي النبوة المشتمل على أصول المعارف و الشرائع، و قد مر توضيح نظير هاتين الكلمتين فيما تقدم. 

  • و المعنى: أخبروني إن كنت رسولا من الله إليكم و خصني بوحي المعارف و الشرائع و أيدني بآية بينة يدل على صدق دعواي فهل أنا سفيه في رأيي؟ و هل ما أدعوكم إليه دعوة سفهية؟ و هل في ذلك تحكم مني عليكم أو سلب مني لحريتكم؟ فإنما هو الله المالك لكل شي‌ء و لستم بأحرار بالنسبة إليه بل أنتم عباده يأمركم بما شاء، و له الحكم و إليه ترجعون. 

  • و قوله: {وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} تعدية المخالفة بإلى لتضمينه معنى ما يتعدى بها كالميل و نحوه؟ و التقدير: أخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم عنه أو أميل إلى ما أنهاكم عنه مخالفا لكم. 

  • و الجملة جواب عن ما اتهموه به أنه يريد أن يسلب عنهم الحرية في أعمالهم و يستعبدهم و يتحكم عليهم، و محصله أنه لو كان مريدا ذلك لخالفهم فيما ينهاهم عنه، و هو لا يريد مخالفتهم فلا يريد ما اتهموه به و إنما يريد الإصلاح ما استطاع. 

  • توضيحه: أن الصنع الإلهي و إن أنشأ الإنسان مختارا في فعله حرا في عمله له أن يميل في مظان العمل إلى كل من جانبي الفعل و الترك فله بحسب هذه النشأة حرية تامة بالقياس إلى بني نوعه الذين هم أمثاله و أشباهه في الخلقة لهم ما له و عليهم ما عليه فليس لأحد أن يتحكم على آخر عن هوى من نفسه. 

  • إلا أنه أفطره على الاجتماع فلا تتم له الحياة إلا في مجتمع من أفراد النوع يتعاون فيه الجميع على رفع حوائج الجميع ثم يختص كل منهم بما له من نصيب بمقدار ما له من الزنة الاجتماعية، و من البديهي أن الاجتماع لا يقوم على ساق إلا بسنن و قوانين تجري فيها، و حكومة يتولاها بعضهم تحفظ النظم و تُجري القوانين؛ كل ذلك على حسب ما يدعو إليه مصالح المجتمع. 

  • فلا مناص من أن يفدي المجتمعون بعض حريتهم قبال القانون و السنة الجارية 

تفسير الميزان ج۱۰

368
  • بالحرمان من الانطلاق و الاسترسال ليسعدوا لذلك بنيل بعض مشتهياتهم و إحياء البعض الباقي من حريتهم. 

  • فالإنسان الاجتماعي لا حرية له قبال المسائل الحيوية التي تدعو إليه مصالح المجتمع و منافعه، و الذي يتحكمه الحكومة في ذلك من الأمر و النهي ليس من الاستعباد و الاستكبار في شي‌ء إذ إنها إنما يتحكم فيما لا حرية للإنسان الاجتماعي فيه، و كذا الواحد من الناس المجتمعين إذا رأى من أعمال إخوانه المجتمعين ما يضر بحال المجتمع أو لا ينفع لإبطاله ركنا من أركان المصالح الأساسية فيها فبعثه ذلك إلى وعظهم بما يرشدهم إلى اتباع سبيل الرشد فأمرهم بما يجب عليهم العمل به و نهاهم عن اقتراف ما يجب عليهم الانتهاء عنه لم يكن هذا الواحد متحكما عن هوى النفس مستعبدا للأحرار المجتمعين من بني نوعه فإنه لا حرية لهم قبال المصالح العالية و الأحكام اللازمة المراعاة في مجتمعهم، و ليس ما يلقيه إليهم من الأمر و النهي في هذا الباب أمرا أو نهيا له في الحقيقة بل كان أمرا و نهيا ناشئين عن دعوة المصالح المذكورة قائمين بالمجتمع من حيث هو مجتمع بشخصيته الوسيعة، و إنما الواحد الذي يلقي إليهم الأمر و النهي بمنزلة لسان ناطق لا يزيد على ذلك. 

  • و أمارة ذلك أن يأتمر هو نفسه بما يأمر به و ينتهي هو نفسه عما ينهى عنه من غير أن يخالف قوله فعله و نظره عمله، إذ الإنسان مطبوع على التحفظ على منافعه و رعاية مصالحه فلو كان فيما يدعو إليه غيره من العمل خير و هو مشترك بينهما لم يخالفه بشخصه، و لم يترك لنفسه ما يستحسنه لغيره، و لذلك قال (عليه السلام) فيما ألقاه إليهم من الجواب: {وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} و قال أيضا كما حكاه الله تتميما للفائدة و دفعا لأي تهمة تتوجه إليه {وَ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} الشعراء: - ١٨٠. 

