3

تفسير الميزان ج3

تفسير الميزان ج3 13581
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة الطباطبائي

القسم القرآن والحديث والدعاء

المجموعة الميزان في تفسير القرآن


التوضيح

تعرّض العلامة الطباطبائي في هذا الجزء إلى تفسير سورة آل عمران من البداية وحتى الآية 120

/۳۸٩
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

تفسير الميزان ج۳

1

تفسير الميزان ج۳

2
  •  

  •  

  • الميزان في تفسير القرآن 

  • الجزء الثالث

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

  •  

  •  

تفسير الميزان ج۳

3
  •  

تفسير الميزان ج۳

4
  •  

تفسير الميزان ج۳

5
  • سورة آل عمران مدنية و هي مائتا آية (٢٠٠) 

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١ الی ٦ ]

  • {بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ}{الم ١ اللّهُ لا إِله إِلاّ هُو الْحيُّ الْقيُّومُ ٢ نزّل عليْك الْكِتاب بِالْحقِّ مُصدِّقاً لِما بيْن يديْهِ و أنْزل التّوْراة و الْإِنْجِيل ٣ مِنْ قبْلُ هُدىً لِلنّاسِ و أنْزل الْفُرْقان إِنّ الّذِين كفرُوا بِآياتِ اللّهِ لهُمْ عذابٌ شدِيدٌ و اللّهُ عزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ ٤ إِنّ اللّه لا يخْفى‌ عليْهِ شيْ‌ءٌ فِي الْأرْضِ و لا فِي السّماءِ ٥ هُو الّذِي يُصوِّرُكُمْ فِي الْأرْحامِ كيْف يشاءُ لا إِله إِلاّ هُو الْعزِيزُ الْحكِيمُ ٦} 

  • بيان 

  • غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين، و الصبر و الثبات في حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقة الموقف لمواجهتهم أعداء كاليهود و النصارى و المشركين و قد جمعوا جمعهم و عزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم و بأفواههم. 

  • و يشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة فإن آياتها و هي مائتا آية ظاهرة الاتساق و الانتظام من أولها إلى آخرها، متناسبة آياتها، مرتبطة أغراضها. 

  • و لذلك كان مما يترجح في النظر أن تكون السورة إنما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)و قد استقر له الأمر بعض الاستقرار و لما يتم استقراره، فإن فيها ذكر غزوة أحد، و فيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران و ذكرا من أمر اليهود، و حثا على 

تفسير الميزان ج۳

6
  • المشركين، و دعوة إلى الصبر و المصابرة و المرابطة، و جميع ذلك يؤيد أن السورة نزلت أيام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامة قواهم و جميع أركانهم، فمن جانب كانوا يقاومون الفشل و الفتور اللذين يدبان في داخل جماعتهم بفتنة اليهود و النصارى، و يحاجونهم و يجاوبونهم، و من جانب كانوا يقاتلون المشركين، و يعيشون في حال الحرب و انسلاب الأمن، فقد كان الإسلام في هذه الأيام قد انتشر صيته فثارت الدنيا عليه من اليهود و النصارى و مشركي العرب، و وراء ذلك الروم و العجم و غيرهم. 

  • و الله سبحانه يذكر المؤمنين في هذه السورة من حقائق دينه الذي هداهم به ما يطيب به نفوسهم، و يزول به رين الشبهات و الوساوس الشيطانية و تسويلات أهل الكتاب عن قلوبهم، و يبين لهم: أن الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه، و لم يعجزه خلقه، و إنما اختار دينه و هدى جمعا من عباده إليه على طريقة العادة الجارية، و السنة الدائمة، و هي سنة العلل و الأسباب، فالمؤمن و الكافر جاريان على سنة الأسباب، فيوم للكافر و يوم للمؤمن، فالدار دار الامتحان، و اليوم يوم العمل، و الجزاء غدا. 

  • قوله تعالى: {اللّهُ لا إِله إِلاّ هُو الْحيُّ الْقيُّومُ}، قد مر الكلام فيه في تفسير آية الكرسي، و تحصل من هناك أن المراد به بيان قيامه تعالى أتم القيام على أمر الإيجاد و التدبير، فنظام الموجودات بأعيانها و آثارها تحت قيمومة الله لا مجرد قيمومة التأثير كالقيمومة في الأسباب الطبيعية الفاقدة للشعور بل قيمومة حياة تستلزم العلم و القدرة، فالعلم الإلهي نافذ فيها لا يخفى عليه شي‌ء منها و القدرة مهيمنة عليها لا يقع منها إلا ما شاء وقوعه و أذن فيه، و لذلك عقبه بقوله بعد آيتين: {اِنّ اللّه لا يخْفى‌ عليْهِ شيْ‌ءٌ فِي الْأرْضِ و لا فِي السّماءِ هُو الّذِي يُصوِّرُكُمْ فِي الْأرْحامِ كيْف يشاءُ}.

  • و لما كانت هذه الآيات الست في أول السورة على طريق براعة الاستهلال مشتملة على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل و قد مر ذكر غرض السورة كانت هذه الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلي الذي يستنتج به الغرض، كما أن الآيتين الأخيرتين أعني قوله: {إِنّ اللّه لا يخْفى‌ عليْهِ}إلخ بمنزلة التعليل بعد البيان، و على هذا فالكلام التي يتم به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسطتان أعني قوله: {نزّل عليْك الْكِتاب}، إلى قوله {عزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ}،و على هذا فيعود المعنى إلى أنه يجب على المؤمنين أن يتذكروا أن الله الذي آمنوا به واحد في ألوهيته قائم على الخلق و التدبير قيام حياة، لا 

تفسير الميزان ج۳

7
  • يغلب في ملكه و لا يكون إلا ما شاء و أذن فيه فإنهم إذا تذكروا ذلك علموا أنه هو المنزل للكتاب الهادي إلى الحق، و الفرقان‌ المميز بين الحق و الباطل، و أنه إنما جرى في ذلك على ما أجري عليه عالم الأسباب، و ظرف الاختيار، فمن آمن فله أجره، و من كفر فإن الله سيجزيه لأنه عزيز ذو انتقام، و ذلك أنه الله الذي لا إله غيره حتى يحكم في هذه الجهات، و لا يخفى عليه أمرهم، و لا يخرج عن إرادته و مشيئته فعالهم و كفرهم. 

  • قوله تعالى: {نزّل عليْك الْكِتاب بِالْحقِّ مُصدِّقاً لِما بيْن يديْهِ}، قد مر أن التنزيل يدل على التدريج كما أن الإنزال يدل على الدفعة. 

  • و ربما ينقض ذلك بقوله: {لوْ لا نُزِّل عليْهِ الْقُرْآنُ جُمْلةً واحِدةً} الفرقان - ٣٢، و بقوله تعالى: {أنْ يُنزِّل عليْنا مائِدةً} المائدة - ١١٢، و قوله تعالى: {لوْ لا نُزِّل عليْهِ آيةٌ} الأنعام - ٣٧، و قوله تعالى: {قُلْ إِنّ اللّه قادِرٌ على‌ أنْ يُنزِّل آيةً} الأنعام - ٣٧، و لذلك ذكر بعض المفسرين: أن الأولى أن يقال: إن معنى {نزّل عليْك الْكِتاب}، أنزله إنزالا بعد إنزال دفعا للنقض. 

  • و الجواب: أن المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلل زمان معتد به بين نزول كل جزء من أجزاء الشي‌ء و بين جزئه الآخر بل الأشياء المركبة التي توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الأجزاء و بذلك يصير الشي‌ء أمرا واحدا غير منقسم، و التعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى: {أنْزل مِن السّماءِ ماءً} الرعد - ١٧ و هو الغيث. و نسبته من حيث وجوده بوجود أجزائه واحدا بعد واحد سواء تخلل بينهما زمان معتد به أو لم يتخلل و هو التدريج، و التعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى: {و هُو الّذِي يُنزِّلُ الْغيْث} الشورى - ٢٨. 

  • و من هنا يظهر: أن الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة - فإن المراد بقوله {لوْ لا نُزِّل عليْهِ الْقُرْآنُ جُمْلةً واحِدةً} (الآية) أن ينزل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متصل واحد من غير تخلل زمان معتد به كما كان عليه الأمر في نزول القرآن في الشئون و الحوادث و الأوقات المختلفة، و بذلك يظهر الجواب عن بقية الآيات المذكورة. 

  • و أما ما ذكره البعض المزبور فهو على أنه استحسان غير جائز في اللغة البتة، 

تفسير الميزان ج۳

8
  • لا يدفع شيئا من النقض بالآيات المذكورة، بل هي بحالها و هو ظاهر. 

  • و قد جرى كلامه تعالى أن يعبر عن إفاضة الكتاب على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالتنزيل و النزول، و النزول يستلزم مقاما أو مكانا عاليا رفيعا يخرج منه الشي‌ء نوعا من الخروج و يقصد مقاما أو مكانا آخر أسفل فيستقر فيه، و قد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلو و رفعة الدرجات و قد وصف كتابه أنه من عنده، قال تعالى: {إِنّهُ علِيٌّ حكِيمٌ} الشورى - ٥١، و قال تعالى: {و لمّا جاءهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصدِّقٌ لِما معهُمْ} البقرة - ٨٩، فصح بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحي في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قد ذكروا أن الحق‌ هو الخبر من حيث إن بحذائه خارجا ثابتا كما أن الصدق‌ هو الخبر من حيث إنه مطابق للخارج، و على هذا فإطلاق الحق على الأعيان الخارجية و الأمور الواقعية كما يطلق على الله سبحانه: أنه حق، و على الحقائق الخارجية أنها حقة إنما هو من جهة أن كلا منها حق من جهة الخبر عنها، و كيف كان فالمراد بالحق في الآية: الأمر الثابت الذي لا يقبل البطلان. 

  • و الظاهر أن الباء في قوله: {بِالْحقِّ}، للمصاحبة و المعنى: نزل عليك الكتاب تنزيلا يصاحب الحق و لا يفارقه، فيوجب مصاحبة الحق أن لا يطرأ عليه و لا يخالطه باطل فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه، ففي قوله: {نزّل عليْك الْكِتاب بِالْحقِّ}، استعارة بالكناية، و قد قيل في معنى الباء وجوه أخر لا يخلو عن سقم. 

  • و التصديق من الصدق يقال صدقت مقالا كذا أي قررته على الصدق و اعترفت بكونه صدقا و صدقت فلانا أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به. 

  • و المراد مما بين يديه التوراة و الإنجيل كما قال تعالى: {إِنّا أنْزلْنا التّوْراة فِيها هُدىً}، إلى أن قال: {و آتيْناهُ الْإِنْجِيل فِيهِ هُدىً}، إلى أن قال: {و أنْزلْنا إِليْك الْكِتاب بِالْحقِّ مُصدِّقاً لِما بيْن يديْهِ مِن الْكِتابِ} (الآية) المائدة - ٤٨، و الكلام لا يخلو عن دلالة على أن ما بأيدي اليهود و النصارى من التوراة و الإنجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على موسى و عيسى (عليه السلام)، و إن كانا لا يخلوان عن السقط و التحريف، فإن الدائر بينهم في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هو التوراة الموجودة اليوم و الأناجيل الأربعة المشهورة، فالقرآن يصدق التوراة و الإنجيل الموجودين، لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات 

تفسير الميزان ج۳

9
  • الناطقة بالتحريف و السقط فيهما قال تعالى: {و لقدْ أخذ اللّهُ مِيثاق بنِي إِسْرائِيل} إلى أن قال: {و جعلْنا قُلُوبهُمْ قاسِيةً يُحرِّفُون الْكلِم عنْ مواضِعِهِ و نسُوا حظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ} إلى أن قال: {و مِن الّذِين قالُوا إِنّا نصارى‌ أخذْنا مِيثاقهُمْ فنسُوا حظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ} (الآية) المائدة - ١٤. 

  • قوله تعالى: {و أنْزل التّوْراة و الْإِنْجِيل مِنْ قبْلُ هُدىً لِلنّاسِ}، التوراة كلمة عبرانية بمعنى الشريعة، و الإنجيل‌ لفظ يوناني، و قيل فارسي الأصل معناه البشارة، و سيجي‌ء استيفاء البحث عن الكتابين في قوله تعالى: {إِنّا أنْزلْنا التّوْراة فِيها هُدىً و نُورٌ} الآيات‌المائدة - ٤٤. 

  • و مما أصر عليه القرآن تسمية كتاب عيسى (عليه السلام) بالإنجيل بصيغة الإفراد و القول بأنه نازل من عند الله سبحانه مع أن الأناجيل كثيرة، و المعروفة منها أعني الأناجيل الأربعة كانت موجودة قبل نزول القرآن و في عهده، و هي التي ينسب تأليفها إلى لوقا و مرقس و متى و يوحنا، و لا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم و التوصيف بالنزول عن دلالة على التحريف و الإسقاط، و كيف كان لا يخلو ذكر التوراة و الإنجيل في هذه الآية و في أول السورة من التعريض لليهود و النصارى على ما سيذكره من أمرهم و قصص تولد عيسى و نبوته و رفعه. 

  • قوله تعالى: {و أنْزل الْفُرْقان}، الفرقان‌ ما يفرق به بين الحق و الباطل على ما في الصحاح، و اللفظ بمادته يدل على الأعم من ذلك، و هو كل ما يفرق به بين شي‌ء و شي‌ء. قال تعالى: {يوْم الْفُرْقانِ يوْم اِلْتقى الْجمْعانِ} الأنفال - ٤١، و قال تعالى: {يجْعلْ لكُمْ فُرْقاناً} الأنفال - ٢٩. و إذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية هو الفرق بين الحق و الباطل في العقائد و المعارف و بين وظيفة العبد و ما ليس بوظيفة له بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف الأصلية و الفرعية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحي، أعم من الكتاب و غيره. قال تعالى: {و لقدْ آتيْنا مُوسى‌ و هارُون الْفُرْقان} الأنبياء - ٤٨، و قال تعالى: {و إِذْ آتيْنا مُوسى الْكِتاب و الْفُرْقان} البقرة - ٥٣، و قال تعالى: {تبارك الّذِي نزّل الْفُرْقان على‌ عبْدِهِ لِيكُون لِلْعالمِين نذِيراً} الفرقان - ١. 

  • و قد عبر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله: {لقدْ أرْسلْنا رُسُلنا بِالْبيِّناتِ 

تفسير الميزان ج۳

10
  • و أنْزلْنا معهُمُ الْكِتاب و الْمِيزان لِيقُوم النّاسُ بِالْقِسْطِ} الحديد - ٢٥. و هو في وزان قوله: {كان النّاسُ أُمّةً واحِدةً فبعث اللّهُ النّبِيِّين مُبشِّرِين و مُنْذِرِين و أنْزل معهُمُ الْكِتاب بِالْحقِّ لِيحْكُم بيْن النّاسِ فِيما اِخْتلفُوا فِيهِ} البقرة - ٢١٣. فالميزان‌ كالفرقان هو الدين الذي يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضم إليه من المعارف و وظائف العبودية، و الله أعلم. 

  • و قيل: المراد بالفرقان القرآن. و قيل: الدلالة الفاصلة بين الحق و الباطل. و قيل: الحجة القاطعة لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على من حاجه في أمر عيسى. و قيل النصر. و قيل: العقل. و الوجه ما قدمناه. 

  • قوله تعالى: {إِنّ الّذِين كفرُوا بِآياتِ اللّهِ}، إلى قوله {ذُو اِنْتِقامٍ}، الانتقام‌ على ما قيل مجازاة المسي‌ء على إساءته، و ليس من لازم المعنى أن يكون للتشفي، فإن ذلك من لوازم الانتقامات التي بيننا حيث إن إساءة المسي‌ء يوجب منقصة و ضررا في جانبنا فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي توجب تشفي قلوبنا، و أما هو تعالى فأعز ساحة من أن ينتفع أو يتضرر بشي‌ء من أعمال عباده لكنه وعد - و له الوعد الحق - أن سيقضي بين عباده بالحق إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا. قال تعالى: {و اللّهُ يقْضِي بِالْحقِّ} المؤمن - ٢٠، و قال تعالى: {لِيجْزِي الّذِين أساؤُا بِما عمِلُوا و يجْزِي الّذِين أحْسنُوا بِالْحُسْنى} النجم - ٣١ كيف و هو عزيز على الإطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه. و قد قيل إن الأصل في معنى العزة الامتناع. 

  • و قوله تعالى: {إِنّ الّذِين كفرُوا بِآياتِ اللّهِ لهُمْ عذابٌ شدِيدٌ}، من حيث إطلاق العذاب و عدم تقييده بالآخرة أو يوم القيامة ربما تضمن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في الآخرة. و هذا من الحقائق القرآنية التي ربما قصر الباحثون في استيفاء البحث عنه و ليس ذلك إلا لكوننا لا نعد شيئا عذابا إلا إذا اشتمل على شي‌ء من الآلام الجسمانية، أو نقص أو فساد في النعم المادية كذهاب الأموال و موت الأعزة و نقاهة الأبدان، مع أن الذي يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك. 

  • كلام في معنى العذاب في القرآن

  • القرآن يعد معيشة الناسي لربه ضنكا و إن اتسعت في أعيننا كل الاتساع. 

تفسير الميزان ج۳

11
  • قال تعالى: {و منْ أعْرض عنْ ذِكْرِي فإِنّ لهُ معِيشةً ضنْكاً} طه - ١٢٤، و يعد الأموال و الأولاد عذابا و إن كنا نعدها نعمة هنيئة قال تعالى: {و لا تُعْجِبْك أمْوالُهُمْ و أوْلادُهُمْ إِنّما يُرِيدُ اللّهُ أنْ يُعذِّبهُمْ بِها فِي الدُّنْيا و تزْهق أنْفُسُهُمْ و هُمْ كافِرُون} التوبة - ٨٥. 

  • و حقيقة الأمر كما مر إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى: {و قُلْنا يا آدمُ اُسْكُنْ أنْت و زوْجُك الْجنّة} البقرة - ٣٥، أن سرور الإنسان و غمه و فرحه و حزنه و رغبته و رهبته و تعذبه و تنعمه كل ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة، هذا أولا. و أن النعمة و العذاب و ما يقاربهما من الأمور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة و شقاوة و للجسم سعادة و شقاوة و كذا للحيوان منهما شي‌ء و للإنسان منهما شي‌ء و هكذا، و هذا ثانيا. و الإنسان المادي الدنيوي الذي لم يتخلق بأخلاق الله تعالى، و لم يتأدب بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة و لا يعبأ بسعادة الروح و هي السعادة المعنوية. فيتولع في اقتناء المال و البنين و الجاه و بسط السلطة و القدرة. و هو و إن كان يريد من قبل نفس هذا الذي ناله لكنه ما كان يريد إلا الخالص من التنعم و اللذة على ما صورته له خياله و إذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفا بالألوف من الألم. فما دام لم ينل ما يريده كان أمنية و حسرة و إذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص و يجد معه من الآلام و خذلان الأسباب التي ركن إليها و لم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب و السلوة عن كل فائتة فكان أيضا حسرة فلا يزال فيما وجده متألما به معرضا عنه طالبا لما هو خير منه لعله يشفي غليل صدره و فيما لم يجده متقلبا بين الآلام و الحسرات. فهذا حاله فيما وجده، و ذاك حاله فيما فقده. 

  • و أما القرآن فإنه يرى أن الإنسان أمر مؤلف من روح خالد و بدن مادي متحول متغير، و هو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال، فما كان فيه سعادة الروح محضا كالعلم و نحو ذلك فهو من سعادته، و ما كان فيه سعادة جسمه و روحه معا كالمال و البنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله، و موجبة للإخلاد إلى الأرض فهو أيضا من سعادته و نعمت السعادة. و كذا ما كان فيه شقاء الجسم و نقص لما يتعلق بالبدن و سعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله و ذهاب المال و اليسار لله تعالى فهو أيضا من سعادته بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهرا. 

  • و أما ما فيه سعادة الجسم و شقاء الروح فهو شقاء للإنسان و عذاب له و القرآن 

تفسير الميزان ج۳

12
  • يسمى سعادة الجسم فقط متاعا قليلا لا ينبغي أن يعبأ به قال تعالى: {لا يغُرّنّك تقلُّبُ الّذِين كفرُوا فِي الْبِلادِ متاعٌ قلِيلٌ ثُمّ مأْواهُمْ جهنّمُ و بِئْس الْمِهادُ} آل عمران - ١٩٦ ١٩٧. 

  • و كذا ما فيه شقاء الجسم و الروح معا يعده القرآن عذابا كما يعدونه عذابا لكن وجه النظر مختلف، فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح و عذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم، و ذلك كأنواع العذاب النازلة على الأمم السالفة، قال تعالى: {أ لمْ تر كيْف فعل ربُّك بِعادٍ إِرم ذاتِ الْعِمادِ الّتِي لمْ يُخْلقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ و ثمُود الّذِين جابُوا الصّخْر بِالْوادِ و فِرْعوْن ذِي الْأوْتادِ الّذِين طغوْا فِي الْبِلادِ فأكْثرُوا فِيها الْفساد فصبّ عليْهِمْ ربُّك سوْط عذابٍ إِنّ ربّك لبِالْمِرْصادِ} الفجر - ٦ ١٤. 

  • و السعادة و الشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور و الإدراك فإنا لا نعد الأمر اللذيذ الذي نلناه و لم نحس به سعادة لأنفسنا كما لا نعد الأمر المؤلم غير المشعور به شقاء، و من هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة و الشقاوة غير مسلك المادة، و الإنسان المولع بالمادة لا بد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإنسان السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة و الشقاوة الحقيقية شقاوة، و هو كذلك، فإنه يلقن على أهله: أن لا يتعلق قلوبهم بغير الله، و يروا أن ربهم هو المالك الذي يملك كل شي‌ء فلا يستقل شي‌ء إلا به، و لا يقصد شي‌ء إلا له. 

  • و هذا الإنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلا السعادة بين ما كان فيه سعادة روحه و جسمه، و ما كان فيه سعادة روحه محضا، و أما ما دون ذلك فإنه يراه عذابا و نكالا، و أما الإنسان المتعلق بهوى النفس و مادة الدنيا فإنه و إن كان ربما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه و خيرا و لذة فإنه سوف يطلع على خبطه في مشيه، و انقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه قال تعالى: {فذرْهُمْ يخُوضُوا و يلْعبُوا حتّى يُلاقُوا يوْمهُمُ الّذِي يُوعدُون} المعارج - ٤٢، و قال تعالى: {لقدْ كُنْت فِي غفْلةٍ مِنْ هذا فكشفْنا عنْك غِطاءك فبصرُك الْيوْم حدِيدٌ} ق - ٢٢، و قال تعالى: {فأعْرِضْ عنْ منْ تولّى عنْ ذِكْرِنا و لمْ يُرِدْ إِلاّ الْحياة الدُّنْيا ذلِك مبْلغُهُمْ مِن الْعِلْمِ} النجم - ٣٠، على أنهم لا يصفو لهم عيش إلا و هو منغص بما يربو عليه من الغم و الهم. 

  • و من هنا يظهر: أن الإدراك و الفكر الموجود في أهل الله و خاصة القرآن 

تفسير الميزان ج۳

13
  • غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعا من نوع واحد هو الإنسان، و بين الفريقين وسائط من أهل الإيمان ممن لم يستكمل التعليم و التربية الإلهيين. 

  • فهذا ما يتحصل من كلامه تعالى في معنى العذاب و كلامه تعالى مع ذلك لا يستنكف عن تسمية الشقاء الجسماني عذابا لكن نهايته أنه عذاب في مرحلة الجسم دون الروح، قال تعالى حكاية عن أيوب (ع): {أنِّي مسّنِي الشّيْطانُ بِنُصْبٍ و عذابٍ} ص - ٤١، و قال تعالى: {و إِذْ أنْجيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعوْن يسُومُونكُمْ سُوء الْعذابِ يُقتِّلُون أبْناءكُمْ و يسْتحْيُون نِساءكُمْ و فِي ذلِكُمْ بلاءٌ مِنْ ربِّكُمْ عظِيمٌ} الأعراف - ١٤١، فسمى ما يصنعون بهم بلاء و امتحانا من الله و عذابا في نفسه لا منه سبحانه. 

  • [بيان]‌ 

  • قوله تعالى: {إِنّ اللّه لا يخْفى‌ عليْهِ شيْ‌ءٌ فِي الْأرْضِ و لا فِي السّماءِ} إلخ، قد علل تعالى عذاب الذين كفروا بآياته بأنه عزيز ذو انتقام لكن لما كان هذا التعليل لا يخلو عن حاجة إلى ضميمة تنضم إليه ليتم المطلوب فإن العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفى عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب و الانتقام، فعقب لذلك الكلام بقوله: {إِنّ اللّه لا يخْفى‌ عليْهِ}، فبين أنه عزيز لا يخفى عليه شي‌ء ظاهر على الحواس و لا غائب عنها، و من الممكن أن يكون المراد مما في الأرض و ما في السماء الأعمال الظاهرة القائمة بالجوارح و الخفية الكامنة في القلوب على حد ما نبهنا عليه في قوله تعالى: {لِلّهِ ما فِي السّماواتِ و ما فِي الْأرْضِ و إِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} (الآية) البقرة - ٢٨٤. 

  • قوله تعالى: {هُو الّذِي يُصوِّرُكُمْ فِي الْأرْحامِ كيْف يشاءُ}، التصوير إلقاء الصورة على الشي‌ء و الصورة تعم ما له ظل كالتمثال و ما لا ظل له. و الأرحام‌ جمع رحم و هو مستقر الجنين من الإناث. 

  • و هذه الآية في معنى الترقي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين، فإن محصل الآيتين: أن الله تعالى يعذب الذين كفروا بآياته لأنه العزيز المنتقم العالم بالسر و العلانية فلا يغلب في أمره بل هو الغالب و محصل هذه الآية أن الأمر أعظم من ذلك، و من يكفر بآياته و يخالف عن أمره أذل و أوضع من أن يكفر باستقلال من نفسه و اعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك فيغلب هو على أمره تعالى، و يبطل النظام الأحسن الذي نظم الله سبحانه عليه الخلقة فتظهر إرادته على إرادة ربه بل الله سبحانه هو أذن 

تفسير الميزان ج۳

14
  • له في ذلك، بمعنى أنه نظم الأمور نوع نظم يؤدي إلى وجود الاختيار في الإنسان، و هو الوصف الذي يمكنه به ركوب صراط الإيمان و الطاعة أو التزام طريق الكفر و المعصية، ليتم بذلك أمر الفتنة و الامتحان، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر، و ما يشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين. 

  • فما من كفر و لا إيمان و لا غيرهما إلا عن تقدير، و هو نظم الأشياء على نحو يتيسر لكل شي‌ء ما يتوجه إليه من مقاصده التي سوف يستوفيها بعمله بتصويره بصورته الخاصة التي تمهد له السلوك إلى ما يسلك إليه. فالله سبحانه هو الغالب على أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه، يظن الإنسان أنه يفعل ما يشاء و يتصرف فيما يريد، و يقطع بذلك النظم المتصل الذي نظمه الله في الكون فيسبق التقدير، و هذا بعينه من القدر. 

  • و هذا هو المراد بقوله: {يُصوِّرُكُمْ فِي الْأرْحامِ كيْف يشاءُ}، أي ينظم أجزاء وجودكم في بدء الأمر على نحو يؤدي إلى ما يشاؤه في ختمه مشية إذن لا مشية حتم. 

  • و إنما خص الكلام بالتقدير الجاري في الإنسان و لم يذكر التقدير العام الجاري في العالم كله لينطبق على المورد، و لما مر أن في الآيات تعريضا للنصارى في قولهم في المسيح (عليه السلام)و الآيات منتهية إلى ما هو الحق من أمره، فإن النصارى لا ينكرون كينونته (عليه السلام)في الرحم و أنه لم يكون نفسه. 

  • و التعميم بعد التخصيص في الخطاب أعني قوله: {يُصوِّرُكُمْ} بعد قوله: {نزّل عليْك}، للدلالة على أن إيمان المؤمنين أيضا ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر، فتطيب نفوسهم بالرحمة و الموهبة الإلهية في حق أنفسهم، و يتسلوا بما سمعوه من أمر القدر و من أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين. 

  • قوله تعالى: {لا إِله إِلاّ هُو الْعزِيزُ الْحكِيمُ}، فيه عود إلى ما بدئ به الكلام في الآيات من التوحيد، و هو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد. 

  • فإن هذه الأمور المذكورة أعني هداية الخلق بعد إيجادهم، و إنزال الكتاب و الفرقان، و إتقان التدبير بتعذيب الكافرين أمور لا بد أن تستند إلى إله يدبرها و إذ لا إله إلا الله تعالى شأنه فهو الذي يهدي الناس و هو الذي ينزل الكتاب و الفرقان، 

تفسير الميزان ج۳

15
  • و هو يعذب الكافرين بآياته، و إنما يفعل ما يفعل من الهداية و الإنزال و الانتقام و التقدير بعزته و حكمته. 

  • بحث روائي 

  • في المجمع، عن الكلبي و محمد بن إسحاق و الربيع بن أنس: نزلت أوائل السورة إلى نيف و ثمانين آية في وفد نجران، و كانوا ستين راكبا، قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، و في الأربعة عشر ثلاثة نفر يئول إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم و صاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، و اسمه عبد المسيح و السيد ثمالهم و صاحب رحلهم، و اسمه الأيهم، و أبو حارثة بن علقمة أسقفهم و حبرهم و إمامهم و صاحب مدارسهم، و كان قد شرف فيهم و درس كتبهم، و كانت ملوك الروم قد شرفوه و مولوه و بنوا له الكنائس لعلمه و اجتهاده، فقدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) المدينة و دخلوا مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جبب و أردية في جمال رجال بلحرث بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما رأينا وفدا مثلهم، و قد حانت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس، و قاموا فصلوا في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، فقالت الصحابة: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): دعوهم، فصلوا إلى المشرق، فكلم السيد و العاقب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، فقال لهما رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أسلما، قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا و عبادتكما الصليب و أكلكما الخنزير. قالا إن لم يكن ولدا لله فمن أبوه؟ و خاصموه جميعا في عيسى، فقال لهما النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أ لستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا و يشبه أباه؟ قالوا: بلى، قال: أ لستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت و أن عيسى يأتيه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: أ لستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شي‌ء و يحفظه و يرزقه؟ قالوا: بلى، قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا، قال: أ لستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شي‌ء في الأرض و لا في السماء؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم؟ قالوا: لا، قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، و ربنا لا يأكل و لا يشرب و لا يحدث قالوا: بلى، قال: أ لستم تعلمون أن عيسى حملته‌ أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما 

تفسير الميزان ج۳

16
  • يغذى الصبي ثم كان يطعم و يشرب و يحدث؟ قالوا: بلى، قال فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع و ثمانين آية.

  • أقول: و روى هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور، عن أبي إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير و عن ابن إسحاق عن محمد بن سهل بن أبي أمامة، أما القصة فسيجي‌ء نقلها، و أما نزول أول السورة في ذلك فكأنه اجتهاد منهم و قد تقدم: أن ظاهر سياقها نزولها دفعة.

  • عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): الشقي من شقي في بطن أمه، و السعيد من سعد في بطن أمه.

  • و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) قال: إن الله إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي مما أخذ عليه الميثاق من صلب آدم أو ما يبدو له فيه و يجعلها في الرحم حرك الرجل للجماع و أوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي و قضائي النافذ و قدري، فتفتح بابها، فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير مضغة أربعين يوما، ثم تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث الله ملكين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله، يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، فيصلان إلى الرحم و فيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة و البقاء و يشقان له السمع و البصر و الجوارح و جميع ما في البطن بإذن الله تعالى، ثم يوحي الله إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي و قدري و نافذ أمري و اشترطا لي البداء فيما تكتبان. فيقولان: يا رب ما نكتب؟ فيوحي الله عز و جل إليهما: أن ارفعا رءوسكما إلى رأس أمه، فيرفعان رءوسهما فإذا اللوح يقرع جبهة أمه، فينظران فيه، فيجدان في اللوح صورته و زينته و أجله و ميثاقه سعيدا أو شقيا و جميع شأنه، فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان، ثم يختمان الكتاب و يجعلانه بين عينيه، ثم يقيمانه قائما في بطن أمه، قال: فربما عتا فانقلب، و لا يكون ذلك إلا في كل عات أو مارد، و إذا بلغ أوان خروج الولد تاما أو غير تام أوحى الله إلى الرحم: أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى أرضي و ينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه، قال: فتفتح الرحم باب الولد فينقلب فتصير رجلاه فوق رأسه و رأسه في أسفل البطن ليسهل الله على المرأة و على الولد الخروج، فبعث الله عز و جل إليه ملكا يقال له: زاجر فيزجره زجرة 

تفسير الميزان ج۳

17
  • فيفزع منها الولد فإذا احتبس زجره الملك زجرة أخرى فيفزع منها، فيسقط الولد إلى الأرض باكيا فزعا من الزجرة. 

  • أقول: قوله: إذا أراد أن يخلق النطفة، أي‌ يجعلها بشرا تاما سويا، و تقييدها بقوله: التي هي مما أخذ عليها الميثاق إشارة إلى ما سيجي‌ء بيانه: أن الإنسان الذي في هذه النشأة الدنيوية و أحواله مسبوقة الوجود بنشأة أخرى سابقة عليه تجري هذه على صراط تلك، و هي المسماة في لسان الأخبار بعالم الذر و الميثاق، فما أخذ عليه الميثاق لا بد من أن يخلق في هذه النشأة الدنيوية، و ما يخلق في هذه النشأة هو مما أخذ عليه الميثاق من غير أن يقبل التغيير و التبديل فذلك من القضاء المحتوم. و لذلك ردد الكلام بينه و بين قوله: أو ما يبدو له فيه أي يبدو له البداء في تمام خلقه، فلا يتم، و يعود سقطا، فالقسم المقابل له لا بداء فيه كما ذكرنا. و قوله و يجعلها في الرحم عطف على قوله: يخلق النطفة. 

  • قوله (عليه السلام) يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، يمكن أن يكون قوله من فم المرأة من كلام الراوي كما يؤيده وضع الظاهر موضع المضمر. و على ظاهر الحال من كونه من كلام الإمام (عليه السلام) هو من الشواهد على كون دخولهما و اقتحامهما في بطن المرأة من غير سنخ دخول الجسم، في الجسم إذ لا طريق إلى الرحم من غير الفرج إلا العروق، و منها العرق الذي يدر منه دم الحيض فينصب في الرحم، و ليس هذا المنفذ بأسهل للدخول من جدران الرحم، فللدخول من الفم سبب غير سهولة الطريق و هو ظاهر. 

  • قوله (عليه السلام): و فيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال و أرحام النساء، كأنها الروح النباتية التي هي المبدأ للتغذي و التنمي. 

  • قوله (عليه السلام): فينفخان فيها روح الحيوة و البقاء، ظاهره رجوع الضمير إلى الروح القديمة، فروح الحيوة و البقاء منفوخة في الروح النباتية، و لو فرض رجوعه إلى المضغة مثلا كانت منفوخة في المضغة الحية بالروح النباتية فتصير المضغة النباتية منفوخة فيها، و على أي حال يفيد الكلام أن نفخ الروح الإنساني إنما هو نوع ترق للروح النباتية بالاشتداد (على ما يقتضيه القول بالحركة الجوهرية). 

تفسير الميزان ج۳

18
  • و بذلك يظهر معنى انتقال الروح القديمة في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فالروح متحد الوجود مع البدن بوجه و هو النطفة و ما يمدها من دم الحيض و هي المتحدة مع بدني الأبوين و هما مع النطفة و هلم جرا، فما يجري على الإنسان متعين في الجملة في وجود آبائه و أمهاته، مشهود في صور أشخاصهم، و هو بوجه كالفهرس المأخوذ من الكتاب الموضوع قبله. 

  • و به يظهر معنى قوله (عليه السلام): فيوحي الله عز و جل إليهما أي إلى الملكين أن ارفعا رءوسكما إلى رأس أمه، و ذلك أن الذي لأبيه من شرح قضائه و قدره قد انقطع عنه بانفصال النطفة، فما بقي متصلا به إلا أمه، و هو قوله (عليه السلام): فإذا اللوح يقرع جبهة أمه و الجبهة مجتمع حواس الإنسان و طليعة وجهه فينتظران فيه فيجدان في اللوح صورته و زينته و أجله و ميثاقه‌ سعيدا أو شقيا و جميع شأنه، فيملي أحدهما على صاحبه فنسبتهما شبيهة نسبة الفاعل و القابل فيكتبان جميع ما في اللوح. 

  • قوله (عليه السلام): و يشترطان البداء فيما يكتبان، و ذلك لعدم اشتمال صورته على تمام علل حوادثه المستقبلة، فإن الصورة و إن كانت مبدأ لجميع ما يجري على الإنسان من أحواله و الحوادث المختصة به لكن ليست بالمبدإ كله بل للأمور و الحوادث الخارجة عنه دخالة في ذلك، و لذلك كان الذي يتراءى منها من الحوادث غير حتمي الوقوع، فكانت مظنة للبداء. 

  • و اعلم: أن نسبة تفاصيل الولادة إلى تحريك الله سبحانه الرجل، و وحيه إلى الرحم، و إرسال الملكين الخلاقين و الملك الزاجر إلى غير ذلك لا ينافي استناد هذه الحوادث و منها الولادة إلى أسبابها الطبيعية، فإن هذين القبيلين من الأسباب أعني الأسباب المعنوية و الأسباب المادية واقعان أحدهما في طول الآخر لا في عرضه حتى يبطل أحدهما الآخر، أو يتدافعا فيبطلا معا، أو يعود الأمر إلى تركب العلة التامة من مجموع السببين، بل كل منهما علة تامة لكن في مرتبته. 

  • فمن أقامه الله سبحانه لهداية الناس إلى سعادتهم المعنوية و سلوكهم إلى مرضاته و هم الأنبياء (عليه السلام) و الطريق طريق الباطن فإنما وظيفته أن يكلم الناس بلسان يسلك بهم مسلك الباطن و يذكرهم مقام ربهم في جميع بياناته، و هو توسيط الملائكة و استناد الحوادث إلى أعمالهم، و نسبة السعادة إلى تأييدهم، و نسبة الشقاء 

تفسير الميزان ج۳

19
  • بخصوصياته إلى الشياطين و تسويلهم، و نسبة الجميع إلى الله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه و حضرة ربوبيته، ليستنتج من ذلك صور الهداية و الضلال و الربح و الخسران، و بالجملة جميع شئون الحيوة الآخرة، و هم مع ذلك لم يهملوا أمر الأسباب الطبيعية و لم يضيعوا حقها، فإنها أحد ركني حيوة الإنسان و الأساس الذي تستند إليه الحيوة الدنيا، و لا بد للإنسان أن يعرف جملة أمرها كما لا بد له أن يعرف جملة الأمر في الأسباب المعنوية حتى يتم له معرفة نفسه فيعرف ربه. 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٧ الی ٩ ] 

  • {هُو الّذِي أنْزل عليْك الْكِتاب مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنّ أُمُّ الْكِتابِ و أُخرُ مُتشابِهاتٌ فأمّا الّذِين فِي قُلُوبِهِمْ زيْغٌ فيتّبِعُون ما تشابه مِنْهُ اِبْتِغاء الْفِتْنةِ و اِبْتِغاء تأْوِيلِهِ و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ و الرّاسِخُون فِي الْعِلْمِ يقُولُون آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا و ما يذّكّرُ إِلاّ أُولُوا الْألْبابِ ٧ ربّنا لا تُزِغْ قُلُوبنا بعْد إِذْ هديْتنا و هبْ لنا مِنْ لدُنْك رحْمةً إِنّك أنْت الْوهّابُ ٨ ربّنا إِنّك جامِعُ النّاسِ لِيوْمٍ لا ريْب فِيهِ إِنّ اللّه لا يُخْلِفُ الْمِيعاد ٩} 

  • (بيان )

  • قوله تعالى: {هُو الّذِي أنْزل عليْك الْكِتاب}، عبر تعالى بالإنزال دون التنزيل لأن المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل و خواصه، و هو أنه مشتمل على آيات محكمة و أخر متشابهة ترجع إلى المحكمات و تبين بها، فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمرا واحدا من غير نظر إلى تعدد و تكثر فناسب استعمال الإنزال دون التنزيل. 

  • قوله تعالى: {مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنّ أُمُّ الْكِتابِ و أُخرُ مُتشابِهاتٌ}، مادة حكم 

تفسير الميزان ج۳

20
  • تفيد معنى كون الشي‌ء بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعضه أو يخل أمره عليه، و منه الإحكام و التحكيم، و الحكم بمعنى القضاء، و الحكمة بمعنى المعرفة التامة و العلم الجازم النافع، و الحكمة بفتح الحاء لزمام الفرس، ففي الجميع شي‌ء من معنى المنع و الإتقان، و ربما قيل: إن المادة تدل على معنى المنع مع إصلاح. 

  • و المراد هاهنا من إحكام المحكمات إتقان هذه الآيات من حيث عدم وجود التشابه فيها كالمتشابهات فإنه تعالى و إن وصف كتابه بإحكام الآيات في قوله: {كِتابٌ أُحْكِمتْ آياتُهُ ثُمّ فُصِّلتْ مِنْ لدُنْ حكِيمٍ خبِيرٍ} هود - ١، لكن اشتمال الآية على ذكر التفصيل بعد الإحكام دليل على أن المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول و هي كونه واحدا لم يطرأ عليه التجزي و التبعض بعد بتكثر الآيات، فهو إتقانه قبل وجود التبعض، فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب، بخلاف وصف الإحكام و الإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد. 

  • و بعبارة أخرى لما كان قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنّ أُمُّ الْكِتابِ و أُخرُ مُتشابِهاتٌ}، مشتملا على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم و المتشابه علمنا به أن المراد بالإحكام غير الإحكام الذي وصف به جميع الكتاب في قوله: {كِتابٌ أُحْكِمتْ آياتُهُ} الآية و كذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وصف به جميع الكتاب في قوله: {كِتاباً مُتشابِهاً مثانِي} الزمر - ٢٣.

  • و قد وصف المحكمات بأنها أم الكتاب، و الأم‌ بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشي‌ء، و ليس إلا أن الآيات المتشابهة ترجع إليها فالبعض من الكتاب و هي المتشابهات ترجع إلى بعض آخر و هي المحكمات و من هنا يظهر أن الإضافة في قوله أم الكتاب ليست لامية كقولنا: أم الأطفال، بل هي بمعنى من، كقولنا نساء القوم و قدماء الفقهاء و نحو ذلك، فالكتاب يشتمل على آيات هي أم آيات أخر، و في إفراد كلمة الأم من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متفقة مؤتلفة. 

  • و قد قوبلت المحكمات في الآية بقوله: {و أُخرُ مُتشابِهاتٌ}، و التشابه‌ توافق أشياء مختلفة و اتحادها في بعض الأوصاف و الكيفيات، و قد وصف الله سبحانه جميع القرآن 

تفسير الميزان ج۳

21
  • بهذا الوصف‌ حيث قال: {كِتاباً مُتشابِهاً مثانِي تقْشعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِين يخْشوْن ربّهُمْ} (الآية) الزمر - ٢٣، و المراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم، و إتقان الأسلوب، و بيان الحقائق و الحكم، و الهداية إلى صريح الحق كما تدل عليه القيود المأخوذة في الآية، فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب، و أما التشابه المذكور في هذه الآية، أعني قوله: {و أُخرُ مُتشابِهاتٌ}، فمقابلته لقوله: {مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنّ أُمُّ الْكِتابِ}، و ذكر اتباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل، كل ذلك يدل على أن المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى و معنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعين هي معناها و تبينها بيانا، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، و الآية المحكمة محكمة بنفسها، كما أن قوله: {الرّحْمنُ على الْعرْشِ اِسْتوى‌} طه - ٥، يشتبه المراد منه على السامع أول ما يسمعه، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى: {ليْس كمِثْلِهِ شيْ‌ءٌ} الشورى - ١١، استقر الذهن على أن المراد به التسلط على الملك و الإحاطة على الخلق دون التمكن و الاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على الله سبحانه، و كذا قوله تعالى: {إِلى‌ ربِّها ناظِرةٌ} القيامة - ٢٣، إذا أرجع إلى مثل قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأبْصارُ و هُو يُدْرِكُ الْأبْصار} الأنعام - ١٠٣، علم به أن المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي‌، و كذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبين أن المراد بها حكم محدود بحد الحكم الناسخ و هكذا. 

  • فهذا ما يتحصل من معنى المحكم و المتشابه، و يتلقاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى: {هُو الّذِي أنْزل عليْك الْكِتاب مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنّ أُمُّ الْكِتابِ و أُخرُ مُتشابِهاتٌ}، فإن الآية محكمة بلا شك و لو فرض جميع القرآن غيرها متشابها. 

  • و لو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة و فسد التقسيم الذي يدل عليه قوله: {مِنْهُ آياتٌ} إلخ، و بطل العلاج الذي يدل عليه قوله: {هُنّ أُمُّ الْكِتابِ}، و لم يصدق قوله: {كِتابٌ فُصِّلتْ آياتُهُ قُرْآناً عربِيًّا لِقوْمٍ يعْلمُون بشِيراً و نذِيراً} حم السجدة - ٤، و لم يتم الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله: {أ فلا يتدبّرُون الْقُرْآن و لوْ كان مِنْ عِنْدِ غيْرِ اللّهِ لوجدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كثِيراً} النساء - ٨٢، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن نور و هدى و تبيان و بيان و مبين و ذكر و نحو ذلك. 

تفسير الميزان ج۳

22
  • على أن كل من يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس بينها آية لها مدلول و هي لا تنطق بمعناها و تضل في مرادها، بل ما من آية إلا و فيها دلالة على المدلول: إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام، أو مداليل يلتبس بعضها ببعض، و هذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حق المراد بالضرورة و إلا بطلت الدلالة كما عرفت‌، و هذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبيا عن الأصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع و توحيده و بعثة الأنبياء و تشريع الأحكام و المعاد و نحو ذلك، بل هو موافق لها و هي تستلزمه و تنتجه و تعين المراد الحق من بين المداليل المتعددة المحتملة، فالقرآن بعضه يبين بعضا، و بعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر. 

  • ثم إن هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى: {مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنّ أُمُّ الْكِتابِ و أُخرُ مُتشابِهاتٌ}، لم يشك في أن المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمنة للأصول المسلمة من القرآن و بالمتشابهات الآيات التي تتعين و تتضع معانيها بتلك الأصول. 

  • فإن قلت: رجوع الفروع إلى الأصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك أصول متعرقة و فروع متفرقة سواء فيه المعارف القرآنية و غيرها، لكن ذلك لا يستوجب حصول التشابه، فما وجه ذلك؟

  • قلت: وجهه أحد أمرين، فإن المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين: فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحس و المادة، و الأفهام العادية لا تلبث دون أن تتردد فيها بين الحكم الجسماني الحسي و بين غيره كقوله تعالى: {إِنّ ربّك لبِالْمِرْصادِ} الفجر - ١٤ و قوله تعالى: {و جاء ربُّك} الفجر - ٢٢، فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الأحكام معان هي من أوصاف الأجسام و خواصها، و تزول بالرجوع إلى الأصول التي تشتمل على نفي حكم المادة و الجسم عن المورد، و هذا مما يطرد في جميع المعارف و الأبحاث غير المادية و الغائبة عن الحواس، و لا يختص‌ بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماوية بما تشتمل عليه من المعارف العالية من غير تحريف، و يوجد أيضا في المباحث الإلهية من الفلسفة، و هو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى: {أنْزل مِن السّماءِ ماءً فسالتْ أوْدِيةٌ بِقدرِها} (الآية) الرعد - ١٧، و قوله:{ إِنّا جعلْناهُ قُرْآناً عربِيًّا لعلّكُمْ تعْقِلُون و إِنّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لديْنا لعلِيٌّ حكِيمٌ} الزخرف - ٤.

تفسير الميزان ج۳

23
  • و منها ما يتعلق بالنواميس الاجتماعية و الأحكام الفرعية، و اشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ و المنسوخ بالنظر إلى تغير المصالح المقتضية للتشريعات و نحوها من جهة، و نزول القرآن نجوما من جهة أخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها، و يرتفع التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم، و المنسوخ إلى الناسخ. 

  • قوله تعالى: {فأمّا الّذِين فِي قُلُوبِهِمْ زيْغٌ فيتّبِعُون ما تشابه مِنْهُ اِبْتِغاء الْفِتْنةِ و اِبْتِغاء تأْوِيلِهِ}، الزيغ‌ هو الميل عن الاستقامة، و يلزمه اضطراب القلب و قلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله: {و الرّاسِخُون فِي الْعِلْمِ يقُولُون آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا}، فإن الآية تصف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه و متشابهه، و أن منهم من هو زائغ القلب و مائله و مضطربه فهو يتبع المتشابه ابتغاء للفتنة و التأويل، و منهم من هو راسخ العلم مستقر القلب يأخذ بالمحكم و يؤمن بالمتشابه و لا يتبعه، و يسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية. 

  • و من هنا يظهر: أن المراد باتباع المتشابه اتباعه عملا لا إيمانا، و أن هذا الاتباع المذموم اتباع للمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم، إذ على هذا التقدير يصير الاتباع اتباعا للمحكم و لا ذم فيه. 

  • و المراد بابتغاء الفتنة طلب إضلال الناس، فإن الفتنة تقارب الإضلال في المعنى، يقول تعالى: يريدون باتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه، و أمرا آخر هو أعظم من ذلك، و هو الحصول و الوقوف على تأويل القرآن و مآخذ أحكام الحلال و الحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله. 

  • و التأويل‌ من الأول و هو الرجوع فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجع إليه، و تأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه. 

  • و قد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه: {و لقدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فصّلْناهُ على‌ عِلْمٍ هُدىً و رحْمةً لِقوْمٍ يُؤْمِنُون هلْ ينْظُرُون إِلاّ تأْوِيلهُ يوْم يأْتِي تأْوِيلُهُ يقُولُ الّذِين نسُوهُ مِنْ قبْلُ قدْ جاءتْ رُسُلُ ربِّنا بِالْحقِّ} الأعراف - ٥٣، أي بالحق فيما أخبروا به و أنبئوا أن الله هو مولاهم الحق، و أن ما يدعون من دونه هو الباطل، و أن النبوة حق، و أن الدين حق، و أن الله يبعث من في القبور، و بالجملة 

تفسير الميزان ج۳

24
  • كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة و أخبارها. 

  • و من هنا ما قيل: إن التأويل في الآية هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق كالأمور المشهودة يوم القيامة التي هي مطابقات (اسم مفعول) أخبار الأنبياء و الرسل و الكتب. 

  • و يرده: أن التأويل على هذا يختص بالآيات المخبرة عن الصفات و بعض الأفعال و عن ما سيقع يوم القيامة، و أما الآيات المتضمنة لتشريع الأحكام فإنها لاشتمالها على الإنشاء لا مطابق لها في الخارج عنها، و كذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل كعدة من أحكام الأخلاق فإن تأويلها معها، و كذا ما دل على قصص الأنبياء و الأمم الماضية فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة مع، أن ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله لا إلى قسم خاص من آياته. 

  • و مثلها قوله تعالى: {و ما كان هذا الْقُرْآنُ أنْ يُفْترى‌}، إلى أن قال: {أمْ يقُولُون اِفْتراهُ}، إلى أن قال: {بلْ كذّبُوا بِما لمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ و لمّا يأْتِهِمْ تأْوِيلُهُ كذلِك كذّب الّذِين مِنْ قبْلِهِمْ فانْظُرْ كيْف كان عاقِبةُ الظّالِمِين} يونس - ٣٩، و الآيات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب. 

  • و لذلك ذكر بعضهم أن التأويل‌ هو الأمر العيني الخارجي الذي يعتمد عليه الكلام، و هو في مورد الأخبار المخبر به الواقع في الخارج، إما سابقا كقصص الأنبياء و الأمم الماضية، و إما لاحقا كما في الآيات المخبرة عن صفات الله و أسمائه و مواعيده و كل ما سيظهر يوم القيامة، و في مورد الإنشاء كآيات الأحكام المصالح المتحققة في الخارج كما في قوله تعالى: {و أوْفُوا الْكيْل إِذا كِلْتُمْ و زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتقِيمِ ذلِك خيْرٌ و أحْسنُ تأْوِيلاً} إسراء - ٣٥، فإن تأويل إيفاء الكيل و إقامة الوزن هو المصلحة المترتبة عليهما في المجتمع و هو استقامة أمر الاجتماع الإنساني. 

  • و فيه أولا: أن ظاهر هذه الآية: أن التأويل أمر خارجي و أثر عيني مترتب على فعلهم الخارجي الذي هو إيفاء الكيل و إقامة الوزن لا الأمر التشريعي الذي يتضمنه قوله. {و أوْفُوا الْكيْل إِذا كِلْتُمْ و زِنُوا} (الآية) فالتأويل أمر خارجي هو مرجع و مآل لأمر خارجي آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها

تفسير الميزان ج۳

25
  • عن معان خارجية (كما في الإخبار) أو تعلقها بأفعال أو أمور خارجية (كما في الإنشاء) لها تأويل، فالوصف وصف بحال متعلق الشي‌ء لا بحال نفس الشي‌ء. 

  • و ثانيا: أن التأويل و إن كان هو المرجع الذي يرجع و يئول إليه الشي‌ء لكنه رجوع خاص لا كل رجوع، فإن المرئوس يرجع إلى رئيسه و ليس بتأويل له، و العدد يرجع إلى الواحد و ليس بتأويل له، فلا محالة هو مرجع بنحو خاص لا مطلقا. يدل على ذلك قوله تعالى في قصة موسى و الخضر (عليه السلام): {سأُنبِّئُك بِتأْوِيلِ ما لمْ تسْتطِعْ عليْهِ صبْراً} الكهف - ٧٨، و قوله تعالى: {ذلِك تأْوِيلُ ما لمْ تسْطِعْ عليْهِ صبْراً} الكهف - ٨٢، و الذي نبأه لموسى صور و عناوين لما فعله (عليه السلام) في موارد ثلاث كان موسى (عليه السلام) قد غفل عن تلك الصور و العناوين، و تلقى بدلها صورا و عناوين أخرى أوجبت اعتراضه بها عليه، فالموارد الثلاث: هي قوله تعالى: {حتّى إِذا ركِبا فِي السّفِينةِ خرقها} الكهف - ٧١، و قوله تعالى: {حتّى إِذا لقِيا غُلاماً فقتلهُ} الكهف - ٧٤، و قوله تعالى: {حتّى إِذا أتيا أهْل قرْيةٍ اِسْتطْعما أهْلها فأبوْا أنْ يُضيِّفُوهُما فوجدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أنْ ينْقضّ فأقامهُ} الكهف - ٧٧. 

  • و الذي تلقاه موسى (عليه السلام) من صور هذه القضايا و عناوينها قوله: {أ خرقْتها لِتُغْرِق أهْلها لقدْ جِئْت شيْئاً إِمْراً} الكهف - ٧١، و قوله: {أ قتلْت نفْساً زكِيّةً بِغيْرِ نفْسٍ لقدْ جِئْت شيْئاً نُكْراً} الكهف - ٧٤، و قوله: {لوْ شِئْت لاتّخذْت عليْهِ‌ أجْراً} الكهف - ٧٧. 

  • و الذي نبأ به الخضر من التأويل قوله: {أمّا السّفِينةُ فكانتْ لِمساكِين يعْملُون فِي الْبحْرِ فأردْتُ أنْ أعِيبها و كان وراءهُمْ ملِكٌ يأْخُذُ كُلّ سفِينةٍ غصْباً و أمّا الْغُلامُ فكان أبواهُ مُؤْمِنيْنِ فخشِينا أنْ يُرْهِقهُما طُغْياناً و كُفْراًفأردْنا أنْ يُبْدِلهُما ربُّهُما خيْراً مِنْهُ زكاةً و أقْرب رُحْماً و أمّا الْجِدارُ فكان لِغُلاميْنِ يتِيميْنِ فِي الْمدِينةِ و كان تحْتهُ كنْزٌ لهُما و كان أبُوهُما صالِحاً فأراد ربُّك أنْ يبْلُغا أشُدّهُما و يسْتخْرِجا كنزهُما رحْمةً مِنْ ربِّك} الكهف - ٨٢، ثم أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى (عليه السلام)جملة بقوله: {و ما فعلْتُهُ عنْ أمْرِي} الكهف - ٨٢، فالذي أريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع الشي‌ء إلى صورته و عنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب و رجوع الفصد إلى العلاج، لا نظير رجوع قولنا: جاء زيد إلى مجي‌ء زيد في الخارج. 

تفسير الميزان ج۳

26
  • و يقرب من ذلك: ما ورد من لفظ التأويل في عدة مواضع من قصة يوسف (عليه السلام) كقوله تعالى: {إِذْ قال يُوسُفُ لِأبِيهِ يا أبتِ إِنِّي رأيْتُ أحد عشر كوْكباً و الشّمْس و الْقمر رأيْتُهُمْ لِي ساجِدِين} يوسف - ٤، و قوله تعالى: {و رفع أبويْهِ على الْعرْشِ و خرُّوا لهُ سُجّداً و قال يا أبتِ هذا تأْوِيلُ رُءْياي مِنْ قبْلُ قدْ جعلها ربِّي حقًّا} يوسف - ١٠٠، فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه و إخوته له و إن كان رجوعا لكنه من قبيل رجوع المثال إلى الممثل، و كذا قوله تعالى: {و قال الْملِكُ إِنِّي أرى‌ سبْع بقراتٍ سِمانٍ يأْكُلُهُنّ سبْعٌ عِجافٌ و سبْع سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ و أُخر يابِساتٍ يا أيُّها الْملأُ أفْتُونِي فِي رُءْياي إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تعْبُرُون قالُوا أضْغاثُ أحْلامٍ و ما نحْنُ بِتأْوِيلِ الْأحْلامِ بِعالِمِين و قال الّذِي نجا مِنْهُما و اِدّكر بعْد أُمّةٍ أنا أُنبِّئُكُمْ بِتأْوِيلِهِ فأرْسِلُونِ يُوسُفُ أيُّها الصِّدِّيقُ أفْتِنا} إلى أن قال: {قال تزْرعُون سبْع سِنِين دأباً فما حصدْتُمْ فذرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّ قلِيلاً مِمّا تأْكُلُون ثُمّ يأْتِي مِنْ بعْدِ ذلِك سبْعٌ شِدادٌ يأْكُلْن ما قدّمْتُمْ لهُنّ إِلاّ قلِيلاً مِمّا تُحْصِنُون} يوسف ٤٨. 

  • و كذا قوله تعالى: {و دخل معهُ السِّجْن فتيانِ قال أحدُهُما إِنِّي أرانِي أعْصِرُ خمْراً و قال الْآخرُ إِنِّي أرانِي أحْمِلُ فوْق رأْسِي خُبْزاً تأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نبِّئْنا بِتأْوِيلِهِ إِنّا نراك مِن الْمُحْسِنِين}، إلى أن قال: {يا صاحِبيِ السِّجْنِ أمّا أحدُكُما فيسْقِي ربّهُ خمْراً و أمّا الْآخرُ فيُصْلبُ فتأْكُلُ الطّيْرُ مِنْ رأْسِهِ قُضِي الْأمْرُ الّذِي فِيهِ تسْتفْتِيانِ} يوسف - ٤١. 

  • و كذا قوله تعالى: {و يُعلِّمُك مِنْ تأْوِيلِ الْأحادِيثِ} يوسف - ٦١، و قوله تعالى: {و لِنُعلِّمهُ مِنْ تأْوِيلِ الْأحادِيثِ} يوسف - ٢١، و قوله تعالى: {و علّمْتنِي مِنْ تأْوِيلِ الْأحادِيثِ} يوسف - ١٠١، فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من قصة يوسف (عليه السلام) فيما يرجع إليه الرؤيا من الحوادث، و هو الذي كان يراه النائم فيما يناسبه من الصورة و المثال، فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته التي يظهر بها، و الحقيقة المتمثلة إلى مثالها الذي تتمثل به، كما كان الأمر يجري هذا المجرى فيما أوردناه من الآيات في قصة موسى و الخضر (عليه السلام)، و كذا في قوله تعالى: {و أوْفُوا الْكيْل إِذا كِلْتُمْ} إلى قوله {و أحْسنُ تأْوِيلاً} (الآية) إسراء - ٣٥. 

  • و التدبر في آيات القيامة يعطي أن المراد هو ذلك أيضا في لفظة التأويل في قوله تعالى: {بلْ كذّبُوا بِما لمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ و لمّا يأْتِهِمْ تأْوِيلُهُ} الآية، و قوله تعالى: {هلْ ينْظُرُون 

تفسير الميزان ج۳

27
  • إِلاّ تأْوِيلهُ يوْم يأْتِي تأْوِيلُهُ} (الآية) فإن أمثال قوله تعالى: {لقدْ كُنْت فِي غفْلةٍ مِنْ هذا فكشفْنا عنْك غِطاءك فبصرُك الْيوْم حدِيدٌ} ق - ٢٢، تدل على أن مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب و أنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسية التي نعهدها في الدنيا كما أن نفس وقوعها و النظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتنا هذه، و سيجي‌ء مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب و النبوة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة ليس من قبيل رجوع الإخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقق مضامينها في المستقبل. 

  • فقد تبين بما مر: أولا: أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة. 

  • و ثانيا: أن التأويل لا يختص بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية المحكمة تأويل كما أن للمتشابهة تأويلا. 

  • و ثالثا: أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ بل هو من الأمور الخارجية العينية، و اتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق، و أما إطلاق التأويل و إرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ، فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلا على كونه هو المراد من قوله تعالى: {و اِبْتِغاء تأْوِيلِهِ و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ} (الآية) كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل مما سننقله عن قريب. 

  • قوله تعالى: {و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ}، ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه، لقربه كما هو الظاهر أيضا في قوله: {و اِبْتِغاء تأْوِيلِهِ}، و قد عرفت أن ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصورا على الآيات المتشابهة. و من الممكن أيضا رجوع الضمير إلى الكتاب كالضمير في قوله: {ما تشابه مِنْهُ}

  • و ظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصورا عليه سبحانه و أما قوله: {و الرّاسِخُون فِي الْعِلْمِ}، فظاهر الكلام أن الواو للاستيناف بمعنى كونه طرفا للترديد الذي يدل عليه قوله في صدر الآية: {فأمّا الّذِين فِي قُلُوبِهِمْ زيْغٌ}، و المعنى: أن الناس في الأخذ بالكتاب قسمان: فمنهم من يتبع ما تشابه منه و منهم من يقول إذا تشابه عليه شي‌ء منه: {آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا}، و إنما اختلفا لاختلافهم من جهة زيغ القلب و رسوخ العلم. 

تفسير الميزان ج۳

28
  • على أنه لو كان الواو للعطف و كان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل كان منهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو أفضلهم و كيف يتصور أن ينزل القرآن على قلبه و هو لا يدري ما أريد به و من دأب القرآن إذا ذكر الأمة أو وصف أمر جماعة و فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يفرده بالذكر أولا و يميزه بالشخص تشريفا له و تعظيما لأمره ثم يذكرهم جميعا كقوله تعالى: {آمن الرّسُولُ بِما أُنْزِل إِليْهِ مِنْ ربِّهِ و الْمُؤْمِنُون} البقرة - ٢٨٥، و قوله تعالى: {ثُمّ أنْزل اللّهُ سكِينتهُ على‌ رسُولِهِ و على الْمُؤْمِنِين} التوبة - ٢٦، و قوله تعالى: {لكِنِ الرّسُولُ و الّذِين آمنُوا معهُ} التوبة - ٨٨، و قوله تعالى: {و هذا النّبِيُّ و الّذِين آمنُوا} آل عمران - ٦٨، و قوله تعالى: {لا يُخْزِي اللّهُ النّبِيّ و الّذِين آمنُوا معهُ} التحريم - ٨، إلى غير ذلك، فلو كان المراد بقوله: {و الرّاسِخُون فِي الْعِلْمِ}، أنهم عالمون بالتأويل - و رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) منهم قطعا كان حق الكلام كما عرفت أن يقال: و ما يعلم تأويله إلا الله و رسوله و الراسخون في العلم، هذا و إن أمكن أن يقال: إن قوله في صدر الآية: {هُو الّذِي أنْزل عليْك الْكِتاب} «إلخ» يدل على كون النبي عالما بالكتاب فلا حاجة إلى ذكره ثانيا. 

  • فالظاهر أن العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى، و لا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه كما أن الآيات دالة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى: {عالِمُ الْغيْبِ فلا يُظْهِرُ على‌ غيْبِهِ أحداً إِلاّ منِ اِرْتضى‌ مِنْ رسُولٍ} الجن - ٢٧، و لا ينافيه أيضا كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم، إذ لا منافاة بين أن تدل هذه الآية على شأن من شئون الراسخين في العلم، و هو الوقوف عند الشبهة و الإيمان و التسليم في مقابل الزائغين قلبا و بين أن تدل آيات أخر على أنهم أو بعضا منهم عالمون بحقيقة القرآن و تأويل آياته على ما سيجي‌ء بيانه. 

  • قوله تعالى: {و الرّاسِخُون فِي الْعِلْمِ يقُولُون آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا}، الرسوخ‌ هو أشد الثبات، و وقوع الراسخين في العلم في مقابلة الذين في قلوبهم زيغ ثم توصيفهم بأنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يدل على تمام تعريفهم، و هو أن لهم علما بالله و بآياته لا يدخله ريب و شك، فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل، و هم يؤمنون به و يتبعونه أي يعلمون به و إذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ بل آمنوا بها و توقفوا عن اتباعها عملا.

تفسير الميزان ج۳

29
  • و في قولهم: {آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا}، ذكر الدليل و النتيجة معا فإن كون المحكم و المتشابه جميعا من عند الله تعالى يوجب الإيمان بالكل: محكمه و متشابهه، و وضوح المراد في المحكم يوجب اتباعه عملا، و التوقف في المتشابه من غير رده لأنه من عند الله و لا يجوز اتباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن يتبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم، و هذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم فقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا}، بمنزلة الدليل على الأمرين جميعا، أعني: الإيمان و العمل في المحكم، و الإيمان فقط في المتشابه و الرجوع في العمل إلى المحكم. 

  • قوله تعالى: {و ما يذّكّرُ إِلاّ أُولُوا الْألْبابِ}، التذكر هو الانتقال إلى دليل الشي‌ء لاستنتاجه، و لما كان قولهم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا}، كما مر استدلالا منهم و انتقالا لما يدل على فعلهم سماه الله تعالى تذكرا و مدحهم به. 

  • و الألباب‌ جمع لب و هو العقل الزكي‌ الخالص من الشوائب، و قد مدحهم الله تعالى مدحا جميلا في موارد من كلامه، و عرفهم بأنهم أهل الإيمان بالله و الإنابة إليه و اتباع أحسن القول ثم وصفهم بأنهم على ذكر من ربهم دائما فأعقب ذلك أنهم أهل التذكر أي الانتقال إلى المعارف الحقة بالدليل و أهل الحكمة و المعرفة، قال تعالى: {و الّذِين اِجْتنبُوا الطّاغُوت أنْ يعْبُدُوها و أنابُوا إِلى اللّهِ لهُمُ الْبُشْرى‌ فبشِّرْ عِبادِ الّذِين يسْتمِعُون الْقوْل فيتّبِعُون أحْسنهُ أُولئِك الّذِين هداهُمُ اللّهُ و أُولئِك هُمْ أُولُوا الْألْبابِ} الزمر - ١٨، و قال تعالى: {إِنّ فِي خلْقِ السّماواتِ و الْأرْضِ و اِخْتِلافِ اللّيْلِ و النّهارِ لآياتٍ لِأُولِي الْألْبابِ الّذِين يذْكُرُون اللّه قِياماً و قُعُوداً و على‌ جُنُوبِهِمْ} آل عمران - ١٩١، و هذا الذكر الدائم و ما يتبعه من التذلل و الخضوع هو الإنابة الموجبة لتذكرهم بآيات الله و انتقالهم إلى المعارف الحقة كما قال تعالى: {و ما يتذكّرُ إِلاّ منْ يُنِيبُ} الغافر - ١٣، و قد قال: {و ما يذّكّرُ إِلاّ أُولُوا الْألْبابِ} البقرة - ٢٦٩ آل عمران - ٧. 

  • قوله تعالى: {ربّنا لا تُزِغْ قُلُوبنا بعْد إِذْ هديْتنا و هبْ لنا مِنْ لدُنْك رحْمةً إِنّك أنْت الْوهّابُ}، و هذا من آثار رسوخهم في العلم فإنهم لما علموا بمقام ربهم، و عقلوا عن الله سبحانه أيقنوا أن الملك لله وحده و أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجئوا إلى ربهم، و سألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم، و أن يهب لهم من لدنه رحمة تبقي لهم هذه النعمة و يعينهم على السير في 

تفسير الميزان ج۳

30
  • صراط الهداية و السلوك في مراتب القرب. 

  • و أما سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلأن عدم إزاغة القلب لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم و ينتزع عنها العلم فتبقى سدى مهملة لا سعداء بالعلم و لا أشقياء بالإزاغة بل في حال الجهل و الاستضعاف، و هم في حاجة مبرمة إلى ما هم عليه من العلم، و مع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه إلى أنواع من الرحمة لا يعلمها و لا يحصيها إلا الله سبحانه، و هم مستشعرون بحاجتهم هذه و الدليل عليه قولهم بعد: {ربّنا إِنّك جامِعُ النّاسِ لِيوْمٍ لا ريْب فِيهِ}

  • فقولهم: {ربّنا لا تُزِغْ قُلُوبنا بعْد إِذْ هديْتنا}، استعاذة من نزول الزيغ إلى قلوبهم و إزاحته العلم الراسخ الذي فيها و قولهم {و هبْ لنا مِنْ لدُنْك رحْمةً إِنّك أنْت الْوهّابُ}، استمطار لسحاب الرحمة حتى تدوم بها حياة قلوبهم و تنكير الرحمة، و توصيفها بكونها من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة، و أنها كيف ينبغي أن تكون غير أنهم يعلمون أنه لو لا رحمة من ربهم و لو لا كونها من لدنه لم يتم لهم أمر. 

  • و في الاستعاذة من الزيغ إلى الله محضا و استيهاب الرحمة من لدنه محضا دلالة على أنهم يرون تمام الملك لله محضا من غير توجه إلى أمر الأسباب. 

  • قوله تعالى: {ربّنا إِنّك جامِعُ النّاسِ لِيوْمٍ لا ريْب فِيهِ إِنّ اللّه لا يُخْلِفُ الْمِيعاد}، هذا منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة و ذلك لعلمهم بأن إقامة نظام الخلقة و دعوة الدين و كدح الإنسان في مسير وجوده كل ذلك مقدمة لجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا يغني فيه و لا ينصر أحد إلا بالرحمة كما قال تعالى: {إِنّ يوْم الْفصْلِ مِيقاتُهُمْ أجْمعِين يوْم لا يُغْنِي موْلًى عنْ موْلًى شيْئاً و لا هُمْ يُنْصرُون إِلاّ منْ رحِم اللّهُ} الدخان - ٤٢ و لذلك سألوا رحمة من ربهم و فوضوا تعيينها و تشخيصها إليه لينفعهم في أمرهم. 

  • و قد وصفوا هذا اليوم بأنه لا ريب فيه ليتجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال و الدعاء، و عللوا هذا التوصيف أيضا بقولهم: {إِنّ اللّه لا يُخْلِفُ الْمِيعاد}، لأن شأنهم الرسوخ في العلم، و لا يرسخ العلم بشي‌ء و لا يستقر تصديق إلا مع العلم بعلته المنتجة، و علة عدم ارتيابهم في تحقق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه. 

تفسير الميزان ج۳

31
  • و نظير هذا الوجه جار في تعليلهم قولهم {و هبْ لنا مِنْ لدُنْك رحْمةً} بقولهم: {إِنّك أنْت الْوهّابُ}، فكونه تعالى وهابا يعلل به سؤالهم الرحمة، و إتيانهم بلفظة أنت و تعريف الخبر باللام المفيد للحصر يعلل به قولهم: {مِنْ لدُنْك}، الدال على الاختصاص، و كذا يجري مثل الوجه في قولهم: {ربّنا لا تُزِغْ قُلُوبنا}، حيث عقبوه بما يجري مجرى العلة بالنسبة إليه، و هو قولهم: {بعْد إِذْ هديْتنا}، و قد مر آنفا أن قولهم: {آمنّا بِهِ}، من حيث تعقيبه بقولهم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا}، من هذا القبيل أيضا. 

  • فهؤلاء رجال آمنوا بربهم و ثبتوا عليه فهداهم الله سبحانه، و كمل عقولهم فلا يقولون إلا عن علم و لا يفعلون إلا عن علم فسماهم الله تعالى راسخين في العلم، و كنى عنهم بأولى الألباب، و أنت إذا تدبرت ما عرف الله به أولي الألباب وجدته منطبقا على ما ذكره من شأنهم في هذه الآيات، قال تعالى: {و الّذِين اِجْتنبُوا الطّاغُوت أنْ يعْبُدُوها و أنابُوا إِلى اللّهِ لهُمُ الْبُشْرى‌ فبشِّرْ عِبادِ الّذِين يسْتمِعُون الْقوْل فيتّبِعُون أحْسنهُ أُولئِك الّذِين هداهُمُ اللّهُ و أُولئِك هُمْ أُولُوا الْألْبابِ} الزمر - ١٨. فوصفهم بالإيمان و اتباع أحسن القول، و الإنابة إلى الله سبحانه، و قد وصف بهذه الأوصاف الراسخين في العلم في هذه الآيات. 

  • و أما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله {إِنّ اللّه لا يُخْلِفُ الْمِيعاد}فلأن هذا الميعاد لا يختص بهم بل يعمهم و غيرهم فكان الأولى تبديل قولهم: {ربّنا}، إلى لفظة الجلالة لأن حكم الألوهية عام شامل لكل شي‌ء. 

  • كلام تفصيلي في المحكم و المتشابه و التأويل‌ 

  • هذا الذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم و المتشابه و التأويل فيما مر هو الذي يتحصل من تدبر كلامه سبحانه و يستفاد من المأثور عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) سيجي‌ء في البحث الروائي. 

  • لكن القوم اختلفوا في المقام، و قد شاع الخلاف و اشتد الانحراف بينهم، و ينسحب ذيل النزاع و المشاجرة إلى الصدر الأول من مفسري الصحابة و التابعين، و قلما يوجد في ما نقل إلينا من كلامهم ما يقرب مما مر من البيان فضلا عن أن ينطبق 

تفسير الميزان ج۳

32
  • عليه تمام الانطباق. 

  • و السبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم و المتشابه و بين البحث عن معنى التأويل، فأوجب ذلك اختلالا عجيبا في عقد المسألة و كيفية البحث و النتيجة المأخوذة منه، و نحن نورد تفصيل القول في كل واحد من أطراف هذه الأبحاث و ما قيل فيها و ما هو المختار من الحق مع تمييز مورد البحث بما تيسر في ضمن فصول:

  • ١ - المحكم و المتشابه‌ 

  • الإحكام و التشابه من الألفاظ المبينة المفاهيم في اللغة، و قد وصف بهما الكتاب كما في قوله تعالى: {كِتابٌ أُحْكِمتْ آياتُهُ} هود - ١، و قوله تعالى: {كِتاباً مُتشابِهاً مثانِي} الزمر - ٢٣، و لم يتصف بهما إلا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه و بيانه و من جهة تشابه نظمه و بيانه في البلوغ إلى غاية الإتقان و الإحكام. 

  • لكن قوله تعالى: {هُو الّذِي أنْزل عليْك الْكِتاب مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنّ أُمُّ الْكِتابِ و أُخرُ مُتشابِهاتٌ} الآية لما اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات و المتشابهات علمنا أن المراد بالإحكام و التشابه هاهنا غير ما يتصف به تمام الكتاب، و كان من الحري البحث عن معناهما و تشخيص مصداقهما من الآيات، و فيه أقوال ربما تجاوزت العشرة: 

  • أحدها: أن المحكمات هو قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ تعالوْا أتْلُ ما حرّم ربُّكُمْ عليْكُمْ ألاّ تُشْرِكُوا بِهِ شيْئاً} إلى آخر الآيات الثلاث، ‌الأنعام - ١٥٢ و المتشابهات‌ هي التي تشابهت على اليهود، و هي الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة من السور القرآنية مثل الم و الر و حم، و ذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة و عمرها فاشتبه عليهم الأمر. نسب إلى ابن عباس من الصحابة. 

  • و فيه: أنه قول من غير دليل و لو سلم فلا دليل على انحصارهما. فيهما، على أن لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم و لا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه. 

  • لكن الحق أن النسبة في غير محلها، و الذي نقل عن ابن عباس: أنه قال: إن 

تفسير الميزان ج۳

33
  • الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث، ففي الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن عبد الله بن قيس سمعت ابن عباس يقول ":في قوله {مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ}، قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات: {قُلْ تعالوْا}، و الآيتان بعدها. و يؤيد ذلك‌ ما رواه عنه أيضا في قوله: {آياتٌ مُحْكماتٌ}، قال: من هاهنا: {قُلْ تعالوْا}، إلى آخر ثلاث آيات، و من هاهنا: {و قضى‌ ربُّك ألاّ تعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ}، إلى آخر ثلاث آيات. فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات لا أنه قصرها فيها. 

  • و ثانيها: عكس الأول و هو أن المحكمات‌ هي الحروف المقطعة في فواتح السور و المتشابهات غيرها. نقل ذلك‌- عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى: {هُنّ أُمُّ الْكِتابِ}، إنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن: {الم ذلِك الْكِتابُ}، منها استخرجت البقرة و {الم اللّهُ لا إِله إِلاّ هُو الْحيُّ الْقيُّومُ}، منها استخرجت آل عمران. و عن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله: {هُنّ أُمُّ الْكِتابِ}، قال: أصل الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب‌، انتهى. و يدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها ألفاظ الحروف بعناية أن الكتاب الذي نزل عليكم هو هذه الحروف المقطعة التي تتألف منها الكلمات و الجمل، كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور. 

  • و فيه: مضافا إلى أنه مبني على ما لا دليل عليه أصلا أعني تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه، و قد ذم الله سبحانه اتباع المتشابه، و عده من زيغ القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى: {و اِتّبعُوا النُّور الّذِي أُنْزِل معهُ} الأعراف - ١٥٧، و غيره من الآيات. 

  • و ثالثها: أن المتشابه‌ هو ما يسمى مجملا و المحكم‌ هو المبين. 

  • و فيه: أن ما بين من أوصاف المحكم و المتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل و المبين. بيان ذلك: أن إجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط و يندمج بعض جهات 

تفسير الميزان ج۳

34
  • معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها، و يوجب ذلك تحير المخاطب أو السامع في تشخيص المراد و قد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبينا فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه، فلو كان المحكم و المتشابه هما المجمل و المبين بعينهما كان المتبع هو المتشابه إذا رد إلى المحكم، دون نفس المحكم، و كان هذا الاتباع مما لا يجوزه قريحة التكلم و التفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم و الراسخون في العلم و لم يكن اتباع المتشابه أمرا يلحقه الذم و يوجب زيغ القلب. 

  • رابعها: أن المتشابهات‌ هي الآيات المنسوخة لأنها يؤمن بها و لا يعمل بها، و المحكمات‌ هي الآيات الناسخة لأنها يؤمن بها، و يعمل بها و نسب إلى ابن عباس و ابن مسعود و ناس من الصحابة، و لذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن. 

  • و فيه: أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات و الأفعال، على أن لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم و المتشابه‌. 

  • و فيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم و المتشابه أعم مما ينطبق على الناسخ و المنسوخ، و أنه إنما ذكرهما من باب المثال - ففي الدر المنثور: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال ":المحكمات ناسخه و حلاله و حرامه - و حدوده و فرائضه و ما يؤمن به، و المتشابهات منسوخه و مقدمه و مؤخره و أمثاله و أقسامه و ما يؤمن به و لا يعمل به‌، انتهى. 

  • خامسها: أن المحكمات‌ ما كان دليله واضحا لائحا كدلائل الوحدانية و القدرة و الحكمة، و المتشابهات‌ ما يحتاج في معرفته إلى تأمل و تدبر. 

  • و فيه: أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحا لائحا أو محتاجا إلى التأمل و التدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أو بديهي و عدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام و الفرائض و نحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقلي اللائح الواضح، و حينئذ يكون اتباعها مذموما مع أنها واجبة الاتباع، و إن 

تفسير الميزان ج۳

35
  • كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب و عدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة، و كيف لا؟ و هو كتاب متشابه مثاني، و نور، و مبين، و لازمه كون الجميع محكما و ارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب و هو خلف الفرض و خلاف النص. 

  • سادسها: أن المحكم‌ كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي، و المتشابه‌ ما لا سبيل إلى العلم به‌ كوقت قيام الساعة و نحوه. 

  • و فيه: أن الإحكام و التشابه وصفان لآية الكتاب من حيث إنها آية أي دالة على معرفة من المعارف الإلهية، و الذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل، و لا ممتنع الفهم إما بنفسه أو بضميمة غيره، و كيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية و لا يمكن نيله من جهة اللفظ؟ مع أنه وصف كتابه بأنه هدى، و أنه نور، و أنه مبين، و أنه في معرض فهم الكافرين فضلا عن المؤمنين حيث قال: {تنْزِيلٌ مِن الرّحْمنِ الرّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلتْ آياتُهُ قُرْآناً عربِيًّا لِقوْمٍ يعْلمُون بشِيراً و نذِيراً فأعْرض أكْثرُهُمْ فهُمْ لا يسْمعُون} حم السجدة - ٤، و قال تعالى: {أ فلا يتدبّرُون الْقُرْآن و لوْ كان مِنْ عِنْدِ غيْرِ اللّهِ لوجدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كثِيراً} النساء - ٨٢، فما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم، و لا الوقوف عليه مستحيل، و ما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة و سائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابها. 

  • على أن في هذا القول خلطا بين معنى المتشابه و تأويل الآية كما مر. 

  • سابعها: أن المحكمات‌ آيات الأحكام و المتشابهات‌ غيرها مما يصرف بعضها بعضا، نسب هذا القول إلى مجاهد و غيره. 

  • و فيه: أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص، و التقييد بالمقيد و سائر القرائن المقامية كانت آيات الأحكام أيضا كغيرها متشابهات، و إن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد و لا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه‌، و يتعين المراد بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشي‌ء 

تفسير الميزان ج۳

36
  • من معارف القرآن غير الأحكام لأن المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها و يتبين بذلك معانيها. 

  • ثامنها: أن المحكم‌ من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا و المتشابه‌ ما احتمل من التأويل أوجها كثيرة و نسب إلى الشافعي، و كان المراد به أن المحكم ما لا ظهور له إلا في معنى واحد كالنص و الظاهر القوي في ظهوره و المتشابه خلافه. 

  • و فيه: أنه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئا، فقد بدل لفظ المحكم بما ليس له إلا معنى واحد، و المتشابه بما يحتمل معاني كثيرة، على أنه أخذ التأويل‌ بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ و قد عرفت أنه خطأ، و لو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه بالله، أو بالله و بالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضا، و المؤمن و الكافر و الراسخون في العلم و أهل الزيغ في ذلك سواء. 

  • تاسعها: أن المحكم‌ ما أحكم و فصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم، و المتشابه‌ ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعددة، و لازم هذا القول اختصاص التقسيم بآيات القصص. 

  • و فيه: أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلا، على أن الذي ذكره تعالى من خواص المحكم و المتشابه و هو ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه، فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها، و توجد في القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكررة. 

  • عاشرها: أن المتشابه‌ ما يحتاج إلى بيان و المحكم‌ خلافه، و هذا الوجه منسوب إلى الإمام أحمد. 

  • و فيه: أن آيات الأحكام محتاجة إلى بيان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع أنها من المحكمات قطعا لما تقدم بيانه مرارا، و كذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدم مع عدم احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الأحكام. 

  • الحادي عشر: أن المحكم‌ ما يؤمن به و يعمل به و المتشابه‌ ما يؤمن به و لا يعمل به، و نسب إلى ابن تيمية، و لعل المراد به: أن الأخبار متشابهات و الإنشاءات 

تفسير الميزان ج۳

37
  • محكمات كما استظهره بعضهم و إلا لم يكن قولا برأسه لصحة انطباقه على عدة من الأقوال المتقدمة. 

  • و فيه: أن لازمه كون غير آيات الأحكام متشابهات، و لازمه أن لا يمكن حصول العلم بشي‌ء من المعارف الإلهية في غير الأحكام إذ لا يتحقق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها، و من جهة أخرى: الآيات المنسوخة إنشاءات و ليست بمحكمات قطعا. 

  • و الظاهر أن مراده من الإيمان و العمل بالمحكم و الإيمان من غير عمل بالمتشابه ما يدل عليه لفظ الآية: {فأمّا الّذِين فِي قُلُوبِهِمْ زيْغٌ فيتّبِعُون ما تشابه مِنْهُ}، {و الرّاسِخُون فِي الْعِلْمِ يقُولُون آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا}، إلا أن الأمرين أعني الإيمان و العمل معا في المحكم و الإيمان فقط في المتشابه لما كانا وظيفتين لكل من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخص المحكم و المتشابه قبلا حتى يؤدي وظيفته، و على هذا فلا يكفي معرفة المحكم و المتشابه بهما في تشخيص مصداقهما و هو ظاهر. 

  • الثاني عشر: إن المتشابهات‌ هي آيات الصفات خاصة أعم من صفات الله سبحانه كالعليم و القدير و الحكيم و الخبير و صفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن مريم (عليه السلام): {و كلِمتُهُ ألْقاها إِلى‌ مرْيم و رُوحٌ مِنْهُ} النساء - ١٧١، و ما يشبه ذلك، نسب إلى ابن تيمية. 

  • و فيه: أنه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها. 

  • و الذي يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله أنه يأخذ المحكم و المتشابه‌ بمعناهما اللغوي و هو ما أحكمت دلالته و ما تشابهت احتمالاته و المعنيان نسبيان فربما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامة و علمها آخرون بالبحث و هم العلماء، و هذا المعنى في آيات الصفات أظهر فإنها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحس، فيحسبون ما أثبته الله تعالى لنفسه من العلم و القدرة و السمع و البصر و الرضا و الغضب و اليد و العين و غير ذلك أمورا جسمانية أو معاني ليست بالحق، و تقوم بذلك الفتن، و تظهر البدع، و تنشأ المذاهب، فهذا معنى المحكم 

تفسير الميزان ج۳

38
  • و المتشابه، و كلاهما مما يمكن أن يحصل به العلم، و الذي لا يمكن نيله و العلم به هو تأويل المتشابهات‌ بمعنى حقيقة المعاني التي تدل عليها أمثال آيات الصفات، فهب أنا علمنا معنى قوله: {إِنّ اللّه على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ قدِيرٌ}، و {إِنّ اللّه بِكُلِّ شيْ‌ءٍ علِيمٌ} و نحو ذلك لكنا لا ندري حقيقة علمه و قدرته و سائر صفاته و كيفية أفعاله الخاصة به، فهذا هو تأويل المتشابهات الذي لا يعلمها إلا الله تعالى، انتهى ملخصا، و سيأتي ما يتعلق بكلامه من البحث عند ما نتكلم في التأويل إن شاء الله. 

  • الثالث عشر: أن المحكم‌ ما للعقل إليه سبيل و المتشابه‌ بخلافه. 

  • و فيه: أنه قول من غير دليل، و الآيات القرآنية و إن انقسمت إلى ما للعقل إليه سبيل و ما ليس للعقل إليه سبيل، لكن ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم و المتشابه في هذه الآية استيفاء هذا التقسيم، و شي‌ء مما ذكر فيها من نعوت المحكم و المتشابه لا ينطبق عليه انطباقا صحيحا، على أنه منقوض بآيات الأحكام فإنها محكمة و لا سبيل للعقل إليها. 

  • الرابع عشر: أن المحكم‌ ما أريد به ظاهره و المتشابه‌ ما أريد به خلاف ظاهره، و هذا قول شائع عند المتأخرين من أرباب البحث، و عليه يبتني اصطلاحهم في التأويل‌: أنه المعنى المخالف لظاهر الكلام و كأنه أيضا مراد من قال: إن المحكم ما تأويله تنزيله، و المتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل. 

  • و فيه: أنه اصطلاح محض‌ لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم و المتشابه فإن المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده و مدلوله، و ليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزا عن المحكم بأن له تأويلا، بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها و متشابهها كما مر بيانه. على أنه ليس في القرآن آية أريد فيها ما يخالف ظاهرها، و ما يوهم ذلك من الآيات إنما أريد بها معان يعطيها لها آيات أخر محكمة، و القرآن يفسر بعضه بعضا، و من المعلوم أن المعنى الذي تعطيه القرائن متصلة أو منفصلة للفظ ليس بخارج عن ظهوره و بالخصوص في كلام نص متكلمه على أن ديدنه أن يتكلم بما يتصل بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض و يرتفع كل اختلاف و تناف مترائى بالتدبر فيه، قال تعالى: {أ فلا يتدبّرُون الْقُرْآن و لوْ كان مِنْ عِنْدِ غيْرِ اللّهِ لوجدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كثِيراً} النساء - ٨٢.

تفسير الميزان ج۳

39
  • الخامس عشر: ما عن الأصم: أن المحكم‌ ما أجمع على تأويله و المتشابه‌ ما اختلف فيه و كان المراد بالإجماع و الاختلاف كون مدلول الآية بحيث يختلف فيه الأنظار أو لا يختلف. 

  • و فيه: أن ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابها و ينافيه التقسيم الذي في الآية إذ ما من آية من آي الكتاب إلا و فيه اختلاف ما: إما لفظا أو معنى أو في كونها ذات ظهور أو غيرها، حتى ذهب بعضهم إلى أن القرآن كله متشابه مستدلا بقوله تعالى: {كِتاباً مُتشابِهاً} الزمر - ٢٣، غفلة عن أن هذا الاستدلال منه يبتني على كون ما استدل به آية محكمة و هو يناقض قوله و ذهب آخرون إلى أن ظاهر الكتاب ليس بحجة أي أنه لا ظاهر له. 

  • السادس عشر: أن المتشابه‌ ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره سواء كان الإشكال من جهة اللفظ أو من جهة المعنى، ذكره الراغب. 

  • قال في مفردات القرآن: و المتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره، إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى، فقال الفقهاء: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده، و حقيقة ذلك: أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق، و متشابه على الإطلاق، و محكم من وجه متشابه من وجه. 

  • فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، و متشابه من جهة المعنى فقط، و متشابه من جهتهما. و المتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، و ذلك إما من جهة غرابته نحو الأب و يزفون، و إما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد و العين، و الثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب، و ذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو {و إِنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِي الْيتامى‌ فانْكِحُوا ما طاب لكُمْ مِن النِّساءِ}، و ضرب لبسط الكلام نحو {ليْس كمِثْلِهِ شيْ‌ءٌ}، لأنه لو قيل ليس مثله شي‌ء كان أظهر للسامع، و ضرب لنظم الكلام نحو {أنْزل على‌ عبْدِهِ الْكِتاب و لمْ يجْعلْ لهُ عِوجاً قيِّماً}، تقديره الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و قوله: {و لوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُون} إلى قوله: {لوْ تزيّلُوا}.

  • و المتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى و أوصاف يوم القيامة، فإن تلك 

تفسير الميزان ج۳

40
  • الصفات لا تتصور لنا، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما لم نحسه. 

  • و المتشابه من جهة المعنى و اللفظ جميعا خمسة أضرب: الأول: من جهة الكمية كالعموم و الخصوص نحو {فاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين}، و الثاني: من جهة الكيفية كالوجوب و الندب نحو {فانْكِحُوا ما طاب لكُمْ}، و الثالث من جهة الزمان كالناسخ و المنسوخ نحو {اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ}، و الرابع: من جهة المكان أو الأمور التي نزلت فيها نحو {و ليْس الْبِرُّ بِأنْ تأْتُوا الْبُيُوت مِنْ ظُهُورِها}، و قوله: {إِنّما النّسِي‌ءُ زِيادةٌ فِي الْكُفْرِ}، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية، و الخامس: من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلوة و النكاح. 

  • و هذه الجملة إذا تصورت علم: أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال المتشابه الم، و قول قتادة: المحكم الناسخ و المتشابه المنسوخ، و قول الأصم: المحكم ما أجمع على تأويله و المتشابه ما اختلف فيه. 

  • ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة و خروج دابة الأرض و كيفية الدابة و نحو ذلك. و ضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة و الأحكام الغلقة و ضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم و يخفى على من دونهم، و هو الضرب المشار إليه‌- بقوله (عليه السلام) في علي رضي الله عنه: اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل‌، و قوله لابن عباس مثل ذلك، انتهى كلامه و هو أعم الأقوال في معنى المتشابه جمع فيها بين عدة من الأقوال المتقدمة. 

  • و فيه: أولا: أن تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظية كغرابة اللفظ و إغلاق التركيب و العموم و الخصوص و نحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية، فإن الآية جعلت المحكمات مرجعا يرجع إليه المتشابهات، و من المعلوم أن غرابة اللفظ و أمثالها لا تنحل عقدتها من جهة دلالة المحكمات، بل لها مرجع آخر ترجع إليه و تتضح به. 

  • و أيضا: الآية تصف المتشابهات بأنها من شأنها أن تتبع لابتغاء الفتنة، و من المعلوم: أن اتباع العام من غير رجوع إلى مخصصه، و المطلق من غير رجوع إلى مقيده 

تفسير الميزان ج۳

41
  • و أخذ اللفظ الغريب مع الإعراض عما يفسره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا تجوزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجبا لإثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه. 

  • و ثانيا: أن تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامة الناس و ما لا يمكن فهمه لأحد و ما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه، و قد عرفت خلافه. 

  • هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم و المتشابه و تمييز مواردهما، و قد عرفت ما فيها، و عرفت أيضا أن الذي يظهر من الآية على ظهورها و سطوع نورها خلاف ذلك كله، و أن الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه: أن تكون الآية مع حفظ كونها آية دالة على معنى مريب مردد لا من جهة اللفظ بحيث يعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العام و المطلق إلى المخصص و المقيد و نحو ذلك بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية أخرى محكمة لا ريب فيه تبين حال المتشابهة. 

  • و من المعلوم أن معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلا مع كون ما يتبع من المعنى مألوفا مأنوسا عند الأفهام العامية تسرع الأذهان الساذجة إلى تصديقه أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الأفهام الضعيفة الإدراك و التعقل. 

  • و أنت إذا تتبعت البدع و الأهواء و المذاهب الفاسدة التي انحرف فيها الفرق الإسلامية عن الحق القويم بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سواء كان في المعارف أو في الأحكام وجدت أكثر مواردها من اتباع المتشابه، و التأويل في الآيات بما لا يرتضيه الله سبحانه. 

  • ففرقة تتمسك من القرآن بآيات للتجسيم، و أخرى للجبر، و أخرى للتفويض و أخرى لعثرة الأنبياء، و أخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات، و أخرى للتشبيه الخالص و زيادة الصفات، إلى غير ذلك، كل ذلك للأخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه. 

  • و طائفة ذكرت: أن الأحكام الدينية إنما شرعت لتكون طريقا إلى الوصول فلو كان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعينا لمن ركبه فإنما المطلوب هو الوصول بأي طريق اتفق و تيسر، و أخرى قالت إن التكليف إنما هو لبلوغ الكمال، و لا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقق الوصول فلا تكليف لكامل. 

تفسير الميزان ج۳

42
  • و قد كانت الأحكام و الفرائض و الحدود و سائر السياسات الإسلامية قائمة و مقامة في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله و سلم)لا يشذ منها شاذ ثم لم تزل بعد ارتحاله (صلى الله عليه وآله و سلم) تنقص و تسقط حكما فحكما، يوما فيوما بيد الحكومات الإسلامية، و لم يبطل حكم أو حد إلا و اعتذر المبطلون: أن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا و إصلاح الناس، و ما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم، حتى آل الأمر إلى ما يقال: إن الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا بإجرائها، و الدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية و لا تهضمها بل تستدعي وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم و إجراءها، و إلى ما يقال إن التلبس بالأعمال الدينية لتطهير القلوب و هدايتها إلى الفكرة و الإرادة الصالحتين، و القلوب المتدربة بالتربية الاجتماعية، و النفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهر بأمثال الوضوء و الغسل و الصلوة و الصوم. 

  • إذا تأملت في هذه و أمثالها و هي لا تحصى كثرة و تدبرت في قوله تعالى: {فأمّا الّذِين فِي قُلُوبِهِمْ زيْغٌ فيتّبِعُون ما تشابه مِنْهُ اِبْتِغاء الْفِتْنةِ و اِبْتِغاء تأْوِيلِهِ} (الآية) لم تشك في صحة ما ذكرناه، و قضيت بأن هذه الفتن و المحن التي غادرت الإسلام و المسلمين لم تستقر قرارها إلا من طريق اتباع المتشابه، و ابتغاء تأويل القرآن. 

  • و هذا - و الله أعلم - هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب، و إصراره البالغ على النهي عن اتباع المتشابه و ابتغاء الفتنة و التأويل و الإلحاد في آيات الله و القول فيها بغير علم و اتباع خطوات الشيطان فإن من دأب القرآن أنه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولي الكفار، و مودة ذوي القربى، و قرار أزواج النبي، و معاملة الربا، و اتحاد الكلمة في الدين و غير ذلك. 

  • و لا يغسل رين الزيغ من القلوب و لا يسد طريق ابتغاء الفتنة اللذين منشؤهما الركون إلى الدنيا و الإخلاد إلى الأرض و اتباع الهوى إلا ذكر يوم الحساب كما قال تعالى: {و لا تتّبِعِ الْهوى‌ فيُضِلّك عنْ سبِيلِ اللّهِ إِنّ الّذِين يضِلُّون عنْ سبِيلِ اللّهِ لهُمْ عذابٌ شدِيدٌ بِما نسُوا يوْم الْحِسابِ} ص - ٢٦، و لذلك ترى الراسخين في العلم المتأبين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون: {ربّنا إِنّك جامِعُ النّاسِ لِيوْمٍ لا ريْب فِيهِ إِنّ اللّه لا يُخْلِفُ الْمِيعاد}

تفسير الميزان ج۳

43
  • ٢ - ما معنى كون المحكمات أم الكتاب 

  • ذكر جماعة: أن كون الآيات المحكمة أم الكتاب كونها أصلا في الكتاب عليه تبتني قواعد الدين و أركانها فيؤمن بها، و يعمل بها و ليس الدين إلا مجموعا من الاعتقاد و العمل، و أما الآيات المتشابهة فهي لتزلزل مرادها و تشابه مدلولها لا يعمل بها بل إنما يؤمن بها إيمانا. 

  • و أنت بالتأمل فيما تقدم من الأقوال تعلم أن هذا لازم بعض الأقوال المتقدمة، و هي التي ترى أن المتشابه إنما صار متشابها لاشتماله على تأويل يتعذر الوصول إليه و فهمه، أو أن المتشابه يمكن حصول العلم به و رفع تشابهه في الجملة أو بالجملة بالرجوع إلى عقل أو لغة أو طريقة عقلائية يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظية. 

  • و قال آخرون: إن معنى أمومة المحكمات رجوع المتشابهات إليها، و كلامهم مختلف في تفسير هذا الرجوع فظاهر بعضهم: أن المراد بالرجوع هو قصر المتشابهات على الإيمان و الاتباع العملي في مواردها للمحكم‌ كالآية المنسوخة يؤمن بها و يرجع في موردها إلى العمل بالناسخة، و هذا القول لا يغاير القول الأول كثير مغايرة، و ظاهر بعض آخر أن معناها كون المحكمات مبينة للمتشابهات، رافعة لتشابهها. 

  • و الحق هو المعنى الثالث، فإن معنى الأمومة الذي تدل عليه قوله: {هُنّ أُمُّ الْكِتابِ} (الآية) يتضمن عناية زائدة و هو أخص من معنى الأصل الذي فسرت به الأم في القول الأول، فإن في هذه اللفظة. أعني لفظة الأم عناية بالرجوع الذي فيه انتشاء و اشتقاق و تبعض، فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع و تتفرع على المحكمات، و لازمه كون المحكمات مبينة للمتشابهات. 

  • على أن المتشابه إنما كان متشابها لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل، فإن التأويل كما مر يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه، و القرآن يفسر بعضه بعضا، فللمتشابه مفسر و ليس إلا المحكم، مثال ذلك قوله تعالى: {إِلى‌ ربِّها ناظِرةٌ} القيامة - ٢٣، فإنه آية متشابهة، و بإرجاعها إلى قوله تعالى: {ليْس كمِثْلِهِ شيْ‌ءٌ} الشورى - ١١، و قوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الْأبْصارُ} الأنعام - ١٠٣، يتبين: أن المراد بها نظرة و رؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسي، و قد قال تعالى: {ما كذب الْفُؤادُ ما رأى‌ 

تفسير الميزان ج۳

44
  • أ فتُمارُونهُ على‌ ما يرى‌}، إلى أن قال {لقدْ رأى‌ مِنْ آياتِ ربِّهِ الْكُبْرى‌} النجم - ١٨، فأثبت للقلب رؤية تخصه، و ليس هو الفكر فإن الكفر إنما يتعلق بالتصديق و المركب الذهني و الرؤية إنما تتعلق بالمفرد العيني، فيتبين بذلك أنه توجه من القلب ليست بالحسية المادية و لا بالعقلية الذهنية، و الأمر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات. 

  • ٣ - ما معنى التأويل؟ 

  • فسر قوم من المفسرين التأويل‌ بالتفسير و هو المراد من الكلام و إذ كان المراد من بعض الآيات معلوما بالضرورة كان المراد بالتأويل على هذا من قوله تعالى: {و اِبْتِغاء تأْوِيلِهِ و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ} (الآية) هو المعنى المراد بالآية، المتشابهة، فلا طريق إلى العلم بالآيات المتشابه على هذا القول لغير الله سبحانه أو لغيره و غير الراسخين في العلم. 

  • و قالت طائفة أخرى: إن المراد بالتأويل: هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ، و قد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقة ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الإرجاع أو المرجع. 

  • و كيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخرين كما أن المعنى الأول هو الذي كان شائعا بين قدماء المفسرين سواء فيه من كان يقول: إن التأويل لا يعلمه إلا الله، و من كان يقول إن الراسخين في العلم أيضا يعلمونه كما نقل‌- عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا من الراسخين في العلم و أنا أعلم تأويله.

  • و ذهب طائفة أخرى: إلى أن التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لا يعلمه إلا الله و الراسخون في العلم مع عدم كونه خلاف ظاهر اللفظ، فيرجع الأمر إلى أن للآية المتشابهة معاني متعددة بعضها تحت بعض، منها ما هو تحت اللفظ يناله جميع الأفهام، و منها ما هو أبعد منه لا يناله إلا الله سبحانه أو هو تعالى و الراسخون في العلم. 

  • و قد اختلفت أنظارهم في كيفية ارتباط هذه المعاني باللفظ فإن من المتيقن أنها من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد و إلا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد و هو غير جائز على ما بين في محله، فهي لا محالة معان مترتبة في 

تفسير الميزان ج۳

45
  • الطول: فقيل: إنها لوازم معنى اللفظ إلا أنها لوازم مترتبة بحيث يكون للفظ معنى مطابقي و له لازم و للازمه لازم و هكذا، و قيل: إنها معان مترتبة بعضها على بعض ترتب الباطن على ظاهره، فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ و إرادة لباطنه بعين إرادته نفسه كما إنك إذا قلت: اسقني فلا تطلب بذاك إلا السقي و هو بعينه طلب للإرواء، و طلب لرفع الحاجة الوجودية، و طلب للكمال الوجودي و ليس هناك أربعة أوامر و مطالب، بل الطلب الواحد المتعلق بالسقي متعلق بعينه بهذه الأمور التي بعضها في باطن بعض و السقي مرتبط بها و معتمد عليها. 

  • و هاهنا قول رابع: و هو أن التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ بل هو الأمر العيني الذي يعتمد عليه الكلام، فإن كان الكلام حكما إنشائيا كالأمر و النهي فتأويله المصلحة التي توجب إنشاء الحكم و جعله و تشريعه، فتأويل قوله: {أقِيمُوا الصّلاة} مثلا هو الحالة النورانية الخارجية التي تقوم بنفس المصلي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء و المنكر، و إن كان الكلام خبريا فإن كان إخبارا عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي كالآيات المشتملة على أخبار الأنبياء و الأمم الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي، و إن كان إخبارا عن الحوادث و الأمور الحالية و المستقبلة فهو على قسمين: فإما أن يكون المخبر به من الأمور التي تناله الحواس أو تدركه العقول كان أيضا تأويله ما هو في الخارج من القضية الواقعة كقوله تعالى: {و فِيكُمْ سمّاعُون لهُمْ} التوبة - ٤٧، و قوله تعالى: {غُلِبتِ الرُّومُ فِي أدْنى الْأرْضِ و هُمْ مِنْ بعْدِ غلبِهِمْ سيغْلِبُون فِي بِضْعِ سِنِين} الروم - ٤ و إن كان من الأمور المستقبلة الغيبية التي لا تناله حواسنا الدنيوية و لا يدرك حقيقتها عقولنا كالأمور المربوطة بيوم القيامة و وقت الساعة و حشر الأموات و الجمع و السؤال و الحساب و تطاير الكتب، أو كان مما هو خارج من سنخ الزمان و إدراك العقول كحقيقة صفاته و أفعاله تعالى فتأويلها أيضا نفس حقائقها الخارجية. 

  • و الفرق بين هذا القسم أعني الآيات المبينة لحال صفات الله تعالى و أفعاله و ما يلحق بها من أحوال يوم القيامة و نحوها و بين الأقسام الأخر أن الأقسام الأخر يمكن حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم، فإنه لا يعلم حقيقة تأويله إلا الله تعالى، نعم يمكن أن يناله الراسخون في العلم بتعليم الله تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم، 

تفسير الميزان ج۳

46
  • و أما حقيقة الأمر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه. 

  • فهذا هو الذي يتحصل من مذاهبهم في معنى التأويل، و هي أربعة. 

  • و هاهنا أقوال أخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الأول و إن تحاشى القائلون بها عن قبوله. 

  • فمن جملتها أن التفسير أعم من التأويل و أكثر استعماله في الألفاظ و مفرداتها و أكثر استعمال التأويل في المعاني و الجمل، و أكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الإلهية، و يستعمل التفسير فيها و في غيرها. 

  • و من جملتها: أن التفسير بيان معنى اللفظ الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا و التأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطا. 

  • و من جملتها: أن التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ و التأويل ترجيع أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها، و هو قريب من سابقه. 

  • و من جملتها: أن التفسير بيان دليل المراد و التأويل بيان حقيقة المراد، مثاله: قوله تعالى: {إِنّ ربّك لبِالْمِرْصادِ}، فتفسيره: أن المرصاد مفعال من قولهم: رصد يرصد إذا راقب، و تأويله التحذير عن التهاون بأمر الله و الغفلة عنه. 

  • و من جملتها: أن التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ و التأويل بيان المعنى المشكل. 

  • و من جملتها: أن التفسير يتعلق بالرواية و التأويل يتعلق بالدراية. 

  • و من جملتها: أن التفسير يتعلق بالاتباع و السماع و التأويل يتعلق بالاستنباط و النظر. فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الأول الذي نقلناه، يرد عليها ما يرد عليه و كيف كان فلا يصح الركون إلى شي‌ء من هذه الأقوال الأربعة و ما ينشعب منها. 

  • أما إجمالا: فلأنك قد عرفت: أن المراد بتأويل الآية ليس مفهوما من المفاهيم تدل عليه الآية سواء كان مخالفا لظاهرها أو موافقا، بل هو من قبيل الأمور الخارجية، و لا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تأويلا له، بل أمر خارجي 

تفسير الميزان ج۳

47
  • مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثل إلى المثل بفتحتين و الباطن إلى الظاهر. 

  • و أما تفصيلا فيرد على القول‌ الأول: أن أقل ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنية لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظية عامة الأفهام، و ليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بأنه إنما أنزل قرآنا ليناله الأفهام، و لا مناص لصاحب هذا القول إلا أن يختار أن الآيات المتشابهة إنما هي فواتح السور من الحروف المقطعة حيث لا ينال معانيها عامة الأفهام، و يرد عليه: أنه لا دليل عليه، و مجرد كون التأويل مشتملا على معنى الرجوع و كون التفسير أيضا غير خال عن معنى الرجوع لا يوجب كون التأويل هو التفسير كما أن الأم مرجع لأولادها و ليست بتأويل لهم، و الرئيس مرجع للمرءوس و ليس بتأويل له. 

  • على أن ابتغاء الفتنة عد في الآية خاصة مستقلة للتشابه و هو يوجد في غير فواتح السور فإن أكثر الفتن المحدثة في الإسلام إنما حدثت باتباع علل الأحكام و آيات الصفات و غيرها. 

  • و أما القول الثاني فيرد عليه: أن لازمه وجود آيات في القرآن أريد بها معان يخالفها ظاهرها الذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات، و مرجعه إلى أن في القرآن اختلافا بين الآيات لا يرتفع إلا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامة الأفهام، و هذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى: {أ فلا يتدبّرُون الْقُرْآن و لوْ كان مِنْ عِنْدِ غيْرِ اللّهِ لوجدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كثِيراً} النساء - ٨٢، إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بأن يقال: إنه أريد بإحداهما أو بهما معا غير ما يدل عليه الظاهر بل معنى تأويلي باصطلاحهم لا يعلمه إلا الله سبحانه مثلا لم تنجح حجة الآية، فإن انتفاء الاختلاف بالتأويل باصطلاحهم في كل مجموع من الكلام و لو كان لغير الله أمر ممكن، و لا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر، إذ من الواضح أن كل كلام‌ حتى القطعي الكذب و اللغو يمكن إرجاعه إلى الصدق و الحق بالتأويل و الصرف عن ظاهره، فلا يدل ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من يتعالى عن اختلاف الأحوال، و تناقض الآراء، و السهو و النسيان و الخطاء و التكامل بمرور الزمان كما هو المعني بالاحتجاج في الآية، فالآية بلسان احتجاجها صريح في أن القرآن معرض لعامة الأفهام، و مسرح للبحث و التأمل و التدبر، و ليس فيه آية أريد 

تفسير الميزان ج۳

48
  • بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربي و لا أن فيه أحجية و تعمية. 

  • و أما القول الثالث فيرد عليه: أن اشتمال الآيات القرآنية على معان مترتبة بعضها فوق بعض و بعضها تحت بعض مما لا ينكره إلا من حرم نعمة التدبر، إلا أنها جميعا - و خاصة لو قلنا إنها لوازم المعنى - مداليل لفظية مختلفة من حيث الانفهام و ذكاء السامع المتدبر و بلادته، و هذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التأويل: {و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ}، فإن المعارف العالية و المسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان من حيث التقوى و طهارة النفس بل من حيث الحدة و عدمها، و إن كانت التقوى و طهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية لكن ذلك ليس على نحو الدوران و العلية كما هو ظاهر قوله: {و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ}

  • و أما القول الرابع فيرد عليه: أنه و إن أصاب في بعض كلامه لكنه أخطأ في بعضه الآخر فإنه و إن أصاب في القول بأن التأويل لا يختص بالمتشابه بل يوجد لجميع القرآن، و أن التأويل ليس من سنخ‌ المدلول اللفظي بل هو أمر خارجي يبتني عليه الكلام لكنه أخطأ في عد كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية و المستقبلة تأويلا للكلام، و في حصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات و آيات القيامة. 

  • توضيحه: أن المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى: {و اِبْتِغاء تأْوِيلِهِ} إلخ، إما أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله: {و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ} إلخ، فإن كثيرا من تأويل القرآن و هو تأويلات القصص بل الأحكام أيضا و آيات الأخلاق مما يمكن أن يعلمه غيره تعالى و غير الراسخين في العلم من الناس حتى الزائغون قلبا على قوله فإن الحوادث التي تدل عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم، و كذا الحقائق الخلقية و المصالح التي يوجدها العمل بالأحكام من العبادات و المعاملات و سائر الأمور المشرعة. 

  • و إن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله: {و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ} إلخ، و أفاد أن غيره تعالى و غير الراسخين في العلم مثلا لا ينبغي لهم ابتغاء تأويل المتشابه، و هو يؤدي إلى الفتنة و إضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات و القيامة فإن الفتنة و الضلال كما يوجد في تأويلها

تفسير الميزان ج۳

49
  • يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام و القصص و غيرهما كأن يقول القائل (و قد قيل) إن المراد من تشريع الأحكام إحياء الاجتماع الإنساني بإصلاح شأنه بما ينطبق على الصلاح، فلو فرض أن صلاح المجتمع في غير الحكم المشرع، أو أنه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتباعه و إلغاء الحكم الديني المشرع. و كأن يقول القائل (و قد قيل) إن المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن أمور عادية، و إنما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامة لانجذاب نفوسهم و خضوع قلوبهم لما يتخيلونه خارقا للعادة قاهرا لقوانين الطبيعة. و يوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الإسلام شي‌ء كثير من هذه الأقاويل، و جميعها من التأويل في القرآن ابتغاء للفتنة بلا شك، فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات و آيات القيامة. 

  • إذا عرفت ما مر علمت: أن الحق في تفسير التأويل‌ أنه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة، و أنه موجود لجميع الآيات القرآنية: محكمها و متشابهها، و أنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ، و إنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهي كالأمثال تضرب ليقرب بها المقاصد و توضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى: {و الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنّا جعلْناهُ قُرْآناً عربِيًّا لعلّكُمْ تعْقِلُون و إِنّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لديْنا لعلِيٌّ حكِيمٌ} الزخرف - ٤ و في القرآن تصريحات و تلويحات بهذا المعنى. 

  • على أنك قد عرفت فيما مر من البيان أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد التي - استعملها و هي ستة عشر موردا على ما عدت - إلا في المعنى الذي ذكرناه. 

  • ٤ - هل يعلم تأويل القرآن غير الله سبحانه‌ 

  • هذه المسألة أيضا من موارد الخلاف الشديد بين المفسرين، و منشؤه‌ الخلاف الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى: {و الرّاسِخُون فِي الْعِلْمِ يقُولُون آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا} (الآية) و أن الواو هل هو للعطف أو للاستيناف، فذهب بعض القدماء و الشافعية و معظم المفسرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف و أن الراسخين في العلم يعلمون 

تفسير الميزان ج۳

50
  • تأويل المتشابه من القرآن، و ذهب معظم القدماء و الحنفية من أهل السنة إلى أنه للاستيناف و أنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله و هو مما استأثر الله سبحانه بعلمه. و قد استدلت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة، و ببعض الروايات. و الطائفة الثانية بوجوه أخر و عدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات مما استأثر الله سبحانه بعلمه و تمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها و المعارضة مع حججها. 

  • و الذين ينبغي أن يتنبه له الباحث في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط و الاشتباه من أول ما دارت بينهم و وقعت موردا للبحث و التنقير، فاختلط رجوع المتشابه إلى المحكم. و بعبارة أخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ به ما عنونا به المسألة و قررنا عليه الخلاف و قول كل من الطرفين آنفا. 

  • و لذلك تركنا التعرض لنقل حجج الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط و أما الروايات فإنها مخالفة لظاهر الكتاب فإن الروايات المثبتة، أعني الدالة على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنها أخذت التأويل مرادفا للمعنى المراد من لفظ المتشابه و لا تأويل في القرآن بهذا المعنى. كما روي من طرق أهل السنة: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دعا لابن عباس فقال: اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل‌. و ما روي من قول ابن عباس: أنا من الراسخين في العلم و أنا أعلم تأويله‌، و من قوله: إن المحكمات هي الآيات الناسخة و المتشابهات هي المنسوخة فإن لازم هذه الروايات على ما فهموه أن يكون معنى الآية المحكمة تأويلا للآية المتشابهة و هو الذي أشرنا إليه أن التأويل بهذا المعنى ليس موردا لنظر الآية. 

  • و أما الروايات النافية أعني الدالة على أن غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل ما روي أن ابن عباس كان يقرأ: {و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ}، و يقول: {الراسخون في العلم آمنا به}. و كذلك كان يقرأ أبي بن كعب. و ما روي أن ابن مسعود كان يقرأ: و إن تأويله إلا عند الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا به، فهذه لا تصلح لإثبات شي‌ء: أما أولا: فلأن هذه القراءات لا حجية فيها و أما ثانيا: فلأن غاية دلالتها أن الآية لا تدل على علم الراسخين في العلم بالتأويل و عدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو المدعى فمن الممكن أن يدل عليه دليل آخر.

  • و مثل ما في الدر المنثور، عن الطبراني عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول 

تفسير الميزان ج۳

51
  • الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلوا، و أن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي‌ تأويله {و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ و الرّاسِخُون فِي الْعِلْمِ يقُولُون آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا و ما يذّكّرُ إِلاّ أُولُوا الْألْبابِ}، و أن يكثر علمهم فيضيعونه و لا يبالون به. و هذا الحديث على تقدير دلالته على النفي لا يدل إلا على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم و لا ينفع المستدل إلا الثاني. 

  • و مثل الروايات الدالة على وجوب اتباع المحكم و الإيمان بالمتشابه. و عدم دلالتها على النفي مما لا يرتاب فيه. 

  • و مثل ما في تفسير الآلوسي، عن ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا: أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال و حرام لا يعذر أحد بجهالته، و تفسير تفسره العلماء، و متشابه لا يعلمه إلا الله، و من ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب. و الحديث مع كونه مرفوعا و معارضا بما نقل عنه من دعوة الرسول له و ادعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن: أن التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مر. 

  • و الذي ينبغي أن يقال: أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى، و أما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك. 

  • أما الجهة الثانية فلما مر في البيان السابق: أن الآية بقرينة صدرها و ذيلها و ما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم و المتشابه، و تفرق الناس في الأخذ بها فهم بين مائل إلى اتباع المتشابه لزيغ في قلبه و ثابت على اتباع المحكم و الإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه، فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم و طريقتهم في الأخذ بالقرآن و مدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين و طريقتهم و ذمهم، و الزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول و لا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلا وجوه غير تامة تقدمت الإشارة، إليها فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى: {و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ}، من غير ناقض ينقضه من عطف و استثناء و غير ذلك. فالذي تدل عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى و اختصاصه به. 

  • لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدل على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره 

تفسير الميزان ج۳

52
  • مثل العلم بالغيب قال تعالى: {قُلْ لا يعْلمُ منْ فِي السّماواتِ و الْأرْضِ الْغيْب إِلاّ اللّهُ} النمل - ٦٥، و قال تعالى: {إِنّما الْغيْبُ لِلّهِ} يونس - ٢٠، و قال تعالى: {و عِنْدهُ مفاتِحُ الْغيْبِ لا يعْلمُها إِلاّ هُو} الأنعام - ٥٩، فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى: {عالِمُ الْغيْبِ فلا يُظْهِرُ على‌ غيْبِهِ أحداً إِلاّ منِ اِرْتضى‌ مِنْ‌ رسُولٍ} الجن - ٢٧، فأثبت ذلك لبعض من هو غيره و هو من ارتضى من رسول، و لذلك نظائر في القرآن. 

  • و أما الجهة الأولى - و هي أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى في الجملة - فبيانه: أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويل الآية أمر خارجي نسبته إلى مدلول الآية نسبة الممثل إلى المثل، فهو و إن لم يكن مدلولا للآية بما لها من الدلالة لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعا من الحكاية و الحفظ، نظير قولك: «في الصيف ضيعت اللبن» لمن أراد أمرا قد فوت أسبابه من قبل، فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل و هو تضييع المرأة اللبن في الصيف لا ينطبق شي‌ء منه على المورد، و هو مع ذلك ممثل لحال المخاطب حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله. 

  • كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الأحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية و إن لم تكن أمرا يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر و النهي أو البيان أو الواقعة الكذائية إلا أن الحكم أو البيان أو الحادثة لما كان كل منها ينتشي منها و يظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية و الإشارة كما أن قول السيد لخادمه، اسقني ينتشي عن اقتضاء الطبيعة الإنسانية لكمالها، فإن هذه الحقيقة الخارجية هي التي تقتضي حفظ الوجود و البقاء، و هو يقتضي بدل ما يتحلل من البدن، و هو يقتضي الغذاء اللازم، و هو يقتضي الري، و هو يقتضي الأمر بالسقي مثلا، فتأويل قوله: اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجية الإنسانية من اقتضاء الكمال في وجوده و بقائه، و لو تبدلت هذه الحقيقة الخارجية إلى شي‌ء آخر يباين الأول مثلا لتبدل الحكم الذي هو الأمر بالسقي إلى حكم آخر و كذا الفعل الذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الإنسانية على اختلافها الفاحش في الآداب و الرسوم إنما يرتضع من ثدي الحسن و القبح الذي عندهم و هو يستند إلى مجموعة متحدة متفقة من علل زمانية و مكانية و سوابق عادات و رسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممن سبقه و تكرر المشاهدة ممن شاهده 

تفسير الميزان ج۳

53
  • من أهل منطقته، فهذه العلة المؤتلفة الأجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن تكون عين فعله أو تركه لكنها محكية مضمنة محفوظة بالفعل أو الترك، و لو فرض تبدل المحيط الاجتماعي لتبدل ما أتي به من الفعل أو الترك. 

  • فالأمر الذي له التأويل سواء كان حكما أو قصة أو حادثة يتغير بتغير التأويل لا محالة، و لذلك ترى أنه تعالى في قوله: {فأمّا الّذِين فِي قُلُوبِهِمْ زيْغٌ فيتّبِعُون ما تشابه مِنْهُ اِبْتِغاء الْفِتْنةِ و اِبْتِغاء تأْوِيلِهِ و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ} (الآية) لما ذكر اتباع أهل الزيغ ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاء للفتنة ذكر أنهم بذلك يبتغون تأويله الذي ليس بتأويل له و ليس إلا لأن التأويل الذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقي لكان اتباعهم للمتشابه اتباعا حقا غير مذموم و تبدل الأمر الذي يدل عليه المحكم و هو المراد من المتشابه إلى المعنى غير المراد الذي فهموه من المتشابه و اتبعوه. 

  • فقد تبين: أن تأويل القرآن حقائق خارجية تستند إليه آيات القرآن‌ في معارفها و شرائعها و سائر ما بينته بحيث لو فرض تغير شي‌ء من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من المضامين. 

  • و إذا أجدت التدبر وجدت أن هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى: {و الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنّا جعلْناهُ قُرْآناً عربِيًّا لعلّكُمْ تعْقِلُون و إِنّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لديْنا لعلِيٌّ حكِيمٌ} الزخرف - ٤، فإنه يدل على أن القرآن النازل كان عند الله أمرا أعلى و أحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطع و التفصل لكنه تعالى عناية بعباده جعله كتابا مقررا و ألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله و معرفته ما دام في أم الكتاب، و {أُمُّ الْكِتابِ} هذا هو المدلول عليه بقوله: {يمْحُوا اللّهُ ما يشاءُ و يُثْبِتُ و عِنْدهُ أُمُّ الْكِتابِ} الرعد - ٣٩، و بقوله: {بلْ هُو قُرْآنٌ مجِيدٌ فِي لوْحٍ محْفُوظٍ} البروج - ٢٢. 

  • و يدل على إجمال مضمون الآية أيضا قوله تعالى: {كِتابٌ أُحْكِمتْ آياتُهُ ثُمّ فُصِّلتْ مِنْ لدُنْ حكِيمٍ خبِيرٍ} هود - ١، فالإحكام كونه عند الله بحيث لا ثلمة فيه و لا فصل، و التفصيل هو جعله فصلا فصلا و آية آية و تنزيله على النبي ص. 

  • و يدل على هذه المرتبة الثانية التي تستند إلى الأولى قوله تعالى: {و قُرْآناً فرقْناهُ 

تفسير الميزان ج۳

54
  • لِتقْرأهُ على النّاسِ‌ على‌ مُكْثٍ و نزّلْناهُ تنْزِيلاً} إسراء - ١٠٦، فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثم فرق و نزل تنزيلا و أوحي نجوما. 

  • و ليس المراد بذلك أنه كان مجموع الآيات مرتب السور على حال الذي هو عليه الآن عندنا كتابا مؤلفا مجموعا بين الدفتين مثلا ثم فرق و أنزل على النبي نجوما ليقرأه على الناس على مكث كما يفرقه المعلم المقرئ منا قطعات ثم يعلمه و يقريه متعلمه كل يوم قطعة على حسب استعداد ذهنه. 

  • و ذلك أن بين إنزال القرآن نجوما على النبي و بين إلقائه قطعة قطعة على المتعلم فرقا بينا و هو دخالة أسباب النزول في نزول الآية على النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)و لا شي‌ء من ذلك و لا ما يشبهه في تعلم المتعلم فالقطعات المختلفة الملقاة إلى المتعلم في أزمنة مختلفة يمكن أن تجمع و ينضم بعضها إلى بعض في زمان واحد، و لا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى: {فاعْفُ عنْهُمْ و اِصْفحْ} المائدة - ١٣، و قوله تعالى: {قاتِلُوا الّذِين يلُونكُمْ مِن الْكُفّارِ} التوبة - ١٢٣، و قوله تعالى: {قدْ سمِع اللّهُ قوْل الّتِي تُجادِلُك فِي زوْجِها} المجادلة - ١، و قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أمْوالِهِمْ صدقةً} التوبة - ١٠٣، و نحو ذلك فيلغى سبب النزول و زمانها ثم يفرض نزولها في أول البعثة أو في آخر زمان حيوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، فالمراد بالقرآن في قوله: {و قُرْآناً فرقْناهُ} غير القرآن بمعنى الآيات المؤلفة. 

  • و بالجملة فالمحصل من الآيات الشريفة أن‌ وراء ما نقرؤه و نعقله من القرآن أمرا هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد و المتمثل من المثال - و هو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم - و هو الذي تعتمد و تتكي عليه معارف القرآن المنزل و مضامينه، و ليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة و لا المعاني المدلول عليها بها، و هذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه و نعوته عليه. و بذلك يظهر حقيقة معنى التأويل، و يظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الأفهام العادية و النفوس غير المطهرة. 

  • ثم إنه تعالى قال: {إِنّهُ لقُرْآنٌ كرِيمٌ فِي كِتابٍ مكْنُونٍ لا يمسُّهُ إِلاّ الْمُطهّرُون} الواقعة - ٧٩، و لا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله هم يمسون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون و المحفوظ من التغير، و من التغير تصرف الأذهان 

تفسير الميزان ج۳

55
  • بالورود عليه و الصدور منه و ليس هذا المس إلا نيل الفهم و العلم، و من المعلوم أيضا: أن الكتاب المكنون هذا هو أم الكتاب المدلول عليه بقوله: {يمْحُوا اللّهُ ما يشاءُ و يُثْبِتُ و عِنْدهُ أُمُّ الْكِتابِ}، و هو المذكور في قوله: {و إِنّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لديْنا لعلِيٌّ حكِيمٌ}

  • و هؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم، و ليس ينزلها إلا الله سبحانه، فإنه تعالى لم يذكرها إلا كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى: {إِنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِب عنْكُمُ الرِّجْس أهْل الْبيْتِ و يُطهِّركُمْ تطْهِيراً} الأحزاب - ٣٣، و قوله تعالى: {و لكِنْ يُرِيدُ لِيُطهِّركُمْ} المائدة - ٦، و ما في القرآن شي‌ء من الطهارة المعنوية إلا منسوبة إلى الله أو بإذنه، و ليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب، و ليس القلب من الإنسان إلا ما يدرك به و يريد به، فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها و إرادتها و زوال الرجس عن هاتين الجهتين، و يرجع إلى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان إلى الشك و نوسان بين الحق و الباطل، و ثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تمايل إلى اتباع الهوى و نقض ميثاق العلم و هذا هو الرسوخ في العلم فإن الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة، فقد ظهر أن هؤلاء المطهرين راسخون في العلم، هذا. 

  • و لكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان، فإن المقدار الثابت بذلك أن المطهرين يعلمون التأويل، و لازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم، لما أن تطهير قلوبهم منسوب إلى الله و هو تعالى سبب غير مغلوب، لا أن الراسخين في العلم يعلمونه بما أنهم راسخون في العلم أي إن الرسوخ في العلم سبب للعلم، بالتأويل فإن الآية لا تثبت ذلك، بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى: {يقُولُون آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا} (الآية)، و قد وصف الله تعالى رجالا من أهل الكتاب برسوخ العلم و مدحهم بذلك، و شكرهم على الإيمان و العمل الصالح في قوله: {لكِنِ الرّاسِخُون فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ و الْمُؤْمِنُون يُؤْمِنُون بِما أُنْزِل إِليْك و ما أُنْزِل مِنْ قبْلِك} (الآية) النساء - ١٦٢، و لم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب. 

  • و كذلك إن الآية أعني قوله تعالى: {لا يمسُّهُ إِلاّ الْمُطهّرُون}، لم تثبت للمطهرين إلا مس الكتاب في الجملة، و أما أنهم يعلمون كل التأويل و لا يجهلون شيئا منه و لا في وقت فهي ساكتة عن ذلك، و لو ثبت لثبت بدليل منفصل. ـ 

تفسير الميزان ج۳

56
  • ٥ - ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه؟ 

  • و من الاعتراضات التي أوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات و هو أنكم تدعون أن تكاليف الخلق إلى يوم القيامة فيه، و أنه قول فصل يميز بين الحق و الباطل، ثم إنا نراه يتمسك به كل صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لإثبات مذهبه، و ليس ذلك إلا لوقوع التشابه في آياته، أ فليس أنه لو جعله جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب، و أقطع لمادة الخلاف و الزيغ؟. 

  • و أجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأن وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحق و مشقة البحث و ذلك موجب لمزيد الأجر و الثواب! و كالجواب بأنه لو لم يشتمل إلا على صريح القول في مذهب لنفر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه، لكنه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه و كان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحق فيؤمنوا به! و كالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل، و في ذلك خروج عن ظلمة التقليد و دخول في ضوء النظر و الاجتهاد! و كالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة، و في ذلك فائدة التضلع بالفنون المختلفة كعلم اللغة و الصرف و النحو و أصول الفقه!

  • فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر و الذي يستحق الإيراد و البحث من الأجوبة وجوه ثلاثة: 

  • الأول: أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق به، فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شي‌ء من معنى الخضوع لأمر الله تعالى و التسليم لرسله. 

  • و فيه: أن الخضوع هو نوع انفعال و تأثر من الضعيف في مقابل القوي، و الإنسان إنما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته و بهورة الإدراك كقدرة الله غير المتناهية و عظمته غير المتناهية و سائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها، و أما الأمور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر و يغادر باعتقاد 

تفسير الميزان ج۳

57
  • أنه يدركها فما معنى خضوعه لها؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنه يعقلها و هو لا يعقل. 

  • الثاني: أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث و التنقير، لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر، فإن العقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان. 

  • و فيه: أن الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل و الفكر في الآيات الآفاقية و الأنفسية إجمالا في موارد من كلامه، و تفصيلا في موارد أخرى كخلق السماوات و الأرض و الجبال و الشجر و الدواب و الإنسان و اختلاف ألسنته و ألوانه، و ندب إلى التعقل و التفكر و السير في الأرض و النظر في أحوال الماضين، و حرض على العقل و الفكر، و مدح العلم بأبلغ المدح و في ذلك غنى عن البحث في أمور ليس إلا مزالق للأقدام و مصارع للأفهام. 

  • الثالث: أن الأنبياء بعثوا إلى الناس و فيهم العامة و الخاصة، و الذكي و البليد و العالم و الجاهل، و كان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته و تشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء، فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث يفهمه الخاصة و لو بطريق الكناية و التعريض و يؤمر العامة فيها بالتسليم و تفويض الأمر إلى الله تعالى. 

  • و فيه: أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها، و لازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات أزيد مما يكشف عنها المحكمات، و عند ذلك يبقى السؤال (و هو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب و لا حاجة إليها مع وجود المحكمات؟) على حاله، و منشأ الاشتباه أن المجيب أخذ المعاني نوعين متباينين: معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة و الخاصة و هي مداليل المحكمات، و معان سنخها بحيث لا يتلقاها إلا الخاصة من المعارف العالية و الحكم الدقيقة، فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات، و قد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضا و غير ذلك. 

  • و الذي ينبغي أن يقال: أن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناش عن وجود 

تفسير الميزان ج۳

58
  • التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضا بالمعنى الذي أوضحناه للتأويل فيما مر. 

  • و يتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني و التعليم الإلهي و الأمور التي بنيت عليها معارفه و الغرض الأقصى من ذلك و هي أمور: 

  • منها: أن الله سبحانه ذكر أن لكتابه تأويلا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية و الأحكام و القوانين و سائر ما يتضمنه التعليم الإلهي، و أن هذا التأويل الذي تستقبله و تتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الأفهام و تسقط دون الارتقاء إليه العقول إلا نفوس طهرهم الله و أزال عنهم الرجس، فإن لهم خاصة أن يمسوه. و هذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شي‌ء، و مفتاحه التطهير الإلهي، و قد قال تعالى: {ما يُرِيدُ اللّهُ لِيجْعل عليْكُمْ مِنْ حرجٍ و لكِنْ يُرِيدُ لِيُطهِّركُمْ} المائدة - ٧، فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهي. 

  • و هذا الكمال الإنساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلا أفراد خاصة، و إن كانت الدعوة متعلقه بالجميع متوجهة إلى الكل، فتربية الناس بالتربية الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة و بعض التطهير في آخرين، و يختلف ذلك باختلاف درجات الناس‌، كما أن الإسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل. قال تعالى: {اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ} آل عمران - ١٠٢، و لكن لا يحصل كماله إلا في أفراد و فيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالأمثل، كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم و أفهامهم، و هكذا جميع الكمالات الاجتماعية من حيث التربية و الدعوة، يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم و الصنعة و الثروة و الراحة و غيرها لكن لا ينالها إلا البعض، و من دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات. 

  • و بالحقيقة أمثال هذه الغايات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه. 

  • و منها: أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم و العمل: أما في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدإ و المعاد و ما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف نفسه بما ترتبطه به من الواقعيات معرفة حقيقية و أما في ناحية العمل فبتحميل قوانين 

تفسير الميزان ج۳

59
  • اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حيوته الاجتماعية، و لا تشغله عن التخلص إلى عالم العلم و العرفان، ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها و المزاولة عليها توجه نفسه، و خلوص قلبه إلى المبدإ و المعاد، و إشرافه على عالم المعنى و الطهارة، و التجنب عن قذارة الماديات و ثقلها. 

  • و أنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى: {إِليْهِ يصْعدُ الْكلِمُ الطّيِّبُ و الْعملُ الصّالِحُ يرْفعُهُ} الفاطر - ١٠، و ضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى: {و لكِنْ يُرِيدُ لِيُطهِّركُمْ} (الآية) و إلى قوله تعالى: {عليْكُمْ أنْفُسكُمْ يضُرُّكُمْ منْ ضلّ إِذا اِهْتديْتُمْ} المائدة - ١٠٥، و قوله تعالى: {يرْفعِ اللّهُ الّذِين آمنُوا مِنْكُمْ و الّذِين أُوتُوا الْعِلْم درجاتٍ} المجادلة - ١١، و ما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الإلهي في تشريع الدين و هداية الإنسان إليه، و السبيل الذي سلكه لذلك فافهم. 

  • و يتفرع على هذا البيان نتيجة مهمة: هي أن القوانين الاجتماعية في الإسلام مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لأجلها، و التكاليف العبادية مقدمة للمعرفة بالله و بآياته، فأدنى الإخلال أو التحريف أو التغيير في الأحكام الاجتماعية من الإسلام يوجب فساد العبودية و فساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة. 

  • و هذه النتيجة - على أنها واضحة التفرع على البيان - تؤيدها التجربة أيضا: فإنك إذا تأملت جريان الأمر في طروق الفساد في شئون الدين الإسلامي بين هذه الأمة و أمعنت النظر فيه: من أين شرع و في أين ختم وجدت أن الفتنة ابتدأت من الاجتماعيات ثم توسطت في العباديات ثم انتهت إلى رفض المعارف. و قد ذكرناك فيما مر: أن الفتنة شرعت باتباع المتشابهات و ابتغاء تأويلها، و لم يزل الأمر على ذلك حتى اليوم. 

  • و منها: أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس و ركوز العلم بينهم ما أستطيع، فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة، و كيف لا؟ و لا يوجد بين كتب الوحي كتاب، و لا بين الأديان دين‌ يعظمان من أمر العلم و يحرضان عليه بمثل ما جاء به القرآن و الإسلام. 

  • و هذا المعنى هو الموجب لأن يبين الكتاب للإنسان حقائق المعارف أولا، و ارتباط ما شرعه له من الأحكام العملية بتلك الحقائق ثانيا، و بعبارة أخرى أن يفهمه:

تفسير الميزان ج۳

60
  • أنه موجود مخلوق لله تعالى خلقه بيده و وسط في خلقه و بقائه ملائكته و سائر خلقه من سماء و أرض و نبات و حيوان و مكان و زمان و ما عداها، و أنه سائر إلى معاده و ميعاده سيرا اضطراريا، و كادح إلى ربه كدحا فملاقيه ثم يجزى جزاء ما عمله، أيما إلى جنة، أيما إلى نار فهذه طائفة من المعارف. 

  • ثم يفهمه أن الأعمال التي تؤديه إلى سعادة الجنة ما هي، و ما تؤديه إلى شقوة النار ما هي؟ أي يبين له الأحكام العبادية و القوانين الاجتماعية، و هذه طائفة أخرى. 

  • ثم يبين له: أن هذه الأحكام و القوانين مؤدية إلى السعادة أي يفهمه: أن هذه الطائفة الثانية مرتبطة بالطائفة الأولى، و أن تشريعها و جعلها للإنسان إنما هو لمراعاة سعادته لاشتمالها على خير الإنسان في الدنيا و الآخرة، و هذه طائفة ثالثة. 

  • و ظاهر عندك أن الطائفة الثانية بمنزلة المقدمة، و الطائفة الأولى بمنزلة النتيجة، و الطائفة الثالثة بمنزلة الرابط الذي يربط الثانية بالأولى، و دلالة الآيات على كل واحدة من هذه الطوائف المذكورة واضحة و لا حاجة إلى إيرادها. 

  • و منها: أنه لما كانت عامة الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس و لا يرقى عقلهم إلى ما فوق عالم المادة و الطبيعة، و كان من ارتقى فهمه منهم بالارتياضات العلمية إلى الورود في إدراك المعاني و كليات القواعد و القوانين يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسرت له الورود في عالم المعاني و الكليات كان ذلك موجبا لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحس و المحسوس اختلافا شديدا ذا عرض عريض على مراتب مختلفة، و هذا أمر لا ينكره أحد. 

  • و لا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلا من طريق معلوماته الذهنية التي تهيأت عنده في خلال حيوته و عيشته، فإن كان مأنوسا بالحس فمن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحس كما يمثل لذة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء، و إن كان نائلا للمعاني الكلية فبما نال، و على قدر ما نال و هذا ينال المعاني من البيان الحسي و العقلي معا بخلاف المأنوس بالحس. 

  • ثم إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس بل تعم جميع الطوائف و تشمل عامة الطبقات و هو ظاهر. 

تفسير الميزان ج۳

61
  • و هذا المعنى أعني اختلاف الأفهام و عموم أمر الهداية مع ما عرفت من وجود التأويل للقرآن هو الموجب أن يساق البيانات مساق الأمثال، و هو أن يتخذ ما يعرفه الإنسان و يعهده ذهنه من المعاني فيبين به ما لا يعرفه لمناسبة ما بينهما نظير توزين المتاع بالمثاقيل و لا مسانخة بينهما في شكل أو صورة أو حجم أو نوع إلا ما بينهما من المناسبة وزنا. 

  • و الآيات القرآنية المذكورة سابقا كقوله تعالى: {إِنّا جعلْناهُ قُرْآناً عربِيًّا لعلّكُمْ تعْقِلُون و إِنّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لديْنا لعلِيٌّ حكِيمٌ} الزخرف - ٤، و ما يشابهه من الآيات و إن بينت هذا الأمر بطريق الإشارة و الكناية، لكن القرآن لم يكتف بذلك دون أن بينه بما ضربه مثلا في أمر الحق و الباطل فقال تعالى: {أنْزل مِن السّماءِ ماءً فسالتْ أوْدِيةٌ بِقدرِها فاحْتمل السّيْلُ زبداً رابِياً و مِمّا يُوقِدُون عليْهِ فِي النّارِ اِبْتِغاء حِلْيةٍ أوْ متاعٍ زبدٌ مِثْلُهُ كذلِك يضْرِبُ اللّهُ الْحقّ و الْباطِل فأمّا الزّبدُ فيذْهبُ جُفاءً و أمّا ما ينْفعُ النّاس فيمْكُثُ فِي الْأرْضِ كذلِك‌ يضْرِبُ اللّهُ الْأمْثال} الرعد - ١٧، فبين أن حكم المثل جار في أفعاله تعالى كما هو جار في أقواله، ففعله تعالى كقوله الحق إنما قصد منهما الحق الذي يحويانه و يصاحب كلا منهما أمور غير مقصودة و لا نافعة يعلوهما و يربوهما لكنها ستزول و تبطل، و يبقى بالحق الذي ينفع الناس، و إنما يزول و يزهق بحق آخر هو مثله، و هذا كالآية المتشابهة تتضمن من المعنى حقا مقصودا، و يصاحبه و يعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنى آخر باطل غير مقصود، لكنه سيزول بحق آخر يظهر الحق الأول على الباطل الذي كان يعلوه، ليحق الحق بكلماته و يبطل الباطل و لو كره المجرمون، و الكلام في انطباق هذا المثل على أفعاله الخارجية المتقررة في عالم الكون كالكلام في أقواله عز من قائل. 

  • و بالجملة: المتحصل من الآية الشريفة: أن المعارف الحقة الإلهية كالماء الذي أنزله الله تعالى من السماء هي في نفسها ماء فحسب، من غير تقييد بكمية و لا كيفية، ثم إنها كالسيل السائل في الأودية تتقدر بأقدار مختلفة من حيث السعة و الضيق، و هذه الأقدار أمور ثابتة كل في محله كالحال في أصول المعارف و الأحكام التشريعية، و مصالح الأحكام التي ذكرنا فيما مر أنها روابط تربط الأحكام بالمعارف الحقة. و هذا حكمها في نفسها مع قطع النظر عن البيان اللفظي. و هي في مسيرها ربما صحبت ما هو 

تفسير الميزان ج۳

62
  • كالزبد يظهر ظهورا ثم يسرع في الزوال و ذلك كالأحكام المنسوخة التي تنسخه النواسخ من الآيات، فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل دوامه و يضع مكانه حكما آخر. هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر عن ورودها في وادي البيان اللفظي.

  • و أما المعارف الحقة من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ و الدلالة فإنها بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدر بأقدارها، تتشكل بأشكال المرادات الكلامية بعد إطلاقها، و هذه أقوال ثابتة من حيث مراد المتكلم بكلامه إلا أنها مع ذلك أمثال يمثل بها أصل المعنى المطلق غير المتقدر، ثم إنها بمرورها في الأذهان المختلفة تحمل معاني غير مقصودة كالزبد في السيل، لأن الأذهان من جهة ما تخزنه من المرتكزات و المألوفات تتصرف في المعاني الملقاة إليها، و جل هذا التصرف إنما هو في المعاني غير المألوفة كالمعارف الأصلية، و مصالح الأحكام و ملاكاتها كما مر، و أما الأحكام و القوانين فلا تصرف فيها مع قطع النظر عن ملاكاتها فإنها مألوفة، و من هنا يظهر أن المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات‌ و المعارف، دون متن الأحكام و القوانين الدينية. 

  • و منها: أنه تحصل من البيان السابق أن البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقة الإلهية لأن البيان نزل في هذه الآيات إلى سطح الأفهام العامة التي لا تدرك إلا الحسيات و لا تنال المعاني الكلية إلا في قالب الجسمانيات، و لما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلية المجردة عن عوارض الأجسام و الجسمانيات أحد محذورين: فإن الأفهام في تلقيها المعارف المرادة منها إن جمدت في مرتبة الحس و المحسوس انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثلة، و فيه بطلان الحقائق و فوت المرادات و المقاصد و إن لم تجمد و انتقلت إلى المعاني المجردة بتجريد الأمثال عن الخصوصيات غير الدخيلة لم يؤمن من الزيادة و النقيصة. 

  • نظير ذلك أنا لو ألقي إلينا المثل السائر: عند الصباح يحمد القوم السري، أو تمثل لنا بقول صخر: 

  • أهم بأمر الحزم لا أستطيعه***و قد حيل بين العير و النزوان‌

تفسير الميزان ج۳

63
  • فإنا من جهة سبق عهد الذهن بالقصة أو الأمر الممثل له نجرد المثل عن الخصوصيات المكتنفة بالكلام كالصباح و القوم و السري، و نفهم من ذلك أن المراد: أن حسن تأثير عمل و تحسين فعله إنما يظهر إذا فرغ منه و بدا أثره، و أما هو ما دام الإنسان مشتغلا به محسا تعب فعله فلا يقدر قدره، و يظهر ذلك تجريد ما تمثل به من الشعر، و أما إذا لم نعهد الممثل و جمدنا على الشعر أو المثل خفي عنا الممثل و عاد المثل خبرا من الأخبار، و لو لم نجمد و انتقلنا إجمالا إلى أنه مثل لم يمكنا تشخيص المقدار الذي يجب طرحه بالتجريد و ما يجب حفظه للفهم و هو ظاهر. 

  • و لا مخلص عن هذين المحذورين إلا بتفريق المعاني الممثل لها إلى أمثال مختلفة، و تقليبها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضا، و يوضح بعضها أمر بعض، فيعلم بالتدافع الذي بينها أولا: أن البيانات أمثال و لها في ما وراءها حقائق ممثلة، و ليست مقاصدها و مراداتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس و المحسوس و ثانيا: بعد العلم بأنها أمثال: يعلم بذلك المقدار الذي يجب طرحه من الخصوصيات المكتنفة بالكلام، و ما يجب حفظه منها للحصول على المرام، و إنما يحصل ذلك بأن هذا يتضمن نفي بعض الخصوصيات الموجودة في ذلك. و ذاك نفي بعض ما في هذا. 

  • و إيضاح المقاصد المبهمة و المطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعددة و الأمثال و الأمثلة الكثيرة المتنوعة أمر دائر في جميع الألسنة و اللغات من غير اختصاص بقوم دون قوم، و لغة دون لغة، و ليس ذلك إلا لأن الإنسان يشعر بقريحة البيان مساس حاجته إلى نفي الخصوصيات الموهمة لخلاف المراد في القصة الواحدة أو المثل الواحد بالخصوصيات النافية الموجودة في قصة أخرى مناسبة أو مثل آخر مناسب. 

  • فقد تبين أن من الواجب أن يشتمل القرآن الكريم على الآيات المتشابهة، و أن يرفع التشابه الواقع في آية بالأحكام الواقع في آية أخرى، و اندفع بذلك الإشكال باشتمال القرآن على المتشابهات لكونها مخلة لغرض الهداية و البيان.

  • [ نتائج هذه الأبحاث و هي عشرة ]

  • و قد ظهر من جميع ما تقدم من الأبحاث على طولها أمور: 

  • الأول: أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين: محكم و متشابه، و ذلك من جهة اشتمال الآية وحدها على مدلول متشابه و عدم اشتمالها. 

  • الثاني: أن لجميع القرآن محكمه و متشابهه تأويلا. و أن التأويل ليس من قبيل 

تفسير الميزان ج۳

64
  • المفاهيم اللفظية بل من الأمور الخارجية نسبته إلى المعارف و المقاصد المبينة نسبة الممثل إلى المثال، و أن جميع المعارف القرآنية أمثال مضروبة للتأويل الذي‌ عند الله. 

  • الثالث: أن التأويل يمكن أن يعلمه المطهرون و هم راسخون في العلم. 

  • الرابع: أن البيانات القرآنية أمثال مضروبة لمعارفها و مقاصدها، و هذا المعنى غير ما ذكرناه في الأمر الثاني من كون معارفه أمثالا و قد أوضحناه فيما مر. 

  • الخامس: أن من الواجب أن يشتمل القرآن على المتشابهات، كما أن من الواجب أن يشتمل على المحكمات. 

  • السادس: أن المحكمات أم الكتاب إليها ترجع المتشابهات رجوع بيان. 

  • السابع: أن الإحكام و التشابه وصفان يقبلان الإضافة و الاختلاف بالجهات بمعنى أن آية ما يمكن أن تكون محكمة من جهة، متشابهة من جهة أخرى فتكون محكمة بالإضافة إلى آية و متشابهة بالإضافة إلى أخرى. و لا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن، و لا مانع من وجود محكم على الإطلاق. 

  • الثامن: أن من الواجب أن يفسر بعض القرآن بعضا. 

  • التاسع: أن للقرآن مراتب مختلفة من المعنى، مترتبة طولا من غير أن تكون الجميع في عرض واحد فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، أو مثل عموم المجاز، و لا هي من قبيل اللوازم المتعددة لملزوم واحد، بل هي معان مطابقية يدل على كل واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الأفهام. 

  • و لتوضيح ذلك نقول: قال الله تبارك و تعالى: {اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ} آل عمران - ١٠٢، فأنبأ أن للتقوى الذي هو الانتهاء عما نهى الله عنه و الايتمار بما أمر الله به مرتبة هي حق التقوى، و يعلم بذلك أن هناك من التقوى ما هو دون هذه المرتبة الحقة، فللتقوى الذي هو بوجه العمل الصالح مراتب و درجات بعضها فوق بعض. 

  • و قال أيضا: {أ فمنِ اِتّبع رِضْوان اللّهِ كمنْ باء بِسخطٍ مِن اللّهِ و مأْواهُ جهنّمُ و بِئْس الْمصِيرُ هُمْ درجاتٌ عِنْد اللّهِ و اللّهُ بصِيرٌ بِما يعْملُون} آل عمران - ١٦٣، فبين أن العمل مطلقا سواء كان صالحا أو طالحا درجات و مراتب، و الدليل على أن المراد بها 

تفسير الميزان ج۳

65
  • درجات العمل قوله: {و اللّهُ بصِيرٌ بِما يعْملُون}، و نظير الآية قوله تعالى: {و لِكُلٍّ درجاتٌ مِمّا عمِلُوا و لِيُوفِّيهُمْ أعْمالهُمْ و هُمْ لا يُظْلمُون} الأحقاف - ١٩، و قوله تعالى: {و لِكُلٍّ درجاتٌ مِمّا عمِلُوا و ما ربُّك بِغافِلٍ عمّا يعْملُون} الأنعام - ١٣٢، و الآيات في هذا المعنى كثيرة، و فيها ما يدل على أن درجات الجنة و دركات النار بحسب مراتب الأعمال و درجاتها. 

  • و من المعلوم أن العمل من أي نوع كان هو من رشحات العلم يترشح من اعتقاد قلبي يناسبه، و قد استدل تعالى على كفر اليهود و على فساد ضمير المشركين و على نفاق المنافقين من المسلمين و على إيمان عدة من الأنبياء و المؤمنين بأعمالهم و أفعالهم في آيات كثيرة جدا يطول ذكرها، فالعمل كيف كان يلازم ما يناسبه من العلم و يدل عليه. 

  • و بالعكس يستلزم كل نوع من العمل ما يناسبه من العلم و يحصله و يركزه في النفس كما قال تعالى: {و الّذِين جاهدُوا فِينا لنهْدِينّهُمْ سُبُلنا و إِنّ اللّه لمع الْمُحْسِنِين} العنكبوت - ٦٩، و قال تعالى: {و اُعْبُدْ ربّك حتّى يأْتِيك الْيقِينُ} الحجر - ٩٩، و قال أيضا: {ثُمّ كان عاقِبة الّذِين أساؤُا السُّواى‌ أنْ كذّبُوا بِآياتِ اللّهِ و كانُوا بِها يسْتهْزِؤُن} الروم - ١٠، و قال: {فأعْقبهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى‌ يوْمِ يلْقوْنهُ بِما أخْلفُوا اللّه ما وعدُوهُ و بِما كانُوا يكْذِبُون} البراءة - ٧٧، و الآيات في هذا المعنى أيضا كثيرة تدل الجميع على أن العمل صالحا كان أو طالحا يولد من أقسام المعارف و الجهالات (و هي العلوم المخالفة للحق ما يناسبه. 

  • و قال تعالى - و هو كالكلمة الجامعة في العمل الصالح و العلم النافع -: {إِليْهِ يصْعدُ الْكلِمُ الطّيِّبُ و الْعملُ الصّالِحُ يرْفعُهُ} الفاطر - ١٠، فبين أن شأن الكلم الطيب و هو الاعتقاد الحق أن يصعد إلى الله تعالى و يقرب صاحبه منه، و شأن العمل الصالح أن يرفع هذا العلم و الاعتقاد. و من المعلوم أن ارتفاع العلم في صعوده إنما هو بخلوصه من الشك و الريب و كمال توجه النفس إليه و عدم تقسيم القلب فيه و في غيره (و هو مطلق الشرك) فكلما كمل خلوصه من الشك و الخطوات اشتد صعوده و ارتفاعه. 

  • و لفظ الآية لا يخلو عن دلالة على ذلك فإنها عبرت في الكلم الطيب بالصعود ـ 

تفسير الميزان ج۳

66
  • و وصف العمل بالرفع، و الصعود يقابل النزول كما أن الرفع يقابل الوضع، و هما أعني الصعود و الارتفاع وصفان يتصف بهما المتحرك من السفل إلى العلو بنسبته إلى الجانبين فهو صاعد بالنظر إلى قصده العلو و اقترابه منه، و مرتفع من جهة انفصاله من السفل و ابتعاده منه، فالعمل يبعد الإنسان و يفصله من الدنيا و الإخلاد إلى الأرض بصرف نفسه عن التعلق بزخارفها الشاغلة و التشتت و التفرق بهذه المعلومات الفانية غير الباقية و كلما زاد الرفع و الارتفاع زاد صعود الكلم الطيب، و خلصت المعرفة عن شوائب الأوهام و قذارات الشكوك، و من المعلوم أيضا كما مر: أن العمل الصالح ذو مراتب و درجات، فلكل درجة من العمل الصالح رفع الكلم الطيب و توليد العلوم و المعارف الحقة الإلهية على ما يناسب حالها. و الكلام في العمل الطالح و وضعه الإنسان نظير الكلام في العمل الصالح و رفعه و قد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: {اِهْدِنا الصِّراط الْمُسْتقِيم} الحمد - ٦. 

  • فظهر أن للناس بحسب مراتب قربهم و بعدهم منه تعالى مراتب مختلفة من العمل و العلم، و لازمه أن يكون ما يتلقاه أهل واحدة من المراتب و الدرجات غير ما يتلقاه أهل المرتبة و الدرجة الأخرى التي فوق هذه أو تحتها، فقد تبين أن للقرآن معاني مختلفة مترتبة. 

  • و قد ذكر الله سبحانه أصنافا من عباده و خص كل صنف بنوع من العلم و المعرفة لا يوجد في الصنف الآخر كالمخلصين و خص بهم العلم بأوصاف ربهم حق العلم، قال تعالى: {سُبْحان اللّهِ عمّا يصِفُون إِلاّ عِباد اللّهِ الْمُخْلصِين} الصافات - ١٦٠، و خص بهم أشياء أخر من المعرفة و العلم سيجي‌ء بيانها إن شاء الله تعالى، و كالموقنين و خص بهم مشاهدة ملكوت السماوات و الأرض قال تعالى: {و كذلِك نُرِي إِبْراهِيم ملكُوت السّماواتِ و الْأرْضِ و لِيكُون مِن الْمُوقِنِين} الأنعام - ٧٥، و كالمنيبين و خص بهم التذكر، قال تعالى: {و ما يتذكّرُ إِلاّ منْ يُنِيبُ} المؤمن - ١٣، و كالعالمين و خص بهم عقل أمثال القرآن، قال تعالى: {و تِلْك الْأمْثالُ نضْرِبُها لِلنّاسِ و ما يعْقِلُها إِلاّ الْعالِمُون} العنكبوت - ٤٣، و كأنهم أولوا الألباب و المتدبرون لقوله تعالى: {أ فلا يتدبّرُون الْقُرْآن أمْ على‌ قُلُوبٍ أقْفالُها} محمد(صلى الله عليه وآله و سلم)- ٢٤، و لقوله تعالى: {أ فلا يتدبّرُون الْقُرْآن و لوْ كان مِنْ عِنْدِ غيْرِ اللّهِ لوجدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كثِيراً} النساء - ٨٢، فإن مؤدى الآيات 

تفسير الميزان ج۳

67
  • الثلاث يرجع إلى معنى واحد و هو العلم بمتشابه القرآن و رده إلى محكمه، و كالمطهرين خصهم الله بعلم تأويل الكتاب قال تعالى: {إِنّهُ لقُرْآنٌ كرِيمٌ فِي كِتابٍ مكْنُونٍ لا يمسُّهُ إِلاّ الْمُطهّرُون} الواقعة - ٧٩، و كالأولياء و هم أهل الوله و المحبة لله و خص بهم أنهم لا يلتفتون إلى شي‌ء إلا الله سبحانه و لذلك لا يخافون شيئا و لا يحزنون لشي‌ء، قال تعالى: {ألا إِنّ أوْلِياء اللّهِ لا خوْفٌ عليْهِمْ و لا هُمْ يحْزنُون} يونس - ٦٢، و كالمقربين و المجتبين و الصديقين و الصالحين و المؤمنين و لكل منهم خواص من العلم و الإدراك يختصون بها، سنبحث عنها في المحال المناسبة لها. 

  • و نظير هذه المقامات الحسنة مقامات سوء في مقابلها، و لها خواص رديئة في باب العلم و المعرفة، و لها أصحاب كالكافرين و المنافقين و الفاسقين و الظالمين و غيرهم، و لهم أنصباء من سوء الفهم و رداءة الإدراك لآيات الله و معارفه الحقة، طوينا ذكرها إيثارا للاختصار، و سنتعرض لها في خلال أبحاث هذا الكتاب إن شاء الله. 

  • العاشر: أن للقرآن اتساعا من حيث انطباقه على المصاديق و بيان حالها فالآية منه لا يختص بمورد نزولها بل يجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكا كالأمثال التي لا تختص بمواردها الأول، بل تتعداها إلى ما يناسبها، و هذا المعنى هو المسمى بجري القرآن، و قد مر بعض الكلام فيه في أوائل الكتاب.

  • ( بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المحكم و المتشابه قال: المحكم ما يعمل به و المتشابه ما اشتبه على جاهة. 

  • أقول: و فيه تلويح إلى أن المتشابه‌ مما يمكن العلم به.

  • و فيه أيضا عنه (عليه السلام): أن القرآن محكم و متشابه: فأما المحكم فتؤمن به و تعمل به و تدين، و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به، و هو قول الله عز و جل: {فأمّا الّذِين فِي قُلُوبِهِمْ زيْغٌ فيتّبِعُون ما تشابه مِنْهُ اِبْتِغاء الْفِتْنةِ و اِبْتِغاء تأْوِيلِهِ و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ و الرّاسِخُون فِي الْعِلْمِ يقُولُون آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا} و الراسخون في العلم هم آل محمد. 

تفسير الميزان ج۳

68
  • أقول: و سيجي‌ء كلام في معنى قوله (عليه السلام): و الراسخون في العلم هم آل محمد.

  • و فيه أيضا عن مسعدة بن صدقة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه قال: الناسخ الثابت المعمول به، و المنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه، و المتشابه ما اشتبه على جاهة. قال: و في رواية: الناسخ الثابت، و المنسوخ ما مضى، و المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما يشبه بعضه بعضا.

  • و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: فالمنسوخات من المتشابهات‌ و في العيون، عن الرضا (عليه السلام): من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم. ثم قال إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتبعوا متشابهها فتضلوا. 

  • أقول: الأخبار كما ترى متقاربة في تفسير المتشابه، و هي تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق: أن التشابه يقبل الارتفاع، و أنه إنما يرتفع بتفسير المحكم له. و أما كون المنسوخات من المتشابهات فهو كذلك كما تقدم و وجه تشابهها ما يظهر منها من استمرار الحكم و بقائه، و يفسره الناسخ ببيان أن استمراره مقطوع. و أما ما ذكره (عليه السلام) في خبر العيون: أن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن و محكما كمحكم القرآن، فقد وردت في هذا المعنى عنهم (عليهم السلام) روايات مستفيضة، و الاعتبار يساعده فإن الأخبار لا تشتمل إلا على ما اشتمل عليه القرآن الشريف، و لا تبين إلا ما تعرض له و قد عرفت فيما مر: أن التشابه من أوصاف المعنى الذي يدل عليه اللفظ و هو كونه بحيث يقبل الانطباق على المقصود و على غيره لا من أوصاف اللفظ من حيث دلالته على المعنى نظير الغرابة و الإجمال، و لا من أوصاف أعم من اللفظ و المعنى. 

  • و بعبارة أخرى: إنما عرض التشابه لما عرض عليه من الآيات لكون بياناتها جارية مجرى الأمثال بالنسبة إلى المعارف الحقة الإلهية، و هذا المعنى بعينه موجود في الأخبار ففيها متشابه و محكم كما في القرآن و قد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم‌

  • و في تفسير العياشي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام): أن رجلا قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل تصف لنا ربنا نزداد له حبا و معرفة؟ فغضب و خطب 

تفسير الميزان ج۳

69
  • الناس فقال فيما قال: عليك يا عبد الله بما دلك عليه القرآن من صفته و تقدمك فيه الرسول من معرفته، و استضئ من نور هدايته - فإنما هي نعمة و حكمة أوتيتها، فخذ ما أوتيت و كن من الشاكرين، و ما كلفك الشيطان عليه مما ليس عليك في الكتاب فرضه، و لا في سنة الرسول و أئمة الهدى أمره فكل علمه إلى الله، و لا تقدر عظمة الله و اعلم يا عبد الله: أن الراسخين في العلم الذين اختارهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا آمنا به كل من عند ربنا، و قد مدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخا فاقتصر على ذلك و لا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين.

  • أقول: قوله (عليه السلام): و اعلم يا عبد الله أن الراسخين في العلم إلخ ظاهر في أنه (عليه السلام) أخذ الواو في قوله تعالى: {و الرّاسِخُون فِي الْعِلْمِ يقُولُون}، للاستيناف دون العطف كما استظهرناه من الآية و مقتضى ذلك أن ظهور الآية لا يساعد على كون الراسخين في العلم عالمين بتأويله، لا أنه يساعد على عدم إمكان علمهم به، فلا ينافي وجود بيان آخر يدل عليه كما تقدم بيانه و هو ظاهر بعض الأخبار عن أئمة أهل البيت كما سيأتي. و قوله (عليه السلام): الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب، خبر أن‌، و الكلام ظاهر في تحضيض المخاطب و ترغيبه أن يلزم طريقة الراسخين في العلم بالاعتراف بالجهل فيما جهله فيكون منهم، و هذا دليل على تفسيره (عليه السلام) الراسخين في العلم بمطلق من لزم ما علمه و لم يتعد إلى ما جهله. و المراد بالغيوب المحجوبة بالسدد: المعاني المرادة بالمتشابهات المخفية عن الأفهام العامة و لذا أردفه بقوله ثانيا: فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره، و لم يقل بجملة ما جهلوا تأويله فافهم.

  • و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): نحن الراسخون في العلم و نحن نعلم تأويله.

  • أقول: و الرواية لا تخلو عن ظهور في كون قوله تعالى و الراسخون في العلم، معطوفا على المستثنى في قوله: {و ما يعْلمُ تأْوِيلهُ إِلاّ اللّهُ}، لكن هذا الظهور يرتفع بما مر من البيان و ما تقدم من الرواية، و لا يبعد كل البعد أن يكون المراد بالتأويل هو المعنى المراد بالمتشابه فإن هذا المعنى من التأويل المساوق لتفسير المتشابه كان شائعا في الصدر الأول بين الناس. 

تفسير الميزان ج۳

70
  • و أما قوله (عليه السلام): نحن الراسخون في العلم، و قد تقدم‌- في رواية للعياشي عن الصادق (عليه السلام) قوله: و الراسخون في العلم هم آل محمد، و هذه الجملة مروية في روايات أخر أيضا فجميع ذلك من باب الجري و الانطباق كما يشهد بذلك ما تقدم و يأتي من الروايات.

  • و في الكافي، أيضا عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى أن قال: يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين: أنهم قالوا: {ربّنا لا تُزِغْ قُلُوبنا بعْد إِذْ هديْتنا و هبْ لنا مِنْ لدُنْك رحْمةً إِنّك أنْت‌ الْوهّابُ}، علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها، إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، و من لم يعقل عن الله - لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ينظرها و يجد حقيقتها في قلبه، و لا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا، و سره لعلانيته موافقا، لأن الله عز اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه.

  • أقول: قوله (عليه السلام): لم يخف الله من لم يعقل عن الله، في معنى قوله تعالى: {إِنّما يخْشى اللّه مِنْ عِبادِهِ الْعُلماءُ}، و قوله (عليه السلام): «و من لم يعقل عن الله إلخ» أحسن بيان لمعنى الرسوخ في العلم لأن الأمر ما لم يعقل حق التعقل لم ينسد طرق الاحتمالات فيه، و لم يزل القلب مضطربا في الإذعان به و إذا تم التعقل و عقد القلب عليه لم يخالفه باتباع ما يخالفه من الهوى فكان ما في قلبه هو الظاهر في جوارحه و كان ما يقوله هو الذي يفعله، و قوله: و لا يكون أحد كذلك إلخ بيان لعلامة الرسوخ في العلم.

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني عن أنس و أبي أمامة و وائلة بن أسقف و أبي الدرداء: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ‌ سئل عن الراسخين في العلم فقال: من برت يمينه و صدق لسانه و استقام قلبه، و من عف بطنه و فرجه فذلك من الراسخين في العلم.

  • أقول: و يمكن توجيه الرواية بما يرجع إلى معنى الحديث السابق.

  • و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): أن الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه.

  • أقول: و هو منطبق على الآية، فإن الراسخين في العلم قوبل به فيها قوله: {الّذِين فِي قُلُوبِهِمْ زيْغٌ}، فيكون رسوخ العلم عدم اختلاف العالم و ارتيابه. 

تفسير الميزان ج۳

71
  • و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه عن أم سلمة: أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قلت: يا رسول الله و إن القلوب لتتقلب؟ قال نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا و قلبه بين إصبعين من أصابع الله فإن شاء أقامه، و إن شاء أزاغه‌. (الحديث). 

  • أقول: و روي هذا المعنى بطرق عديدة عن عدة من الصحابة كجابر و نواس بن شمعان و عبد الله بن عمر و أبي هريرة، و المشهور في هذا الباب ما في حديث نواس: قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن. و قد روى اللفظة (فيما أظن) الشريف الرضي في المجازات النبوية.

  • و روي عن علي (عليه السلام): أنه قيل له. هل عندكم شي‌ء من الوحي؟ قال: لا و الذي فلق الحبة و برأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه.

  • أقول: و هو من غرر الأحاديث، و أقل ما يدل عليه: أن ما نقل من أعاجيب المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي يدهش العقول مأخوذ من القرآن الكريم.

  • و الكافي، عن الصادق عن أبيه عن آبائه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا أيها الناس إنكم في دار هدنة، و أنتم على ظهر سفر، و السير بكم سريع، و قد رأيتم الليل و النهار و الشمس و القمر يبليان كل جديد، و يقربان كل بعيد، و يأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز، قال: فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله و ما دار الهدنة؟ فقال: دار بلاغ و انقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، و ماحل مصدق، و من جعله أمامه قاده إلى الجنة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدل على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن، فظاهره حكم و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق، له تخوم و على تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، و منار الحكمة، و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره‌، و ليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، و يخلص من نشب، فإن التفكر حيوة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات، فعليكم بحسن التخلص، و قلة التربص. 

تفسير الميزان ج۳

72
  • أقول: و رواه العياشي في تفسيره إلى قوله: فليجل جال.

  • و في الكافي، و تفسير العياشي، أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): القرآن هدى من الضلالة، و تبيان من العمى، و استقالة من العثرة، و نور من الظلمة، و ضياء من الأحداث، و عصمة من الهلكة، و رشد من الغواية، و بيان من الفتن، و بلاغ من الدنيا إلى الآخرة، و فيه كمال دينكم، و ما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار. 

  • أقول: و الروايات في هذا المساق كثيرة عن النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)و الأئمة من أهل بيته (عليه السلام).

  • و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية: ما في القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن، و ما فيه حرف إلا و له حد و لكل حد مطلع، ما يعني بقوله: ظهر و بطن؟ قال: ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما مضى و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر، كلما جاء منه شي‌ء وقع، قال الله: و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم، نحن نعلمه.

  • أقول: الرواية المنقولة في ضمن الرواية هي ما روته الجماعة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بألفاظ مختلفة و إن كان المعنى واحدا، كما في تفسير الصافي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إن للقرآن ظهرا و بطنا و حدا و مطلعا.و فيه، عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) أيضا: أن للقرآن ظهرا و بطنا و لبطنه بطنا إلى سبعة أبطن. 

  • و قوله (عليه السلام) منه ما مضى و منه ما يأتي‌، ظاهره رجوع الضمير إلى القرآن باعتبار اشتماله على التنزيل و التأويل فقوله: يجري كما يجري الشمس و القمر يجري فيهما معا، فينطبق في التنزيل على الجري الذي اصطلح عليه الأخبار في انطباق الكلام بمعناه على المصداق كانطباق قوله: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا اِتّقُوا اللّه و كُونُوا مع الصّادِقِين} التوبة - ١٢٠، على كل طائفة من المؤمنين الموجودين في الأعصار المتأخرة عن زمان نزول الآية، و هذا نوع من الانطباق، و كانطباق آيات الجهاد على جهاد النفس، و انطباق آيات المنافقين على الفاسقين من المؤمنين، و هذا نوع آخر من الانطباق أدق من الأول، و كانطباقها و انطباق آيات المذنبين على أهل المراقبة و الذكر و الحضور في تقصيرهم و مساهلتهم في ذكر الله تعالى، و هذا نوع آخر أدق من ما تقدمه، و كانطباقها عليهم 

تفسير الميزان ج۳

73
  • في قصورهم الذاتي عن أداء حق الربوبية، و هذا نوع آخر أدق من الجميع. 

  • و من هنا يظهر أولا: أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله و مقاماتهم، و قد صور الباحثون عن مقامات الإيمان و الولاية من معانيه‌ ما هو أدق مما ذكرناه. 

  • و ثانيا: أن الظهر و البطن أمران نسبيان، فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره و بالعكس كما يظهر من الرواية التالية.

  • و في تفسير العياشي، عن جابر قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شي‌ء من تفسير القرآن فأجابني ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت جعلت فداك كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم! فقال: يا جابر إن للقرآن بطنا و للبطن بطن، و ظهرا و للظهر ظهر، يا جابر و ليس شي‌ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية تكون أولها في شي‌ء و أوسطها في شي‌ء و آخرها في شي‌ء - و هو كلام متصل ينصرف على وجوه.

  • و فيه أيضا عنه (عليه السلام) في حديث قال: و لو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شي‌ء، و لكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات و الأرض و لكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر.

  • و في المعاني، عن حمران بن أعين قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ظهر القرآن و بطنه فقال: ظهره الذين نزل فيهم القرآن، و بطنه الذين عملوا بأعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك‌.

  • و في تفسير الصافي، عن علي (عليه السلام): ما من آية إلا و لها أربعة معان: ظاهر و باطن و حد و مطلع، فالظاهر التلاوة، و الباطن الفهم، و الحد هو أحكام الحلال و الحرام، و المطلع هو مراد الله من العبد بها.

  • أقول: المراد بالتلاوة ظاهر مدلول اللفظ بدليل أنه (عليه السلام) عده من المعاني، فالمراد بالفهم في تفسيره الباطن ما هو في باطن الظاهر من المعنى، و المراد بقوله: هو أحكام الحلال و الحرام ظاهر المعارف المتلقاة من القرآن في أوائل المراتب أو أواسطها في مقابل المطلع الذي هو المرتبة العليا، و الحد و المطلع نسبيان كما أن الظاهر و الباطن 

تفسير الميزان ج۳

74
  • نسبيان كما عرفت فيما تقدم، فكل مرتبة عليا هي مطلع بالنسبة إلى السفلى. 

  • و المطلع إما بضم الميم و تشديد الطاء و فتح اللام اسم مكان من الاطلاع، أو بفتح الميم و اللام و سكون الطاء اسم مكان من الطلوع، و هو مراد الله من العبد بها كما ذكره (عليه السلام). 

  • و قد ورد هذه الأمور الأربعة في النبوي المعروف هكذا: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر و بطن و لكن حد مطلع. و في رواية: و لكل حد و مطلع.

  • و معنى‌ قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): و لكل حد مطلع‌ على ما في إحدى الروايتين: أن لكل واحد من الظهر و البطن الذي هو حد مطلع يشرف عليه، هذا هو الظاهر، و يمكن أن يرجع إليه ما في الرواية الأخرى: و لكل حد و مطلع بأن يكون المعنى: و لكل منهما حد هو نفسه و مطلع و هو ما ينتهي إليه الحد فيشرف على التأويل، لكن هذا لا يلائم ظاهرا ما في رواية علي (عليه السلام): ما من آية إلا و لها أربعة معان «إلخ» إلا أن يراد أن لها أربعة اعتبارات من المعنى و إن كان ربما انطبق بعضها على بعض. 

  • و على هذا فالمتحصل من معاني الأمور الأربعة: أن الظهر هو المعنى الظاهر البادئ من الآية، و الباطن هو الذي تحت الظاهر سواء كان واحدا أو كثيرا، قريبا منه أو بعيدا بينهما واسطة، و الحد هو نفس المعنى سواء كان ظهرا أو بطنا و المطلع هو المعنى الذي طلع منه الحد و هو بطنه متصلا به فافهم.

  • و في الحديث المروي من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أنزل القرآن على سبعة أحرف.

  • أقول: و الحديث و إن كان مرويا باختلاف ما في لفظه، لكن معناها مروي مستفيضا و الروايات متقاربة معنى، روتها العامة و الخاصة. و قد اختلف في معنى الحديث اختلافا شديدا ربما أنهي إلى أربعين قولا، و الذي يهون الخطب أن في نفس الأخبار تفسيرا لهذه السبعة الأحرف، و عليه التعويل.

  • ففي بعض الأخبار: نزل القرآن على سبعة أحرف أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و قصص و مثل‌، و في بعضها: زجر و أمر و حلال و حرام و محكم و متشابه و أمثال

تفسير الميزان ج۳

75
  • و عن علي (عليه السلام): أن الله أنزل القرآن على سبعة أقسام، كل منها كاف شاف، و هي أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و مثل و قصص.

  • فالمتعين حمل السبعة الأحرف على أقسام الخطاب‌ و أنواع البيان و هي سبعة على وحدتها في الدعوة إلى الله و إلى صراطه المستقيم، و يمكن أن يستفاد من هذه الرواية حصر أصول المعارف الإلهية في الأمثال فإن بقية السبعة لا تلائمها إلا بنوع من العناية على ما لا يخفى.

  • [ بحث آخر روائي في المراد من تفسير القرآن بالرأي و ما هو حق التفسير] 

  • في الصافي، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.

  • أقول: و هذا المعنى رواه الفريقان، و في معناه أحاديث أخر رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام).

  • و في منية المريد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.

  • أقول: و رواه أبو داود في سننه.

  • و فيه عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار.

  • و فيه عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ. 

  • أقول: و رواه أبو داود و الترمذي و النسائي.

  • و فيه عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: أكثر ما أخاف على أمتي من بعدي رجل يناول القرآن يضعه على غير مواضعه.

  • و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر و إن أخطأ فهو أبعد من السماء.

  • و فيه عن يعقوب بن يزيد عن ياسر عن الرضا (عليه السلام) قال: الرأي في كتاب الله كفر.

تفسير الميزان ج۳

76
  • أقول: و في معناها روايات أخر مروية في العيون و الخصال و تفسير العياشي و غيرها. 

  • قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): من فسر القرآن برأيه، الرأي‌ هو الاعتقاد عن اجتهاد و ربما أطلق على القول عن الهوى و الاستحسان و كيف كان لما ورد قوله: برأيه مع الإضافة إلى الضمير علم منه أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتى يكون بالملازمة أمرا بالاتباع و الاقتصار بما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبي و أهل بيته صلى الله عليه و عليهم على ما يراه أهل الحديث، على أنه ينافي الآيات الكثيرة الدالة على كون القرآن عربيا مبينا، و الآمرة بالتدبر فيه، و كذا ينافي الروايات الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى القرآن و عرض الأخبار عليه. 