  • فهو (عليه السلام) يشير بقوله: {وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ} إلخ، إلى أن الذي ينهاهم عنه من الأمور التي فيها صلاح مجتمعهم الذي هو أحد أفراده، و يجب على الجميع مراعاتها و ملازمتها، و ليس اقتراحا استعباديا عن هوى من نفسه، و لذلك عقبه بقوله: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاَحَ مَا اِسْتَطَعْتُ} 

  • و ملخص المقام أنهم لما سمعوا من شعيب (عليه السلام) الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام 

تفسير الميزان ج۱۰

369
  • و التطفيف ردوه بأن ذلك اقتراح منه مخالف لما هم عليه من الحرية الإنسانية التي تسوغ لهم أن يعبدوا من شاءوا و يفعلوا في أموالهم ما شاءوا. 

  • فرد عليهم شعيب (عليه السلام) بأن الذي يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه حتى ينافي مسألتهم ذلك حريتهم و يبطل به استقلالهم في الشعور و الإرادة بل هو رسول من ربهم إليهم و له على ذلك آية بينة، و الذي أتاهم به من عند الله الذي يملكهم و يملك كل شي‌ء و هم عباده لا حرية لهم قباله، و لا خيرة لهم فيما يريده منهم. 

  • على أن الذي ألقاه إليهم من الأمور التي فيها صلاح مجتمعهم و سعادة أنفسهم في الدنيا و الآخرة، و أمارة ذلك أنه لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه بل هو مثلهم في العمل به، و إنما يريد الإصلاح ما استطاع، و لا يريد منهم على ذلك أجرا إن أجره إلا على رب العالمين. 

  • و قوله: {وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ} في مقام الاستثناء من الاستطاعة فإنه (عليه السلام) لما ذكر لهم أنه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع و العمل الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة و في ضوئها أثبت لنفسه استطاعة و قدرة، و ليست للعبد باستقلاله و حيال نفسه استطاعة دون الله سبحانه، أتم ما في كلامه من النقص و القصور بقوله: {وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} أي إن الذي يترشح من إرادتي باستطاعة مني من تدبير أمور مجتمعكم و توفيق الأسباب بعضها ببعض الناتجة لسعادته إنما هو بالله سبحانه لا غنى عنه و لا مخرج من إحاطته و لا استقلال في أمر دونه فهو الذي أعطاني ما هو عندي من الاستطاعة، و هو الذي يوفق الأسباب من طريق استطاعتي فاستطاعتي منه و توفيقي به. 

  • بين (عليه السلام) هذه الحقيقة، و اعترف بأن توفيقه بالله، و ذلك من فروع كونه تعالى هو الفاطر لكل نفس و الحافظ عليها و القائم على كل نفس بما كسبت كما قال‌ {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} الفاطر: - ١، و قال {وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ حَفِيظٌ} السبأ: - ٢١، و قال {أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الرعد: - ٣٣، و قال {إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ} الفاطر: - ٤١ و محصله أنه تعالى هو الذي أبدع الأشياء و أعمالها و الروابط التي بينها و أظهرها بالوجود، 

تفسير الميزان ج۱۰

370
  • و هو الذي قبض على كل شي‌ء فأمسكه و أمسك آثاره و الروابط التي بينها أن تزول و تغيب وراء ستر البطلان. 

  • و لازم ذلك أنه تعالى وكيل كل شي‌ء في تدبير أموره فهي منسوبة إليه تعالى في تحققها و تحقق الروابط التي بينها لما أنه محيط بها قاهر عليها و لها مع ذلك نسبة إلى ذلك الشي‌ء بإذنه تعالى. 

  • و من الواجب للعبد العالم بمقام ربه العارف بهذه الحقيقة أن يمثلها بإنشاء التوكل على ربه و الإنابة و الرجوع إليه، و لذلك لما ذكر شعيب (عليه السلام) أن توفيقه بالله عقبه بإنشاء التوكل و الإنابة فقال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ} 

  • (كلام في معنى حرية الإنسان في عمله) 

  • الإنسان بحسب الخلقة موجود ذو شعور و إرادة له أن يختار لنفسه ما يشاء من الفعل، و بعبارة أخرى: له في كل فعل يقف عليه أن يختار جانب الفعل و له أن يختار جانب الترك، فكل فعل من الأفعال الممكنة الإتيان إذا عرض عليه كان هو بحسب الطبع واقفا بالنسبة إليه على نقطة يلتقي فيها طريقان: الفعل و الترك، فهو مضطر في التلبس و الاتصاف بأصل الاختيار، لكنه مختار في الأفعال المنتسبة إليه الصادرة عنه باختياره، أي إنه مطلق العنان بالنسبة إلى الفعل و الترك بحسب الفطرة غير مقيد بشي‌ء من الجانبين و لا مغلول، و هو المراد بحرية الإنسان تكوينا. 