  • بل الإضافة في قوله: برأيه، تفيد معنى الاختصاص و الانفراد و الاستقلال بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس فإن قطعة من الكلام من أي متكلم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي و نحكم بذلك: أنه أراد كذا كما نجري عليه في الأقارير و الشهادات و غيرهما، كل ذلك لكون بياننا مبنيا على ما نعلمه من اللغة و نعهده من مصاديق الكلمات حقيقة و مجازا. 

  • و البيان القرآني غير جار هذا المجرى على ما تقدم بيانه في الأبحاث السابقة بل هو كلام موصول بعضها ببعض في عين أنه مفصول ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض كما قاله علي (عليه السلام) فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها و يجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى: {أ فلا يتدبّرُون الْقُرْآن و لوْ كان مِنْ عِنْدِ غيْرِ اللّهِ لوجدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كثِيراً} النساء - ٨٢، و قد مر بيانه في الكلام على الإيجاز و غيره. 

  • فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف و بعبارة أخرى إنما نهى (عليه السلام) عن تفهم كلامه على نحو ما يتفهم به كلام غيره و إن كان هذا النحو من التفهم ربما صادف الواقع، و الدليل على ذلك‌ قوله (صلى الله عليه وآله و سلم)في الرواية الأخرى: من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ فإن الحكم بالخطإ مع فرض الإصابة ليس إلا 

تفسير الميزان ج۳

77
  • لكون الخطإ في الطريق‌ و كذاقوله (عليه السلام) في حديث العياشي: إن أصاب لم يؤجر.

  • و يؤيده ما كان عليه الأمر في زمن النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)فإن القرآن لم يكن مؤلفا بعد و لم يكن منه إلا سور أو آيات متفرقة في أيدي الناس فكان في تفسير كل قطعة قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد. 

  • و المحصل: أن المنهي عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن و اعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع إلى غيره، و لازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، و هذا الغير لا محالة إما هو الكتاب أو السنة، و كونه هي السنة ينافي القرآن و نفس السنة الآمرة بالرجوع إليه و عرض الأخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه و الاستعداد منه في تفسير القرآن إلا نفس القرآن. 

  • و من هنا يظهر حال ما فسروا به حديث التفسير بالرأي فقد تشتتوا في معناه على أقوال: 

  • أحدها: أن المراد به التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير، و هي خمسة عشر علما على ما أنهاه السيوطي في الإتقان: اللغة، و النحو، و التصريف، و الاشتقاق، و المعاني، و البيان، و البديع، و القراءة، و أصول الدين، و أصول الفقه، و أسباب النزول و كذا القصص، و الناسخ و المنسوخ، و الفقه، و الأحاديث المبينة لتفسير المجملات و المبهمات، و علم الموهبة، و يعني بالأخير ما أشار إليه‌ الحديث النبوي: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.

  • الثاني: أن المراد به تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. 

  • الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا و التفسير تبعا فيرد إليه بأي طريق أمكن و إن كان ضعيفا. 

  • الرابع: التفسير بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل. 

  • الخامس: التفسير بالاستحسان و الهوى: و هذه الوجوه الخمسة نقلها ابن النقيب على ما ذكره السيوطي في الإتقان، و هنا وجوه أخر نتبعها بها. 

  • السادس: أن المراد به هو القول في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب 

تفسير الميزان ج۳

78
  • الأوائل من الصحابة و التابعين ففيه تعرض لسخط الله تعالى. 

  • السابع: القول في القرآن بما يعلم أن الحق غيره، نقلهما ابن الأنباري. 

  • الثامن: أن المراد به القول في القرآن بغير علم و تثبت، سواء علم أن الحق خلافه أم لا. 

  • التاسع: هو الأخذ بظاهر القرآن بناء على أنه لا ظهور له بل يتبع في مورد الآية النص الوارد عن المعصوم، و ليس ذلك تفسيرا للآية بل اتباعا للنص، و يكون التفسير على هذا من الشئون الموقوفة على المعصوم. 

  • العاشر: أنه الأخذ بظاهر القرآن بناء على أن له ظهورا لا نفهمه بل المتبع في تفسير الآية هو النص عن المعصوم. 

  • فهذه وجوه عشرة، و ربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض، و كيف كان فهي وجوه خالية عن الدليل، على أن بعضها ظاهر البطلان أو يظهر بطلانه بما تقدم في المباحث السابقة، فلا نطيل بالتكرار. 

  • و بالجملة فالمتحصل من الروايات و الآيات التي تؤيدها كقوله تعالى: {أ فلا يتدبّرُون الْقُرْآن} (الآية) و قوله تعالى: {الّذِين جعلُوا الْقُرْآن عِضِين} الحجر - ٩١، و قوله تعالى: {إِنّ الّذِين يُلْحِدُون فِي آياتِنا لا يخْفوْن عليْنا أ فمنْ يُلْقى‌ فِي النّارِ خيْرٌ أمْ منْ يأْتِي آمِناً يوْم الْقِيامةِ} (الآية) حم السجدة - ٤٠، و قوله تعالى: {يُحرِّفُون الْكلِم عنْ مواضِعِهِ} النساء - ٤٦، و قوله تعالى: {و لا تقْفُ ما ليْس لك بِهِ عِلْمٌ} إسراء - ٣٦، إلى غير ذلك أن النهي في الروايات إنما هو متوجه إلى الطريق و هو أن يسلك في تفسير كلامه تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين. 

  • و ليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ و سرد الجمل و إعمال الصناعات اللفظية فإنما هو كلام عربي روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربي و قد قال تعالى: {و ما أرْسلْنا مِنْ رسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قوْمِهِ لِيُبيِّن لهُمْ} إبراهيم - ٤، و قال تعالى: {و هذا لِسانٌ عربِيٌّ مُبِينٌ} النحل - ١٠٣، و قال تعالى: {إِنّا جعلْناهُ قُرْآناً عربِيًّا لعلّكُمْ تعْقِلُون} الزخرف - ٣. 

  • و إنما الاختلاف من جهة المراد و المصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.

تفسير الميزان ج۳

79
  • توضيح ذلك أنا من جهة تعلق وجودنا بالطبيعة الجسمانية و قطوننا المعجل في الدنيا المادية ألفنا من كل معنى مصداقه المادي، و اعتدنا بالأجسام و الجسمانيات فإذا سمعنا كلام واحد من الناس الذين هم أمثالنا يحكي عن حال أمر من الأمور و فهمنا منه معناه حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق و النظام الحاكم فيه لعلمنا بأنه لا يعني إلا ذلك لكونه مثلنا لا يشعر إلا بذلك، و عند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق يحكم في المفهوم فربما خصص به العام أو عمم به الخاص أو تصرف في المفهوم بأي تصرف آخر و هو الذي نسميه بتصرف القرائن العقلية غير اللفظية. 

  • مثال ذلك أنا إذا سمعنا عزيزا من أعزتنا ذا سؤدد و ثروة يقول: {و إِنْ مِنْ شيْ‌ءٍ إِلاّ عِنْدنا خزائِنُهُ}، و تعقلنا مفهوم الكلام و معاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق على المصداق: أن له أبنية محصورة حصينة تسع شيئا كثيرا من المظروفات فإن الخزانة هكذا تتخذ إذا اتخذت، و أن له فيها مقدارا وفرا من الذهب و الفضة و الورق و الأثاث و الزينة و السلاح، فإن هذه الأمور هي التي يمكن أن تخزن عندنا و تحفظ حفظا، و أما الأرض و السماء و البر و البحر و الكوكب و الإنسان فهي و إن كانت أشياء لكنها لا تخزن و لا تتراكم، و لذلك نحكم بأن المراد من الشي‌ء بعض من أفراده غير المحصورة، و كذا من الخزائن قليل من كثير فقد عاد النظام الموجود في المصداق و هو أن كثيرا من الأشياء لا يخزن، و أن ما يختزن منها إنما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة و الغارة أوجب تقييدا عجيبا في إطلاق مفهوم الشي‌ء و الخزائن. 

  • ثم إذا سمعنا الله تعالى ينزل على رسوله قوله: {و إِنْ مِنْ شيْ‌ءٍ إِلاّ عِنْدنا خزائِنُهُ} الحجر - ٢١، فإن لم يرق أذهاننا عن مستواها الساذج الأولي فسرنا كلامه بعين ما فسرنا به كلام الواحد من الناس مع أنه لا دليل لنا على ذلك البتة فهو تفسير بما نراه من غير علم. 

  • و إن رقت أذهاننا عن ذلك قليلا، و أذعنا بأنه تعالى لا يخزن المال و خاصة إذا سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية: {و ما نُنزِّلُهُ إِلاّ بِقدرٍ معْلُومٍ}، و يقول أيضا: {و ما أنْزل اللّهُ مِن السّماءِ مِنْ رِزْقٍ فأحْيا بِهِ الْأرْض بعْد موْتِها} الجاثية - ٥، حكمنا بأن المراد بالشي‌ء الرزق من الخبز و الماء و أن المراد بنزوله نزول المطر لأنا لا نشعر بشي‌ء ينزل من السماء غير المطر فاختزان كل شي‌ء عند الله ثم نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر 

تفسير الميزان ج۳

80
  • و نزوله لتهيئة المواد الغذائية. و هذا أيضا تفسير بما نراه من غير علم إذا لا مستند له إلا أنا لا نعلم شيئا ينزل من السماء غير المطر، و الذي بأيدينا هاهنا عدم العلم دون العلم بالعدم. 

  • و إن تعالينا عن هذا المستوى أيضا و اجتنبنا ما فيه من القول في القرآن بغير علم و أبقينا الكلام على إطلاقه التام، و حكمنا أن قوله: {و إِنْ مِنْ شيْ‌ءٍ إِلاّ عِنْدنا خزائِنُهُ}، يبين‌ أمر الخلقة غير أنا لما كنا لا نشك في أن ما نجده من الأشياء المتجددة بالخلقة كالإنسان و الحيوان و النبات و غيرها لا تنزل من السماء، و إنما تحدث حدوثا في الأرض حكمنا بأن قوله: {و إِنْ مِنْ شيْ‌ءٍ إِلاّ عِنْدنا خزائِنُهُ}، كناية عن مطاوعة الأشياء في وجودها لإرادة الله تعالى، و أن الإرادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الأشياء المخلوقة و إنما يخرج منه و ينزل من عنده تعالى ما يتعلق به مشيته تعالى، و هذا أيضا كما ترى تفسير للآية بما نراه من غير علم، إذ لا مستند لنا فيه سوى أنا نجد الأشياء غير نازلة من عند الله بالمعنى الذي نعهده من النزول، و لا علم لنا بغيره. 

  • و إذا تأملت ما وصفه الله تعالى في كتابه من أسماء ذاته و صفاته و أفعاله و ملائكته و كتبه و رسله و القيامة و ما يتعلق بها، و حكم أحكامه و ملاكاتها، و تأملت ما نرومه في تفسيرها من إعمال القرائن العقلية وجدت أن ذلك كله من قبيل التفسير بالرأي من غير علم، و تحريف لكلمه عن مواضعها. 

  • و قد تقدم في الفصل الخامس من البحث في المحكم و المتشابه أن البيانات القرآنية بالنسبة إلى المعارف الإلهية كالأمثال أو هي أمثال بالنسبة إلى ممثلاتها. و قد فرقت في الآيات المتفرقة، و بينت ببيانات مختلفة ليتبين ببعض الآيات ما يمكن أن يختفي معناه في بعض، و لذلك كان بعضها شاهدا على البعض، و الآية مفسرة للآية، و لو لا ذلك لاختل أمر المعارف الإلهية في حقائقها، و لم يمكن التخلص في تفسير الآية من القول بغير علم على ما تقدم بيانه. 

  • و من هنا يظهر: أن التفسير بالرأي كما بيناه لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير الحديث النبوي السابق: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.

  • و من هنا يظهر أيضا: أن ذلك يؤدي إلى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدي إلى وقوع الآية في غير 

تفسير الميزان ج۳

81
  • موقعها، و وضع الكلمة في غير موضعها. و يلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياتها بصرفها عن ظاهرها كما يتأول المجبرة آيات الاختيار و المفوضة آيات القدر، و غالب المذاهب في الإسلام لا يخلو عن التأول في الآيات القرآنية و هي الآيات التي لا يوافق ظاهرها مذهبهم، فيتشبثون في ذلك بذيل التأويل استنادا إلى القرينة العقلية، و هو قولهم: إن الظاهر الفلاني قد ثبت خلافه عند العقل فيجب صرف الكلام عنه. 

  • و بالجملة يؤدي ذلك إلى اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها، و دفع مقاصد بعضها ببعض، و يبطل بذلك المرادان جميعا إذ لا اختلاف في القرآن فظهور الاختلاف بين الآيات بعضها مع بعض ليس إلا لاختلال الأمر و اختلاط المراد فيهما معا. 

  • و هذا هو الذي ورد التعبير عنه في الروايات بضرب بعض القرآن ببعض كما في الروايات التالية: في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق عن أبيه (عليه السلام) قال: ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.

  • و في المعاني و المحاسن مسندا و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.

  • قال الصدوق: سألت ابن الوليد عن معنى هذا الحديث، فقال: هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية أخرى.

  • أقول: ما أجاب به لا يخلو عن إبهام، فإن أراد به الخلط المذكور و ما هو المعمول عند الباحثين في مناظراتهم من معارضة الآية بالآية و تأويل البعض بالتمسك بالبعض فحق، و إن أراد به تفسير الآية بالآية و الاستشهاد بالبعض للبعض فخطأ، و الروايتان التاليتان تدفعانه. 

  • و في تفسير النعماني، بإسناده إلى إسماعيل بن جابر قال سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: إن الله تبارك و تعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء فلا نبي بعده، و أنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده، أحل فيه حلالا و حرم 

تفسير الميزان ج۳

82
  • حراما، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه شرعكم و خبر من قبلكم و بعدكم، و جعله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) علما باقيا في أوصيائه، فتركهم الناس و هم الشهداء على أهل كل زمان‌، و عدلوا عنهم ثم قتلوهم، و اتبعوا غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر و طلب علومهم، قال الله سبحانه: {و نسُوا حظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ و لا تزالُ تطّلِعُ على‌ خائِنةٍ مِنْهُمْ}، و ذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، و احتجوا بالمنسوخ و هم يظنون أنه الناسخ، و احتجوا بالمتشابه و هم يرون أنه المحكم، و احتجوا بالخاص و هم يقدرون أنه العام، و احتجوا بأول الآية و تركوا السبب في تأويلها، و لم ينظروا إلى ما يفتح الكلام و إلى ما يختمه، و لم يعرفوا موارده و مصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا و أضلوا. 

  • و اعلموا رحمكم الله: أنه من لم يعرف من كتاب الله عز و جل الناسخ من المنسوخ و الخاص من العام، و المحكم من المتشابه، و الرخص من العزائم، و المكي و المدني و أسباب التنزيل، و المبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة و المؤلفة، و ما فيه من علم القضاء و القدر، و التقديم و التأخير، و المبين و العميق، و الظاهر و الباطن، و الابتداء و الانتهاء، و السؤال و الجواب، و القطع و الوصل، و المستثنى منه و الجار فيه، و الصفة لما قبل مما يدل على ما بعد، و المؤكد منه و المفصل، و عزائمه و رخصه، و مواضع فرائضه و أحكامه، و معنى حلاله و حرامه الذي هلك فيه الملحدون، و الموصول من الألفاظ، و المحمول على ما قبله و على ما بعده فليس بعالم بالقرآن و لا هو من أهله. 

  • و متى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب و رسوله و مأواه جهنم و بئس المصير.

  • و في نهج البلاغة، و الإحتجاج، قال (عليه السلام): ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا و إلههم واحد، و نبيهم واحد، و كتابهم واحد فأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى؟ أم أنزل الله دينا تاما فقصر الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) عن تبليغه و أدائه؟ و الله سبحانه يقول: {ما فرّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شيْ‌ءٍ} و فيه تبيان كل شي‌ء 

تفسير الميزان ج۳

83
  • و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا، و أنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: {و لوْ كان مِنْ عِنْدِ غيْرِ اللّهِ لوجدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كثِيراً}، و أن القرآن ظاهره أنيق، و باطنه عميق لا تحصى عجائبه، و لا تنقضي غرائبه، و لا تكشف الظلمات إلا به. 

  • أقول: و الرواية كما ترى ناصة على أن كل نظر ديني يجب أن ينتهي إلى القرآن، و قوله: فيه تبيان، نقل للآية بالمعنى. 

  • و في الدر المنثور، و أخرج ابن سعد و ابن الضريس في فضائله و ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خرج على قوم يتراجعون في القرآن و هو مغضب فقال: بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، و ضرب الكتاب بعضه ببعض. قال: و إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا و لكن نزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم فاعملوا به، و ما تشابه عليكم فآمنوا به. و فيه أيضا و أخرج أحمد من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قوما يتدارءون فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، و إنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوا، و ما جهلتم فكلوه إلى عالمه. 

  • أقول: و الروايات كما ترى يعد ضرب القرآن بعضه ببعض مقابلا لتصديق بعض القرآن بعضا، و هو الخلط بين الآيات من حيث مقامات معانيها، و الإخلال بترتيب مقاصدها كأخذ المحكم متشابها و المتشابه محكما و نحو ذلك. 

  • فالتكلم في القرآن بالرأي، و القول في القرآن بغير علم كما هو موضوع الروايات المنقولة سابقا، و ضرب القرآن بعضه ببعضه كما هو مضمون الروايات المنقولة آنفا يحوم الجميع حول معنى واحد و هو الاستمداد في تفسير القرآن بغيره. 

  • فإن قلت: لا ريب أن القرآن إنما نزل ليعقله الناس و يفهموه كما قال تعالى: {إِنّا أنْزلْنا عليْك الْكِتاب لِلنّاسِ} الزمر - ٤١، و قال تعالى: {هذا بيانٌ لِلنّاسِ} آل عمران - ١٣٨، إلى غير ذلك من‌ الآيات، و لا ريب أن مبينه هو الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) كما قال تعالى: {و أنْزلْنا إِليْك الذِّكْر لِتُبيِّن لِلنّاسِ ما نُزِّل إِليْهِمْ} النحل - ٤٤، و قد بينه للصحابة، ثم أخذ عنهم التابعون فما نقلوه عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) إلينا فهو بيان نبوي لا يجوز 

تفسير الميزان ج۳

84
  • التجافي و الإغماض عنه بنص القرآن، و ما تكلموا فيه من غير إسناده إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فهو و إن لم يجر مجرى النبويات في حجيتها لكن القلب إليه أسكن فإن ما ذكروه في تفسير الآيات إما مسموع من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو شي‌ء هداهم إليه الذوق المكتسب من بيانه و تعليمه (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و كذا ما ذكره تلامذتهم من التابعين و من يتلوهم، و كيف يخفى عليهم معاني القرآن مع تعرقهم في العربية، و سعيهم في تلقيها من مصدر الرسالة، و اجتهادهم البالغ في فقه الدين على ما يقصه التاريخ من مساعي رجال الدين في صدر الإسلام. 

  • و من هنا يظهر: أن العدول عن طريقتهم و سنتهم، و الخروج من جماعتهم، و تفسير آية من الآيات بما لا يوجد بين أقوالهم و آرائهم بدعة، و السكوت عما سكتوا عنه واجب. 

  • و في ما نقل عنهم كفاية لمن أراد فهم كتاب الله تعالى، فإنه يبلغ زهاء ألوف من الروايات، و قد ذكر السيوطي أنه أنهاه إلى سبعة عشر ألف رواية عن النبي و عن الصحابة و التابعين. 

  • قلت: قد مر فيما تقدم أن الآيات التي تدعو الناس عامة من كافر أو مؤمن ممن شاهد عصر النزول أو غاب عنه‌ إلى تعقل القرآن و تأمله و التدبر فيه و خاصة قوله تعالى: {أ فلا يتدبّرُون الْقُرْآن و لوْ كان مِنْ عِنْدِ غيْرِ اللّهِ لوجدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كثِيراً} النساء - ٨٢، تدل دلالة واضحة على أن المعارف القرآنية يمكن أن ينالها الباحث بالتدبر و البحث، و يرتفع به ما يتراءى من الاختلاف بين الآيات، و الآية في مقام التحدي، و لا معنى لإرجاع فهم معاني الآيات و المقام هذا المقام - إلى فهم الصحابة و تلامذتهم من التابعين حتى إلى بيان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإن ما بينه إما أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام فهو مما يؤدي إليه اللفظ و لو بعد التدبر و التأمل و البحث، و إما أن يكون معنى لا يوافق الظاهر و لا أن الكلام يؤدي إليه فهو مما لا يلائم التحدي و لا تتم به الحجة و هو ظاهر. 

  • نعم تفاصيل الأحكام مما لا سبيل إلى تلقيه من غير بيان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما أرجعها القرآن إليه في قوله تعالى: {و ما آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ و ما نهاكُمْ عنْهُ فانْتهُوا} الحشر - ٧ و ما في معناه من الآيات، و كذا تفاصيل القصص و المعاد مثلا. 

تفسير الميزان ج۳

85
  • و من هنا يظهر أن شأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في هذا المقام هو التعليم فحسب و التعليم إنما هو هداية المعلم الخبير ذهن المتعلم و إرشاده إلى ما يصعب عليه العلم به و الحصول عليه لا ما يمتنع فهمه من غير تعليم، فإنما التعليم تسهيل للطريق و تقريب للمقصد، لا إيجاد للطريق و خلق للمقصد، و المعلم في تعليمه إنما يروم ترتيب المطالب العلمية و نضدها على نحو يستسهله ذهن المتعلم و يأنس به فلا يقع في جهد الترتيب و كد التنظيم‌ فيتلف العمر و موهبة القوة أو يشرف على الغلط في المعرفة. 

  • و هذا هو الذي يدل عليه أمثال قوله تعالى: {و أنْزلْنا إِليْك الذِّكْر لِتُبيِّن لِلنّاسِ ما نُزِّل إِليْهِمْ} (الآية) النحل - ٤٤، و قوله تعالى: {و يُعلِّمُهُمُ الْكِتاب و الْحِكْمة} الجمعة - ٢، فالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما يعلم الناس و يبين لهم ما يدل عليه القرآن بنفسه، و يبينه الله سبحانه بكلامه، و يمكن للناس الحصول عليه بالأخرة لأنه (صلى الله عليه وآله و سلم) يبين لهم معاني لا طريق إلى فهمها من كلام الله تعالى فإن ذلك لا ينطبق البتة على مثل قوله تعالى: {كِتابٌ فُصِّلتْ آياتُهُ قُرْآناً عربِيًّا لِقوْمٍ يعْلمُون} حم السجدة - ٣، و قوله تعالى: {و هذا لِسانٌ عربِيٌّ مُبِينٌ} النحل - ١٠٣. 

  • على أن الأخبار المتواترة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) المتضمنة لوصيته بالتمسك بالقرآن و الأخذ به و عرض الروايات المنقولة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) على كتاب الله لا يستقيم معناها إلا مع كون جميع ما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مما يمكن استفادته من الكتاب، و لو توقف ذلك على بيان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان من الدور الباطل و هو ظاهر. 

  • على أن ما ورد به النقل من كلام الصحابة مع قطع النظر عن طرقه لا يخلو عن الاختلاف فيما بين الصحابة أنفسهم بل عن الاختلاف فيما نقل عن الواحد منهم على ما لا يخفى على المتتبع المتأمل في أخبارهم، و القول بأن الواجب حينئذ أن يختاروا أحد الأقوال المختلفة المنقولة عنهم في الآية، و يجتنب عن خرق إجماعهم، و الخروج عن جماعتهم مردود بأنهم أنفسهم لم يسلكوا هذا الطريق، و لم يستلزموا هذا المنهج‌ و لم يبالوا بالخلاف فيما بينهم فكيف يجب على غيرهم أن يقفوا على ما قالوا به و لم يختصوا بحجية قولهم على غيرهم و لا بتحريم الخلاف على غيرهم دونهم. 

  • على أن هذا الطريق و هو الاقتصار على ما نقل من مفسري صدر الإسلام من 

تفسير الميزان ج۳

86
  • الصحابة و التابعين في معاني الآيات القرآنية يوجب توقف العلم في سيره، و بطلان البحث في أثره كما هو مشهود في ما بأيدينا من كلمات الأوائل و الكتب المؤلفة في التفسير في القرون الأولى من الإسلام، و لم ينقل منهم في التفسير إلا معان ساذجة بسيطة خالية عن تعمق البحث و تدقيق النظر فأين ما يشير إليه قوله تعالى: {و نزّلْنا عليْك الْكِتاب تِبْياناً لِكُلِّ شيْ‌ءٍ} النحل - ٨٩، من دقائق المعارف في القرآن؟ و أما استبعاد أن يختفي عليهم معاني القرآن مع ما هم عليه من الفهم و الجد و الاجتهاد فيبطله نفس الخلاف الواقع بينهم في معاني كثير من الآيات و التناقض الواقع في الكلمات المنقولة عنهم إذ لا يتصور اختلاف و لا تناقض إلا مع فرض خفاء الحق و اختلاط طريقه بغيره. 

  • فالحق أن الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود، و أن البيان الإلهي و الذكر الحكيم بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه، أي إنه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى طريق، فكيف يتصور أن يكون الكتاب الذي عرفه الله تعالى بأنه هدى و أنه نور و أنه تبيان لكل شي‌ء مفتقرا إلى هاد غيره و مستنيرا بنور غيره و مبينا بأمر غيره؟.

  • فإن قلت: قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال في آخر خطبة خطبها: إني تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر و الثقل الأصغر: فأما الأكبر فكتاب ربي، و أما الأصغر فعترتي أهل بيتي فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما، رواه الفريقان بطرق متواترة عن جم غفير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عنه، أنهى علماء الحديث عدتهم إلى خمس و ثلاثين صحابيا، و في بعض الطرق: لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، و الحديث دال على حجية قول أهل البيت (عليه السلام)في القرآن و وجوب اتباع ما ورد عنهم في تفسيره و الاقتصار على ذلك و إلا لزم التفرقة بينهم و بينه. 

  • قلت: ما ذكرناه في معنى اتباع بيان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) آنفا جار هاهنا بعينه، و الحديث غير مسوق لإبطال حجية ظاهر القرآن و قصر الحجية على ظاهر بيان أهل البيت (عليه السلام). كيف و هو (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: لن يفترقا، فيجعل الحجية لهما معا فللقرآن الدلالة على معانيه و الكشف عن المعارف الإلهية، و لأهل البيت الدلالة على الطريق و هداية الناس إلى أغراضه و مقاصده. 

تفسير الميزان ج۳

87
  • على أن نظير ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في دعوة الناس إلى الأخذ بالقرآن و التدبر فيه و عرض ما نقل عنه عليه وارد عن أهل البيت (عليه السلام). 

  • على أن جما غفيرا من الروايات التفسيرية الواردة عنهم (عليهم السلام)مشتملة على الاستدلال بآية على آية، و الاستشهاد بمعنى على معنى، و لا يستقيم ذلك إلا بكون المعنى مما يمكن أن يناله المخاطب و يستقل به ذهنه لوروده من طريقه المتعين له. 

  • على أن هاهنا روايات عنهم (عليهم السلام)تدل على ذلك بالمطابقة كما رواه في المحاسن، بإسناده عن أبي لبيد البحراني عن أبي جعفر (عليه السلام)في حديث قال: فمن زعم أن‌ كتاب الله مبهم فقد هلك و أهلك. و يقرب منه ما فيه، و في الإحتجاج، عنه (عليه السلام)قال: إذا حدثتكم بشي‌ء فاسألوني عنه من كتاب الله‌ (الحديث). 

  • و بما مر من البيان يجمع بين أمثال هذه الأحاديث الدالة على إمكان نيل المعارف القرآنية منه و عدم احتجابها من العقول و بين ما ظاهره خلافه كما في تفسير العياشي، عن جابر قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن للقرآن بطنا و للبطن ظهرا، ثم قال: يا جابر و ليس شي‌ء أبعد من عقول الرجال منه إن الآية لتنزل أولها في شي‌ء و أوسطها في شي‌ء و آخرها في شي‌ء، و هو كلام متصل ينصرف على وجوه‌. و هذا المعنى وارد في عدة روايات. و قد رويت الجملة أعني قوله: و ليس شي‌ء أبعد إلخ في بعضها عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قد روي عن علي (عليه السلام): أن القرآن حمال ذو وجوه‌ الحديث، فالذي ندب إليه تفسيره من طريقه و الذي نهي عنه تفسيره من غير طريقه و قد تبين أن المتعين في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه و تفسير الآية بالآية و ذلك بالتدرب بالآثار المنقولة عن النبي و أهل بيته صلى الله عليه و عليهم و تهيئة ذوق مكتسب منها ثم الورود، و الله الهادي‌.

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٠الی ١٨ ] 

  • {إِنّ الّذِين كفرُوا لنْ تُغْنِي عنْهُمْ أمْوالُهُمْ و لا أوْلادُهُمْ مِن اللّهِ شيْئاً و أُولئِك هُمْ وقُودُ النّارِ ١٠كدأْبِ آلِ فِرْعوْن و الّذِين مِنْ قبْلِهِمْ

تفسير الميزان ج۳

88
  • كذّبُوا بِآياتِنا فأخذهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ و اللّهُ شدِيدُ الْعِقابِ ١١ قُلْ لِلّذِين كفرُوا ستُغْلبُون و تُحْشرُون إِلى‌ جهنّم و بِئْس الْمِهادُ ١٢ قدْ كان لكُمْ آيةٌ فِي فِئتيْنِ اِلْتقتا فِئةٌ تُقاتِلُ فِي سبِيلِ اللّهِ و أُخْرى‌ كافِرةٌ يروْنهُمْ مِثْليْهِمْ رأْي الْعيْنِ و اللّهُ يُؤيِّدُ بِنصْرِهِ منْ يشاءُ إِنّ فِي ذلِك لعِبْرةً لِأُولِي الْأبْصارِ ١٣ زُيِّن لِلنّاسِ حُبُّ الشّهواتِ مِن النِّساءِ و الْبنِين و الْقناطِيرِ الْمُقنْطرةِ مِن الذّهبِ و الْفِضّةِ و الْخيْلِ الْمُسوّمةِ و الْأنْعامِ و الْحرْثِ ذلِك متاعُ الْحياةِ الدُّنْيا و اللّهُ عِنْدهُ حُسْنُ الْمآبِ ١٤ قُلْ أ أُنبِّئُكُمْ بِخيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلّذِين اِتّقوْا عِنْد ربِّهِمْ جنّاتٌ تجْرِي مِنْ تحْتِها الْأنْهارُ خالِدِين فِيها و أزْواجٌ مُطهّرةٌ و رِضْوانٌ مِن اللّهِ و اللّهُ بصِيرٌ بِالْعِبادِ ١٥ الّذِين يقُولُون ربّنا إِنّنا آمنّا فاغْفِرْ لنا ذُنُوبنا و قِنا عذاب النّارِ ١٦ الصّابِرِين و الصّادِقِين و الْقانِتِين و الْمُنْفِقِين و الْمُسْتغْفِرِين بِالْأسْحارِ ١٧ شهِد اللّهُ أنّهُ لا إِله إِلاّ هُو و الْملائِكةُ و أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِله إِلاّ هُو الْعزِيزُ الْحكِيمُ ١٨}

  • (بيان)‌ 

  • قد تقدم: أن المسلمين عند نزول السورة كانوا مبتلين في داخل جماعتهم بالمنافقين و آخرين سماعين لهم و لما يلقيه إليهم أعداء الإسلام من النزاعات و الوساوس لتقليب 

تفسير الميزان ج۳

89
  • الأمور عليهم و إفساد دعوتهم، و مبتلين في خارج جمعهم بثوران الدنيا عليهم و انتهاض المشركين و اليهود و النصارى لإبطال دعوتهم و إخماد نارهم و إطفاء نورهم بأي وسيلة أمكنت من لسان أو يد. و أن غرض السورة دعوتهم إلى توحيد الكلمة و إلى الصبر و الثبات ليصلح بذلك أمرهم و ينقطع ما نشأ من الفساد في داخل جوهم، و ما يطرأ و يهجم عليهم منه من خارجه. 

  • و قد كانت الآيات السابقة أعني قوله تعالى: {هُو الّذِي أنْزل عليْك الْكِتاب}، إلى قوله تعالى: {إِنّ اللّه لا يُخْلِفُ الْمِيعاد}، تعريضا للمنافقين و الزائقين قلبا و دعوة للمسلمين إلى التثبت فيما فهموه من معارف الدين، و التسليم و الإيمان فيما اشتبه لهم و لم يفتهموه من كنهه و حقيقته بالتنبيه على أن شر ما يفسد أمر الدين و يجر المسلمين إلى الفتنة و اختلال نظام السعادة هو اتباع المتشابهات و ابتغاء التأويل فيتحول بذلك الهداية الدينية إلى الغي و الضلال و يتبدل به الاجتماع افتراقا، و الشمل شتاتا. 

  • ثم وقع التعرض في هذه الآيات لحال الكفار و المشركين و أنهم سيغلبون و ليسوا بمعجزين لله سبحانه و لا ناجحين في عتوهم بالتنبيه على أن الذي أوجب ضلالهم و الالتباس عليهم هو ما زين لهم من مشتهيات الدنيا فزعموا بما رزقوا من مالها و ولدها أن ذلك مغن لهم من الله سبحانه شيئا و قد أخطئوا في زعمهم فالله سبحانه هو الغالب في أمره، و لو كان المال و الأولاد و ما أشبهها مغنية من الله شيئا لأغنت آل فرعون و من قبلهم من الأمم الظالمة أولي الشوكة و القدرة لكنها لم تغن عنهم شيئا و أخذهم الله بذنوبهم فكذلك هؤلاء سيغلبون و يؤخذون فمن الواجب على المؤمنين أن يتقوا الله في هذه المشتهيات حتى ينالوا بذلك سعادة الدنيا و ثواب الآخرة و رضوان ربهم سبحانه. 

  • فالآيات كما تعطيه مضامينها متعرضة لحال الكفار كما أن الآيات التالية لهذه الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب من اليهود و النصارى على ما سيأتي. 

  • قوله تعالى: {إِنّ الّذِين كفرُوا لنْ تُغْنِي عنْهُمْ أمْوالُهُمْ و لا أوْلادُهُمْ مِن اللّهِ شيْئاً}، أغنى عنه ماله من فلان أي أعطاه الغنى و رفع حاجته فلا حاجة به إليه، و الإنسان في بادي تكونه و شعوره يرى نفسه محتاجة إلى الخارج منه، و هذا أول علمه الفطري إلى احتياجه إلى الصانع المدبر ثم إنه لما توسط في الأسباب و أحس بحوائجه بدأ بإحساس الحاجة إلى كماله البدني النباتي و هو الغذاء و الولد، ثم عرفت له نفسه سائر الكمالات 

تفسير الميزان ج۳

90
  • الحيوانية، و هي التي يزينوا له الخيال من زخارف الدنيا من زينة الملبس و المسكن و المنكح و غير ذلك، و عندئذ يتبدل طلب الغذاء إلى طلب المال الذي يظنه مفتاحا لحل جميع مشكلات الحيوة لأن العادة الغالبة تجري على ذلك فيظن أن سعادة حيوته في المال و الولد بعد ما كان يظن أن ضامن سعادته هو الغذاء و الولد، ثم انكباب نفسه على مشتهياته، و قصر همه على الأسباب يوجب أن يقف قلبه عند الأسباب، و يعطي لها الاستقلال، و حينئذ ينسى ربه، و يتشبث بذيل المال و الولد، و في هذا الجهل هلاكه فإنه يستر به آيات ربه و يكفر بها، و قد التبس عليه الأمر فإن ربه هو الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا يستغني عنه شي‌ء بحال و لا يغني عنه شي‌ء بحال. 

  • و بهذا البيان يظهر وجه تقديم الأموال على الأولاد في الآية فإن الركون إلى المال - و قد عرفت أن الأصل فيه الغذاء - أقدم عند الإنسان من الركون إلى الأولاد و أعرف منه و إن كان حب الولد ربما غلب عند الإنسان على حب المال. 

  • و في الآية إيجاز شبيه دفع الدخل، و التقدير: إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا و زعموا أن أموالهم و أولادهم تغنيهم من الله، و قد أخطئوا فلا غنى من الله سبحانه في وقت و لا في شي‌ء، على ما تدل عليه الآية التالية. 

  • قوله تعالى: {و أُولئِك هُمْ وقُودُ النّارِ}، الوقود بفتح الواو ما توقد به النار و تشتعل، و الآية جارية مجرى قوله تعالى: {فاتّقُوا النّار الّتِي وقُودُها النّاسُ و الْحِجارةُ} البقرة - ٢٤، و قوله تعالى: {إِنّكُمْ و ما تعْبُدُون مِنْ دُونِ اللّهِ حصبُ جهنّم} الأنبياء - ٩٨، و قد مر بعض الكلام في معنى ذلك في سورة البقرة. 

  • و الإتيان بالجملة الاسمية، و الابتداء باسم الإشارة، و كونه دالا على البعد و توسيط ضمير الفصل، و إضافة الوقود إلى النار دون أن يقال وقود، كل ذلك يؤكد ظهور الكلام في الحصر، و لازمه كون المكذبين من الكفار هم الأصل في عذاب النار و إيقاد جهنم، و أن غيرهم إنما يحترقون بنارهم، و يتأيد بذلك ما سيأتي بيانه في قوله تعالى: {لِيمِيز اللّهُ الْخبِيث مِن الطّيِّبِ و يجْعل الْخبِيث بعْضهُ على‌ بعْضٍ} (الآية) الأنفال - ٣٧. 

  • قوله تعالى: {كدأْبِ آلِ فِرْعوْن و الّذِين مِنْ قبْلِهِمْ} إلى آخر الآية: الدأب‌ على ما ذكروه هو السير المستمر قال تعالى: {و سخّر لكُمُ الشّمْس و الْقمر دائِبيْنِ} إبراهيم - ٣٣.

تفسير الميزان ج۳

91
  • و منه تسمية العادة دأبا لأنه سير مستمر، و هذا المعنى هو المراد في الآية. 

  • و قوله: {كدأْبِ}، متعلق بمقدر يدل عليه قوله في الآية السابقة: {لنْ تُغْنِي عنْهُمْ}، و يفسر الدأب قوله: {كذّبُوا بِآياتِنا} و هو في موضع الحال، و تقدير الكلام كما مرت إليه الإشارة: إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا و استمروا عليها دائبين فزعموا أن في أموالهم و أولادهم غنى لهم من الله كدأب آل فرعون و من قبلهم و قد كذبوا بآياتنا. 

  • و قوله: {فأخذهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ}، ظاهر الباء أنها تفيد السببية، يقال: أخذته بذنبه أي بسبب ذنبه لكن مقتضى المحاذاة التي بين الآيتين، و قياسه حال هؤلاء الذين كفروا في دأبهم على آل فرعون و الذين من قبلهم في دأبهم أن يكون البناء للآلة، فإنه ذكر في الذين كفروا أنهم وقود النار تشتعل عليهم أنفسهم و يعذبون بها فكذلك آل فرعون و من قبلهم إنما أخذوا بذنوبهم و كان العذاب الذي حل بساحتهم هو عين الذنوب التي أذنبوها، و كان مكرهم هو الحائق بهم، و ظلمهم عائدا إليهم، قال تعالى: {و لا يحِيقُ الْمكْرُ السّيِّئُ إِلاّ بِأهْلِهِ} الفاطر - ٤٣، و قال تعالى: {و ما ظلمُونا و لكِنْ كانُوا أنْفُسهُمْ يظْلِمُون} البقرة - ٥٧. 

  • و من هنا يتبين معنى كونه شديد العقاب، فإن عقابه تعالى لا يقصد الإنسان و لا يتوجه إليه من جهة دون جهة، و في محل دون محل، و على شرط دون شرط كما أن عقاب غيره كذلك فإن الشر الذي يوجهه إلى الإنسان مثله مثلا إنما يتوجه إليه من بعض الجهات دون بعض كفوق و تحت، و في بعض الأماكن دون بعض‌ فيدفع بالفرار و التوقي و الالتجاء مثلا و هذا بخلاف عقابه تعالى فإنه يأخذ الإنسان بعمله و ذنبه و هو مع الإنسان في باطنه و ظاهره من غير أن ينفك عنه، و يجعل الإنسان وقودا لنار أحاط به سرداقها، و لا ينفعه فرار و لا قرار، و لا يوجد منه مناص و لا خلاص، فهو شديد العقاب. 

  • و في قوله تعالى: {كذّبُوا بِآياتِنا فأخذهُمُ اللّهُ}، التفات من الغيبة إلى الحضور أولا ثم من الحضور إلى الغيبة ثانيا، أما قوله: {كذّبُوا بِآياتِنا}، ففيه تنشيط لذهن السامع و تقريب للخبر إلى الصدق فإنه بمنزلة أن يقول القائل: إن فلانا بذي فحاش سيئ المحاضرة و قد ابتليت به فيجب الاجتناب عن معاشرته، فجملة: و قد ابتليت به، 

تفسير الميزان ج۳

92
  • تصحيح للخبر و إثبات لصدقه بإرجاعه إلى الدراية و نحو من الشهادة. 

  • فالمعنى - و الله أعلم - أن آل فرعون كانوا دائبين على دأب هؤلاء الذين كفروا في الكفر و تكذيب الآيات، و لا ريب في هذا الخبر فإنا كنا حاضرين شاهدين و قد كذبوا بآياتنا نحن فأخذناهم. 

  • و أما قوله: {فأخذهُمُ اللّهُ}، فهو رجوع بعد استيفاء المقصود إلى الأصل في الكلام و هو أسلوب الغيبة، و فيه مع ذلك إرجاع الحكم إلى مقام الألوهية القائمة بجميع شئون العالم و المهيمنة على كل ما دق و جل، و لذلك كرر لفظ الجلالة ثانيا في قوله {و اللّهُ شدِيدُ الْعِقابِ}، و لم يقل و هو شديد العقاب للدلالة على أن كفرهم و تكذيبهم هذا منازعة و محاربة مع من له جلال الألوهية و يهون عليه أخذ المذنب بذنبه، و هو شديد العقاب لأنه الله جل اسمه. 

  • قوله تعالى: {قُلْ لِلّذِين كفرُوا ستُغْلبُون و تُحْشرُون} إلى آخر الآية، الحشر هو إخراج الجماعة عن مقرهم بالإزعاج، و لا يستعمل في الواحد، قال تعالى: {و حشرْناهُمْ فلمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أحداً} الكهف - ٤٧، و المهاد هو الفراش، و ظاهر السياق أن المراد بالذين كفروا هم المشركون كما أنه ظاهر الآية السابقة: {إِنّ الّذِين كفرُوا لنْ تُغْنِي عنْهُمْ} إلخ دون اليهود، و هذا هو الأنسب لاتصال الآيتين حيث تذكر هذه الآية الغلبة عليهم و حشرهم إلى جهنم و قد أشارت الآية السابقة إلى تقويهم و تعززهم بالأموال و الأولاد. 

  • قوله تعالى: {قدْ كان لكُمْ آيةٌ فِي فِئتيْنِ اِلْتقتا}، ظاهر السياق أن يكون الخطاب للذين كفروا، و الكلام من تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) :{ستُغْلبُون و تُحْشرُون} إلخ و من الممكن أن يكون خطابا للمؤمنين بدعوتهم إلى الاعتبار و التفكر بما من الله عليهم يوم بدر حيث أيدهم بنصره تأييدا عجيبا بالتصرف في أبصار العيون، و على هذا يكون الكلام مشتملا على نوع من الالتفات بتوسعة خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: {قُلْ لِلّذِين} بتوجيهه إليه و إلى من معه من المؤمنين، لكن السياق، كما عرفت، للأول أنسب. 

  • و (الآية) بما تشتمل عليه من قصة التقاء الفئتين و نصرة تعالى للفئة المقاتلة في سبيل الله - و إن لم تتعرض بتشخيص القصة و تسمية الوقعة غير أنها قابلة الانطباق على وقعة بدر، و السورة نازلة بعدها بل و بعد أحد. 

تفسير الميزان ج۳

93
  • على أن الآية ظاهرة في أن هذه القصة كانت معهودة عند المخاطبين بهذه الخصوصية و هم على ذكر منها حيث يقول: {قدْ كان لكُمْ آيةٌ}إلخ و لم يقص تعالى قصة يذكر فيها التصرف في أبصار المقاتلين غير قصة بدر، و الذي ذكره في قصة بدر في سورة الأنفال من قوله تعالى: {و إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتقيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قلِيلاً و يُقلِّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ لِيقْضِي اللّهُ أمْراً كان مفْعُولاً و إِلى اللّهِ تُرْجعُ الْأُمُورُ} الأنفال - ٤٤، و إن كان هو التقليل دون التكثير لكن لا يبعد أن يكون قد قلل فيها المؤمنين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم و لا يتولوا عن المقارعة ثم كثرهم في أعينهم بعد التلاقي و الاختلاط لينهزموا بذلك. 

  • و كيف كان فالمعتمد ما كان في ذكرهم من التكثير في العيون فعلى تقدير أن يكون الخطاب في الآية متوجها إلى المشركين لا تنطبق الآية على غير وقعة بدر، على أن قراءة ترونهم بالتاء أيضا تؤيد ما ذكرناه. 

  • فمحصل معنى الآية: أنكم أيها المشركون لو كنتم من أولي الأبصار و البصائر لكفاكم في الاعتبار و الدلالة على أن الغلبة للحق و أن الله يؤيد بنصره من يشاء و لا يغلب بمال و لا ولد ما رأيتموه يوم بدر فقد كان المؤمنون مقاتلين في سبيل الله سبحانه، و قد كانوا فئة قليلة مستذلين لا يبلغون ثلث الفئة الكافرة، و لا يقاسون بهم قوة، كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا ليس لهم إلا ستة أدرع و ثمانية سيوف و فرسان، و كان جيش المشركين قريبا من ألف مقاتل لهم من العدة و القوة و الخيل و الجمال و الهيئة ما لا يقدر بقدر، فنصر الله المؤمنين على قلتهم و ذلتهم على أعدائه و كثرهم في أعينهم فكانوا يرونهم مثليهم رأي العين، و أيدهم الملائكة فلم ينفع المشركين ما كانوا يتعززون به من أموال و أولاد و لم يغنهم جمعهم و لا كثرتهم و قوتهم من الله شيئا. 

  • و قد ذكر الله سبحانه دأب آل فرعون و الذين من قبلهم في تكذيب آيات الله و أخذهم بذنوبهم في سورة الأنفال عند ذكر القصة مرتين ما ذكره هاهنا بعينه. 

  • و في موعظتهم بتذكير وقعة بدر إيماء إلى أن المراد بالغلبة في الآيات السابقة الغلبة بالقتل و الإبادة ففي آياته تهديد بالقتال. 

  • قوله تعالى: {فِئةٌ تُقاتِلُ فِي سبِيلِ اللّهِ و أُخْرى‌ كافِرةٌ}، لم يقل و أخرى في سبيل 

تفسير الميزان ج۳

94
  • الشيطان أو في سبيل الطاغوت و نحو ذلك لأن الكلام غير مسوق للمقايسة بين السبيلين بل لبيان أن لا غنى من الله تعالى و أن الغلبة له فالمقابلة بالحقيقة بين الإيمان بالله و الجهاد في سبيله و بين الكفر به تعالى. 

  • و الظاهر من السياق أن الضميرين في قوله: {يروْنهُمْ مِثْليْهِمْ} راجعان إلى قوله: {فِئةٌ تُقاتِلُ}، أي الفئة الكافرة يرون المؤمنين مثلي المؤمنين فهم يرونهم ستمائة و ستة و عشرين و لقد كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، و أما احتمال اختلاف الضميرين مرجعا بأن يكون المعنى: يرون المؤمنين مثلي عدد الكافرين فبعيد عن اللفظ، و هو ظاهر. 

  • و ربما احتمل أن يكون الضميران راجعين إلى الفئة الكافرة، و يكون المعنى: يرى الكافرون أنفسهم مضاعفة مثلي عددهم (يرون الألف ألفين) و لازمه تقليلهم المؤمنين في النسبة فكانوا يرونهم سدس أنفسهم عددا مع كونهم ثلثا لهم في النسبة و ذلك ليطابق ما ذكره في هذه الآية قوله تعالى في قصة بدر: {و إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتقيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قلِيلاً و يُقلِّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ} الأنفال - ٤٤، فإن الآية تنافي الآية. 

  • و أجيب بأن ذلك يؤدي إلى اللبس غير اللائق بأبلغ الكلام بل كان من اللازم على هذا أن يقال: يرون أنفسهم مثليهم أو ما يؤدي ذلك. و أما التنافي بين الآيتين فإنما يتحقق مع اتحاد الموقف و المقام، و لا دليل على ذلك لإمكان أن يقلل الله سبحانه كلا من الطائفتين في عين صاحبتها في بدء التلاقي لتشد بذلك قلوبهم و تزيد جرأتهم حتى إذا نشبت المقارعة و حمي الوطيس رأى الكافرون المؤمنين مثلي عددهم فانهزموا بذلك و ولوا الأدبار، و هذا نظير قوله تعالى في وصف يوم القيامة: {لا يُسْئلُ عنْ ذنْبِهِ إِنْسٌ و لا جانٌّ} الرحمن - ٣٩، مع قوله: {و قِفُوهُمْ إِنّهُمْ مسْؤُلُون} الصافات - ٢٤، و ليس إلا أن الموقف غير الموقف. 

  • و في شأن الضميرين أعني في قوله: {يروْنهُمْ مِثْليْهِمْ}، احتمالات أخر ذكروها غير أن الجميع تشترك في كونها خلاف ظاهر اللفظ، و لذلك تركنا ذكرها، و الله العالم. 

  • قوله تعالى: {و اللّهُ يُؤيِّدُ بِنصْرِهِ منْ يشاءُ إِنّ فِي ذلِك لعِبْرةً لِأُولِي الْأبْصارِ}، التأييد من الأيد و هو القوة، و المراد بالأبصار قيل: هو العيون الظاهرية لكون الآية مشتملة على التصرف في رؤية العيون، و قيل: هو البصائر لأن العبرة إنما تكون 

تفسير الميزان ج۳

95
  • بالبصيرة القلبية دون البصر الظاهري، و الأمر هين، فإن الله سبحانه في كلامه يعد من لا يعتبر بالعبر و المثلات أعمى، و يذكر أن العين يجب أن تبصر و تميز الحق من الباطل و في ذلك دعوى أن الحق الذي يدعو إليه ظاهر متجسد محسوس يجب أن يبصره البصر الظاهر، و أن البصيرة و البصر في مورد المعارف الإلهية واحد (بنوع من الاستعارة) لنهاية ظهورها و وضوحها، و الآيات في ذلك كثيرة جدا، و من أحسنها دلالة على ما ذكرنا قوله تعالى: {فإِنّها لا تعْمى الْأبْصارُ و لكِنْ تعْمى الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصُّدُورِ} الحج - ٤٦، أي إن الأبصار إنما هي في القلوب دون الرءوس، و قوله تعالى: {و لهُمْ أعْيُنٌ لا يُبْصِرُون بِها} الأعراف - ١٧٩، و الآية في مقام التعجيب، و قوله تعالى: {و جعل على‌ بصرِهِ غِشاوةً} الجاثية - ٢٣، إلى غير ذلك من الآيات، فالمراد بالأبصار فيما نحن فيه هو العيون الظاهرية بدعوى أنها هي التي تعتبر و تفهم فهو من الاستعارة بالكناية، و النكتة فيه‌ ظهور المعنى كأنه بالغ حد الحس، و يزيد في لطفه أن المورد يتضمن التصرف في رؤية العين الظاهرة. 

  • و ظاهر قوله: {إِنّ فِي ذلِك} إلخ أنه تتمة لكلامه تعالى الذي يخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)و ليس تتمة لقول النبي المدلول عليه بقوله: {قُلْ لِلّذِين كفرُوا} إلخ، و الدليل عليه الكاف في قوله: {ذلِك}، فإنه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و في هذا العدول إلى الخطاب الخاص بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)إيماء إلى قلة فهمهم و عمى قلوبهم أن يعتبروا بأمثال هذه العبر. 

  • قوله تعالى: {زُيِّن لِلنّاسِ حُبُّ الشّهواتِ مِن النِّساءِ} إلخ، الآية و ما يتلوها بمنزلة البيان و شرح حقيقة الحال لما تقدم من قوله تعالى آنفا: {إِنّ الّذِين كفرُوا لنْ تُغْنِي عنْهُمْ أمْوالُهُمْ و لا أوْلادُهُمْ مِن اللّهِ شيْئاً} إلخ إذ يظهر منه أنهم يعتقدون الاستغناء بالأموال و الأولاد من الله سبحانه فالآية تبين أن سبب ذلك أنهم انكبوا على حب هذه المشتهيات و انقطعوا إليها عن ما يهمهم من أمر الآخرة، و قد اشتبه عليهم الأمر فإن ذلك متاع الحيوة الدنيا، ليس لها إلا أنها مقدمة لنيل ما عند الله من حسن المآب مع أنهم غير مبدعين في هذا الحب و الاشتهاء و لا مبتكرون بل مسخرون بالتسخير الإلهي بتغريز أصل هذا الحب فيهم ليتم لهم الحيوة الأرضية فلو لا ذلك لم يستقم أمر النوع الإنساني في حيوته و بقائه بحسب ما قدره الله سبحانه من أمرهم حيث قال: {و لكُمْ فِي الْأرْضِ مُسْتقرٌّ و متاعٌ إِلى‌ حِينٍ} البقرة - ٣٦. 

تفسير الميزان ج۳

96
  • و إنما قدر لهم ذلك ليتخذوها وسيلة إلى الدار الآخرة و يأخذوا من متاع هذه ما يتمتعون به في تلك لا لينظروا إلى ما في الدنيا من زخرفها و زينتها بعين الاستقلال و ينسوا بها ما وراءها، و يأخذوا الطريق مكان المقصد في عين أنهم سائرون إلى ربهم، قال تعالى: {إِنّا جعلْنا ما على الْأرْضِ زِينةً لها لِنبْلُوهُمْ أيُّهُمْ أحْسنُ عملاً و إِنّا لجاعِلُون ما عليْها صعِيداً جُرُزاً} الكهف - ٨. 

  • إلا أن هؤلاء المغفلين أخذوا هذه الوسائل الظاهرة الإلهية التي هي مقدمات و ذرائع إلى رضوان الله سبحانه أمورا مستقلة في نفسها محبوبة لذاتها و زعموا أنها تغني عنهم من الله شيئا فصارت نقمة عليهم بعد ما كانت نعمة و وبالا بعد ما كانت مثوبة مقربة. قال تعالى: {إِنّما مثلُ الْحياةِ الدُّنْيا كماءٍ أنْزلْناهُ مِن السّماءِ فاخْتلط بِهِ نباتُ الْأرْضِ مِمّا يأْكُلُ النّاسُ و الْأنْعامُ حتّى إِذا أخذتِ الْأرْضُ زُخْرُفها و اِزّيّنتْ و ظنّ أهْلُها أنّهُمْ قادِرُون عليْها أتاها أمْرُنا ليْلاً أوْ نهاراً فجعلْناها حصِيداً كأنْ لمْ تغْن بِالْأمْسِ} إلى أن قال: {و يوْم نحْشُرُهُمْ جمِيعاً ثُمّ نقُولُ لِلّذِين أشْركُوا مكانكُمْ أنْتُمْ و شُركاؤُكُمْ فزيّلْنا بيْنهُمْ} إلى أن قال: {و رُدُّوا إِلى اللّهِ موْلاهُمُ الْحقِّ و ضلّ عنْهُمْ ما كانُوا يفْترُون} يونس - ٣٠تشير الآيات إلى أمر الحيوة و زينتها بيده تعالى لا ولي لها دونه، لكن الإنسان باغتراره بظاهرها يظن أن أمرها إليه، و أنه قادر على تدبيرها و تنظيمها فيتخذ لنفسه فيها شركاء كالأصنام و ما بمعناها من المال و الولد و غيرهما، إن الله سيوقفه على زلته فيذهب هذه الزينة، و يزيل الروابط التي بينه و بين شركائه، و عند ذلك يضل عن الإنسان ما افتراه على الله من شريك في التأثير و يظهر له معنى ما علمه في الدنيا و حقيقته، و رد إلى الله مولاه الحق. 

  • و هذا التزين أعني: ظهور الدنيا للإنسان بزينة الاستقلال و جمال الغاية و المقصد لا يستند إلى الله سبحانه فإن الرب العليم الحكيم أمنع ساحة من أن يدبر خلقه بتدبير لا يبلغ به غايته الصالحة، و قد قال تعالى: {إِنّ اللّه بالِغُ أمْرِهِ} الطلاق - ٣، و قال تعالى: {و اللّهُ غالِبٌ على‌ أمْرِهِ} يوسف - ٢١، بل إن استند فإنما يستند إلى الشيطان قال تعالى: {و زيّن لهُمُ الشّيْطانُ ما كانُوا يعْملُون} الأنعام - ٤٣، و قال تعالى: {و إِذْ زيّن لهُمُ الشّيْطانُ أعْمالهُمْ} الأنفال - ٤٨. 

  • نعم لله سبحانه الإذن في ذلك ليتم أمر الفتنة، و تستقيم التربية كما قال تعالى: 

تفسير الميزان ج۳

97
  • {أ حسِب النّاسُ أنْ يُتْركُوا أنْ‌يقُولُوا آمنّا و هُمْ لا يُفْتنُون و لقدْ فتنّا الّذِين مِنْ قبْلِهِمْ فليعْلمنّ اللّهُ الّذِين صدقُوا و ليعْلمنّ الْكاذِبِين أمْ حسِب الّذِين يعْملُون السّيِّئاتِ أنْ يسْبِقُونا ساء ما يحْكُمُون} العنكبوت - ٤، و على هذا الإذن يمكن أن يحمل قوله تعالى: {كذلِك زيّنّا لِكُلِّ أُمّةٍ عملهُمْ} الأنعام - ١٠٨، و إن أمكن أيضا أن يحمل على ما مر من معنى التزيين المنسوب إليه تعالى في قوله تعالى: {إِنّا جعلْنا ما على الْأرْضِ زِينةً لها لِنبْلُوهُمْ أيُّهُمْ أحْسنُ عملاً} الكهف - ٧. 

  • و بالجملة التزيين تزيينان: تزيين للتوسل بالدنيا إلى الآخرة و ابتغاء مرضاته في مواقف الحياة المتنوعة بالأعمال المختلفة المتعلقة بالمال و الجاه و الأولاد و النفوس، و هو سلوك إلهي حسن، نسبه الله تعالى إلى نفسه كما مر من قوله: {إِنّا جعلْنا ما على الْأرْضِ زِينةً لها} الآيات، و كقوله تعالى: {قُلْ منْ حرّم زِينة اللّهِ الّتِي أخْرج لِعِبادِهِ و الطّيِّباتِ مِن الرِّزْقِ} الأعراف - ٣٢. 

  • و تزيين لجلب القلوب و إيقافها على الزينة و إلهائها عن ذكر الله و هو تصرف شيطاني مذموم، نسبه الله سبحانه إلى الشيطان، و حذر عباده عنه كما مر من قوله تعالى: {و زيّن لهُمُ الشّيْطانُ ما كانُوا يعْملُون} (الآية) و قوله تعالى فيما يحكيه من قول الشيطان: {قال ربِّ بِما أغْويْتنِي لأُزيِّنن‌ لهُمْ فِي الْأرْضِ و لأُغْوِينّهُمْ أجْمعِين} الحجر - ٣٩، و قوله تعالى: {زُيِّن لهُمْ سُوءُ أعْمالِهِمْ} التوبة - ٣٧، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و هذا القسم ربما نسب إليه تعالى من حيث إن الشيطان و كل سبب من أسباب الخير أو الشر إنما يعمل ما يعمل و يتصرف في ملكه ما يتصرف بإذنه لينفذ ما أراده و شاءه، و ينتظم بذلك أمر الصنع و الإيجاد، و يفوز الفائزون بحسن إرادتهم و اختيارهم، و يمتاز المجرمون. 

  • و بما مر من البيان يظهر أن المراد من فاعل التزيين المبهم في قوله: {زُيِّن لِلنّاسِ حُبُّ الشّهواتِ} إلخ ليس هو الله سبحانه فإن التزيين المذكور و إن كان له نسبة إليه تعالى سواء كان تزيينا صالحا لأن يدعو إلى عبادته تعالى و هو المنسوب إليه بالاستقامة أو تزيينا ملهيا عن ذكره تعالى و هو المنسوب إليه بالإذن، لكن لاشتمال الآية على ما 

تفسير الميزان ج۳

98
  • لا ينسب إليه مستقيما كما يجي‌ء بيانه كان الأليق بأدب القرآن أن ينسب إلى غيره تعالى كالشيطان أو النفس. 

  • و من هنا يظهر صحة ما ذكره بعض المفسرين: أن فاعل زين هو الشيطان لأن حب الشهوات أمر مذموم، و كذا حب كثرة المال مذموم، و قد خص تعالى بنفسه ما ذكره في آخر الآية و في ما يتلوها. 

  • و يظهر به فساد ما ذكره بعضهم: أن الكلام في طبيعة البشر و الحب الناشئ فيها و مثله لا يسند إلى الشيطان بحال و إنما يسند إليه ما هو قبيل الوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحا. 

  • قال: و لذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال، قال تعالى: {و إِذْ زيّن لهُمُ الشّيْطانُ أعْمالهُمْ}، و قال: {و زيّن لهُمُ الشّيْطانُ ما كانُوا يعْملُون}، و أما الحقائق و طبائع الأشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له، قال عز و جل: {إِنّا جعلْنا ما على الْأرْضِ زِينةً لها لِنبْلُوهُمْ أيُّهُمْ أحْسنُ عملاً} و قال: {كذلِك زيّنّا لِكُلِّ أُمّةٍ عملهُمْ}، فالكلام في الأمم كلام في طبائع الاجتماع، انتهى. 

  • وجه الفساد: أنه و إن أصاب في قوله: إن الحقائق و طبائع الأشياء لا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له لكنه أخطأ في قوله: إن الكلام في طبيعة البشر و ما ينشأ منها بحسب الطبع، و ذلك أن السورة كما علمت في مقام بيان أن الله سبحانه هو القيوم على خلقه في جميع ما هم عليه من الخلق و التدبير و الإيمان و الكفر و الإطاعة و العصيان، خلق الخلق و هداهم إلى سعادتهم، و أن الذين نافقوا في دينه من المنافقين أو كفروا بآياته من الكافرين أو بغوا بالاختلاف في كتابه من أهل الكتاب، و بالجملة الذين أطاعوا الشيطان و اتبعوا الهوى ليسوا بمعجزين لله غالبين عليه مفسدين لقيمومته بل الجميع راجع إلى قدره و تدبيره أمر خلقه في تحكيم ناموس الأسباب لتقوم بذلك سنة الامتحان فهو الخالق للطبائع و قواها و ميولها و أفعالها لتسلك بها إلى جوار ربها جوار القرب و الكرامة، و هو الذي أذن لإبليس و لم يمنعه من الوسوسة و النزعة و لم يمنع الإنسان من اتباعه باتباع الهوى ليتم أمر الامتحان و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منهم شهداء، و إنما بين ذلك في هذه السورة ليتسلى بذلك نفوس المؤمنين، و يطيب بذلك قلوبهم بما هم عليه عند نزول السورة من العسرة و الشدة و الابتلاء من الداخل بنفاق المنافقين و جهالة

تفسير الميزان ج۳

99
  • الذين في قلوبهم مرض بإفساد الأمور و تقليبها عليهم، و التقصير في طاعة الله و رسوله، و من الخارج بالدعوة الشاقة الدينية، و وثوب الكفار من العرب عليهم من جانب، و أهل الكتاب و اليهود منهم خاصة من جانب آخر، و تهديد الكفار كالروم و العجم بالقوة و العدة من جانب آخر، و هؤلاء الكافرون و من يحذو حذوهم اشتبه عليهم الأمر في الركون إلى الدنيا و زخارفها حيث أخذوها غاية و هي مقدمة و الغاية أمامها. 

  • فالسورة كما ترى تبحث عن طبائع الأمم لكن بنحو وسيع يشمل جهات خلقهم و تكوينهم و جميع ما يتعقب ذلك في مسير حيوتهم من الخصائل و أعمال السعادة و الشقاوة و الطاعة و المعصية فتبين أن ذلك كله تحت قيمومته تعالى لا يقهر في قدرته، و لا يغلب في أمره لا في الدنيا و لا في الآخرة أما في الدنيا فإنما هو إذن و امتحان، و أما في الآخرة فإنما هو الجزاء إن خيرا فخير و إن شرا فشر. 

  • و كذلك الآيات أعني قوله: {إِنّ الّذِين كفرُوا لنْ تُغْنِي عنْهُمْ أمْوالُهُمْ و لا أوْلادُهُمْ} إلى تمام تسع آيات في مقام بيان أن الكفار و إن كذبوا آيات ربهم و بدلوا نعم الله التي أنعمها عليهم ليتوسلوا بها إلى رضوانه و جنته فركنوا و اعتمدوا عليها و استغنوا بها عن ربهم، و نسوا مقامه ليسوا بمعجزين و لا غالبين فسيأخذهم الله بنفس أعمالهم، و يؤيد عباده المؤمنين عليهم و سيحشرهم إلى جهنم و بئس المهاد، و هم مع ذلك غالطون في الركون إلى ما ليس إلا متاعا في الحياة الدنيا و عند الله حسن المآب، فالآيات أيضا تبحث عن طبيعة الكفار لكن بنحو وسيع يشمل الصالح و الطالح من أعمالهم. 

  • على أن الآية التي ذكرها هذا القائل مستشهدا بها على أن الحقائق لا تسند إلا إلى الله و إنما يسند إلى الشيطان الأعمال أعني قوله تعالى: {كذلِك زيّنّا لِكُلِّ أُمّةٍ عملهُمْ} يدل بما حف عليه من القرائن على خلاف ذلك و يؤيد ما ذكرناه و هو قوله تعالى: {و لا تسُبُّوا الّذِين يدْعُون مِنْ دُونِ اللّهِ فيسُبُّوا اللّه عدْواً بِغيْرِ عِلْمٍ كذلِك زيّنّا لِكُلِّ أُمّةٍ عملهُمْ ثُمّ إِلى‌ ربِّهِمْ مرْجِعُهُمْ فيُنبِّئُهُمْ بِما كانُوا يعْملُون} الأنعام - ١٠٨، و هو ظاهر. 

  • و كذا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن التزيين على قسمين محمود و مذموم و الأعمال نوعان حسنة و سيئة، و إنما يسند إلى الله سبحانه ما هو منها محمود ممدوح حسن، و الباقي للشيطان! 

تفسير الميزان ج۳

100
  • و هو و إن كان حقا من وجه و لكنه إنما يصح في النسبة المستقيمة التي يعبر عنه بالفعل و نحوه فالله سبحانه لا يفعل إلا الجميل، و لا يأمر بالسوء و الفحشاء، و أما النسبة غير المستقيمة و بالواسطة التي يعبر عنه بالإذن و نحوه فلا مانع عنها، و لو لا ذلك لم يستقم ربوبيته لكل شي‌ء، و خلقه لكل شي‌ء، و ملكه لكل شي‌ء، و انتفاء الشريك عنه على الإطلاق، و القرآن مشحون من هذه النسبة كقوله تعالى: {يُضِلُّ منْ يشاءُ} الرعد - ٢٧، و قوله: {أزاغ اللّهُ قُلُوبهُمْ} الصف - ٥، و قوله: {اللّهُ يسْتهْزِئُ بِهِمْ و يمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ} البقرة - ١٥، و قوله: {أمرْنا مُتْرفِيها ففسقُوا} الإسراء - ١٦، إلى غير ذلك من الآيات، و لم ينشأ خطؤهم هذا إلا من جهة ما قصروا في البحث عن روابط الأشياء و آثارها و أفعالها فحسبوا كل واحد من هذه الأمور الموجودة أمرا مستقل الوجود منقطع الذات عما يحتف به من مجموعة الأشياء و قبيل المصنوعات و ما يتقدم عليها و ما يتأخر عنها. 

  • و لزم ذلك أن يضعوا الحوادث التي هي نتائج تفاعل الأسباب و العلل على ما فطرها الله عليه في مسير السببية متقطعة متفرقة غير متصلة و لا مرتبطة فكانت كل حادثة حدثت عن أسبابها و كل فعل فعله فاعله منقطع الوجود عن غيره مملوكا لصاحبه ليس لغير سببه المتصل به فيه نصيب و لا في حدوثه حظ، فأجرام تدور، و بحر تسري و فلك تجري، و أرض تقل، و نبات ينبت، و حيوان يدب، و إنسان يعيش و يكدح لا التيام روحي معنوي يجمعها و لا وحدة جسمية من المادة و قوتها: توحدها. 

  • ثم تعقب ذلك أن يظنوا نظير هذا الانفصال و التلاشي بين عناوين الأعمال و صور الأفعال من خير و شر، و سعادة و شقاوة، و هدى و ضلال، و طاعة و معصية و إحسان و إساءة، و عدل و ظلم، و غير ذلك فكانت غير مرتبطة الوجود و لا متشابكة التحقق. 

  • و قد ذهلوا عن أن هذا العالم بما يشتمل عليه من أعيان الموجودات و أنواع المخلوقات مرتبط الأجزاء متلائم الأبعاض، يتبدل جزء منه إلى جزء، و يتحول بعضه إلى بعض‌، فيوما إنسان، و يوما نبات، و يوما جماد، و يوما جمع، و يوما فرق، و حيوة البعض بعينها ممات الآخر، و كون الجديد منه فساد للقديم بعينه. 

  • و كذلك الحوادث الجارية مرتبطة ارتباط حلقات السلسلة أي وضع فرض لواحدة منها مؤثر في أوضاع ما يقارنها و ما يتقدمها إلى أقدم العهود المفروضة للعالم 

تفسير الميزان ج۳

101
  • الطبيعي كالسلسلة التي تنجر بجر الحلقة منها جميع الحلقات و هو السلسلة فأدنى تغير مفروض في ذرة من ذرأت هذا العالم يوجب تغير الحال في الجميع، و إن عزب عن علمنا و إدراكنا أو خفي عن إحساسنا فعدم العلم لا يستلزم عدم الوجود، فهذا مما بينت في الأبحاث العلمية منذ القديم، و أوضحته الأبحاث الطبيعية و الرياضية اليوم أتم إيضاح، و لقد كان القرآن ينبئنا بذلك أحسن الإنباء قبل أن نأخذ في هذه الأبحاث من فلسفيها و طبيعيها و رياضيها بالنقل عن كتب الآخرين ثم بالاستقلال في البحث، و ذلك بما يذكر من اتصال التدبير في الآيات السماوية و الأرضية، و ارتباط ما بينها، و نفع بعضها في بعض، و اشتراك الجميع في إقامة غرض الخلقة، و نفوذ القدر في جميعها و السلوك إلى المعاد، و أن إلى ربك المنتهى. 

  • و كذلك أوصاف الأفعال و عناوين الأعمال مرتبطة الأطراف كارتباط الأمور المتقابلة المتعاندة فلو لا أحد المتعاندين لم يستقم أمر الآخر كما نشاهده من أمر الصنع و الإيجاد أن تكون شي‌ء ما يحتاج إلى فساد آخر، و سبق أمر يتوقف على لحوق آخر. 

  • و لو لم يتحقق أحد الطرفين من أوصاف الأعمال لم يستقم أمر الآخر في آثاره المطلوبة منه في الاجتماع الإنساني الطبيعي، و لا في الاجتماع الإلهي الذي هو الدين الحق، فإن الإطاعة مثلا حسنة لأن المعصية سيئة، و الحسنة موجبة للثواب، لأن السيئة موجبة للعقاب، و الثواب لذيذ للعامل لأن العقاب مولم له، و اللذة سعادة مرغوب فيها لأن الألم شقاوة مهروب عنها، و السعادة هي التي يتوجه وجوده بحسب الخلقة إليها و الشقاوة هي التي يتوجه عنها، و لو لا هذه الحركة الوجودية لبطل الوجود. 

  • فالإطاعة ثم الحسنة ثم الثواب ثم اللذة ثم السعادة هي بحيال المعصية فالعقاب فالألم فالشقاء و إنما يظهر كل منها بخفاء ما يقابله و يحيى بموته، و كيف يمكن أن تقع دعوة إلى شي‌ء من غير تحذير عما يخالفه؟ و كيف يمكن أن يكون خلافه ممكنا دون أن يكون واقعا بما يدعو إليه من الأغراض و الميول؟ 

  • فقد تبين من ما ذكرناه: أن الواجب في الحكمة أن يشتمل هذا العالم على الفساد كما يشتمل على الصلاح و على المعصية كما يشتمل على الطاعة على ما قدره الله في نظام صنعه و خلقه غير أن الكون و الفساد في غير الأعمال و أوصافها ينسبان إلى الله سبحانه لأن الخلق 

تفسير الميزان ج۳

102
  • و الأمر له. لا شريك له و قبيل السعادة من الأعمال تنسب إليه بالهداية نسبة مستقيمة و قبيل الشقاوة منها كوسوسة الشيطان و تسليط الهوى على الإنسان و تأمير الظالمين على الناس و نحو ذلك ينسب إليه تعالى بالإضلال و الإخزاء و الخذلان‌ و نحوها نسبة غير مستقيمة، و هي التي يعبر عنها بالإذن فيقال: إنه تعالى أذن للشيطان أن ينزع بالوسوسة و التسويل، و لم يمنع الإنسان أن يتبع الهوى، و لم يضرب بين الظالم و ما يريده من الظلم بحجاب لأن السعادة و الشقاوة مبنيتان على الاختيار، فمن سعد فباختياره، و من شقي فباختياره، و لو لا ذلك لم تتم الحجة، و لم تجر سنة الاختيار و الامتحان. 

  • و لم يمنع هؤلاء الباحثين عن الاسترسال في هذه المباحث إلا استيحاشهم من وخيم نتائجها بزعمهم، فأما المجبرة منهم فزعموا أن لو قالوا بارتباط الأشياء و ضرورة تأثير الأسباب و اعترفوا بذلك لزمهم الإيجاب في جانب الصانع تعالى و سلب قدرته المطلقة على التصرف في مصنوعاته. 

  • و أما غيرهم فزعموا أن لو أذعنوا بذلك في مرحلة الأعمال و أسندوها إلى إرادته و قدره تعالى لزمهم القول بالإيجاب و الإجبار في جانب المصنوع و هو الإنسان، و ببطلان الاختيار يبطل الثواب و العقاب، و التكليف و التشريع. 

  • مع أنهم كان يسعهم أن يستأنسوا من غير استيحاش بكلامه تعالى حيث يقول: {و اللّهُ غالِبٌ على‌ أمْرِهِ} يوسف - ٢١ و يقول: {ألا لهُ الْخلْقُ و الْأمْرُ} الأعراف - ٥٤ و يقول: {لِلّهِ ما فِي السّماواتِ و الْأرْضِ} يونس - ٥٥، على أنها و ما يماثلها آيات تعطي البرهان في ذلك، و قد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على قوله تعالى {إِنّ اللّه لا يسْتحْيِي أنْ يضْرِب مثلاً} البقرة - ٢٦. 

  • و لنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى: {زُيِّن لِلنّاسِ حُبُّ الشّهواتِ} فنقول: الظاهر أن فاعل زين غيره تعالى و هو الشيطان أو النفس. أما أولا: فلأن المقام مقام ذم الكفار بركونهم إلى هذه المشتهيات من المال و الأولاد و استغنائهم بتزينها لهم عن الله سبحانه، و الأليق بمثل هذه الزينة الصارفة عن الله الشاغلة عن ذكره أن لا ينسب إليه تعالى. 

  • و أما ثانيا: فلأنه لو كان هذا هو التزيين المنسوب إليه تعالى لكان المراد به الميل 

تفسير الميزان ج۳

103
  • الغريزي الذي للإنسان إلى هذه الأمور فكان الأنسب في التعبير أن يقال: زين للإنسان أو لبني آدم و نحوها كقوله تعالى: {لقدْ خلقْنا الْإِنْسان فِي أحْسنِ تقْوِيمٍ ثُمّ رددْناهُ أسْفل سافِلِين} التين - ٥، و قوله تعالى: {و لقدْ كرّمْنا بنِي آدم و حملْناهُمْ فِي الْبرِّ و الْبحْرِ} (الآية) الأسرى - ٧٠، و أما لفظ الناس فالأعرف منه أن يستعمل في الموارد التي فيها شي‌ء من إلغاء الميز أو حقارة الشخص و دناءة الفكر نحو قوله: {فأبى‌ أكْثرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً} الأسرى - ٨٩، و قوله: {يا أيُّها النّاسُ إِنّا خلقْناكُمْ مِنْ ذكرٍ و أُنْثى‌} الحجرات - ١٣ و غير ذلك. 

  • و أما ثالثا: فلأن الأمور التي عدها تعالى بيانا لهذه الشهوات لا تناسب التزيين الفطري إذ كان الأنسب عليه أن يبدل لفظ النساء بما يؤدي معنى مطلق الزوجية، و لفظ البنين بالأولاد، و لفظ القناطير المقنطرة، بالأموال فإن الحب الطبيعي موجود في النساء بالنسبة إلى الرجال كما هو موجود في الرجال بالنسبة إلى النساء، و كذا هو مغروز في الإنسان بالنسبة إلى مطلق الأولاد و مطلق الأموال دون خصوص البنين و خصوص القناطير المقنطرة، و لذلك اضطر القائل بكون فاعل زين هو الله سبحانه أن يقول: إن المراد حب مطلق الزوجية و مطلق الأولاد و مطلق الأموال و إنما ذكرت النساء و البنين و القناطير لكونها أقوى الأفراد و أعرفها ثم تكلف في بيان ذلك بما لا موجب له. 

  • و أما رابعا: فلأن كون التزيين هو المنسوب إلى الله سبحانه لا يلائم قوله تعالى في آخر الآية: {ذلِك متاعُ الْحياةِ الدُّنْيا و اللّهُ عِنْدهُ حُسْنُ الْمآبِ قُلْ أ أُنبِّئُكُمْ بِخيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ}، فإن ظاهره أنه كلام موضوع لصرفهم عن هذه الشهوات الدنيوية و توجيه نفوسهم إلى ما عند الله من الجنان و الأزواج و الرضوان، و لا معنى للصرف عن المقدمة إلى ذي المقدمة فإن في ذلك مناقضة ظاهرة و إبطالا للأمرين معا كالذي يريد الشبع و يمتنع عن الأكل. 

  • فإن قلت: الآية أعني قوله: {زُيِّن لِلنّاسِ حُبُّ الشّهواتِ} إلخ بحسب الملخص من معناها مساوقة لقوله تعالى: {قُلْ منْ حرّم زِينة اللّهِ الّتِي أخْرج لِعِبادِهِ و الطّيِّباتِ مِن الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلّذِين آمنُوا فِي الْحياةِ الدُّنْيا خالِصةً يوْم الْقِيامةِ} الأعراف - ٣٢، و لازم انطباق المعنى أن يكون فاعل التزيين في هذه الآية أيضا هو الله سبحانه. 

تفسير الميزان ج۳

104
  • قلت: بين الآيتين فرق من حيث المقام: فإن المقام فيما نحن فيه: مقام ذم هذه الشهوات المحبوبة للناس لصرفها و إلهائها الناس عما لهم عند الله، و حثهم على الإعراض عنها و التوجه إلى ما عند الله سبحانه بخلاف تلك الآية فإنها مسوقة لبيان أن هذه النعم زينت للإنسان و أنها للمؤمنين في هذه الدنيا بالاشتراك في الدنيا و بالاختصاص في الآخرة، و لذلك بدل لفظ الناس هناك بلفظ العباد. و عدت هذه الزينة رزقا طيبا. 

  • و إن قلت: إن التزيين علق في الآية على حب الشهوات دون نفس الشهوات، و من المعلوم أن تزيين الحب للإنسان و جذبه لنفسه و جلبه لقلبه أمر طبيعي و خاصة ذاتية له فيئول معنى تزيين الحب للناس إلى جعل الحب مؤثرا في قلوبهم أي خلق الحب في قلوبهم، و لا ينسب الخلق إلا إلى الله سبحانه فهو الفاعل في قوله: زين. 

  • قلت: لازم ما ذكرناه من القرائن أن يكون المراد بتزيين الحب جعل الحب بحيث يجذب الناس إلى نفسه و يصدهم عن غيره فإن الزينة هي الأمر المطلوب الجالب الذي ينضم إلى غيره ليجلب الإنسان إلى ذلك الغير بتبع جلبه إلى نفسه كما أن المرأة تتزين بضم أمور تستصحب الحسن و الجمال إلى نفسها ليقصدها الرجل بها فالمقصود هو بالحقيقة تلك الأمور و المنتفع من هذا القصد هي المرأة، و بالجملة فيئول معنى تزيين الحب للناس إلى جعله في أعينهم بحيث يؤدي إلى التوله فيه و الولوع في الاشتغال به لا أصل تأثير الحب كما هو الظاهر من معنى قوله تعالى: {فخلف مِنْ بعْدِهِمْ خلْفٌ أضاعُوا الصّلاة و اِتّبعُوا الشّهواتِ فسوْف يلْقوْن غيًّا} مريم - ٥٩، و يؤيد هذا المعنى ما سيأتي من الكلام في العد الواقع في قوله: {مِن النِّساءِ و الْبنِين و الْقناطِيرِ}، على أن‌ لفظ الشهوات ربما لم يخل عن الدلالة بالشغف و الولوع و إن كان بمعنى المشتهيات. 

  • قوله تعالى: {مِن النِّساءِ و الْبنِين و الْقناطِيرِ الْمُقنْطرةِ مِن الذّهبِ و الْفِضّةِ} إلخ، النساء جمع لا واحد له من لفظه، و البنين‌ جمع ابن و هو ذكور الأولاد بواسطة أو بلا واسطة، و القناطير جمع قنطار و هو مل‌ء مسك ذهبا أو هو المسك المملوء، و المقنطرة اسم مفعول مشتق من القنطار و هو جامد، و هذا من دأبهم يعتبرون في الجوامد شيئا من النسب يكسب بها معنى مصدريا ثم يشتقون منه المشتقات كالباقل و التامر و العطار لبائع البقل و التمر و العطر، و فائدة توصيف الشي‌ء بالوصف المأخوذ من لفظه تثبيت معناه له، و التلميح إلى أنه واجد لمعنى لفظه غير فاقدة كما يقال: دنانير مدنرة و دواوين 

تفسير الميزان ج۳

105
  • مدونة، و يقال: حجاب محجوب و ستر مستور، و الخيل‌: هو الأفراس، و المسومة مأخوذة من سامت الإبل سوما بمعنى ذهبت لترعى فهي سائمة، أو من سمت الإبل في المرعى و أسمتها و سومتها بمعنى أعلمتها. فالخيل المسومة إما المرسلة للرعي أو المعلمة، و الأنعام‌ جمع نعم بفتحتين و هو الإبل و البقر و الغنم، و البهائم أعم منه و يطلق على غير الوحش و الطير و الحشرات، و الحرث‌ هو الزرع و فيه معنى الكسب و هو تربية النبات أو النبات المربي للانتفاع به في المعاش. 

  • و بناء التعداد في الآية ليس على تكثر حب الشهوات بحسب تكثر المشتهيات أعني متعلقات الشهوة بمعنى أن الإنسان بحسب طبعه يميل إلى الأزواج و الأولاد و المال حتى يتكلف في توجيه التعبيرات الواقعة في الآية كالتعبير عن الإنسان بالناس و التعبير عن الأولاد بخصوص البنين، و التعبير عن المال بالقناطير المقنطرة إلخ بما تكلف به جمع من المفسرين. 

  • بل على كون الناس أصنافا في الشغف و الولوع بمشتهيات الدنيا فمن شهواني لا هم له إلا التعشق بالنساء و غرامهن و التقرب إليهن و الأنس بصحبتهن، و يستصحب ذلك أذنابا من وجوه الفساد و معاصي الله سبحانه كاتخاذ المعازف و الأغاني و شرب المسكرات و أمور أخر غيرهما، و هذا مما يختص بالرجال عادة، و لا يوجد في النساء إلا في غاية الشذوذ، و من محب للبنين و التكاثر و التقوي بهم كما يوجد غالبا في أهل البدو، و يختص أيضا بالبنين دون البنات، و من مغرم بالمال أكبر همه أن يقنطر القناطير، و يملأ المخازن من وجوه النقد، و ظهور هذا الجنون أيضا في جمع المال إنما هو في وجوه النقد من الذهب و الفضة أو ما يتقوم بهما دون أمثال الأثاث إلا أن يراد لأجلهما بوجه، و يوجد غالبا في الحاضر دون البادي، أو أن المختار عنده اتخاذ الخيل المسومة كالمغرمين بالفروسة و أمثالهم أو اتخاذ الماشية من الأنعام، أو يستحب الحرث، و ربما يجتمع البعض من هذه الثلاثة الأخيرة مع البعض و ربما تفترق. 

  • و هذه أقسام الشهوات التي ينسل الناس إليها صنفا صنفا بالتعلق بواحد منها و جعله أصلا في اقتناء مزايا الحيوة، و جعل غيره فرعا مقصودا بالقصد الثاني، و قلما يوجد (أو لا يوجد أصلا) في الناس من ساوى بين جميعها، و قصد الجميع قصدا أولا معتدلا. 

  • و أما مثل الجاه و المقام و الصدارة و نحوها فهي جميعا أمور وهمية بالحقيقة إنما 

تفسير الميزان ج۳

106
  • تتعلق الرغبة إليها بالقصد الثاني لا يعد الالتذاذ بها التذاذا شهويا، على أن الآية ليست في مقام حصر الشهوات. 

  • و من هنا يتأيد ما تقدمت الإشارة إليه من أن المراد بحب الشهوات التوغل و الانغمار في حبها (و هو المنسوب إلى الشيطان) دون أصل الحب المودع في الفطرة (و هو المنسوب إلى الله سبحانه). 

  • قوله تعالى: {ذلِك متاعُ الْحياةِ الدُّنْيا}، أي هذه الشهوات أمور يتمتع بها لإقامة هذه الحيوة التي هي أقرب الحياتين منكم (و هما الحيوة الدنيا و الحيوة الأخرى)، و الحيوة الدنيا و كذا المتاع الذي يتمتع به لها أمر فان داثر ليس لها عاقبة باقية صالحة، و صلاح العقبى و حسن المآب إنما هو عند الله سبحانه و هو قوله تعالى: {و اللّهُ عِنْدهُ حُسْنُ الْمآبِ}

  • قوله تعالى: {قُلْ أ أُنبِّئُكُمْ بِخيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلّذِين اِتّقوْا عِنْد ربِّهِمْ جنّاتٌ} إلى آخر الآية، الآية مسوقة لبيان قوله: {و اللّهُ عِنْدهُ حُسْنُ الْمآبِ} و قد وضع فيها محل هذه الشهوات الفانية الباطلة أمور هي خير للإنسان لكونها باقية و حسنة حقيقة من غير بطلان، و هي أمور مجانسة لهذه الشهوات في ما يريده الإنسان من خواصها و آثارها غير أنها خالية عن القبح و الفساد غير صارفة للإنسان عن ما هو خير منها، و هي الجنة و مطهرات الأزواج و رضوان الله تعالى. 

  • و قد اختصت الأزواج بالذكر مع كون ذكر الجنة كالمشتمل عليها لكون الوقاع أعظم اللذائذ الجسمية عند الإنسان، و لذلك أيضا قدم ذكر النساء في قوله: {مِن النِّساءِ و الْبنِين‌ و الْقناطِيرِ الْمُقنْطرةِ} إلخ. 

  • و أما الرضوان‌ بكسر الراء و ضمها فهو الرضا و هو أن يلائم الأمر الواقع نفس صاحبه من غير أن يمتنع منه و يدافعه، و يقابله السخط. 

  • و قد تكرر في القرآن ذكر رضى الله سبحانه، و هو منه تعالى كما يتصور بالنسبة إلى فعل عباده في باب الطاعة كذلك يتصور بالنسبة إلى غير باب الطاعة كالأوصاف و الأحوال و غير ذلك إلا أن جل الموارد التي ذكر فيها أو كلها من قبيل الرضا بالطاعة، و لذلك ربما قوبل بينه و بين رضا العبد فرضاه عن عبده لطاعته، و رضى العبد عنه 

تفسير الميزان ج۳

107
  • لجزائه الحسن أو لحكمة كقوله تعالى: {رضِي اللّهُ عنْهُمْ و رضُوا عنْهُ} البينة - ٨، و قوله تعالى: {يا أيّتُها النّفْسُ الْمُطْمئِنّةُ اِرْجِعِي إِلى‌ ربِّكِ راضِيةً مرْضِيّةً} الفجر - ٢٨، و قوله تعالى: {و السّابِقُون الْأوّلُون مِن الْمُهاجِرِين و الْأنْصارِ و الّذِين اِتّبعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رضِي اللّهُ عنْهُمْ و رضُوا عنْهُ و أعدّ لهُمْ جنّاتٍ} (الآية) البراءة - ١٠٠. 

  • و ذكر الرضوان هاهنا أعني في عداد ما هو خير للناس من مشتهيات الحيوة الدنيا يدل على أنه نفسه من مشتهيات الإنسان أو يستلزم أمرا هو كذلك عنى بذكره في مقابل الجنات و الأزواج في هذه الآية، و كذا في مقابل الفضل و الرحمة في قوله: {فضْلاً مِنْ ربِّهِمْ و رِضْواناً} المائدة - ٢، و قوله: {و مغْفِرةٌ مِن اللّهِ و رِضْوانٌ} الحديد - ٢٩، و قوله: {بِرحْمةٍ مِنْهُ و رِضْوانٍ} البراءة - ٢١. 

  • و لعل الذي يكشف عن هذا الذي أبهمته هذه الآية هو التدبر في المعنى الذي ذكرناه و في قوله تعالى: {رضِي اللّهُ عنْهُمْ} الآية و قوله: {راضِيةً مرْضِيّةً} الآية حيث علق رضاه بأنفسهم، و الرضا عن أنفسهم غير الرضا عن أفعالهم فيعود المعنى إلى أنه لا يمنعهم عن نفسه فيما يسألونه فيئول إلى معنى قوله: {لهُمْ ما يشاؤُن فِيها} ق - ٣٥، ففي رضوان الله عن الإنسان المشية المطلقة للإنسان. 

  • و من هنا يظهر: أن الرضوان في هذه الآية قوبل به من الشهوات المذكورة في الآية السابقة أن الإنسان يحسب أنه لو اقتناها و خاصة القناطير المقنطرة من بينها أفادته إطلاق المشية و أعطته سعة القدرة فله ما يشاء، و عنده ما يريد. و قد اشتبه عليه الأمر فإنما يتم ذلك برضا الله الذي إليه أمر كل شي‌ء. 

  • قوله تعالى: {و اللّهُ بصِيرٌ بِالْعِبادِ}. لما تحصل من هذه الآية و التي قبلها: أن الله أعد للإنسان في كلتا الدارين (الدنيا و الآخرة) نعما يتنعم بها و مآرب أخرى مما تلتذ به نفسه كالأزواج، و ما يؤكل و يشرب، و الملك و نحوها، و هي متشابهة في الدارين غير أن ما في الدنيا مشترك بين الكافر و المؤمن مبذول لهما معا و ما في الآخرة مختص بالمؤمن لا يشاركه فيها الكفار كان المقام مظنة سؤال الفرق في ذلك، و بلفظ آخر سؤال وجه المصلحة في اختصاص المؤمن بنعم الآخرة أجاب عنه بقوله: {و اللّهُ بصِيرٌ بِالْعِبادِ}، و معناه: أن هذا الفرق الذي فرق الله به بين المؤمن و الكافر ليس مبنيا على العبث و الجزاف 

تفسير الميزان ج۳

108
  • تعالى عن ذلك بل إن في الفريقين أمرا هو المستدعي لهذا الفرق و الله بصير بهم يرى ما فيهم من الفرق و هو التقوى في المؤمن دون الكافر، و قد وصف هذا التقوى و عرفه بما يلحق بهذه الآية من قوله: {الّذِين يقُولُون ربّنا} إلى آخر الآيتين و ملخصه: أنهم يظهرون فاقتهم إلى ربهم و عدم استغنائهم عنه، و يصدقون ذلك بالعمل الصالح و لكن الكافر يستغني عن ربه بشهوات الدنيا و ينسى آخرته و عاقبة أمره. 

  • و من ألطف ما يستفاد من الآيتين أعني قوله تعالى: {ذلِك متاعُ الْحياةِ الدُّنْيا و اللّهُ عِنْدهُ حُسْنُ الْمآبِ قُلْ أ أُنبِّئُكُمْ بِخيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ} إلى آخر الآية و ما في معناهما من الآيات كقوله تعالى: {قُلْ منْ حرّم زِينة اللّهِ الّتِي أخْرج لِعِبادِهِ و الطّيِّباتِ مِن الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلّذِين آمنُوا فِي الْحياةِ الدُّنْيا خالِصةً يوْم الْقِيامةِ كذلِك نُفصِّلُ الْآياتِ لِقوْمٍ يعْلمُون} الأعراف - ٣٢، الجواب عن إشكال استوجهه كثير من الباحثين على ظواهر الآيات الواصفة لنعم الجنة. 

  • أما الإشكال فهو أن المتأمل في أطوار وجود هذه الموجودات المشهودة في هذا العالم لا يشك في أن الأفعال الصادرة منها و أعمالها التي يعملها إنما هي متفرعة على القوى و الأدوات التي جهز بها كل واحد منها ليدفع بها عن وجوده و يحفظ بها بقاءه كما يحققه البحث عن الغايات الوجودية و أن‌ الوجود لا يستند إلى اتفاق أو جزاف أو عبث. 

  • فهو ذا الإنسان مجهز في جميع بدنه بجهاز دقيق في غاية الدقة يتمشى به أمر تغذيه، و إنما يتغذى لتهيئة بدل ما يتحلل من أجزائه و إنما يفعل ذلك ليمد وجوده للبقاء، و أيضا هو مجهز بجهاز التناسل على ما فيه من الأدوات و القوى الفعالة و المترتبة ليحفظ بقاء نوعه و الأمر في وجود النبات و الحيوان نظير الأمر في تجهيز الإنسان. 

  • ثم إن الخلقة احتالت في تسخيرها و خاصة في تسخير ذوات الشعور منها و هي الحيوان و الإنسان بإبداع لذائذ في أفعالها و إيداعها في القوى لتتسابق إلى الأفعال لأجل هذه اللذائذ و هي لا تشعر أن الخلقة تريد منها غايتها و هي بقاء الوجود و تغرها بتطميعها باللذة التي تزينها لها فيحصل بذلك ما يريده الخلقة، و يلتذ الفاعل بهذه الزينة التي تغرها و يلعب بها، فلو لا ما في الغذاء و النكاح مثلا من اللذة لما قصدهما الإنسان مثلا لمجرد كونهما مقدمة للبقاء، و بطل بذلك غرض الخلقة لكن الله سبحانه أودع 

تفسير الميزان ج۳

109
  • فيه لذة الغذاء و لذة النكاح لا يستريح الإنسان في طريق النيل إليهما دون أن يتحمل كل تعب و عناء و يقاسي كل مصيبة و بلاء، و هو في اقتناء هذه الشهوات مختال فخور بما ليس فيه إلا الغرور، و أما الصنع و الخلقة فينال بغيته و يبلغ أمنيته فإنه ما كان يريد بهذا التدبير إلا بقاء وجود الفرد و قد حصل بالتغذي، و إلا بقاء وجود النوع و قد حصل بالنكاح و السفاد و لم يبق للإنسان مثلا فيما كان يريده إلا الخيال. 

  • و إذا كان هذه اللذائذ الدنيوية مقصودة في الخلقة لأجل‌ غرض محدود معجل فلا معنى لتحققها في ما لا تحقق هناك لذلك الغرض، فلذة الأكل و الشرب و جميع اللذائذ الراجعة إلى التغذي مقصودة في الطبيعة لأجل حفظ البدن عن آفة التحلل و فساد التركيب و هو الموت، و لذة النكاح و جميع اللذائذ المرتبطة به و هي أمور جمة إنما تقصدها الخلقة لأجل حفظ النوع من الفناء و الاضمحلال، فلو فرض للإنسان وجود لا يلحقه موت و لا فناء و حيوة مأمونة من كل شر و مكروه فأي فائدة تترتب على وجود القوى البدنية التي تعمل لأجل تحصيل بقاء الشخص أو النوع؟ و أي ثمرة يثمرها تجهيزات البدن و أعضاؤه كالكلي و المثانة و الطحال و الكبد و غيرها و جميعها إنما أوجدت لأعمال تنفع في البقاء المعجل المحدود دون البقاء المخلد المؤبد؟ 

  • و أما الجواب فهو أن الله سبحانه إنما خلق ما خلق من لذائذ الدنيا و النعم التي تتعلق بها هذه اللذائذ زينة في الأرض ليقصدها الإنسان فينجذب إلى الحيوة و يتعلق بها كما قال: {إِنّا جعلْنا ما على الْأرْضِ زِينةً لها} الكهف - ٧، و قال: {الْمالُ و الْبنُون زِينةُ الْحياةِ الدُّنْيا} الكهف - ٤٦، و قال: {تبْتغُون عرض الْحياةِ الدُّنْيا} النساء - ٩٤، و قال - و هو أجمع للغرض -: {و لا تمُدّنّ عيْنيْك إِلى‌ ما متّعْنا بِهِ أزْواجاً مِنْهُمْ زهْرة الْحياةِ الدُّنْيا لِنفْتِنهُمْ فِيهِ و رِزْقُ ربِّك خيْرٌ و أبْقى‌} طه - ١٣١، و قال أيضا: {و ما أُوتِيتُمْ مِنْ شيْ‌ءٍ فمتاعُ الْحياةِ الدُّنْيا و زِينتُها و ما عِنْد اللّهِ خيْرٌ و أبْقى‌ أ فلا تعْقِلُون} القصص - ٦٠، إلى غير ذلك من الآيات، و جميعها تبين‌ أن هذه النعم الموجودة في الدنيا، و اللذائذ المتعلقة بها أمور مقصودة لأجل الحيوة و أمتعة يتمتع بها لأجل الحيوة هذه الحيوة المحدودة التي لا تتعدى أياما قلائل، فلو لا الحيوة لما كانت هي مقصودة و لا مخلوقة، و هذا هو حق الأمر! 

  • لكن يجب أن يعلم أن وجود الإنسان الباقي ليس إلا هذا الوجود الذي يمكث 

تفسير الميزان ج۳

110
  • هاهنا برهة من الزمان بتحوله من طور إلى طور، و ليس ذلك إلا روحا كائنا من بدن و على بدن هو مجموع هذه الأجزاء المأخوذة من هذه العناصر و القوى الفعالة فيها، و لو فرض ارتفاع هذه الأمور التي نعدها مقدمات مقصودة للبقاء لم يبق وجود و لا بقاء أعني أن فرض عدمها هو فرض عدم الإنسان رأسا لا فرض عدم استمرار وجود الإنسان فافهم ذلك. 

  • فالإنسان في الحقيقة هو الذي ينشعب أفرادا و يأكل و يشرب و ينكح و يتصرف في كل شي‌ء بالأخذ و الإعطاء و يحس و يتخيل و يعقل و يسر و يفرح و يبتهج و هكذا، كل ذلك ملائم لذاته الذي هو كالمجموع منها و بعضها مقدمة لبعضها، و هو السائر الدائر في مثل مسافة دورية. 

  • فإذا نقله الله من دار الفناء إلى دار البقاء و كتب عليه الخلود و الدوام إما بثواب دائم أو بعقاب دائم لم يكن ذلك بإبطال وجوده و إيجاد وجود باق بل بإثبات وجوده بعد ما كان متغيرا في معرض الزوال فهو لا محالة إما متنعم بنعم من سنخ نعم الدنيا لكنها باقية أو نقم و مصائب من سنخ نقم الدنيا و مصائبها. و كل ذلك منكوح أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو مسكون أو قرين أو سرور أو نحو ذلك. 

  • فالإنسان هو الإنسان و ما يحتاج إليه و يستكمل به هو الذي كان يحتاج إليه و يستكمل به من مطالبه‌ و مقاصده و إنما الفرق هو اختلاف الدارين بالبقاء و ما يلحق به. 

  • هذا هو الذي يظهر من كلامه سبحانه حيث يبين حقيقة البنية الإنسانية فيقول: {و لقدْ خلقْنا الْإِنْسان مِنْ سُلالةٍ مِنْ طِينٍ ثُمّ جعلْناهُ نُطْفةً فِي قرارٍ مكِينٍ ثُمّ خلقْنا النُّطْفة علقةً فخلقْنا الْعلقة مُضْغةً فخلقْنا الْمُضْغة عِظاماً فكسوْنا الْعِظام لحْماً ثُمّ أنْشأْناهُ خلْقاً آخر فتبارك اللّهُ أحْسنُ الْخالِقِين ثُمّ إِنّكُمْ بعْد ذلِك لميِّتُون ثُمّ إِنّكُمْ يوْم الْقِيامةِ تُبْعثُون} المؤمنون - ١٦، انظر إلى موضع قوله: {و لقدْ خلقْنا}، و الخلق‌ هو الجمع و التركيب، و إلى موضع قوله: {ثُمّ أنْشأْناهُ}، الدال على تبديل نحو الخلق و الإيجاد، و إلى موضع قوله: {ثُمّ إِنّكُمْ يوْم الْقِيامةِ}، و المخاطب به هو الذي أنشئ خلقا آخر. 

  • و يقول أيضا: {قال فِيها تحْيوْن و فِيها تمُوتُون و مِنْها تُخْرجُون} الأعراف - ٢٥ فيفيد أن حيوة الإنسان حيوة أرضية مؤلفة من نعمها و من نقمها. و تقدم بعض الكلام 

تفسير الميزان ج۳

111
  • في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {كان النّاسُ أُمّةً واحِدةً} (الآية) البقرة - ٢١٣. 

  • و قد قال تعالى في هذه النعم الأرضية: {ذلِك متاعُ الْحياةِ الدُّنْيا}، ثم قال: {و ما الْحياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرةِ إِلاّ متاعٌ} الرعد - ٢٦، فجعل نفس الحيوة الدنيا متاعا في الآخرة يتمتع به، و هذا من أبدع البيان، و باب ينفتح به للمتدبر ألف باب، و فيه تصديق‌ قول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون. و بالجملة الحيوة الدنيا هي الوجود الدنيوي بما كسب من حسنة أو سيئة و هو الذي يتمتع به في الآخرة من حيث سعادته و شقائه أي ما يراه فوزا و فلاحا لنفسه و ما يراه خيبة و خسرانا فيعطى سعادته بإعطاء لذائذه أو يحرم من نيلها و هما نعيم الجنة و عذاب النار. 

  • و بعبارة أخرى واضحة، للإنسان مثلا سعادة بحسب الطبيعة و شقاء بحسبها في بقائه شخصا و نوعا و هما منوطتان بفعله الطبيعي من الأكل و الشرب و النكاح و قد زينت له بلذائذ مقدمية و هذا بحسب الطبيعة ثم إذا أخذ الإنسان في الاستكمال و أخذ في الفعالية بالشعور و الإرادة صار نوعا كماله هو الذي يختاره شعوره و إرادته فما لا يشعر به و لا يشاؤه ليس كمالا لهذا الموجود الشاعر المريد و إن كان كمالا طبيعيا و كذا العكس كما نرى أنا لا نلتذ بما لا نشعر به و إن كان من سعادة الطبيعة كصحة البدن و المال و الولد، و نلتذ بما نشعر به من اللذائذ و إن لم يطابق الخارج كالمريض المعتقد للصحة و نظائر ذلك فهذه اللذائذ المقدمية تصير كمالا حقيقيا لهذا الإنسان و إن كانت كمالات مقدمية للطبيعة فإذا أبقى الله سبحانه هذا الإنسان بقاء مخلدا كانت سعادته هي التي يشاؤها من اللذائذ، و شقاؤه هو الذي لا يشاؤه سواء كانت بحسب الطبيعة مقدمة أو لم يكن، إذ من البديهي‌ أن خير الشخص أو القوة الشاعرة المريدة هو فيما يعلم به و يشاؤه، و شره فيما يعلم به و لا يريده. 

  • فقد تحصل أن سعادة الإنسان أن ينال في الآخرة ما كان يريده من لذائذ الحيوة في الدنيا من الأكل و الشرب و النكاح و ما فوق ذلك و هو الجنة، و شقاؤه أن لا ينال ذلك و هو النار. قال تعالى: {لهُمْ فِيها ما يشاؤُن} النحل - ٣١. 

  • قوله تعالى: {الّذِين يقُولُون ربّنا إِنّنا آمنّا فاغْفِرْ لنا ذُنُوبنا و قِنا عذاب النّارِ}، وصف 

تفسير الميزان ج۳

112
  • للمتقين المدلول عليهم بقوله في الآية السابقة: {لِلّذِين اِتّقوْا}، فوصفهم أنهم يقولون ربنا و فيه إظهار للعبودية بذكره تعالى بالربوبية و استرحام منه تعالى فيما يسألونه بقولهم: {إِنّنا آمنّا}، و الجملة ليست في مقام الامتنان عليه تعالى فإن المن منه تعالى بالإيمان كما قال تعالى: {بلِ اللّهُ يمُنُّ عليْكُمْ أنْ هداكُمْ لِلْإِيمانِ} الحجرات - ١٧ بل استنجاز لما وعد الله تعالى عباده أنه يغفر لمن آمن منهم، قال تعالى: {و آمِنُوا بِهِ يغْفِرْ لكُمْ} الأحقاف - ٣١، و لذلك فرعوا عليه قولهم: {فاغْفِرْ لنا ذُنُوبنا}، بفاء التفريع. و في تأكيد قولهم بأن دلالة على صدقهم و ثباتهم في إيمانهم. 

  • و المغفرة للذنوب لا يستلزم التخلص من العذاب بمعنى أن الوقاية من عذاب النار فضل من الله سبحانه بالنسبة إلى من آمن به و عبده من غير استحقاق من العبد يثبت له حقا على الله سبحانه أن يجيره من عذاب النار، أو ينعمه بالجنة فإن الإيمان و الإطاعة أيضا من نعمه و لا يملك غيره تعالى منه شيئا إلا ما جعله على نفسه من حق، و من الحق الذي جعل على نفسه لعباده أن يغفر لهم و يقيهم عذاب النار إن آمنوا به، قال تعالى: {و آمِنُوا بِهِ يغْفِرْ لكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ و يُجِرْكُمْ مِنْ عذابٍ ألِيمٍ} الأحقاف - ٣١. 

  • و ربما استفيد من بعض الآيات أن الوقاية من عذاب النار هو المغفرة و الجنة كقوله تعالى: {هلْ أدُلُّكُمْ على‌ تِجارةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عذابٍ ألِيمٍ تُؤْمِنُون بِاللّهِ و رسُولِهِ و تُجاهِدُون فِي سبِيلِ اللّهِ بِأمْوالِكُمْ و أنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خيْرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تعْلمُون يغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبكُمْ و يُدْخِلْكُمْ جنّاتٍ تجْرِي مِنْ تحْتِها الْأنْهارُ و مساكِن طيِّبةً فِي جنّاتِ عدْنٍ} الصف - ١٢، فإن في الآيتين الأخيرتين تفصيل لما أجمل في الآية الأولى من قوله: {هلْ أدُلُّكُمْ على‌ تِجارةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عذابٍ ألِيمٍ}، و هذا معنى دقيق سنشرحه في مورد يناسبه إن وفقنا له. 

  • قوله تعالى: {الصّابِرِين و الصّادِقِين} إلى آخر الآية، وصفهم بخمس خصال لا يشذ منها تقوى من متق، فالصبر لسبقه على بقية الخصال و إطلاقه يشمل أقسام الصبر، و هي ثلاث: صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية، و صبر عند المصيبة. 

  • و الصدق و إن كان بحسب تحليل حقيقته هو مطابقة ظاهر الإنسان من قول و فعل لباطنه لكنه بهذا المعنى يشتمل جميع الفضائل الباقية كالصبر و القنوت و غيرهما و ليس بمراد فالمراد به (و الله أعلم) الصدق في القول فحسب. 

  • و القنوت‌ هو الخضوع لله سبحانه و يشمل العبادات و أقسام النسك و الإنفاق‌ هو 

تفسير الميزان ج۳

113
  • بذل المال لمن يستحق البذل و الاستغفار بالأسحار يستلزم قيام آخر الليل و الاستغفار فيه، و السنة تفسره بصلوة الليل و الاستغفار في قنوت الوتر، و قد ذكر الله أنه سبيل الإنسان إلى ربه كما في سورتي المزمل و الدهر من قوله تعالى بعد ذكر قيام الليل و التهجد به: {إِنّ هذِهِ تذْكِرةٌ فمنْ شاء اِتّخذ إِلى‌ ربِّهِ سبِيلاً} المزمل - ١٩ الدهر - ٢٩. 

  • قوله تعالى: {شهِد اللّهُ أنّهُ لا إِله إِلاّ هُو و الْملائِكةُ و أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ}، أصل الشهادة هو المعاينة أعني تحمل العلم عن حضور و حس ثم استعمل في أدائها و إظهار الشاهد ما تحمله من العلم ثم صار كالمشترك بين التحمل و التأدية بعناية وحدة الغرض فإن التحمل يكون غالبا لحفظ الحق و الواقع من أن يبطل بنزاع أو تغلب أو نسيان أو خفاء فكانت الشهادة تحفظا على الحق و الواقع‌، فبهذه العناية كان التحمل و التأدية كلاهما شهادة أي حفظا و إقامة للحق و القسط هو العدل. 

  • و لما كانت الآيات السابقة أعني قوله: {إِنّ الّذِين كفرُوا لنْ تُغْنِي عنْهُمْ أمْوالُهُمْ و لا أوْلادُهُمْ مِن اللّهِ شيْئاً}، إلى قوله: {و الْمُسْتغْفِرِين بِالْأسْحارِ}، تبين: أن الله سبحانه لا إله غيره و لا يغني عنه شي‌ء، و أن ما يحسبه الإنسان مغنيا عنه و يركن إليه في حيوته ليس إلا زينة و إلا متاعا خلقه الله ليتمتع به في سبيل ما هو خير منه و لا ينال إلا بتقوى الله تعالى، و بعبارة أخرى: هذه النعم التي يحن إليها الإنسان مشتركة في الدنيا بين الكافر و المؤمن مختصة في الآخرة بالمؤمن أقام الشهادة في هذه الآية على أن هذا الذي بينته الآيات حق لا ينبغي أن يرتاب فيه. 

  • فشهد (و هو الله عز اسمه) على أنه لا إله إلا هو و إذ ليس هناك إله غيره فليس هناك أحد يغني منه شيئا من مال أو ولد أو غير ذلك من زينة الحيوة أو أي سبب من الأسباب إذ لو أغنى شي‌ء من هذه منه شيئا لكان إلها دونه أو معتمدا إلى إله دونه منتهيا إليه و لا إله غيره. 

  • شهد بهذه الشهادة و هو قائم بالقسط في فعله، حاكم بالعدل في خلقه إذ دبر أمر العالم بخلق الأسباب و المسببات و إلقاء الروابط بينها، و جعل الكل راجعا إليه بالسير و الكدح و التكامل و ركوب طبق، عن طبق و وضع في مسير هذا المقصد نعما لينتفع 

تفسير الميزان ج۳

114
  • منها الإنسان في عاجله لأجله و في طريقه لمقصده لا ليركن إليه و يستقر عنده فالله يشهد بذلك و هو شاهد عدل. 

  • و من لطيف الأمر أن عدله يشهد على نفسه و على وحدته في ألوهيته أي إن عدله ثابت بنفسه و مثبت لوحدانيته‌، بيان ذلك: أنا إنما نعتبر في الشاهد العدالة ليكون جاريا على مستوى طريق الحيوة ملازما لصراط الفطرة من غير أن يميل إلى إفراط أو تفريط فيضع الفعل في غير موضعه فتكون شهادته مأمونة عن الكذب و الزور فملازمة الصدق و المجاراة مع صراط التكوين يوجب عدالة الإنسان فنفس النظام الحاكم في العالم و الجاري بين أجزائه الذي هو فعله سبحانه هو العدل محضا. 

  • و نحن في جميع الوقائع التي لا ترضى بها نفوسنا من الحوادث الكونية أو نجدها على خلاف ما نميل إليه و نطمع فيه ثم نعترض عليها و نناقش فيها إنما نذكر في الاعتراض عليه ما يظهر لنا من حكم عقولنا أو تميل إليه غرائزنا، و جميع ذلك مأخوذة من نظام الكون ثم نبحث عنها فيظهر سبب الحادثة فتسقط الشبهة أو نعجز عن الحصول على السبب فلا يقع في أيدينا إلا الجهل بالسبب أي عدم العلم دون العلم بالعدم، فنظام الكون (و هو فعل الله سبحانه) هو العدل فافهم ذلك. 

  • و لو كان هناك إله يغني منه في شي‌ء من الأمور لم يكن نظام التكوين عدلا مطلقا بل كان فعل كل إله عدلا بالنسبة إليه و في دائرة قضائه و عمله. 

  • و بالجملة فالله سبحانه يشهد، و هو شاهد عدل، على أنه لا إله إلا هو يشهد لذلك بكلامه و هو قوله: {شهِد اللّهُ أنّهُ لا إِله إِلاّ هُو}، على ما هو ظاهر الآية الشريفة، فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة قوله تعالى: {لكِنِ اللّهُ يشْهدُ بِما أنْزل إِليْك أنْزلهُ بِعِلْمِهِ و الْملائِكةُ يشْهدُون و كفى‌ بِاللّهِ شهِيداً} النساء - ١٦٦. 

  • و الملائكة يشهدون بأنه لا إله إلا هو، فإن الله يخبر في آيات مكية نازلة قبل هذه الآيات بأنهم عباد مكرمون لا يعصون ربهم و يعملون بأمره و يسبحونه و في تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره، قال تعالى: {بلْ عِبادٌ مُكْرمُون لا يسْبِقُونهُ بِالْقوْلِ و هُمْ بِأمْرِهِ يعْملُون} الأنبياء - ٢٧، و قال تعالى: {و الْملائِكةُ يُسبِّحُون بِحمْدِ ربِّهِمْ} الشورى - ٥.

تفسير الميزان ج۳

115
  • و أولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو يشاهدون من آياته الآفاقية و الأنفسية و قد ملأت مشاعرهم و رسخت في عقولهم. 

  • و قد ظهر مما تقدم أولا: أن المراد بالشهادة شهادة القول على ما هو ظاهر الآية الشريفة دون شهادة الفعل و إن كانت صحيحة حقة في نفسها فإن عالم الوجود يشهد على وحدانيته في الألوهية بالنظام الواحد المتصل الجاري فيه، و بكل جزء من أجزائه التي هي أعيان الموجودات. 

  • و ثانيا: أن قوله تعالى: {قائِماً بِالْقِسْطِ} حال من فاعل قوله: {شهِد اللّهُ}، و العامل فيه شهد، و بعبارة أخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى و لا للملائكة و أولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائما بالقسط يشهد أن لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم يشهدون بالوحدانية كما هو ظاهر الآية حيث فرقت بين قوله: {لا إِله إِلاّ هُو}، و قوله: {قائِماً بِالْقِسْطِ} بتوسيط قوله: {و الْملائِكةُ و أُولُوا الْعِلْمِ}، و لو كان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حق الكلام أن يقال: إنه لا إله إلا هو قائما بالقسط و الملائكة، و من ذلك يظهر ما فيما ذكره عدة من المفسرين في تفسير الآية من الجهتين جميعا كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في المقام. 

  • و من أردإ الإشكال ما ذكره بعضهم: أن حمل الشهادة على الشهادة الكلامية كما مر يوجب الاستناد في أمر التوحيد إلى النقل دون العقل مع كونه حينئذ متوقفا على صحة الوحي فإن صدق هذه الشهادة يتوقف على كون القرآن وحيا حقا و هو متوقف عليه فيكون بيانا دوريا، و من هنا ذكر بعضهم أن المراد بالشهادة هنا معنى استعاري بدعوى أن دلالة جميع ما خلقه الله من خلق على ما فيها من وحدة الحاجة و اتصال النظام على وحدة صانعها بمنزلة نطقه و إخباره تعالى بأنه واحد لا إله غيره و كذا عبادة ملائكته له و إطاعتهم لأمره، و كذا ما يشاهده أولوا العلم من أفراد الإنسان من آيات وحدانيته بمنزلة شهادتهم على وحدانيته تعالى. 

  • و الجواب: أن فيه خلطا و مغالطة فإن النقل إنما لا يعتمد عليه فيما للعقل أو الحس إليه سبيل لكونه لا يفيد العلم فيما يجب فيه تحصيل العلم، أما لو فرض إفادته من العلم ما يفيد العقل مثلا أو أقوى منه كان في الاعتبار مثل العقل أو أقوى منه كما أن المتواتر من الخبر أقوى أثرا و أجلى صدقا من القضية التي أقيم عليها برهان مؤلف من 

تفسير الميزان ج۳

116
  • مقدمات عقلية نظرية و إن كانت يقينية و أنتجت اليقين. 

  • فإذا كان الشاهد المفروض يمتنع عليه الكذب و الزور بصريح البرهان كانت شهادته تفيد ما يفيده البرهان من اليقين، و الله سبحانه (و هو الله الذي لا سبيل للنقص و الباطل إليه) لا يتصور في حقه الكذب فشهادته على وحدانية نفسه شهادة حق كما أن إخباره عن شهادة الملائكة و أولي العلم‌ يثبت شهادتهم. 

  • على أن من أثبت له شركاء كالأصنام و أربابها فإنما يثبتها بعنوان أنها شفعاء عند الله و وسائط بينه و بين خلقه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {ما نعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقرِّبُونا إِلى اللّهِ زُلْفى‌} الزمر - ٣، و كذا من اتخذ له شريكا بالشرك الخفي من هوى أو رئيس مطاع أو مال أو ولد إنما يتخذه سببا من الله غير أنه مستقل بالتأثير بعد حصوله له، و بالجملة ما اتخذ له من شريك فإنما يشاركه فيما يشاركه بتشريكه لا بنفسه، و إذا شهد الله على أنه لم يتخذ لنفسه شريكا أبطل ذلك دعوى من يدعي له شريكا، و جرى الكلام مجرى قوله: {قُلْ أ تُنبِّئُون اللّه بِما لا يعْلمُ فِي السّماواتِ و لا فِي الْأرْضِ} يونس - ١٨، فإنه إبطال لدعوى وجود الشريك بأن الله لا يعلم به في السموات و الأرض و لا يخفى عليه شي‌ء، و بالحقيقة هو خبر مثل سائر الأخبار الصادرة عن مصدر الربوبية و العظمة كقوله: {سُبْحانهُ و تعالى‌ عمّا يُشْرِكُون} يونس - ١٨، و نحو ذلك، غير أنه لوحظ فيه انطباق معنى الشهادة عليه لكونه خبرا في مورد دعوى، و المخبر به قائم بالقسط فكان شهادة فعبر بلفظ الشهادة تفننا في الكلام، فيئول المعنى إلى أنه لو كان في الوجود أرباب من دون الله مؤثرون في الخلق و التدبير شركاء أو شفعاء في ذلك لعلمه الله و شهد به لكنه يخبر أنه ليس يعلم لنفسه شريكا فلا شريك له‌، و لعلم و اعترف به الملائكة الكرام الذين هم الوسائط المجرون للأمر في الخلق و التدبير لكنهم يشهدون أن لا شريك له، و لعلم به و شهد أثره أولوا العلم لكنهم يشهدون بما شاهدوا من الآيات أن لا شريك له. 

  • فالكلام نظير قولنا: لو كان في المملكة الفلانية ملك مؤثر في شئون المملكة و إدارة أمورها غير الملك الذي نعرفه لعلم به الملك و عرفه لأنه من المحال أن لا يحس بوجوده و هو يشاركه، و لعلم به القوى المجرية و العمال المتوسطون بين العرش و الرعية و كيف يمكن أن لا يشعروا بوجوده و هم يحملون أوامره و يجرون أحكامه بين ما في 

تفسير الميزان ج۳

117
  • أيديهم من الأحكام و الأوامر و لعلم به العقلاء من عامة أهل المملكة و كيف لا و هم يطيعون أوامره و عهوده و يعيشون في ملكه لكن الملك ينكر وجوده، و عمال الدولة لا يعرفونه، و عقلاء الرعية لا يشاهدون ما يدل على وجوده؟ فليس. 

  • قوله تعالى{لا إِله إِلاّ هُو الْعزِيزُ الْحكِيمُ}، الجملة كالمعترضة الدخيلة في الكلام لاستيفاء حق معترض يفوت لو لا ذكره مع عدم كونه مقصودا في الكلام أصالة، و من أدب القرآن أن يظهر تعظيم الله جل شأنه في موارد يذكر أمره ذكرا يخطر منه بالبال ما لا يليق بساحة كبريائه كقوله تعالى: {قالُوا اِتّخذ اللّهُ ولداً سُبْحانهُ} يونس - ٦٨، فقوله: سبحانه قصد به التعظيم في مقام يحكى فيه قول لا يلائم حقه تعالى، و نظيره بوجه قوله تعالى: {و قالتِ الْيهُودُ يدُ اللّهِ مغْلُولةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ} (الآية) المائدة - ٦٤. 

  • و بالجملة لما اشتمل أول الآية على شهادة الله و الملائكة و أولي العلم بنفي الشريك كان من حق الله سبحانه على من يحكي و يخبر عن هذه الشهادة أعني المتكلم (و هو في الآية هو الله سبحانه) و على من يسمع ذلك أن يوحد الله بنفي الشريك عنه فيقول: {لا إِله إِلاّ هُو}. نظير ذلك قوله تعالى في قصة الإفك: {و لوْ لا إِذْ سمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يكُونُ لنا أنْ نتكلّم بِهذا سُبْحانك هذا بُهْتانٌ عظِيمٌ} النور - ١٦، فإن من حقه تعالى عليهم أن إذا سمعوا بهتانا و أرادوا تنزيه من بهت عليه أن ينزهوا الله قبله فإنه تعالى أحق من يجب تنزيهه. 

  • فموضع قوله: {لا إِله إِلاّ هُو الْعزِيزُ الْحكِيمُ}، موضع الثناء عليه تعالى لاستيفاء حق تعظيمه و لذا تمم بالاسمين العزيز الحكيم، و لو كان في محل النتيجة من الشهادة لكان حق الكلام أن يتمم بوصفي الوحدة و القيام بالقسط، فهو تعالى حقيق بالتوحيد إذا ذكرت الشهادة المذكورة على وحدانيته لأنه المتفرد بالعزة التي يمنع جانبه أن يستذل بوجود شريك له في مقام الألوهية، و المتوحد بالحكمة التي تمنع غيره أن ينقض أمره في خلقه أو ينفذ في خلال تدبيره و ما نظمه من أمر العالم فيفسد عليه ما أراده. 

  • و قد تبين بما مر من البيان وجه تكرار كلمة التوحيد في الآية، و كذا وجه تتميمها بالاسمين: العزيز الحكيم، و الله العالم. 

تفسير الميزان ج۳

118
  • (بحث روائي‌) 

  • في المجمع: في قوله تعالى: {قُلْ لِلّذِين كفرُوا ستُغْلبُون} (الآية) روى محمد بن‌ إسحاق عن رجاله قال: لما أصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، قريشا ببدر و قدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، و أسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم و قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا و الله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله هذه الآية.

  • أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن إسحاق و ابن جرير و البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، و روى ما يقرب منه القمي في تفسيره، و قد عرفت مما تقدم: أن سياق الآيات لا يلائم نزولها في حق اليهود كل الملاءمة، و أن الأنسب بسياقها أن تكون نازلة بعد غزوة أحد، و الله أعلم.

  • و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): ما تلذذ الناس في الدنيا و الآخرة بلذة أكبر لهم من لذة النساء، و هو قوله: {زُيِّن لِلنّاسِ حُبُّ الشّهواتِ مِن النِّساءِ و الْبنِين} (الآية) ثم قال: و إن أهل الجنة ما يتلذذون بشي‌ء من الجنة أشهى عندهم من النكاح، لا طعام و لا شراب. 

  • أقول: و قد استفيد ذلك من الترتيب المجعول في الآية للشهوات ثم تقديم النساء على باقي المشتهيات ثم جعل هذه الشهوات متاع الدنيا و شهوات الجنة خيرا منها. 

  • و مراده (عليه السلام)من الحصر في كون النكاح أكبر لذائذ الناس إنما هو الحصر الإضافي أي إن النكاح‌ أكبر لذة بالنسبة إلى هذه الشهوات المتعلقة بجسم الإنسان، و أما غيرها كالتذاذ الإنسان بوجود نفسه أو التذاذ ولي من أولياء الله تعالى بقرب ربه و مشاهدة آياته الكبرى و لطائف رضوانه و إكرامه و غيرهما فذلك خارج عن مورد كلامه (عليه السلام)، و قد قامت البراهين العلمية على أن أعظم اللذائذ التذاذ الشي‌ء بنعمة وجوده، و أخرى على أن التذاذ الأشياء بوجود ربها أعظم من التذاذها بنفسها. و هناك روايات كثيرة دالة على أن التذاذ العبد بلذة الحضور و القرب منه تعالى أكبر عنده من كل لذة، و قد 

تفسير الميزان ج۳

119
  • روي في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): كان علي بن الحسين (عليه السلام)يقول: إنه يسخى نفسي في سرعة الموت و القتل فينا قول الله تعالى: {أ و لمْ يروْا أنّا نأْتِي الْأرْض ننْقُصُها مِنْ أطْرافِها} و هو ذهاب العلماء، و سيجي‌ء عدة من هذه الروايات في المواضع المناسبة لها من هذا الكتاب.

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {الْقناطِيرِ الْمُقنْطرةِ} عن الباقر و الصادق (عليه السلام): القنطار مل‌ء مسك ثور ذهبا.

  • و في تفسير القمي، قال (عليه السلام): الخيل المسومة المرعية. و في الفقيه، و الخصال، عن الصادق (عليه السلام): من قال في وتره إذا أوتر: أستغفر الله و أتوب إليه سبعين مرة و هو قائم فواظب على ذلك حتى تمضي سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار، و وجبت له المغفرة من الله تعالى.

  • أقول: و هذا المعنى مروي في روايات أخر عن أئمة أهل البيت، و هو من سنن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • و روي ما يقرب منه في الدر المنثور، أيضا عن ابن جرير عن جعفر بن محمد قال: من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة كتب من المستغفرين. و قوله (عليه السلام): و وجبت له المغفرة من الله، مستفاد من قوله تعالى حكاية عنهم: {فاغْفِرْ لنا ذُنُوبنا}، فإن في الحكاية لدعائهم من غير رد إمضاء للاستجابة.

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٩ الی ٢٥] 

  • {إِنّ الدِّين عِنْد اللّهِ الْإِسْلامُ و ما اِخْتلف الّذِين أُوتُوا الْكِتاب إِلاّ مِنْ بعْدِ ما جاءهُمُ الْعِلْمُ بغْياً بيْنهُمْ و منْ يكْفُرْ بِآياتِ اللّهِ فإِنّ اللّه سرِيعُ الْحِسابِ ١٩ فإِنْ حاجُّوك فقُلْ أسْلمْتُ وجْهِي لِلّهِ و منِ اِتّبعنِ و قُلْ لِلّذِين أُوتُوا الْكِتاب و الْأُمِّيِّين أ أسْلمْتُمْ فإِنْ أسْلمُوا فقدِ اِهْتدوْا و إِنْ تولّوْا فإِنّما عليْك الْبلاغُ و اللّهُ بصِيرٌ بِالْعِبادِ ٢٠

تفسير الميزان ج۳

120
  • إِنّ الّذِين يكْفُرُون بِآياتِ اللّهِ و يقْتُلُون النّبِيِّين بِغيْرِ حقٍّ و يقْتُلُون الّذِين يأْمُرُون بِالْقِسْطِ مِن النّاسِ فبشِّرْهُمْ بِعذابٍ ألِيمٍ ٢١ أُولئِك الّذِين حبِطتْ أعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا و الْآخِرةِ و ما لهُمْ مِنْ ناصِرِين ٢٢ أ لمْ تر إِلى الّذِين أُوتُوا نصِيباً مِن الْكِتابِ يُدْعوْن إِلى‌ كِتابِ اللّهِ لِيحْكُم بيْنهُمْ ثُمّ يتولّى فرِيقٌ مِنْهُمْ و هُمْ مُعْرِضُون ٢٣ ذلِك بِأنّهُمْ قالُوا لنْ تمسّنا النّارُ إِلاّ أيّاماً معْدُوداتٍ و غرّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يفْترُون ٢٤ فكيْف إِذا جمعْناهُمْ لِيوْمٍ لا ريْب فِيهِ و وُفِّيتْ كُلُّ نفْسٍ ما كسبتْ و هُمْ لا يُظْلمُون ٢٥} 

  • (بيان‌) 

  • الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب و هم آخر الفرق الثلاث التي تقدم أنها عرضة للكلام في هذه السورة، و أهمهم بحسب قصد الكلام أهل الكتاب من اليهود و النصارى، ففيهم و في أمرهم نزل معظم السورة و إليهم يعود. 

  • قوله تعالى: {إِنّ الدِّين عِنْد اللّهِ الْإِسْلامُ}، قد مر معنى الإسلام بحسب اللغة و كان هذا المعنى هو المراد هاهنا بقرينة ما يذكره من اختلاف أهل الكتاب بعد العلم بغيا بينهم فيكون المعنى: أن الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر عباده إلا به، و لم يبين لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلا إياه، و لم ينصب الآيات الدالة إلا له و هو الإسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد و حق العمل، و بعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف و الأحكام، و هو و إن اختلف كما و كيفا في شرائع أنبيائه و رسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنه ليس في الحقيقة إلا أمرا واحدا و إنما اختلاف الشرائع بالكمال و النقص دون 

تفسير الميزان ج۳

121
  • التضاد و التنافي، و التفاضل بينها بالدرجات، و يجمع الجميع أنها تسليم و إطاعة لله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله. 

  • فهذا هو الدين الذي أراده الله من عباده و بينه لهم، و لازمه أن يأخذ الإنسان بما تبين له من معارفه حق التبين، و يقف عند الشبهات وقوف التسليم من غير تصرف فيها من عند نفسه و أما اختلاف أهل الكتاب من اليهود و النصارى في الدين مع نزول الكتاب الإلهي عليهم، و بيانه تعالى لما هو عنده دين و هو الإسلام له فلم يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر و كون الدين واحدا بل كانوا عالمين بذلك، و إنما حملهم على ذلك بغيهم و ظلمهم من غير عذر و ذلك كفر منهم بآيات الله المبينة لهم حق الأمر و حقيقته لا بالله فإنهم يعترفون به، و من يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب، يحاسبه سريعا في دنياه و آخرته: أما في الدنيا فبالخزي و سلب سعادة الحيوة عنه، و أما في الآخرة فبأليم عذاب النار. 

  • و الدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا و الآخرة قوله تعالى بعد آيتين: {أُولئِك الّذِين حبِطتْ أعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا و الْآخِرةِ و ما لهُمْ مِنْ ناصِرِين}

  • و مما تقدم يظهر أولا: أن المراد بكون الدين عند الله و حضوره لديه سبحانه هو الحضور التشريعي بمعنى كونه شرعا واحدا لا يختلف إلا بالدرجات و بحسب استعدادات الأمم المختلفة دون كونه واحدا بحسب التكوين بمعنى كونه واحدا مودعا في الفطرة الإنسانية على وتيرة واحدة. 

  • و ثانيا: أن المراد بالآيات هو آيات الوحي، و البيانات الإلهية التي ألقاها إلى أنبيائه دون الآيات التكوينية الدالة على الوحدانية و ما يزاملها من المعارف الإلهية. 

  • و الآية تشتمل على تهديد أهل الكتاب بما يستدل عليه بالبغي و هو الانتقام، كما يشتمل قوله تعالى في الآيات السابقة: {قُلْ لِلّذِين كفرُوا ستُغْلبُون و تُحْشرُون إِلى‌ جهنّم} (الآية) على تهديد المشركين و الكفار، و لعل هذا هو السبب في أنه جمع أهل الكتاب و المشركين معا في الآية التالية في الخطاب بقوله: {قُلْ لِلّذِين أُوتُوا الْكِتاب و الْأُمِّيِّين أ أسْلمْتُمْ}إلخ، و فيه إشعار بالتهديد أيضا. 

  • قوله تعالى: {فإِنْ حاجُّوك فقُلْ أسْلمْتُ وجْهِي لِلّهِ و منِ اِتّبعنِ}، الضمير في {حاجُّوك} 

تفسير الميزان ج۳

122
  • راجع إلى أهل الكتاب و هو ظاهر و المراد به محاجتهم في أمر الاختلاف بأن يقولوا: إن اختلافنا ليس لبغي منا بعد البيان بل إنما هو شي‌ء ساقنا إليه عقولنا و أفهامنا و اجتهادنا في تحصيل العلم بحقائق الدين من غير أن ندع التسليم لجانب الحق سبحانه و أن ما تراه و تدعو إليه يا محمد من هذا القبيل، أو يقولوا ما يشابه ذلك، و الدليل على ذلك قوله: {فقُلْ أسْلمْتُ وجْهِي لِلّهِ}، و قوله: {و قُلْ لِلّذِين أُوتُوا الْكِتاب و الْأُمِّيِّين أ أسْلمْتُمْ}، فإن الجملتين حجة سيقت لقطع خصامهم و حجاجهم لا إعراض عن المحاجة معهم. 

  • و معناها مع حفظ ارتباطها بما قبلها: {إِنّ الدِّين عِنْد اللّهِ الْإِسْلامُ}، لا يختلف فيه كتب الله و لا يرتاب فيه سليم العقل، و يتفرع عليه أن لا حجة عليك في إسلامك و أنت مسلم، فإن‌ حاجوك في أمر الدين {فقُلْ أسْلمْتُ وجْهِي لِلّهِ و منِ اِتّبعنِ}، فهذا هو الدين و لا حجة بعد الدين في أمر الدين ثم سلهم: أ أسلموا فإن أسلموا فقد اهتدوا و ليقبلوا ما أنزل الله عليك و على من قبلك و لا حجة عليهم و لا مخاصمة بعد ذلك بينكم، و إن تولوا فلا تخاصمهم و لا تحاجهم فلا ينبغي الخصام في أمر ضروري، و هو أن الدين هو التسليم لله سبحانه، و ما عليك إلا البلاغ. 

  • و قد أشرك سبحانه في الآية بين أهل الكتاب و الأميين بقوله: {و قُلْ لِلّذِين أُوتُوا الْكِتاب و الْأُمِّيِّين أ أسْلمْتُمْ}، لكون الدين مشتركا بينهم و إن اختلفوا في التوحيد و التشريك. 

  • و قد علق الإسلام على الوجه و هو ما يستقبلك من الشي‌ء أو الوجه بالمعنى الأخص لكون إسلام الوجه لاشتماله على معظم الحواس و المشاعر إسلاما لجميع البدن ليدل على معنى الإقبال و الخضوع لأمر الرب تعالى، و عطف قوله: {و منِ اِتّبعنِ} حفظا لمقام التبعية و تشريفا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • قوله تعالى: {و قُلْ لِلّذِين أُوتُوا الْكِتاب و الْأُمِّيِّين أ أسْلمْتُمْ} إلى آخر الآية، المراد بالأميين المشركين سموا بذلك لتسمية من وضع في مقابلهم بأهل الكتاب، و كذا كان أهل الكتاب يسمونهم كما حكاه تعالى من قوله: {ليْس عليْنا فِي الْأُمِّيِّين سبِيلٌ} آل عمران - ٧٥ و الأمي‌ هو الذي لا يكتب و لا يقرأ. 

  • و في قوله تعالى: {و إِنْ تولّوْا فإِنّما عليْك الْبلاغُ و اللّهُ بصِيرٌ بِالْعِبادِ}، دلالة 

  • أولا: على النهي عن المراء و الإلحاح في المحاجة فإن المحاجة مع من ينكر الضروري 

تفسير الميزان ج۳

123
  • لا تكون إلا مراء و لجاجا في البحث. 

  • و ثانيا: على أن الحكم في حق الناس و الأمر مطلقا إلى الله سبحانه، و ليس للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)إلا أنه رسول مبلغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى: {ليْس لك مِن الْأمْرِ شيْ‌ءٌ} آل عمران - ١٢٨، و قال تعالى: {لسْت عليْهِمْ بِمُصيْطِرٍ} الغاشية - ٢٣. 

  • و ثالثا: على تهديد أهل الكتاب و المشركين فإن ختم الكلام بقوله: {و اللّهُ بصِيرٌ بِالْعِبادِ}، بعد قوله: {فإِنّما عليْك الْبلاغُ} لا يخلو من ذلك و يدل على ذلك ما وقع من التهديد في نظير الآية، و هو قوله تعالى: {قُولُوا آمنّا بِاللّهِ}، إلى أن قال: {و نحْنُ لهُ مُسْلِمُون فإِنْ آمنُوا بِمِثْلِ ما آمنْتُمْ بِهِ فقدِ اِهْتدوْا و إِنْ تولّوْا فإِنّما هُمْ فِي شِقاقٍ فسيكْفِيكهُمُ اللّهُ و هُو السّمِيعُ الْعلِيمُ} البقرة - ١٣٧، تذكر الآية أن أهل الكتاب إن تولوا عن الإسلام فهم مصرون على الخلاف ثم يهددهم بما يسلي به النبي و يطيب نفسه، فالآية أعني قوله‌{ و إِنْ تولّوْا فإِنّما عليْك الْبلاغُ}، كناية عن الأمر بتخلية ما بينهم و بين ربهم، و إرجاع أمرهم إليه، و هو بصير بعباده يحكم فيهم بما تقتضيه حالهم و يسأله لسان استعدادهم. 

  • و من هنا يظهر: أن ما ذكره بعض المفسرين، أن في الآية دليلا على حرية الاعتقاد في أمر الدين و أن لا إكراه فيه ليس بوجيه فإن الآية كما عرفت مسوقة لغير ذلك. 

  • و في قوله: {بصِيرٌ بِالْعِبادِ}، حيث أخذ عنوان العبودية و لم يقل: بصير بهم أو بصير بالناس و نحو ذلك إشعار بأن حكمه نافذ فيهم ماض عليهم فإنهم عباده و مربوبون له أسلموا أو تولوا. 

  • قوله تعالى: {إِنّ الّذِين يكْفُرُون بِآياتِ اللّهِ} إلى آخر الآية، الكلام في الآية و إن كان مسوقا سوق الاستيناف لكنه مع ذلك لا يخلو عن إشعار و بيان للتهديد الذي يشعر به آخر الآية السابقة فإن مضمونها منطبق على أهل الكتاب و خاصة اليهود. 

  • و قوله: {يكْفُرُون}، و {يقْتُلُون}، في موضعين للاستمرار و يدلان على كون الكفر بآيات الله و هو الكفر بعد البيان بغيا، و قتل الأنبياء و هو قتل من غير حق، و قتل الذين يدعون إلى القسط و العدل و ينهون عن الظلم و البغي دأبا و عادة جارية فيما بينهم كما يشتمل عليه تاريخ اليهود، فقد قتلوا جمعا كثيرا و جما غفيرا من أنبيائهم و عبادهم الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر و كذا النصارى جروا مجراهم.

تفسير الميزان ج۳

124
  • و قوله: {فبشِّرْهُمْ بِعذابٍ ألِيمٍ}، تصريح بشمول الغضب و نزول السخط، و ليس هو العذاب الأخروي فحسب بدليل قوله تعالى عقيب الآية: {أُولئِك الّذِين حبِطتْ أعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا و الْآخِرةِ}إلخ، فهم مبشرون بالعذاب الدنيوي و الأخروي معا، أما الأخروي فأليم عذاب النار، و أما الدنيوي فهو ما لقوه من التقتيل و الإجلاء و ذهاب الأموال و الأنفس، و ما سخط الله عليهم بإلقاء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة على ما تصرح به آيات الكتاب العزيز. 

  • و في قوله تعالى: {أُولئِك الّذِين حبِطتْ أعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا و الْآخِرةِ و ما لهُمْ مِنْ ناصِرِين}، دلالة أولا: على حبط عمل من قتل رجلا من جهة أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر. و ثانيا على عدم شمول الشفاعة له يوم القيامة لقوله: {و ما لهُمْ مِنْ ناصِرِين}

  • قوله تعالى: {أ لمْ تر إِلى الّذِين أُوتُوا نصِيباً مِن الْكِتابِ} إلى آخر الآية يومئ إلى تسجيل البغي على أهل الكتاب حسب ما نسبه الله تعالى إليهم و أنهم يبغون باتخاذ الخلاف و إيجاد اختلاف الكلمة في الدين فإنها إذا دعوا إلى حكم الكتاب كتاب الله بينهم لم يسلموا له و تولوا و أعرضوا عنه و ليس ذلك إلا باغترارهم بقولهم {لنْ تمسّنا} إلخ و بما افتروه على الله في دينهم. 

  • و المراد بالذين أوتوا نصيبا من الكتاب أهل الكتاب و إنما لم يقل: أوتوا الكتاب، و قيل: {أُوتُوا نصِيباً مِن الْكِتابِ} ليدل على أن الذي في أيديهم من الكتاب ليس إلا نصيبا منه دون جميعه لأن تحريفهم له و تغييرهم و تصرفهم في كتاب الله أذهب كثيرا من أجزائه كما يومئ إليه قوله في آخر الآية التالية: {و غرّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يفْترُون}، و كيف كان فالمراد - و الله أعلم - أنهم يتولون عن حكم كتاب الله اعتزازا بما قالوا و اغترارا بما وضعوه من عند أنفسهم و استغناء به عن الكتاب. 

  • قوله تعالى: {ذلِك بِأنّهُمْ قالُوا لنْ تمسّنا النّارُ} إلخ معناه واضح، و اغترارهم بفريتهم التي افترتها أنفسهم مع أن الإنسان لا ينخدع عن نفسه مع العلم بأنها خدعة باطلة إنما هو لكون المغرورين غير المفترين، و على هذا فنسبة الافتراء الذي توسل إليها سابقوهم إلى هؤلاء المغرورين من اللاحقين لكونهم أمة واحدة يرضى بعضهم بفعال بعض. 

  • و إما لأن الاغترار بغرور النفس و الغرور بالفرية الباطلة مع العلم‌بكونها فرية 

تفسير الميزان ج۳

125
  • باطلة و ذكر المغرور أنه هو الذي افترى ما يغتر به من الفرية ليس من أهل الكتاب و من اليهود خاصة ببعيد و قد حكى الله عنهم مثله بل ما هو أعجب من ذلك حيث قال تعالى: {و إِذا لقُوا الّذِين آمنُوا قالُوا آمنّا و إِذا خلا بعْضُهُمْ إِلى‌ بعْضٍ قالُوا أ تُحدِّثُونهُمْ بِما فتح اللّهُ عليْكُمْ لِيُحاجُّوكُمْ بِهِ عِنْد ربِّكُمْ أ فلا تعْقِلُون أ و لا يعْلمُون أنّ اللّه يعْلمُ ما يُسِرُّون و ما يُعْلِنُون} البقرة - ٧٧. 

  • على أن الإنسان يجري في أعماله و أفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانية، و الصور التي زينتها و نمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به كما أن المعتاد باستعمال المضرات كالبنج و الدخان و أكل التراب و نحوها يستعملها و هو يعلم أنها مضرة، و أن استعمال المضر مما لا ينبغي إلا أن الهيئة الحاصلة في نفسه ملذة له جاذبة إياه إلى الاستعمال لا تدع له مجالا للتفكر و الاجتناب، و نظائر ذلك كثيرة. 

  • فهم لاستحكام الكبر و البغي و حب الشهوات في أنفسهم يجرون على طبق ما تدعوهم إليه فريتهم فكانت فريتهم هي الغارة لهم في دينهم، و هم مع ذلك كرروا ذكر ما افتروه على الله سبحانه و لم يزالوا يكررونه و يلقنونه أنفسهم حتى أذعنوا به أي اطمأنوا و ركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار و التلقين تغرهم في دينهم و تمنعهم عن التسليم لله و الخضوع للحق الذي أنزله في كتابه. 

  • قوله تعالى: {فكيْف إِذا جمعْناهُمْ لِيوْمٍ لا ريْب فِيهِ} إلى آخر الآية، مدخول كيف مقدر يدل عليه الكلام مثل يصنعون و نحوه، و في الآية إيعاد لهؤلاء الذين تولوا إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم و هم معرضون غير أنه لما أريد بيان أنهم غير معجزين لله سبحانه أخذ في الكلام من حالهم يوم القيامة و هم مستسلمون يومئذ ما يضاهي حالهم في الدنيا عند الدعوة إلى حكم كتاب الله و هم غير مسلمين له مستكبرون عنه، و لهذا أخذ بالمحاذاة بين الكلامين، و عبر عن ما يجري عليهم يوم القيامة بمثل قوله: {إِذا جمعْناهُمْ لِيوْمٍ لا ريْب فِيهِ} إلخ دون أن يقال: إذا أحييناهم أو بعثناهم أو ما يماثل ذلك. 

  • و المعنى - و الله أعلم - أنهم يتولون و يعرضون إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم اغترارا بما افتروه في دينهم و استكبارا عن الحق فكيف يصنعون إذا جمعناهم 

تفسير الميزان ج۳

126
  • ليوم لا ريب فيه و هو يوم القضاء الفصل، و الحكم الحق و وفيت كل نفس ما كسبت و الحكم حكم عدل و هم لا يظلمون، و إذا كان كذلك كان الواجب عليهم أن لا يتولوا و يعرضوا مظهرين بذلك أنهم معجزون لله غالبون على أمره فإن القدرة كله لله و ما هي إلا أيام مهلة و فتنة. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال :سألته عن قوله: {إِنّ الدِّين عِنْد اللّهِ الْإِسْلامُ} فقال: الذي فيه الإيمان.

  • و عن ابن شهرآشوب عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: {إِنّ الدِّين عِنْد اللّهِ الْإِسْلامُ} (الآية) قال: التسليم: لعلي بن أبي طالب بالولاية.

  • أقول: و هو من الجري، و لعل ذلك هو المراد أيضا من الرواية السابقة.

  • و عنه أيضا عن علي (عليه السلام)قال: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، و لا ينسبها أحد بعدي الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو التصديق، و التصديق هو الإقرار، و الإقرار هو الأداء، و الأداء هو العمل، المؤمن أخذ دينه عن ربه، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، و إن الكافر يعرف كفره بإنكاره. 

  • أيها الناس! دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر، و إن الحسنة في غيره لا تقبل.

  • أقول: قوله (عليه السلام): لأنسبن الإسلام نسبة، المراد بالنسبة التعريف كما سميت سورة التوحيد في الأخبار بنسبة الرب و الذي عرف به تعريف باللازم في غير الأول أعني قوله: الإسلام‌ هو التسليم فإنه تعريف لفظي عرف فيه اللفظ بلفظ آخر أوضح منه، و يمكن أن يراد بالإسلام المعنى الاصطلاحي له و هو هذا الدين الذي أتى به محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)إشارة إلى قوله تعالى: {إِنّ الدِّين عِنْد اللّهِ الْإِسْلامُ}، و بالتسليم الخضوع و الانقياد ذاتا و فعلا فيعود الجميع إلى التعريف باللازم. 

  • و المعنى: أن هذا الدين المسمى بالإسلام يستتبع خضوع الإنسان لله سبحانه 

تفسير الميزان ج۳

127
  • ذاتا و فعلا، و وضعه نفسه و أعماله تحت أمره و إرادته و هو التسليم و التسليم، لله يستتبع أو يلزم اليقين بالله و ارتفاع الريب فيه و اليقين يستتبع التصديق و إظهار صدق الدين، و التصديق يستتبع الإقرار و هو الإذعان بقراره و كونه ثابتا لا يتزلزل في مقره و لا يزول عن مكانه، و إقراره يستتبع أداءه و أداؤه يستتبع العمل. 

  • و قوله (ع): و إن الحسنة في غيره لا تقبل المراد بعدم القبول عدم الثواب بإزائه في الآخرة، أو عدم الأثر الجميل المحمود عند الله في الدنيا بسعادة الحيوة و في الآخرة بنعيم الجنة فلا ينافي ما ورد أن الكفار يوجرون في مقابل حسناتهم بشي‌ء من حسنات الدنيا، قال تعالى: {فمنْ يعْملْ مِثْقال ذرّةٍ خيْراً يرهُ} الزلزال - ٧.

  • و في المجمع، عن أبي عبيدة الجراح قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ثم قرأ: {الذين يقتلون النبيين بغير حق و يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس} ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة و أربعين نبيا في ساعة فقام مائة رجل و اثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، و نهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا آخر النهار من ذلك اليوم و هو الذي ذكره الله

  • أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة.

  • و في الدر المنثور: أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: دخل رسول الله(صلى الله عليه وآله و سلم)بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو و حرث بن زيد على أي دين أنت يا محمد قال: على ملة إبراهيم و دينه، قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فهلما إلى التوراة فهي بيننا و بينكم فأبيا عليه فأنزل الله: {أ لمْ تر إِلى الّذِين أُوتُوا نصِيباً مِن الْكِتابِ يُدْعوْن إِلى‌ كِتابِ اللّهِ لِيحْكُم بيْنهُمْ} إلى قوله{و غرهم في دينهم ما كانوا يفترون}.

  • أقول: و روى بعضهم: أن قوله تعالى: أ لم تر نزل في قصة الرجم و سيجي‌ء ذكرها في ذيل الكلام على قوله تعالى: {يا أهْل الْكِتابِ قدْ جاءكُمْ رسُولُنا يُبيِّنُ لكُمْ 

تفسير الميزان ج۳

128
  • كثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُون مِن الْكِتابِ} (الآية) المائدة - ١٥، و الروايتان من الآحاد و ليستا بتلك القوة. 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٢٦ الی ٢۷]

  • {قُلِ اللّهُمّ مالِك الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْك منْ تشاءُ و تنْزِعُ الْمُلْك مِمّنْ تشاءُ و تُعِزُّ منْ تشاءُ و تُذِلُّ منْ تشاءُ بِيدِك الْخيْرُ إِنّك على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ قدِيرٌ ٢٦ تُولِجُ اللّيْل فِي النّهارِ و تُولِجُ النّهار فِي اللّيْلِ و تُخْرِجُ الْحيّ مِن الْميِّتِ و تُخْرِجُ الْميِّت مِن الْحيِّ و ترْزُقُ منْ تشاءُ بِغيْرِ حِسابٍ ٢٧}

  • (بيان‌) 

  • الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما بما تقدمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب و خاصة اليهود لاشتماله على وعيدهم و تهديدهم بعذاب الدنيا و الآخرة و من العذاب‌ ما سلب الله عنهم الملك و ضرب عليهم الذل و المسكنة إلى يوم القيامة و أخذ أنفاسهم و ذهب باستقلالهم في السؤدد. 

  • على أن غرض السورة كما مر بيان أن الله سبحانه هو القائم على خلق العالم و تدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء و يعز من يشاء و بالجملة هو المعطي للخير لمن يشاء و هو الآخذ النازع للملك و العزة و لكل خير عمن يشاء فمضمون الآيتين غير خارج عن غرض السورة. 

  • قوله تعالى: {قُلِ اللّهُمّ مالِك الْمُلْكِ} أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الذي بيده الخير على الإطلاق و له القدرة المطلقة ليتخلص من هذه الدعاوي الوهمية التي نشبت في قلوب المنافقين و المتمردين من الحق من المشركين و أهل الكتاب فضلوا و هلكوا بما قدروه لأنفسهم من الملك و العزة و الغنى من الله سبحانه و يعرض الملتجئ نفسه على إفاضة مفيض الخير و الرازق لمن يشاء بغير حساب. 

  • و الملك بكسر الميم مما نعرفه فيما بيننا و نعهده من غير ارتياب في أصله فمن الملك‌ 

تفسير الميزان ج۳

129
  • بكسر الميم ما هو حقيقي و هو كون شي‌ء كالإنسان مثلا بحيث يصح له أن يتصرف في شي‌ء أي تصرف أمكن بحسب التكوين و الوجود كما يمكن للإنسان أن يتصرف في باصرته بإعمالها و إهمالها بأي نحو شاء و أراد و كذا في يده بالقبض و البسط، و الأخذ بها و الترك و نحو ذلك و لا محالة بين المالك و ملكه بهذا المعنى رابطة حقيقية غير قابلة التغير يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغني عنه و لا يفارقه إلا بالبطلان كالبصر و اليد إذا فارقا الإنسان و من هذا القبيل ملكه تعالى (بكسر الميم) للعالم و لجميع أجزائه و شئونه على الإطلاق، فله‌ أن يتصرف فيما شاء كيفما شاء. 

  • و من الملك (بكسر الميم) ما هو وضعي اعتباري و هو كون الشي‌ء كالإنسان بحيث يصح له أن يتصرف في شي‌ء كيف شاء بحسب الرابطة التي اعتبرها العقلاء من أهل الاجتماع لغرض نيل الغايات و الأغراض الاجتماعية، و إنما هو محاذاة منهم لما عرفوه في الوجود من الملك الحقيقي و آثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع و الدعوى لينالوا بذلك من هذه الأعيان و الأمتعة فوائد نظير ما يناله المالك الحقيقي من ملكه الحقيقي التكويني. 

  • و لكون الرابطة بين المالك و المملوك في هذا النوع من الملك بالوضع و الاعتبار نرى ما نرى فيه من جواز التغير و التحول فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من الملك من إنسان إلى آخر بالبيع و الهبة و سائر أسباب النقل. 

  • و أما الملك (بالضم) فهو و إن كان من سنخ الملك (بالكسر) إلا أنه ملك لما يملكه جماعة الناس فإن المليك مالك لما يملكه رعاياه، له أن يتصرف فيما يملكونه من غير أن يعارض تصرفهم تصرفه، و لا أن يزاحم مشيئتهم مشيئته فهو في الحقيقة ملك على ملك، و هو ما نصطلح عليه بالملك الطولي كملك المولى للعبد و ما في يده، و لهذا كان للملك (بالضم) من الأقسام ما ذكرناه للملك (بالكسر). 

  • و الله سبحانه مالك كل شي‌ء ملكا مطلقا أما أنه مالك لكل شي‌ء على الإطلاق فلأن له الربوبية المطلقة و القيمومة المطلقة على كل شي‌ء فإنه خالق كل شي‌ء و إله كل شي‌ء، قال تعالى: {ذلِكُمُ اللّهُ ربُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شيْ‌ءٍ لا إِله إِلاّ هُو} المؤمن - ٦٢.

تفسير الميزان ج۳

130
  • و قال تعالى: {لهُ ما فِي السّماواتِ و ما فِي الْأرْضِ} البقرة - ٢٥٥، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل ما يسمى شيئا فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا يستقل دونه فلا يمنعه فيما أراده منها و فيها شي‌ء و هذا هو الملك (بالكسر) كما مر. 

  • و أما أنه مليك على الإطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكا للموجودات فإن الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضا كالأسباب حيث تملك مسبباتها، و الأشياء تملك قواها الفعالة، و القوى الفعالة تملك أفعالها كالإنسان يملك أعضاءه و قواه الفعالة من سمع و بصر و غير ذلك، و هي تملك أفعالها، و إذ كان الله سبحانه يملك كل شي‌ء فهو يملك كل من يملك منها شيئا، و يملك ما يملكه، و هذا هو الملك (بالضم) فهو مليك على الإطلاق، قال تعالى: {لهُ الْمُلْكُ و لهُ الْحمْدُ} التغابن - ١، و قال تعالى: {عِنْد ملِيكٍ مُقْتدِرٍ} القمر - ٥٥، إلى غير ذلك من الآيات، هذا هو الحقيقي من الملك و الملك. 

  • و أما الاعتباري منها فإنه تعالى مالك لأنه هو المعطي لكل من يملك شيئا من المال، و لو لم يملك لم يصح منه ذلك و لكان معطيا لما لا يملك لمن لا يملك، قال تعالى: {و آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ} النور - ٣٣. 

  • و هو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس‌ لأنه شارع حاكم يتصرف بحكمه فيما يملكه الناس كما يتصرف الملوك فيما عند رعاياهم من المال، قال تعالى: {قُلْ أعُوذُ بِربِّ النّاسِ ملِكِ النّاسِ} الناس - ٢، و قال تعالى: {و آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سألْتُمُوهُ و إِنْ تعُدُّوا نِعْمت اللّهِ لا تُحْصُوها} إبراهيم - ٣٤، و قال تعالى: {و أنْفِقُوا مِمّا جعلكُمْ مُسْتخْلفِين فِيهِ} الحديد - ٧، و قال تعالى: {و ما لكُمْ ألاّ تُنْفِقُوا فِي سبِيلِ اللّهِ و لِلّهِ مِيراثُ السّماواتِ و الْأرْضِ} الحديد - ١٠، و قال تعالى: {لِمنِ الْمُلْكُ الْيوْم لِلّهِ الْواحِدِ الْقهّارِ} المؤمن - ١٦، فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا و يملكه معنا و سيراه بعدنا عز ملكه. 

  • و من التأمل فيما تقدم يظهر أن قوله تعالى: {اللّهُمّ مالِك الْمُلْكِ}، مسوق: 

  • أولا: لبيان ملكه تعالى (بالكسر) لكل ملك (بالضم) و مالكية الملك (بالضم) هو الملك على الملك (بالضم فيهما) فهو ملك الملوك، الذي هو المعطي لكل ملك ملكه كما قال تعالى: {أنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْك} البقرة - ٢٥٨، و قال تعالى: {و آتيْناهُمْ مُلْكاً عظِيماً} النساء - ٥٤. 

تفسير الميزان ج۳

131
  • و ثانيا: يدل بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لأنه الله جلت كبرياؤه و هو ظاهر. 

  • و ثالثا: أن المراد بالملك في الآية الشريفة و الله أعلم ما هو أعم من الحقيقي و الاعتباري فإن ما ذكر من أمره تعالى في الآية الأولى أعني قوله: {تُؤْتِي الْمُلْك منْ تشاءُ و تنْزِعُ الْمُلْك مِمّنْ تشاءُ و تُعِزُّ منْ تشاءُ و تُذِلُّ منْ تشاءُ}، على ما سنوضحه من شئون الملك الاعتباري و ما ذكره في الآية الثانية من شئون الملك الحقيقي فهو مالك الملك مطلقا. 

  • قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْك منْ تشاءُ و تنْزِعُ الْمُلْك مِمّنْ تشاءُ}، الملك بإطلاقه شامل لكل ملك حقا أو باطلا عدلا أو جورا فإن {الْمُلْكِ}(كما تقدم بيانه في قوله: {أنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْك} (الآية) البقرة - ٢٥٨) في نفسه موهبة من مواهب الله و نعمة يصلح لأن يترتب عليه آثار حسنة في المجتمع الإنساني و قد جبل الله النفوس على حبه و الرغبة فيه، و الملك الذي تقلده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنه ملك، و إنما المذموم إما تقلد من لا يليق بتقلده كمن تقلده جورا و غصبا، و إما سيرته الخبيثة مع قدرته على حسن السيرة، و يرجع هذا الثاني أيضا بوجه إلى الأول. 

  • و بوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه، و بالنسبة إلى غير أهله نقمة و هو على كل حال منسوب إلى الله سبحانه و فتنة يمتحن به عباده. 

  • و قد تقدم: أن التعليق على المشية في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه وقوع الفعل جزافا تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبرا في فعله ملزما عليه فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه و إن جرى فعله على المصلحة دائما. 

  • قوله تعالى: {و تُعِزُّ منْ تشاءُ و تُذِلُّ منْ تشاءُ}، العز كون الشي‌ء بحيث يصعب مناله، و لذا يقال للشي‌ء النادر الوجود إنه عزيز الوجود أي صعب المنال، و يقال عزيز القوم لمن يصعب قهره و الغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر و الغلبة، و صعب المنال من حيث مقامه فيهم و وجدانه كل ما لهم من غير عكس ثم استعمل في كل 

تفسير الميزان ج۳

132
  • صعوبة كما يقال: يعز علي كذا. قال تعالى: {عزِيزٌ عليْهِ ما عنِتُّمْ} التوبة - ١٢٨، أي صعب عليه. و استعمل في كل غلبة كما يقال. من عز بز أي من غلب سلب، قال تعالى: {و عزّنِي فِي الْخِطابِ} ص- ٢٣، أي غلبني و الأصل في معناه ما مر. 

  • و يقابله الذل و هو سهولة المنال بقهر محقق أو مفروض قال تعالى: {ضُرِبتْ عليْهِمُ الذِّلّةُ و الْمسْكنةُ} البقرة - ٦١، و قال تعالى: {و اِخْفِضْ لهُما جناح الذُّلِّ} الإسراء - ٢٤، و قال تعالى {أذِلّةٍ على الْمُؤْمِنِين} المائدة - ٥٤. 

  • و العزة من لوازم الملك على الإطلاق و كل من سواه إذا تملك شيئا فهو تعالى خوله ذلك و ملكه، و إن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزة له تعالى محضا و ما عند غيره منها فإنما هو بإيتائه و إفضاله. قال تعالى: {أ يبْتغُون عِنْدهُمُ الْعِزّة فإِنّ الْعِزّة لِلّهِ جمِيعاً} النساء - ١٣٩ و قال تعالى: {و لِلّهِ الْعِزّةُ و لِرسُولِهِ و لِلْمُؤْمِنِين} المنافقون - ٨ و هذه هي العزة الحقيقية و أما غيرها فإنما هي ذل في صورة عز. قال تعالى: {بلِ الّذِين كفرُوا فِي عِزّةٍ و شِقاقٍ} ص - ٢ و لذا أردفه بقوله: {كمْ أهْلكْنا مِنْ قبْلِهِمْ مِنْ قرْنٍ فنادوْا و لات حِين مناصٍ} ص - ٣. 

  • و للذل بالمقابلة ما يقابل العز من الحكم فكل شي‌ء غيره تعالى ذليل في نفسه إلا من أعزه الله تعالى: {تُعِزُّ منْ تشاءُ و تُذِلُّ منْ تشاءُ}

  • قوله تعالى: {بِيدِك الْخيْرُ إِنّك على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ قدِيرٌ}، الأصل في معنى الخير هو الانتخاب و إنما نسمي الشي‌ء خيرا لأنا نقيسه إلى شي‌ء آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه فهو خير و لا نختاره إلا لكونه متضمنا لما نريده و نقصده فما نريده هو الخير بالحقيقة، و إن كنا أردناه أيضا لشي‌ء آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة، و غيره خير من جهته، فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمى خيرا لكونه هو المطلوب إذا قيس إلى غيره، و هو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحدا منها و ترددنا في اختياره من بينها. 

  • فالشي‌ء كما عرفت إنما يسمى خيرا لكونه منتخبا إذا قيس إلى شي‌ء آخر مؤثرا بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير و لذا قيل: إنه صيغة التفضيل و أصله أخير. و ليس‌ بأفعل التفضيل، و إنما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلق 

تفسير الميزان ج۳

133
  • بغيره كما يتعلق أفعل التفضيل، يقال: زيد أفضل من عمرو، و زيد أفضلهما، و يقال: زيد خير من عمرو، و زيد خيرهما. 

  • و لو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه، و يقال أفضل و أفاضل و فضلي و فضليات، و لا يجري ذلك في خير بل يقال: خير و خيرة و أخيار و خيرات كما يقال: شيخ و شيخة و أشياخ و شيخات فهو صفة مشبهة. 

  • و مما يؤيده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى: {قُلْ ما عِنْد اللّهِ خيْرٌ مِن اللّهْوِ} الجمعة - ١١، فلا خير في اللهو حتى يستقيم معنى أفعل، و قد اعتذروا عنه و عن أمثاله بأنه منسلخ فيها عن معنى التفضيل، و هو كما ترى. فالحق أن الخير إنما يفيد معنى الانتخاب، و اشتمال ما يقابله من المقيس عليه على شي‌ء من الخير من الخصوصيات الغالبة في الموارد. 

  • و يظهر مما تقدم أن الله سبحانه هو الخير على الإطلاق لأنه الذي ينتهي إليه كل شي‌ء، و يرجع إليه كل شي‌ء، و يطلبه و يقصده كل شي‌ء لكن القرآن الكريم لا يطلق عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلت أسماؤه، و إنما يطلقه عليه إطلاق التوصيف كقوله تعالى: {و اللّهُ خيْرٌ و أبْقى‌} طه - ٧٣، و كقوله تعالى: {أ أرْبابٌ مُتفرِّقُون خيْرٌ أمِ اللّهُ الْواحِدُ الْقهّارُ} يوسف - ٣٩. 

  • نعم وقع الإطلاق على نحو التسمية بالإضافة كقوله تعالى: {و اللّهُ خيْرُ الرّازِقِين} الجمعة - ١١، و قوله: {و هُو خيْرُ الْحاكِمِين} الأعراف - ٨٧، و قوله {و هُو خيْرُ الْفاصِلِين} الأنعام - ٥٧ و قوله: {و هُو خيْرُ النّاصِرِين} آل عمران - ١٥٠، و قوله: {و اللّهُ خيْرُ الْماكِرِين} آل عمران - ٥٤، و قوله: {و أنْت خيْرُ الْفاتِحِين} الأعراف - ٨٩، و قوله: {و أنْت خيْرُ الْغافِرِين} الأعراف - ١٥٥، و قوله: {و أنْت خيْرُ الْوارِثِين} الأنبياء - ٨٩، و قوله: {و أنْت خيْرُ الْمُنْزِلِين} المؤمنين - ٢٩، و قوله: {و أنْت خيْرُ الرّاحِمِين} المؤمنون - ١٠٩. 

  • و لعل الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق إطلاق الاسم عليه تعالى صونا لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الإطلاق و قد عنت الوجوه لجنابة، و أما التسمية عند الإضافة و النسبة، و كذا التوصيف في الموارد 

تفسير الميزان ج۳

134
  • المقتضية لذلك فلا محذور فيه. 

  • و الجملة أعني قوله تعالى: {بِيدِك الْخيْرُ}، تدل على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام و تقديم الظرف الذي هو الخبر، و المعنى أن أمر كل خير مطلوب إليك، و أنت المعطي المفيض إياه. 

  • فالجملة في موضع التعليل لما تقدمت عليها من الجمل أعني قوله: {تُؤْتِي الْمُلْك منْ تشاءُ} إلخ، من قبيل تعليل الخاص بما يعمه و غيره أعني أن الخير الذي يؤتيه تعالى أعم من الملك و العزة، و هو ظاهر. 

  • و كما يصح تعليل إيتاء الملك و الإعزاز بالخير الذي بيده تعالى كذلك يصح تعليل نزع الملك و الإذلال فإنهما و إن‌ كانا شرين لكن ليس الشر إلا عدم الخير فنزع الملك ليس إلا عدم الإعزاز فانتهاء كل خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كل حرمان من الخير بنحو إليه تعالى نعم الذي يجب انتفاؤه عنه تعالى هو الاتصاف بما لا يليق بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد و قبائح المعاصي إلا بنحو الخذلان و عدم التوفيق كما مر البحث عن ذلك. 

  • و بالجملة هناك خير و شر تكوينيان كالملك و العزة و نزع الملك و الذلة، و الخير التكويني أمر وجودي من إيتاء الله تعالى، و الشر التكويني إنما هو عدم إيتاء الخير و لا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنه هو المالك للخير لا يملكه غيره، فإذا أعطي غيره شيئا من الخير فله الأمر و له الحمد، و إن لم يعط أو منع فلا حق لغيره عليه حتى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الإعطاء ظلما، على أن إعطاءه و منعه كليهما مقارنان للمصالح العامة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم. 

  • و هناك خير و شر تشريعيان و هما أقسام الطاعات و المعاصي، و هما الأفعال الصادرة عن الإنسان من حيث انتسابها إلى اختياره، و لا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعا، و هذه النسبة هي الملاك لحسنها و قبحها و لو لا فرض اختيار في صدورها لم تتصف بحسن و لا قبح، و هي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلا من حيث توفيقه تعالى و عدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك. 

  • فقد تبين: أن الخير كله بيد الله و بذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كل 

تفسير الميزان ج۳

135
  • وجدان و حرمان و خير و شر. 

  • و قد ذكر بعض المفسرين: أن في قوله: {بِيدِك الْخيْرُ} إيجازا بالحذف، و التقدير: بيدك الخير و الشر كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى: {و جعل لكُمْ سرابِيل تقِيكُمُ الْحرّ} النحل - ٨١، أي و البرد. 

  • و كان السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى: و هو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى، و المعتزلة و إن أخطئوا في نفي الانتساب نفيا مطلقا حتى بالواسطة لكنه لا يجوز هذا التقدير الغريب، و قد تقدم البحث عن ذلك و بيان حقيقة الأمر. 

  • قوله تعالى: {إِنّك على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ قدِيرٌ} في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإن القدرة المطلقة على كل شي‌ء توجب أن لا يقدر أحد على شي‌ء إلا بإقداره تعالى إياه على ذلك، و لو قدر أحد على شي‌ء من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان مقدوره من هذه الجهة خارجا عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديرا على كل شي‌ء، و إذا كانت لقدرته هذه السعة كان كل خير مفروض مقدورا عليه له تعالى، و كان أيضا كل خير إفاضة غيره منسوبا إليه مفاضا عن يديه فهو له أيضا فجنس الخير الذي لا يشذ منه شاذ بيده، و هذا هو الحصر الذي يدل عليه قوله تعالى: {بِيدِك الْخيْرُ}

  • قوله تعالى: {تُولِجُ اللّيْل فِي النّهارِ و تُولِجُ النّهار فِي اللّيْلِ}، الولوج‌ هو الدخول، و الظاهر كما ذكروه أن المراد من إيلاج الليل في النهار، و إيلاج النهار في الليل ما هو المشاهد من اختلاف الليل و النهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع و الأمكنة على بسيط الأرض، و اختلاف ميول الشمس فتأخذ الأيام في الطول و الليالي في القصر و هو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالي في الطول من أول الشتاء إلى أول الصيف، ثم يأخذ الليالي في الطول و الأيام في القصر و هو ولوج الليل في النهار بعد انتهاء النهار في الطول من أول الصيف إلى أول الشتاء، كل ذلك في البقاع الشمالية، و الأمر في البقاع الجنوبية على‌ عكس الشمالية منها، فالطول في جانب قصر في الجانب الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار و النهار في الليل دائما، أما الاستواء في خط الإستواء و القطبين فإنما هو بحسب الحس و أما في الحقيقة فحكم التغيير دائم و شامل. 

تفسير الميزان ج۳

136
  • قوله تعالى: {و تُخْرِجُ الْحيّ مِن الْميِّتِ و تُخْرِجُ الْميِّت مِن الْحيِّ}، و ذلك إخراج المؤمن من صلب الكافر، و إخراج الكافر من صلب المؤمن فإنه تعالى سمى الإيمان حيوة و نورا و الكفر موتا و ظلمة كما قال تعالى: {أ و منْ كان ميْتاً فأحْييْناهُ و جعلْنا لهُ نُوراً يمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كمنْ مثلُهُ فِي الظُّلُماتِ ليْس بِخارِجٍ مِنْها} الأنعام - ١٢٢، و يمكن أن يراد الأعم من ذلك و من خلق الأحياء كالنبات و الحيوان من الأرض العديمة الشعور و إعادة الأحياء إلى الأرض بإماتتها فإن كلامه تعالى كالصريح في أنه يبدل الميت إلى الحي و الحي إلى الميت، قال تعالى: {ثُمّ أنْشأْناهُ خلْقاً آخر فتبارك اللّهُ أحْسنُ الْخالِقِين ثُمّ إِنّكُمْ بعْد ذلِك لميِّتُون} المؤمنون - ١٥، إلى غيرها من الآيات. 

  • و أما ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة: أن الحيوة التي تنتهي إلى جراثيمها تسلك فيها سلوكا من جرثومة حية إلى أخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادة الفاقدة للشعور، و ذلك لإنكاره الكون الحادث، فيبطله الموت المحسوس الذي تثبته التجربة في جراثيم الحيوة فتبدل الحيوة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما، و لبقية الكلام مقام آخر. 

  • و الآية أعني قوله تعالى {تُولِجُ اللّيْل فِي النّهارِ} إلخ، تصف تصرفه تعالى في الملك الحقيقي‌ التكويني كما أن الآية السابقة أعني قوله: {تُؤْتِي الْمُلْك منْ تشاءُ}إلخ، تصف تصرفه في الملك الاعتباري الوضعي و توابعه. 

  • و قد وضع في كل من الآيتين أربعة أنحاء من التصرف بنحو التقابل فوضع في الأولى إيتاء الملك و نزعه و بحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار و عكسه، و وضع الإعزاز و الإذلال و بحذائهما إخراج الحي من الميت و عكسه، و في ذلك من عجيب اللطف و لطيف المناسبة ما لا يخفى فإن إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس على الباقين بإعفاء قدر من حريتهم و إطلاقهم الغريزي و إذهابها كتسليط الليل على النهار بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار، و نزع الملك بالعكس من ذلك، و كذا إعطاء العزة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفي الأثر لولاها، نظير إخراج الحي من الميت، و الإذلال بالعكس من ذلك، و في العزة حيوة و في الذلة ممات. 

  • و هنا وجه آخر: و هو أن الله عد النهار في كلامه آية مبصرة و الليل آية ممحوة قال تعالى: {فمحوْنا آية اللّيْلِ و جعلْنا آية النّهارِ مُبْصِرةً} الإسراء - ١٢، و مظهر 

تفسير الميزان ج۳

137
  • هذا الإثبات و الإمحاء في المجتمع الإنساني ظهور الملك و السلطنة و زواله، و عد الحيوة و الموت مصدرين للآثار من العلم و القدرة كما قال تعالى: {أمْواتٌ غيْرُ أحْياءٍ و ما يشْعُرُون أيّان يُبْعثُون} النحل - ٢١، و خص العزة لنفسه و لرسوله و للمؤمنين حيث قال: {و لِلّهِ الْعِزّةُ و لِرسُولِهِ و لِلْمُؤْمِنِين} المنافقون - ٨، و هم الذين يذكرهم بالحيوة فصارت العزة و الذلة مظهرين في المجتمع الإنساني للحياة و الموت، و لهذا قابل ما ذكره في الآية الأولى من إيتاء الملك و نزعه و الإعزاز و الإذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في النهار و عكسه و إخراج الحي من الميت و عكسه. 

  • ثم وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية: {و ترْزُقُ منْ تشاءُ بِغيْرِ حِسابٍ}، و ما ذكره في الآية الأولى: {بِيدِك الْخيْرُ}، كما سيجي‌ء بيانه. 

  • قوله تعالى: {و ترْزُقُ منْ تشاءُ بِغيْرِ حِسابٍ}، المقابلة المذكورة آنفا تعطي أن يكون قوله: {و ترْزُقُ}إلخ» بيانا لما سبقه من إيتاء الملك و العز و الإيلاج و غيره، فالعطف عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن قوله: {بِيدِك الْخيْرُ}، بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل، و المعنى: أنك متصرف في خلقك بهذه التصرفات لأنك ترزق من تشاء بغير حساب. 

  • معنى الرزق في القرآن‌ 

  • الرزق معروف و الذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوبا من معنى العطاء كرزق الملك الجندي و يقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة: رزقه، و كان يختص بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى: {و على الْموْلُودِ لهُ رِزْقُهُنّ و كِسْوتُهُنّ بِالْمعْرُوفِ} البقرة - ٢٣٣، فلم يعد الكسوة رزقا. 

  • ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الإنسان من الغذاء رزقا كأنه عطية بحسب الحظ و الجد و إن لم يعلم معطيه، ثم عمم فسمي كل ما يصل إلى الشي‌ء مما ينتفع به رزقا و إن لم يكن غذاء كسائر مزايا الحيوة من مال و جاه و عشيرة و أعضاد و جمال و علم و غير ذلك، قال تعالى: {تسْألُهُمْ خرْجاً فخراجُ ربِّك خيْرٌ و هُو خيْرُ الرّازِقِين} المؤمنون - ٧٢، و قال فيما يحكي عن شعيب {قال يا قوْمِ أ رأيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على‌ 

تفسير الميزان ج۳

138
  • بيِّنةٍ مِنْ ربِّي و رزقنِي مِنْهُ رِزْقاً حسناً} هود - ٨٨، و المراد به النبوة و العلم، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و المتحصل من قوله تعالى: {إِنّ اللّه هُو الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمتِينُ} الذاريات - ٥٨، و المقام مقام الحصر، أولا: أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى: {و اللّهُ خيْرُ الرّازِقِين} الجمعة - ١١، حيث أثبت رازقين و عده تعالى خيرهم، و قوله: {و اُرْزُقُوهُمْ فِيها و اُكْسُوهُمْ} النساء - ٥، كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك و العزة لله تعالى لذاته و لغيره بإعطائه و إذنه فهو الرزاق لا غير. 

  • و ثانيا: أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم و الله رازقه، و يدل على ذلك - مضافا إلى آيات الرزق على كثرتها - آيات كثيرة أخر كالآيات الدالة على أن الخلق و الأمر و الحكم و الملك (بكسر الميم) و المشية و التدبير و الخير لله محضا عز سلطانه. 