  • و لازم هذه الحرية التكوينية حرية أخرى تشريعية يتقلد بها في حياته الاجتماعية و هو أن له أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة و يعمل بما شاء من العمل، و ليس لأحد من بني نوعه أن يستعلي عليه فيستعبده و يتملك إرادته و عمله، فيحمل بهوى نفسه عليه ما يكرهه؛ فإن أفراد النوع أمثال لكل منهم ما لغيره من الطبيعة الحرة، قال تعالى: {وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ} آل عمران: - ٦٤ و قال {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} إلى أن قال {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اَللَّهِ} آل عمران: - ٧٩. 

تفسير الميزان ج۱۰

371
  • هذا ما للإنسان بالقياس إلى أمثاله من بني نوعه، و أما بالقياس إلى العلل و الأسباب الكونية التي أوجدت الطبيعة الإنسانية فلا حرية له قبالها فإنها تملكه و تحيط به من جميع الجهات و تقلبه ظهرا لبطن، و هي التي بإنشائها و نفوذ أمرها فعلت بالإنسان ما فعلت فأظهرته على ما هو عليه من البنيان و الخواص من غير أن يكون له الخيرة من أمره فيقبل ما يحبه و يرد ما يكرهه بل كان كما أريد لا كما أراد، حتى إن أعمال الإنسان الاختيارية و هي ميدان الحرية الإنسانية إنما تطيع الإنسان فيما أذنت فيه هذه العلل و الأسباب فليس كل ما أحبه الإنسان و أراده بواقع، و لا هو في كل ما اختاره لنفسه بموفق له، و هو ظاهر. 

  • و هذه العلل و الأسباب هي التي جهزت الإنسان بجهازات تذكّره حوائجه و نواقص وجوده، و تبعثه إلى أعمال فيها سعادته و ارتفاع نواقصه و حوائجه كالغاذية مثلا التي تذكره الجوع و العطش و تهديه إلى الخبز و الماء لتحصيل الشبع و الري و هكذا سائر الجهازات التي في وجوده.

  • ثم إن هذه العلل و الأسباب أوجبت إيجابا تشريعيا على الإنسان الفرد أموراً ذات مصالح واقعية لا يسعه إنكارها و لا الاستنكاف بالاستغناء عنها كالأكل و الشرب و الإيواء و الاتقاء من الحر و البرد و الدفاع تجاه كل ما يضاد منافع وجوده. 

  • ثم أفطرته بالحياة الاجتماعية فأذعن بوجوب تأسيس المجتمع المنزلي و المدني و السير في مسير التعاون و التعامل، و يضطره ذلك إلى الحرمان عن موهبة الحرية من جهتين: 

  • إحداهما أن الاجتماع لا يتم من الفرد إلا بإعطائه الأفراد المتعاونين له حقوقا متقابلة محترمة عنده ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها، و ذلك بأن يعمل للناس كما يعملون له، و ينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم، و يحرم عن الانطلاق و الاسترسال في العمل على حسب ما يحرمهم فليس له أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد بل هو حر فيما لا يزاحم حرية الآخرين، و هذا حرمان عن بعض الحرية للحصول على بعضها. 

  • و ثانيتهما: أن المجتمع لا يقوم له صلب دون أن يجري فيه سنن و قوانين يتسلمها الأفراد المجتمعون أو أكثرهم، تضمن تلك السننُ و القوانين منافعَهم العامة بحسب 

تفسير الميزان ج۱۰

372
  • ما للاجتماع من الحياة الراقية أو المنحطة الردية، و يستحفظ بها مصالحهم العالية الاجتماعية. 

  • و من المعلوم أن احترام السنن و القوانين يسلب الحرية عن المجتمعين في مواردها، فالذي يستنّ سنة أو يقنن قانونا ـ سواء كان هو عامة المجتمعين أو المندوبين منهم أو السلطان أو كان هو الله و رسوله على حسب اختلاف السنن و القوانين ـ يحرم الناسَ بعض حريتهم ليحفظ به البعض الآخر منها، قال الله تعالى: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ} القصص: - ٦٨، و قال تعالى: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً} الأحزاب: - ٣٦. 

  • فتلخص أن الإنسان إنما هو حرّ بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوى من أنفسهم، و أما بالنسبة إلى ما تقتضيه مصالحه الملزمة و خاصة المصالح الاجتماعية العامة على ما تهديه إليها و إلى مقتضياتها العلل و الأسباب فلا حرية له البتة، و لا أن الدعوة إلى سنة أو أي عمل يوافق المصالح الإنسانية من ناحية القانون أو من بيده إجراؤه أو الناصح المتبرع الذي يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر متمسكا بحجة بينة، من التحكم الباطل و سلب الحرية المشروعة في شي‌ء. 

  • ثم إن العلل و الأسباب المذكورة و ما تهدي إليه من المصالح مصاديق لإرادة الله سبحانه أو إذنه على ما يهدي إليه و يبينه تعليم التوحيد في الإسلام فهو سبحانه المالك على الإطلاق، و ليس لغيره إلا المملوكية من كل جهة، و لا للإنسان إلا العبودية محضا فمالكيته المطلقة تسلب أي حرية متوهمة للإنسان بالنسبة إلى ربه كما أنها هي تعطيه الحرية بالقياس إلى سائر بني نوعه كما قال تعالى: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللَّهَ وَ لاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ} آل عمران: - ٦٤. 

  • فهو سبحانه الحاكم على الإطلاق و المطاع من غير قيد و شرط كما قال: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} و قد أعطى حق الأمر و النهي و الطاعة لرسله و لأولي الأمر و للمؤمنين من الأمة الإسلامية فلا حرية لأحد قبال كلمة الحق التي يأتون به و يدعون إليه، قال تعالى: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} النساء: - ٥٩، و قال 

تفسير الميزان ج۱۰

373
  • تعالى: {وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ} التوبة: - ٧١. 

  • [رجوع إلى البيان]

  • قوله تعالى{وَ يَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} الجَرْم‌ بالفتح فالسكون على ما ذكره الراغب: قطع الثمرة عن الشجر و قد استعير لكل اكتساب مكروه، و الشقاق‌ المخالفة و المعاداة. و المعنى: احذروا أن يكتسب لكم مخالفتي و معاداتي بسبب ما أدعوكم إليه إصابة مصيبة مثل مصيبة قوم نوح و هي الغرق أو قوم هود و هي الريح العقيم أو قوم صالح و هي الصيحة و الرجفة. 

  • و قوله: {وَ مَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} أي لا فصل كثيرا بين زمانهم و زمانكم و قد كانت الفاصلة الزمانية بين القومين أقل من ثلاثة قرون، و قد كان لوط معاصرا لإبراهيم (عليه السلام) و شعيب معاصرا لموسى (عليه السلام) . 

  • و قيل: المراد به نفي البعد المكاني، و الإشارة إلى أن بلادهم الخربة قريبة منكم لقرب مدين من سدوم و هو بالأرض المقدسة، فالمعنى: و ما مكان قوم لوط منكم ببعيد تشاهدون مدائنهم المخسوفة و آثارهم الباقية الظاهرة. و السياق لا يساعد عليه و التقدير خلاف الأصل لا يصار إليه إلا بدليل. 

  • قوله تعالى{وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} قد تقدم الكلام في معنى قوله: {وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي استغفروا الله من ذنوبكم و ارجعوا إليه بالإيمان به و برسوله إن الله ذو رحمة و مودة يرحم المستغفرين التائبين و يحبهم. 

  • و قد قال أولا: {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} فأضاف الرب إليهم ثم قال في مقام تعليله: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} و لعل الوجه فيه أنه ذكر في مرحلة الأمر بالاستغفار و التوبة من الله سبحانه صفة ربوبيته لأنها الصفة التي ترتبط بها العبادة و منها الاستغفار و التوبة، و أضاف ربوبيته إليهم بقوله: {رَبَّكُمْ} لتأكيد الارتباط و للإشعار بأنه هو ربهم لا ما يتخذونها من الأرباب من دون الله. 

  • و كان من حق الكلام أن يقول في تعليله: إن ربكم رحيم ودود لكنه لما كان مع كونه تعليلا ثناء على الله سبحانه، و قد أثبت سابقا أنه رب القوم أضافه ثانيا 

تفسير الميزان ج۱۰

374
  • إلى نفسه ليفيد الكلام بمجموعه معنى أن ربكم و ربي رحيم ودود. 

  • على أن في هذه الإضافة معنى المعرفة و الخبرة فتفيد تأييدا لصحة القول فإنه في معنى أنه تعالى رحيم ودود و كيف لا؟ و هو ربي أعرفه بهذين الوصفين. 

  • و الودود من أسماء الله تعالى، و هو فعول من الود بمعنى الحب إلا أن المستفاد من موارد استعماله أنه نوع خاص من المحبة و هو الحب الذي له آثار و تبعات ظاهرة كالألفة و المراودة و الإحسان، قال تعالى: {وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً} الروم: - ٢١. 

  • و الله سبحانه يحب عباده و يظهر آثار حبه بإفاضة نعمه عليهم {وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} إبراهيم: - ٣٤ فهو تعالى ودود لهم. 

  • قوله تعالى{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} إلى آخر الآية، الفقه‌ أبلغ من الفهم و أقوى، و رهط الرجل عشيرته و قومه، و قيل: 

  • إنه من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة و على هذا ففي قولهم: رهطك، إشارة إلى قلتهم و هوان أمرهم، و الرجم‌ هو الرمي بالحجارة. 