  • و ثالثا: أن ما ينتفع به الإنسان انتفاعا محرما لكونه سببا للمعصية لا ينسب إليه تعالى لأنه تعالى نفى نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع. قال تعالى: {قُلْ إِنّ اللّه لا يأْمُرُ بِالْفحْشاءِ أ تقُولُون على اللّهِ ما لا تعْلمُون} الأعراف - ٢٨، و قال تعالى: {إِنّ اللّه يأْمُرُ بِالْعدْلِ و الْإِحْسانِ} إلى أن قال: {و ينْهى‌ عنِ الْفحْشاءِ و الْمُنْكرِ} النحل - ٩٠و حاشاه سبحانه أن ينهى عن شي‌ء ثم يأمر به أو ينهى عنه ثم يحصر رزقه فيه. 

  • و لا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقا بحسب التشريع و كونه رزقا بحسب التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحا، و ما بينه القرآن من عموم الرزق إنما هو بحسب حال التكوين، و ليس البيان الإلهي بموقوف على الأفهام الساذجة العامية حتى يضرب صفحا عن التعرض للمعارف الحقيقية، و في القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون. قال تعالى: {و نُنزِّلُ مِن الْقُرْآنِ ما هُو شِفاءٌ و رحْمةٌ لِلْمُؤْمِنِين و لا يزِيدُ الظّالِمِين إِلاّ خساراً} الإسراء - ٨٢. 

  • على أن الآيات تنسب الملك الذي لأمثال نمرود و فرعون و الأموال و الزخارف التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم 

تفسير الميزان ج۳

139
  • ذلك امتحانا و إتماما للحجة و خذلانا و استدراجا و نحو ذلك و هذا كله نسب تشريعية، و إذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة التكوينية التي لا مجال للحسن و القبح العقلائيين فيها أوضح. 

  • ثم إنه تعالى ذكر أن كل شي‌ء فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن‌ رحمته كما قال: {و إِنْ مِنْ شيْ‌ءٍ إِلاّ عِنْدنا خزائِنُهُ و ما نُنزِّلُهُ إِلاّ بِقدرٍ معْلُومٍ} الحجر - ٢١، و ذكر أيضا أن ما عنده فهو خير. قال تعالى: {و ما عِنْد اللّهِ خيْرٌ} القصص - ٦٠، و انضمام الآيتين و ما في معناهما من الآيات يعطي أن كل ما يناله شي‌ء في العالم و يتلبس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه و هو خير له ينتفع به و يتنعم بسببه كما يفيده أيضا قوله تعالى: {الّذِي أحْسن كُلّ شيْ‌ءٍ خلقهُ} الم السجدة - ٧، مع قوله تعالى: {ذلِكُمُ اللّهُ ربُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شيْ‌ءٍ لا إِله إِلاّ هُو} المؤمن - ٦٤. 

  • و أما كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهية شرا يستضر به فإنما شريته و إضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيرا نافعا بالنسبة إلى آخرين و بالنسبة إلى علله و أسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى: {و ما أصابك مِنْ سيِّئةٍ فمِنْ نفْسِك} النساء - ٧٩، و قد مر البحث عن هذا المعنى فيما مر. 

  • و بالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير و كله خير ينتفع به يكون رزقا بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشي‌ء المرزوق، و ربما أشار إليه قوله تعالى {و رِزْقُ ربِّك خيْرٌ} طه - ١٣١. 

  • و من هنا يظهر أن الرزق و الخير و الخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن أمور متساوية فكل رزق خير و مخلوق، و كل خلق رزق و خير، و إنما الفرق: أن الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه، و الغاذية رزق للواحد من‌ الإنسان لاحتياجه إليها، و الواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به، و كذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عاريا عن هذه النعمة الإلهية، قال تعالى: {الّذِي أعْطى‌ كُلّ شيْ‌ءٍ خلْقهُ} طه - ٥٠. 

  • و الخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه و تختاره إذا أصابته، و القوة الغاذية خير للإنسان، و وجود الإنسان خير له بفرضه محتاجا طالبا. 

تفسير الميزان ج۳

140
  • و أما الخلق و الإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شي‌ء ثابت أو مفروض فالغذاء مثلا مخلوق موجد في نفسه، و كذا القوة الغاذية مخلوقة، و الإنسان مخلوق. 

  • و لما كان كل رزق لله، و كل خير لله محضا فما يعطيه تعالى من عطية، و ما أفاضه من خير و ما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض، و بلا شي‌ء مأخوذ في مقابله إذ كل ما فرضنا من شي‌ء فهو له تعالى حقا، و لا استحقاق هناك إذ لا حق لأحد عليه تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق، قال تعالى: {و ما مِنْ دابّةٍ فِي الْأرْضِ إِلاّ على اللّهِ رِزْقُها} هود - ٦، و قال: {فو ربِّ السّماءِ و الْأرْضِ إِنّهُ لحقٌّ مِثْل ما أنّكُمْ تنْطِقُون} الذاريات - ٢٣. 

  • فالرزق مع كونه حقا على الله لكونه حقا مجعولا من قبله‌ عطية منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق. 

  • و من هنا يظهر أن للإنسان المرتزق بالمحرمات رزقا مقدرا من الحلال بنظر التشريع فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقا ثابتا على نفسه ثم يرزقه من وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه و يعاقبه عليه. 

  • و توضيحه ببيان آخر أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة التي له على خلقه، و كما أن الرحمة رحمتان: رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن و كافر، و متق و فاجر، و إنسان و غير إنسان، و رحمة خاصة و هي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان و التقوى و الجنة، كذلك الرزق منه ما هو رزق عام، و هو العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده، و منه ما هو رزق خاص، و هو الواقع في مجرى الحل. 

  • و كما أن الرحمة العامة و الرزق العام مكتوبان مقدران، قال تعالى: {و خلق كُلّ شيْ‌ءٍ فقدّرهُ تقْدِيراً} الفرقان - ٢، كذلك الرحمة الخاصة و الرزق الخاص مكتوبان مقدران، و كما أن الهدى - و هو رحمة خاصة - مكتوب مقدر تقديرا تشريعيا لكل إنسان مؤمنا كان أو كافرا، و لذلك أرسل الرسل و أنزل الكتب، قال تعالى: {و ما خلقْتُ الْجِنّ و الْإِنْس إِلاّ لِيعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ و ما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ إِنّ اللّه هُو الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمتِينُ} الذاريات - ٥٨، و قال تعالى: {و قضى‌ ربُّك ألاّ تعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ} الإسراء - ٢٣، فالعبادة و هي تستلزم الهدى و تتوقف عليه مقضية مقدرة 

تفسير الميزان ج۳

141
  • تشريعا، كذلك الرزق الخاص و هو الذي عن مجرى الحل -مقضي مقدر، قال تعالى: {قدْ خسِر الّذِين قتلُوا أوْلادهُمْ سفهاً بِغيْرِ عِلْمٍ و حرّمُوا ما رزقهُمُ اللّهُ اِفْتِراءً على اللّهِ قدْ ضلُّوا و ما كانُوا مُهْتدِين} الأنعام - ١٤٠، و قال تعالى {و اللّهُ فضّل بعْضكُمْ على‌ بعْضٍ فِي الرِّزْقِ فما الّذِين فُضِّلُوا بِرادِّي رِزْقِهِمْ على‌ ما ملكتْ أيْمانُهُمْ فهُمْ فِيهِ سواءٌ} النحل - ٧١، و الآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر و المؤمن و من يرتزق بالحلال و من يرتزق بالحرام. 

  • و من الواجب أن يعلم: أن الرزق‌ كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية على قدر ما ينتفع فمن أوتي الكثير من المال و هو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه هو الذي أكله و الزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة الرزق و ضيقه غير كثرة المال مثلا و قلته، و للكلام في الرزق تتمة ستمر بك في قوله تعالى: {و ما مِنْ دابّةٍ فِي الْأرْضِ إِلاّ على اللّهِ رِزْقُها و يعْلمُ مُسْتقرّها و مُسْتوْدعها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} هود - ٦. 

  • و لنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى: {و ترْزُقُ منْ تشاءُ بِغيْرِ حِسابٍ} فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض و لا استحقاق‌ لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكا له تعالى محضا فلا يقابل عطيته منهم شي‌ء فلا حساب لرزقه تعالى. 

  • و أما كون نفي الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود و لا مقدر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى: {إِنّا كُلّ شيْ‌ءٍ خلقْناهُ بِقدرٍ} القمر - ٤٩، و قوله: {و منْ يتّقِ اللّه يجْعلْ لهُ مخْرجاً و يرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ و منْ يتوكّلْ على اللّهِ فهُو حسْبُهُ إِنّ اللّه بالِغُ أمْرِهِ قدْ جعل اللّهُ لِكُلِّ شيْ‌ءٍ قدْراً} الطلاق - ٣، فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى. 

  • و قد تحصل من الآيتين أولا: أن الملك (بضم الميم) كله لله كما أن الملك (بكسر الميم) كله لله. 

  • و ثانيا: أن الخير كله بيده و منه تعالى. 

  • و ثالثا: أن الرزق عطية منه تعالى بلا عوض و استحقاق. 

تفسير الميزان ج۳

142
  • و رابعا: أن الملك و العزة و كل خير اعتباري من خيرات الاجتماع كالمال و الجاه و القوة و غير ذلك كل ذلك من الرزق المرزوق. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: قلت له: {قُلِ اللّهُمّ مالِك الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْك منْ تشاءُ و تنْزِعُ الْمُلْك مِمّنْ تشاءُ}، أ ليس قد آتى الله بني أمية الملك؟ قال: ليس حيث تذهب، إن الله عز و جل آتانا الملك، و أخذته بني أمية بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو للذي أخذه.

  • أقول: و روى مثله العياشي عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام): و إيتاء الملك على ما تقدم بيانه يكون على وجهين إيتاء تكويني، و هو انبساط السلطنة على الناس، و نفوذ القدرة فيهم، سواء كان ذلك بالعدل أو بالظلم كما قال تعالى في نمرود: {أنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْك}، و أثره نفوذ الكلمة و مضي الأمر و الإرادة، و سنبحث عن معنى كونه تكوينيا، و إيتاء تشريعي، و هو القضاء بكونه ملكا مفترض الطاعة كما قال تعالى: {إِنّ اللّه قدْ بعث لكُمْ طالُوت ملِكاً} البقرة - ٢٤٧، و أثره افتراض الطاعة، و ثبوت الولاية، و لا يكون إلا العدل، و هو مقام محمود عند الله سبحانه، و الذي كان لبني أمية من الملك هو المعنى الأول و أثره و قد اشتبه الأمر على راوي الحديث فأخذ ملكهم بالمعنى الأول و أخذ معه أثر المعنى الثاني و هو المقام الشرعي، و الحمد الديني فنبهه (عليه السلام)أن الملك بهذا المعنى ليس لبني أمية بل هو لهم و لهم أثره، و بعبارة أخرى: الملك الذي لبني أمية إنما يكون محمودا إذا كان في أيديهم (عليهم السلام)، و أما في أيدي بني أمية فليس إلا مذموما لأنه‌ مغصوب و على هذا فلا ينسب إلى إيتاء الله إلا بنحو المكر و الاستدراج كما في ملك نمرود و فرعون. 

  • و قد اشتبه الأمر على هؤلاء أنفسهم أعني بني أمية في هذه الآية ففي الإرشاد، في قصة إشخاص يزيد بن معاوية رءوس شهداء الطف قال المفيد: و لما وضعت الرءوس و فيها رأس الحسين (عليه السلام) قال يزيد: 

  • نفلق هاما من رجال أعزة***علينا و هم كانوا أعق و أظلم

تفسير الميزان ج۳

143
  • قال: ثم أقبل على أهل مجلسه فقال: إن هذا كان يفخر علي و يقول: أبي خير من أب يزيد، و أمي خير من أمه، و جدي خير من جده، و أنا خير منه فهذا الذي قتله فأما قوله بأن أبي خير من أب يزيد فلقد حاج أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه، و أما قوله بأن أمي خير من أم يزيد فلعمري لقد صدق إن فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، و أما قوله: جدي خير من جده فليس لأحد يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يقول بأنه خير من محمد، و أما قوله بأنه خير مني فلعله لم يقرأ هذه (الآية) {قُلِ اللّهُمّ مالِك الْمُلْكِ} الآية. 

  • و ردت زينب بنت علي (عليه السلام)عليه قوله بمثل ما ذكره الصادق (عليه السلام)في الرواية السابقة على‌ ما رواه السيد بن طاووس و غيره :فقالت فيما خاطبته: أ ظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هوانا و بك عليه كرامة، و إن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك، و نظرت في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، و الأمور متسقة، و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا، مهلا مهلا، أ نسيت قول الله: {و لا يحْسبنّ الّذِين كفرُوا أنّما نُمْلِي لهُمْ خيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ إِنّما نُمْلِي لهُمْ لِيزْدادُوا إِثْماً و لهُمْ عذابٌ مُهِينٌ} الخطبة.

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {و تُخْرِجُ الْحيّ مِن الْميِّتِ} (الآية) قيل معناه: و تخرج المؤمن من الكافر و تخرج الكافر من المؤمن، قال: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • أقول: و روى قريبا منه الصدوق عن العسكري (عليه السلام).

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أو عن سلمان عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي قال: المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن.

  • و فيه أيضا بالطريق السابق عن سلمان الفارسي قال‌ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما خلق الله آدم (عليه السلام)أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنة و لا أبالي، و قبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل ردي‌ء فقال. هؤلاء أهل النار و لا أبالي 

تفسير الميزان ج۳

144
  • فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن و يخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله: {تُخْرِجُ الْحيّ مِن الْميِّتِ و تُخْرِجُ الْميِّت مِن الْحيِّ}

  • أقول: و روي هذا المعنى عن عدة من أصحاب التفسير عن سلمان أيضا مقطوعا، و الرواية من أخبار الذر و الميثاق، و سيجي‌ء بيانها في موضع يليق بها إن شاء الله. 

  • و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد و عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام)قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في حجة الوداع: ألا إن الروح الأمين نفث في روعي: أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب، و لا يحملنكم استبطاء شي‌ء من الرزق أن تطلبوه بشي‌ء من معصية الله فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا، و لم يقسمها حراما فمن اتقى الله و صبر أتاه رزقه من حله، و من هتك حجاب ستر الله عز و جل و أخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال، و حوسب عليه. و في النهج، قال (عليه السلام): الرزق رزقان: رزق تطلبه، و رزق يطلبك فإن لم تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك يومك، كفاك كل يوم ما فيه فإن تكن السنة من عمرك فإن الله تعالى جده سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك، و إن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك، و لن يسبقك إلى رزقك طالب، و لن يغلبك عليه غالب، و لن يبطئ عنك ما قد قدر لك. و في قرب الإسناد:، ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه (عليه السلام)قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الرزق لينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر إلى كل نفس بما قدر لها، و لكن لله فضول فاسألوا الله من فضله.

  • أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و سيجي‌ء استيفاء البحث عن أخبار الرزق في سورة هود إن شاء الله تعالى. 

  • (بحث علمي)[ في معنى الملك و اعتباره‌]

  • قد تقدم في بعض ما مر من الأبحاث السابقة: أن اعتبار أصل الملك (بالكسر) من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للبشر عنها في حال سواء كان منفردا أو مجتمعا، 

تفسير الميزان ج۳

145
  • و أن أصله ينتهي إلى اعتبار الاختصاص فهذا حال الملك (بالكسر). و أما الملك (بالضم) و هو السلطنة على الأفراد فهو أيضا من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها لكن الذي يحتاج إليه ابتداء هو الاجتماع من حيث تألفه من أجزاء كثيرة مختلفة المقاصد متباينة الإرادات دون الفرد من حيث إنه فرد فإن الأفراد المجتمعين لتباين إراداتهم و اختلاف مقاصدهم لا يلبثون دون أن يقع الاختلاف بينهم فيتغلب كل على الآخرين في أخذ ما بأيديهم، و التعدي على حومة حدودهم و هضم حقوقهم فيقع الهرج و المرج، و يصير الاجتماع الذي اتخذوه وسيلة إلى سعادة الحيوة ذريعة إلى الشقاء و الهلاك، و يعود الدواء داء، و لا سبيل إلى رفع هذه الغائلة الطارية إلا بجعل قوة قاهرة على سائر القوى مسيطرة على جميع الأفراد المجتمعين حتى تعيد القوى الطاغية المستعلية إلى حاق الوسط، و ترفع الدانية المستهلكة إليه أيضا فتتحد جميع القوى من حيث المستوى ثم تضع كل واحدة منها في محلها الخاص و تعطي كل ذي حق حقه. 

  • و لما لم تكن الإنسانية في حين من الأحيان خالية الذهن عن فكر الاستخدام كما مر بيانه سالفا لم يكن الاجتماعات في الأعصار السالفة خالية عن رجال متغلبين على الملك مستعلين على سائر الأفراد المجتمعين ببسط الرقية و التملك على النفوس و الأموال، و كانت بعض فوائد الملك الذي ذكرناه و هو وجود من يمنع عن طغيان بعض الأفراد على بعض يترتب على وجود هذا الصنف من المتغلبين المستعلين المتظاهرين باسم الملك في الجملة و إن كانوا هم أنفسهم و أعضادهم و جلاوزتهم قوى طاغية من غير حق مرضي، و ذلك لكونهم مضطرين إلى حفظ الأفراد في حال الذلة و الاضطهاد حتى لا يتقوى من يثب على حقوق بعض الأفراد فيثب يوما عليهم أنفسهم كما أنهم أنفسهم وثبوا على ما في أيدي غيرهم. 

  • و بالجملة بقاء جل الأفراد على حال التسالم خوفا من الملوك المسيطرين عليهم كان يصرف الناس عن الفكر في اعتبار الملك الاجتماعي و إنما يشتغلون بحمد سيرة هؤلاء المتغلبين إذا لم يبلغ تعديهم مبلغ جهدهم و يتظلمون و يشتكون إذا بلغ بهم الجهد، و حمل عليهم من التعدي ما يفوق طاقتهم. 

تفسير الميزان ج۳

146
  • نعم ربما فقدوا بعض هؤلاء المتسمين بالملوك و الرؤساء بهلاك أو قتل أو نحو ذلك، و أحسوا بالفتنة و الفساد، و هددهم اختلال النظم و وقوع الهرج فبادروا إلى تقديم بعض أولي الطول و القوة منهم، و ألقوا إليه زمام الملك فصار ملكا يملك أزمة الأمور ثم يعود الأمر على ما كان عليه من التعدي و التحميل. 

  • و لم تزل الاجتماعات على هذه الحال برهة بعد برهة حتى تضجرت من سوء سير هؤلاء المتسمين بالملوك في مظالمهم باستبدادهم في الرأي و إطلاقهم فيما يشاءون فوضعت قوانين تعين وظائف الحكومة الجارية بين الأمم و أجبرت الملوك باتباعها و صار الملك ملكا مشروطا بعد ما كان مطلقا، و اتحد الناس على التحفظ على ذلك، و كان الملك موروثا. 

  • ثم أحست اجتماعات ببغي ملوكهم و سوء سيرهم و لا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة الملك، و تثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيرة موروثة فبدلوا الملك برئاسة الجمهور فانقلب الملك المؤبد المشروط إلى ملك مؤجل مشروط، و ربما وجد في الأقوام و الأمم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم التي شاهدوها ممن بيده زمام أمرهم، و ربما حدث في مستقبل الأيام ما لم ينتقل أفهامنا إليه إلى هذا الآن. 

  • لكن الذي يتحصل من جميع هذه المساعي التي بذلتها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا الأمر أعني إلقاء زمام الأمة إلى من يدبر أمرها، و يجمع شتات إراداتها المتضادة و قواها المتنافية: أن لا غنى للمجتمع الإنساني عن هذا المقام و هو مقام الملك و إن تغيرت أسماؤه، و تبدلت شرائطه بحسب اختلاف الأمم، و مرور الأيام فإن طروق الهرج و المرج، و اختلال أمر الحياة الاجتماعية على جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع أزمة الإرادات و المقاصد في إرادة واحدة لإنسان واحد أو مقام واحد. 

  • و هذا هو الذي تقدم في أول الكلام‌ أن الملك من الاعتبارات الضرورية في الاجتماع الإنساني. 

  • و هو مثل سائر الموضوعات الاعتبارية التي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها و إصلاحها و رفع نواقصها و آثارها المضادة لسعادة الإنسانية. 

  • و للنبوة في هذا الإصلاح السهم الأوفى فإن من المسلم في علم الاجتماع: أن انتشار 

تفسير الميزان ج۳

147
  • قول ما من الأقوال بين العامة و خاصة إذا كان مما يرتبط بالغريزة، و يستحسنه القريحة، و يطمئن إليه النفوس المتوقعة أقوى سبب لتوحيد الميول المتفرقة و جعل الجماعات المتشتتة يدا واحدا تقبض و تبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شي‌ء. 

  • و من الضروري: أن النبوة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو الناس إلى العدل، و تمنعهم عن الظلم، و تندبهم إلى عبادة الله و التسليم له، و تنهاهم عن اتباع الفراعنة الطاغين، و النماردة المستكبرين المتغلبين، و لم تزل هذه الدعوة بين الأمم منذ قرون متراكمة جيلا بعد جيل، و أمة بعد أمة و إن اختلفت بحسب السعة و الضيق باختلاف الأمم و الأزمنة، و من المحال أن يلبث مثل هذا العامل القوي بين الاجتماعات الإنسانية قرونا متمادية و هو منعزل عن الأثر خال عن الفعل. 

  • و قد حكى القرآن الكريم في ذلك شيئا كثيرا من الوحي المنزل على الأنبياء (عليه السلام) كما حكى عن نوح فيما يشكوه لربه: {ربِّ إِنّهُمْ عصوْنِي و اِتّبعُوا منْ لمْ يزِدْهُ مالُهُ و ولدُهُ إِلاّ خساراً و مكرُوا مكْراً كُبّاراً و قالُوا لا تذرُنّ آلِهتكُمْ} نوح - ٢٣، و كذا ما وقع بينه و بين عظماء قومه من الجدال على ما يحكيه القرآن، قال تعالى: {قالُوا أ نُؤْمِنُ لك و اِتّبعك الْأرْذلُون قال و ما عِلْمِي بِما كانُوا يعْملُون إِنْ حِسابُهُمْ إِلاّ على‌ ربِّي لوْ تشْعُرُون} الشعراء - ١١٣، و قول هود (عليه السلام)لقومه: {أ تبْنُون بِكُلِّ رِيعٍ آيةً تعْبثُون و تتّخِذُون مصانِع لعلّكُمْ تخْلُدُون و إِذا بطشْتُمْ بطشْتُمْ جبّارِين} الشعراء - ١٣٠، و قول صالح (عليه السلام)لقومه: {فاتّقُوا اللّه و أطِيعُونِ و لا تُطِيعُوا أمْر الْمُسْرِفِين الّذِين يُفْسِدُون فِي الْأرْضِ و لا يُصْلِحُون} الشعراء - ١٥٢. 

  • و لقد قام موسى (عليه السلام) للدفاع عن بني إسرائيل و معارضة فرعون في سيرته الجائرة الظالمة، و انتهض قبله إبراهيم (عليه السلام)لمعارضة نمرود و من بعده عيسى بن مريم (عليه السلام)و سائر أنبياء بني إسرائيل في معارضة مترفي أعصارهم من الملوك و العظماء، و تقبيح سيرهم الظالمة، و دعوة الناس إلى رفض طاعة المفسدين و اتباع الطاغين. 

  • و أما القرآن فاستنهاضه الناس على الامتناع عن طاعة الإفساد و الإباء عن الضيم، و إنباؤه عن عواقب الظلم و الفساد و العدوان و الطغيان مما لا يخفى قال تعالى: {أ لمْ تر كيْف فعل ربُّك بِعادٍ إِرم ذاتِ الْعِمادِ الّتِي لمْ يُخْلقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ و ثمُود الّذِين جابُوا الصّخْر بِالْوادِ و فِرْعوْن ذِي الْأوْتادِ الّذِين طغوْا فِي الْبِلادِ فأكْثرُوا فِيها الْفساد فصبّ عليْهِمْ ربُّك 

تفسير الميزان ج۳

148
  • سوْط عذابٍ إِنّ ربّك لبِالْمِرْصادِ} الفجر - ١٤، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و أما أن الملك (بالضم) من ضروريات المجتمع الإنساني‌ فيكفي في بيانه أتم بيان قوله تعالى بعد سرد قصة طالوت: {و لوْ لا دفْعُ اللّهِ النّاس بعْضهُمْ بِبعْضٍ لفسدتِ الْأرْضُ و لكِنّ اللّه ذُو فضْلٍ على الْعالمِين} البقرة - ٢٥١، و قد مر بيان كيفية دلالة الآية بوجه عام. 

  • و في القرآن آيات كثيرة تتعرض للملك و الولاية و افتراض الطاعة و نحو ذلك، و أخرى تعده نعمة و موهبة كقوله تعالى: {و آتيْناهُمْ مُلْكاً عظِيماً} النساء - ٥٤، و قوله تعالى: {و جعلكُمْ مُلُوكاً و آتاكُمْ ما لمْ يُؤْتِ أحداً مِن الْعالمِين} المائدة - ٢٠، و قوله تعالى: {و اللّهُ يُؤْتِي مُلْكهُ منْ يشاءُ} البقرة - ٢٤٧، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • غير أن القرآن إنما يعده كرامة إذا اجتمع مع التقوى لحصره الكرامة على التقوى من بين جميع ما ربما يتخيل فيه شي‌ء من الكرامة من مزايا الحيوة، قال تعالى: {يا أيُّها النّاسُ إِنّا خلقْناكُمْ مِنْ ذكرٍ و أُنْثى‌ و جعلْناكُمْ شُعُوباً و قبائِل لِتعارفُوا إِنّ أكْرمكُمْ عِنْد اللّهِ أتْقاكُمْ} الحجرات - ١٣، و التقوى حسابه على الله ليس لأحد أن يستعلي به على أحد فلا فخر لأحد على أحد بشي‌ء لأنه إن كان أمرا دنيويا فلا مزية لأمر دنيوي، و لا قدر إلا للدين و إن كان أمرا أخرويا فأمره إلى الله سبحانه‌، و على الجملة لا يبقى للإنسان المتلبس بهذه النعمة أعني الملك في نظر رجل مسلم إلا تحمل الجهد و مشقة التقلد و الأعباء نعم له عند ربه عظيم الأجر و مزيد الثواب إن لازم صراط العدل و التقوى. 

  • و هذا هو روح السيرة الصالحة التي لازمها أولياء الدين، و سنشبع إن شاء الله العزيز هذا المعنى في بحث مستقل في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)و الطاهرين من آله الثابتة بالآثار الصحيحة، و أنهم لم ينالوا من ملكهم إلا أن يثوروا على الجبابرة في فسادهم في الأرض و يعارضوهم في طغيانهم و استكبارهم. 

  • و لذلك لم يدع القرآن الناس إلى الاجتماع على تأسيس الملك، و تشييد بنيان القيصرية و الكسروية، و إنما تلقى الملك شأنا من الشئون اللازمة المراعاة في المجتمع الإنساني نظير التعليم أو إعداد القوة لإرهاب الكفار. 

  • بل إنما دعا الناس إلى الاجتماع و الاتحاد و الاتفاق على الدين، و نهاهم عن 

تفسير الميزان ج۳

149
  • التفرق و الشقاق فيه، و جعله هو الأصل، فقال تعالى: {و أنّ هذا صِراطِي مُسْتقِيماً فاتّبِعُوهُ و لا تتّبِعُوا السُّبُل فتفرّق بِكُمْ عنْ سبِيلِهِ} الأنعام - ١٥٣، و قال تعالى: {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ تعالوْا إِلى‌ كلِمةٍ سواءٍ بيْننا و بيْنكُمْ ألاّ نعْبُد إِلاّ اللّه و لا نُشْرِك بِهِ شيْئاً و لا يتّخِذ بعْضُنا بعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فإِنْ تولّوْا فقُولُوا اِشْهدُوا بِأنّا مُسْلِمُون} آل عمران - ٦٤، فالقرآن - كما ترى - لا يدعو الناس إلا إلى التسليم لله وحده و يعتبر من المجتمع المجتمع الديني، و يدحض ما دون ذلك من عبادة الأنداد، و الخضوع لكل قصر مشيد، و منتدى رفيع و ملك قيصري و كسروي‌ و التفرق بإفراز الحدود و تفريق الأوطان و غير ذلك. 

  • (بحث فلسفي)[ في استناد الملك و سائر الأمور الاعتبارية إليه تعالى]

  • لا ريب أن الواجب تعالى هو الذي تنتهي إليه سلسلة العلية في العالم، و إن الرابطة بينه و بين العالم جزءا و كلا هي رابطة العلية، و قد تبين في أبحاث العلة و المعلول أن العلية إنما هي في الوجود بمعنى أن الوجود الحقيقي في المعلول هو المترشح من وجود علته، و أما غيره كالماهية فهو بمعزل عن الترشح و الصدور و الافتقار إلى العلة، و ينعكس بعكس النقيض إلى أن ما لا وجود حقيقي له فليس بمعلول و لا منته إلى الواجب تعالى. 

  • و يشكل الأمر في استناد الأمور الاعتبارية المحضة إليه تعالى إذ لا وجود حقيقي لها أصلا، و إنما وجودها و ثبوتها ثبوت اعتباري لا يتعدى ظرف الاعتبار و الوضع و حيطة الفرض، و ما يشتمل عليه الشريعة من الأمر و النهي و الأحكام و الأوضاع كلها أمور اعتبارية فيشكل نسبتها إليه تعالى، و كذا أمثال الملك و العز و الرزق و غير ذلك. 

  • و الذي تحل به العقدة أنها و إن كانت عارية عن الوجود الحقيقي إلا أن لها آثارا هي الحافظة لأسمائها كما مر مرارا، و هذه الآثار أمور حقيقية مقصودة بالاعتبار و لها نسبة إليه تعالى فهذه النسبة هي المصححة لنسبتها فالملك الذي بيننا أهل الاجتماع و إن كان أمرا اعتباريا وضعيا لا نصيب لمعناه من الوجود الحقيقي، و إنما هو 

تفسير الميزان ج۳

150
  • معنى متوهم لنا جعلناه وسيلة إلى البلوغ إلى آثار خارجية لم يكن يمكننا البلوغ إليها لو لا فرض هذا المعنى الموهوم و تقديره، و هي قهر المتغلبين و أولي السطوة و القوة من أفراد الاجتماع الواثبين على حقوق الضعفاء و الخاملين، و وضع كل من الأفراد في مقامه الذي له، و إعطاء كل ذي حق حقه، و غير ذلك. 

  • لكن لما كان حقيقة معنى الملك و اسمه باقيا ما دامت هذه الآثار الخارجية باقية مترتبة عليه فاستناد هذه الآثار الخارجية إلى عللها الخارجية هو عين استناد الملك إليه، و كذلك القول في العزة الاعتبارية، و آثارها الخارجية و استنادها إلى عللها الحقيقة، و كذلك الأمر في غيرها كالأمر و النهي و الحكم و الوضع و نحو ذلك. 

  • و من هنا يتبين: أن لها جميعا استنادا إلى الواجب تعالى باستناد آثارها إليه على حسب ما يليق بساحة قدسه و عزه.

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٢٨ الی ٣٢ ] 

  • {لا يتّخِذِ الْمُؤْمِنُون الْكافِرِين أوْلِياء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين و منْ يفْعلْ ذلِك فليْس مِن اللّهِ فِي شيْ‌ءٍ إِلاّ أنْ تتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً و يُحذِّرُكُمُ اللّهُ نفْسهُ و إِلى اللّهِ الْمصِيرُ ٢٨ قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أوْ تُبْدُوهُ يعْلمْهُ اللّهُ و يعْلمُ ما فِي السّماواتِ و ما فِي الْأرْضِ و اللّهُ على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ قدِيرٌ ٢٩ يوْم تجِدُ كُلُّ نفْسٍ ما عمِلتْ مِنْ خيْرٍ مُحْضراً و ما عمِلتْ مِنْ سُوءٍ تودُّ لوْ أنّ بيْنها و بيْنهُ أمداً بعِيداً و يُحذِّرُكُمُ اللّهُ نفْسهُ و اللّهُ رؤُفٌ بِالْعِبادِ ٣٠قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون اللّه فاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ و يغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبكُمْ و اللّهُ غفُورٌ رحِيمٌ ٣١ قُلْ أطِيعُوا اللّه و الرّسُول فإِنْ تولّوْا فإِنّ اللّه لا يُحِبُّ الْكافِرِين ٣٢}

تفسير الميزان ج۳

151
  • بيان 

  • الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدمها بناء على ما ذكرناه في الآيات السابقة: 

  • أن المقام مقام التعرض لحال أهل الكتاب و المشركين و التعريض لهم، فالمراد بالكافرين إن كان يعم أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن توليهم و الامتزاج الروحي بالمشركين و بهم جميعا، و إن كان المراد بهم المشركين فحسب فالآيات متعرضة لهم و دعوة إلى تركهم و الاتصال بحزب الله، و حب الله و طاعة رسوله. 

  • قوله تعالى: {لا يتّخِذِ الْمُؤْمِنُون الْكافِرِين أوْلِياء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين}، الأولياء جمع الولي من الولاية و هي في الأصل ملك تدبير أمر الشي‌ء فولي الصغير أو المجنون أو المعتوه هو الذي يملك تدبير أمورهم و أمور أموالهم فالمال لهم و تدبير أمره لوليهم، ثم استعمل و كثر استعماله في مورد الحب لكونه يستلزم غالبا تصرف كل من المتحابين في أمور الآخر لإفضائه إلى التقرب و التأثر عن إرادة المحبوب و سائر شئونه الروحية فلا يخلو الحب عن تصرف المحبوب في أمور المحب في حيوته. 

  • فاتخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحي بهم‌ بحيث يؤدي إلى مطاوعتهم و التأثر منهم في الأخلاق و سائر شئون الحيوة و تصرفهم في ذلك، و يدل على ذلك تقييد هذا النهي بقوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين}، فإن فيه دلالة على إيثار حبهم على حب المؤمنين، و إلقاء أزمة الحيوة إليهم دون المؤمنين، و فيه الركون إليهم و الاتصال بهم و الانفصال عن المؤمنين. 

  • و قد تكرر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولي الكافرين و اليهود و النصارى و اتخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسر معنى التولي المنهي عنه، و يعرف كيفية الولاية المنهي عنها كاشتمال هذه الآية على قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين} بعد قوله: {لا يتّخِذِ الْمُؤْمِنُون الْكافِرِين أوْلِياء}، و اشتمال قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تتّخِذُوا الْيهُود و النّصارى‌ أوْلِياء} (الآية) المائدة - ٥١، على قوله: {بعْضُهُمْ أوْلِياءُ بعْضٍ}، و تعقب قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تتّخِذُوا عدُوِّي و عدُوّكُمْ أوْلِياء} (الآية) الممتحنة - ١، بقوله: {لا ينْهاكُمُ اللّهُ عنِ الّذِين لمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى آخر الآيات. 

  • و على هذا فأخذ هذه الأوصاف في قوله: {لا يتّخِذِ الْمُؤْمِنُون الْكافِرِين أوْلِياء مِنْ 

تفسير الميزان ج۳

152
  • دُونِ الْمُؤْمِنِين}، للدلالة على سبب الحكم و علته، و هو أن صفتي الكفر و الإيمان مع ما فيهما من البعد و البينونة و لا محالة يسري ذلك إلى من اتصف بهما فيفرق بينهما في المعارف و الأخلاق و طريق السلوك إلى الله تعالى و سائر شئون الحيوة لا يلائم حالهما مع الولاية فإن الولاية يوجب الاتحاد و الامتزاج، و هاتان الصفتان‌ توجبان التفرق و البينونة، و إذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواص الإيمان و آثاره ثم فساد أصله، و لذلك عقبه بقوله: {و منْ يفْعلْ ذلِك فليْس مِن اللّهِ فِي شيْ‌ءٍ}، ثم عقبه أيضا بقوله: {إِلاّ أنْ تتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً}، فاستثنى التقية فإن التقية إنما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها. 

  • و دون في قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين} كأنه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى السفالة و القصور، و المعنى: مبتدئا من مكان دون مكان المؤمنين فإنهم أعلى مكانا. 

  • و الظاهر أن ذلك هو الأصل في معنى دون فكان في الأصل يفيد معنى الدنو مع خصوصية الانخفاض فقولهم دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك و أخفض منه كالدرجة دون الدرجة ثم استعمل بمعنى غير كقوله: {إِلهيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ} المائدة - ١١٦، و قوله: {و يغْفِرُ ما دُون ذلِك لِمنْ يشاءُ} النساء - ٤٨، أي ما سوى ذلك أو ما هو أدون من ذلك و أهون، كذا استعمل اسم فعل كقولهم: دونك زيدا أي الزمه، كل ذلك من جهة الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظي. 

  • قوله تعالى: {و منْ يفْعلْ ذلِك فليْس مِن اللّهِ فِي شيْ‌ءٍ}، أي و من يتخذهم‌ أولياء من دون المؤمنين، و إنما بدل من لفظ عام للإشعار بنهاية نفرة المتكلم منه حتى أنه لا يتلفظ به إلا بلفظ عام كالتكنية عن القبائح، و هو شائع في اللسان، و لذلك أيضا لم يقل: و من يفعل ذلك من المؤمنين كأن فيه صونا للمؤمنين من أن ينسب إليهم مثل هذا الفعل. 

  • و مِن في قوله: {مِن اللّهِ}، للابتداء، و يفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزب أي ليس من حزب الله في شي‌ء كما قال تعالى: {و منْ يتولّ اللّه و رسُولهُ و الّذِين آمنُوا فإِنّ حِزْب اللّهِ هُمُ الْغالِبُون} المائدة - ٥٦، و كما فيما حكاه عن إبراهيم (عليه السلام)من قوله: {فمنْ تبِعنِي فإِنّهُ مِنِّي} إبراهيم - ٣٦، أي من حزبي، و كيف كان فالمعنى و الله أعلم: ليس من حزب الله مستقرا في شي‌ء من الأحوال و الآثار. 

تفسير الميزان ج۳

153
  • قوله تعالى: {إِلاّ أنْ تتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً}، الاتقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثم ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالا للمسبب في مورد السبب و لعل التقية في المورد من هذا القبيل. 

  • و الاستثناء منقطع فإن التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير عقد القلب على الحب و الولاية ليس من التولي في شي‌ء لأن الخوف و الحب أمران قلبيان متباينان و متنافيان أثرا في القلب فكيف يمكن اتحادهما؟ فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع. 

  • و في الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت (عليه السلام)كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار و أبويه ياسر و سمية و هي قوله تعالى: {منْ كفر بِاللّهِ مِنْ بعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ منْ أُكْرِه و قلْبُهُ مُطْمئِنٌّ بِالْإِيمانِ و لكِنْ منْ شرح بِالْكُفْرِ صدْراً فعليْهِمْ غضبٌ مِن اللّهِ و لهُمْ عذابٌ عظِيمٌ} النحل - ١٠٦. 

  • و بالجملة الكتاب و السنة متطابقان في جوازها في الجملة، و الاعتبار العقلي يؤكده إذ لا بغية للدين، و لا هم لشارعه إلا ظهور الحق و حياته، و ربما يترتب على التقية و المجاراة مع أعداء الدين و مخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين و حيوة الحق ما لا يترتب على تركها، و إنكار ذلك مكابرة و تعسف، و سنستوفي الكلام فيها في البحث الروائي التالي، و في الكلام على قوله تعالى: {منْ كفر بِاللّهِ مِنْ بعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ منْ أُكْرِه و قلْبُهُ مُطْمئِنٌّ بِالْإِيمانِ} النحل - ١٠٦. 

  • قوله تعالى: {و يُحذِّرُكُمُ اللّهُ نفْسهُ و إِلى اللّهِ الْمصِيرُ}، التحذير تفعيل من الحذر و هو الاحتراز من أمر مخيف و قد حذر الله عباده من عذابه كما قال تعالى: {إِنّ عذاب ربِّك كان محْذُوراً} إسراء - ٥٧، و حذر من المنافقين و فتنة الكفار فقال: {هُمُ الْعدُوُّ فاحْذرْهُمْ} المنافقين - ٤، و قال: {و اِحْذرْهُمْ أنْ يفْتِنُوك} المائدة - ٤٩، و حذرهم من نفسه كما في هذه الآية و ما يأتي بعد آيتين، و ليس ذلك إلا للدلالة على أن الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز في هذه المعصية، أي ليس بين هذا المجرم و بينه تعالى شي‌ء مخوف آخر حتى يتقى عنه بشي‌ء أو يتحصن منه بحصن‌، و إنما هو الله الذي لا عاصم منه، و لا أن بينه و بين الله سبحانه أمر مرجو في دفع الشر عنه من ولي 

تفسير الميزان ج۳

154
  • و لا شفيع، ففي الكلام أشد التهديد، و يزيد في اشتداده تكراره مرتين في مقام واحد و يؤكده تذييله أولا بقوله: {و إِلى اللّهِ الْمصِيرُ}، و ثانيا بقوله: {و اللّهُ رؤُفٌ بِالْعِبادِ}، على ما سيجي‌ء من بيانه. 

  • و من جهة أخرى: يظهر من مطاوي هذه الآية و سائر الآيات الناهية عن اتخاذ غير المؤمنين أولياء أنه خروج عن زي العبودية، و رفض لولاية الله سبحانه، و دخول في حزب أعدائه لإفساد أمر الدين، و بالجملة هو طغيان و إفساد لنظام الدين الذي هو أشد و أضر بحال الدين من كفر الكافرين و شرك المشركين فإن العدو الظاهر عدواته المباين طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتقاء و الحذر، و أما الصديق و الحميم إذا استأنس مع الأعداء و دب فيه أخلاقهم و سننهم فلا يلبث فعاله إلا أن يذهب بالحومة و أهلها من حيث لا يشعرون، و هو الهلاك الذي لا رجاء للحياة و البقاء معه. 

  • و بالجملة هو طغيان، و أمر الطاغي في طغيانه إلى الله سبحانه نفسه، قال تعالى: {أ لمْ تر كيْف فعل ربُّك بِعادٍ إِرم ذاتِ الْعِمادِ الّتِي لمْ يُخْلقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ و ثمُود الّذِين جابُوا الصّخْر بِالْوادِ و فِرْعوْن ذِي الْأوْتادِ الّذِين طغوْا فِي الْبِلادِ فأكْثرُوا فِيها الْفساد فصبّ عليْهِمْ ربُّك سوْط عذابٍ إِنّ ربّك لبِالْمِرْصادِ} الفجر - ١٤، فالطغيان يسلك بالطاغي مسلكا يورده المرصاد الذي ليس به إلا الله جلت عظمته فيصب عليه سوط عذاب و لا مانع. 

  • و من هنا يظهر: أن التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله: {و يُحذِّرُكُمُ اللّهُ نفْسهُ}، لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه و إفساده. 

  • و يدل على ما ذكرناه قوله تعالى: {فاسْتقِمْ كما أُمِرْت و منْ تاب معك و لا تطْغوْا إِنّهُ بِما تعْملُون بصِيرٌ و لا ترْكنُوا إِلى الّذِين ظلمُوا فتمسّكُمُ النّارُ و ما لكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أوْلِياء ثُمّ لا تُنْصرُون} هود - ١١٣، و هذه آية ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنها شيبته - على ما في الرواية - فإن الآيتين - كما هو ظاهر للمتدبر - ظاهرتان في أن الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مس النار استتباعا لا ناصر معه، و هو الانتقام الإلهي لا عاصم منه و لا دافع له كما تقدم بيانه. 

  • و من هنا يظهر أيضا: أن في قوله: {و يُحذِّرُكُمُ اللّهُ نفْسهُ}، دلالة على أن التهديد إنما هو بعذاب مقضي قضاء حتما من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدال على عدم 

تفسير الميزان ج۳

155
  • حائل يحول في البين، و لا عاصم من الله سبحانه و قد أوعد بالعذاب فينتج قطعية الوقوع كما يدل على مثله قوله في آيتي سورة هود: {فتمسّكُمُ النّارُ و ما لكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أوْلِياء ثُمّ لا تُنْصرُون}

  • و في قوله: {و إِلى اللّهِ الْمصِيرُ}، دلالة على أن لا مفر لكم منه و لا صارف له، ففيه تأكيد التهديد السابق عليه. 

  • و الآيات أعني قوله تعالى: {لا يتّخِذِ الْمُؤْمِنُون الْكافِرِين أوْلِياء} الآية و ما يتبعها من الآيات من ملاحم القرآن، و سيجي‌ء بيانه إن شاء الله في سورة المائدة. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أوْ تُبْدُوهُ يعْلمْهُ اللّهُ}، الآية نظيرة قوله تعالى: {و إِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} البقرة - ٢٨٤، غير أنه لما كان الأنسب بحال العلم أن يتعلق بالمخفي بخلاف الحساب فإن الأنسب له أن يتعلق بالبادي الظاهر قدم ذكر الإخفاء في هذه الآية على ذكر الإبداء، و جرى بالعكس منه في آية البقرة كما قيل. 

  • و قد أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة و هو علمه بما تخفيه أنفسهم أو تبديه - من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام، و ليس ذلك إلا ترفعا عن مخاطبة من يستشعر من حاله أنه سيخالف ما وصاه كما مر ما يشبه ذلك في قوله: {و منْ يفْعلْ ذلِك}. 

  • و في قوله تعالى: {و يعْلمُ ما فِي السّماواتِ و ما فِي الْأرْضِ و اللّهُ على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ قدِيرٌ} مضاهاة لما مر من آية البقرة و قد مر الكلام فيه. 

  • قوله تعالى: {يوْم تجِدُ كُلُّ نفْسٍ ما عمِلتْ مِنْ خيْرٍ مُحْضراً و ما عمِلتْ مِنْ سُوءٍ}، الظاهر من اتصال السياق أنه من تتمة القول في الآية السابقة الذي أمر به النبي ص، و الظرف متعلق بمقدر أي و اذكر يوم تجد، أو متعلق بقوله: {يعْلمْهُ اللّهُ و يعْلمُ}، و لا ضير في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم القيامة فإن هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى بالنسبة إلى ظهور الأمر لنا لا بالنسبة إلى تحققه منه تعالى، و ذلك كظهور ملكه و قدرته و قوته في اليوم، قال تعالى: {يوْم هُمْ بارِزُون لا يخْفى‌ على اللّهِ مِنْهُمْ شيْ‌ءٌ لِمنِ الْمُلْكُ الْيوْم لِلّهِ الْواحِدِ الْقهّارِ} المؤمن - ١٦، و قال: {لا عاصِم الْيوْم مِنْ أمْرِ اللّهِ} هود - ٤٣، و قال: {و لوْ يرى الّذِين ظلمُوا إِذْ يروْن الْعذاب أنّ الْقُوّة لِلّهِ جمِيعاً} البقرة - ١٦٥، 

تفسير الميزان ج۳

156
  • و قال: {و الْأمْرُ يوْمئِذٍ لِلّهِ} الانفطار - ١٩، إذ من المعلوم أن الله سبحانه له كل الملك و القدرة و القوة و الأمر دائما - قبل القيامة و فيها و بعدها - و إنما اختص يوم القيامة بظهور هذه الأمور لنا معاشر الخلائق ظهورا لا ريب فيه. 

  • و من ذلك يظهر أن تعلق الظرف بقوله: {يعْلمْهُ اللّهُ}، لا يفيد تأخر علمه تعالى بسرائر عباده من خير أو شر إلى يوم القيامة. 

  • على أن في قوله تعالى: {مُحْضراً}، دون أن يقول: حاضرا دلالة على ذلك فإن الإحضار إنما يتم فيما هو موجود غائب فالأعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة، و لا حافظ لها إلا الله سبحانه، قال تعالى: {و ربُّك على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ حفِيظٌ} سبأ - ٢١ و قال: {و عِنْدنا كِتابٌ حفِيظٌ} ق - ٤. 

  • و قوله: {تجِدُ}، من الوجدان‌ خلاف الفقدان، و من في قوله: {مِنْ خيْرٍ} و {مِنْ سُوءٍ} للبيان، و التنكير للتعميم، أي تجد كل ما عملت من الخير و إن قل و كذا من السوء و قوله: {و ما عمِلتْ مِنْ سُوءٍ}، معطوف على قوله {ما عمِلتْ مِنْ خيْرٍ} على ما هو ظاهر السياق و الآية من الآيات‌الدالة على تجسم الأعمال، و قد مر البحث عنها في سورة البقرة. 

  • قوله تعالى: {تودُّ لوْ أنّ بيْنها و بيْنهُ أمداً بعِيداً}، الظاهر أنه خبر لمبتدإ محذوف و هو الضمير الراجع إلى النفس، و {لوْ} للتمني، و قد كثر دخوله في القرآن على أن المفتوحة المشددة، فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه و تأويل ما ورد فيه ذلك من الموارد. 

  • و الأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانية، قال الراغب في مفردات القرآن: الأمد و الأبد يتقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود، و لا يتقيد، لا يقال: أبد كذا، و الأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق، و قد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا، كما يقال: زمان كذا، و الفرق بين الزمان و الأمد، أن الأمد يقال باعتبار الغاية، و الزمان عام في المبدإ و الغاية، و لذا قال بعضهم: الأمد و المدى يتقاربان، انتهى. 

  • و في قوله: {تودُّ لوْ أنّ بيْنها و بيْنهُ أمداً بعِيداً}، دلالة على أن حضور سيئ العمل يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأن حضور خير العمل يسرها، و إنما تود الفاصلة الزمانية بينها و بينه دون أن تود أنه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ الله فلا يسعها 

تفسير الميزان ج۳

157
  • إلا أن تحب بعده و عدم حضوره في أشق الأحوال، و عند أعظم الأهوال كما يقول لقرين السوء نظير ذلك، قال تعالى: {نُقيِّضْ لهُ شيْطاناً فهُو لهُ قرِينٌ}، إلى أن قال: {حتّى إِذا جاءنا قال يا ليْت بيْنِي و بيْنك بُعْد الْمشْرِقيْنِ فبِئْس الْقرِينُ} الزخرف - ٣٨. 

  • قوله تعالى: {و يُحذِّرُكُمُ اللّهُ نفْسهُ و اللّهُ رؤُفٌ بِالْعِبادِ}، ذكر التحذير ثانيا يعطي من أهمية المطلب و البلوغ في التهديد ما لا يخفى، و يمكن أن يكون هذا التحذير الثاني ناظرا إلى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية، و التحذير الأول ناظرا إلى وبالها في الدنيا أو في الأعم من الدنيا و الآخرة. 

  • و أما قوله: {و اللّهُ رؤُفٌ بِالْعِبادِ}، فهو - على كونه حاكيا عن رأفته و حنانه تعالى المتعلق بعباده كما يحكي عن ذلك الإتيان بوصف العبودية و الرقية - دليل آخر على تشديد التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف و التحذير إنما يؤتى بها لتثبيت التخويف و إيجاد الإذعان بأن المتكلم ناصح لا يريد إلا الخير و الصلاح، تقول: إياك أن تتعرض لي في أمر كذا فإني آليت أن لا أسامح مع من تعرض لي فيه، إنما أخبرك بهذا رأفة بك و شفقة. 

  • فيئول المعنى و الله أعلم إلى مثل أن يقال: إن الله لرأفته بعباده ينهاهم قبلا أن يتعرضوا لمثل هذه المعصية التي وبال أمرها واقع لا محالة من غير أن يؤثر فيه شفاعة شافع و لا دفع دافع. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون اللّه فاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}، قد تقدم كلام في معنى الحب، و أنه يتعلق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلق بغيره في تفسير قوله تعالى: {و الّذِين آمنُوا أشدُّ حُبًّا لِلّهِ} (الآية) البقرة - ١٦٥. 

  • و نزيد عليه هاهنا: أنه لا ريب أن الله سبحانه على ما ينادي به كلامه إنما يدعو عبده إلى الإيمان به و عبادته بالإخلاص له و الاجتناب عن الشرك كما قال تعالى: {ألا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} الزمر - ٣، و قال تعالى: {و ما أُمِرُوا إِلاّ لِيعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِين لهُ الدِّين} البينة - ٥، و قال تعالى: {فادْعُوا اللّه مُخْلِصِين لهُ الدِّين و لوْ كرِه الْكافِرُون} المؤمن - ١٤، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و لا شك أن الإخلاص في الدين إنما يتم على الحقيقة إذا لم يتعلق قلب الإنسان 

تفسير الميزان ج۳

158
  • - الذي لا يريد شيئا و لا يقصد أمرا إلا عن حب نفسي و تعلق قلبي - بغيره تعالى من معبود أو مطلوب كصنم أو ند أو غاية دنيوية بل و لا مطلوب أخروي كفوز بالجنة أو خلاص من النار و إنما يكون متعلق قلبه هو الله تعالى في معبوديته، فالإخلاص لله في دينه إنما يكون بحبه تعالى. 

  • ثم الحب الذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كل طالب بمطلوبه و كل مريد بمراده إنما يجذب المحب إلى محبوبه ليجده و يتم بالمحبوب ما للمحب من النقص و لا بشرى للمحب أعظم من أن يبشر أن محبوبه يحبه، و عند ذلك يتلاقى حبان، و يتعاكس دلالان. 

  • فالإنسان إنما يحب الغذاء و ينجذب ليجده و يتم به ما يجده في نفسه من النقص الذي آتيه الجوع، و كذا يحب النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الذي علامته الشبق و كذا يريد لقاء الصديق ليجده و يملك لنفسه الأنس و له يضيق صدره، و كذا العبد يحب مولاه و الخادم ربما يتوله لمخدومه ليكون مولى له حق المولوية، و مخدوما له حق المخدومية، و لو تأملت موارد التعلق و الحب أو قرأت قصص العشاق و المتولهين على اختلافهم لم تشك في صدق ما ذكرناه. 

  • فالعبد المخلص لله بالحب لا بغية له إلا أن يحبه الله سبحانه كما أنه يحب الله و يكون الله له كما يكون هو لله عز اسمه فهذا هو حقيقة الأمر غير أن الله سبحانه لا يعد في كلامه كل حب له حبا و (الحب‌ في الحقيقة هو العلقة الرابطة التي تربط أحد الشيئين بالآخر) على ما يقضي به ناموس الحب الحاكم في الوجود فإن حب الشي‌ء يقتضي حب جميع ما يتعلق به، و يوجب الخضوع و التسليم لكل ما هو في جانبه، و الله سبحانه هو الله الواحد الأحد الذي يعتمد عليه كل شي‌ء في جميع شئون وجوده و يبتغي إليه الوسيلة و يصير إليه كل ما دق و جل، فمن الواجب أن يكون حبه و الإخلاص له بالتدين له بدين التوحيد و طريق الإسلام على قدر ما يطيقه إدراك الإنسان و شعوره، و إن الدين عند الله الإسلام، و هذا هو الدين الذي يندب إليه سفراؤه، و يدعو إليه أنبياؤه و رسله، و خاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه، و هو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع و طرق النبوة كما يختم بصادعه الأنبياء (عليه السلام)، و هذا الذي ذكرناه مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه تعالى. 

تفسير الميزان ج۳

159
  • و قد عرف النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد، و طريقة الإخلاص على ما أمره الله سبحانه حيث قال: {قُلْ هذِهِ سبِيلِي أدْعُوا إِلى اللّهِ على‌ بصِيرةٍ أنا و منِ اِتّبعنِي و سُبْحان اللّهِ و ما أنا مِن الْمُشْرِكِين} يوسف - ١٠٨، فذكر أن سبيله‌ الدعوة إلى الله على بصيرة و الإخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة و إخلاص، و اتباعه و اقتفاء أثره إنما هو في ذلك فهو صفة من اتبعه. 

  • ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له (صلى الله عليه وآله و سلم)هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة و الإخلاص فقال: {ثُمّ جعلْناك على‌ شرِيعةٍ مِن الْأمْرِ فاتّبِعْها} الجاثية - ١٨، و ذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال: {فإِنْ حاجُّوك فقُلْ أسْلمْتُ وجْهِي لِلّهِ و منِ اِتّبعنِ} آل عمران - ٢٠، ثم نسبه إلى نفسه و بين أنه صراطه المستقيم فقال: {و أنّ هذا صِراطِي مُسْتقِيماً فاتّبِعُوهُ} الأنعام - ١٥٣، فتبين بذلك كله أن (الإسلام‌ و هو الشريعة المشرعة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)الذي هو مجموع المعارف الأصلية و الخلقية و العملية و سيرته في الحيوة) هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد و يبتني على الحب، فهو دين الإخلاص، و هو دين الحب. 

  • و من جميع ما تقدم على طوله يظهر معنى الآية التي نحن بصدد تفسيرها، أعني قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون اللّه فاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}، فالمراد و الله أعلم إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب الذي ممثله الإخلاص و الإسلام و هو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى، فإن اتبعتموني في سبيلي و شأنه هذا الشأن أحبكم الله و هو أعظم البشارة للمحب، و عند ذلك تجدون ما تريدون، و هذا هو الذي يبتغيه محب بحبه، هذا هو الذي تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها. 

  • و أما بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء و ارتباطها بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعي في تحققها تحقق الحب بين الإنسان و بين من يتولى كما تقدم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتباع النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)إن كانوا صادقين في دعواهم ولاية الله و أنهم من حزبه فإن ولاية الله لا يتم باتباع الكافرين في أهوائهم (و لا ولاية إلا باتباع) و ابتغاء ما عندهم من مطامع الدنيا من عز و مال بل تحتاج إلى اتباع نبيه في دينه كما قال تعالى: {ثُمّ جعلْناك على‌ شرِيعةٍ مِن الْأمْرِ فاتّبِعْها و لا تتّبِعْ أهْواء الّذِين 

تفسير الميزان ج۳

160
  • لا يعْلمُون إِنّهُمْ لنْ يُغْنُوا عنْك مِن اللّهِ شيْئاً و إِنّ الظّالِمِين بعْضُهُمْ أوْلِياءُ بعْضٍ و اللّهُ ولِيُّ الْمُتّقِين} الجاثية - ١٩، انظر إلى الانتقال من معنى الاتباع إلى معنى الولاية في الآية الثانية. 

  • فمن الواجب على من يدعي ولاية الله بحبه أن يتبع الرسول حتى ينتهي ذلك إلى ولاية الله له بحبه. 

  • و إنما ذكر حب الله دون ولايته لأنه الأساس الذي تبتني عليه الولاية، و إنما اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لأن ولاية النبي و المؤمنين تئول بالحقيقة إلى ولاية الله. 

  • قوله تعالى: {و يغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبكُمْ و اللّهُ غفُورٌ رحِيمٌ}، الرحمة الواسعة الإلهية و ما عنده من الفيوضات المعنوية و الصورية غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو صنف من أشخاص عباده و أصنافهم، و لا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته، و لا سبيل يلزمه على الإمساك إلا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو مانع أبداه بسوء اختياره، قال تعالى: {و ما كان عطاءُ ربِّك محْظُوراً} الإسراء - ٢٠. 

  • و الذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامة القرب و الزلفى و جميع الأمور التي هي من توابعها كالجنة و ما فيها، و إزالة رينها عن قلب الإنسان و مغفرتها و سترها عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة و الدخول في دار الكرامة، و لذلك عقب قوله: {يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} بقوله: {و يغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبكُمْ}، فإن الحب كما تقدم يجذب المحب إلى المحبوب، و كما كان حب العبد لربه يستدعي منه التقرب بالإخلاص له و قصر العبودية فيه كذلك حبه تعالى لعبده يستدعي قربه من العبد، و كشفه حجب البعد و سبحات الغيبة، و لا حجاب إلا الذنب فيستدعي ذلك مغفرة الذنوب، و أما ما بعده من الكرامة و الإفاضة فالجود كاف فيه كما تقدم آنفا. 

  • و التأمل في قوله تعالى: {كلاّ بلْ ران على‌ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يكْسِبُون كلاّ إِنّهُمْ عنْ ربِّهِمْ يوْمئِذٍ لمحْجُوبُون} المطففين - ١٥ مع قوله تعالى في هذه الآية: {يُحْبِبْكُمُ اللّهُ و يغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبكُمْ} كاف في تأييد ما ذكرناه. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أطِيعُوا اللّه و الرّسُول}، إلخ لما كانت الآية السابقة تدعو إلى 

تفسير الميزان ج۳

161
  • اتباع الرسول، و الاتباع‌ 

  • و هو اقتفاء الأثر لا يتم إلا مع كون المتبع (اسم مفعول) سألك سبيل، و السبيل الذي يسلكه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)إنما هو الصراط المستقيم الذي هو لله سبحانه، و هو الشريعة التي شرعها لنبيه و افترض طاعته فيه كرر ثانيا في هذه الآية معنى اتباع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)في قالب الإطاعة إشعارا بأن سبيل الإخلاص الذي هو سبيل النبي هو بعينه مجموع أوامر و نواه و دعوة و إرشاد فيكون اتباع الرسول في سلوك سبيله هو إطاعة الله و رسوله في الشريعة المشرعة. و لعل ذكره تعالى مع الرسول للإشعار بأن الأمر واحد، و ذكر الرسول معه سبحانه لأن الكلام في اتباعه. 

  • و من هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية: أن المعنى: أطيعوا الله في كتابه و الرسول في سنته. 

  • و ذلك أنه مناف لما يلوح من المقام من أن قوله: {قُلْ أطِيعُوا اللّه و الرّسُول} إلخ، كالمبين لقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون اللّه فاتّبِعُونِي}، على أن الآية مشعرة بكون إطاعة الله و إطاعة الرسول واحدة، و لذا لم يكرر الأمر، و لو كان مورد الإطاعة مختلفا في الله و رسوله لكان الأنسب أن يقال: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول كما في قوله تعالى: {أطِيعُوا اللّه و أطِيعُوا الرّسُول و أُولِي الْأمْرِ مِنْكُمْ} النساء - ٥٩، كما لا يخفى. 

  • و اعلم أن الكلام في هذه الآية من حيث إطلاقها و من حيث انطباقها على المورد نظير الكلام في الآية السابقة. 

  • قوله تعالى: {فإِنْ تولّوْا فإِنّ اللّه لا يُحِبُّ الْكافِرِين}، فيه دلالة على كفر المتولي عن هذا الأمر كما يدل على ذلك سائر آيات النهي عن تولي الكفار و فيه أيضا إشعار بكون هذه الآية كالمبينة لسابقتها حيث ختمت بنفي الحب عن الكافرين بأمر الإطاعة، و قد كانت الآية الأولى متضمنة لإثبات الحب للمؤمنين المنقادين لأمر الاتباع فافهم ذلك. 

  • و قد تبين من الكلام في هذه الآيات الكريمة أمور: 

  • أحدها: الرخصة في التقية في الجملة. 

  • و ثانيها: أن مؤاخذة تولي الكفار و التمرد عن النهي فيه لا يتخلف البتة، 

تفسير الميزان ج۳

162
  • و هي من القضاء الحتم. 

  • و ثالثها: أن الشريعة الإلهية ممثلة للإخلاص لله و الإخلاص له ممثل لحب الله سبحانه، و بعبارة أخرى الدين الذي هو مجموع المعارف الإلهية و الأمور الخلقية و الأحكام العملية على ما فيها من العرض العريض لا ينتهي بحسب التحليل إلا إلى الإخلاص فقط، و هو وضع الإنسان ذاته و صفات ذاته (و هي الأخلاق) و أعمال ذاته و أفعاله على أساس أنها لله الواحد القهار، و الإخلاص المذكور لا يحلل إلا إلى الحب، هذا من جهة التحليل. و من جهة التركيب ينتهي الحب إلى الإخلاص، و الإخلاص إلى مجموع الشريعة، كما أن الدين بنظر آخر ينحل إلى التسليم و التسليم إلى التوحيد. 

  • و رابعها: أن تولي الكافرين كفر و المراد به الكفر في الفروع دون الأصول ككفر مانع الزكاة و تارك الصلوة و يمكن أن يكون كفر المتولي بعناية ما ينجر إليه أمر التولي على ما مر بيانه، و سيأتي في سورة المائدة. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور:في قوله تعالى: {لا يتّخِذِ الْمُؤْمِنُون الْكافِرِين أوْلِياء} (الآية) أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف و ابن أبي الحقيق و قيس بن زيد و قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر و عبد الله بن جبير و سعد بن خثيمة لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، و احذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر فأنزل الله: {لا يتّخِذِ الْمُؤْمِنُون الْكافِرِين} إلى قوله: {و اللّهُ على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ قدِيرٌ}

  • أقول: الرواية لا تلائم ظاهر الآية لما تقدم أن الكافرين في القرآن غير معلوم الإطلاق على‌ أهل الكتاب، فأولى بالقصة أن تكون سببا لنزول الآيات الناهية عن اتخاذ اليهود و النصارى أولياء دون هذه الآيات.

  • و في الصافي: في قوله تعالى: {إِلاّ أنْ تتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} (الآية) عن كتاب الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: و أمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله يقول: 

تفسير الميزان ج۳

163
  • و إياك ثم إياك أن تتعرض للهلاك، و أن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك شائط بدمك و دماء إخوانك، معرض لزوال نعمك و نعمهم، مذلهم في أيدي أعداء دين الله و قد أمرك الله بإعزازهم‌

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: كان رسول الله يقول: لا دين لمن لا تقية له، و يقول: قال الله: {إِلاّ أنْ تتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً}.

  • و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): التقية في كل شي‌ء يضطر إليه ابن آدم و قد أحل الله له

  • أقول: و الأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا ربما بلغت حد التواتر، و قد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع.

  • و في معاني الأخبار، عن سعيد بن يسار قال: قال لي أبو عبد الله: هل الدين إلا الحب؟ إن الله عز و جل يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون اللّه فاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}

  • أقول: و رواه في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) و كذا القمي و العياشي في تفسيريهما، عن الحذاء عنه (عليه السلام) و كذا العياشي في تفسيره، عن بريد عنه (عليه السلام)، و عن ربعي عن الصادق (عليه السلام)، و الرواية تؤيد ما أوضحناه في البيان المتقدم.

  • و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام)قال: ما أحب الله من عصاه ثم تمثل بقوله: 

  • تعصي الإله و أنت تظهر حبه***هذا لعمري في الفعال بديع
  • لو كان حبك صادقا لأطعته***إن المحب لمن يحب مطيع‌ 
  • و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: و من سره أن يعلم أن الله يحبه فليعمل بطاعة الله و ليتبعنا، أ لم يسمع قول الله عز و جل لنبيه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون اللّه فاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ و يغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبكُمْ} (الحديث). 

  • أقول: و سيأتي بيان كون اتباعهم اتباع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الكلام على قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا أطِيعُوا اللّه و أطِيعُوا الرّسُول و أُولِي الْأمْرِ مِنْكُمْ} (الآية) النساء - ٥٩. 

  • و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): 

تفسير الميزان ج۳

164
  • من رغب عن سنتي فليس مني ثم تلا هذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون اللّه فاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} إلى آخر الآية.

  • و فيه أيضا أخرج ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الحلية و الحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء و أدناه‌ أن يحب على شي‌ء من الجور، و يبغض على شي‌ء من العدل، و هل الدين إلا الحب و البغض في الله؟ قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون اللّه فاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}.

  • و فيه أيضا أخرج أحمد و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و ابن حبان و الحاكم عن أبي رافع عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)قال: لا ألقين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه.

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٣٣ الی ٣٤ ] 

  • {إِنّ اللّه اِصْطفى‌ آدم و نُوحاً و آل إِبْراهِيم و آل عِمْران على الْعالمِين ٣٣ ذُرِّيّةً بعْضُها مِنْ بعْضٍ و اللّهُ سمِيعٌ علِيمٌ ٣٤} 

  • (بيان‌) 

  • افتتاح لقصص عيسى بن مريم و ما يلحق بها و ذكر حق القول فيها، و الاحتجاج على أهل الكتاب فيها، و بالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب. 

  • قوله تعالى: {إِنّ اللّه اِصْطفى‌ آدم و نُوحاً} إلى آخر الآية الاصطفاء كما مر بيانه في قوله تعالى: {لقدِ اِصْطفيْناهُ فِي الدُّنْيا} البقرة - ١٣٠، أخذ صفوة الشي‌ء و تخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار، و ينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام، و هو جري العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له. 

  • لكن ذلك غير الاصطفاء على العالمين، و لو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال: من العالمين، و أفاد اختصاص الإسلام بهم و اختل 

تفسير الميزان ج۳

165
  • معنى الكلام، فالاصطفاء على العالمين، نوع اختيار و تقديم لهم عليهم في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم. 

  • و من الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى: {و إِذْ قالتِ الْملائِكةُ يا مرْيمُ إِنّ اللّه اِصْطفاكِ و طهّركِ و اِصْطفاكِ على‌ نِساءِ الْعالمِين} آل عمران - ٤٢، حيث فرق بين الاصطفاءين فالاصطفاء غير الاصطفاء. 

  • و قد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم و نوحا، فأما آدم فقد اصطفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض، قال تعالى: {و إِذْ قال ربُّك لِلْملائِكةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأرْضِ خلِيفةً} البقرة - ٣٠، و أول من فتح به باب التوبة. قال تعالى: {ثُمّ اِجْتباهُ ربُّهُ فتاب عليْهِ و هدى‌} طه - ١٢٢، و أول من شرع له الدين، قال تعالى: {فإِمّا يأْتِينّكُمْ مِنِّي هُدىً فمنِ اِتّبع هُداي فلا يضِلُّ و لا يشْقى‌} الآيات: طه - ١٢٣، فهذه أمور لا يشاركه فيها غيره، و يا لها من منقبة له (عليه السلام). 

  • و أما نوح فهو أول الخمسة أولي العزم صاحب الكتاب و الشريعة كما مر بيانه في تفسير قوله تعالى: {كان النّاسُ أُمّةً واحِدةً فبعث اللّهُ النّبِيِّين} البقرة - ٢١٣، و هو الأب الثاني لهذا النوع، و قد سلم الله تعالى عليه في العالمين، قال تعالى: {و جعلْنا ذُرِّيّتهُ هُمُ الْباقِين و تركْنا عليْهِ فِي الْآخِرِين سلامٌ على‌ نُوحٍ فِي الْعالمِين} الصافات - ٧٩. 

  • ثم ذكر سبحانه آل إبراهيم و آل عمران من هؤلاء المصطفين، و الآل‌ خاصة الشي‌ء، قال الراغب في المفردات: الآل قيل مقلوب عن الأهل، و يصغر على أهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات و دون الأزمنة و الأمكنة، يقال آل فلان و لا يقال: آل رجل و آل زمان كذا، أو موضع كذا، و لا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل، يقال آل الله و آل السلطان، و الأهل يضاف إلى الكل، يقال: أهل الله و أهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا و بلد كذا، و قيل هو في الأصل اسم الشخص و يصغر أويلا، و يستعمل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة، فالمراد بآل إبراهيم و آل عمران خاصتهما من أهلهما و الملحقين بهما على ما عرفت. 

  • فأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته‌ كإسحاق و إسرائيل 

تفسير الميزان ج۳

166
  • و الأنبياء من بني إسرائيل و إسماعيل و الطاهرون من ذريته، و سيدهم محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الملحقون بهم في مقامات الولاية إلا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدل على أنه لم يستعمل على تلك السعة فإن عمران هذا إما هو أبو مريم أو أبو موسى (عليه السلام)، و على أي تقدير هو من ذرية إبراهيم و كذا آله و قد أخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذريته الطاهرين لا جميعهم. 

  • و قد قال الله تعالى فيما قال: {أمْ يحْسُدُون النّاس على‌ ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فضْلِهِ فقدْ آتيْنا آل إِبْراهِيم الْكِتاب و الْحِكْمة و آتيْناهُمْ مُلْكاً عظِيماً} النساء - ٥٤، و الآية في مقام الإنكار على بني إسرائيل و ذمهم كما يتضح بالرجوع إلى سياقها و ما يحتف بها من الآيات، و من ذلك يظهر أن المراد من آل إبراهيم فيها غير بني إسرائيل أعني غير إسحاق و يعقوب و ذرية يعقوب و هم (أي ذرية يعقوب) بنو إسرائيل فلم يبق لآل إبراهيم إلا الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، و فيهم النبي و آله. 

  • على أنا سنبين إن شاء الله أن المراد بالناس في الآية هو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و أنه داخل في آل إبراهيم بدلالة الآية. 

  • على أنه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: {إِنّ أوْلى النّاسِ بِإِبْراهِيم للّذِين اِتّبعُوهُ و هذا النّبِيُّ و الّذِين آمنُوا} (الآية) آل عمران - ٦٨، و قوله تعالى: {و إِذْ يرْفعُ إِبْراهِيمُ الْقواعِد مِن الْبيْتِ و إِسْماعِيلُ ربّنا تقبّلْ مِنّا إِنّك أنْت السّمِيعُ الْعلِيمُ، ربّنا و اِجْعلْنا مُسْلِميْنِ لك و مِنْ ذُرِّيّتِنا أُمّةً مُسْلِمةً لك و أرِنا مناسِكنا} إلى أن قال: {ربّنا و اِبْعثْ فِيهِمْ رسُولاً مِنْهُمْ يتْلُوا عليْهِمْ آياتِك و يُعلِّمُهُمُ الْكِتاب و الْحِكْمة و يُزكِّيهِمْ} الآيات: البقرة - ١٢٩. 

  • فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، و الآية ليست في مقام الحصر فلا تنافي بين عدم تعرضها لاصطفاء نفس إبراهيم و اصطفاء موسى و سائر الأنبياء الطاهرين من ذريته من طريق إسحاق و بين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم و سمو شأنهم و علو مقامهم، و هي آيات متكثرة جدا لا حاجة إلى إيرادها، فإن إثبات الشي‌ء لا يستلزم نفي ما عداه. 

  • و كذا لا ينافي مثل ما ورد في بني إسرائيل من قوله تعالى: {و لقدْ آتيْنا بنِي 

تفسير الميزان ج۳

167
  • إِسْرائِيل الْكِتاب و الْحُكْم و النُّبُوّة و رزقْناهُمْ مِن الطّيِّباتِ و فضّلْناهُمْ على الْعالمِين} الجاثية - ١٦، كل ذلك ظاهر. 

  • و لا أن تفضيلهم على العالمين ينافي تفضيل غيرهم على العالمين، و لا تفضيل غيرهم عليهم فإن تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنما يستلزم تقدمهم في فضيلة دنيوية أو أخروية على من دونهم من الناس، و لو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعني آدم و نوح و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافي بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، و هو ظاهر. 

  • و لا أن تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافي وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضل الله النبيين على سائر العالمين و فضل بعضهم على بعض، قال تعالى: {و كلاًّ فضّلْنا على الْعالمِين} الأنعام - ٨٦، و قال أيضا: {و لقدْ فضّلْنا بعْض النّبِيِّين على‌ بعْضٍ} إسراء - ٥٥. 

  • و أما آل عمران فالظاهر أن المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات التي تذكر قصة امرأة عمران و مريم ابنة عمران، و قد تكرر ذكر عمران أبي مريم باسمه في القرآن الكريم، و لم يرد ذكر عمران أبي موسى حتى في موضع واحد يتعين فيه كونه هو المراد بعينه، و هذا يؤيد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم (عليه السلام)و على هذا فالمراد بآل عمران هو مريم و عيسى (عليه السلام)أو هما و زوجة عمران. 

  • و أما ما يذكر أن النصارى غير معترفين بكون اسم أبي مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم. 

  • قوله تعالى: {ذُرِّيّةً بعْضُها مِنْ بعْضٍ}، الذرية في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثم استعملت في مطلق الأولاد و هو المعنى المراد في الآية، و هي منصوبة عطف بيان. 

  • و في قوله: {بعْضُها مِنْ بعْضٍ}، دلالة على أن كل بعض فرض منها يبتدئ و ينتهي من البعض الآخر و إليه. و لازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه و حالاته، و إذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنهم ذرية لا يفترقون في صفات الفضيلة التي اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف و لا لعب 

تفسير الميزان ج۳

168
  • في الأفعال الإلهية، و منها الاصطفاء الذي هو منشأ خيرات هامة في العالم. 

  • قوله تعالى: {و اللّهُ سمِيعٌ علِيمٌ}، أي سميع بأقوالهم الدالة على باطن ضمائرهم، عليم بباطن ضمائرهم و ما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم، كما أن قوله: {ذُرِّيّةً بعْضُها مِنْ بعْضٍ}، بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة، فالمحصل من الكلام: أن الله اصطفى هؤلاء على العالمين، و إنما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنهم ذرية متشابهة الأفراد، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب و ثبات القول بالحق، و إنما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنه سميع عليم يسمع أقوالهم و يعلم ما في قلوبهم. 

  • (بحث روائي) 

  • في العيون، في حديث الرضا مع المأمون، فقال المأمون: هل فضل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن: إن الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه، فقال المأمون: أين ذلك في كتاب الله؟ فقال له الرضا (عليه السلام) في قوله: {إِنّ اللّه اِصْطفى‌ آدم و نُوحاً و آل إِبْراهِيم و آل عِمْران على الْعالمِين ذُرِّيّةً بعْضُها مِنْ بعْضٍ} (الحديث).

  • و في تفسير العياشي، عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبي جعفر (عليه السلام): من زعم أنه فرغ من الأمر فقد كذب لأن المشية لله في خلقه، يريد ما يشاء و يفعل ما يريد، قال الله: {ذُرِّيّةً بعْضُها مِنْ بعْضٍ و اللّهُ سمِيعٌ علِيمٌ}، آخرها من أولها و أولها من آخرها فإذا أخبرتم بشي‌ء منها بعينه أنه كائن و كان في غيره منه فقد وقع الخبر على ما أخبرتم عنه.

  • أقول: و فيه دلالة على ما تقدم في البيان السابق من معنى قوله: {ذُرِّيّةً بعْضُها مِنْ بعْضٍ} الآية.

  • و فيه أيضا عن الباقر (عليه السلام): أنه تلا هذه الآية فقال: نحن منهم و نحن بقية تلك العترة.

  • أقول: قوله (عليه السلام): و نحن بقية تلك العترة، العترة بحسب الأصل في معناها الأصل الذي يعتمد عليه الشي‌ء، و منه العترة للأولاد و الأقارب الأدنين ممن مضى، و بعبارة أخرى العمود المحفوظ في العشيرة، و منه يظهر أنه (عليه السلام)استفاد من قوله 

تفسير الميزان ج۳

169
  • تعالى: {ذُرِّيّةً بعْضُها مِنْ بعْضٍ}، أنها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم و آل عمران، و من هنا يظهر النكتة في ذكر آدم و نوح مع آل إبراهيم و عمران فهي إشارة إلى اتصال السلسلة في الاصطفاء.

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٣٥ الی ٤١] 

  • {إِذْ قالتِ اِمْرأتُ عِمْران ربِّ إِنِّي نذرْتُ لك ما فِي بطْنِي مُحرّراً فتقبّلْ مِنِّي إِنّك أنْت السّمِيعُ الْعلِيمُ ٣٥ فلمّا وضعتْها قالتْ ربِّ إِنِّي وضعْتُها أُنْثى‌ و اللّهُ أعْلمُ بِما وضعتْ و ليْس الذّكرُ كالْأُنْثى‌ و إِنِّي سمّيْتُها مرْيم و إِنِّي أُعِيذُها بِك و ذُرِّيّتها مِن الشّيْطانِ الرّجِيمِ ٣٦ فتقبّلها ربُّها بِقبُولٍ حسنٍ و أنْبتها نباتاً حسناً و كفّلها زكرِيّا كُلّما دخل عليْها زكرِيّا الْمِحْراب وجد عِنْدها رِزْقاً قال يا مرْيمُ أنّى لكِ هذا قالتْ هُو مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنّ اللّه يرْزُقُ منْ يشاءُ بِغيْرِ حِسابٍ ٣٧ هُنالِك دعا زكرِيّا ربّهُ قال ربِّ هبْ لِي مِنْ لدُنْك ذُرِّيّةً طيِّبةً إِنّك سمِيعُ الدُّعاءِ ٣٨ فنادتْهُ الْملائِكةُ و هُو قائِمٌ يُصلِّي فِي الْمِحْرابِ أنّ اللّه يُبشِّرُك بِيحْيى‌ مُصدِّقاً بِكلِمةٍ مِن اللّهِ و سيِّداً و حصُوراً و نبِيًّا مِن الصّالِحِين ٣٩ قال ربِّ أنّى يكُونُ لِي غُلامٌ و قدْ بلغنِي الْكِبرُ و اِمْرأتِي عاقِرٌ قال كذلِك اللّهُ يفْعلُ ما يشاءُ ٤٠قال ربِّ اِجْعلْ لِي آيةً قال آيتُك ألاّ تُكلِّم النّاس ثلاثة أيّامٍ إِلاّ رمْزاً و اُذْكُرْ ربّك كثِيراً و سبِّحْ بِالْعشِيِّ و الْإِبْكارِ ٤١} 

تفسير الميزان ج۳

170
  • (بيان‌) 

  • قوله تعالى: {إِذْ قالتِ اِمْرأتُ عِمْران ربِّ إِنِّي نذرْتُ لك ما فِي بطْنِي مُحرّراً فتقبّلْ مِنِّي إِنّك أنْت السّمِيعُ الْعلِيمُ}، النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب. و التحرير هو الإطلاق عن وثاق، و منه تحرير العبد عن الرقية، و تحرير الكتاب كأنه إطلاق للمعاني عن محفظة الذهن و الفكر. و التقبل‌ هو القبول عن رغبة و رضى كتقبل الهدية و تقبل الدعاء و نحو ذلك. 

  • و في قوله: {قالتِ اِمْرأتُ عِمْران ربِّ إِنِّي نذرْتُ لك ما فِي بطْنِي}، دلالة على أنها إنما قالت هذا القول حينما كانت حاملا، و أن حملها كان من عمران، و لا يخلو الكلام من إشعار بأن زوجها عمران لم يكن حيا عندئذ و إلا لم يكن لها أن تستقل بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدل عليه أيضا ما سيأتي من قوله تعالى: {و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقْلامهُمْ أيُّهُمْ يكْفُلُ مرْيم} (الآية) آل عمران - ٤٤، على ما سيجي‌ء من البيان. 

  • و من المعلوم أن تحرير الأب أو الأم للولد ليس تحريرا عن الرقية و إنما هو تحرير عن قيد الولاية التي للوالدين على الولد من حيث تربيته و استعماله في مقاصدهما و افتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلط أبويه عليه في استخدامه، و إذا كان التحرير منذورا لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده و يخدمه، أي يخدم في البيع و الكنائس و الأماكن المختصة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لو لا التحرير، و قد قيل: إنهم كانوا يحررون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما: و لا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها و يخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين الإقامة و الرواح فإن أحب أن يقيم أقام، و إن أحب الرواح ذهب لشأنه. 

  • و في الكلام دلالة على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكر لا إناث حيث إنها تناجي ربها عن جزم و قطع من غير اشتراط و تعليق حيث تقول: {نذرْتُ لك ما فِي بطْنِي مُحرّراً} من غير أن تقول مثلا إن كان ذكرا و نحو ذلك. 

  • و ليس تذكير قوله: {مُحرّراً}، من جهة كونه حالا عن ما الموصولة التي يستوي فيه المذكر و المؤنث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكرا أو أنثى لم 

تفسير الميزان ج۳

171
  • يكن وجه لما قالتها تحزنا و تحسرا لما وضعتها: {ربِّ إِنِّي وضعْتُها أُنْثى‌}، و لا وجه ظاهر لقوله تعالى: {و اللّهُ أعْلمُ بِما وضعتْ و ليْس الذّكرُ كالْأُنْثى‌}، على ما سيجي‌ء بيانه. 

  • و في حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أن اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتمادا على بعض القرائن الحدسية التي تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب و نحوه فكل ذلك ظن، و الظن لا يغني من الحق شيئا، و كلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلا مع إبطاله، و قد قال تعالى: {اللّهُ يعْلمُ ما تحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‌ و ما تغِيضُ الْأرْحامُ و ما تزْدادُ} الرعد - ٨، و قال تعالى: {عِنْدهُ عِلْمُ السّاعةِ و يُنزِّلُ الْغيْث و يعْلمُ ما فِي الْأرْحامِ} لقمان - ٣٤، فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختص به تعالى، و قال تعالى: {عالِمُ الْغيْبِ فلا يُظْهِرُ على‌ غيْبِهِ أحداً إِلاّ منِ اِرْتضى‌} الجن - ٢٧، فجعل علم غيره بالغيب منتهيا إلى الوحي فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختص علمه بالله سبحانه يدل على أن علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهي بوجه إلى الوحي، و لذلك لما تبينت أن الولد أنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانيا عن جزم و قطع: {و إِنِّي أُعِيذُها بِك و ذُرِّيّتها مِن الشّيْطانِ الرّجِيمِ} (الآية) فأثبتت لها ذرية و لا سبيل إلى العلم به ظاهرا. 

  • و مفعول قولها: {فتقبّلْ مِنِّي}، و إن كان محذوفا محتملا لأن يكون هو. 

  • نذرها من حيث إنه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرر لكن‌ قوله تعالى: {فتقبّلها ربُّها بِقبُولٍ حسنٍ}، لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرر. 

  • قوله تعالى: {فلمّا وضعتْها قالتْ ربِّ إِنِّي وضعْتُها أُنْثى‌}، في وضع الضمير المؤنث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف، و المعنى فلما وضعت ما في بطنها و تبينت أنه أنثى قالت: {ربِّ إِنِّي وضعْتُها أُنْثى‌}، و هو خبر أريد به التحسر و التحزن دون الإخبار و هو ظاهر. 

  • قوله تعالى: {و اللّهُ أعْلمُ بِما وضعتْ و ليْس الذّكرُ كالْأُنْثى‌}، جملتان معترضتان و هما جميعا مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران، و لا أن الثانية مقولة لها و الأولى مقولة لله. 

  • أما الأولى فهي ظاهرة لكن لما كانت قولها: {ربِّ إِنِّي وضعْتُها أُنْثى‌}، مسوقا لإظهار التحسر كان ظاهر قوله: {و اللّهُ أعْلمُ بِما وضعتْ}، أنه مسوق لبيان أنا نعلم أنها 

تفسير الميزان ج۳

172
  • أنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمناه بأحسن وجه و أرضى طريق، و لو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها أنثى لم تتحسر و لم تحزن ذاك التحسر و التحزن و الحال أن الذكر الذي كانت ترجوه لم يكن ممكنا أن يصير مثل هذا الأنثى التي وهبناها لها، و يترتب عليه ما يترتب على خلق هذه الأنثى فإن غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبيا مبرئا للأكمه و الأبرص و محييا للموتى لكن هذه الأنثى ستتم به كلمة الله و تلد ولدا بغير أب، و تجعل هي و ابنها آية للعالمين، و يكلم الناس في المهد، و يكون روحا و كلمة من الله، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة و خلق ابنها عيسى (عليه السلام). 

  • و من هنا يظهر: أن قوله: {و ليْس الذّكرُ كالْأُنْثى‌}، مقول له تعالى لا لامرأة عمران، و لو كان مقولا لها لكان حق الكلام أن يقال: و ليس الأنثى كالذكر لا بالعكس و هو ظاهر فإن من كان يرجو شيئا شريفا أو مقاما عاليا ثم رزق ما هو أخس منه و أردأ إنما يقول عند التحسر: ليس هذا الذي وجدته هو الذي كنت أطلبه و أبتغيه، أو ليس ما رزقته كالذي كنت أرجوه، و لا يقول: ليس ما كنت أرجوه كهذا الذي رزقته البتة، و ظهر من ذلك أن اللام في الذكر و الأنثى معا أو في الأنثى فقط للعهد. 

  • و قد أخذ أكثر المفسرين قوله: {و ليْس الذّكرُ كالْأُنْثى‌}، تتمة قول امرأة عمران، و تكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الأنثى بما لا يرجع إلى محصل، من أراده فليرجع إلى كتبهم. 

  • قوله تعالى: {و إِنِّي سمّيْتُها مرْيم و إِنِّي أُعِيذُها بِك و ذُرِّيّتها مِن الشّيْطانِ الرّجِيمِ}، معنى مريم‌ في لغتهم العابدة و الخادمة على ما قيل، و منه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع، و وجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنها لما أيست من كون الولد ذكرا محررا للعبادة و خدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية و أعدتها بالتسمية للعبادة و الخدمة. فقولها: {و إِنِّي سمّيْتُها مرْيم} بمنزلة أن تقول: إني جعلت ما وضعتها محررة لك، و الدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى: {فتقبّلها ربُّها بِقبُولٍ حسنٍ و أنْبتها نباتاً حسناً} الآية. 

  • ثم أعاذتها و ذريتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة و الخدمة و يطابق اسمها المسمى. 