  • لما حاجهم شعيب (عليه السلام) و أعياهم بحجته لم يجدوا سبيلا دون أن يقطعوا عليه كلامه من غير طريق الحجة فذكروا له: 

  • أولا: أن كثيرا مما يقوله غير مفهوم لهم فيذهب كلامه لغى لا أثر له، و هذا كناية عن أنه يتكلم بما لا فائدة فيه. 

  • ثم عقبوه بقولهم: {وَ إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} أي لا نفهم ما تقول و لست قويا فينا حتى تضطرنا قوتك على الاجتهاد في فهم كلامك و الاهتمام بأخذه، و السمع و القبول له فإنا لا نراك فينا إلا ضعيفا لا يعبأ بأمره و لا يلتفت إلى قوله. 

  • ثم هددوه بقولهم: {وَ لَوْ لاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} أي و لو لا هذا النفر القليل الذين هم عشيرتك لرجمناك لكنا نراعي جانبهم فيك، و في تقليل العشيرة إيماء إلى أنهم لو أرادوا قتله يوما قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، و إنما كفهم عن قتله نوع احترام و تكريم منهم لعشيرته. 

  • ثم عقبوه بقولهم: {وَ مَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} تأكيدا لقولهم: {لَوْ لاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} أي لست بقوي منيعٍ جانباً علينا حتى يمنعنا ذلك من قتلك بشر القتل، 

تفسير الميزان ج۱۰

375
  • و إنما يمنعنا رعاية جانب رهطك. فمحصل قولهم إهانة شعيب و أنهم لا يعبئون به و لا بما قال، و إنما يراعون في ترك التعرض له جانب رهطه. 

  • قوله تعالى{قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اَللَّهِ وَ اِتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} الظهري‌ نسبة إلى الظهر بفتح الظاء المعجمة و إنما غير بالنسب و هو الشي‌ء الذي وراء الظهر فيترك نسيا منسيا يقال: اتخذه وراءه ظهريا أي نسيه و لم يذكره و لم يعتن به. 

  • و هذا نقض من شعيب لقولهم: {وَ لَوْ لاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} أي كيف تعززون رهطي و تحترمون جانبهم، و لا تعززون الله سبحانه و لا تحترمون جانبه و إني أنا الذي أدعوكم إليه من جانبه؟ فهل رهطي أعز عليكم من الله؟ و قد جعلتموه نسيا منسيا و ليس لكم ذلك و ما كان لكم أن تفعلوه؛ إن ربي بما تعملون محيط بما له من الإحاطة بكل شي‌ء وجودا و علما و قدرة. و في الآية طعن في رأيهم بالسفه كما طعنوا في الآية السابقة في رأيه بالهوان. 

  • قوله تعالى{وَ يَا قَوْمِ اِعْمَلُوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} إلى آخر الآية. قال في المجمع: المكانة الحال التي يتمكن بها صاحبها من عمل. انتهى و هو في الأصل ـ كما قيل ـ من مكن مكانة كضخم ضخامة إذا قوي على العمل كل القوة و يقال تمكن من كذا أي أحاط به قوة. 

  • و هذا تهديد من شعيب لهم أشد التهديد؛ فإنه يشعر بأنه على وثوق مما يقول لا يأخذه قلق و لا اضطراب من كفرهم به و تمردهم عن دعوته، فليعملوا على ما لهم من القوة و التمكن فلهم عملهم و له عمله، فسوف يفاجئهم عذاب مخزٍ يعلمون عند ذلك من هو الذي يأخذه العذاب؛ هم أو هو؟ و يعلمون من هو كاذب؟ فليرتقبوا و هو معهم رقيب لا يفارقهم. 

  • قوله تعالى{وَ لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً} إلى قوله: {جَاثِمِينَ} تقدم ما يتضح به معنى الآية. 

  • قوله تعالى{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} غني‌ في المكان إذا أقام فيه. و قوله: {أَلاَ بُعْداً لِمَدْيَنَ} إلخ. فيه لعنهم كما لعنت ثمود، و قد تقدم بعض الكلام فيه في القصص السابقة. 

تفسير الميزان ج۱۰

376
  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي قال:قال: بعث الله شعيبا إلى مدين و هي قرية على طريق الشام فلم يؤمنوا به. 

  • و في تفسير العياشي عن أحمد بن محمد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول الله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} قال: كان سعرهم رخيصا

  • و فيه عن محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن انتظار الفرج فقال: أ و ليس تعلم أن انتظار الفرج من الفرج؟ ثم قال: إن الله تبارك و تعالى يقول: {وَ اِرْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} .

  • أقول: قوله: ليس تعلم بمعنى لا تعلم و هي لغة مولدة. 