تفسير الميزان ج۳

173
  • و الكلام في قولها: {و ذُرِّيّتها}، من حيث إنه قول مطلق من شرط و قيد لا يصح أن نتفوه به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الإنسان من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه، نظير الكلام في قولها {ربِّ إِنِّي نذرْتُ لك ما فِي بطْنِي مُحرّراً}، على ما تقدم بيانه‌ فليس إلا أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولدا ذكرا صالحا ثم لما حملت و توفي عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود، ثم لما وضعتها و بان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحولت نذرها من الابن إلى البنت، و سمتها مريم (العابدة، الخادمة) و أعاذتها و ذريتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه تعالى. 

  • قوله تعالى: {فتقبّلها ربُّها بِقبُولٍ حسنٍ و أنْبتها نباتاً حسناً}، القبول إذا قيد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذي معناه القبول عن الرضا، فالكلام في معنى قولنا: فتقبلها ربها تقبلا فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن القبول مقصود في الكلام، و لما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز. 

  • و حيث قوبل بهاتين الجملتين أعني قوله: {فتقبّلها} إلى قوله: {حسناً}، الجملتان في قولها: {و إِنِّي سمّيْتُها} إلى قولها: {الرّجِيمِ} كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله: {فتقبّلها ربُّها بِقبُولٍ حسنٍ}، قبولا لقولها و إني سميتها مريم، و قوله: {و أنْبتها نباتاً حسناً}، قبولا و إجابة لقولها: {و إِنِّي أُعِيذُها بِك و ذُرِّيّتها مِن الشّيْطانِ الرّجِيمِ}، فالمراد بتقبلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران بالنذر، و إعطاء الثواب الأخروي لعملها فإن القبول إنما نسب إلى مريم لا إلى النذر و هو ظاهر بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم و محررة فيعود معناه إلى اصطفائها (و قد مر أن معنى الاصطفاء هو التسليم التام لله سبحانه) فافهم ذلك. 

  • و المراد بإنباتها نباتا حسنا إعطاء الرشد و الزكاة لها و لذريتها، و إفاضة الحيوة لها و لمن ينمو منها من الذرية حيوة لا يمسها نفث الشيطان و رجس تسويله و وسوسته، و هو الطهارة. 

  • و هذان أعني القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء، و النبات الحسن الراجع إلى التطهير هما اللذان يشير إليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآية: {و إِذْ قالتِ الْملائِكةُ يا مرْيمُ إِنّ اللّه اِصْطفاكِ و طهّركِ} (الآية) و سنوضحه بيانا إن شاء الله العزيز. 

تفسير الميزان ج۳

174
  • فقد تبين أن اصطفاء مريم و تطهيرها إنما هما استجابة لدعوة أمها كما أن اصطفاءها على نساء العالمين في ولادة عيسى، و كونها و ابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى: {و ليْس الذّكرُ كالْأُنْثى‌}

  • قوله تعالى: {و كفّلها زكرِيّا}، و إنما كفلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفلها ثم تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريا كما يدل عليه قوله تعالى: {و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقْلامهُمْ أيُّهُمْ يكْفُلُ مرْيم و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ يخْتصِمُون}، الآية. 

  • قوله تعالى: {كُلّما دخل عليْها زكرِيّا الْمِحْراب وجد عِنْدها رِزْقاً} إلخ المحراب‌ المكان المخصوص بالعبادة من المسجد و البيت، قال الراغب: و محراب المسجد، قيل: سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان و الهوى، و قيل: سمي بذلك لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريبا (أي سليبا) من أشغال الدنيا و من توزع الخاطر، و قيل الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم اتخذت المساجد فسمي صدره به و قيل: بل المحراب أصله في المسجد و هو اسم خص به صدر المجلس‌ فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد، و كان هذا أصح، قال عز و جل: {يعْملُون لهُ ما يشاءُ مِنْ محارِيب و تماثِيل}، انتهى. 

  • و ذكر بعضهم أن المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح، و هو مقصورة في مقدم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة، و يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد. 

  • أقول: و إليه ينتهي اتخاذ المقصورة في الإسلام. 

  • و في تنكير قوله: {رِزْقاً}، إشعار بكونه رزقا غير معهود كما قيل: إنه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، و فاكهة الصيف في الشتاء، و يؤيده أنه لو كان من الرزق المعهود، و كان تنكيره يفيد أنه ما كان يجد محرابها خاليا من الرزق بل كان عندها رزق ما دائما لم يقنع زكريا بقولها: {هُو مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنّ اللّه يرْزُقُ} إلخ في جواب قوله: {يا مرْيمُ أنّى لكِ هذا}، لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممن كان يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيئ. 

تفسير الميزان ج۳

175
  • على أن قوله تعالى: {هُنالِك دعا زكرِيّا ربّهُ} إلخ، يدل على أن زكريا تلقى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهية خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرية طيبة، فقد كان الرزق رزقا يدل بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة، و مما يشعر بذلك قوله تعالى: {قال يا مرْيمُ} إلخ، على ما سيجي‌ء من البيان. 

  • و قوله: {قال يا مرْيمُ أنّى لكِ}إلخ، فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله: {وجد عِنْدها رِزْقاً}، يدل على أنه (عليه السلام)إنما قال لها ذلك مرة واحدة فأجابت بما قنع به و استيقن أن ذلك كرامة لها و هنالك دعا و سأل ربه ذرية طيبة. 

  • قوله تعالى: {هُنالِك دعا زكرِيّا ربّهُ قال ربِّ هبْ لِي مِنْ لدُنْك ذُرِّيّةً طيِّبةً} إلخ، طيب الشي‌ء ملاءمته لصاحبه فيما يريده لأجله فالبلد الطيب ما يلائم حيوة أهله من حيث الماء و الهواء و الرزق و نحو ذلك، قال تعالى: {و الْبلدُ الطّيِّبُ يخْرُجُ نباتُهُ بِإِذْنِ ربِّهِ} الأعراف - ٥٨، و العيشة الطيبة و الحيوة الطيبة ما يلائم بعض أجزائها بعضا و يسكن إليها قلب صاحبها و منه الطيب للعطر الزكي فالذرية الطيبة هو الولد الصالح لأبيه مثلا الذي يلائم من حيث صفاته و أفعاله ما عند أبيه من الرجاء و الأمنية فقول زكريا (عليه السلام): {ربِّ هبْ لِي مِنْ لدُنْك ذُرِّيّةً طيِّبةً}، لما كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم و خصوص كرامتها على الله و امتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطرا و كرامة، فكون ذريته طيبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله و الشخصية في نفسها، و لذلك استجيب في عين ما سأله من الله، و وهب له يحيى و هو أشبه الأنبياء بعيسى (عليه السلام)، و أجمع الناس لما عند عيسى و أمه مريم الصديقة من صفات الكمال و الكرامة، و من هنا ما سماه تعالى بيحيى و جعله مصدقا بكلمة من الله و سيدا و حصورا و نبيا من الصالحين، و هذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم و ابنها عيسى (عليه السلام)على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى: {فنادتْهُ الْملائِكةُ و هُو قائِمٌ يُصلِّي فِي الْمِحْرابِ أنّ اللّه يُبشِّرُك بِيحْيى‌} إلى آخر الآية، ضمائر الغيبة و الخطاب لزكريا، و البشرى و الإبشار و التبشير الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده. 

  • و قوله: {أنّ اللّه يُبشِّرُك بِيحْيى‌}، دليل على أن تسميته بيحيى إنما هو من جانب 

تفسير الميزان ج۳

176
  • الله سبحانه كما تدل عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم، قال تعالى: {يا زكرِيّا إِنّا نُبشِّرُك بِغُلامٍ اِسْمُهُ يحْيى‌ لمْ نجْعلْ لهُ مِنْ قبْلُ سمِيًّا} مريم - ٧. 

  • و تسميته بيحيى و كون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشر به زكريا قبل تولد يحيى و خلقه يؤيد ما ذكرناه آنفا: أن الذي طلبه زكريا من ربه أن يرزقه ولدا يكون شأنه شأن مريم، و قد كانت مريم هي و ابنها عيسى (عليه السلام)آية واحدة كما قال تعالى: {و جعلْناها و اِبْنها آيةً لِلْعالمِين} الأنبياء - ٩١. 

  • فروعي في يحيى ما روعي فيهما من عند الله سبحانه، و قد روعي في عيسى كمال ما روعي في مريم، فالمرعي في يحيى هو الشبه التام و المحاذاة الكاملة مع عيسى (عليه السلام)فيما يمكن ذلك، و لعيسى في ذلك كله التقدم التام لأن وجوده كان مقدرا قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى‌، و لذلك سبقه عيسى في كونه من أولي العزم صاحب شريعة و كتاب و غير ذلك لكنهما تشابها و تشابه أمرهما فيما يمكن. 

  • و إن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكر الله تعالى من قصتهما في سورة مريم فقال في يحيى: {يا زكرِيّا إِنّا نُبشِّرُك بِغُلامٍ اِسْمُهُ يحْيى‌ لمْ نجْعلْ لهُ مِنْ قبْلُ سمِيًّا} إلى أن قال: {يا يحْيى‌ خُذِ الْكِتاب بِقُوّةٍ و آتيْناهُ الْحُكْم صبِيًّا و حناناً مِنْ لدُنّا و زكاةً و كان تقِيًّا و برًّا بِوالِديْهِ و لمْ يكُنْ جبّاراً عصِيًّا و سلامٌ عليْهِ يوْم وُلِد و يوْم يمُوتُ و يوْم يُبْعثُ حيًّا} مريم - ١٥، و قال في عيسى (عليه السلام): {فأرْسلْنا إِليْها رُوحنا} إلى أن قال: {إِنّما أنا رسُولُ ربِّكِ لِأهب لكِ غُلاماً زكِيًّا} إلى أن قال : {قال ربُّكِ هُو عليّ هيِّنٌ و لِنجْعلهُ آيةً لِلنّاسِ و رحْمةً مِنّا} إلى أن قال : {فأشارتْ إِليْهِ قالُوا كيْف نُكلِّمُ منْ كان فِي الْمهْدِ صبِيًّا قال إِنِّي عبْدُ اللّهِ آتانِي الْكِتاب و جعلنِي نبِيًّا و جعلنِي مُباركاً أيْن ما كُنْتُ و أوْصانِي بِالصّلاةِ و الزّكاةِ ما دُمْتُ حيًّا و برًّا بِوالِدتِي و لمْ يجْعلْنِي جبّاراً شقِيًّا و السّلامُ عليّ يوْم وُلِدْتُ و يوْم أمُوتُ و يوْم أُبْعثُ حيًّا} مريم - ٣٣، و يقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة التي نحن فيها عند التطبيق. 

  • و بالجملة فقد سماه الله سبحانه يحيى‌ و سمى ابن مريم عيسى و هو بمعنى يعيش على ما قيل و جعله مصدقا بكلمة منه و هو عيسى كما قال تعالى: {بِكلِمةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ الْمسِيحُ عِيسى} و آتاه الحكم و علمه الكتاب صبيا كما فعل بعيسى، و عده حنانا من لدنه و زكاة و برا بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك، و سلم عليه في المواطن الثلاث 

تفسير الميزان ج۳

177
  • كعيسى و عده سيدا كما جعل عيسى وجيها عنده، و جعله حصورا و نبيا و من الصالحين مثل عيسى، كل ذلك استجابة لمسألة زكريا و دعوته حيث سأل ذرية طيبة و وليا رضيا عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم و عجيب شأنها و كرامتها على الله كما مر بيانه. 

  • و في قوله: {مُصدِّقاً بِكلِمةٍ مِن اللّهِ} دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم. 

  • و السيد هو الذي يتولى أمر سواد الناس و جماعتهم في أمر حيوتهم و معاشهم أو فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثم غلب استعماله في شريف القوم لما أن التولي المذكور يستلزم شرفا بالحكم أو المال أو فضيلة أخرى. 

  • و الحصور هو الذي لا يأتي النساء و المراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهدا. 

  • قوله تعالى: {قال ربِّ أنّى يكُونُ لِي غُلامٌ و قدْ بلغنِي الْكِبرُ و اِمْرأتِي عاقِرٌ}، استفهام تعجيب و استعلام لحقيقة الحال لا استبعاد و استعظام مع تصريح البشارة بذلك و أن الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنه ذكر هذين الوصفين اللذين جعلهما منشأ للتعجب و الاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال: {ربِّ إِنِّي وهن الْعظْمُ مِنِّي و اِشْتعل الرّأْسُ شيْباً و لمْ أكُنْ بِدُعائِك ربِّ شقِيًّا و إِنِّي خِفْتُ الْموالِي مِنْ ورائِي و كانتِ اِمْرأتِي عاقِراً فهبْ لِي مِنْ لدُنْك ولِيًّا} مريم - ٥. 

  • لكن المقام يمثل معنى آخر فكأنه (عليه السلام)لما انقلب حالا من مشاهدة أمر مريم و تذكر انقطاع عقبه لم يشعر إلا و قد سأل ربه ما سأل و قد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثره و تحزنه و هو بلوغ الكبر، و كون امرأته عاقرا، فلما استجيبت دعوته و بشر بالولد كأنه صحا و أفاق مما كان عليه من الحال، و أخذ يتعجب من ذلك و هو بالغ الكبر و امرأته عاقر، فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس و سيماء الحزن يغيره إلى نظرة التعجب المشوب بالسرور. 

  • على أن ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة و استعلام كيفية رفع واحد واحد منها إنما هو طلب تفهم خصوصيات الإفاضة و الإنعام التذاذا بالنعمة الفائضة بعد 

تفسير الميزان ج۳

178
  • النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرية قال تعالى: {و نبِّئْهُمْ عنْ ضيْفِ إِبْراهِيم إِذْ دخلُوا عليْهِ فقالُوا سلاماً قال إِنّا مِنْكُمْ وجِلُون قالُوا لا توْجلْ إِنّا نُبشِّرُك بِغُلامٍ علِيمٍ قال أ بشّرْتُمُونِي على‌ أنْ مسّنِي الْكِبرُ فبِم تُبشِّرُون قالُوا بشّرْناك بِالْحقِّ فلا تكُنْ مِن الْقانِطِين قال و منْ يقْنطُ مِنْ رحْمةِ ربِّهِ إِلاّ الضّالُّون} الحجر - ٥٦، فذكر في جواب نهي الملائكة إياه عن القنوط أن استفهامه لم يكن عن قنوط كيف و هو غير ضال و القنوط ضلالة، بل السيد إذا أقبل على عبده إقبالا يؤذن بالقرب و الأنس و الكرامة أوجب ذلك انبساطا من العبد و ابتهاجا يستدعي تلذذه من كل حديث و تمتعه في كل باب. 

  • و في قوله: {و قدْ بلغنِي الْكِبرُ}من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنه كناية عن أنه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة و الهرم. و قد اجتمعت في امرأته الكبر و العقر معا فإن ذلك ظاهر قوله: {و كانتِ اِمْرأتِي عاقِراً}، و لم يقل: و امرأتي عاقر. 

  • قوله تعالى: {قال كذلِك اللّهُ يفْعلُ ما يشاءُ}، فاعل قال و إن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحيا أو بواسطة الملائكة الذين كانوا ينادونه فالقول على أي حال قوله تعالى لكن الظاهر أنه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك و قد نسب إليه تعالى لأنه بأمره، و الدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصة: {قال كذلِك قال ربُّك هُو عليّ هيِّنٌ و قدْ خلقْتُك مِنْ قبْلُ و لمْ تكُ شيْئاً} مريم - ٩. 

  • و منه يظهر أولا: أنه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أولا. و ثانيا: أن قوله: {كذلِك}، خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير: الأمر كذلك أي الذي بشرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة، و فيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى: {قال كذلِكِ قال ربُّكِ هُو عليّ هيِّنٌ} إلى أن قال : {و كان أمْراً مقْضِيًّا} مريم - ٢١، و ثالثا: أن قوله: {اللّهُ يفْعلُ ما يشاءُ} كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله: كذلك اه. 

  • قوله تعالى: {قال ربِّ اِجْعلْ لِي آيةً قال آيتُك ألاّ تُكلِّم النّاس ثلاثة أيّامٍ إِلاّ 

تفسير الميزان ج۳

179
  • رمْزاً} إلى آخر الآية، قال في المجمع، الرمز الإيماء بالشفتين، و قد يستعمل في الإيماء بالحاجب و العين و اليد، و الأول أغلب، انتهى، و العشي الطرف المؤخر من النهار، و كأنه مأخوذ من العشوة و هي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار فأخذوا ذلك وصفا للوقت لرواحه إلى الظلمة، و الإبكار صدر النهار و الطرف المقدم منه، و الأصل في معناه الاستعجال. 

  • و وقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه و بين عيسى فإنها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولده: {فإِمّا تريِنّ مِن الْبشرِ أحداً فقُولِي إِنِّي نذرْتُ لِلرّحْمنِ صوْماً فلنْ أُكلِّم الْيوْم إِنْسِيًّا} مريم - ٢٦. 

  • و سؤاله (عليه السلام)من ربه أن يجعل له آية و الآية هي العلامة الدالة على الشي‌ء هل هو ليستدل به على أن البشارة إنما هي من قبل ربه، و بعبارة أخرى هو خطاب رحماني ملكي لا شيطاني؟ أو لأنه أراد أن يستدل بها على حمل امرأته، و يعلم وقت الحمل، خلاف بين المفسرين. 

  • و الوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات و جريان القصة لكن الذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أول الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أن الخطاب رحماني هو ما ذكروه: أن الأنبياء لعصمتهم لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك و وسوسة الشيطان، و لا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم طريق الإفهام. 

  • و هو كلام حق لكن يجب أن يعلم أن تعرفهم إنما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم و استقلال ذواتهم، و إذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرف زكريا من ربه‌ أن يجعل له آية يعرف به ذلك؟ و أي محذور في ذلك؟ نعم لو لم يستجب دعاءه و لم يجعل الله له آية كان الإشكال في محله. 

  • على أن خصوصية نفس الآية و هي عدم التكليم ثلاثة أيام تؤيد بل تدل على ذلك فإن الشيطان و إن أمكن أن يمس الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين و استقبال الناس أو تضعيف أعداء الدين كما يدل عليه قوله تعالى: {و اُذْكُرْ عبْدنا أيُّوب إِذْ نادى‌ ربّهُ أنِّي مسّنِي الشّيْطانُ 

تفسير الميزان ج۳

180
  • بِنُصْبٍ و عذابٍ} ص - ٤١، و قوله تعالى: {و ما أرْسلْنا مِنْ قبْلِك مِنْ رسُولٍ و لا نبِيٍّ إِلاّ إِذا تمنّى ألْقى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ فينْسخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ} (الآية) الحج - ٥٢، و قوله تعالى: {فإِنِّي نسِيتُ الْحُوت و ما أنْسانِيهُ إِلاّ الشّيْطانُ} الكهف - ٦٣. 

  • لكن هذه و أمثالها من مس الشيطان و تعرضه لا تنتج إلا إيذاء النبي و أما مسه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك و قد مر في ما تقدم من المباحث إثبات عصمتهم (عليهم السلام). 

  • و الذي جعله الله تعالى آية لزكريا على ما يدل عليه قوله: {آيتُك ألاّ تُكلِّم النّاس ثلاثة أيّامٍ إِلاّ رمْزاً و اُذْكُرْ ربّك كثِيراً و سبِّحْ بِالْعشِيِّ و الْإِبْكارِ}، هو أنه كان لا يقدر ثلاثة أيام على تكليم أحد و يعتقل لسانه إلا بذكر الله و تسبيحه، و هذه آية واقعة على نفس النبي و لسانه و تصرف خاص فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلا رحمانيا "و هذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأول دون الوجه الثاني. 

  • فإن قلت: لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله: {قال ربِّ أنّى يكُونُ لِي غُلامٌ و قدْ بلغنِي الْكِبرُ و اِمْرأتِي عاقِرٌ قال كذلِك اللّهُ يفْعلُ ما يشاءُ} (الآية) فإن ظاهره أنه خاطب ربه و سأله ما سأل ثم أجيب بما أجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكا في أمر النداء؟ و لو لم يكن شاكا عندئذ فما معنى سؤال التمييز؟. 

  • قلت: مراتب الركون و الاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنت نفسه على كون النداء رحمانيا من جانب الله ثم يسأل ربه من كيفية الولادة التي كانت تتعجب منه نفسه الشريفة كما مر فيجاب بنداء آخر ملكي تطمئن إليه نفسه ثم يسأل ربه آية توجب اليقين بأنه كان رحمانيا فيزيد بذلك وثوقا و طمأنينة. 

  • و مما يؤيد ذلك قوله تعالى: {فنادتْهُ الْملائِكةُ}، فإن النداء إنما يكون من بعيد و لذلك كثر إطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد، و ليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريا {إِذْ نادى‌ ربّهُ نِداءً خفِيًّا} مريم - ٣ فقد أطلق عليه النداء بعناية تذلل زكريا: و تواضعه قبال تعزز الله سبحانه و ترفعه و تعاليه، ثم وصف النداء بالخفاء فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريا لم ير الملك نفسه، و إنما سمع صوتا يهتف به هاتف. 

تفسير الميزان ج۳

181
  • و قد ذكر بعض المفسرين: أن المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلاثة أيام، و الانقطاع فيها إلى ذكر الله و تسبيحه دون اعتقال لسانه، قال: الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه و يبشر أهله فسأل عن الكيفية، و لما أجيب بما أجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره، و يكون إتمامه إياها آية و علامة على حصول المقصود، فأمره بأن لا يكلم الناس ثلاثة أيام بل ينقطع إلى الذكر و التسبيح مساء صباحا مدة ثلاثة أيام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيماء، على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال، انتهى. 

  • و أنت خبير بأنه ليس لما ذكره (من مسألته عبادة تكون شكرا للمنحة، و انتهائها إلى حصول المقصود، و كون انتهائها هو الآية، و كون قوله: مسوقا للنهي التشريعي و كذا إرادته بشارة أهله) في الآية عين و لا أثر. 

  • كلام في الخواطر الملكية و الشيطانية و ما يلحق بها من التكليم‌ 

  • قد مر كرارا أن الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها، و أن القول أو الكلام مثلا إنما يسمى به الصوت لإفادته معنى مقصودا يصح السكوت عليه، فما يفاد به ذلك، كلام و قول سواء كان مفيدة صوتا واحدا أو أصواتا متعددة مؤلفة أو غير صوت كالإيماء و الرمز، و الناس لا يتوقفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامة كلاما و إن لم يخرج عن شق فم، و كذلك في تسمية الإيماء قولا و كلاما و إن لم يشتمل على صوت. 

  • و القرآن أيضا يسمي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاما له و قولا منه، قال تعالى حكاية عن الشيطان: {و لآمُرنّهُمْ فليُبتِّكُنّ آذان الْأنْعامِ} النساء - ١١٩ و قال: {كمثلِ الشّيْطانِ إِذْ قال لِلْإِنْسانِ اُكْفُرْ} الحشر - ١٦، و قال: {يُوسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ} الناس - ٥، و قال: {يُوحِي بعْضُهُمْ إِلى‌ بعْضٍ زُخْرُف الْقوْلِ} الأنعام - ١١٢ و قال أيضا حكاية عن إبليس: {إِنّ اللّه وعدكُمْ وعْد الْحقِّ و وعدْتُكُمْ} إبراهيم - ٢٢ و قال: {الشّيْطانُ يعِدُكُمُ الْفقْر و يأْمُرُكُمْ بِالْفحْشاءِ و اللّهُ يعِدُكُمْ مغْفِرةً مِنْهُ و فضْلاً 

تفسير الميزان ج۳

182
  • و اللّهُ واسِعٌ علِيمٌ يُؤْتِي الْحِكْمة منْ يشاءُ و منْ يُؤْت الْحِكْمة فقدْ أُوتِي خيْراً كثِيراً} البقرة - ٢٦٩، و من الواضح أن هذه هي الخواطر الواردة على القلوب، نسبت إلى الشيطان، و سميت بالأمر و القول و الوسوسة و الوحي و الوعد، و جميعها قول و كلام و لم تخرج عن شق فم و لا تحريك لسان. 

  • و من هنا يعلم: أن ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة و الفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكي في قبال الوسوسة من الشيطان، و قد سماه تعالى الحكمة، و مثلها قوله تعالى: {و يجْعلْ لكُمْ نُوراً تمْشُون بِهِ} الحديد - ٢٨، و قوله: {هُو الّذِي أنْزل السّكِينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِين لِيزْدادُوا إِيماناً مع إِيمانِهِمْ و لِلّهِ جُنُودُ السّماواتِ و الْأرْضِ} الفتح - ٤، و قد مر بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى: {فِيهِ سكِينةٌ مِنْ ربِّكُمْ} البقرة - ٢٤٨، و كذا قوله: {فمنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يهْدِيهُ يشْرحْ صدْرهُ لِلْإِسْلامِ و منْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يجْعلْ صدْرهُ ضيِّقاً حرجاً كأنّما يصّعّدُ فِي السّماءِ كذلِك يجْعلُ اللّهُ الرِّجْس على الّذِين لا يُؤْمِنُون} الأنعام - ١٢٥، و قد سمى الوسوسة رجزا فقال: {رِجْز الشّيْطانِ} الأنفال - ١١، فمن جميع ذلك يظهر أن الشياطين و الملائكة يكلمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه. 

  • و هنا قسم آخر من التكليم يختص به تعالى كما ذكره بقوله: {و ما كان لِبشرٍ أنْ يُكلِّمهُ اللّهُ إِلاّ وحْياً أوْ مِنْ وراءِ حِجابٍ} (الآية) الشورى - ٥١، فسماه تكليما و قسمه إلى الوحي، و هو الذي لا حجاب فيه بينه و بين العبد المكلم، و إلى التكليم من وراء حجاب، هذه أقسام من الكلام لله سبحانه و للملائكة و الشياطين. 

  • أما كلام الله سبحانه المسمى بالوحي فهو متميز متعين بذاته فإن الله سبحانه ألقى التقابل بينه و بين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان و بين ربه، و من المحال أن يقع هناك لبس، و هو ظاهر، و أما غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي. 

  • و أما الكلام الملكي و الشيطاني فالآيات المذكورة آنفا تكفي في التمييز بينها فإن الخاطر الملكي يصاحب انشراح الصدر، و يدعو إلى المغفرة و الفضل، و ينتهي بالأخرة إلى ما يطابق دين الله المبين في كتابه و سنة نبيه، و الخاطر الشيطاني يلازم 

تفسير الميزان ج۳

183
  • تضيق الصدر، و شح النفس و يدعو إلى متابعة الهوى، و يعد الفقر، و يأمر بالفحشاء، و بالأخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب و السنة، و يخالف الفطرة. 

  • ثم إن الأنبياء و من يتلوهم ربما تيسر لهم مشاهدة الملك و الشيطان و معرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم و إبراهيم و لوط فأغنى ذلك عن استعمال المميز، و أما مع عدم المشاهدة فلا بد من استعماله كسائر المؤمنين، و ينتهي بالأخرة إلى تمييز الوحي و هو ظاهر. 

  • (بحث روائي)‌ 

  • في تفسير القمي: في قوله تعالى: {إِذْ قالتِ اِمْرأتُ عِمْران} (الآية) عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكرا سويا مباركا يبرئ الأكمه و الأبرص، و يحيي الموتى بإذن الله، و جاعله رسولا إلى بني إسرائيل، فحدث عمران امرأته حنة بذلك و هي أم مريم فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلاما فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى، و ليس الذكر كالأنثى لا تكون البنت رسولا، يقول الله: و الله أعلم بما وضعت فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران و وعده إياه فإذا قلنا في الرجل منا شيئا و كان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.

  • أقول: و روي قريبا منه في الكافي، عنه (عليه السلام)و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام).

  • و في تفسير العياشي، في الآية عن الصادق (عليه السلام): أن المحرر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى و ليس الذكر كالأنثى، إن الأنثى تحيض فتخرج من المسجد، و المحرر لا يخرج من المسجد. 

  • و فيه، عن أحدهما: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد، و ليس الذكر كالأنثى في الخدمة، قال فشبت و كانت تخدمهم و تناولهم حتى بلغت فأمر زكريا أن تتخذ لها حجابا دون العباد. 

  • أقول: و الروايات كما ترى تنطبق على ما قدمناه في البيان السابق إلا أن ظاهرها: أن قوله: {و ليْس الذّكرُ كالْأُنْثى‌}، كلام لامرأة عمران لا له تعالى، و يبقى عليه وجه 

تفسير الميزان ج۳

184
  • تقديم الذكر على الأنثى في الجملة، مع أن مقتضى القواعد العربية خلافه، و كذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم، و قد مر أنه في معنى التحرير إلا أن يفرق بين التحرير و جعلها خادمة فليتأمل. 

  • و في الرواية الأولى دلالة على كون عمران نبيا يوحى إليه، و يدل عليه ما- في البحار، عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام)عن عمران أ كان نبيا؟ فقال نعم كان نبيا مرسلا إلى قومه‌، (الحديث). 

  • و تدل الرواية أيضا على كون اسم امرأة عمران: حنة، و هو المشهور، و في بعض الروايات: مرثار، و لا يهمنا البحث عن ذلك.

  • و في تفسير القمي :في ذيل الرواية السابقة: فلما بلغت مريم صارت في المحراب، و أرخت على نفسها سترا، و كان لا يراها أحد، و كان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول: {أنّى لكِ هذا} فتقول: {هُو مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنّ اللّه يرْزُقُ منْ يشاءُ بِغيْرِ حِسابٍ}

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام)قال: إن زكريا لما دعا ربه أن يهب له ولدا فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله فأوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام فلما أمسك لسانه و لم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله و ذلك قول الله {ربِّ اِجْعلْ لِي آيةً}.

  • أقول: و روى قريبا منه القمي في تفسيره، و قد عرفت فيما تقدم أن سياق الآيات لا يأبى عن ذلك. 

  • و بعض المفسرين شدد النكير على ما تضمنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران و وجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها، و كون سؤال زكريا للآية للتمييز فقال: إن هذه أمور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها، و لا رسوله قالها، و لا هي مما يعرف بالرأي‌ و لم يثبتها تاريخ يعتد به، و ليس هناك إلا روايات إسرائيلية و غير إسرائيلية، و لا موجب للتكلف في تحصيل معنى القرآن و حمله على أمثال هذه الوجوه البعيدة عن الأفهام. 

  • و هو منه كلام من غير حجة، و الروايات و إن كانت آحادا غير خالية عن ضعف 

تفسير الميزان ج۳

185
  • الطريق لا يجب على الباحث الأخذ بها، و الاحتجاج بما فيها لكن التدبر في الآيات يقرب الذهن منها، و الذي نقل منها عن أئمة أهل البيت (عليه السلام)لا يشتمل على أمر غير جائز عند العقل. 

  • نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسرين أمور غير معقولة كما نقل عن قتادة و عكرمة" :أن الشيطان جاء إلى زكريا - و شككه في كون البشارة من الله تعالى، و قال: لو كانت من الله لأخفى لك في ندائه كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك فهي معان لا مجوز لتسليمها كما ورد في إنجيل لوقا: أن جبرئيل قال لزكريا و ها أنت تكون صامتا و لا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا - لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته إنجيل لوقا ١-٢٠. 

  • (بحث روائي آخر كلام في الخواطر الملكية و الشيطانية و ما يلحق بهما من التكليم)

  • و في الكافي، عن الصادق (ع): ما من قلب إلا و له أذنان على إحداهما ملك مرشد، و على الأخرى شيطان مفتن: هذا يأمره، و هذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي، و الملك يزجره عنها، و ذلك‌ قول الله عز و جل: {ما يلْفِظُ مِنْ قوْلٍ إِلاّ لديْهِ رقِيبٌ عتِيدٌ}{عنِ الْيمِينِ و عنِ الشِّمالِ قعِيدٌ}

  • أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها، و تطبيقه (عليه السلام) الآية على الملك و الشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إياها على الملكين الكاتبين للحسنات و السيئات في رواية أخرى، فإن الآية لا تدل على أزيد من وجود رقيب عتيد عند الإنسان يرقبه في جميع ما يتكلم به، و أنه متعدد عن يمين الإنسان و شماله، و أما أنه من الملائكة محضا أو ملك و شيطان فالآية غير صريحة في ذلك قابلة للانطباق على كل من المحتملين.

  • و فيه أيضا عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)عن الرسول و عن النبي و عن المحدث، قال: الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول: يأمرك كذا و كذا، و الرسول يكون نبيا مع الرسالة، و النبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشي‌ء النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه، قلت فما علمه أن الذي في منامه حق؟ قال: يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق، و لا يعاين الملك‌. (الحديث). 

تفسير الميزان ج۳

186
  • أقول: قوله: و الرسول يكون نبيا إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين و قد تقدم الكلام في معنى الرسالة و النبوة في تفسير قوله تعالى: {كان النّاسُ أُمّةً واحِدةً فبعث اللّهُ} (الآية) البقرة - ٢١٣. 

  • و قوله: فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام، و أن معناه الغيبة عن الحس دون المنام المعروف، و قوله: يبينه الله إلخ إشارة إلى‌ التمييز بين الإلقاء الملكي و الشيطاني بما بينه الله من الحق.

  • و في البصائر، عن بريد عن الباقر و الصادق (عليه السلام)في حديث قال بريد: فما الرسول و النبي و المحدث؟ قال الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه، و النبي يرى في المنام، و ربما اجتمعت النبوة و الرسالة لواحد، و المحدث الذي يسمع الصوت و لا يرى الصورة، قال: قلت: أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق و أنه من الملك؟ قال: يوفق لذلك حتى يعرفه - لقد ختم الله بكتابكم الكتب و بنبيكم الأنبياء. (الحديث). 

  • أقول: و هو في مساق الحديث السابق، و بيانه (عليه السلام)واف بتمييز المحدث ما يسمعه من صوت الهاتف، و في قوله: لقد ختم الله إلخ إشارة إلى ذلك، و سيأتي الكلام في المحدث في ذيل الآيات .

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٤٢ الی ٦٠] 

  • {و إِذْ قالتِ الْملائِكةُ يا مرْيمُ إِنّ اللّه اِصْطفاكِ و طهّركِ و اِصْطفاكِ على‌ نِساءِ الْعالمِين ٤٢ يا مرْيمُ اُقْنُتِي لِربِّكِ و اُسْجُدِي و اِرْكعِي مع الرّاكِعِين ٤٣ ذلِك مِنْ أنْباءِ الْغيْبِ نُوحِيهِ إِليْك و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقْلامهُمْ أيُّهُمْ يكْفُلُ مرْيم و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ يخْتصِمُون ٤٤ إِذْ قالتِ الْملائِكةُ يا مرْيمُ إِنّ يُبشِّرُكِ بِكلِمةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ الْمسِيحُ عِيسى اِبْنُ مرْيم وجِيهاً فِي الدُّنْيا

تفسير الميزان ج۳

187
  • و الْآخِرةِ و مِن الْمُقرّبِين ٤٥ و يُكلِّمُ النّاس فِي الْمهْدِ و كهْلاً و مِن الصّالِحِين ٤٦ قالتْ ربِّ أنّى يكُونُ لِي ولدٌ و لمْ يمْسسْنِي بشرٌ قال كذلِكِ اللّهُ يخْلُقُ ما يشاءُ إِذا قضى‌ أمْراً فإِنّما يقُولُ لهُ كُنْ فيكُونُ ٤٧ و يُعلِّمُهُ الْكِتاب و الْحِكْمة و التّوْراة و الْإِنْجِيل ٤٨ و رسُولاً إِلى‌ بنِي إِسْرائِيل أنِّي قدْ جِئْتُكُمْ بِآيةٍ مِنْ ربِّكُمْ أنِّي أخْلُقُ لكُمْ مِن الطِّينِ كهيْئةِ الطّيْرِ فأنْفُخُ فِيهِ فيكُونُ طيْراً بِإِذْنِ اللّهِ و أُبْرِئُ الْأكْمه و الْأبْرص و أُحْيِ الْموْتى‌ بِإِذْنِ اللّهِ و أُنبِّئُكُمْ بِما تأْكُلُون و ما تدّخِرُون فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ فِي ذلِك لآيةً لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين ٤٩ و مُصدِّقاً لِما بيْن يديّ مِن التّوْراةِ و لِأُحِلّ لكُمْ بعْض الّذِي حُرِّم عليْكُمْ و جِئْتُكُمْ بِآيةٍ مِنْ ربِّكُمْ فاتّقُوا اللّه و أطِيعُونِ ٥٠إِنّ اللّه ربِّي و ربُّكُمْ فاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتقِيمٌ ٥١ فلمّا أحسّ عِيسى‌ مِنْهُمُ الْكُفْر قال منْ أنْصارِي إِلى اللّهِ قال الْحوارِيُّون نحْنُ أنْصارُ اللّهِ آمنّا بِاللّهِ و اِشْهدْ بِأنّا مُسْلِمُون ٥٢ ربّنا آمنّا بِما أنْزلْت و اِتّبعْنا الرّسُول فاكْتُبْنا مع الشّاهِدِين ٥٣ و مكرُوا و مكر اللّهُ و اللّهُ خيْرُ الْماكِرِين ٥٤ إِذْ قال اللّهُ يا عِيسى‌ إِنِّي مُتوفِّيك و رافِعُك إِليّ و مُطهِّرُك مِن الّذِين كفرُوا و جاعِلُ الّذِين اِتّبعُوك فوْق الّذِين كفرُوا إِلى‌ يوْمِ الْقِيامةِ ثُمّ إِليّ مرْجِعُكُمْ 

تفسير الميزان ج۳

188
  • فأحْكُمُ بيْنكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تخْتلِفُون ٥٥ فأمّا الّذِين كفرُوا فأُعذِّبُهُمْ عذاباً شدِيداً فِي الدُّنْيا و الْآخِرةِ و ما لهُمْ مِنْ ناصِرِين ٥٦ و أمّا الّذِين آمنُوا و عمِلُوا الصّالِحاتِ فيُوفِّيهِمْ أُجُورهُمْ و اللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِين ٥٧ ذلِك نتْلُوهُ عليْك مِن الْآياتِ و الذِّكْرِ الْحكِيمِ ٥٨ إِنّ مثل عِيسى‌ عِنْد اللّهِ كمثلِ آدم خلقهُ مِنْ تُرابٍ ثُمّ قال لهُ كُنْ فيكُونُ ٥٩ الْحقُّ مِنْ ربِّك فلا تكُنْ مِن الْمُمْترِين ٦٠}

  • (بيان‌) 

  • قوله تعالى: {إِذْ قالتِ الْملائِكةُ يا مرْيمُ إِنّ اللّه اِصْطفاكِ و طهّركِ}، الجملة معطوفة على قوله: {إِذْ قالتِ اِمْرأتُ عِمْران}، فتكون شرحا مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى: {إِنّ اللّه اِصْطفى‌}، الآية. 

  • و في الآية دليل على كون مريم محدثة تكلمها الملائكة و هي تسمع كلامهم كما يدل عليه أيضا قوله في سورة مريم: {فأرْسلْنا إِليْها رُوحنا فتمثّل لها بشراً سوِيًّا} إلى آخر الآيات‌، و سيأتي الكلام في المحدث. 

  • و قد تقدم في قوله تعالى: {فتقبّلها ربُّها بِقبُولٍ حسنٍ} (الآية) أن ذلك بيان لاستجابة دعوة أم مريم: {و إِنِّي سمّيْتُها مرْيم و إِنِّي أُعِيذُها بِك و ذُرِّيّتها مِن الشّيْطانِ الرّجِيمِ} (الآية) و أن قول الملائكة لمريم: {إِنّ اللّه اِصْطفاكِ و طهّركِ}، إخبار لها بما لها عند الله سبحانه من الكرامة و المنزلة فارجع إلى هناك. 

  • فاصطفاؤها تقبلها لعبادة الله، و تطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة، و ربما قيل: إن المراد من تطهيرها جعلها بتولا لا تحيض فيتهيأ لها بذلك أن لا تضطر إلى الخروج من الكنيسة، و لا بأس به غير أن الذي ذكرناه هو الأوفق بسياق الآيات. 

تفسير الميزان ج۳

189
  • قوله تعالى: {و اِصْطفاكِ على‌ نِساءِ الْعالمِين} قد تقدم في قوله تعالى: {إِنّ اللّه اِصْطفى‌} إلى قوله: {على الْعالمِين}، أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم، و أنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم، و على هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهن. 

  • و هل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية: {إِذْ قالتِ الْملائِكةُ يا مرْيمُ إِنّ اللّه يُبشِّرُكِ} (الآية) و قوله تعالى: {و الّتِي أحْصنتْ فرْجها فنفخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا و جعلْناها و اِبْنها آيةً لِلْعالمِين} الأنبياء - ٩١ و قوله تعالى: {و مرْيم اِبْنت عِمْران الّتِي أحْصنتْ فرْجها فنفخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا و صدّقتْ بِكلِماتِ ربِّها و كُتُبِهِ و كانتْ مِن الْقانِتِين} التحريم - ١٢، حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (عليه السلام)أن هذا هو وجه اصطفائها و تقديمها على النساء من العالمين. 

  • و أما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير و التصديق بكلمات الله و كتبه، و القنوت و كونها محدثة فهي أمور لا تختص بها بل يوجد في غيرها، و أما ما قيل: إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه. 

  • قوله تعالى: {يا مرْيمُ اُقْنُتِي لِربِّكِ و اُسْجُدِي و اِرْكعِي مع الرّاكِعِين}، القنوت‌ هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل، و السجدة معروفة. و الركوع‌ هو الانحناء أو مطلق التذلل. 

  • و لما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادي (اسم مفعول) و توجيه فهمه نحو المنادي (اسم فاعل) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها: إن لك عندنا نبأ بعد نبإ فاستمعي لهما و أصغي إليهما: أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة و هو ما لك عند الله، و الثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة، و هو ما لله سبحانه عندك، فيكون هذا إيفاء للعبودية و شكرا للمنزلة فيئول معنى الكلام إلى كون قوله: {يا مرْيمُ اُقْنُتِي}إلخ بمنزلة التفريع لقوله: {يا مرْيمُ إِنّ اللّه اِصْطفاكِ}إلخ أي إذا كان كذلك فاقنتي و اسجدي و اركعي مع الراكعين، و لا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعا لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة، و إن لم يخل عن خفاء فليتأمل. 

تفسير الميزان ج۳

190
  • قوله تعالى: {ذلِك مِنْ أنْباءِ الْغيْبِ نُوحِيهِ إِليْك}، عده من أنباء الغيب نظير ما عدت قصة يوسف (عليه السلام)من أنباء الغيب التي توحى إلى رسول الله، قال تعالى: {ذلِك مِنْ أنْباءِ الْغيْبِ نُوحِيهِ إِليْك و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ أجْمعُوا أمْرهُمْ و هُمْ يمْكُرُون} يوسف - ١٠٢، و أما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرفين كما أن كثيرا من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن. 

  • و يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية: {و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ يُلْقُون}إلخ. 

  • على أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)و قومه كانوا أميين غير عالمين بهذه القصص و لا أنهم قرءوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصة نوح: {تِلْك مِنْ أنْباءِ الْغيْبِ نُوحِيها إِليْك ما كُنْت تعْلمُها أنْت و لا قوْمُك مِنْ قبْلِ هذا} هود - ٤٩، و الوجه الأول أوفق بسياق الآية. 

  • قوله تعالى: {و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقْلامهُمْ أيُّهُمْ يكْفُلُ مرْيم}إلخ، القلم‌ بفتحتين القدح الذي يضرب به القرعة، و يسمى سهما أيضا، و جمعه أقلام، فقوله: {يُلْقُون أقْلامهُمْ} أي يضربون بسهامهم ليعينوا بالقرعة أيهم يكفل مريم. 

  • و في هذه الجملة دلالة على أن الاختصام الذي يدل عليه قوله: {و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ يخْتصِمُون} إنما هو اختصامهم و تشاحهم في كفالة مريم، و أنهم لم يتناهوا حتى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريا فكفلها بدليل قوله: {و كفّلها زكرِيّا}، الآية. 

  • و ربما احتمل بعضهم أن هذا الاختصام و الاقتراع بعد كبرها و عجز زكريا عن كفالتها، و كان منشؤه ذكر هذا الاقتراع و الاختصام بعد تمام قصة ولادتها و اصطفائها و ذكر كفالة زكريا في أثنائها، فيكونان واقعتين اثنتين. 

  • و فيه أنه لا ضير في إعادة بعض خصوصيات القصة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصة يوسف حيث قال تعالى بعد تمام القصة : {ذلِك مِنْ أنْباءِ الْغيْبِ نُوحِيهِ إِليْك و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ أجْمعُوا أمْرهُمْ و هُمْ يمْكُرُون} يوسف - ١٠٢ يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصة. {إِذْ قالُوا ليُوسُفُ و أخُوهُ أحبُّ إِلى‌ 

تفسير الميزان ج۳

191
  • أبِينا مِنّا و نحْنُ عُصْبةٌ} إلى أن قال: {لا تقْتُلُوا يُوسُف و ألْقُوهُ فِي غيابتِ الْجُبِّ يلْتقِطْهُ بعْضُ السّيّارةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِين} يوسف - ١٠. 

  • قوله تعالى: {إِذْ قالتِ الْملائِكةُ يا مرْيمُ إِنّ اللّه يُبشِّرُكِ}إلخ، الظاهر أن هذه البشارة هي التي يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر: {فأرْسلْنا إِليْها رُوحنا فتمثّل لها بشراً سوِيًّا قالتْ إِنِّي أعُوذُ بِالرّحْمنِ مِنْك إِنْ كُنْت تقِيًّا قال إِنّما أنا رسُولُ ربِّكِ لِأهب لكِ غُلاماً زكِيًّا} الآيات - مريم - ١٩، فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هاهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك. 

  • و قد قيل في وجهه إن المراد بالملائكة هو جبرئيل، عبر بالجمع عن الواحد تعظيما لأمره كما يقال: سافر فلان فركب الدواب و ركب السفن، و إنما ركب دابة واحدة و سفينة واحدة، و يقال: قال له الناس كذا، و إنما قاله واحد و هكذا، و نظير الآية قوله في قصة زكريا السابقة: {فنادتْهُ الْملائِكةُ} ثم قوله: {قال كذلِك اللّهُ يفْعلُ ما يشاءُ} الآية. 

  • و ربما قيل: إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها. 

  • و الذي يعطيه التدبر في الآيات التي تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدما و تأخرا من حيث مقام القرب، و أن للمتأخر التبعية المحضة لأوامر المتقدم بحيث يكون فعل المتأخر رتبة، عين فعل المتقدم، و قوله عين قوله نظير ما نشاهده و نذعن به من كون أفعال قوانا و أعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول: رأته عيناي و سمعته أذناي، و رأيته و سمعته، و يقال فعلته جوارحي و كتبته يدي و رسمته أناملي و فعلته أنا و كتبته أنا، و كذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لأمره بعينه، و قوله قولهم من غير اختلاف، و بالعكس كما أن فعل الجميع فعل الله سبحانه و قولهم قوله، كما قال تعالى: {اللّهُ يتوفّى الْأنْفُس حِين‌ موْتِها} الزمر - ٤٢، فنسب التوفي إلى نفسه، و قال: {قُلْ يتوفّاكُمْ ملكُ الْموْتِ الّذِي وُكِّل بِكُمْ} السجدة - ١١، فنسبه إلى ملك الموت و قال: {حتّى إِذا جاء أحدكُمُ الْموْتُ توفّتْهُ رُسُلُنا} الأنعام - ٦١، فنسبه إلى جمع من الملائكة. 

  • و نظيره قوله تعالى: {إِنّا أوْحيْنا إِليْك} النساء - ١٦٣، و قوله: {نزل بِهِ الرُّوحُ الْأمِينُ على‌ قلْبِك} الشعراء - ١٩٤، و قوله: {منْ كان عدُوًّا لِجِبْرِيل فإِنّهُ نزّلهُ على‌ 

تفسير الميزان ج۳

192
  • قلْبِك} البقرة - ٩٧، و قوله: {كلاّ تذْكِرةٌ فمنْ شاء ذكرهُ فِي صُحُفٍ مُكرّمةٍ مرْفُوعةٍ مُطهّرةٍ بِأيْدِي سفرةٍ كِرامٍ بررةٍ} عبس - ١٦. 

  • فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة و هو من سادات الملائكة و مقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى: {إِنّهُ لقوْلُ رسُولٍ كرِيمٍ ذِي قُوّةٍ عِنْد ذِي الْعرْشِ مكِينٍ مُطاعٍ ثمّ أمِينٍ} التكوير - ٢١، و سيأتي زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر إن شاء الله تعالى. 

  • و يؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية: {قال كذلِكِ اللّهُ يخْلُقُ ما يشاءُ}، فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في القصة إلى الروح، قال تعالى: {قال إِنّما أنا رسُولُ ربِّكِ لِأهب لكِ غُلاماً زكِيًّا قالتْ أنّى يكُونُ لِي غُلامٌ و لمْ يمْسسْنِي بشرٌ و لمْ أكُ بغِيًّا قال كذلِكِ قال ربُّكِ هُو عليّ هيِّنٌ} الآيات - مريم - ٢١. 

  • و في تكلم الملائكة و الروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصة بعينها: {فأرْسلْنا إِليْها رُوحنا فتمثّل لها بشراً سوِيًّا} مريم - ١٧، يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته، و سيجي‌ء تمام الكلام في المعنى في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. 

  • قوله تعالى{بِكلِمةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ الْمسِيحُ عِيسى اِبْنُ مرْيم}، قد مر البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله: {تِلْك الرُّسُلُ فضّلْنا بعْضهُمْ على‌ بعْضٍ} البقرة - ٢٥٣. 

  • و الكلمة و الكلم كالتمرة و التمر جنس و فرد و تطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدال على المعنى، و على الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح مثل إن كان زيد قائما، هذا بحسب اللغة، و أما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الإيجاد و هو قوله تعالى لشي‌ء أراده: كن، أو كلمة الوحي و الإلهام و نحو ذلك. 

  • و أما المراد بالكلمة فقد قيل: إن المراد به المسيح (عليه السلام)من جهة أن من أسبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل، يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها، و نظيره قوله تعالى في ظهور موسى 

تفسير الميزان ج۳

193
  • (ع): {و تمّتْ كلِمتُ ربِّك الْحُسْنى‌ على‌ بنِي إِسْرائِيل بِما صبرُوا} الأعراف - ١٣٧، و فيه أن ذلك و إن كان ربما ساعده كتب‌ العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشرا لا مبشرا به، على أن سياق قوله: {اِسْمُهُ الْمسِيحُ} لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلا لا نفس عيسى، و ظاهر قوله: {اِسْمُهُ الْمسِيحُ}، أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة. 

  • و ربما قيل: إن المراد به عيسى (عليه السلام)لإيضاحه مراده تعالى بالتوراة، و بي انه تحريفات اليهود و ما اختلفوا فيه من أمور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل: {و لِأُبيِّن لكُمْ بعْض الّذِي تخْتلِفُون فِيهِ} الزخرف - ٦٣، و فيه أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن. 

  • و ربما قيل: إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها، و هي الإخبار بحملها بعيسى و ولادته فمعنى قوله: {يُبشِّرُكِ بِكلِمةٍ مِنْهُ} يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من غير مس بشر، و فيه أن سياق الذيل أعني قوله: {اِسْمُهُ الْمسِيحُ}، لا يلائمه و هو ظاهر. 

  • و ربما قيل: إن المراد به عيسى (عليه السلام)من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني قوله: كن و إنما اختص عيسى (عليه السلام) بذلك مع كون كل إنسان بل كل شي‌ء موجودا بكلمة كن التكوينية لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى الأسباب العادية المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث، و عمل العوامل المقارنة في ذلك، و لذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى أسبابها، و لما لم يجر علوق عيسى هذا المجرى و فقد بعض الأسباب العادية التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة التكوين من غير تخلل الأسباب العادية فكان نفس الكلمة كما يؤيده قوله تعالى: {و كلِمتُهُ ألْقاها إِلى‌ مرْيم و رُوحٌ مِنْهُ} النساء - ١٧١، و قوله تعالى في آخر هذه الآيات: {إِنّ مثل عِيسى‌ عِنْد اللّهِ كمثلِ آدم خلقهُ مِنْ تُرابٍ ثُمّ قال لهُ كُنْ فيكُونُ} (الآية) و هذا أحسن الوجوه.

  • و المسيح‌ هو الممسوح سمي به عيسى (عليه السلام)لأنه كان مسيحا باليمن و البركة أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب، أو مسح بدهن زيت بورك فيه و كانت الأنبياء يمسحون 

تفسير الميزان ج۳

194
  • به أو لأن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان، أو لأنه كان يمسح رءوس اليتامى، أو لأنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برأ، فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح. 

  • لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعا في ضمن البشارة التي بشر بها جبرائيل مريم (عليه السلام)على ما يحكيه تعالى بقوله: {إِنّ اللّه يُبشِّرُكِ بِكلِمةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ الْمسِيحُ عِيسى اِبْنُ مرْيم}، و هذا اللفظ بعينه معرب مشيحا الواقع في كتب العهدين. 

  • و الذي يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحا فمعناه: إما الملك و إما المبارك. 

  • و قد يظهر من كتبهم أنه (عليه السلام)إنما سمي مشيحا من جهة كون بشارته متضمنا لملكه، و أنه سيظهر في بني إسرائيل ملكا عليهم منجيا لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم، قال :فلما دخل إليها الملك قال السلام لك يا ممتلية نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء، فلما رأته اضطربت من كلامه و فكرت ما هذا السلام، فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله، و أنت تحبلين و تلدين ابنا و تدعين اسمه يسوع، هذا يكون عظيما و ابن العلي يدعى و يعطيه الرب له كرسي داود أبيه و يملك على بيت يعقوب إلى الأبد و لا يكون لملكه انقضاء لوقا ١-٣٤. 

  • و لذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى (عليه السلام)لأنه لم ينل الملك أيام دعوته و في حيوته، و لذلك أيضا ربما وجهته النصارى و تبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك المعنوي دون الصوري. 

  • أقول: و ليس من البعيد أن يقال: إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركا فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك، و يؤيده قوله تعالى: {قال إِنِّي عبْدُ اللّهِ آتانِي الْكِتاب و جعلنِي نبِيًّا و جعلنِي مُباركاً أيْن كُنْتُ} مريم - ٣١. 

  • و عيسى‌ أصله يشوع، فسروه بالمخلص و هو المنجي، و في بعض الأخبار تفسيره بيعيش و هو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين 

تفسير الميزان ج۳

195
  • هذين النبيين. 

  • و تقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب، و يكون معروفا بهذا النعت، و أن مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى: {و جعلْناها و اِبْنها آيةً لِلْعالمِين} الأنبياء - ٩١. 

  • قوله تعالى: {وجِيهاً فِي الدُّنْيا و الْآخِرةِ و مِن الْمُقرّبِين}، الوجاهة هي المقبولية، و كونه (عليه السلام)مقبولا في الدنيا مما لا خفاء فيه، و كذا في الآخرة بنص القرآن. 

  • و معنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الأولياء و المقربين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله: {لنْ يسْتنْكِف الْمسِيحُ أنْ يكُون عبْداً لِلّهِ و لا الْملائِكةُ الْمُقرّبُون} النساء - ١٧٢، و قد عرف تعالى معنى التقريب بقوله: {إِذا وقعتِ الْواقِعةُ} إلى أن قال: {و كُنْتُمْ أزْواجاً ثلاثةً} إلى أن قال: {و السّابِقُون السّابِقُون أُولئِك الْمُقرّبُون} الواقعة - ١١، و الآية كما ترى تدل على أن هذا التقرب و هو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شي‌ء، قال تعالى: {يا أيُّها الْإِنْسانُ إِنّك كادِحٌ إِلى‌ ربِّك كدْحاً فمُلاقِيهِ} الانشقاق - ٦، و قال تعالى: {ألا إِلى اللّهِ تصِيرُ الْأُمُورُ} الشورى - ٥٣. 

  • و أنت إذا تأملت كون المقربين صفة الأفراد من الإنسان و صفة الأفراد من الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاما اكتسابيا فإن الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من الملائكة بهبة إلهية و المقربون من الإنسان بالعمل. 

  • و قوله وجيها في الدنيا و الآخرة، حال، و كذا ما عطف عليه من قوله: و من المقربين، و يكلم اه، و من الصالحين، و يكلمه اه، رسولا اه. 

  • قوله تعالى: {و يُكلِّمُ النّاس فِي الْمهْدِ و كهْلاً}، المهد ما يهيأ للصبي من الفراش، و الكهل‌ من الكهولة و هو ما بين الشباب و الشيخوخة، و هو ما يكون الإنسان فيه رجلا تاما قويا، و لذا قيل: الكهل من وخطه الشيب أي خالطه، و ربما قيل: إن الكهل من بلغ أربعا و ثلاثين. 

تفسير الميزان ج۳

196
  • و كيف كان ففيه دلالة على أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة ففيه بشارة أخرى لمريم. 

  • و في التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث و ثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه و لذا ربما قيل: إن تكليمه للناس كهلا إنما هو بعد نزوله من السماء فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة، و ربما قيل: إن الذي يعطيه التاريخ بعد التثبت أن عيسى (عليه السلام)عاش نحوا من أربع و ستين سنة خلافا لما يظهر من الأناجيل. 

  • و الذي يظهر من سياق قوله: {فِي الْمهْدِ و كهْلاً}، أنه لا يبلغ سن الشيخوخة، و إنما ينتهي إلى سن الكهولة، و على هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره: الصبا و الكهولة. 

  • و المعهود من وضع الصبي في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج و يمشي و هو في السنة الثانية فما دونها غالبا، و هو سن الكلام فكلام الصبي في المهد و إن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنه يكلم الناس في المهد كلاما تاما يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل، و بعبارة أخرى يكلمهم في المهد كما يكلمهم كهلا، و الكلام من الصبي بهذه الصفة آية خارقة. 

  • على أن القصة في سورة مريم تبين أن تكليمه الناس إنما كان لأول ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه و كلام الصبي لأول يوم ولادته آية خارقة لا محالة، قال تعالى: {فأتتْ بِهِ قوْمها تحْمِلُهُ قالُوا يا مرْيمُ لقدْ جِئْتِ شيْئاً فرِيًّا يا أُخْت هارُون ما كان أبُوكِ اِمْرأ سوْءٍ و ما كانتْ أُمُّكِ بغِيًّا فأشارتْ إِليْهِ قالُوا كيْف نُكلِّمُ منْ كان فِي الْمهْدِ صبِيًّا قال إِنِّي عبْدُ اللّهِ آتانِي الْكِتاب و جعلنِي نبِيًّا و جعلنِي مُباركاً أيْن ما كُنْتُ} الآيات - مريم - ٣١. 

  • قوله تعالى{قالتْ ربِّ أنّى يكُونُ لِي ولدٌ و لمْ يمْسسْنِي بشرٌ}، خطابها لربها مع كون المكلم إياها الروح المتمثل بناء على ما تقدم أن خطاب الملائكة و خطاب الروح و كلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه و إن كان الخطاب متوجها إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة و لذلك خاطبت ربها .

تفسير الميزان ج۳

197
  • و يمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى: {قال ربِّ اِرْجِعُونِ} المؤمنون - ٩٩، فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام. 

  • قوله سبحانه: {قال كذلِكِ اللّهُ يخْلُقُ ما يشاءُ إِذا قضى‌ أمْراً فإِنّما يقُولُ لهُ كُنْ فيكُونُ} قد مرت الإشارة إلى أن تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله: {قال كذلِكِ قال ربُّكِ هُو عليّ هيِّنٌ و لِنجْعلهُ آيةً لِلنّاسِ و رحْمةً مِنّا و كان أمْراً مقْضِيًّا} مريم - ٢١، يفيد أن يكون قوله هاهنا: كذلك كلاما تاما تقديره: الأمر كذلك و معناه أن الذي بشرت به أمر مقضي لا مرد له. 

  • و أما التعجب من هذا الأمر فإنما يصح لو كان هذا الأمر مما لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشق أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء و أما صعوبته و مشقته فإن العسر و الصعوبة إنما يتصور إذا كان الأمر مما يتوسل إليه بالأسباب فكلما كثرت المقدمات و الأسباب و عزت و بعد منالها اشتد الأمر صعوبة، و الله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون. 

  • فقد ظهر أن قوله كذلك كلام تام أريد به رفع اضطراب مريم و تردد نفسها، و قوله: {اللّهُ يخْلُقُ ما يشاءُ}، رفع العجز الذي يوهمه التعجب، و قوله: {إِذا قضى‌}، رفع لتوهم العسر و الصعوبة. 

  • قوله تعالى: {و يُعلِّمُهُ الْكِتاب و الْحِكْمة و التّوْراة و الْإِنْجِيل}، اللام في الكتاب و الحكمة للجنس. و قد مر أن الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس‌، و الحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل، و على هذا فعطف التوراة و الإنجيل على الكتاب و الحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس لأهمية في اختصاصه بالذكر، و ليست لام الكتاب للاستغراق لقوله تعالى: {و لمّا جاء عِيسى‌ بِالْبيِّناتِ قال قدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمةِ و لِأُبيِّن لكُمْ بعْض الّذِي تخْتلِفُون فِيهِ فاتّقُوا اللّه و أطِيعُونِ} الزخرف - ٦٣، و قد مر بيانه. 

  • و أما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى (عليه السلام) في الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الأعراف، و أما الذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بخت نصر من ملوك بابل و كورش 

تفسير الميزان ج۳

198
  • من ملوك الفرس، غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلية و إن لعبت بها يد التحريف، و دلالة آيات القرآن على ذلك واضحة. 

  • و أما الإنجيل‌ و معناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتابا واحدا نازلا على عيسى فهو الوحي المختص به، قال تعالى {و أنْزل التّوْراة و الْإِنْجِيل مِنْ قبْلُ هُدىً لِلنّاسِ} آل عمران - ٤، و أما هذه الأناجيل المنسوبة إلى متى و مرقس و لوقا و يوحنا فهي كتب مؤلفة بعده (عليه السلام). 

  • و يدل أيضا على أن الأحكام إنما هي في التوراة، و أن الإنجيل لا تشتمل إلا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات: {مُصدِّقاً لِما بيْن يديّ مِن التّوْراةِ و لِأُحِلّ لكُمْ بعْض الّذِي حُرِّم عليْكُمْ} (الآية) و قوله: {و آتيْناهُ الْإِنْجِيل فِيهِ هُدىً و نُورٌ و مُصدِّقاً لِما بيْن يديْهِ مِن التّوْراةِ و هُدىً و موْعِظةً لِلْمُتّقِين و لْيحْكُمْ أهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أنْزل اللّهُ فِيهِ} المائدة - ٤٧، و لا يبعد أن يستفاد من الآية أن فيه بعض الأحكام الإثباتية. 

  • و يدل أيضا على أن الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كالتوراة قال، تعالى: {الّذِين يتّبِعُون الرّسُول النّبِيّ الْأُمِّيّ الّذِي يجِدُونهُ مكْتُوباً عِنْدهُمْ فِي التّوْراةِ و الْإِنْجِيلِ} الأعراف - ١٥٧. 

  • قوله تعالى: {و رسُولاً إِلى‌ بنِي إِسْرائِيل}، ظاهره أنه (عليه السلام) كان مبعوثا إلى بني إسرائيل خاصة كما هو اللائح من الآيات في حق موسى (عليه السلام) ، و قد مر في الكلام على النبوة في ذيل قوله تعالى: {كان النّاسُ أُمّةً واحِدةً فبعث اللّهُ النّبِيِّين} (الآية) البقرة - ٢١٣، أن عيسى (عليه السلام) كموسى من أولي العزم‌ و هم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافة. 

  • لكن العقدة تنحل بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول و النبي أن النبوة هي منصب البعث و التبليغ، و الرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم و القضاء بالحق بين الناس، إما بالبقاء و النعمة، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى: {و لِكُلِّ أُمّةٍ رسُولٌ فإِذا جاء رسُولُهُمْ قُضِي بيْنهُمْ بِالْقِسْطِ} يونس - ٤٧. 

  • و بعبارة أخرى النبي‌ هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس، و الرسول‌ هو المبعوث لأداء بيان خاص يستتبع رده الهلاك و قبوله البقاء و السعادة كما يؤيده بل 

تفسير الميزان ج۳

199
  • يدل عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح و هود و صالح و شعيب و غيرهم (عليهم السلام). 

  • و إذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاص البعثة إليهم، و كان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاص نبيا مبعوثا إليهم و إلى غيرهم كموسى و عيسى (عليه السلام). 

  • و على ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون، قال تعالى: {اِذْهبْ إِلى‌ فِرْعوْن إِنّهُ طغى‌} طه - ٢٤، و إيمان السحرة لموسى و ظهور قبول إيمانهم و لم يكونوا من بني إسرائيل، قال تعالى: {قالُوا آمنّا بِربِّ هارُون و مُوسى‌} طه - ٧٠، و دعوة قوم فرعون، قال تعالى: {و لقدْ فتنّا قبْلهُمْ قوْم فِرْعوْن و جاءهُمْ رسُولٌ كرِيمٌ} الدخان - ١٧، و نظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به (عليه السلام)قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)الروم و أمم عظيمة من الغربيين كالأفرنج و النمسا و البروس و إنجلترا و أمم من الشرقيين كنجران و هم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل، و القرآن لم يخص - فيما يذكر فيه النصارى نصارى بني إسرائيل خاصة بالذكر بل يعمم مدحه أو ذمه الجميع. 

  • قوله تعالى: {أنِّي قدْ جِئْتُكُمْ بِآيةٍ مِنْ ربِّكُمْ أنِّي أخْلُقُ لكُمْ مِن الطِّينِ} إلى قوله: {و أُحْيِ الْموْتى‌ بِإِذْنِ اللّهِ}، الخلق‌ جمع أجزاء الشي‌ء، و فيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضا قوله تعالى: {فتبارك اللّهُ أحْسنُ الْخالِقِين} المؤمنون - ١٤. 

  • و الأكمه‌ هو الذي يولد مطموس العين، و قد يقال لمن تذهب عينه قال: كمهت عيناه حتى ابيضتا، قاله الراغب، و الأبرص‌ من كان به برص و هو مرض جلدي معروف. 

  • و في قوله: {و أُحْيِ الْموْتى‌} حيث علق الإحياء بالموتى و هو جمع دلالة و لا أقل من الإشعار بالكثرة و التعدد. 

  • و كذا قوله: {بِإِذْنِ اللّهِ}، سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه (عليه السلام)مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى (عليه السلام)بشي‌ء من ذلك، و إنما كرر تكرارا يشعر بالإصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا بألوهيته 

تفسير الميزان ج۳

200
  • استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه (ع)، و لذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به كالخلق و إحياء الموتى بإذن الله ثم ختم الكلام بقوله: {إِنّ اللّه ربِّي و ربُّكُمْ فاعْبُدُوهُ صِراطٌ مُسْتقِيمٌ}

  • و ظاهر قوله: {أنِّي أخْلُقُ لكُمْ}إلخ، أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدورا خارجيا لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج و التحدي، و لو كان مجرد قول لقطع العذر و إتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا: إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك. 

  • على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على وقوع هذه الآيات أتم الدلالة، قال: {إِذْ قال اللّهُ يا عِيسى اِبْن مرْيم اُذْكُرْ نِعْمتِي عليْك و على‌ والِدتِك} إلى أن قال: {و إِذْ تخْلُقُ مِن الطِّينِ كهيْئةِ الطّيْرِ بِإِذْنِي فتنْفُخُ فِيها فتكُونُ طيْراً بِإِذْنِي و تُبْرِئُ الْأكْمه و الْأبْرص بِإِذْنِي و إِذْ تُخْرِجُ الْموْتى‌} (الآية) المائدة - ١١٠. 

  • و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن قصارى ما تدل عليه الآية أن الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السر، و أنه احتج على الناس بذلك، و أتم الحجة عليهم بحيث لو سألوه شيئا من ذلك لأتى به، أما أن كلها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك. 

  • قوله تعالى: {و أُنبِّئُكُمْ بِما تأْكُلُون و ما تدّخِرُون فِي بُيُوتِكُمْ}، و هذا إخبار بالغيب المختص بالله تعالى، و من خصه من رسله بالوحي، و هو آية أخرى و إخبار بغيب صريح التحقق لا يتطرق إليه الشك و الريب فإن‌الإنسان لا يشك عادة فيما أكله و لا فيما ادخره في بيته. 

  • و إنما لم يقيد هذه الآية بإذن الله مع أن الآية لا تتحقق إلا بإذن منه تعالى كما قال: {و ما كان لِرسُولٍ أنْ يأْتِي بِآيةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ} المؤمن - ٧٨، لأن هذه الآية عبر عنها بالإنباء و هو كلام قائم بعيسى (عليه السلام)يعد فعلا له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق و الإحياء فإنها فعل الله بالحقيقة و لا ينسبان إلى غيره إلا بإذنه. 

  • على أن الآيتين المذكورتين ليستا كالإنباء فإن الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه 

تفسير الميزان ج۳

201
  • في الإنباء فإن القلوب الساذجة تقبل ألوهية خالق الطير و محيي الموتى بأدنى وسوسة و مغلطة بخلاف ألوهية من يخبر بالمغيبات فإنها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمرا مبتذلا جائز النيل لكل مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيد الآيتين المذكورتين بالإذن دون الأخيرة، و كذا الإبراء فيكفي فيها مجرد ذكر أنها آية من الله، و خاصة إذا ألقي الخطاب إلى قوم يدعون أنهم مؤمنون، و لذلك ذيل الكلام بقوله: {إِنّ فِي ذلِك لآيةً لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان. 

  • قوله تعالى: {و مُصدِّقاً لِما بيْن يديّ مِن التّوْراةِ و لِأُحِلّ لكُمْ بعْض الّذِي حُرِّم عليْكُمْ}، عطف على قوله: {و رسُولاً إِلى‌ بنِي إِسْرائِيل}، و كون المعطوف مبنيا على التكلم مع كون المعطوف عليه مبنيا على الغيبة أعني كون عيسى (عليه السلام)في قوله: {و مُصدِّقاً لِما بيْن يديّ}، متكلما و في قوله: {و رسُولاً إِلى‌ بنِي إِسْرائِيل}، غائبا ليس مما يضر بالعطف بعد تفسير قوله: {و رسُولاً إِلى‌ بنِي إِسْرائِيل}، بقول عيسى: {أنِّي قدْ جِئْتُكُمْ}، فإن وجه الكلام يتبدل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف. 

  • و تصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة، و هو التوراة الأصل النازلة على موسى (عليه السلام)فلا دلالة لكونه مصدقا للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة كما لا دلالة لتصديق نبينا محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)للتوراة التي بين يديه على كونها غير محرفة. 

  • قوله تعالى: {و لِأُحِلّ لكُمْ بعْض الّذِي حُرِّم عليْكُمْ}، فإن الله تعالى كان حرم عليهم بعض الطيبات، قال تعالى: {فبِظُلْمٍ مِن الّذِين هادُوا حرّمْنا عليْهِمْ طيِّباتٍ أُحِلّتْ لهُمْ} (الآية) النساء - ١٦٠. 

  • و الكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه (عليه السلام)لأحكام التوراة إلا ما نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقة المكتوبة على اليهود، و لذا قيل: إن الإنجيل غير مشتمل على الشريعة، و قوله: {و لِأُحِلّ}، معطوف على قوله: {بِآيةٍ مِنْ ربِّكُمْ}، و اللام للغاية، و المعنى: قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليكم. 

  • قوله تعالى: {جِئْتُكُمْ بِآيةٍ مِنْ ربِّكُمْ}، الظاهر أنه لبيان أن قوله: {فاتّقُوا اللّه 

تفسير الميزان ج۳

202
  • و أطِيعُونِ}، متفرع على إتيان الآية لا على إحلال المحرمات فهو لدفع الوهم، و يمكن أن يكون هو مراد من قال: إن إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها و ما بعدها فإن مجرد التفرقة ليست من المزايا في الكلام. 

  • قوله تعالى: {إِنّ اللّه ربِّي و ربُّكُمْ فاعْبُدُوهُ}، فيه قطع لعذر من اعتقد ألوهيته لتفرسه (عليه السلام)ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد قوله: {فيكُونُ طيْراً}، و قوله {و أُحْيِ الْموْتى‌}، بقوله: {بِإِذْنِ اللّهِ} لكن الظاهر من قوله تعالى فيما يحكي قول عيسى (ع): {ما قُلْتُ لهُمْ إِلاّ ما أمرْتنِي بِهِ أنِ اُعْبُدُوا اللّه ربِّي و ربّكُمْ} المائدة - ١١٧، إن ذلك كان بأمر من ربه و وحي منه. 

  • قوله تعالى: {فلمّا أحسّ عِيسى‌ مِنْهُمُ الْكُفْر قال منْ أنْصارِي إِلى اللّهِ}، لما كانت البشارة التي بشر بها مريم‌ مشتملة على جمل قصص عيسى (عليه السلام)من حين حمله إلى حين رسالته و دعوته اقتصر عليها اقتصاصا إيجازا في الكلام و فرع عليها تتمة الجملة من قصته و هو انتخابه حوارييه و مكر قومه به و مكر الله بهم في تطهيره منهم و توفيه و رفعه إليه، و هو تمام القصة. 

  • و قد اعتبر في القصة المقدار الذي يهم إلقاؤه إلى النصارى حين نزول الآيات، و هم نصارى نجران: الوفد الذين أتوا المدينة للبحث و الاحتجاج، و لذلك أسقط منها بعض الخصوصيات التي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنية كسورة النساء و المائدة و الأنبياء و الزخرف و الصف. 

  • و في استعمال لفظ الإحساس في مورد الكفر مع كونه أمرا قلبيا إشعار بظهوره منهم حتى تعلق به الإحساس أو أنهم هموا بإيذائه و قتله بسبب كفرهم فأحس به فقوله: {فلمّا أحسّ عِيسى‌} أي استشعر و استظهر {مِنْهُمُ} أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في البشارة {الْكُفْر قال منْ أنْصارِي إِلى اللّهِ}؟ و إنما أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من رجال قومه فيتمحضوا للحق فتستقر فيهم عدة الدين، و تتمركز فيهم قوته ثم تنتشر من عندهم دعوته، و هذا شأن كل قوة من القوى الطبيعية و الاجتماعية و غيرها، أنها إذا شرعت في الفعل و نشر التأثير و بث العمل كان من اللازم أن تتخذ لنفسها كانونا تجتمع فيه و تعتمد عليه و تستمد منه و لو لا ذلك لم تستقر على عمل، و ذهبت سدى لا تجدي نفعا. 

تفسير الميزان ج۳

203
  • و نظير ذلك في دعوة الإسلام بيعة العقبة و بيعة الشجرة أراد بها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ركوز القدرة و تجمع القوة ليستقيم به أمر الدعوة. 

  • فلما أيقن عيسى (عليه السلام)أن دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلهم أو جلهم، و أنهم كافرون به لا محالة، و أنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة و اشتدت المحنة مهد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه فأجابه الحواريون على ذلك فتميزوا من سائر القوم بالإيمان فكان ذلك أساسا لتميز الإيمان من الكفر و ظهوره عليه بنشر الدعوة و إقامة الحجة كما قال تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا كُونُوا أنْصار اللّهِ كما قال عِيسى اِبْنُ مرْيم لِلْحوارِيِّين منْ أنْصارِي إِلى اللّهِ قال الْحوارِيُّون نحْنُ أنْصارُ اللّهِ فآمنتْ طائِفةٌ مِنْ بنِي إِسْرائِيل و كفرتْ طائِفةٌ فأيّدْنا الّذِين آمنُوا على‌ عدُوِّهِمْ فأصْبحُوا ظاهِرِين} الصف - ١٤. 

  • و قد قيد الأنصار في قوله: {منْ أنْصارِي} بقوله: {إِلى اللّهِ} ليتم به معنى التشويق و التحريص الذي سيق لأجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى: {منْ ذا الّذِي يُقْرِضُ اللّه قرْضاً حسناً} البقرة - ٢٤٥. 

  • و الظرف متعلق بقوله: {أنْصارِي}، بتضمين النصرة معنى السلوك و الذهاب أو ما يشابههما كما حكى عن إبراهيم (عليه السلام)من قوله: {إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‌ ربِّي سيهْدِينِ} الصافات - ٩٩. 

  • و أما ما احتمله بعض المفسرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه و لا يساعد أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعد غير الله ناصرا كما يعده ناصرا، و لا يساعد عليه أدب عيسى (عليه السلام)اللائح مما يحكيه القرآن من قوله، على أن قوله تعالى: {قال الْحوارِيُّون نحْنُ أنْصارُ اللّهِ}، أيضا لا يساعد عليه إذ كان من اللازم على ذلك أن يقولوا: نحن أنصارك مع الله فليتأمل. 

  • قوله تعالى: {قال الْحوارِيُّون نحْنُ أنْصارُ اللّهِ آمنّا بِاللّهِ و اِشْهدْ بِأنّا مُسْلِمُون}، حواري الإنسان‌ من اختص به من الناس، و قيل أصله من الحور و هو شدة البياض، و لم يستعمل القرآن هذا اللفظ إلا في خواص عيسى (عليه السلام)من أصحابه. 

  • و قولهم: {آمنّا بِاللّهِ}، بمنزل التفسير لقولهم: {نحْنُ أنْصارُ اللّهِ} و هذا مما يؤيد كون 

تفسير الميزان ج۳

204
  • قوله: {أنْصارِي إِلى اللّهِ} جاريا مجرى التضمين كما مر فإنه يفيد معنى السلوك في الطريق إلى الله، و الإيمان طريق. 

  • و هل هذا أول إيمانهم بعيسى (عليه السلام)؟ ربما استفيد من قوله تعالى: {كما قال عِيسى اِبْنُ مرْيم لِلْحوارِيِّين منْ أنْصارِي إِلى اللّهِ قال الْحوارِيُّون نحْنُ أنْصارُ اللّهِ فآمنتْ طائِفةٌ} الصف - ١٤، أنه إيمان، بعد إيمان و لا ضير فيه كما يظهر بالرجوع إلى ما أوضحناه من كون الإيمان و الإسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض. 

  • بل ربما دل قوله تعالى: {و إِذْ أوْحيْتُ إِلى الْحوارِيِّين أنْ آمِنُوا بِي و بِرسُولِي قالُوا آمنّا و اِشْهدْ بِأنّنا مُسْلِمُون} المائدة - ١١١، أن إجابتهم إنما كانت بوحي من الله تعالى إليهم، و أنهم كانوا أنبياء فيكون الإيمان الذي أجابوه به هو الإيمان بعد الإيمان. 

  • على أن قولهم: {و اِشْهدْ بِأنّا مُسْلِمُون ربّنا آمنّا بِما أنْزلْت و اِتّبعْنا الرّسُول}، و هذا الإسلام‌ هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم و فيهم يدل أيضا على ذلك فإن هذا الإسلام لا يتأتى إلا من خلص المؤمنين لا من كل من شهد بالتوحيد و النبوة مجرد شهادة، بيان ذلك أنه قد مر في البحث عن مراتب الإيمان و الإسلام: أن كل مرتبة من الإيمان تسبقها مرتبة من مراتب الإسلام كما يدل عليه قولهم: {آمنّا بِاللّهِ و اِشْهدْ بِأنّا مُسْلِمُون}، حيث أتوا في الإيمان بالفعل و في الإسلام بالصفة فأول مراتب الإسلام هو التسليم و الشهادة على أصل الدين إجمالا، و يتلوه‌ الإذعان القلبي بهذه الشهادة الصورية في الجملة، و يتلوه (و هو المرتبة الثانية من الإسلام) التسليم القلبي لمعنى الإيمان و ينقطع عنده السخط و الاعتراض الباطني بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله و رسوله و هو الاتباع العملي في الدين، و يتلوه (و هو المرتبة الثانية من الإيمان) خلوص العمل و استقرار وصف العبودية في جميع الأعمال و الأفعال، و يتلوه (و هو المرتبة الثالثة من الإسلام) التسليم لمحبة الله و إرادته تعالى فلا يحب و لا يريد شيئا إلا بالله، و لا يقع هناك إلا ما أحبه الله و أراده و لا خبر عن محبة العبد و إرادته في نفسه، و يتلوه (و هو المرتبة الثالثة من الإيمان) شيوع هذا التسليم العبودي في جميع الأعمال. 

  • فإذا تذكرت هذا الذي ذكرناه، و تأملت في قوله (عليه السلام) فيما نقل من دعوته: {فاتّقُوا اللّه و أطِيعُونِ إِنّ اللّه ربِّي و ربُّكُمْ فاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتقِيمٌ} (الآية) وجدت أنه (عليه السلام) أمر أولا بتقوى الله و إطاعة نفسه ثم علل ذلك بقوله: {إِنّ اللّه ربِّي و ربُّكُمْ}، 

تفسير الميزان ج۳

205
  • أي إن الله ربكم معشر الأمة و رب رسوله الذي أرسله إليكم، فيجب عليكم أن تتقوه بالإيمان، و أن تطيعوني بالاتباع، و بالجملة يجب عليكم أن تعبدوه بالتقوى و طاعة الرسول أي الإيمان و الاتباع، فهذا هو المستفاد من هذا الكلام، و لذا بدل التقوى و الإطاعة في التعليل من قوله: {فاعْبُدُوهُ} و إنما فعل ذلك ليتضح ارتباط الأمر بالله لظهور الارتباط به في العبودية ثم ذكر أن هذه العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلا ينتهي بسالكه إلى الله سبحانه. 

  • ثم لما أحس منهم الكفر و لاحت أسباب اليأس من إيمان عامتهم قال من أنصاري إلى الله فطلب أنصارا لسلوك هذا الصراط المستقيم الذي كان يندب إليه، و هو العبودية أعني التقوى‌ و الإطاعة فأجابه الحواريون بعين ما طلبه فقالوا: {نحْنُ أنْصارُ اللّهِ}، ثم ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا: {آمنّا بِاللّهِ و اِشْهدْ بِأنّا مُسْلِمُون}، و مرادهم بالإسلام إطاعته و تبعيته، و لذا لما خاطبوا ربهم خطاب تذلل و التجاء، و ذكروا له ما وعدوا به عيسى (عليه السلام)قالوا: {ربّنا آمنّا بِما أنْزلْت و اِتّبعْنا الرّسُول}، فبدلوا الإسلام من الاتباع، و وسعوا في الإيمان بتقييده بجميع ما أنزل الله. 

  • فأفاد ذلك أنهم آمنوا بجميع ما أنزل الله مما علمه عيسى بن مريم من الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل، و اتبعوا الرسول في ذلك، و هذا كما ترى ليس أول درجة من الإيمان بل من أعلى درجاته و أسماها. 

  • و إنما استشهدوا عيسى (عليه السلام)في إسلامهم و اتباعهم و لم يقولوا: آمنا بالله و إنا مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجة في عرضهم حالهم على ربهم إذ قالوا: {ربّنا آمنّا بِما أنْزلْت و اِتّبعْنا الرّسُول}، فكأنهم قالوا: ربنا حالنا هذا الحال، و يشهد بذلك رسولك. 

  • قوله تعالى: {ربّنا آمنّا بِما أنْزلْت و اِتّبعْنا الرّسُول فاكْتُبْنا مع الشّاهِدِين}، مقول قول الحواريين حذف القول من اللفظ للدلالة على حكاية نفس الواقعة و هو من الأساليب اللطيفة في القرآن الكريم، و قد مر بيانه، و قد سألوا ربهم أن يكتبهم من الشاهدين، و فرعوا ذلك على إيمانهم و إسلامهم جميعا لأن تبليغ الرسول رسالته إنما يتحقق ببيانه ما أنزله الله عليه قولا و فعلا، أي بتعليمه معالم الدين وعمله بها، فالشهادة على التبليغ 

تفسير الميزان ج۳

206
  • إنما يكون بتعلمها من الرسول و اتباعه عملا حتى يشاهد أنه عامل بما يدعو إليه لا يتخطاه و لا يتعداه. 

  • و الظاهر أن هذه الشهادة هي التي يومئ إليها قوله تعالى: {فلنسْئلنّ الّذِين أُرْسِل إِليْهِمْ و لنسْئلنّ الْمُرْسلِين} الأعراف - ٦، و هي الشهادة على التبليغ، و أما قوله تعالى: {و إِذا سمِعُوا ما أُنْزِل إِلى الرّسُولِ ترى‌ أعْيُنهُمْ تفِيضُ مِن الدّمْعِ مِمّا عرفُوا مِن الْحقِّ يقُولُون ربّنا آمنّا فاكْتُبْنا مع الشّاهِدِين} المائدة - ٨٣، فهو شهادة على حقية رسالة الرسول دون التبليغ، و الله أعلم. 

  • و ربما أمكن أن يستفاد من قولهم: {فاكْتُبْنا مع الشّاهِدِين} بعد استشهادهم الرسول على إسلامهم أن المسئول: أن يكتبهم الله من شهداء الأعمال كما يلوح ذلك مما حكاه الله تعالى في دعاء إبراهيم و إسماعيل (عليه السلام): {ربّنا و اِجْعلْنا مُسْلِميْنِ لك و مِنْ ذُرِّيّتِنا أُمّةً مُسْلِمةً لك و أرِنا مناسِكنا} البقرة - ١٢٨، و ليرجع إلى ما ذكرناه في ذيل الآية. 

  • قوله تعالى: {و مكرُوا و مكر اللّهُ و اللّهُ خيْرُ الْماكِرِين}، الماكرون هم بنو إسرائيل، بقرينة قوله: {فلمّا أحسّ عِيسى‌ مِنْهُمُ الْكُفْر}، و قد مر الكلام في معنى المكر المنسوب إليه تعالى في ذيل قوله: {و ما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفاسِقِين} البقرة - ٢٦. 

  • قوله تعالى: {إِذْ قال اللّهُ يا عِيسى‌ إِنِّي مُتوفِّيك}، التوفي‌ أخذ الشي‌ء أخذا تاما، و لذا يستعمل في الموت لأن الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى: {توفّتْهُ رُسُلُنا} الأنعام - ٦١، أي أماتته، و قال تعالى: {و قالُوا أ إِذا ضللْنا فِي الْأرْضِ أ إِنّا لفِي خلْقٍ جدِيدٍ} إلى أن قال: {قُلْ يتوفّاكُمْ ملكُ الْموْتِ الّذِي وُكِّل بِكُمْ} السجدة - ١١، و قال تعالى: {اللّهُ يتوفّى الْأنْفُس حِين موْتِها و الّتِي لمْ تمُتْ فِي منامِها فيُمْسِكُ الّتِي قضى‌ عليْها الْموْت و يُرْسِلُ الْأُخْرى‌} الزمر - ٤٢، و التأمل في الآيتين الأخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الأخذ و الحفظ، و بعبارة أخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الأخذ للدلالة على أن نفس الإنسان لا يبطل و لا يفنى بالموت الذي يظن الجاهل أنه فناء و بطلان بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه، و إلا فهو سبحانه يعبر في الموارد التي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفي كما في قوله تعالى: {و ما مُحمّدٌ إِلاّ رسُولٌ قدْ خلتْ 

تفسير الميزان ج۳

207
  • مِنْ قبْلِهِ الرُّسُلُ أ فإِنْ مات أوْ قُتِل اِنْقلبْتُمْ على‌ أعْقابِكُمْ} آل عمران - ١٤٤، و قوله تعالى: {لا يُقْضى‌ عليْهِمْ فيمُوتُوا} الفاطر - ٣٦، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا حتى ما ورد في عيسى (عليه السلام)بنفسه كقوله: {و السّلامُ عليّ يوْم وُلِدْتُ و يوْم أمُوتُ و يوْم أُبْعثُ حيًّا} مريم - ٣٣، و قوله: {و إِنْ مِنْ أهْلِ الْكِتابِ‌ إِلاّ ليُؤْمِننّ بِهِ قبْل موْتِهِ و يوْم الْقِيامةِ يكُونُ عليْهِمْ شهِيداً} النساء - ١٥٩، فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفي في الموت. 

  • على أن قوله تعالى في رد دعوى اليهود: {و قوْلِهِمْ إِنّا قتلْنا الْمسِيح عِيسى اِبْن مرْيم رسُول اللّهِ و ما قتلُوهُ و ما صلبُوهُ و لكِنْ شُبِّه لهُمْ و إِنّ الّذِين اِخْتلفُوا فِيهِ لفِي شكٍّ مِنْهُ ما لهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اِتِّباع الظّنِّ و ما قتلُوهُ يقِيناً بلْ رفعهُ اللّهُ إِليْهِ و كان اللّهُ عزِيزاً حكِيماً و إِنْ مِنْ أهْلِ الْكِتابِ إِلاّ ليُؤْمِننّ بِهِ قبْل موْتِهِ و يوْم الْقِيامةِ يكُونُ عليْهِمْ شهِيداً} النساء - ١٥٩، يؤيد ذلك فإن اليهود كانت تدعي أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام)و كذلك كانت تظن النصارى أن اليهود قتلت عيسى بن مريم (عليه السلام)بالصلب غير أنهم كانوا يزعمون أن الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الأناجيل، و الآيات كما ترى تكذب قصة القتل و الصلب صريحا. 