  • و في المعاني بإسناده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: فقوله عز و جل: {وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} و قوله عز و جل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} ؟ فقال: إذا فعل العبد ما أمر الله عز و جل به من الطاعة كان فعله وفقا لأمر الله عز و جل و سمي العبد موفقا، و إذا أراد العبد أن يدخل في شي‌ء من معاصي الله فحال الله تبارك و تعالى بينه و بين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى، و متى خلى بينه و بين المعصية فلم يحل بينه و بينها حتى يتركها فقد خذله و لم ينصره و لم يوفقه. 

  • أقول: محصل بيانه (عليه السلام) أن توفيقه تعالى و خذلانه من صفاته الفعلية فالتوفيق هو نظمه الأسباب بحيث تؤدي العبد إلى العمل الصالح أو عدم إيجاده بعض الأسباب التي يستعان بها على المعصية، و الخذلان خلاف ذلك. و على ذلك فمتعلق التوفيق الأسباب لأنه إيجاد التوافق بينها و هي المتصفة بها، و أما توصيف العبد به فمن قبيل الوصف بحال المتعلق. 

  • و في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال: قلت: يا رسول الله أوصني. قال: قل: ربي الله ثم استقم. قلت: ربي الله و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب. قال: ليهنئك العلم أبا الحسن لقد شربت العلم شربا و نهلته نهلا.

  • أقول: و قد تقدمت الإشارة إلى نبذة من معنى الجملة. 

  • و فيه أخرج الواحدي و ابن عساكر عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله 

تفسير الميزان ج۱۰

377
  • (صلى الله عليه وآله و سلم) : بكى شعيب (عليه السلام) من حب الله حتى عمي فرد الله عليه بصره، و أوحى الله إليه: يا شعيب ما هذا البكاء؟ أ شوقا إلى الجنة أم خوفا من النار؟ فقال: لا و لكن اعتقدت حبك بقلبي، فإذا نظرت إليك فما أبالي ما الذي تصنع بي؟ فأوحى الله إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي، يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي. 

  • أقول: المراد بالنظر إليه تعالى هو النظر القلبي دون النظر الحسي المستلزم للجسمية، تعالى عن ذلك، و قد تقدم توضيحه في تفسير قوله تعالى: {وَ لَمَّا جَاءَ مُوسى لِمِيقَاتِنَا} الأعراف: - ١٤٣ في الجزء الثامن من الكتاب. 

  • و فيه أخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه خطب فتلا هذه الآية في شعيب: {وَ إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} قال: كان مكفوفا فنسبوه إلى الضعف. {وَ لَوْ لاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} قال علي: فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم ما هابوا إلا العشيرة.

  •  

  • (كلام في قصة شعيب و قومه في القرآن في فصول) 

  • ١ - قصته عليه السلام 

  • هو (عليه السلام) ثالث الرسل من العرب الذين ذكرت أسماؤهم في القرآن و هم هود و صالح و شعيب و محمد (عليه السلام) ذكر الله تعالى طرفا من قصصه في سور الأعراف و هود و الشعراء و القصص و العنكبوت. 

  • كان (عليه السلام) من أهل مدين مدينة في طريق الشام من الجزيرة و كان معاصرا لموسى (عليه السلام) ، و قد زوجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني حجج و إن أتم عشرا فمن عنده (القصص: ٢٧) فخدمه موسى عشر سنين ثم ودعه و سار بأهله إلى مصر. 

  • و كان قومه من أهل مدين يعبدون الأصنام و كانوا قوما منعمين بالأمن و الرفاهية و الخصب و رخص الأسعار فشاع الفساد بينهم و التطفيف بنقص المكيال و الميزان (هود: ٨٤ و غيرها) فأرسل الله إليهم شعيبا و أمره أن ينهاهم عن عبادة الأصنام و عن الفساد في الأرض و نقص المكيال و الميزان فدعاهم إلى ما أمر به و وعظهم بالإنذار و التبشير و ذكرهم ما أصاب قوم نوح و قوم هود و قوم صالح و قوم لوط. 

تفسير الميزان ج۱۰

378
  • و بالغ (عليه السلام) في الاحتجاج عليهم و عظتهم فلم يزدهم إلا طغيانا و كفرا و فسوقا (الأعراف و هود و غيرهما من السور) و لم يؤمنوا به إلا عدة قليلة منهم فأخذوا في إيذائهم و السخرية بهم و تهديدهم عن اتباع شعيب (عليه السلام) ، و كانوا يقعدون بكل صراط يوعدون و يصدون عن سبيل الله من آمن به و يبغونها عوجا (الأعراف: ٨٦) . 

  • و أخذوا يرمونه (عليه السلام) بأنه مسحور و أنه كاذب (الشعراء: ١٨٥، ١٨٦) و أخافوه بالرجم، و هددوه و الذين آمنوا به بالإخراج من قريتهم أو ليعودن في ملتهم (الأعراف: ٨٨) و لم يزالوا به حتى أيأسوه من إيمانهم فتركهم و أنفسهم (هود: ٩٣) و دعا الله بالفتح قال: ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين. 