  • و الذي يعطيه ظاهر قوله: {و إِنّ مِنْ أهْلِ الْكِتابِ} (الآية) أنه حي عند الله و لن يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب، على هذا فيكون توفيه (عليه السلام)أخذه من بين اليهود لكن الآية مع ذلك غير صريحة فيه و إنما هو الظهور، و سيجي‌ء تمام الكلام في ذلك في آخر سورة النساء. 

  • قوله تعالى: {و رافِعُك إِليّ و مُطهِّرُك مِن الّذِين كفرُوا}، الرفع‌ خلاف الوضع، و الطهارة خلاف القذارة، و قد مر الكلام‌ في معنى الطهارة. 

  • و حيث قيد الرفع بقوله: {إِليّ}، أفاد ذلك أن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها الأجسام و الجسمانيات بالحلول فيها، و القرب و البعد منها، فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية: {ثُمّ إِليّ مرْجِعُكُمْ}، و خاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أن المراد حينئذ هو رفع الدرجة و القرب من الله سبحانه، نظير ما ذكره تعالى في حق المقتولين في سبيله: {أحْياءٌ عِنْد ربِّهِمْ} آل عمران - ١٦٩، و ما ذكره في حق إدريس (عليه السلام): {و رفعْناهُ مكاناً علِيًّا} مريم - ٥٧. 

تفسير الميزان ج۳

208
  • و ربما يقال: إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه و جسده حيا إلى السماء على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أن السماء أي الجسمانية هي مقام القرب من الله سبحانه، و محل نزول البركات، و مسكن الملائكة المكرمين، و لعلنا نوفق للبحث عن معنى السماء فيما سيأتي إن شاء الله تعالى. 

  • و التطهير من الكافرين حيث أتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير المعنوي دون الظاهري الصوري فهو إبعاده من الكفار و صونه عن مخالطتهم و الوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر و الجحود. 

  • قوله تعالى: {و جاعِلُ الّذِين اِتّبعُوك فوْق الّذِين كفرُوا إِلى‌ يوْمِ الْقِيامةِ}، وعد منه تعالى له (عليه السلام)أنه سيفوق متبعي عيسى (عليه السلام)على مخالفيه الكافرين بنبوته، و أن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة و إنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه و أن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى (عليه السلام)أو غير ذلك. 

  • غير أنه تعالى لما أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أن المراد باتباعه هو الاتباع على الحق أعني الاتباع المرضي لله سبحانه فيكون الذين اتبعوه هم أتباعه المستقيمون من النصارى قبل ظهور الإسلام و نسخه دين عيسى، و المسلمون بعد ظهور الإسلام فإنهم هم أتباعه على الحق، و على هذا فالمراد بالتفوق هو التفوق بحسب الحجة دون السلطنة و السيطرة، فمحصل معنى الجملة: أن متبعيك من النصارى و المسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة، هذا ما ذكره و ارتضاه المفسرون في معنى الآية. 

  • و الذي أراه أن الآية لا تساعد عليه لا بلفظها و لا بمعناها فإن ظاهر قوله {إِنِّي مُتوفِّيك و رافِعُك إِليّ و مُطهِّرُك مِن الّذِين كفرُوا و جاعِلُ الّذِين اِتّبعُوك}، أنه إخبار عن المستقبل و أنه سيتحقق فيما يستقبل حال التكلم توف و رفع و تطهير و جعل على أن قوله: {و جاعِلُ الّذِين اِتّبعُوك}، وعد حسن و بشرى، و ما هذا شأنه لا يكون إلا في ما سيأتي، و من المعلوم أن ليست حجة متبعي عيسى (عليه السلام)إلا حجة عيسى نفسه، و هي التي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم، و هذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع، و بعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه (عليه السلام)أقطع لعذر 

تفسير الميزان ج۳

209
  • الكفار و منبت خصومتهم، و أوضح في رفع شبههم، فما معنى وعده (عليه السلام)أنه ستفوق حجة متبعيه على حجة مخالفيه ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة و التفوق بقوله: {إِلى‌ يوْمِ الْقِيامةِ}، مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت و لا يوم على أن تفوق الحجة على الحجة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة. 

  • فإن قلت: لعل المراد من تفوق الحجة تفوقها من جهة المقبولية بأن يكون الناس أسمع لحجة المتبعين و أطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعا و أوثق ركنا و أشد قوة. 

  • قلت: مرجع ذلك إما إلى تفوق متبعيه الحقيقيين من حيث السلطنة و القوة و الواقع خلافه، و احتمال أن يكون إخبارا عن ظهور للمتبعين و تفوق منهم سيتحقق في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية، و إما إلى كثرة العدد بأن يراد أن متبعيه (عليه السلام)سيفوقون الكافرين أي يكون أهل الحق بعد عيسى أكثر جمعا من أهل الباطل، ففيه مضافا إلى أن الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو و يزيد جمعهم على أهل الحق من زمن عيسى إلى يومنا هذا و قد بلغ الفصل عشرين قرنا أن لفظ الآية لا يساعد عليه فإن الفوقية في الآية و خاصة من جهة كون المقام مقام الإنباء عن نزول السخط الإلهي على اليهود و شمول الغضب عليهم إنما يناسب القهر و الاستعلاء إما من حيث الحجة البالغة أو من حيث السلطة و القوة و أما من حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر. 

  • و الذي ينبغي أن يقال أن الذي أخذ في الآية معرفا للفرقتين هو قوله: {الّذِين اِتّبعُوك}، و قوله {الّذِين كفرُوا}، و الفعل إنما يدل على التحقق و الحدوث دون التلبس الذي يدل عليه الوصف كالمتبعين و الكافرين، و مجرد صدور فعل من بعض أفراد أمة مع رضاء الباقين به و سلوك اللاحقين مسلك السابقين و جريهم على طريقتهم كاف في نسبة ذلك الفعل إليهم، كما أن القرآن يؤنب اليهود و يوبخهم على كثير من أفعال سلفهم كقتل الأنبياء و إيذائهم و الاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه و رسله و تحريف آيات الكتاب، و غير ذلك. 

  • و على هذا صح أن يراد بالذين كفروا اليهود، و بالذين اتبعوا النصارى لما صدر من 

تفسير الميزان ج۳

210
  • صدرهم و سلفهم من الإيمان بعيسى (عليه السلام)و اتباعه و قد كان إيمانا مرضيا و اتباعا حقا و إن كان الله سبحانه لم يرتض اتباعهم له (عليه السلام)بعد ظهور الإسلام، و لا اتباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الإسلامية. 

  • فالمراد جعل النصارى و هم الذين اتبع أسلافهم عيسى (عليه السلام) فوق اليهود و هم الذين كفروا بعيسى (عليه السلام)و مكروا به، و الغرض في المقام بيان نزول السخط الإلهي على اليهود، و حلول المكر بهم، و تشديد العذاب على أمتهم، و لا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتباع هو الاتباع على الحق كما استظهرناه في أول الكلام كما لا يخفى. 

  • و يؤيد هذا المعنى تغيير الأسلوب في الآية الآتية أعني قوله: {و أمّا الّذِين آمنُوا و عمِلُوا الصّالِحاتِ}، إذ لو كان المراد بالذين اتبعوا هم أهل الحق و النجاة من النصارى و المسلمين فقط كان الأنسب أن يقال: و أما الذين اتبعوك فيوفيهم أجورهم من غير تغيير للسياق كما لا يخفى. 

  • و هاهنا وجه آخر و هو أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى و المسلمون قاطبة و تكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة، و التقريب عين التقريب، و هذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر. 

  • قوله تعالى: {ثُمّ إِليّ مرْجِعُكُمْ فأحْكُمُ بيْنكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تخْتلِفُون}، و قد جمع سبحانه في هذا الخطاب بين عيسى و بين الذين اتبعوه و الذين كفروا به و هذا مآل أمرهم يوم القيامة، و بذلك يختتم أمر عيسى و خبره من حين البشارة به إلى آخر أمره و نبإه. 

  • قوله تعالى: {فأمّا الّذِين كفرُوا فأُعذِّبُهُمْ عذاباً شدِيداً فِي الدُّنْيا و الْآخِرةِ}، ظاهره أنه متفرع على قوله: {فأحْكُمُ بيْنكُمْ}، تفرع التفصيل على الإجمال فيكون بيانا للحكم الإلهي في يوم القيامة بالعذاب لليهود الذين كفروا و توفيه الأجر للمؤمنين. 

  • لكن اشتمال التفريع على قوله: {فِي الدُّنْيا}، يدل على كونه متفرعا على مجموع قوله: {و جاعِلُ الّذِين اِتّبعُوك فوْق الّذِين كفرُوا إِلى‌ يوْمِ الْقِيامةِ ثُمّ إِليّ مرْجِعُكُمْ}إلخ، فيدل على أن‌ نتيجة هذا الجعل و الرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الذين فوقهم الله تعالى عليهم، و في الآخرة بالنار، و ما لهم في ذلك من ناصرين. 

تفسير الميزان ج۳

211
  • و هذا أحد الشواهد على أن المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة و القوة دون التأييد بالحجة. 

  • و في قوله: {و ما لهُمْ مِنْ ناصِرِين}، دلالة على نفي الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم، و هو حتم القضاء كما تقدم. 

  • قوله تعالى{و أمّا الّذِين آمنُوا و عمِلُوا الصّالِحاتِ فيُوفِّيهِمْ أُجُورهُمْ}، و هذا وعد حسن بالجزاء الخير للذين اتبعوا إلا أن مجرد صدق الاتباع لما لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لأن الاتباع كما عرفت وصف صادق على الأمة بمجرد تحققه و صدوره عن عدة من أفرادها و حينئذ إنما يؤثر الأثر الجميل و الثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبس به شخصا دون من انتسب إليه اسما فلذلك بدل الذين اتبعوك من مثل قوله: {الّذِين آمنُوا و عمِلُوا الصّالِحاتِ}، ليستقيم المعنى فإن السعادة و العاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدل عليه قوله تعالى: {إِنّ الّذِين آمنُوا و الّذِين هادُوا و النّصارى‌ و الصّابِئِين منْ آمن بِاللّهِ و الْيوْمِ الْآخِرِ و عمِل صالِحاً فلهُمْ أجْرُهُمْ عِنْد ربِّهِمْ و لا خوْفٌ عليْهِمْ و لا هُمْ يحْزنُون} البقرة - ٦٢. 

  • فهذا أجر الذين آمنوا و عملوا الصالحات من الذين اتبعوا عيسى (عليه السلام)أن الله يوفيهم أجورهم، و أما غيرهم فليس لهم من ذلك شي‌ء، و قد أشير إلى ذلك في الآية بقوله: {و اللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِين}

  • و من هنا يظهر السر في ختم الآية و هي آية الرحمة و الجنة بمثل قوله: {و اللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِين}، مع أن المعهود في آيات الرحمة و النعمة أن تختتم بأسماء الرحمة و المغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقه الآية نظير قوله تعالى: {و كُلاًّ وعد اللّهُ الْحُسْنى‌ و اللّهُ بِما تعْملُون خبِيرٌ} الحديد - ١٠، و قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللّه قرْضاً حسناً يُضاعِفْهُ لكُمْ و يغْفِرْ لكُمْ و اللّهُ شكُورٌ حلِيمٌ} التغابن - ١٧، و قوله تعالى: {و منْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ و يعْملْ صالِحاً يُكفِّرْ عنْهُ سيِّئاتِهِ و يُدْخِلْهُ جنّاتٍ تجْرِي مِنْ تحْتِها الْأنْهارُ خالِدِين فِيها أبداً ذلِك الْفوْزُ الْعظِيمُ} التغابن - ٩، و قوله تعالى: {فأمّا الّذِين آمنُوا و عمِلُوا الصّالِحاتِ فيُدْخِلُهُمْ ربُّهُمْ فِي رحْمتِهِ ذلِك هُو الْفوْزُ الْمُبِينُ} الجاثية - ٣٠، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • فقوله: {و اللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِين}، مسوق لبيان حال الطائفة الأخرى ممن انتسب 

تفسير الميزان ج۳

212
  • إلى عيسى (عليه السلام)بالاتباع و هم غير الذين آمنوا و عملوا الصالحات. 

  • قوله تعالى: {ذلِك نتْلُوهُ عليْك مِن الْآياتِ و الذِّكْرِ الْحكِيمِ} إشارة إلى اختتام القصة. و المراد بالذكر الحكيم القرآن الذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته و بياناته، لا يدخله باطل، و لا يلج فيه هزل. 

  • قوله تعالى: {إِنّ مثل عِيسى‌ عِنْد اللّهِ كمثلِ آدم خلقهُ مِنْ تُرابٍ ثُمّ قال لهُ كُنْ فيكُونُ}، تلخيص لموضع الحاجة مما ذكره من قصة عيسى في تولده تفصيلا، و الإيجاز بعد الإطناب و خاصة في مورد الاحتجاج و الاستدلال من مزايا الكلام، و الآيات نازلة في الاحتجاج و متعرضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران‌ فكان من الأنسب أن يوجز البيان في خلقته بعد الإطناب في قصته ليدل على أن كيفية ولادته لا تدل على أزيد من كونه بشرا مخلوقا نظير آدم (عليه السلام)فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد و أعظم مما قيل في آدم، و هو أنه بشر خلقه الله من غير أب. 

  • فمعنى الآية: {إِنّ مثل عِيسى‌ عِنْد اللّهِ} أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده أن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم، و كيفية خلقه أنه جمع أجزاءه من تراب ثم قال له كن فتكون تكونا بشريا من غير أب. 

  • فالبيان بحسب الحقيقة منحل إلى حجتين تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الألوهية عن المسيح (عليه السلام). 

  • إحداهما: أن عيسى مخلوق لله على ما يعلمه الله و لا يضل في علمه - خلقة بشر و إن فقد الأب و من كان كذلك كان عبدا لا ربا. 

  • و ثانيهما: أن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بألوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (عليه السلام)أيضا لمكان المماثلة. 

  • و يظهر من الآية أن خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية و إن كانت خارقة للسنة الجارية في النسل و هي حاجة الولد في تكونه إلى والد. 

  • و الظاهر أن قوله: {فيكُونُ}، أريد به حكاية الحال الماضية، و لا ينافي ذلك دلالة 

تفسير الميزان ج۳

213
  • قوله: {ثُمّ قال لهُ كُنْ} على انتفاء التدريج فإن النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها أعم من التدريجي الوجود و غيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى: {إِنّما أمْرُهُ إِذا أراد شيْئاً أنْ يقُول لهُ كُنْ فيكُونُ} يس - ٨٢، و كثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية. و أما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك و لا مهلة كما قال تعالى: {و ما أمْرُنا إِلاّ واحِدةٌ كلمْحٍ بِالْبصرِ} القمر - ٥٠، و سيجي‌ء زيادة توضيح لهذا المعنى إن شاء الله تعالى في محله المناسب له. 

  • على أن عمدة ما سيق لبيانه قوله: {ثُمّ قال لهُ كُنْ} إنه تعالى لا يحتاج في خلق شي‌ء إلى الأسباب حتى يختلف حال ما يريد خلقه من الأشياء بالنسبة إليه تعالى بالإمكان و الاستحالة، و الهوان و العسر، و القرب و البعد، باختلاف أحوال الأسباب الدخيلة في وجوده فما أراده و قال له كن، كان من غير حاجة إلى الأسباب الدخيلة عادة. 

  • قوله تعالى: {الْحقُّ مِنْ ربِّك فلا تكُنْ مِن الْمُمْترِين} تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأن و نحوه نظير تأكيد تفصيل القصة بقوله: {ذلِك نتْلُوهُ عليْك مِن الْآياتِ و الذِّكْرِ الْحكِيمِ} الآية، و فيه تطييب لنفس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بأنه على الحق، و تشجيع له في المحاجة. 

  • و هذا أعني قوله: {الْحقُّ مِنْ ربِّك} من أبدع البيانات القرآنية حيث قيد الحق بمن الدالة على الابتداء دون غيره بأن يقال: الحق مع ربك لما فيه من شائبة الشرك و نسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة. 

  • و ذلك أن هذه الأقاويل الحقة و القضايا النفس الأمرية الثابتة كائنة ما كانت و إن كانت ضرورية غير ممكنة التغير عما هي عليه كقولنا: الأربعة زوج، و الواحد نصف الاثنين، و نحو ذلك إلا أن الإنسان إنما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود و الوجود كله منه تعالى، فالحق كله منه تعالى كما أن الخير كله منه، و لذلك كان تعالى لا يسأل عما يفعل و هم يسألون، فإن فعل غيره إنما يصاحب الحق إذا كان حقا، و أما فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحق إلا صورته العلمية. 

تفسير الميزان ج۳

214
  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي: في قوله تعالى: {يا مرْيمُ إِنّ اللّه اِصْطفاكِ و طهّركِ و اِصْطفاكِ على‌ نِساءِ الْعالمِين} قال: قال (عليه السلام): اصطفاها مرتين: أما الأولى فاصطفاها أي اختارها، و أما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين‌.

  • و في المجمع، قال أبو جعفر (عليه السلام): معنى الآية اصطفاك لذرية الأنبياء، و طهرك من السفاح و اصطفيك لولادة عيسى من غير فحل.

  • أقول: معنى قوله: اصطفاك لذرية الأنبياء اختارك لتكوني ذرية صالحة جديرة للانتساب إلى الأنبياء، و معنى قوله: و طهرك من السفاح أعطاك العصمة منه، و هو العمدة في موردها لكونها ولدت عيسى من غير فحل، فالكلام مسوق لبيان بعض لوازم اصطفائها و تطهيرها، فالروايتان غير متعارضتين كما هو ظاهر، و قد مر دلالة الآية على ذلك.

  • و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و صححه و ابن المنذر و ابن حبان و الحاكم عن أنس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و آسية امرأة فرعون. قال السيوطي و أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا:

  • و فيه، أخرج الحاكم و صححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أفضل نساء العالمين خديجة و فاطمة و مريم و آسية امرأة فرعون.

  • و فيه، أخرج ابن مردويه عن الحسن قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة: آسية بنت مزاحم، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله و سلم). و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن فاطمة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول. 

  • و فيه، أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون. 

تفسير الميزان ج۳

215
  • و فيه، أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)قال: أربع نسوة سادات عالمهن. مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)، و أفضلهن عالما فاطمة.

  • و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران، و آسية امرأة فرعون، و خديجة ابنة خويلد.

  • و في الخصال، بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)أربع خطوط ثم قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و آسية بنت مزاحم امرأة فرعون.

  • و فيه أيضا بإسناده عن أبي الحسن الأول (عليه السلام)قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله عز و جل اختار من النساء أربعا: مريم و آسية و خديجة و فاطمة. الخبر. 

  • أقول: و الروايات فيما يقرب من هذا المضمون من طرق الفريقين كثيرة، و كون هؤلاء سيدات النساء لا ينافي وجود التفاضل بينهن أنفسهن كما يظهر من الخبر السادس المنقول من الدر المنثور و أخبار أخرى، و قد مر نظير هذا البحث في تفسير قوله تعالى: {إِنّ اللّه اِصْطفى‌ آدم و نُوحاً} (الآية) آل عمران - ٣٣. 

  • و مما ينبغي أن يتنبه له أن الواقع في الآية هو الاصطفاء، و قد مر أنه الاختيار، و الذي وقع في الأخبار هو السيادة، و بينهما فرق بحسب المعنى‌ فالثاني من مراتب كمال الأول.

  • و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: {إِذْ يُلْقُون أقْلامهُمْ أيُّهُمْ يكْفُلُ مرْيم}، عن الباقر (ع): يقرعون بها حين أيتمت من أبيها.

  • و في تفسير القمي: {و إِذْ قالتِ الْملائِكةُ يا مرْيمُ إِنّ اللّه اِصْطفاكِ و طهّركِ و اِصْطفاكِ على‌ نِساءِ الْعالمِين}، قال: اصطفاها مرتين: أما الأولى فاصطفاها أي اختارها، و أما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين، إلى أن قال القمي: ثم قال الله لنبيه: {ذلِك مِنْ أنْباءِ الْغيْبِ نُوحِيهِ إِليْك} يا محمد {و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقْلامهُمْ 

تفسير الميزان ج۳

216
  • أيُّهُمْ يكْفُلُ مرْيم و ما كُنْت لديْهِمْ إِذْ يخْتصِمُون}، قال لما ولدت اختصموا آل عمران فيها و كلهم قالوا: نحن نكفلها فخرجوا و ضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريا. الخبر.

  • أقول: و قد مر من البيان ما يؤيد هذا الخبر و ما قبلها. 

  • و اعلم أن هناك روايات كثيرة في بشارة مريم و ولادة عيسى (عليه السلام)و دعوته و معجزاته لكن ما وقع في الآيات الشريفة من جمل قصصه كاف فيما هو المهم من البحث التفسيري، و لذلك تركنا ذكرها إلا ما يهم ذكره منها.

  • و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {و أُنبِّئُكُمْ بِما تأْكُلُون} (الآية) عن الباقر (عليه السلام): أن عيسى كان يقول لبني إسرائيل إني رسول الله إليكم، و إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله و أبرئ الأكمه و الأبرص، و الأكمه هو الأعمى: قالوا: ما نرى الذي تصنع إلا سحرا فأرنا آية نعلم أنك صادق قال: أ رأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم يقول: ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا و ما ادخرتم بالليل تعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم فكان يقول: أنت أكلت كذا و كذا و شربت كذا و كذا و رفعت كذا و كذا فمنهم من يقبل منه فيؤمن، و منهم من يكفر، و كان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين.

  • أقول: و تغيير سياق الآية في حكاية ما ذكره (عليه السلام)من الآيات أولا و آخرا يؤيد هذه الرواية، و قد مرت الإشارة إليه.

  • و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: {و مُصدِّقاً لِما بيْن يديّ مِن التّوْراةِ و لِأُحِلّ لكُمْ} (الآية) عن الصادق (عليه السلام) قال: كان بين داود و عيسى أربعمائة سنة، و كانت شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد و الإخلاص و بما أوصى به نوح و إبراهيم و موسى، و أنزل عليه الإنجيل، و أخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين، و شرع له في الكتاب: إقام الصلوة مع الدين و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و تحريم الحرام و تحليل الحلال، و أنزل عليه في الإنجيل مواعظ و أمثال و حدود ليس فيها قصاص، و لا أحكام حدود، و لا فرض مواريث، و أنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة، و هو قول الله في الذي قال عيسى لبني إسرائيل: {و لِأُحِلّ لكُمْ بعْض الّذِي حُرِّم عليْكُمْ}، و أمر عيسى من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة و الإنجيل. 

تفسير الميزان ج۳

217
  • أقول: و روي الرواية في قصص الأنبياء، مفصلة عن الصادق (عليه السلام)و فيها: كان بين داود و عيسى أربعمائة سنة، و ثمانون سنة و لا يوافق شي‌ء منهما تاريخ أهل الكتاب.

  • و في العيون، عن الرضا (عليه السلام): أنه سئل لم سمي الحواريون الحواريين؟ قال: أما عند الناس فإنهم سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل، و هو اسم مشتق من الخبز الحوار. و أما عندنا فسمي الحواريون الحواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم و مخلصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ و التذكير.

  • و في التوحيد، عنه (عليه السلام): أنهم كانوا اثنا عشر رجلا و كان أفضلهم و أعلمهم لوقا.

  • و في الإكمال، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: بعث الله عيسى بن مريم، و استودعه النور و العلم و الحكم و جميع علوم الأنبياء قبله، و زاده الإنجيل، و بعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه و حكمته، و إلى الإيمان بالله و رسوله فأبى أكثرهم إلا طغيانا و كفرا، فلما لم يؤمنوا دعا ربه و عزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلا طغيانا و كفرا فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم و يرغبهم فيما عند الله ثلاثة و ثلاثين سنة حتى‌ طلبته اليهود و ادعت أنها عذبته و دفنته في الأرض حيا، و ادعى بعضهم أنهم قتلوه و صلبوه، و ما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه، و إنما شبه لهم، و ما قدروا على عذابه و قتله و لا على قتله و صلبه لأنهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله: و لكن رفعه الله بعد أن توفاه.

  • أقول: قوله (عليه السلام): فمسخ منهم شياطين أي مسخ جمعا من شرارهم. 

  • و قوله (عليه السلام): فمكث يدعوهم إلخ لعله إشارة إلى مدة عمره على ما هو المشهور فإنه (عليه السلام) كان يكلمهم من المهد إلى الكهولة و كان نبيا من صباه على ما يدل عليه قوله على ما حكاه الله عنه: {فأشارتْ إِليْهِ قالُوا كيْف نُكلِّمُ منْ كان فِي الْمهْدِ صبِيًّا قال إِنِّي عبْدُ اللّهِ آتانِي الْكِتاب و جعلنِي نبِيًّا} مريم - ٣٠. 

  • و قوله (عليه السلام) لكان تكذيبا لقوله: و لكن رفعه الله بعد أن توفاه، نقل بالمعنى لقوله تعالى: {بلْ رفعهُ اللّهُ} (الآية) و قوله تعالى: {إِنِّي مُتوفِّيك و رافِعُك إِليّ} (الآية) و قد استفاد من تقديم التوفي على الرفع في اللفظ الترتيب بينهما في الوجود. 

تفسير الميزان ج۳

218
  • و في تفسير القمي، عن الباقر (عليه السلام)قال: إن عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء و هم اثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتا ثم خرج إليهم من عين في زاوية البيت و هو ينفض رأسه عن الماء فقال: إن الله أوحى إلي أنه رافعي إليه الساعة، و مطهري من اليهود فأيكم‌ يلقى عليه شبحي فيقتل و يصلب و يكون معي في درجتي، فقال شاب منهم أنا يا روح الله، قال: فأنت هو ذا فقال لهم عيسى: أما إن منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، فقال رجل منهم: أنا هو يا نبي الله! فقال له عيسى: أ تحس بذلك في نفسك؟ فلتكن هو، ثم قال لهم عيسى: أما إنكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق: فرقتين مفتريتين على الله في النار، و فرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنة ثم رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت و هم ينظرون إليه. 

  • ثم قال: إن اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى: إن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، و أخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسى فقتل و صلب، و كفر الذي قال له عيسى: يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة. 

  • أقول: و روي قريب منه عن ابن عباس و قتادة و غيرهما، و قال بعضهم: إن الذي ألقي عليه شبح عيسى هو الذي دلهم ليقبضوا عليه و يقتلوه، و قيل غير ذلك، و القرآن ساكت عن ذلك، و سيأتي استيفاء البحث عنه في الكلام على قوله تعالى: {و ما قتلُوهُ و ما صلبُوهُ و لكِنْ شُبِّه لهُمْ} (الآية) النساء - ١٥٧.

  • و في العيون، عن الرضا (عليه السلام)قال: إنه ما شبه أمر أحد من أنبياء الله و حججه على الناس إلا أمر عيسى وحده لأنه رفع من الأرض حيا و قبض روحه بين السماء و الأرض ثم رفع إلى السماء، و رد عليه روحه، و ذلك‌ قوله عز و جل: {إِذْ قال اللّهُ يا عِيسى‌ إِنِّي مُتوفِّيك و رافِعُك إِليّ و مُطهِّرُك}، و قال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة: {و كُنْتُ عليْهِمْ شهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فلمّا توفّيْتنِي كُنْت أنْت الرّقِيب عليْهِمْ و أنْت على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ شهِيدٌ}.

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام)قال: رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم و من نسج مريم و من خياطة مريم فلما انتهى إلى السماء نودي يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا.

تفسير الميزان ج۳

219
  • أقول: و سيأتي توضيح معنى الروايتين في أواخر سورة النساء إن شاء الله تعالى.

  • و في الدر المنثور: في قوله تعالى {إِنّ مثل عِيسى‌ عِنْد اللّهِ} (الآية) أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا: أن سيدي أهل نجران و أسقفيهم السيد و العاقب لقيا نبي الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فسألاه عن عيسى فقال: كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له فأنزل الله فيه هذه الآية: {إِنّ مثل عِيسى‌ عِنْد اللّهِ} (الآية) 

  • أقول: و روي ما يقرب منه عن السدي و عكرمة و غيرهما، و روى القمي في تفسيره، أيضا نزول الآية في المورد. 

  • بحث روائي آخر في معنى المحدث 

  • في البصائر، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)عن الرسول و عن النبي و عن المحدث قال: الرسول الذي يعاين الملك‌ يأتيه بالرسالة من ربه يقول: يأمرك كذا و كذا، و الرسول يكون نبيا مع الرسالة. 

  • و النبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشي‌ء النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت: فما علمه أن الذي رأى في منامه حق؟ قال يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق و لا يعاين الملك. و المحدث الذي يسمع الصوت و لا يرى شاهدا. 

  • أقول: و رواه في الكافي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)قوله: شاهدا أي صائتا حاضرا. و يمكن أن يكون حالا من فاعل لا يرى.

  • و فيه أيضا عن بريد عن الباقر و الصادق (عليه السلام) في حديث قال بريد: فما الرسول و النبي و المحدث؟ قال: الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه، و النبي يرى في المنام، و ربما اجتمعت النبوة و الرسالة لواحد، و المحدث الذي يسمع الصوت و لا يرى الصورة قال: قلت أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق و أنه من الملك؟ قال: يوفق لذلك حتى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب و بنبيكم الأنبياء. (الحديث).

  • و فيه، عن محمد بن مسلم قال: ذكرت المحدث عند أبي عبد الله (عليه السلام)قال: فقال: إنه يسمع الصوت و لا يرى الصورة فقلت أصلحك الله كيف يعلم أنه كلام الملك؟ قال: 

تفسير الميزان ج۳

220
  • إنه يعطى السكينة و الوقار حتى يعلم أنه ملك.

  • و فيه أيضا عن أبي بصير عنه (عليه السلام)قال: كان علي محدثا و كان سلمان محدثا، قال: قلت: فما آية المحدث؟ قال: يأتيه الملك فينكت في قلبه كيت و كيت.‌

  • و فيه، عن حمران بن أعين قال: أخبرني أبو جعفر (عليه السلام): أن عليا كان محدثا فقال أصحابنا: ما صنعت شيئا أ لا سألته من يحدثه؟ فقضي أني لقيت أبا جعفر فقلت: أ لست أخبرتني: أن عليا كان محدثا؟ قال: بلى قلت: من كان يحدثه؟ قال: ملك، قلت: فأقول: إنه نبي أو رسول؟ قال: لا بل قل مثله مثل صاحب سليمان و صاحب موسى، و مثله مثل ذي القرنين، أ ما سمعت أن عليا سئل عن ذي القرنين أ نبيا كان؟ قال لا و لكن كان عبدا أحب الله فأحبه، و ناصح الله فنصحه فهذا مثله. 

  • أقول: و الروايات في معنى المحدث عن أئمة أهل البيت كثيرة جدا رواها في البصائر و الكافي و الكنز و الاختصاص و غيرها، و يوجد في روايات أهل السنة أيضا. 

  • و أما الفرق الوارد في الأخبار المذكورة بين النبي و الرسول و المحدث فقد مر الكلام في الفرق بين الرسول و النبي، و أن الوحي بمعنى تكليم الله سبحانه لعبده، فهو يوجب العلم اليقيني بنفس ذاته من غير حاجة إلى حجة، فمثله في الإلقاءات الإلهية مثل العلوم البديهية التي لا تحتاج في حصولها للإنسان إلى سبب تصديقي كالقياس و نحوه. 

  • و أما المنام فالروايات كما ترى تفسره بمعنى غير المعنى المعهود منه أعني الرؤيا يراها الإنسان في النوم العادي العارض له في يومه و ليلته بل هو حال يشبه الإغماء تسكن فيه حواس الإنسان النبي فيشاهد عند ذلك نظير ما نشاهده في اليقظة ثم يسدده الله سبحانه بإفاضته على نفسه اليقين بأنه من جانب الله سبحانه لا من تصرف الشيطان. 

  • و أما التحديث فهو سماع صوت الملك غير أنه بسمع القلب دون سمع الحس، و ليس من قبيل الخطور الذهني الذي لا يسمى سمع صوت إلا بنحو من المجاز البعيد، و لذلك ترى أن الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت و النكت في القلب، و تسميه مع ذلك تحديثا و تكليما فالمحدث يسمع صوت الملك في تحديثه و يعيه بسمعه نظير 

تفسير الميزان ج۳

221
  • ما نسمعه و يسمعه من الكلام المعتاد و الأصوات المسموعة في عالم المادة غير أنه لا يشاركه في ما يسمعه من كلام الملك غيره، و لذا كان أمرا قلبيا. 

  • و أما علمه بأن ما حدث به من كلام الملك لا من نزغة الشيطان فذلك بتأييد من الله سبحانه و تسديد كما يشير إليه ما في رواية محمد بن مسلم المتقدمة: أنه يعطى السكينة و الوقار حتى يعلم أنه ملك، و ذلك أن النزغة الشيطانية إما باطل في صورته الباطلة عند الإنسان المؤمن فظاهر أنه ليس من حديث الملائكة المكرمين الذين لا يعصون الله، و إما باطل في صورة حق و سيستتبع باطلا فالنور الإلهي الذي يلازم العبد المؤمن يبين حاله، قال تعالى: {أ و منْ كان ميْتاً فأحْييْناهُ و جعلْنا لهُ نُوراً يمْشِي بِهِ فِي النّاسِ} الأنعام - ١٢٢، و النزغة و الوسوسة مع ذلك كله لا تخلو عن اضطراب في النفس و تزلزل في القلب كما أن ذكر الله و حديثه لا ينفك عن الوقار و طمأنينة الباطن، قال تعالى: {ذلِكُمُ الشّيْطانُ يُخوِّفُ أوْلِياءهُ} آل عمران - ١٧٥، و قال: {ألا بِذِكْرِ اللّهِ تطْمئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد - ٢٨، و قال: {إِنّ الّذِين اِتّقوْا إِذا مسّهُمْ طائِفٌ مِن الشّيْطانِ تذكّرُوا فإِذا هُمْ مُبْصِرُون} الأعراف - ٢٠١، فالسكينة و الطمأنينة عند ما يلقى إلى الإنسان من حديث أو خاطر دليل كونه إلقاء رحمانيا كما أن الاضطراب و القلق دليل على كونه‌ إلقاء شيطانا و يلحق بذلك العجلة و الجزع و الخفة و نحوها. 

  • و أما ما في الروايات من أن المحدث يسمع الصوت و لا يعاين الملك فمحمول على الجهة دون التمانع بين المعنيين بمعنى أن الملاك في كون الإنسان محدثا أن يسمع الصوت من غير لزوم الرؤية فإن اتفق أن شاهد الملك حين ما يسمع الصوت فليس ذلك لأنه محدث و ذلك لأن الآيات صريحة في رؤية بعض المحدثين للملائكة حين التحديث كقوله تعالى في مريم: {فأرْسلْنا إِليْها رُوحنا فتمثّل لها بشراً سوِيًّا قالتْ إِنِّي أعُوذُ بِالرّحْمنِ مِنْك إِنْ كُنْت تقِيًّا قال إِنّما أنا رسُولُ ربِّكِ لِأهب لكِ غُلاماً زكِيًّا} الآيات: مريم - ١٩، و قوله تعالى في زوجة إبراهيم في قصة البشارة : {و لقدْ جاءتْ رُسُلُنا إِبْراهِيم بِالْبُشْرى‌ قالُوا سلاماً قال سلامٌ} إلى أن قال : {و اِمْرأتُهُ قائِمةٌ فضحِكتْ فبشّرْناها بِإِسْحاق و مِنْ وراءِ إِسْحاق يعْقُوب قالتْ يا ويْلتى‌ أ ألِدُ و أنا عجُوزٌ و هذا بعْلِي شيْخاً إِنّ هذا لشيْ‌ءٌ عجِيبٌ قالُوا أ تعْجبِين مِنْ أمْرِ اللّهِ رحْمتُ اللّهِ و بركاتُهُ عليْكُمْ أهْل الْبيْتِ إِنّهُ حمِيدٌ مجِيدٌ} هود - ٧٣. 

تفسير الميزان ج۳

222
  • و هاهنا وجه آخر: و هو أن يكون المراد بالمعاينة المنفية معاينة حقيقة الملك في نفسه دون مثاله الذي يتمثل به فإن الآيات لا تثبت أزيد من معاينة المثال كما هو ظاهر. 

  • و هاهنا وجه آخر ثالث احتمله بعضهم و هو أن المنفي من المعاينة الوحي التشريعي بأن يظهر للمحدث فيلقي إليه حكما شرعيا و ذلك صون من الله لمقام المشرعين من أنبيائه و رسله و لا يخلو عن بعد.

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٦١ الی ٦٣ ]

  • {فمنْ حاجّك فِيهِ مِنْ بعْدِ ما جاءك مِن الْعِلْمِ فقُلْ تعالوْا ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ و نِساءنا و نِساءكُمْ و أنْفُسنا و أنْفُسكُمْ ثُمّ نبْتهِلْ فنجْعلْ لعْنت اللّهِ على الْكاذِبِين ٦١ إِنّ هذا لهُو الْقصصُ الْحقُّ و ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ اللّهُ و إِنّ اللّه لهُو الْعزِيزُ الْحكِيمُ ٦٢ فإِنْ تولّوْا فإِنّ اللّه علِيمٌ بِالْمُفْسِدِين ٦٣}

  • (بيان‌) 

  • قوله تعالى: {فمنْ حاجّك فِيهِ مِنْ بعْدِ ما جاءك مِن الْعِلْمِ}، الفاء للتفريع، و هو تفريع المباهلة على التعليم الإلهي‌ بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم (عليه السلام)مع ما أكده في ختمه بقوله: {الْحقُّ مِنْ ربِّك فلا تكُنْ مِن الْمُمْترِين}. و الضمير في قوله: {فِيهِ}، راجع إلى عيسى أو إلى الحق المذكور في الآية السابقة. 

  • و قد كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بيانا إلهيا لا يرتاب فيه مشتملا على البرهان الساطع الذي يدل عليه قوله: {إِنّ مثل عِيسى‌ عِنْد اللّهِ كمثلِ آدم} (الآية) فالعلم الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضا، و لذلك كان يشمل أثره رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و غيره من كل سامع فلو فرض تردد من نفس السامع المحاج من جهة كون البيان وحيا إلهيا لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهانا يناله العقل السليم، و لعله لذلك قيل: من 

تفسير الميزان ج۳

223
  • بعد ما جاءك من العلم و لم يقل: من بعد ما بيناه لهم. 

  • و هاهنا نكتة أخرى و هي أن في تذكيره (صلى الله عليه وآله و سلم)بالعلم تطييبا لنفسه الشريفة أنه غالب بإذن الله، و أن ربه ناصره و غير خاذله البتة. 

  • قوله تعالى: {فقُلْ تعالوْا ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ و نِساءنا و نِساءكُمْ و أنْفُسنا و أنْفُسكُمْ}، المتكلم مع الغير في قوله: {ندْعُ}، غيره في قوله: {أبْناءنا} و {نِساءنا} و {أنْفُسنا} فإنه في الأول مجموع المتخاصمين من جانب الإسلام و النصرانية، و في الثاني و ما يلحق به من جانب الإسلام، و لذا كان الكلام في معنى قولنا: ندع الأبناء و النساء و الأنفس فندعو نحن أبناءنا و نساءنا و أنفسنا و تدعون أنتم أبناءكم و نساءكم و أنفسكم، ففي الكلام إيجاز لطيف. 

  • و المباهلة و الملاعنة و إن كانت‌ بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله و بين رجال النصارى لكن عممت الدعوة للأبناء و النساء ليكون أدل على اطمينان الداعي بصدق دعواه و كونه على الحق لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم و الشفقة عليهم فتراه يقيهم بنفسه، و يركب الأهوال و المخاطرات دونهم، و في سبيل حمايتهم و الغيرة عليهم و الذب عنهم، و لذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد و أدوم. 

  • و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن المراد بقوله: {ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ}إلخ، ندع نحن أبناءكم و نساءكم و أنفسكم، و تدعوا أنتم أبناءنا و نساءنا و أنفسنا. و ذلك لإبطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الأبناء و النساء في المباهلة. 

  • و في تفصيل التعداد دلالة أخرى على اعتماد الداعي و ركونه إلى الحق، كأنه يقول: ليباهل الجمع الجمع فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين حتى يشمل اللعن و العذاب الأبناء و النساء و الأنفس فينقطع بذلك دابر المعاندين، و ينبت أصل المبطلين. 

  • و بذلك يظهر أن الكلام لا يتوقف في صدقه على كثرة الأبناء و لا على كثرة النساء و لا على كثرة الأنفس فإن المقصود الأخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير و كبير، و ذكور و إناث، و قد أطبق المفسرون و اتفقت الرواية و أيده التاريخ: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حضر للمباهلة و لم يحضر معه إلا علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام)فلم يحضر لها إلا نفسان و ابنان و امرأة واحدة و قد امتثل أمر الله سبحانه فيها. 

  • على أن المراد من لفظ الآية أمر، و المصداق الذي ينطبق عليه الحكم بحسب 

تفسير الميزان ج۳

224
  • الخارج أمر آخر، و قد كثر في القرآن الحكم أو الوعد و الوعيد للجماعة، و مصداقه بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى: {الّذِين يُظاهِرُون مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنّ أُمّهاتِهِمْ} (الآية) المجادلة - ٢، و قوله تعالى: {و الّذِين يُظاهِرُون مِنْ نِسائِهِمْ ثُمّ يعُودُون لِما قالُوا} المجادلة - ٣، و قوله تعالى: {لقدْ سمِع اللّهُ قوْل الّذِين قئالُوا إِنّ اللّه فقِيرٌ و نحْنُ أغْنِياءُ} آل عمران - ١٨١، و قوله تعالى: {و يسْئلُونك ما ذا يُنْفِقُون قُلِ الْعفْو} البقرة - ٢١٩، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت بلفظ الجمع و مصداقها بحسب شأن النزول مفرد. 

  • قوله تعالى: {ثُمّ نبْتهِلْ فنجْعلْ لعْنت اللّهِ على الْكاذِبِين}،الابتهال من البهلة بالفتح و الضم و هي اللعنة، هذا أصله ثم كثر استعماله في الدعاء و المسألة إذا كان مع إصرار و إلحاح. 

  • و قوله: {فنجْعلْ لعْنت اللّهِ}، كالبيان للابتهال، و قد قيل: فنجعل، و لم يقل، فنسأل إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحق من الباطل على طريق التوقف و الابتناء. 

  • و قوله: {الْكاذِبِين} مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس إذ ليس المراد جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين النصارى حيث‌- قال (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله لا إله غيره و إن عيسى عبده و رسوله، و قالوا: إن عيسى هو الله أو إنه ابن الله أو إن الله ثالث ثلاثة.

  • و على هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى و المباهلة عليها بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين النصارى أعني كون أحد الطرفين مفردا و الطرف الآخر جمعا كان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد و الجمع معا كقولنا: فنجعل لعنة الله على من كان كاذبا فالكلام يدل على تحقق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة و المباهلة على أي حال: إما في جانب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إما في جانب النصارى، و هذا يعطي أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى فإن الكذب لا يكون إلا في دعوى فلمن حضر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و هم علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام)شركة في الدعوى و الدعوة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)و هذا من أفضل المناقب التي خص الله به أهل 

تفسير الميزان ج۳

225
  • بيت نبيه (عليه السلام) كما خصهم باسم الأنفس و النساء و الأبناء لرسوله (صلى الله عليه وآله و سلم)من بين رجال الأمة و نسائهم و أبنائهم. 

  • فإن قلت: قد مر أن القرآن يكثر إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد و أن إطلاق النساء في الآية مع كون من حضرت منهن للمباهلة منحصرة في فاطمة (عليه السلام)فما المانع من تصحيح استعمال لفظ الكاذبين بهذا النحو؟.

  • قلت: إن بين المقامين فارقا و هو أن إطلاق الآيات لفظ الجمع في مورد المفرد إنما هو لكون الحقيقة التي تبينها أمرا جائز التحقق من كثيرين يقضي ذلك بلحوقهم بمورد الآية في الحكم، و أما فيما لا يجوز ذلك لكون مورد الآية مما لا يتعداه الحكم، و لا يشمل غيره الوصف فلا ريب في عدم جوازه نظير قوله تعالى: {و إِذْ تقُولُ لِلّذِي أنْعم اللّهُ عليْهِ و أنْعمْت عليْهِ أمْسِكْ عليْك زوْجك و اِتّقِ اللّه} الأحزاب - ٣٧ و قوله تعالى: {لِسانُ الّذِي يُلْحِدُون إِليْهِ أعْجمِيٌّ و هذا لِسانٌ عربِيٌّ مُبِينٌ} النحل - ١٠٣ و قوله تعالى: {إِنّا أحْللْنا لك أزْواجك اللاّتِي آتيْت أُجُورهُنّ} إلى أن قال: {و اِمْرأةً مُؤْمِنةً إِنْ وهبتْ نفْسها لِلنّبِيِّ إِنْ أراد النّبِيُّ أنْ يسْتنْكِحها خالِصةً لك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين} الأحزاب - ٥٠. 

  • و أمر المباهلة في الآية مما لا يتعدى مورده و هو مباهلة النبي مع النصارى فلو لم يتحقق في المورد مدعون بوصف الجمع في كلا الطرفين لم يستقم قوله: {الْكاذِبِين} بصيغة الجمع البتة. 

  • فإن قلت: كما أن النصارى الوافدين على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)أصحاب دعوى و هي أن المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلا و لا بين نسائهم و بين رجالهم في ذلك كذلك الدعوى التي كانت في جانب‌ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)و هي أن الله لا إله إلا هو و أن عيسى بن مريم عبده و رسوله كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير اختصاص فيه بأحد من بينهم حتى بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره غير أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)أحضر من أحضر منهم على سبيل الأنموذج لما اشتملت عليه الآية من الأبناء و النساء و الأنفس، على أن الدعوى غير الدعوة و قد ذكرت أنهم شركاء في الدعوة. 

تفسير الميزان ج۳

226
  • قلت: لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الأنموذج لكان من اللازم أن يحضر على الأقل رجلين و نسوة و أبناء ثلاثة فليس الإتيان بمن أتى به إلا للانحصار و هو المصحح لصدق الامتثال بمعنى أنه لم يجد من يمتثل في الإتيان به أمره تعالى إلا من أتى و هو رجل و امرأة و ابنان. 

  • و إنك لو تأملت القصة وجدت أن وفد نجران من النصارى إنما وفدوا على المدينة ليعارضوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)و يحاجوه في أمر عيسى بن مريم فإن دعوى أنه عبد الله و رسوله إنما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الذي كان يدعيه لنفسه، و أما الذين اتبعوه من المؤمنين فما كان للنصارى بهم شغل و لا لهم في لقائهم هوى كما يدل على ذلك قوله تعالى في صدر الآية: {فمنْ حاجّك فِيهِ مِنْ بعْدِ ما جاءك مِن الْعِلْمِ فقُلْ}، و كذا قوله تعالى قبل عدة آيات: { فإِنْ حاجُّوك فقُلْ أسْلمْتُ وجْهِي لِلّهِ و منِ اِتّبعنِ}

  • و من هنا يظهر: أن إتيان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)بمن أتى به للمباهلة لم يكن إتيانا بنحو الأنموذج إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرد إيمانهم‌ في هذه المحاجة و المباهلة حتى يعرضوا للعن و العذاب المتردد بينهم و بين خصمهم، و إنما أتى (صلى الله عليه وآله و سلم)بمن أتى به من جهة أنه (صلى الله عليه وآله و سلم)كان طرف المحاجة و المداعاة فكان من حقه أن يعرض نفسه للبلاء المترقب على تقدير الكذب فلو لا أن الدعوى كانت قائمة بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لإتيانه بهم وجه فإتيانه بهم من جهة انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء و النساء و الأنفس بهم لا من جهة الإتيان بالأنموذج فقد صح أن الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به. 

  • ثم إن النصارى إنما قصدوه (صلى الله عليه وآله و سلم)لا لمجرد أنه كان يرى أن عيسى بن مريم (عليه السلام)عبد الله و رسوله و يعتقد ذلك بل لأنه كان يدعيه و يدعوهم إليه فالدعوة هي السبب العمدة التي بعثهم على الوفود و المحاجة فحضوره و حضور من حضر معه للمباهلة لمكان الدعوى و الدعوة معا فقد كانوا شركاءه في الدعوة الدينية كما شاركوه في الدعوى كما ذكرناه. 

  • فإن قلت: هب أن إتيانه بهم لكونهم منه، و انحصار هذا الوصف بهم لكن الظاهر كما تعطيه العادة الجارية أن إحضار الإنسان أحباءه و أفلاذ كبده من النساء و الصبيان في المخاطر و المهاول دليل على وثوقه بالسلامة و العافية و الوقاية فلا يدل إتيانه 

تفسير الميزان ج۳

227
  • (صلى الله عليه وآله و سلم) بهم على أزيد من ذلك و أما كونهم شركاء في الدعوة فهو بمعزل عن أن يدل عليه فعله. 

  • قلت: نعم صدر الآية لا يدل على أزيد مما ذكر لكنك قد عرفت أن ذيلها أعني قوله: ‌{على الْكاذِبِين}، يدل على تحقق كاذبين في أحد طرفي المحاجة و المباهلة البتة، و لا يتم ذلك إلا بأن يكون في كل واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إما صادقة أو كاذبة فالذين أتى بهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)مشاركون معه في الدعوى و في الدعوة كما تقدم فقد ثبت أن الحاضرين كانوا بأجمعهم صاحبي دعوى و دعوة معه (صلى الله عليه وآله و سلم)، و شركاء في ذلك. 

  • فإن قلت: لازم ما ذكرته كونهم شركاء في النبوة. 

  • قلت: كلّا فقد تبين‌ فيما أسلفناه۱ من مباحث النبوة أن الدعوة و التبليغ ليسا بعين النبوة و البعثة و إن كانا من شئونها و لوازمها، و من المناصب و المقامات الإلهية التي يتقلدها، و كذا تبين مما تقدم‌٢ من مبحث الإمامة أيضا أنهما ليسا بعين الإمامة و إن كانا من لوازمها بوجه. 

  • قوله تعالى: {إِنّ هذا لهُو الْقصصُ الْحقُّ و ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ اللّهُ}، هذا إشارة إلى ما تقدم من قصص عيسى (ع)، و الكلام مشتمل على قصر القلب أي ما قصصناه هو الحق دون ما تدعيه النصارى من أمر عيسى. 

  • و في الإتيان بإن و اللام و ضمير الفصل تأكيد بالغ لتطييب نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)و تشجيعه في أمر المباهلة بإيقاظ صفة يقينه و بصيرته و وثوقه بالوحي الذي أنزله الله سبحانه إليه، و يتعقبه التأكيد الثاني بإيراد الحقيقة بلازمها و هو قوله: {و ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ اللّهُ}، فإن هذه الجملة لازمة كون القصص المذكور حقا. 

  • قوله تعالى: {و إِنّ اللّه لهُو الْعزِيزُ الْحكِيمُ} معطوف على أول الآية، و هو بما فيه من التأكيد البالغ تطييب آخر و تشجيع لنفس النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)إن الله لا يعجز عن نصرة 

    1. في تفسير آية ٢١٣ من سورة البقرة من المجلد الثاني.
    2. في تفسير آية ١٢٤ من سورة البقرة من المجلد الأول.

تفسير الميزان ج۳

228
  • الحق و تأييده، و لا أنه يغفل أو يلهو عن ذلك بإهمال أو جهل فإنه هو العزيز (فلا يعجز عما أراده) الحكيم (فلا يجهل و لا يهمل) لا ما عملته أوهام خصماء الحق من إله غير الله سبحانه. 

  • و من هنا يظهر وجه الآيتان بالاسمين: {الْعزِيزُ الْحكِيمُ}، و أن الكلام مسوق لقصر القلب أو الإفراد. 

  • قوله تعالى: {فإِنّ اللّه علِيمٌ بِالْمُفْسِدِين}، لما كان الغرض من المحاجة و كذا المباهلة بحسب الحقيقة هو إظهار الحق لم يكن يعقل التولي عن الطريق لمريد الغرض و المقصد فلو كانوا أرادوا بذلك إظهار الحق و هم يعلمون أن الله سبحانه ولي الحق لا يرضى بزهوقه و دحوضه لم يتولوا عنها فإن تولوا فإنما هو لكونهم لا يريدون بالمحاجة ظهور الحق بل الغلبة الظاهرية و الاحتفاظ على ما في أيديهم من حاضر الوضع، و السنة التي استحكمت عليه عادتهم، فهم إنما يريدون ما تزينه لهم أهواؤهم و هوساتهم من شكل الحياة، لا الحياة الصالحة التي تنطبق على الحق و السعادة فهم لا يريدون إصلاحا بل إفساد الدنيا بإفساد الحياة السعيدة فإن تولوا فإنما هو لأنهم مفسدون. 

  • و من هنا يظهر أن الجزاء وضع فيه السبب مكان المسبب أعني الإفساد مكان عدم إرادة ظهور الحق. 

  • و قد ضمن الجزاء وصف العلم حيث قيل فإن الله عليم ثم أكد بإن ليدل على أن هذه الصفة متحققة في نفوسهم ناشبة في قلوبهم فيشعر بأنهم سيتولون عن المباهلة لا محالة، و قد فعلوا و صدقوا قول الله بفعلهم.

  • بحث روائي [المباهلة مع نصارى نجران‌] 

  • في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام): أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و كان سيدهم الأهتم و العاقب و السيد، و حضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس و صلوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال دعوهم فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا إلى ما تدعو؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، و أني رسول الله، و أن عيسى عبد مخلوق يأكل و يشرب و يحدث، قالوا: فمن 

تفسير الميزان ج۳

229
  • أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم، أ كان عبدا مخلوقا يأكل و يشرب و يحدث و ينكح؟ فسألهم النبي، فقالوا نعم: قال فمن أبوه؟ فبهتوا فأنزل الله: {إِنّ مثل عِيسى‌ عِنْد اللّهِ كمثلِ آدم خلقهُ مِنْ تُرابٍ} (الآية) و قوله: {فمنْ حاجّك فِيهِ مِنْ بعْدِ ما جاءك مِن الْعِلْمِ} إلى قوله: {فنجْعلْ لعْنت اللّهِ على الْكاذِبِين}، فقال رسول الله: فباهلوني فإن كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم، و إن كنت كاذبا أنزلت علي فقالوا أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم السيد و العاقب و الأهتم إن باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبيا، و إن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا و هو صادق فلما أصبحوا جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و معه أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين (عليه السلام)فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم هذا ابن عمه و وصيه و ختنه علي بن أبي طالب، و هذا ابنته فاطمة، و هذا ابناه الحسن و الحسين ففرقوا - فقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على الجزية و انصرفوا.

  • و في العيون، بإسناده عن الريان بن الصلت عن الرضا (عليه السلام): في حديثه مع المأمون و العلماء في الفرق بين العترة و الأمة، و فضل العترة على الأمة، و فيه قالت العلماء: هل فسر الله الاصطفاء في كتابه؟ فقال الرضا (عليه السلام): فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعا و ذكر المواضع من القرآن، و قال فيها: و أما الثالثة حين ميز الله الطاهرين من خلقه، و أمر نبيه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عز و جل: {فمنْ حاجّك فِيهِ مِنْ بعْدِ ما جاءك مِن الْعِلْمِ -فقُلْ تعالوْا ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ و نِساءنا و نِساءكُمْ و أنْفُسنا و أنْفُسكُمْ}، قالت العلماء: عنى به نفسه، قال أبو الحسن: غلطتم إنما عنى به علي بن أبي طالب، و مما يدل على ذلك قول النبي: لينتهين بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلا كنفسي يعني علي بن أبي طالب، و عنى بالأبناء الحسن و الحسين، و عنى بالنساء فاطمة فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد، و فضل لا يلحقهم فيه بشر، و شرف لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس علي كنفسه‌. (الحديث).

  • و عنه، بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام): في حديث له مع الرشيد، قال الرشيد له: كيف قلتم إنا ذرية النبي، و النبي لم يعقب، و إنما العقب‌ للذكر لا للأنثى، و أنتم ولد البنت و لا يكون له عقب. فقلت: أسأله بحق القرابة و القبر و من فيه إلا 

تفسير الميزان ج۳

230
  • ما أعفاني عن هذه المسألة، فقال: تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي و أنت يا موسى يعسوبهم و إمام زمانهم، كذا أنهي إلي، و لست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، و أنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شي‌ء لا ألف و لا واو إلا تأويله عندكم، و احتججتم بقوله عز و جل: {ما فرّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شيْ‌ءٍ}، و قد استغنيتم عن رأي العلماء و قياسهم.

  • فقلت: تأذن لي في الجواب؟ فقال: هات، قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هارون و كذلك نجزي المحسنين و زكريا و يحيى و عيسى و إلياسْ}، من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ فقال: ليس له أب فقلت: إنما ألحقه بذراري الأنبياء من طريق مريم، و كذلك ألحقنا الله تعالى بذراري النبي من أمنا فاطمة، أزيدك يا أمير المؤمنين؟ قال: هات، قلت: قول الله عز و جل: ‌{ فمنْ حاجّك فِيهِ مِنْ بعْدِ ما جاءك مِن الْعِلْمِ فقُلْ تعالوْا ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ و نِساءنا و نِساءكُمْ و أنْفُسنا و أنْفُسكُمْ ثُمّ نبْتهِلْ فنجْعلْ لعْنت اللّهِ على الْكاذِبِين}، و لم يدع أحد أنه أدخل النبي تحت الكساء عند المباهلة مع النصارى إلا علي بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين فكان تأويل قوله أبناءنا الحسن و الحسين، و نساءنا فاطمة و أنفسنا علي بن أبي طالب.

  • و في سؤالات المأمون عن الرضا (عليه السلام): قال المأمون: ما الدليل على خلافة جدك علي بن أبي طالب؟ قال: آية أنفسنا قال: لو لا نساءنا قال لو لا أبناءنا.

  • أقول: قوله: آية أنفسنا يريد أن الله جعل نفس علي كنفس نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و قوله: لو لا نساءنا معناه: أن كلمة نساءنا في الآية دليل على أن المراد بالأنفس الرجال فلا فضيلة فيه حينئذ، و قوله: لو لا أبناءنا معناه أن وجود أبناءنا فيها يدل على خلافه فإن المراد بالأنفس لو كان هو الرجال لم يكن مورد لذكر الأبناء.

  • و في تفسير العياشي، بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام)سئل عن فضائله فذكر بعضها ثم قالوا له زدنا فقال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أتاه حبران من أحبار النصارى من أهل نجران فتكلما في أمر عيسى فأنزل الله هذه الآية:{إِنّ مثل عِيسى‌ عِنْد اللّهِ كمثلِ آدم} إلى آخر الآية فدخل رسول الله 

تفسير الميزان ج۳

231
  • فأخذ بيد علي و الحسن و الحسين و فاطمة ثم خرج و رفع كفه إلى السماء، و فرج بين أصابعه، و دعاهم إلى المباهلة، قال: و قال أبو جعفر (عليه السلام) و كذلك المباهلة يشبك يده في يده يرفعهما إلى السماء فلما رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه: و الله لئن كان نبيا لنهلكن و إن كان غير نبي كفانا قومه فكفا و انصرفا.

  • أقول: و هذا المعنى أو ما يقرب منه مروي في روايات أخر من طرق الشيعة و في جميعها أن الذين أتى بهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) للمباهلة هم علي و فاطمة و الحسنان فقد رواه الشيخ في أماليه، بإسناده عن عامر بن سعد عن أبيه، و رواه أيضا فيه، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق (عليه السلام)، و رواه فيه أيضا بإسناده عن سالم بن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر رضوان الله عليه، و رواه أيضا فيه، بإسناده عن ربيعة بن ناجد عن علي (عليه السلام)، و رواه المفيد في كتاب الاختصاص، بإسناده عن محمد بن الزبرقان عن موسى بن جعفر (عليه السلام)، و رواه أيضا فيه، عن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جده، و رواه العياشي في تفسيره، عن محمد بن سعيد الأردني عن موسى بن محمد بن الرضا عن أخيه، و رواه أيضا عن أبي جعفر الأحول عن الصادق (عليه السلام)و رواه أيضا فيه، في رواية أخرى عن الأحول عنه (عليه السلام)، و عن المنذر عن علي (عليه السلام)، و رواه أيضا فيه، بإسناده عن عامر بن سعد، و رواه الفرات في تفسيره، معنعنا عن أبي جعفر و عن أبي رافع و الشعبي و علي (عليه السلام) و شهر بن حوشب، و رواه في روضة الواعظين، و في إعلام الورى، و في الخرائج، و غيرها.

  • و في تفسير الثعلبي، عن مجاهد و الكلبي: أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع و ننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب و كان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: و الله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، و لقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، و الله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم، و لا نبت صغيرهم و لئن فعلتم لنهلكن فإن أبيتم إلا ألف دينكم، و الإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل و انصرفوا إلى بلادكم . 

  • فأتوا رسول الله و قد غدا محتضنا بالحسين آخذا بيد الحسن و فاطمة تمشي خلفه، و علي خلفها و هو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا، فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا، 

تفسير الميزان ج۳

232
  • و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك، و أن نقرك على دينك و نثبت على ديننا، قال: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، و عليكم ما عليهم فأبوا، قال: فإني أناجزكم، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة و لكن نصالحك على أن لا تغزونا، و لا تخيفنا، و لا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صفر، و ألف في رجب، و ثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك.

  • و قال: و الذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير، و لاضطرم عليهم الوادي نارا، و لاستاصل الله نجران و أهله حتى الطير على رءوس الشجر، و لما حال الحول على النصارى كلهم‌ حتى يهلكوا. 

  • أقول: و روي القصة: قريبا منه في كتاب المغازي، عن ابن إسحاق، و رواه أيضا المالكي في الفصول المهمة، عن المفسرين قريبا منه، و رواه الحموي عن ابن جريح قريبا منه. 

  • و قوله: ألف في صفر المراد به المحرم و هو أول السنة عند العرب و قد كان يسمى صفرا في الجاهلية فيقال صفر الأول و صفر الثاني و قد كانت العرب تنسئ في الصفر الأول ثم أقر الإسلام الحرمة في الصفر الأول فسمي لذلك بشهر الله المحرم ثم اشتهر بالمحرم. 

  • و في صحيح مسلم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب، قال أما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فلن أسبه، لئن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول حين خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء و الصبيان؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ و سمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله، و يحبه الله و رسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي عليا فأتي به أرمد العين فبصق في عينيه و دفع الراية إليه ففتح الله على يده. و لما نزلت هذه الآية: {فقُلْ تعالوْا ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ و نِساءنا و نِساءكُمْ و أنْفُسنا و أنْفُسكُمْ ثُمّ نبْتهِلْ}، دعا رسول الله عليا و فاطمة و حسنا و حسينا و قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي.

تفسير الميزان ج۳

233
  • أقول: و رواه الترمذي في صحيحة، و رواه أبو المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل علي، و رواه أيضا أبو نعيم في الحلية، عن عامر بن سعد عن أبيه، و رواه الحمويني في كتاب فرائد السمطين،.

  • و في حلية الأولياء، لأبي نعيم بإسناده عن عامر بن أبي وقاص عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي.‌

  • و فيه، بإسناده عن الشعبي عن جابر قال: قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) العاقب و الطيب فدعاهما إلى الإسلام فقالا: أسلمنا يا محمد فقال: كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام فقالا: فهات إلينا، قال: حب الصليب و شرب الخمر و أكل لحم الخنزير، قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه إلى أن يفداه بالغداة فغدا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أخذ بيد علي و الحسن و الحسين و فاطمة فأرسل إليهما فأبيا أن يجيباه و أقرا له‌، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر عليهم الوادي نارا قال جابر: فيهم نزلت: {ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ}، قال جابر: {أنْفُسنا و أنْفُسكُمْ} رسول الله و علي، و أبناءنا الحسن و الحسين، و نساءنا فاطمة.

  • أقول: و رواه ابن المغازلي في مناقبه، بإسناده عن الشعبي عن جابر، و رواه أيضا الحمويني في فرائد السمطين، بإسناده عنه، و رواه المالكي في الفصول المهمة، مرسلا عنه، و رواه أيضا عن أبي داود الطيالسي عن شعبة الشعبي مرسلا، و رواه في الدر المنثور، عن الحاكم و صححه و عن ابن مردويه و أبي نعيم في الدلائل، عن جابر.

  • و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد و هو الكبير، و العاقب و هو الذي يكون بعده و صاحب رأيهم ثم ساق القصة نحوا مما مر.

  • و فيه أيضا أخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم الله إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران و أهل 

تفسير الميزان ج۳

234
  • نجران إن أسلمتم فإني أحمد إليكم‌ الله إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، و أدعوكم إلى ولاية من الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية، و إن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب و السلام، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به و ذعر ذعرا شديدا، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقرأه، فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل؟ ليس لي في النبوة رأي، لو كان رأي من أمر الدنيا أشرت عليك فيه، و جهدت لك، فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قالوا مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة، و عبد الله بن شرحبيل و جبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فسألهم و سألوه فلم نزل به و بهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى بن مريم؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما عندي فيه شي‌ء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال في عيسى صبح الغد، فأنزل الله هذه الآية: {إِنّ مثل عِيسى‌ عِنْد اللّهِ كمثلِ آدم خلقهُ مِنْ تُرابٍ}،إلى قوله: {فنجْعلْ لعْنت اللّهِ على الْكاذِبِين}، فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن و الحسين في خميلة له و فاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة، و له يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: إني أرى‌ أمرا مقبلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر و لا ظفر إلا هلك فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا، فقالا له: أنت و ذلك، فتلقى شرحبيل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك، قال: و ما هو؟ قال حكمك اليوم إلى الليل و ليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز، فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يلاعنهم و صالحهم على الجزية.

  • و فيه، أخرج ابن جرير عن علباء بن أحمر اليشكري، قال: لما نزلت هذه الآية: { فقُلْ تعالوْا ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ} (الآية) أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى علي و فاطمة و ابنيهما الحسن و الحسين، و دعا اليهود ليلاعنهم، فقال شاب من اليهود: ويحكم أ ليس عهدتم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة و خنازير؟ لا تلاعنوا فانتهوا. 

تفسير الميزان ج۳

235
  • أقول: و الرواية تؤيد أن يكون الضمير في قوله تعالى: {فمنْ حاجّك فِيهِ}، راجعا إلى الحق في قوله: {الْحقُّ مِنْ ربِّك}، فيتم بذلك حكم المباهلة لغير خصوص عيسى بن مريم (عليه السلام)، و تكون حينئذ هذه قصة أخرى واقعة بعد قصة دعوة وفد نجران إلى المباهلة على ما تقصه الأخبار الكثيرة المتظافرة المنقولة أكثرها فيما تقدم. 

  • و قال ابن طاووس في كتاب سعد السعود، رأيت في كتاب تفسير ما نزل من القرآن في النبي و أهل بيته تأليف محمد بن العباس بن مروان: أنه روى خبر المباهلة من أحد و خمسين‌ طريقا عمن سماه من الصحابة و غيرهم، و عد منهم الحسن بن علي (عليه السلام)و عثمان بن عفان و سعد بن أبي وقاص و بكر بن سمال و طلحة و الزبير و عبد الرحمن بن عوف و عبد الله بن عباس و أبا رافع مولى النبي و جابر بن عبد الله و البراء بن عازب و أنس بن مالك. 

  • و روي ذلك في المناقب، عن عدة من الرواة و المفسرين و كذا السيوطي في الدر المنثور. 

  • و من عجيب الكلام ما ذكره بعض المفسرين حيث قال: إن الروايات متفقة على أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) اختار للمباهلة عليا و فاطمة و ولديهما، و يحملون كلمة نساءنا على فاطمة، و كلمة أنفسنا على علي فقط، و مصادر هذه الروايات الشيعة، و مقصدهم منها معروف، و قد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة، و لكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي و يريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج و لا يفهم هذا من لغتهم. و أبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي، ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم و أولادهم، و كل ما يفهم من الآية أمر النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)إن يدعوا المحاجين و المجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا و نساء و أطفالا و يجمع هو المؤمنين رجالا و نساء و أطفالا، و يبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى. 

  • و هذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه، و ثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم و مما رأتهم فيما يقولون و زلزالهم فيما يعتقدون، و كونهم على غير بينة و لا يقين، و إني لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع هذا الجمع من الناس المحقين و المبطلين في 

تفسير الميزان ج۳

236
  • صعيد واحد متوجهين إلى الله في طلب لعنه و إبعاده من رحمته و أي جرأة على الله و استهزاء بقدرته و عظمته أقوى من هذا؟ 

  • قال: أما كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى (عليه السلام)فحسبنا في بيانه قوله تعالى: {مِنْ بعْدِ ما جاءك مِن الْعِلْمِ}، فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين، و في قوله: {ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ} إلخ وجهان: 

  • أحدهما: أن كل فريق يدعو الآخر فأنتم تدعون أبناءنا، و نحن ندعو أبناءكم، و هكذا الباقي. 

  • و ثانيهما: أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمون ندعو أبناءنا و نساءنا و أنفسنا، و أنتم كذلك. 

  • و لا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس، و إنما الإشكال فيه على قول الشيعة، و من شايعهم على القول بالتخصيص، انتهى. 

  • أقول: و هذا الكلام و أحسب أن الناظر فيه يكاد يتهمنا في نسبته إلى مثله، و اللبيب لا يرضى بإيداعه و أمثاله في الزبر العلمية إنما أوردناه على وهنه و سقوطه ليعلم أن‌ النزعة و العصبية إلى أين يورد صاحبه من سقوط الفهم و رداءة النظر فيهدم كل ما بنى عليه و يبني كل ما هدمه و لا يبالي، و لأن الشر يجب أن يعلم ليجتنب عنه. 

  • و الكلام في مقامين: أحدهما: دلالة الآية على أفضلية علي (عليه السلام)، و هو بحث كلامي خارج عن الغرض الموضوع له هذا الكتاب، و هو النظر في معاني الآيات القرآنية. 

  • و ثانيهما: البحث عما ذكره هذا القائل من حيث تعلقه بمدلول آية المباهلة، و الروايات الواردة في ما جرى بين النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)و بين وفد نجران، و هذا بحث تفسيري داخل في غرضنا. 

  • و قد عرفت ما تدل عليه الآية، و أن الذي نقلناه من الأخبار المتكثرة المتظافرة هو الذي يطابق مدلول الآية، و بالتأمل في ذلك يتضح وجوه الفساد في هذه الحجة المختلقة و النظر الواهي الذي لا يرجع إلى محصل، و هاك تفصيلها: 

  • منها: أن قوله: و مصادر هذه الروايات الشيعة إلى قوله: و قد اجتهدوا في 

تفسير الميزان ج۳

237
  • ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة، بعد قوله: إن الروايات متفقة، ليت شعري أي روايات يعني بهذا القول؟ أ مراده هذه الروايات المتظافرة التي أجمعت على نقلها و عدم طرحها المحدثون، و ليست بالواحدة و الاثنتين و الثلاث أطبق على نقلها و تلقيها بالقبول أهل الحديث، و أثبتها أرباب الجوامع في جوامعهم، و منهم مسلم في صحيحة و الترمذي في صحيحة و أيدها أهل التاريخ. 

  • ثم أطبق المفسرون على إيرادها و إيداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب، و فيهم جمع من أهل الحديث و التاريخ كالطبري و أبي الفداء بن كثير و السيوطي و غيرهم ثم من الذي يعنيه‌ من الشيعة المصادر لهذه الروايات؟ أ يريد بهم الذين تنتهي إليهم سلاسل الأسناد في الروايات أعني سعد بن أبي وقاص و جابر بن عبد الله و عبد الله بن عباس و غيرهم من الصحابة؟ أو التابعين الذين نقلوا عنهم بالأخذ و الرواية كأبي صالح و الكلبي و السدي و الشعبي و غيرهم، و أنهم تشيعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه فهؤلاء و أمثالهم و نظراؤهم هم الوسائط في نقل السنة، و مع رفضهم لا تبقى سنة مذكورة و لا سيرة مأثورة، و كيف يسع لمسلم أو باحث حتى ممن لا ينتحل بالإسلام أن يبطل السنة ثم يروم أن يطلع على تفاصيل ما جاء به النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)من تعليم و تشريع و القرآن ناطق بحجية قول النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)و سيرته، و ناطق ببقاء الدين على حيوته، و لو جاز بطلان السنة من رأس لم يبق للقرآن أثر و لا لإنزاله ثمر. 

  • أو أنه يريد أن الشيعة دسوا هذه الأحاديث في جوامع الحديث و كتب التاريخ، فيعود محذور سقوط السنة، و بطلان الشريعة بل يكون البلوى أعم و الفساد أتم. 

  • و منها: قوله: و يحملون كلمة {نِساءنا} على فاطمة، و كلمة {أنْفُسنا} على علي فقط، مراده به أنهم يقولون بأن كلمة {نِساءنا} أطلقت و أريدت بها فاطمة و كذا المراد بكلمة {أنْفُسنا} علي فقط، و كأنه فهمه مما يشتمل عليه بعض الروايات السابقة: قال جابر: {نِساءنا} فاطمة و {أنْفُسنا} علي الخبر، و قد أساء الفهم فليس المراد في الآية بلفظ نسائنا فاطمة، و بلفظ أنفسنا علي بل المراد أنه (صلى الله عليه وآله و سلم)إذ لم يأت في مقام الامتثال إلا بها و به كشف ذلك أنها هي المصداق الفرد لنسائنا، و أنه هو المصداق الوحيد لأنفسنا و أنهما مصداق أبنائنا، و كان المراد بالأبناء و النساء و الأنفس في الآية هو الأهل فهم 

تفسير الميزان ج۳

238
  • أهل بيت رسول الله و خاصته كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر إتيانه (صلى الله عليه وآله و سلم)بهم - إنه قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي‌ فإن معنى الجملة أني لم أجد من أدعوه غير هؤلاء. 

  • و يدل على ما ذكرناه من المراد ما وقع في بعض الروايات: {أنْفُسنا و أنْفُسكُمْ}، رسول الله و علي، فإن اللفظ صريح في أن المقصود بيان المصداق دون معنى اللفظ. 

  • و منها: قوله: و لكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة {نِساءنا} لا يقولها العربي و يريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج و لا يفهم هذا من لغتهم، و أبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي، و هذا المعنى العجيب الذي توهمه هو الذي أوجب أن يطرح هذه الروايات على كثرتها ثم يطعن على رواتها و كل من تلقاها بالقبول، و يرميهم بما ذكره و قد كان من الواجب عليه أن يتنبه لموقفه من تفسير الكتاب، و يذكر هؤلاء الجم الغفير من أئمة البلاغة و أساتيذ البيان، و قد أوردوها في تفسيرهم و سائر مؤلفاتهم من غير أي تردد أو اعتراض. 

  • فهذا صاحب الكشاف و هو الذي ربما خطأ أئمة القراءة في قراءتهم يقول في ذيل تفسير الآية: و فيه دليل لا شي‌ء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (عليه السلام)و فيه برهان واضح على صحة نبوة النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)لأنه لم يرو أحد من موافق و لا مخالف: أنهم أجابوا إلى ذلك، انتهى. 

  • فكيف خفي على هؤلاء العظماء أبطال البلاغة و فرسان الأدب أن هذه الأخبار على كثرتها و تكررها في جوامع الحديث تنسب إلى القرآن أنه يغلط في بيانه فيطلق النساء (و هو جمع) في مورد نفس واحدة؟. 

  • لا و عمري، و إنما التبس الأمر على هذا القائل و اشتبه عنده المفهوم بالمصداق فتوهم: أن الله عز اسمه لو قال لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): {فمنْ حاجّك فِيهِ مِنْ بعْدِ ما جاءك مِن الْعِلْمِ فقُلْ تعالوْا ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ} إلخ، و صح أن المحاجين عند نزول الآية وفد نجران و هم أربعة عشر رجلا على ما في بعض الروايات ليس عندهم نساء و لا أبناء، و صح أيضا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خرج إلى مباهلتهم و ليس معه إلا علي و فاطمة و الحسنان كان لازم ذلك أن معنى من حاج وفد نجران، و معنى نسائنا المرأة الواحدة، و معنى أنفسنا النفس الواحدة، و بقي نساؤكم و أبناؤكم لا معنى لهما إذ لم يكن مع 

تفسير الميزان ج۳

239
  • الوفد نساء و لا أبناء! 

  • و كان عليه أن يضيف إلى ذلك لزوم استعمال الأبناء و هو جمع في التثنية و هو أشنع من استعمال الجمع في المفرد فإن استعمال الجمع في المفرد ربما وجد في كلام المولدين و إن لم يوجد في العربية الأصيلة إلا في التكلم لغرض التعظيم لكن استعمال الجمع في المثنى مما لا مجوز له أصلا. 

  • فهذا هو الذي دعاه إلى طرح الروايات و رماها بالوضع، و ليس الأمر كما توهمه. 

  • توضيح ذلك أن الكلام البليغ إنما يتبع فيه ما يقتضيه المقام من كشف ما يهم كشفه فربما كان المقام مقام التخاطب بين متخاطبين أو قبيلين‌ ينكر أو يجهل كل منهما حال صاحبه فيوضع الكلام على ما يقتضيه الطبع و العادة فيؤتى في التعبير بما يناسب ذلك فأحد القبيلين المتخاصمين إذا أراد أن يخبر صاحبه أن الخصومة و الدفاع قائمة بجميع أشخاص قبيله من ذكور و إناث و صغير و كبير فإنما يقول: نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال و الظعائن و الأولاد فيضع الكلام على ما تقتضيه الطبع و العادة فإن العادة تقتضي أن يكون للقبيل من الناس نساء و أولاد و الغرض متعلق بأن يبين للخصم أنهم يد واحدة على من يخاصمهم و يخاصمونه، و لو قيل: نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال و النساء و ابنين لنا كان إخبارا بأمر زائد على مقتضى المقام محتاجا إلى عناية زائدة و تعرفا إلى الخصم لنكتة زائدة. 

  • و أما عند المتعارفين و الأصدقاء و الأخلة فربما يوضع الكلام على مقتضى الطبع و العادة فيقال في الدعوة للضيافة و الاحتفال: سنقرئكم بأنفسنا و نسائنا و أطفالنا، و ربما يسترسل في التعرف فيقال: سنخدمكم بالرجال و البنت و السبطين الصبيين، و نحو ذلك. 

  • فللطبع و العادة و ظاهر الحال حكم، و لواقع الأمر و خارج العين حكم، و ربما يختلفان، فمن بنى كلامه على حكاية ما يعلم من ظاهر حاله، و يقضي به الطبع و العادة فيه ثم بدا حقيقة حاله و واقع أمره على خلاف ما حكاه من ظاهر حاله لم يكن غالطا في كلامه، و لا كاذبا في خبره، و لا لاغيا هازلا في قوله. 

  • و الآية جارية على هذا المجرى فقوله: {فقُلْ تعالوْا ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ و نِساءنا 

تفسير الميزان ج۳

240
  • و نِساءكُمْ و أنْفُسنا و أنْفُسكُمْ} إلخ، أريد به على ما تقدم: أدعهم إلى أن تحضر أنت و خاصتك من أهلك الذين يشاركونك في الدعوى و العلم، و يحضروا بخاصتهم من أهليهم، ثم وضع الكلام على ما يعطيه ظاهر الحال أن لرسول الله في أهله رجالا و نساء و أبناء و لهم في أهليهم رجال و نساء و أبناء فهذا مقتضى ظاهر الحال، و حكم الطبع و العادة فيه و فيهم، أما واقع الأمر و حقيقته فهو أنه لم يكن له (صلى الله عليه وآله و سلم)من الرجال و النساء و البنين إلا نفس و بنت و ابنان، و لم يكن لهم إلا رجال من غير نساء و لا أبناء، و لذلك لما أتاهم برجل و امرأة و ولدين لم يجبهوه بالتلحين و التكذيب، و لا أنهم اعتذروا عن الحضور بأنك أمرت بإحضار النساء و الأبناء و ليس عندنا نساء و لا أبناء، و لا أن من قصت عليه القصة رماها بالوضع و التمويه. 

  • و من هنا يظهر فساد ما أورده بقوله ثم وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساء و لا أبناء. 

  • و منها: قوله و كل ما يفهم من الآية أمر النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)أن يدعو المحاجين و المجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا و نساء و أطفالا، و يجمع هو المؤمنين رجالا و نساء و أطفالا، و يبتهلون إلى الله بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى إلى قوله : و أنى لمن يؤمن بالله أن يرضى أن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين و المبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه و إبعاده من رحمته؟ و أي جرأة على الله و استهزاء بقدرته و عظمته‌ أقوى من هذا؟. 

  • و ملخصه أن الآية تدعو الفريقين إلى الاجتماع بأنفسهم و نسائهم و ذراريهم في صعيد واحد ثم الابتهال بالملاعنة، و ينبغي أن يستبان ما هذا الاجتماع المدعو إليه؟ أ هو اجتماع الفريقين كافة أعني المؤمنين بأجمعهم و هم يومئذ۱ عرب ربيعة و مضر جلهم أو كلهم من اليمن و الحجاز و العراق و غيرها، و النصارى و هم أهل نجران من اليمن و نصارى الشام و سواحل البحر الأبيض و أهل الروم و الإفرنج و الإنجليز و النمسا و غيرهم. 

    1. و هو سنة تسع على ما ذكره بعض المؤرخين أو عشر على ما ذكره آخرون و إن لم يخل جميعا عن الإشكال على ما سيجي‌ء في البحث الروائي عن الآيات التالية لهذه الآيات.

تفسير الميزان ج۳

241
  • و هؤلاء الجماهير في مشارق الأرض و مغاربها تربو نفوسهم بالرجال و النساء و الذراري يومئذ على الملائين بعد الملائين و لا يشك ذو لب أن من المتعذر اجتماعهم في صعيد واحد فالأسباب العادية تأبى ذلك بجميع أركانها، و لازم ذلك أن يندب القرآن الناس إلى المحال، و ينيط ظهور حجته، و تبين الحق الذي يدعيه على ما لا يكون البتة، و كان ذلك عذرا (و نعم العذر) للنصارى في عدم إجابتهم دعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المباهلة، و كان ذلك أضر لدعواه منه لدعواهم. 

  • أم هو اجتماع الحاضرين من الفريقين و من في حكمهم أعني المؤمنين من أهل المدينة و ما والاها، و أهل نجران و من والاهم، و هذا و إن كان أقل و أخف شناعة من الوجه السابق لكنه من حيث استحالة التحقق و امتناع الوقوع كسابقه فمن الذي كان يسعه يومئذ أن يجمع أهل المدينة و نجران قاطبة حتى النساء و الذراري منهم في صعيد للملاعنة، و هل هذه الدعوة إلا تعليقا بالمحال، و اعترافا بأن الحق متعذر الظهور. 

  • أم هو اجتماع المتلبسين بالخصام و الجدال من الفريقين أعني النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)و الحاضرين عنده من المؤمنين، و وفد نجران من النصارى، و يرد عليه حينئذ ما أورده بقوله: ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم و أولادهم، و كان ذلك وقوعا فيما ذكره من المحذور. 

  • و منها: قوله: أما كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى (عليه السلام)فحسبنا في بيانه قوله تعالى: {مِنْ بعْدِ ما جاءك مِن الْعِلْمِ}، فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين. 

  • أقول: أما كون العلم فيها بمعنى اليقين فهو حق و أما كون الآية دالة على كون المؤمنين على يقين من أمر عيسى (عليه السلام) فليت شعري من أين له إثبات ذلك؟ و الآية غير متعرضة بلفظها: {فمنْ حاجّك فِيهِ مِنْ بعْدِ ما جاءك} إلخ إلا لشأن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و مقام التخاطب أيضا لا يشمل غيره (صلى الله عليه وآله و سلم)من المؤمنين فإن الوفد من النصارى ما كان لهم هم إلا المحاجة و الخصام مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و لم يكن لهم هوى في لقاء المؤمنين، و لا كلموهم بكلمة، و لا كلمهم المؤمنون بكلمة. 

تفسير الميزان ج۳

242
  • نعم لو دلت الآية على حصول العلم لأحد غير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لدل فيمن جي‌ء به للمباهلة على ما استفدناه من قوله تعالى: {على الْكاذِبِين} فيما تقدم. 

  • بل القرآن يدل على عدم عموم العلم و اليقين لجميع المؤمنين حيث يقول تعالى: {و ما يُؤْمِنُ أكْثرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ و هُمْ مُشْرِكُون} يوسف - ١٠٦، فوصفهم بالشرك و كيف يجتمع الشرك مع اليقين، و يقول تعالى: {و إِذْ يقُولُ الْمُنافِقُون و الّذِين فِي قُلُوبِهِمْ مرضٌ ما وعدنا اللّهُ و رسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً} الأحزاب - ١٢، و يقول تعالى: {و يقُولُ الّذِين آمنُوا لوْ لا نُزِّلتْ سُورةٌ، فإِذا أُنْزِلتْ سُورةٌ مُحْكمةٌ و ذُكِر فِيها الْقِتالُ رأيْت الّذِين فِي قُلُوبِهِمْ مرضٌ ينْظُرُون إِليْك نظر الْمغْشِيِّ عليْهِ مِن الْموْتِ، فأوْلى‌ لهُمْ طاعةٌ و قوْلٌ معْرُوفٌ، فإِذا عزم الْأمْرُ فلوْ صدقُوا اللّه لكان خيْراً لهُمْ} إلى أن قال : {أُولئِك الّذِين لعنهُمُ اللّهُ فأصمّهُمْ و أعْمى‌ أبْصارهُمْ} محمد - ٢٣، فاليقين لا يتحقق به إلا بعض أولي البصيرة من متبعي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، قال تعالى: {فإِنْ حاجُّوك فقُلْ أسْلمْتُ وجْهِي لِلّهِ و منِ اِتّبعنِ} آل عمران - ٢٠، و قال تعالى: {قُلْ هذِهِ سبِيلِي أدْعُوا إِلى اللّهِ على‌ بصِيرةٍ أنا و منِ اِتّبعنِي} يوسف - ١٠٨. 

  • و منها: قوله و في قوله {ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ} إلخ، وجهان: أحدهما: أن كل فريق يدعو الآخر إلخ قد عرفت فساد وجهه الأول و عدم انطباقه على لفظ الآية إذ قد عرفت أن الغرض كان مستوفى حاصلا لو قيل: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، و إنما زيد عليه قوله: {ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ و نِساءنا و نِساءكُمْ و أنْفُسنا و أنْفُسكُمْ}، ليدل على لزوم إحضار كل من الفريقين عند المباهلة أعز الأشياء عنده و أحبها إليه و هو الأبناء و النساء و الأنفس (الأهل و الخاصة)، و هذا إنما يتم لو كان معنى الآية: ندعو نحن أبناءنا و نساءنا و أنفسنا و تدعون أنتم أبناءكم و نساءكم و أنفسكم، ثم نبتهل، و أما لو كان المعنى ندعو نحن أبناءكم و نساءكم و أنفسكم و تدعون أنتم أبناءنا و نساءنا و أنفسنا ثم نبتهل بطل الغرض المذكور. 

  • على أن هذا المعنى في نفسه مما لا يرتضيه الطبع السليم فما معنى تسليط رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) النصارى على أبنائه و نسائه، و سؤاله أن يسلطوه على ذراريهم و نسائهم ليتداعوا فيتم الحضور و المباهلة مع تأتي ذلك بدعوة كل فريق أهل نفسه لها؟. 

  • على أن هذا المعنى يحتاج في فهمه من الآية إلى فهم معنى التسليط و ما يشابهه - كما 

تفسير الميزان ج۳

243
  • تقدم - منها، و أنى لنا فهمه؟ فالحق أن هذا الوجه ساقط، و أن الوجه الآخر و هو أن يكون المراد دعوة كل أهل نفسه هو المتعين. 