  • فأرسل الله إليهم عذاب يوم الظلة (الشعراء: ١٨٩) و قد كانوا يستهزءون به أن أسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين و أخذتهم الصيحة (هود: ٩٤) و الرجفة (الأعراف: ٩١ - العنكبوت: ٣٧) فأصبحوا في ديارهم جاثمين و نجى شعيبا و من معه من المؤمنين (هود: ٩٤) {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كَافِرِينَ} : الأعراف: - ٩٣.

  • ٢ - شخصيته المعنوية

  • كان (عليه السلام) من زمرة الرسل المكرمين و قد أشركه الله تعالى فيما أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه، و قد حكى عنه فيما كلم به قومه و خاصة في سور الأعراف و هود و الشعراء شيئا كثيرا من حقائق المعارف و العلوم الإلهية و الأدب البارع مع ربه و مع الناس. 

  • و قد سمى نفسه الرسول الأمين (الشعراء: ١٧٨) و مصلحا (هود: ٨٨) و أنه من الصالحين (الشعراء: ٢٧) فحكى الله ذلك عنه حكاية إمضاء، و قد خدمه الكليم موسى بن عمران (عليه السلام) زهاء عشر سنين سلام الله عليه. 

  • ٣ - ذكره في التوراة

  • لم تقص التوراة قصته مع قومه و إنما أشارت إليه في ضمن ما ذكرت قصة قتل موسى القبطي و فراره من مصر إلى مديان (القصة) فسمته «رعوئيل كاهن مديان».۱ 

    1. الإصحاح الثاني من سفر الخروج من التوراة. 

تفسير الميزان ج۱۰

379
  • [سورة هود (١١) : الآیات ٩٦ الی ٩٩]

  • {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسى بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ ٩٦ إلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ مَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ٩٧ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ ٩٨ وَ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ ٩٩} 

  • (بيان) 

  • إشارة إلى قصة موسى الكليم (عليه السلام) ، و هو أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن ذكر باسمه في مائة و نيف و ثلاثين موضعا منه في بضع و ثلاثين سورة و قد اعتنى بتفصيل قصته أكثر من غيره غير أنه تعالى أجمل القول فيها في هذه السورة فاكتفى بالإشارة الإجمالية إليها. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسى بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ} الباء في قوله: {بِآيَاتِنَا} للمصاحبة أي و لقد أرسلنا موسى مصحوبا لآياتنا و ذلك أن الذين بعثهم الله من الأنبياء و الرسل و أيدهم بالآيات المعجزة طائفتان منهم من أوتي الآية المعجزة على حسب ما اقترحه قومه كصالح (عليه السلام) المؤيد بآية الناقة، و طائفة أيدوا بآية من الآيات في بدء بعثتهم كموسى و عيسى و محمد (عليه السلام) ، كما قال تعالى خطابا لموسى (عليه السلام) {اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي} طه: - ٤٢، و قال في عيسى (عليه السلام) {وَ رَسُولاً إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} الخ: آل عمران: - ٤٩، و قال في محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) {هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى } الصف: - ٩، و الهدى القرآن بدليل قوله: {ذَلِكَ اَلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} البقرة: - ٢، و قال تعالى: {وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} الأعراف: - ١٥٧. 

تفسير الميزان ج۱۰

380
  • فموسى (عليه السلام) مرسل مع آيات و سلطان مبين، و ظاهر أن المراد بهذه الآيات الأمور الخارقة التي كانت تجري على يده، و يدل على ذلك سياق قصصه (عليه السلام) في القرآن الكريم. 

  • و أما السلطان و هو البرهان و الحجة القاطعة التي يتسلط على العقول و الأفهام فيعم الآية المعجزة و الحجة العقلية، و على تقدير كونه بهذا المعنى يكون عطفه على الآيات من قبيل عطف العام على الخاص. 

  • و ليس من البعيد أن يكون المراد بإرساله بسلطان مبين أن الله سبحانه سلطه على الأوضاع الجارية بينه و بين آل فرعون ذاك الجبار الطاغي الذي ما ابتلي بمثله أحد من الرسل غير موسى (عليه السلام) لكن الله تعالى أظهر موسى عليه حتى أغرقه و جنوده و نجى بني إسرائيل بيده، و يشعر بهذا المعنى قوله: {قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغى قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ} طه: - ٤٦، و قوله لموسى (عليه السلام) {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى } طه: - ٦٨. 

  • و في هذه الآية و نظائرها دلالة واضحة على أن رسالة موسى (عليه السلام) ما كانت تختص بقومه من بني إسرائيل بل كانت تعمهم و غيرهم. 

  • قوله تعالى{إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ مَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} نسبة رسالته إلى فرعون و ملئه و الملأ هم أشراف القوم و عظماؤهم الذين يملئون القلوب هيبة دون جميع قومه لعلها للإشارة إلى أن عامتهم لم يكونوا إلا أتباعا لا رأي لهم إلا ما رآه لهم عظماؤهم. 

  • و قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} إلخ، الظاهر أن المراد بالأمر ما هو الأعم من القول و الفعل كما حكى الله عن فرعون في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} المؤمن: - ٢٩، فينطبق على السنة و الطريقة التي كان يتخذها و يأمر بها. و كأن الآية محاذاةٌ لقول فرعون هذا فكذبه الله تعالى بقوله: {وَ مَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} 

  • و الرشيد فعيل من الرشد خلاف الغي أي و ما أمر فرعون بذي رشد حتى يهدي إلى الحق بل كان ذا غي و جهالة، و قيل: الرشيد بمعنى المرشد. 

تفسير الميزان ج۱۰

381
  • و في الجملة أعني قوله: {وَ مَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} وضع الظاهر موضع المضمر و الأصل «أمره» و لعل الفائدة فيه ما يفيده اسم فرعون من الدليل على عدم رشد الأمر و لا يستفاد ذلك من الضمير البتة. 

  • قوله تعالى{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ} أي يقدم فرعون قومه فإنهم اتبعوا أمره فكان إماما لهم من أئمة الضلال، قال تعالى: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ} القصص: - ٤١. 

  • و قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ} تفريع على سابقه أي يقدمهم فيوردهم النار، و التعبير بلفظ الماضي لتحقق الوقوع، و ربما قيل: تفريع على قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي اتبعوه فأوردهم الاتباع النار، و قد استدل لتأييد هذا المعنى بقوله: {وَ حَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذَابِ اَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذَابِ} المؤمن: - ٤٦ حيث تدل الآيات على تعذيبهم من حين الموت قبل يوم القيامة هذا، و لا يخفى أن الآيات ظاهرة في خلاف ما استدل بها عليه لتعبيرها في العذاب قبل يوم القيامة بالعرض غدوا و عشيا، و في يوم القيامة بالدخول في أشد العذاب الذي سجل فيها أنه النار. 

  • و قوله: {وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ} الورد هو الماء الذي يرده العطاش من الحيوان و الإنسان للشرب، قال الراغب في المفردات: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرد ورودا فأنا وارد و الماء مورود. و قد أوردت الإبل الماء قال: {وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} و الورد الماء المرشح للورود. انتهى. 

  • و على هذا ففي الكلام استعارة لطيفة بتشبيه الغاية التي يقصدها الإنسان في الحياة لمساعيه المبذولة بالماء الذي يقصده العطشان فعذب السعادة التي يقصدها الإنسان بأعماله ورد يرده، و سعادة الإنسان الأخيرة هي رضوان الله و الجنة لكنهم لما غووا باتباع أمر فرعون و أخطئوا سبيل السعادة الحقيقية تبدلت غايتهم إلى النار فكانت النار هو الورد الذي يردونه، و بئس الورد المورود لأن الورد هو الذي يخمد لهيب الصدر و يروي الحشا العطشان و هو عذب الماء و نعم المنهل السائغ و أما إذا تبدل إلى عذاب النار فبئس الورد المورود. 

تفسير الميزان ج۱۰

382
  • قوله تعالى{وَ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ} أي هم اتبعوا أمر فرعون فأتبعتهم لعنة من الله في هذه الدنيا و إبعاد من رحمته و طرد من ساحة قربه، و مصداق اللعن الذي أتبعوه هو الغرق، أو أنه الحكم منه تعالى بإبعادهم من الرحمة المكتوب في صحائف أعمالهم الذي من آثاره الغرق و عذاب الآخرة. 

  • و قوله: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ} الرفد هو العطية و الأصل في معناه العون، و سميت العطية رفدا و مرفودا لأنه عون للآخذ على حوائجه و المعنى و بئس الرفد رفدهم يوم القيامة و هو النار التي يسجرون فيها، و الآية نظيرة قوله في موضع آخر {: وَ أَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ} القصص: - ٤٢. 

  • و ربما أخذ: {يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} ظرفا فالآية متعلقا بقوله: {أُتْبِعُوا} أو بقوله: {لَعْنَةً} نظير قوله: {فِي هَذِهِ} ، و المعنى: و أتبعهم الله في الدنيا و الآخرة لعنة أو فأتبعهم الله لعنة الدنيا و الآخرة ثم استؤنف فقيل: بئس الرفد المرفود اللعن الذي أتبعوه أو الإتباع باللعن. 

  • تم و الحمد الله. 

تفسير الميزان ج۱۰

383
  • فهرس ما في هذا الجزء من أمهات المطالب 

  •  

تفسير الميزان ج۱۰

384
  •