  • و منها: قوله: و لا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس، و إنما الإشكال فيه على قول الشيعة و من شايعهم على القول بالتخصيص، يريد بالإشكال ما أورد على الآية من لزوم دعوة الإنسان نفسه، و هذا الإشكال غير مرتبط بشي‌ء من الوجهين أصلا و إنما هو إشكال على القول بكون المراد بأنفسنا هو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كما يحكى عن بعض المناظرات المذهبية حيث ادعى أحد الخصمين أن المراد بأنفسنا، رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأورد عليه بلزوم دعوة الإنسان نفسه و هو باطل تشير إليه الرواية الثانية المنقولة عن العيون فيما تقدم. 

  • و من هنا يظهر سقوط قوله: إنما الإشكال فيه على قول الشيعة فإن قولهم على ما قدمنا: أن المراد بأنفسنا هو الرجال من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و هم بحسب المصداق رسول الله و علي (عليه السلام)، و لا إشكال في دعوة بعضهم بعضا. 

  • فلا إشكال عليهم حتى على ما نسبه إليهم بزعمه: أن معنى أنفسنا علي فإنه لا إشكال في دعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا (عليه السلام). 

  • و قال تلميذه في المنار، بعد الإشارة إلى الروايات: و- أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه: {فقُلْ تعالوْا ندْعُ أبْناءنا و أبْناءكُمْ} الآية، قال: فجاء بأبي بكر و ولده، و عمر و ولده، و عثمان و ولده. قال: و الظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين. 

  • ثم قال بعد نقل كلام أستاذه المنقول سابقا: و في الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية و المناضلة الدينية، و هو مبني على اعتبار المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا ما استثني منها إلى آخر ما أطنب به من الكلام. 

  • أقول: أما ما ذكره من الرواية فهي رواية شاذة تخالف جميع روايات الآية على كثرتها و اشتهارها و قد أعرض عن هذه الرواية المفسرون، و هي مع ذلك تشتمل على ما لا يطابق الواقع و هو جعله لكل من المذكورين فيه ولدا. و لا ولد يومئذ لجميعهم البتة. 

تفسير الميزان ج۳

244
  • و كأنه يريد بقوله: و الظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين، أن يستظهر من الرواية الدلالة على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أحضر جميع المؤمنين و أولادهم فيكون قوله: فجاء بأبي بكر و ولده إلخ، كناية عن إحضاره عامة المؤمنين، و كأنه يريد به تأييد شيخة فيما ذكره من المعنى. و أنت ترى ما عليه الرواية من الشذوذ و الإعراض و المتن ثم في الدلالة على ما ذكره من المعنى. 

  • و أما ما ذكره من دلالة الآية على مشاركة النساء الرجال في الحقوق العامة فلو تم ما ذكره‌ دل على مشاركة الأطفال أيضا، و في هذا وحده كفاية في بطلان ما ذكره. 

  • و قد قدمنا الكلام في اشتراكهن معهم عند الكلام على آيات الطلاق في الجزء الثاني من الكتاب و سيأتي شطر في ما يناسبه من المورد من غير حاجة إلى مثل ما استفاده من الآية 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٦٤ الی ٧٨] 

  • {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ تعالوْا إِلى‌ كلِمةٍ سواءٍ بيْننا و بيْنكُمْ ألاّ نعْبُد إِلاّ اللّه و لا نُشْرِك بِهِ شيْئاً و لا يتّخِذ بعْضُنا بعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فإِنْ تولّوْا فقُولُوا اِشْهدُوا بِأنّا مُسْلِمُون ٦٤ يا أهْل الْكِتابِ لِم تُحاجُّون فِي إِبْراهِيم و ما أُنْزِلتِ التّوْراةُ و الْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بعْدِهِ أ فلا تعْقِلُون ٦٥ ها أنْتُمْ هؤُلاءِ حاججْتُمْ فِيما لكُمْ بِهِ عِلْمٌ فلِم تُحاجُّون فِيما ليْس لكُمْ بِهِ عِلْمٌ و اللّهُ يعْلمُ و أنْتُمْ لا تعْلمُون ٦٦ ما كان إِبْراهِيمُ يهُودِيًّا و لا نصْرانِيًّا و لكِنْ كان حنِيفاً مُسْلِماً و ما كان مِن الْمُشْرِكِين ٦٧ إِنّ أوْلى النّاسِ بِإِبْراهِيم للّذِين اِتّبعُوهُ و هذا النّبِيُّ و الّذِين آمنُوا و اللّهُ ولِيُّ الْمُؤْمِنِين ٦٨ ودّتْ طائِفةٌ مِنْ أهْلِ الْكِتابِ لوْ يُضِلُّونكُمْ

تفسير الميزان ج۳

245
  • و ما يُضِلُّون إِلاّ أنْفُسهُمْ و ما يشْعُرُون ٦٩ يا أهْل الْكِتابِ لِم تكْفُرُون بِآياتِ اللّهِ و أنْتُمْ تشْهدُون ٧٠يا أهْل الْكِتابِ لِم تلْبِسُون الْحقّ بِالْباطِلِ و تكْتُمُون الْحقّ و أنْتُمْ تعْلمُون ٧١ و قالتْ طائِفةٌ مِنْ أهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِل على الّذِين آمنُوا وجْه النّهارِ و اُكْفُرُوا آخِرهُ لعلّهُمْ يرْجِعُون ٧٢ و لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمنْ تبِع دِينكُمْ قُلْ إِنّ الْهُدى‌ هُدى اللّهِ أنْ يُؤْتى‌ أحدٌ مِثْل ما أُوتِيتُمْ أوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْد ربِّكُمْ قُلْ إِنّ الْفضْل بِيدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ منْ يشاءُ و اللّهُ واسِعٌ علِيمٌ ٧٣ يخْتصُّ بِرحْمتِهِ منْ يشاءُ و اللّهُ ذُو الْفضْلِ الْعظِيمِ ٧٤ و مِنْ أهْلِ الْكِتابِ منْ إِنْ تأْمنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤدِّهِ إِليْك و مِنْهُمْ منْ إِنْ تأْمنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤدِّهِ إِليْك إِلاّ ما دُمْت عليْهِ قائِماً ذلِك بِأنّهُمْ قالُوا ليْس عليْنا فِي الْأُمِّيِّين سبِيلٌ و يقُولُون على اللّهِ الْكذِب و هُمْ يعْلمُون ٧٥ بلى‌ منْ أوْفى‌ بِعهْدِهِ و اِتّقى‌ فإِنّ اللّه يُحِبُّ الْمُتّقِين ٧٦ إِنّ الّذِين يشْترُون بِعهْدِ اللّهِ و أيْمانِهِمْ ثمناً قلِيلاً أُولئِك لا خلاق لهُمْ فِي الْآخِرةِ و لا يُكلِّمُهُمُ اللّهُ و لا ينْظُرُ إِليْهِمْ يوْم الْقِيامةِ و لا يُزكِّيهِمْ و لهُمْ عذابٌ ألِيمٌ ٧٧ و إِنّ مِنْهُمْ لفرِيقاً يلْوُون ألْسِنتهُمْ بِالْكِتابِ لِتحْسبُوهُ مِن الْكِتابِ و ما هُو مِن الْكِتابِ و يقُولُون هُو مِنْ عِنْدِ اللّهِ و ما هُو مِنْ عِنْدِ اللّهِ و يقُولُون على اللّهِ الْكذِب و هُمْ يعْلمُون ٧٨} 

تفسير الميزان ج۳

246
  • بيان 

  • شروع في المرحلة الثانية من البيان المتعرض لحال أهل الكتاب عامة و النصارى خاصة و ما يلحق بذلك. فقد كانت الآيات فيما مر تعرضت لحال أهل الكتاب عامة بقوله: {إِنّ الدِّين عِنْد اللّهِ الْإِسْلامُ} آل عمران - ١٩، و بقوله: {أ لمْ تر إِلى الّذِين أُوتُوا نصِيباً مِن الْكِتابِ} آل عمران - ٢٣، ثم انعطف البيان إلى شأن النصارى خاصة بقوله: {إِنّ اللّه اِصْطفى‌ آدم و نُوحاً} إلخ، آل عمران - ٣٣، و تعرضت في أثنائها لولاية المؤمنين للكافرين بقوله: {لا يتّخِذِ الْمُؤْمِنُون الْكافِرِين أوْلِياء} آل عمران - ٢٨، فهذا في المرحلة البادئة. 

  • ثم عادت إلى بيان ما ذكرته ثانيا بلسان آخر و نظم دون النظم السابق فتعرضت لحال أهل الكتاب عامة في هذه الآيات المنقولة آنفا، و ما سيلحق بذلك من متفرقات بحسب مساس خصوصيات البيانات بذلك كقوله: {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ لِم تكْفُرُون بِآياتِ اللّهِ} إلخ: آل عمران - ٩٨، و قوله: {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ لِم تصُدُّون عنْ سبِيلِ اللّهِ} إلخ: آل عمران - ٩٩، و تعرضت لحال النصارى و ما تدعيه في أمر عيسى (عليه السلام)بقوله: {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتاب} الخ: آل عمران - ٧٩، و تعرضت لأمور ترجع إلى المؤمنين من دعوتهم إلى الإسلام و الاتحاد و الاتقاء من ولاية الكفار و اتخاذ البطانة من دون المؤمنين في آيات كثيرة متفرقة. 

  • قوله تعالى: {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ تعالوْا إِلى‌ كلِمةٍ سواءٍ بيْننا و بيْنكُمْ}، الخطاب لعامة أهل الكتاب، و الدعوة في قوله: {تعالوْا إِلى‌ كلِمةٍ} إلخ، بالحقيقة إنما هي إلى الاجتماع على معنى الكلمة بالعمل به، و إنما تنسب إلى الكلمة لتدل على كونها دائرة بألسنتهم كقولنا اتفقت كلمة القوم على كذا فيفيد معنى الإذعان و الاعتراف و النشر و الإشاعة. فالمعنى: تعالوا نأخذ بهذه الكلمة متعاونين متعاضدين في نشرها و العمل بما توجبه. 

  • و السواء في الأصل مصدر، و يستعمل وصفا بمعنى مساوي الطرفين، و سواء بيننا و بينكم أي مساو من حيث الأخذ و العمل بما توجبه، و على هذا فتوصيف الكلمة بالسواء توصيف بحال المتعلق و هو الأخذ و العمل، و قد عرفت أن العمل إنما يتعلق 

تفسير الميزان ج۳

247
  • بمعنى الكلمة لا نفسها كما أن تعليق الاجتماع أيضا على المعنى لا يخلو من عناية مجازية ففي الكلام وجوه من لطائف العنايات: نسبة الاجتماع إلى المعنى ثم وضع الكلمة مكان المعنى ثم توصيف الكلمة بالسواء!

  • و ربما قيل: إن معنى كون الكلمة سواء أن القرآن و التوراة و الإنجيل متفقة في الدعوة إليها، و هي كلمة التوحيد، و لو كان المراد به ذلك كان قوله تعالى: {ألاّ نعْبُد إِلاّ اللّه} إلخ من قبيل وضع التفسير الحق موضع الكلمة المتفق عليها، و الإعراض عما لعبت به أيديهم من تفسيره غير المرضي الذي تنطبق الكلمة بذلك على أهوائهم من الحلول و اتخاذ الابن و التثليث و عبادة الأحبار و القسيسين و الأساقفة و يكون محصل المعنى: {تعالوْا إِلى‌ كلِمةٍ سواءٍ بيْننا و بيْنكُمْ} و هي التوحيد، و لازم التوحيد رفض الشركاء و عدم اتخاذ الأرباب من دون الله سبحانه. 

  • و الذي تختتم به الآية من قوله: {فإِنْ تولّوْا فقُولُوا اِشْهدُوا بِأنّا مُسْلِمُون} يؤيد المعنى الأول فإن محصل المعنى بالنظر إليه أنه يدعو إلى هذه الكلمة و هي أن لا نعبد إلا الله إلخ لأنها مقتضى الإسلام لله الذي هو الدين عند الله، و إن كان الإسلام أيضا لازما من لوازم التوحيد لكن الدعوة في الآية إنما هي إلى التوحيد العملي و هو ترك عبادة غير الله سبحانه دون اعتقاد الوحدة، فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى: {ألاّ نعْبُد إِلاّ اللّه و لا نُشْرِك بِهِ شيْئاً و لا يتّخِذ بعْضُنا بعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ}، تفسير للكلمة السواء، و هي التي يوجبها الإسلام لله. 

  • و المراد بقوله: {ألاّ نعْبُد إِلاّ اللّه}، نفي عبادة غير الله لا إثبات عبادة الله تعالى على ما مرت الإشارة إليه في معنى كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله): أن لازم كون إلا الله، بدلا لا استثناء كون الكلام مسوقا لبيان نفي الشريك‌ دون إثبات الإله، فإن القرآن يأخذ إثبات وجود الإله و حقيته مفروغا عنه. 

  • و لما كان الكلام مسوقا لنفي الشريك في العبادة و لا ينحسم به مادة الشرك اللازم من اعتقاد البنوة و التثليث و نحو ذلك أردفه بقوله: {و لا نُشْرِك بِهِ شيْئاً و لا يتّخِذ}إلخ، فإن تسمية العبادة بعبادة الله لا تصير العبادة عبادة لله سبحانه ما لم يخلص الاعتقاد و لم يتجرد الضمير من الاعتقادات و الآراء المولودة من أصل الشرك لأن العبادة حينئذ إنما 

تفسير الميزان ج۳

248
  • تكون عبادة إله له شريك و العبادة التي يعبد بها أحد الشريكين و إن خص باسمه و وجه نحوه ليست إلا نابتة منبت التشريك لأنها لا تعدو أن تكون سهما يسهم له و حظا يقسم له من بين الشريكين أو الشركاء ففيها بعينها نحو عبادة للغير. 

  • و هذا الذي يدعو إليه النبي بأمر الله سبحانه، و هو الذي يدل عليه قوله:{ ألاّ نعْبُد إِلاّ اللّه و لا نُشْرِك بِهِ شيْئاً و لا يتّخِذ بعْضُنا بعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ}، هو الذي يجمع غرض النبوة في السيرة التي كانت الأنبياء تدعو إليها و تبسطها على المجتمع الإنساني. 

  • فقد تقدم عند الكلام على قوله تعالى: {كان النّاسُ أُمّةً واحِدةً} البقرة - ٢١٣ أن النبوة انبعاث إلهي و نهضة حقيقية يراد بها بسط كلمة الدين و أن حقيقة الدين تعديل المجتمع الإنساني في سيره الحيوي، و يتبعه تعديل حيوة الإنسان الفرد فينزل بذلك الكل منزلته التي نزله عليها الفطرة و الخلقة فيعطي به المجتمع موهبة الحرية و سعادة التكامل الفطري على وجه العدل و القسط، و كذلك الفرد فهو فيه حر مطلق في الانتفاع من جهات الحيوة فيما يهديه إليه فكره و إرادته إلا ما يضر بحيوة المجتمع و قد قيد جميع ذلك بالعبودية و الإسلام لله سبحانه، و الخضوع لسيطرة الغيب و سلطنته. 

  • و خلاصة ذلك أن الذي كانت تندب إليه جماعة الأنبياء (عليه السلام)أن يسير النوع الإنساني فرادى و مجتمعين على ما تنطق به فطرتهم من كلمة التوحيد التي تقضي بوجوب تطبيق الأعمال الفردية و الاجتماعية على‌ الإسلام لله، و بسط القسط و العدل، أعني بسط التساوي في حقوق الحيوة، و الحرية في الإرادة الصالحة و العمل الصالح. 

  • و لا يتأتى ذلك إلا بقطع منابت الاختلاف و البغي بغير الحق و استخدام القوي و استعباده للضعيف و تحكمه عليه، و تعبد الضعيف للقوي فلا إله إلا الله، و لا رب إلا الله، و لا حكم إلا لله سبحانه. 

  • و هذا هو الذي تدل عليه الآية: {ألاّ نعْبُد إِلاّ اللّه و لا نُشْرِك بِهِ شيْئاً و لا يتّخِذ بعْضُنا بعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ}» (الآية) و قال تعالى فيما يحكيه عن يوسف (عليه السلام): {يا صاحِبيِ السِّجْنِ أ أرْبابٌ مُتفرِّقُون خيْرٌ أمِ اللّهُ الْواحِدُ الْقهّارُ ما تعْبُدُون مِنْ دُونِهِ إِلاّ أسْماءً سمّيْتُمُوها أنْتُمْ و آباؤُكُمْ ما أنْزل اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أمر ألاّ تعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذلِك الدِّينُ الْقيِّمُ} يوسف - ٤٠، و قال تعالى: {اِتّخذُوا أحْبارهُمْ 

تفسير الميزان ج۳

249
  • و رُهْبانهُمْ أرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ و الْمسِيح اِبْن مرْيم و ما أُمِرُوا إِلاّ لِيعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِله إِلاّ هُو} التوبة - ٣١، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و فيما حكاه القرآن عن الأنبياء السالفين كنوح و هود و صالح و إبراهيم و شعيب و موسى و عيسى (عليه السلام)مما كلموا به أممهم شي‌ء كثير من هذا القبيل كقول نوح: {ربِّ إِنّهُمْ عصوْنِي و اِتّبعُوا منْ لمْ يزِدْهُ مالُهُ و ولدُهُ إِلاّ خساراً} نوح - ٢١، و قول هود لقومه: {أ تبْنُون بِكُلِّ رِيعٍ آيةً تعْبثُون و تتّخِذُون مصانِع لعلّكُمْ تخْلُدُون و إِذا بطشْتُمْ بطشْتُمْ جبّارِين} الشعراء - ١٣٠، و قول صالح لقومه: {و لا تُطِيعُوا أمْر الْمُسْرِفِين} الشعراء - ١٥١، و قول إبراهيم لأبيه و قومه: {ما هذِهِ التّماثِيلُ الّتِي أنْتُمْ لها عاكِفُون قالُوا وجدْنا آباءنا لها عابِدِين قال لقدْ كُنْتُمْ أنْتُمْ و آباؤُكُمْ فِي ضلالٍ مُبِينٍ} الأنبياء - ٥٤، و قوله تعالى لموسى و أخيه: {اِذْهبا إِلى‌ فِرْعوْن إِنّهُ طغى‌} إلى أن قال : {فأْتِياهُ فقُولا إِنّا رسُولا ربِّك فأرْسِلْ معنا بنِي إِسْرائِيل و لا تُعذِّبْهُمْ} طه - ٤٧، و قول عيسى لقومه: {و لِأُبيِّن لكُمْ بعْض الّذِي تخْتلِفُون فِيهِ فاتّقُوا اللّه و أطِيعُونِ} الزخرف - ٦٣، فالدين الفطري هو الذي ينفي البغي و الفساد، و هذه المظالم و السلطات بغير الحق الهادمة لأساس السعادة و المخربة لبنيان الحق و الحقيقة، و إلى ذلك يشير قول النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)في حجة الوداع: (و قد ذكره المسعودي في حوادث سنة عشر من الهجرة في مروج الذهب)، ألا و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض و كأنه (صلى الله عليه وآله و سلم)يريد به رجوع الناس إلى حكم الفطرة باستقرار سيرة الإسلام بينهم. 

  • و الكلام أعني قوله تعالى: {ألاّ نعْبُد إِلاّ اللّه} إلخ، على كونه آخذا بمجامع غرض النبوة مفصح عن سبب الحكم و ملاكه. 

  • أما قوله: {ألاّ نعْبُد إِلاّ اللّه و لا نُشْرِك بِهِ شيْئاً}، فلأن الألوهية هي التي يأله إليه و يتوله فيه كل شي‌ء من كل وجه، و هو أن يكون منشأ لكل‌ كمال في الأشياء على كثرتها و ارتباطها و اتحادها في الحاجة، و فيه كل كمال يفتاق إليه الأشياء، و هذا المعنى لا يستقيم إلا إذا كان واحدا غير كثير، و مالكا إليه تدبير كل شي‌ء، فمن الواجب أن يعبد الله لأنه إله واحد لا شريك له، و من الواجب أن لا يتخذ له شريك في عبادته، و بعبارة أخرى، هذا العالم و جميع ما يحتوي عليه لا يصح و لا يجوز أن يخضع و يتصغر إلا لمقام واحد إذ هؤلاء المربوبون لوحدة نظامهم و ارتباط وجودهم لا 

تفسير الميزان ج۳

250
  • رب لهم إلا واحد إذ لا خالق لهم إلا واحد. 

  • و أما قوله تعالى: {و لا يتّخِذ بعْضُنا بعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ} فمن حيث أفاد أن المجتمع الإنساني على كثرة أفراده و تفرق أشخاصه أبعاض من حقيقة واحدة هي حقيقة الإنسان و نوعه فما أودعته فيه يد الصنع و الإيجاد من الاستحقاق و الاستعداد الموزع بينهم على حد سواء يقضي بتساويهم في حقوق الحياة و استوائهم على مستوى واحد، و ما تفاوت فيه أحوال الأفراد و استعدادهم في اقتناء مزايا الحياة من مواهب الإنسانية العامة التي ظهرت في مظاهر خاصة من هاهنا و هناك و هنالك يجب أن تعطاه الإنسانية لكن من حيث تسأله، كما أن الازدواج و الولادة و المعالجة مثلا من مسائل الإنسانية العامة لكن الذي يعطى الازدواج هو الإنسان البالغ الذكر أو الأنثى، و الولادة يعطاها الإنسان الأنثى و العلاج يعطاه الإنسان المريض. 

  • و بالجملة أفراد الإنسان المجتمع أبعاض متشابهة من حقيقة واحدة متشابهة فلا ينبغي أن يحمل البعض إرادته و هواه على البعض إلا أن يتحمل ما يعادله، و هو التعاون على اقتناء مزايا الحياة، و أما خضوع المجتمع أو الفرد لفرد أعني الكل أو البعض لبعض بما يخرجه عن البعضية، و يرفعه عن التساوي بالاستعلاء و التسيطر و التحكم بأن يؤخذ ربا متبع المشية، يحكم مطلق العنان، و يطاع فيما يأمر و ينهى ففيه إبطال الفطرة و هدم بنيان الإنسانية. 

  • و أيضا من حيث إن الربوبية مما يختص بالله لا رب سواه فتمكين الإنسان مثله من نفسه يتصرف فيه بما يريد من غير انعكاس، اتخاذ رب من دون الله لا يقدم عليه من يسلم لله الأمر. 

  • فقد تبين أن قوله: {و لا يتّخِذ بعْضُنا بعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ} يفصح عن حجتين فيما يفيده من المعنى: إحداهما كون الأفراد أبعاضا، و الآخر كون الربوبية من خصائص الألوهية. 

  • قوله تعالى: {فإِنْ تولّوْا فقُولُوا اِشْهدُوا بِأنّا مُسْلِمُون} استشهاد، بأنهم (و هم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و من اتبعه) على الدين المرضي عند الله تعالى و هو الإسلام، قال: {إِنّ الدِّين عِنْد اللّهِ الْإِسْلامُ} آل عمران - ١٩، فينقطع بذلك خصامهم و حجاجهم إذ لا حجة على الحق و أهله. 

تفسير الميزان ج۳

251
  • و فيه إشارة إلى أن التوحيد في العبادة من لوازم الإسلام. 

  • قوله تعالى: {يا أهْل الْكِتابِ لِم تُحاجُّون فِي إِبْراهِيم} إلى آخر الآية، الظاهر أنه مقول القول الواقع في الآية السابقة، و كذا ما يأتي بعد أربع آيات‌ فيكون مقولا لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و إن كان ظاهر سياق قوله: بعد آيتين: {إِنّ أوْلى النّاسِ بِإِبْراهِيم للّذِين اِتّبعُوهُ و هذا النّبِيُّ و الّذِين آمنُوا} (الآية) أن يكون الخطاب من الله لا من رسوله بإذنه. 

  • و محاجتهم في إبراهيم (عليه السلام)بضم كل طائفة إياه إلى نفسها يشبه أن تكون أولا بالمحاجة لإظهار المحقية كأن تقول اليهود: إن إبراهيم (عليه السلام)الذي أثنى الله عليه في كتابه منا فتقول النصارى: إن إبراهيم كان على الحق، و قد ظهر الحق بظهور عيسى معه، ثم تتبدل إلى اللجاج و العصبية فتدعي اليهود أنه كان يهوديا، و تدعي النصارى أنه كان نصرانيا، و من المعلوم أن اليهودية و النصرانية إنما نشأتا جميعا بعد نزول التوراة و الإنجيل و قد نزلا جميعا بعد إبراهيم (عليه السلام)فكيف يمكن أن يكون (عليه السلام)يهوديا بمعنى المنتحل بالدين الذي يختص بموسى (عليه السلام)، و لا نصرانيا بمعنى المتعبد بشريعة عيسى (عليه السلام)، فلو قيل في إبراهيم شي‌ء لوجب أن يقال إنه كان على الحق حنيفا من الباطل إلى الحق مسلما لله سبحانه و هذه الآيات في مساق قوله تعالى: {أمْ تقُولُون إِنّ إِبْراهِيم و إِسْماعِيل و إِسْحاق و يعْقُوب و الْأسْباط كانُوا هُوداً أوْ نصارى‌ قُلْ أ أنْتُمْ أعْلمُ أمِ اللّهُ و منْ أظْلمُ مِمّنْ كتم شهادةً عِنْدهُ مِن اللّهِ} البقرة - ١٤٠. 

  • قوله تعالى: {ها أنْتُمْ هؤُلاءِ حاججْتُمْ فِيما لكُمْ بِهِ عِلْمٌ فلِم تُحاجُّون فِيما ليْس لكُمْ بِهِ عِلْمٌ} الآية، الآية تثبت لهم علما في المحاجة التي وقعت بينهم و تنفي علما و تثبته لله تعالى، و لذلك ذكر المفسرون: أن المعنى: أنكم حاججتم: في إبراهيم (عليه السلام)و لكم به علم ما، كالعلم بوجوده و نبوته، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم و هو كونه يهوديا أو نصرانيا و الله يعلم و أنتم لا تعلمون، أو أن المراد بالعلم علم ما بعيسى و خبره، و المعنى أنكم تحاجون في عيسى و لكم بخبره علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم و هو كون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا، هذا ما ذكروه. 

  • و أنت تعلم أن شيئا من الوجهين لا ينطبق على ظاهر سياق الآية: أما الأول فلأنه لم تقع لهم محاجة في وجود إبراهيم و نبوته، و أما الثاني فلأن المحاجة التي وقعت منهم في عيسى لم يكونوا فيها على الصواب بل كانوا مخطئين في خبره كاذبين في 

تفسير الميزان ج۳

252
  • دعواهم فيه فكيف يمكن أن يسمى محاجة فيما لهم به علم، و كلامه تعالى على أي حال يثبت منهم محاجة فيما لهم به علم كما يثبت لهم محاجة فيما ليس لهم به علم، فما هذه المحاجة التي هي فيما لهم به علم؟ على أن ظاهر الآية أن هاتين إنما جرتا جميعا فيما بين أهل الكتاب أنفسهم لا بينهم و بين المسلمين و إلا كان المسلمون على الباطل في الحجاج الذي أهل الكتاب فيه على علم، و هو ظاهر. 

  • و الذي ينبغي أن يقال - و الله العالم - أن من المعلوم أن المحاجة كانت جارية بين اليهود و النصارى في جميع موارد الاختلاف التي كانت بينهم، و عمدة ذلك نبوة عيسى (عليه السلام)و ما كانت تقوله النصارى في حقه (أنه الله، أو ابنه أو التثليث) فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثته و نبوته و هم على علم منه، و كانت اليهود تحاج النصارى، و تبطل ألوهيته و نبوته و التثليث و هم على علم منه فهذه محاجتهم فيما لهم به علم، و أما محاجتهم فيما ليس لهم به علم فمحاجتهم في أمر إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا. 

  • و ليس المراد بجهلهم به جهلهم بنزول التوراة و الإنجيل بعده و هو ظاهر، و لا ذهولهم عن أن السابق لا يكون تابعا للاحق فإنه خلاف ما يدل عليه قوله تعالى: {أ فلا تعْقِلُون}، فإنه يدل على أن الأمر يكفي فيه أدنى تنبيه، فهم عالمون بأنه كان سابقا على التوراة و الإنجيل لكنهم ذاهلون على مقتضى علمهم و هو أنه لا يكون حينئذ يهوديا و لا نصرانيا بل على دين الله الذي هو الإسلام لله. 

  • لكن اليهود مع ذلك قالوا: إن الدين الحق لا يكون إلا واحدا و هو اليهودية فلا محالة كان إبراهيم يهوديا، و قالت النصارى مثل ذلك فنصرت إبراهيم، و قد جهلوا في ذلك أمرا و ليس بذهول، و هو أن دين الله واحد، و هو الإسلام لله، و هو واحد مستكمل بحسب مرور الزمان و استعداد الناس من حيث تدرجهم بالكمال، و اليهودية و النصرانية شعبتان من شعب كمال الإسلام الذي هو أصل الدين، و الأنبياء (عليه السلام)بمنزلة بناة هذا البنيان، لكل منهم موقعه فيما وضعه من الأساس و مما بنى عليه من هذا البنيان الرفيع. 

  • و بالجملة فاليهود و النصارى جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسسا للإسلام و هو الدين الأصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية، و هو اسم شعبة من شعب كماله و مراتب تمامه أن يكون إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا بل يكون مسلما 

تفسير الميزان ج۳

253
  • حنيفا متلبسا باسم الإسلام الذي أسسه و هو أصل اليهودية و النصرانية دون نفسهما، و الأصل لا ينسب إلى فرعه بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه. 

  • و تسمية إبراهيم مسلما لا يهوديا و لا نصرانيا غير عده تابعا لدين النبي و شريعة القرآن ليرد الإشكال بأنه كما كان متقدما على نزول التوراة و الإنجيل فلا ينبغي أن يعد يهوديا أو نصرانيا كذلك كان متقدما على نزول القرآن و ظهور الإسلام فلا ينبغي أن يعد مسلما (حذو النعل بالنعل). 

  • و ذلك أن الإسلام بمعنى شريعة القرآن من الاصطلاحات الحادثة بعد نزول القرآن و انتشار صيت الدين المحمدي، و الإسلام الذي وصف به إبراهيم هو أصل التسليم لله سبحانه و الخضوع لمقام ربوبيته فالإشكال غير متوجه من أصله. 

  • و لعل هذا الذي ذكرناه من وجه جهلهم بمعنى الدين الأصيل، و كونه حقيقة ذات مراتب مختلفة و متدرجة في الاستكمال هو المراد بقوله تعالى: {و اللّهُ يعْلمُ و أنْتُمْ لا تعْلمُون ما كان إِبْراهِيمُ يهُودِيًّا}إلخ، و يؤيده قوله: {إِنّ أوْلى النّاسِ بِإِبْراهِيم للّذِين اِتّبعُوهُ} (الآية) و قوله تعالى في ذيل الآيات: {قُلْ آمنّا بِاللّهِ و ما أُنْزِل عليْنا و ما أُنْزِل على‌ إِبْراهِيم و إِسْماعِيل و إِسْحاق و يعْقُوب و الْأسْباطِ و ما أُوتِي مُوسى‌ و عِيسى‌ و النّبِيُّون مِنْ ربِّهِمْ لا نُفرِّقُ بيْن أحدٍ مِنْهُمْ و نحْنُ لهُ مُسْلِمُون و منْ يبْتغِ غيْر الْإِسْلامِ دِيناً فلنْ يُقْبل مِنْهُ} (الآية) آل عمران - ٨٥، على ما سيجي‌ء من البيان. 

  • قوله تعالى: {ما كان إِبْراهِيمُ يهُودِيًّا و لا نصْرانِيًّا} إلى آخر الآية، قد مر تفسيره فيما مر، و قد قيل: إن اليهود و النصارى كما كانوا يدعون أن إبراهيم (عليه السلام)منهم و على دينهم كذلك عرب الجاهلية من الوثنية كانت تدعي أنهم على الدين الحنيف دين إبراهيم (عليه السلام)حتى كان أهل الكتاب يسمونهم الحنفاء، و يدعون بالحنيفية الوثنية. 

  • و لما وصف الله سبحانه إبراهيم (عليه السلام)بقوله: {و لكِنْ كان حنِيفاً}، وجب بيانه حتى لا يتوهم منه الوثنية فلذلك أردفه بقوله: {مُسْلِماً و ما كان مِن الْمُشْرِكِين}، أي كان على الدين المرضي عند الله تعالى و هو الإسلام و ما كان من المشركين كعرب الجاهلية. 

  • قوله تعالى: {إِنّ أوْلى النّاسِ بِإِبْراهِيم للّذِين اِتّبعُوهُ و هذا النّبِيُّ و الّذِين آمنُوا} (الآية) في موضع التعليل للكلام السابق و بيان للحق في المقام و المعنى - و الله العالم - 

تفسير الميزان ج۳

254
  • أن هذا النبي المعظم إبراهيم لو أخذت النسبة بينه و بين من بعده من المنتحلين و غيرهم لكان الحق أن لا يعد تابعا لمن بعده بل يعتبر الأولوية به و الأقربية منه، و الأقرب من النبي الذي له شرع و كتاب هم الذين يشاركونه في اتباع الحق، و التلبس بالدين الذي جاء به، و الأولى بهذا المعنى بإبراهيم (عليه السلام)هذا النبي و الذين آمنوا لأنهم على الإسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم و كذا كل من اتبعه دون من يكفر بآيات الله و يلبس الحق بالباطل. 

  • و في قوله: {للّذِين اِتّبعُوهُ}، تعريض لأهل الكتاب من اليهود و النصارى بنحو الكناية أي لستم أولى بإبراهيم لعدم اتباعكم إياه في إسلامه لله. 

  • و في قوله: {و هذا النّبِيُّ و الّذِين آمنُوا}، إفراد للنبي (عليه السلام)و من اتبعه من المؤمنين من الذين اتبعوا إبراهيم إجلالا للنبي و صونا لمقامه أن يطلق عليه الاتباع كما يستشعر ذلك مثل قوله تعالى: {أُولئِك الّذِين هدى اللّهُ فبِهُداهُمُ اِقْتدِهْ} الأنعام - ٩٠حيث لم يقل: فبهم اقتده. 

  • و قد تمم التعليل و البيان بقوله: {و اللّهُ ولِيُّ الْمُؤْمِنِين}، فإن ولاية إبراهيم (ولي الله) من ولاية الله، و الله ولي المؤمنين دون غيرهم الكافرين بآياته اللابسين الحق بالباطل. 

  • قوله تعالى: {ودّتْ طائِفةٌ مِنْ أهْلِ الْكِتابِ لوْ يُضِلُّونكُمْ و ما يُضِلُّون إِلاّ أنْفُسهُمْ و ما يشْعُرُون}، الطائفة الجماعة من الناس، و كان الأصل فيه أن الناس و خاصة العرب كانوا أولا يعيشون شعوبا و قبائل بدويين يطوفون صيفا و شتاء بماشيتهم في طلب الماء و الكلإ، و كانوا يطوفون و هم جماعة تحذرا من الغيلة و الغارة فكان يقال لهم جماعة طائفة، ثم اقتصر على ذكر الوصف (الطائفة) للدلالة على الجماعة. 

  • و أما كون أهل الكتاب لا يضلون إلا أنفسهم فإن أول الفضائل الإنسانية الميل إلى الحق و اتباعه فحب صرف الناس عن الحق إلى الباطل من جهة أنه من أحوال النفس و أخلاقها رذيلة نفسانية و بئست الرذيلة و إثم من آثامها و معاصيها و بغيها بغير حق، و ما ذا بعد الحق إلا الضلال فحبهم لإضلال المؤمنين و هم على‌ الحق إضلال بعينه لأنفسهم من حيث لا يشعرون. 

  • و كذا لو تمكنوا من بعضهم بإلقاء الشبهات فأضلوه بذلك فإنما يضلون أولا أنفسهم 

تفسير الميزان ج۳

255
  • لأن الإنسان لا يفعل شيئا من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى: {منْ عمِل صالِحاً فلِنفْسِهِ و منْ أساء فعليْها و ما ربُّك بِظلاّمٍ لِلْعبِيدِ} حم السجدة - ٤٦، و أما ضلال من ضل بإضلالهم فليس بتأثير منهم بل هو بسوء فعال الضال الغاوي و شامة إرادته بإذن من الله، قال تعالى: {منْ كفر فعليْهِ كُفْرُهُ و منْ عمِل صالِحاً فلِأنْفُسِهِمْ يمْهدُون} الروم - ٤٤، و قال تعالى: {و ما أصابكُمْ مِنْ مُصِيبةٍ فبِما كسبتْ أيْدِيكُمْ و يعْفُوا عنْ كثِيرٍ و ما أنْتُمْ بِمُعْجِزِين فِي الْأرْضِ و ما لكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ ولِيٍّ و لا نصِيرٍ} الشورى - ٣١، و قد مر شطر من الكلام في خواص الأعمال في الكلام على قوله تعالى: {حبِطتْ أعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا و الْآخِرةِ} البقرة - ٢١٧، في الجزء الثاني من الكتاب. 

  • و هذا الذي ذكرناه من المعارف القرآنية التي يفيدها التوحيد الأفعالي الذي يتفرع على شمول حكم الربوبية و الملك، و به يوجه ما يفيده قوله تعالى: {و ما يُضِلُّون إِلاّ أنْفُسهُمْ و ما يشْعُرُون}، من الحصر. 

  • و أما ما ذكره المفسرون من التوجيه لمعنى الآية فلا يغني في الحصر المذكور طائلا و لذلك أغمضنا عن نقله. 

  • قوله تعالى: {يا أهْل الْكِتابِ لِم تكْفُرُون بِآياتِ اللّهِ و أنْتُمْ تشْهدُون}، قد مر أن الكفر بآيات الله غير الكفر بالله تعالى، و أن الكفر بالله هو الالتزام بنفي التوحيد صريحا كالوثنية و الدهرية، و الكفر بآيات الله إنكار شي‌ء من المعارف الإلهية بعد ورود البيان و وضوح الحق، و أهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلها واحدا، و إنما ينكرون أمورا من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم و على غيرهم كنبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كون عيسى عبدا لله و رسولا منه، و أن إبراهيم ليس بيهودي و لا نصراني، و أن يد الله مبسوطة، و أن الله غني، إلى غير ذلك، فأهل الكتاب في لسان القرآن كافرون بآيات الله غير كافرين بالله، و لا ينافيه قوله تعالى: {قاتِلُوا الّذِين لا يُؤْمِنُون بِاللّهِ و لا بِالْيوْمِ الْآخِرِ و لا يُحرِّمُون ما حرّم اللّهُ و رسُولُهُ و لا يدِينُون دِين الْحقِّ مِن الّذِين أُوتُوا الْكِتاب} التوبة - ٢٩، حيث نفى الإيمان عنهم صريحا، و ليس إلا الكفر و ذلك أن ذكر عدم تحريمهم للحرام و عدم تدينهم بدين الحق في الآية يشهد بأن المراد من توصيفهم بعدم الإيمان هو التوصيف بلازم الحال فلازم حالهم من الكفر بآيات الله عدم الإيمان بالله و اليوم الآخر و إن لم يشعروا به، و ليس بالكفر الصريح. 

تفسير الميزان ج۳

256
  • و في قوله تعالى: {و أنْتُمْ تشْهدُون} - و الشهادة هو الحضور و العلم عن حس - دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله إنكارهم كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هو النبي الموعود الذي بشر به التوراة و الإنجيل مع مشاهدتهم انطباق الآيات و العلائم المذكورة فيهما عليه. 

  • و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن لفظ الآيات عام شامل لجميع الآيات و لا وجه لتخصيصه بآيات النبوة بل المراد كفرهم بجميع الآيات الحقة و الوجه في فساده ظاهر. 

  • قوله تعالى: {يا أهْل الْكِتابِ لِم تلْبِسُون الْحقّ بِالْباطِلِ} إلى آخر الآية، اللبس‌ بفتح اللام إلقاء الشبهة و التمويه أي تظهرون الحق في صورة الباطل. 

  • و في قوله: {و أنْتُمْ تعْلمُون} دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس و الكتمان ما هو في المعارف الدينية غير ما يشاهد من الآيات كالآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها. 

  • و هاتان الآيتان أعني قوله {يا أهْل الْكِتابِ لِم تكْفُرُون} إلى قوله: {و أنْتُمْ تعْلمُون} تتمة لقوله تعالى: {ودّتْ طائِفةٌ} الآية، و على هذا فعتاب الجميع بفعال البعض بنسبته إليهم من جهة اتحادهم في العنصر و النسل و الصفة، و رضاء البعض بفعال البعض و هو كثير الورود في القرآن. 

  • قوله تعالى: {و قالتْ طائِفةٌ مِنْ أهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِل} إلى آخر الآية، المراد بوجه النهار بقرينة مقابلته بآخره هو أوله فإن وجه الشي‌ء ما يبدو و يظهر به لغيره و هو في النهار أوله، و سياق قولهم يكشف عن نزول وحي على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في وجه النهار يوافق ما عليه أهل الكتاب و آخر في آخره يخالف ما هم عليه فإنما هو الذي دعاهم إلى أن يقولوا هذا القول. 

  • و على هذا فقوله: {بِالّذِي أُنْزِل على الّذِين آمنُوا} أريد به شي‌ء خاص من وحي القرآن يوافق ما عند أهل الكتاب، و قوله: {وجْه النّهارِ}، منصوب على الظرفية و متعلق بقوله: {أُنْزِل}، لا بقوله: {آمِنُوا} (صيغة الأمر)، لأنه أقرب، و قوله: {و اُكْفُرُوا آخِرهُ} في معنى و اكفروا بما أنزل في آخره فيكون من وضع الظرف موضع المظروف بالمجاز العقلي نظير قوله تعالى: {بلْ مكْرُ اللّيْلِ و النّهارِ} سبأ - ٣٣. 

تفسير الميزان ج۳

257
  • و بذلك يتأيد ما ورد في سبب النزول عن أئمة أهل البيت: أن هذه كلمة قالتها اليهود حين تغيير القبلة حيث صلى رسول الله صلاة الصبح إلى بيت المقدس و هو قبلة اليهود، ثم حولت القبلة في صلاة الظهر نحو الكعبة فقالت طائفة من اليهود: {آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِل على الّذِين آمنُوا وجْه النّهارِ} يريدون استقبال بيت المقدس، {و اُكْفُرُوا آخِرهُ} يريدون استقبال الكعبة. و يؤيده قولهم بعده على ما حكاه الله: {و لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمنْ تبِع دِينكُمْ}، أي لا تثقوا بمن لا يتبع دينكم بالإيمان به فتفشوا عنده شيئا من أسراركم و البشارات التي عندكم و كان من علائم النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)أنه يحول القبلة إلى الكعبة. 

  • و ذكر بعضهم أن قوله: {وجْه النّهارِ} متعلق بقوله: {آمِنُوا}(بصيغة الأمر) و المراد به أول النهار، و قوله: {آخِرهُ}، ظرف بتقدير في، و متعلق بقوله: {و اُكْفُرُوا}، و المراد بقولهم: {آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِل} إلخ، أن يظهر عدة منهم الإيمان بالقرآن و يلحقوا بجماعة المؤمنين ثم‌ يرتدوا في آخر النهار بإظهار أنهم إنما آمنوا أول النهار لما كاد يلوح لهم من أمارات الصدق و الحق من ظاهر الدعوة الإسلامية، و إنما ارتدوا آخر النهار لما تبين لهم من شواهد البطلان و عدم انطباق ما عندهم من بشارات النبوة و علائم الحقانية على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيكون ذلك مكيدة تكاد بها المؤمنون فيرتابون في دينهم، و يهنون في عزيمتهم فينكسر بذلك سورتهم و تبطل أحدوثتهم. 

  • و هذا المعنى في نفسه غير بعيد و خاصة من اليهود الذين لم يألوا جهدا في الكرة على الإسلام لإطفاء نوره من أي طريق ممكن غير أن لفظ الآية لا ينطبق عليه، و سيأتي للكلام تتمة نتعرض لها في البحث الروائي التالي إن شاء الله العزيز. 

  • و قال بعضهم: إن المراد آمنوا بصلاتهم إلى الكعبة أول النهار و اكفروا به آخره لعلهم يرجعون و قال آخرون: المعنى أظهروا الإيمان في صدر النهار بما أقررتم به من صفة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و اكفروا آخره بإبداء أن ما وصف به النبي الموعود لا ينطبق عليه لعلهم يرتابون بذلك فيرجعوا عن دينهم، و هذان الوجهان لا شاهد عليهما. و كيف كان المراد، لا إجمال في الآية. 

  • قوله تعالى: {و لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمنْ تبِع دِينكُمْ}إلخ، الذي يعطيه السياق هو أن تكون هذه الجملة من قول أهل الكتاب تتمة لقولهم: {آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِل على الّذِين 

تفسير الميزان ج۳

258
  • آمنُوا}، و كذا قوله تعالى: {أنْ يُؤْتى‌ أحدٌ مِثْل ما أُوتِيتُمْ أوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْد ربِّكُمْ}، و يكون قوله: {قُلْ إِنّ الْهُدى‌ هُدى اللّهِ}» جملة معترضة هو جواب الله سبحانه عن مجموع ما تقدم من كلامهم أعني قولهم: {آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِل} إلى قوله {دِينكُمْ}، على ما يفيده تغيير السياق‌، و كذا قوله تعالى {قُلْ إِنّ الْفضْل بِيدِ اللّهِ} جوابه تعالى عن قولهم: {أنْ يُؤْتى‌ أحدٌ} إلى آخره، هذا هو الذي يقتضيه ارتباط أجزاء الكلام و اتساق المعاني في الآيتين أولا، و ما تناظر الآيتين من الآيات الحاكية لأقوال اليهود في الجدال و الكيد ثانيا. 

  • و المعنى - و الله أعلم - أن طائفة من أهل الكتاب و هم اليهود قالت أي قال بعضهم لبعض: صدقوا النبي و المؤمنين في صلاتهم وجه النهار إلى بيت المقدس و لا تصدقوهم في صلاتهم إلى الكعبة آخر النهار، و لا تثقوا في الحديث بغيركم فيخبروا المؤمنين أن من شواهد نبوة النبي الموعود تحويل القبلة إلى الكعبة فإن في تصديقكم أمر الكعبة و إفشائكم ما تعلمونه من كونها من أمارات صدق الدعوة محذور أن يؤتى المؤمنون مثل ما أوتيتم من القبلة فيذهب به سوددكم و يبطل تقدمكم في أمر القبلة، و محذور أن يقيموا عليكم الحجة عند ربكم أنكم كنتم عالمين بأمر القلبة الجديدة شاهدين على حقيته ثم لم تؤمنوا. 

  • فأجاب الله تعالى عن قولهم في الإيمان بما في وجه النهار و الكفر في آخره و أمرهم بكتمان أمر القبلة لئلا يهتدي المؤمنون إلى الحق بأن الهدى الذي يحتاج إليه المؤمنون الذي هو حق الهدى إنما هو هدى الله دون هداكم، فالمؤمنون في غنى عن ذلك فإن شئتم فاتبعوا و إن شئتم فاكفروا و إن شئتم فأفشوا و إن شئتم فاكتموا. 

  • و أجاب تعالى عما ذكروه من مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا أو يحاجوهم عند عند ربهم بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا بيدكم حتى تحبسوه لأنفسكم و تمنعوا منه غيركم، و أما حديث الكتمان مخافة المحاجة فقد أعرض عن جوابه لظهور بطلانه كما فعل كذلك في قوله تعالى في هذا المعنى بعينه: {و إِذا لقُوا الّذِين آمنُوا قالُوا آمنّا و إِذا خلا بعْضُهُمْ إِلى‌ بعْضٍ قالُوا أ تُحدِّثُونهُمْ بِما فتح اللّهُ عليْكُمْ لِيُحاجُّوكُمْ بِهِ عِنْد ربِّكُمْ أ فلا تعْقِلُون أ و لا يعْلمُون أنّ اللّه يعْلمُ ما يُسِرُّون و ما يُعْلِنُون} البقرة - ٧٧، فقوله: {أ و لا يعْلمُون}، إيذان بأن هذا القول بعد ما علموا أن الله لا يتفاوت فيه السر 

تفسير الميزان ج۳

259
  • و العلانية كلام منهم لا يستوي على تعقل صحيح، و ليس جوابا لمكان الواو في قوله: {أ و لا يعْلمُون}

  • و على ما مر من المعنى فقوله تعالى: {و لا تُؤْمِنُوا} معناه، لا تثقوا و لا تصدقوا لهم الوثاقة و حفظ السر على حد قوله تعالى: {و يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِين} البراءة - ٦١، و المراد بقوله: {لِمنْ تبِع}، اليهود. 

  • و المراد بالجملة النهي عن إفشاء ما كان عندهم من حقية تحويل القبلة إلى الكعبة كما مر في قوله تعالى: {فولِّ وجْهك شطْر الْمسْجِدِ الْحرامِ} إلى أن قال: {و إِنّ الّذِين أُوتُوا الْكِتاب ليعْلمُون أنّهُ الْحقُّ مِنْ ربِّهِمْ} إلى أن قال: {الّذِين آتيْناهُمُ الْكِتاب يعْرِفُونهُ كما يعْرِفُون أبْناءهُمْ و إِنّ فرِيقاً مِنْهُمْ ليكْتُمُون الْحقّ و هُمْ يعْلمُون} البقرة - ١٤٦. 

  • و في معنى الآية أقوال شتى دائرة بين المفسرين كقول بعضهم: إن قوله تعالى: {و لا تُؤْمِنُوا} إلى آخر الآية كلام لله تعالى لا لليهود، و خطاب الجمع في قوله: {و لا تُؤْمِنُوا} و قوله: {ما أُوتِيتُمْ أوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْد ربِّكُمْ} جميعا للمؤمنين، و خطاب الإفراد في قوله: {قُلْ}، في الموضعين للنبي ص، و قول آخرين بمثله إلا أن خطاب الجمع في قوله: {أُوتِيتُمْ أوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْد ربِّكُمْ}، لليهود في الكلام عتاب و تقريع. و قول آخرين إن قوله: {و لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمنْ تبِع دِينكُمْ} من كلام اليهود، و قوله: {قُلْ إِنّ الْهُدى‌ هُدى اللّهِ أنْ يُؤْتى‌ أحدٌ} إلخ، كلام لله تعالى جوابا عما قالته اليهود، و كذا الخلاف في معنى الفضل أن المراد به الدين أو النعمة الدنيوية أو الغلبة أو غير ذلك. 

  • و هذه الأقوال على كثرتها بعيدة عما يعطيه السياق كما قدمنا الإشارة إليه و لذا لم نشتغل بها فضل اشتغال. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنّ الْفضْل بِيدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ منْ يشاءُ و اللّهُ واسِعٌ علِيمٌ}، الفضل‌ هو الزائد عن الاقتصاد، و يستعمل في المحمود كما أن الفضول يستعمل في المذموم، قال الراغب: و كل عطية لا تلزم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله: {و سْئلُوا اللّه مِنْ فضْلِهِ}-{ذلِك فضْلُ اللّهِ} {ذُو الْفضْلِ الْعظِيمِ}، و على هذا قوله: {قُلْ بِفضْلِ اللّهِ} {و لوْ لا فضْلُ اللّهِ} انتهى. 

  • و على هذا فقوله: {إِنّ الْفضْل بِيدِ اللّهِ}، من قبيل الإيجاز بالقناعة بكبرى البيان 

تفسير الميزان ج۳

260
  • القياسي، و التقدير: قل إن هذا الإنزال و الإيتاء الإلهي الذي تحتالون في تخصيصه بأنفسكم بالتظاهر على الإيمان و الكفر، و الإيصاء بالكتمان أمر لا نستوجبه معاشر الناس على الله تعالى بل هو من الفضل، و الفضل بيد الله الذي له الملك و له الحكم فله أن يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم. 

  • ففي الكلام نفي ما يدل عليه قولهم و فعلهم من تخصيص النعمة الإلهية بأنفسهم بجميع جهاته المحتملة فإن تنعم بعض الناس بفضل الله تعالى دون البعض كتنعم اليهود بنعمة الدين و القبلة، و حرمان غيرهم إما أن يكون لأن الفضل منه تعالى يمكن أن يقع تحت تأثير الغير فيزاحم المشية الإلهية، و يحبس فضله عن جانب، و يصرفه إلى آخر، و ليس كذلك فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. 

  • و إما أن يكون لأن الفضل قليل غير واف و المفضل عليهم كثيرون فيكون إيتاؤه على البعض دون البعض يحتاج إلى انضمام مرجح فيحتال إلى إقامة مرجح لتخصيص البعض الذي ينعم عليه، و ليس كذلك فإن الله سبحانه واسع الفضل و المقدرة. 

  • و إما أن يكون لأن الفضل و إن كان واسعا و بيد الله لكن يمكن أن يحتجب المفضل عليه عنه تعالى بجهل منه فلا ينال الفضل فيحتال في حجبه و ستر حاله عنه تعالى حتى يحرم من فضله، و ليس كذلك فإن الله سبحانه عليم لا يطرأ عليه جهل. 

  • قوله تعالى: {يخْتصُّ بِرحْمتِهِ منْ يشاءُ و اللّهُ ذُو الْفضْلِ الْعظِيمِ}، فلما كان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء و كان واسعا عليما أمكن أن يختص بعض عباده ببعض نعمه فإن له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، و ليس إذا لم يكن ممنوع التصرف في فضله و إيتائه عباده أن يجب عليه أن يؤتي كل فضله كل أحد فإن هذا أيضا نوع ممنوعية في التصرف بل له أن يختص بفضله من يشاء. 

  • و قد ختم الكلام بقوله: {و اللّهُ ذُو الْفضْلِ الْعظِيمِ}، و هو بمنزلة التعليل لجميع المعاني السابقة فإن لازم عظمة الفضل على الإطلاق أن يكون بيده يؤتيه من يشاء، و أن يكون واسعا في فضله، و أن يكون عليما بحال عباده و ما هو اللائق بحالهم من الفضل، و أن يكون له أن يختص بفضله من يشاء. 

  • و في تبديل الفضل بالرحمة في قوله: {يخْتصُّ بِرحْمتِهِ منْ يشاءُ}، دلالة على أن 

تفسير الميزان ج۳

261
  • الفضل و هو العطية غير الواجبة من شعب الرحمة، قال تعالى: {و رحْمتِي وسِعتْ كُلّ شيْ‌ءٍ} الأعراف - ١٥٦، و قال: {و لوْ لا فضْلُ اللّهِ عليْكُمْ و رحْمتُهُ ما زكى‌ مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ أبداً} النور - ٢١، و قال تعالى: {قُلْ لوْ أنْتُمْ تمْلِكُون خزائِن رحْمةِ ربِّي إِذاً لأمْسكْتُمْ خشْية الْإِنْفاقِ} إسراء - ١٠٠. 

  • قوله تعالى: {و مِنْ أهْلِ الْكِتابِ منْ إِنْ تأْمنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤدِّهِ إِليْك} إلى قوله: {سبِيلٌ}، إشارة إلى اختلافهم في حفظ الأمانات و العهود اختلافا فاحشا آخذا بطرفي التضاد و أن هذا و إن كان في نفسه رذيلة قومية ضارة إلا أنه ناش بينهم فاش في جماعتهم من رذيلة أخرى اعتقادية و هي ما يشتمل عليه قولهم: {ليْس عليْنا فِي الْأُمِّيِّين سبِيلٌ}، فإنهم كانوا يسمون أنفسهم بأهل الكتاب، و غيرهم بالأميين فقولهم: {ليْس عليْنا فِي الْأُمِّيِّين سبِيلٌ} معناه نفي أن يكون لغير إسرائيلي على إسرائيلي سبيل، و قد أسندوا الكلمة إلى الدين، و الدليل عليه قوله تعالى: {و يقُولُون على اللّهِ الْكذِب و هُمْ يعْلمُون بلى‌} إلخ. 

  • فقد كانوا يزعمون كما أنهم اليوم على زعمهم -أنهم هم المخصوصون بالكرامة الإلهية لا تعدوهم إلى غيرهم بما أن الله سبحانه جعل فيهم نبوة و كتابا و ملكا فلهم السيادة و التقدم على غيرهم، و استنتجوا من ذلك أن الحقوق المشرعة عندهم اللازمة المراعاة عليهم كحرمة أخذ الربا و أكل مال الغير: و هضم حقوق الناس إنما هي بينهم معاشر أهل الكتاب فالمحرم هو أكل مال الإسرائيلي على مثله، و المحظور هضم حقوق يهودي على أهل ملته، و بالجملة إنما السبيل على أهل الكتاب لأهل الكتاب، و أما غير أهل الكتاب فلا سبيل له على أهل الكتاب فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شاءوا و يفعلوا في من دونهم ما أرادوا، و هذا يؤدي إلى معاملتهم مع غيرهم معاملة الحيوان العجم كائنا من كان. 

  • و هذا و إن لم يوجد فيما عندهم من الكتب المنسوبة إلى الوحي كالتوراة و غيرها لكنه أمر أخذوه من أفواه أحبارهم فقلدوهم فيه ثم لما كان الدين الموسوي لا يعدو بني إسرائيل إلى غيرهم جعلوه جنسية بينهم، و تولد من ذلك أن هذه الكرامة و السؤدد أمر جنسي خص بذلك بنو إسرائيل خاصة فالانتساب الإسرائيلي هو مادة الشرف و عنصر السؤدد و المنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره، و هذه الروح الباغية إذا دبت في قالب قوم بعثتهم إلى إفساد الأرض و أماته روح الإنسانية و آثارها 

تفسير الميزان ج۳

262
  • الحاكمة في الجامعة البشرية. 

  • نعم أصل هذه الكلمة - و هو سلب الحقوق العامة عن بعض الأفراد و الجوامع - مما لا مناص عنه في الجامعة الإنسانية لكن الذي يعتبره المجتمع الإنساني الصالح هو سلب الحقوق عمن‌ يريد إبطال الحقوق و هدم المجتمع، و الذي يعتبره الإسلام في ثبوت الحق هو دين التوحيد من الإسلام أو الذمة فمن لا إسلام له و لا ذمة، فلا حق له من الحيوة و هو الذي ينطبق على الناموس الفطري الذي سمعت أنه المعتبر إجمالا عند المجتمع الإنساني. 

  • و لنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في الآية فقوله تعالى: {و مِنْ أهْلِ الْكِتابِ}، كان الظاهر أن يقال: و منهم، فهو من وضع الظاهر موضع الضمير و الوجه فيه دفع أن يتوهم أن هؤلاء بعض من الطائفة المذكورة في الآيتين السابقتين التي قالت: {آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِل} إلخ و لذلك لما اندفع التوهم المذكور قيل في الآية الآتية: {و إِنّ مِنْهُمْ لفرِيقاً يلْوُون ألْسِنتهُمْ بِالْكِتابِ} الآية. 

  • و هناك وجه آخر و هو أن ذكر الوصف و هو كونهم {مِنْ أهْلِ الْكِتابِ} مشعر بنوع من التعليل، و ذلك أن صدور هذا القول و الفعل منهم أعني قولهم: {ليْس عليْنا فِي الْأُمِّيِّين سبِيلٌ}، و أكلهم مال الناس بذلك لم يكن بذاك البعيد المستغرب لو كانوا أميين لأخبر عندهم من النبوة و الوحي لكنهم أهل الكتاب و عندهم الكتاب فيه حكم الله، و هم يعلمون أن الكتاب لا يحكم لهم بذلك، و لا يبيح لهم مال غيرهم لأنه غيرهم فهذا الذي قالوه ثم فعلوه. و هم أهل الكتاب منهم أغرب و أبعد، و التوبيخ و التقبيح عليهم أوجه و ألزم. 

  • و القنطار و الدينار معروفان و المقابلة بينهما على ما فيها من المحسنات البديعية و المقام مقام يذكر فيه الأمانة تفيد أنه كنى بهما عن الكثير و القليل، و المراد أن منهم من لا يخون الأمانة و إن كثرت و ثقلت قيمتها، و منهم من يخونها و إن قلت و خفت. 

  • و كذا الخطاب الموضوع في الكلام بقوله: {إِنْ تأْمنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤدِّهِ إِليْك}، غير متوجه إلى مخاطب معين بل هو للتكنية عن أي مخاطب يمكن أن يخاطب بهذا الكلام للإشعار بأن الحكم عام غير مقصور على واحد دون واحد، و الكلام في معنى قولنا: 

تفسير الميزان ج۳

263
  • إن يأمنه مؤتمن أي مؤتمن كان بقنطار يؤده إليه. 

  • و ما في قوله: {إِلاّ ما دُمْت عليْهِ قائِماً}، مصدرية على ما قيل، و التقدير إلا أن تدوم قائما عليه، و ذكر القيام عليه للدلالة على الإلحاح و الاستعجال فإن قيام المطالب على ساقه عند المطالبة من غير قعود دليل على ذلك و ربما قيل: إن ما ظرفية، و ليس بشي‌ء. 

  • و قوله: {ذلِك بِأنّهُمْ قالُوا ليْس عليْنا فِي الْأُمِّيِّين سبِيلٌ}، ظاهر السياق أن ذلك إشارة إلى مجموع المضمون المأخوذ من سابق القول أي كون بعضهم يؤدي الأمانة و إن كانت خطيرة مهمة، و بعضهم لا يؤديها و إن كانت حقيرة لا يعبأ بها إنما هو لقولهم، {ليْس عليْنا فِي الْأُمِّيِّين سبِيلٌ}، فأوجب ذلك اختلافا بينهم في الصفات الروحية كحفظ الأمانات و الاتقاء عن تضييع حقوق الناس، و الاغترار بالكرامة مع أنهم يعلمون أن الله لم يسن لهم ذلك في الكتاب و لا رضي بمثل هذه الأفعال منهم. 

  • و يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى حال الطائفة الثانية المذكورة بقوله: {و مِنْهُمْ منْ إِنْ تأْمنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤدِّهِ إِليْك}، و يكون ذكر الطائفة الأولى الأمينة لاستيفاء تمام الأقسام، و التحفظ على النصفة، و يجوز حينئذ أن تكون ضمائر الجمع في قوله: {و يقُولُون} و في قوله: {و هُمْ يعْلمُون} راجعة إلى أهل الكتاب أو راجعة إلى قوله: {منْ إِنْ تأْمنْهُ بِدِينارٍ}، بحسب المعنى و كذا يجوز على التقدير الثاني أن يكون المراد بضمير التكلم في قوله: {عليْنا}، جميع أهل الكتاب أو خصوص البعض، و يختلف المعنى باختلاف المحتملات إلا أن الجميع صحيحة مستقيمة، و عليك بالتدبر فيها. 

  • قوله تعالى: {و يقُولُون على اللّهِ الْكذِب و هُمْ يعْلمُون} إبطال لدعواهم أنه {ليْس عليْنا فِي الْأُمِّيِّين سبِيلٌ} و دليل على أنهم كانوا ينسبون ذلك إلى الوحي السماوي و التشريع الديني كما مر. 

  • قوله تعالى: {بلى‌ منْ أوْفى‌ بِعهْدِهِ و اِتّقى‌ فإِنّ اللّه يُحِبُّ الْمُتّقِين}، رد لكلامهم و إثبات لما نفوه بقولهم: {ليْس عليْنا فِي الْأُمِّيِّين سبِيلٌ}، و إيفاء العهد تتميمه بالتحفظ من العذر و النقص، و التوفية البذل و الإعطاء وافيا، و الاستيفاء الأخذ و التناول وافيا. 

  • و المراد بالعهد ما أخذ الله الميثاق عليه من عباده أن يؤمنوا به و يعبدوه على ما يشعر به قوله في الآية التالية: {إِنّ الّذِين يشْترُون بِعهْدِ اللّهِ و أيْمانِهِمْ ثمناً قلِيلاً}، أو مطلق 

تفسير الميزان ج۳

264
  • العهد الذي منه عهد الله تعالى. 

  • و قوله: {فإِنّ اللّه يُحِبُّ الْمُتّقِين} من قبيل وضع الكبرى موضع الصغرى إيثارا للإيجاز، و التقدير فإن الله يحبه لأنه متق و الله يحب المتقين، و المراد أن كرامة الله لعباده المتقين حبه لهم لا ما زعمتموه من نفي السبيل. 

  • فمفاد الكلام أن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول حتى ينالها كل من انتسب إليه انتسابا أو يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله و ميثاقه و التقوى في الدين فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة و هي المحبة و الولاية الإلهية التي لا تعدو عبادة المتقين، و أثرها النصرة الإلهية، و الحيوة السعيدة التي تعمر الدنيا و تصلح بال أهلها، و ترفع درجات الآخرة. 

  • فهذه هي الكرامة الإلهية لا أن يحمل قوما على أكتاف عباده من صالح و طالح و يطلقهم و يخلي بينهم و بين ما يشاءون و ما يعملون فيقولوا يوما: {ليْس عليْنا فِي الْأُمِّيِّين سبِيلٌ}، و يوما: {يوما نحن أولياء لله من دون الناس}۱‌، و يوما: {نحْنُ أبْناءُ اللّهِ و أحِبّاؤُهُ}٢ فيهديهم ذلك إلى إفساد الأرض، و إهلاك الحرث و النسل. 

  • قوله تعالى: {إِنّ الّذِين يشْترُون بِعهْدِ اللّهِ و أيْمانِهِمْ ثمناً قلِيلاً}، تعليل للحكم المذكور في الآية السابقة، و المعنى أن الكرامة الإلهية خاصة بمن أوفى بعهده و اتقى لأن غيرهم و هم {الّذِين يشْترُون بِعهْدِ اللّهِ و أيْمانِهِمْ ثمناً قلِيلاً} لا كرامة لهم. 

  • و لما كان نقض عهد الله و ترك التقوى إنما هو للتمتع بزخارف الدنيا و إيثار شهوات الأولى على الأخرى كان فيه وضع متاع الدنيا موضع إيفاء العهد و التقوى، و تبديل العهد به، و لذلك شبه عملهم ذلك بالمعاملة فجعل عهد الله مبيعا يشترى بالمتاع، و سمي متاع الدنيا و هو قليل بالثمن القليل و الاشتراء هو البيع فقيل: {يشْترُون بِعهْدِ اللّهِ و أيْمانِهِمْ ثمناً قلِيلاً} أي يبدلون العهد و الأيمان من متاع الدنيا. 

  • قوله تعالى: {أُولئِك لا خلاق لهُمْ فِي الْآخِرةِ و لا يُكلِّمُهُمُ اللّهُ} إلى آخر الآية، 

    1. قال تعالى: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس } (الآية)الجمعة – ١.
    2. قال تعالى: {و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه} (الآية)المائدة - ١٨.

تفسير الميزان ج۳

265
  • الخلاق‌ النصيب، و التزكية هي الإنماء نموا صالحا، و لما كان الوصف المأخوذ في بيان هذه الطائفة من الناس مقابلا للوصف المأخوذ في الطائفة الأخرى المذكورة في قوله: {منْ أوْفى‌ بِعهْدِهِ و اِتّقى‌}، ثم كانت التبعات المذكورة لوصفهم أمورا سلبية أفاد ذلك:. 

  • أولا: أن الإتيان في الإشارة بلفظ أولئك الدال على البعد لإفادة بعد هؤلاء من ساحة القرب كما أن الموفون بعهدهم المتقون مقربون لمكان حب الله تعالى لهم. 

  • و ثانيا: أن آثار محبة الله سبحانه هي الخلاق في الآخرة، و التكليم و النظر يوم القيامة، و التزكية و المغفرة، و هي رفع أليم العذاب. 

  • و الخصال التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء الناقضين لعهد الله و أيمانهم أمور ثلاثة: 

  • أحدها: أنهم لا نصيب لهم في الآخرة، و المراد بالآخرة هي الدار الآخرة (من قيام الوصف مقام الموصوف) و يعني بها الحياة التي بعد الموت كما أن المراد بالدنيا هي الدار الدنيا و هي الحياة الدنيا قبل الموت. 

  • و نفي النصيب عنهم في الآخرة لاختيارهم نصيب الدنيا عليه، و من هنا يظهر أن المراد بالثمن القليل هو الدنيا، و إنما فسرناه فيما تقدم بمتاع الدنيا لمكان توصيفه تعالى إياه بالقليل، و قد وصف به متاع الدنيا في قوله عز من قائل: { قُلْ متاعُ الدُّنْيا قلِيلٌ} النساء - ٧٧، على أن متاع الدنيا هو الدنيا. 

  • و ثانيها: أن الله لا يكلمهم و لا ينظر إليهم يوم القيامة، و قد حوذي به المحبة - الإلهية للمتقين من حيث إن الحب يوجب تزود المحب من المحبوب بالاسترسال بالنظر و التكليم عند الحضور و الوصال، و إذ لا يحبهم الله فلا يكلمهم و لا ينظر إليهم يوم القيامة و هو يوم الإحضار و الحضور، و التدرج من التكليم إلى النظر لوجود القوة و الضعف بينهما فإن الاسترسال في التكليم أكثر منه في النظر فكأنه قيل: لا نشرفهم لا كثيرا و لا قليلا. 

  • و ثالثها: أن الله لا يزكيهم و لهم عذاب أليم، و إطلاق الكلام يفيد أن المراد بهما ما يعم التزكية و العذاب في الدنيا و الآخرة. 

  • قوله تعالى: {و إِنّ مِنْهُمْ لفرِيقاً يلْوُون ألْسِنتهُمْ بِالْكِتابِ لِتحْسبُوهُ مِن الْكِتابِ 

تفسير الميزان ج۳

266
  • و ما هُو مِن الْكِتابِ}، اللي‌ هو فتل الحبل، و لي الرأس و اللسان إمالتهما. قال تعالى: {لوّوْا رُؤُسهُمْ} المنافقون - ٥، و قال تعالى: {ليًّا بِألْسِنتِهِمْ} النساء - ٤٦، و الظاهر أن المراد بذلك أنهم يقرءون ما افتروه من الحديث على الله سبحانه بألحان يقرءون بها الكتاب تلبيسا على الناس ليحسبوه من الكتاب و ما هو من الكتاب. 

  • و تكرار لفظ الكتاب ثلاث مرات في الكلام لدفع اللبس فإن المراد بالكتاب الأول هو الذي كتبوه بأيديهم و نسبوه إلى الله سبحانه، و بالثاني الكتاب الذي أنزله الله تعالى بالوحي، و بالثالث هو الثاني كرر لفظه لدفع اللبس و للإشارة إلى أن الكتاب بما أنه كتاب الله أرفع منزلة من أن يشتمل على مثل تلك المفتريات، و ذلك لما في لفظ الكتاب من معنى الوصف المشعر بالعلية. 

  • و نظيره تكرار لفظ الجلالة في قوله: {و يقُولُون هُو مِنْ عِنْدِ اللّهِ و ما هُو مِنْ عِنْدِ اللّهِ}، فالمعنى و ما هو من عند الله الذي هو إله حقا لا يقول إلا الحق قال تعالى: {و الْحقّ أقُولُ} ص - ٨٤. 

  • و أما قوله: {و يقُولُون على اللّهِ الْكذِب و هُمْ يعْلمُون} تكذيب بعد تكذيب لنسبتهم ما اختلقوه من الوحي إلى الله سبحانه فإنهم كانوا يلبسون الأمر على الناس بلحن القول فأبطله الله بقوله: {و ما هُو مِن الْكِتابِ} ثم كانوا يقولون بألسنتهم هو من عند الله فكذبهم الله: أولا بقوله: {و ما هُو مِنْ عِنْدِ اللّهِ}، و ثانيا بقوله: {و يقُولُون على اللّهِ الْكذِب}، و زاد في الفائدة أولا أن الكذب من دأبهم و ديدنهم، و ثانيا أن ذلك ليس كذبا صادرا عنهم بالتباس من الأمر عليهم بل هم عالمون به متعمدون فيه. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور: في قوله تعالى: {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ تعالوْا إِلى‌ كلِمةٍ سواءٍ} (الآية) أخرج يعني ابن جرير عن السدي، قال: ثم دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يعني الوفد من نصارى نجران فقال: {يا أهْل الْكِتابِ تعالوْا إِلى‌ كلِمةٍ سواءٍ} (الآية).

  •  أقول: و روي فيه هذا المعنى أيضا عن ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير و ظاهر الرواية أن الآية نزلت فيهم، و قد قدمنا الرواية في أول السورة الدالة على أن 

تفسير الميزان ج۳

267
  • صدر السورة إلى نيف و ثمانين آية نزلت في نصارى نجران، و هذه الآية منها لوقوعها قبل تمام العدد. 

  • و ورد في بعض الروايات أن رسول الله دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء حتى قبلوا الجزية، و ذلك لا ينافي نزول الآية في وفد نجران.

  • و في صحيح البخاري، بإسناده عن ابن عباس عن أبي سفيان في حديث طويل: يذكر فيه كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى هرقل عظيم الروم، قال أبو سفيان ثم دعا يعني هرقل بكتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقرأ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، و أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {يا أهْل الْكِتابِ تعالوْا إِلى‌ كلِمةٍ سواءٍ بيْننا و بيْنكُمْ ألاّ نعْبُد إِلاّ اللّه} إلى قوله: {اِشْهدُوا بِأنّا مُسْلِمُون}. (الحديث). 

  • أقول: و رواه أيضا مسلم في صحيحة، و رواه السيوطي في الدر المنثور، عن النسائي و عبد الرزاق و ابن أبي حاتم عن ابن عباس. 

  • و قد قيل إن كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى مقوقس عظيم القبط أيضا كان مشتملا على قوله تعالى: {يا أهْل الْكِتابِ تعالوْا إِلى‌ كلِمةٍ سواءٍ بيْننا و بيْنكُمْ}، و هناك نسخة منسوبة إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) مخطوطة بالخط الكوفي تضاهي كتابه (صلى الله عليه وآله و سلم)إلى هرقل و قد استنسخ منها أخيرا بالتصوير الشمسي ما يوجد عند كثيرين. 

  • و كيف كان فقد ذكر المؤرخون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)إنما كتب الكتب و أرسل الرسل إلى الملوك من قيصر و كسرى و النجاشي سنة ست من الهجرة، و لازمه نزول الآية في سنة ست أو قبلها و قد ذكر المؤرخون كالطبري و ابن الأثير و المقريزي أن نصارى نجران إنما وفدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)- سنة عشر من الهجرة، و ذكر آخرون كأبي الفداء في البداية و النهاية و نظيره في السيرة الحلبية أن ذلك كان في سنة تسع من الهجرة، و لازم ذلك نزول هذه الآية في سنة تسع أو عشر. 

  • و ربما قيل: إن الآية مما نزلت أول الهجرة على ما تشعر به الروايات الآتية، و ربما قيل: إن الآية نزلت مرتين نقله الحافظ ابن حجر. 

تفسير الميزان ج۳

268
  • و الذي يؤيده اتصال آيات السورة سياقا كما مرت الإشارة إليه في أول السورة: أن الآية نزلت قبل سنة تسع، و أن قصة الوفد إنما وقعت في سنة ست من الهجرة أو قبلها، و من البعيد أن يكاتب (صلى الله عليه وآله و سلم)عظماء الروم و القبط و فارس و يغمض عن نجران مع قرب الدار. 

  • و في الرواية نكتة أخرى و هي تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم، و منه يظهر ما في بعض ما نقلناه من الروايات‌- في قصة وفد نجران كما عن البيهقي في الدلائل: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم الله إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد و إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية، و إن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب و السلام‌، (الحديث). 

  • و ذلك أن سورة النمل من السور المكية و مضامين آياتها كالنص في أنها نزلت قبل هجرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)و كيف يجتمع ذلك مع قصة نجران على أن الكتاب يشتمل على أمور أخر لا يمكن توجيهها كحديث الجزية و الإيذان بالحرب و غير ذلك، و الله أعلم.

  • و في الدر المنثور، أخرج الطبراني عن ابن عباس: أن كتاب رسول الله إلى الكفار: {تعالوْا إِلى‌ كلِمةٍ سواءٍ بيْننا و بيْنكُمْ} الآية .

  • و في الدر المنثور، أيضا: في قوله تعالى: {يا أهْل الْكِتابِ لِم تُحاجُّون} (الآية) أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران و أحبار يهود عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، و قالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله فيهم: {يا أهْل الْكِتابِ لِم تُحاجُّون فِي إِبْراهِيم و ما أُنْزِلتِ التّوْراةُ و الْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بعْدِهِ} إلى قوله {و اللّهُ ولِيُّ الْمُؤْمِنِين}، فقال أبو رافع القرظي۱‌ أ تريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم فقال رجل من أهل نجران أ ذلك تريد يا محمد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني و لا 

    1. من يهود بنى قريطة.

تفسير الميزان ج۳

269
  • أمرني. فأنزل الله في ذلك من قولهما {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتاب و الْحُكْم و النُّبُوّة ثُمّ يقُول لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللّهِ} إلى قوله {بعْد إِذْ أنْتُمْ مُسْلِمُون}، ثم ذكر ما أخذ عليهم و على آبائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم و إقرارهم به على أنفسهم فقال: {و إِذْ أخذ اللّهُ مِيثاق النّبِيِّين} إلى قوله {مِن الشّاهِدِين}.

  • أقول: الآيات أعني قوله: {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتاب و الْحُكْم و النُّبُوّة} إلى آخر الآيات، أوفق سياقا و أسهل انطباقا على عيسى بن مريم (عليه السلام) منه برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما سيجي‌ء في الكلام على الآيات فلعل ما في الرواية من نزول الآيات في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) استنباط و تطبيق من ابن عباس على أن المعهود من دأب القرآن التعرض لهذا النوع من القول في صورة السؤال و الجواب أو الحكاية و الرد. 

  • و في تفسير الخازن، روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس و رواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده حديث هجرة الحبشة قال لما هاجر جعفر بن أبي طالب و أناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أرض الحبشة و استقرت بهم الدار و هاجر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة و كان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة و قالوا إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد ثارا ممن قتل منكم ببدر فاجمعوا مالا و اهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم و لينتدب إليه رجلان من ذوي رأيكم. 

  • فبعثوا عمرو بن العاص و عمارة بن أبي معيط معهم الهدايا الأدم و غيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له و سلما عليه و قالا له إن قومنا لك ناصحون شاكرون و لأصحابك محبون و إنهم بعثونا إليك لنحذر هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج يزعم أنه رسول الله و لم يتابعه أحد منا إلا السفهاء و إنا كنا قد ضيقنا عليهم الأمر و ألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد فقتلهم الجوع و العطش فلما اشتد عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك و ملكك و رعيتك فاحذرهم و ادفعهم إلينا لنكفيكم قال و آية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك و لا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك و سنتك. 

  • قال: فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزب 

تفسير الميزان ج۳

270
  • الله تعالى، فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه، ففعل جعفر فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله و ذمته فنظر عمرو إلى صاحبه فقال: أ لا تسمع كيف يرطنون بحزب الله و ما أجابهم به الملك؟ فأساءهما ذلك. 

  • ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص: أ لا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي: ما منعكم أن تسجدوا لي و تحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك و ملكك، و إنما كانت تلك التحية لنا و نحن نعبد الأوثان فبعث الله فينا نبيا صادقا، فأمرنا بالتحية التي رضيها الله و هي السلام تحية أهل الجنة فعرف النجاشي أن ذلك حق و أنه في التوراة و الإنجيل، قال: أيكم الهاتف: يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر: أنا، قال: إنك ملك من ملوك الأرض من أهل الكتاب، و لا يصلح عندك كثرة الكلام و لا الظلم، و إنما أحب أن أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما و لينصت الآخر فتسمع محاورتنا فقال عمرو لجعفر: تكلم. 

  • فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين، أ عبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا قد أبقنا من أربابنا فردنا عليهم. فقال النجاشي: أ عبيد هم أم أحرار؟ فقال بل أحرار كرام، فقال النجاشي: نجوا من العبودية فقال جعفر: سلهما: هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟ فقال عمرو: لا و لا قطرة، قال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها، قال النجاشي: إن كان قنطارا فعلي قضاؤه، فقال عمرو لا و لا قيراط، فقال النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال: كنا و إياهم على دين واحد، على دين آبائنا فتركوا ذلك، و اتبعوا غيره فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا فقال النجاشي: ما هذا الذي كنتم عليه و الدين الذي اتبعوه؟ فقال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله و نعبد الحجارة، و أما الذي تحولنا إليه فهو دين الله الإسلام جاءنا به من عند الله رسول بكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له، فقال النجاشي يا جعفر تكلمت بأمر عظيم. 

  • ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب و اجتمع إليه كل قسيس و راهب فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي: أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى و بين يوم القيامة نبيا مرسلا؟ قالوا اللهم نعم قد بشرنا فقال: من آمن به فقد 

تفسير الميزان ج۳

271
  • آمن بي و من كفر به فقد كفر بي فقال النجاشي لجعفر ما ذا يقول لكم هذا الرجل؟ و ما يأمركم به؟ و ما ينهاكم عنه؟ فقال يقرأ علينا كتاب الله، و يأمرنا بالمعروف و ينهانا عن المنكر، و يأمرنا بحسن الجوار و صلة الرحم و بر اليتيم، يأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له، فقال له: اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليه سورة العنكبوت و الروم ففاضت عينا النجاشي و أصحابه من الدمع، و قالوا: زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال إنهم يشتمون عيسى و أمه فقال النجاشي: فما تقولون في عيسى و أمه؟ فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر مريم و عيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين، و قال: و الله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا، ثم أقبل على جعفر و أصحابه فقال اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول: آمنون من سبكم و آذاكم غرم. ثم قال: أبشروا و لا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم فقال عمرو يا نجاشي و من حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط و صاحبهم الذي جاءوا من عنده و من اتبعهم فأنكر ذلك المشركون و ادعوا دين إبراهيم ثم رد النجاشي على عمرو و صاحبه المال الذي حملوه و قال: إنما هديتكم إلي رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني و لم يأخذ مني رشوة، قال جعفر: فانصرفنا فكنا في خير جوار، و أنزل الله عز و جل في ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في خصومتهم في إبراهيم و هو في المدينة: {إِنّ أوْلى النّاسِ بِإِبْراهِيم للّذِين‌ اِتّبعُوهُ و هذا النّبِيُّ و الّذِين آمنُوا و اللّهُ ولِيُّ الْمُؤْمِنِين}

  • أقول: و هذه القصة مروية من طرق أخرى و من طرق أهل البيت (عليه السلام) و إنما نقلناها على طولها لاشتمالها على فوائد هامة في بلاء المسلمين من المهاجرين الأولين، و ليست من سبب النزول في شي‌ء.

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: {ما كان إِبْراهِيمُ يهُودِيًّا و لا نصْرانِيًّا} قال: قال أمير المؤمنين: لا يهوديا يصلي إلى المغرب، و لا نصرانيا يصلي إلى المشرق لكن كان حنيفا مسلما على دين محمد (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • أقول: قد تقدم في البيان السابق معنى كونه على دين محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)، و قد اعتبر في الرواية استقبال الكعبة و قد حولت القبلة إليها في المدينة و الكعبة في نقطة جنوبها تقريبا، و تأبى اليهود و النصارى عن قبولها أوجب لهم الانحراف عنها إلى 

تفسير الميزان ج۳

272
  • جهتي المغرب التي بها بيت المقدس، و المشرق التي يستقبلها النصارى فعد ذلك من الطائفتين انحرافا عن حاق الوسط، و قد أيد هذه العناية لفظ الآية {و كذلِك جعلْناكُمْ أُمّةً وسطاً} الآية، و بالجملة فإنما هي عناية لطيفة لا تزيد على ذلك.

  • و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): خالصا مخلصا ليس فيه شي‌ء من عبادة الأوثان.

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {إِنّ أوْلى النّاسِ بِإِبْراهِيم} (الآية) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاءوا به ثم تلا هذه الآية و قال: إن ولي محمد من أطاع الله و إن بعدت لحمته، و إن عدو محمد من عصى الله و إن قربت لحمته.

  • و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): هم الأئمة و من اتبعهم.

  • و في تفسيري القمي، و العياشي، عن عمر بن أذينة عنه (عليه السلام)قال: أنتم و الله من آل محمد، فقلت: من أنفسهم جعلت فداك؟ قال: نعم و الله من أنفسهم ثلاثا، ثم نظر إلي و نظرت إليه، فقال: يا عمر إن الله يقول في كتابه: {إِنّ أوْلى النّاسِ} الآية.

  • و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {و قالتْ طائِفةٌ مِنْ أهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا} (الآية) عن الباقر (ع): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما قدم المدينة و هو يصلي نحو بيت المقدس أعجب ذلك القوم فلما صرفه الله عن بيت المقدس إلى بيت الله الحرام وجدت اليهود من ذلك، و كان صرف القبلة صلاة الظهر، فقالوا صلى محمد الغداة و استقبل قبلتنا فآمنوا بالذي أنزل على محمد وجه النهار و اكفروا آخره يعنوه القبلة حين استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) المسجد الحرام.

  • أقول: و الرواية كما ترى تجعل قوله: {وجْه النّهارِ}، ظرفا لقوله: {أُنْزِل}، دون قوله: {آمِنُوا}، و قد تقدم الكلام فيه في البيان السابق. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس : في قوله: {و قالتْ طائِفةٌ} (الآية) قال: إن طائفة من اليهود قالت: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا، و إذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب و هم أعلم منا لعلهم ينقلبون عن دينهم. 

  • أقول: و رواه فيه أيضا عن السدي و مجاهد. 

تفسير الميزان ج۳

273
  • و في الكافي: في قوله تعالى: {إِنّ الّذِين يشْترُون بِعهْدِ اللّهِ} (الآية) عن الباقر (عليه السلام) قال: أنزل في العهد: {إِنّ الّذِين يشْترُون بِعهْدِ اللّهِ و أيْمانِهِمْ ثمناً قلِيلاً أُولئِك لا خلاق لهُمْ فِي الْآخِرةِ و لا يُكلِّمُهُمُ اللّهُ و لا ينْظُرُ إِليْهِمْ يوْم الْقِيامةِ و لا يُزكِّيهِمْ و لهُمْ عذابٌ ألِيمٌ}، و الخلاق‌ النصيب فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شي‌ء يدخل الجنة.

  • و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عدي بن عدي عن أبيه قال: اختصم امرؤ القيس و رجل من حضرموت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في أرض فقال: أ لك بينة؟ قال: لا، قال: فبيمينه، قال: إذن و الله يذهب بأرضي، قال: إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة و لا يزكيه و له عذاب أليم، قال: ففزع الرجل و ردها إليه. 

  • أقول: و الرواية كما ترى لا تدل على‌ نزول الآية في مورد القصة، و قد روي من طرق أهل السنة في عدة روايات أن الآية نزلت في هذا الشأن، و هي متعارضة من حيث مورد القصة: ففي بعضها أن النزاع كان بين امرئ القيس و رجل من حضرموت كما مر في الرواية السابقة، و في بعضها أنه كان بين الأشعث بن القيس و بين رجل من اليهود في أرض له، و في بعضها أنها نزلت في رجل من الكفار و قد كان أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع بها رجلا من المسلمين فنزلت الآية. 

  • و قد عرفت في البيان السابق أن ظاهر الآية أنها واقعة موقع التعليل لمضمون الآية السابقة عليها: فالوجه حمل الروايات إن أمكن على بيان انطباق الآية على مورد القصة دون النزول بالمعنى المعهود منه.

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٧٩ الی ٨٠] 

  • {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتاب و الْحُكْم و النُّبُوّة ثُمّ يقُول لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللّهِ و لكِنْ كُونُوا ربّانِيِّين بِما كُنْتُمْ تُعلِّمُون الْكِتاب و بِما كُنْتُمْ تدْرُسُون ٧٩ و لا يأْمُركُمْ

تفسير الميزان ج۳

274
  • أنْ تتّخِذُوا الْملائِكة و النّبِيِّين أرْباباً أ يأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بعْد إِذْ أنْتُمْ مُسْلِمُون ٨٠}

  • (بيان)

  • وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى (عليه السلام)يفيد أنها بمنزلة الفصل الثاني من الاحتجاج على براءة ساحة المسيح مما يعتقده في حقه أهل الكتاب من النصارى، و الكلام بمنزلة قولنا: إنه ليس كما تزعمون فلا هو رب و لا أنه ادعى لنفسه الربوبية: 

  • أما الأول: فلأنه مخلوق بشري حملته أمه و وضعته و ربته في المهد غير أنه لا أب له كآدم (عليه السلام)فمثله عند الله كمثل آدم، و أما الثاني: فلأنه كان نبيا أوتي الكتاب و الحكم و النبوة و النبي الذي هذا شأنه لا يعدو طور العبودية و لا يتعرى عن زي الرقية فكيف يتأتى أن يقول للناس اتخذوني ربا و كونوا عبادا لي من دون الله، أو يجوز ذلك في حق غيره من عباد الله من ملك أو نبي فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس له بحق، أو ينفي عن نبي من الأنبياء ما أثبت الله في حقه من الرسالة فيأخذ منه ما هو له من الحق. 

  • قوله تعالى: {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتاب و الْحُكْم و النُّبُوّة ثُمّ يقُول لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللّهِ}، البشر مرادف للإنسان، و يطلق على الواحد و الكثير فالإنسان الواحد بشر كما أن الجماعة منه بشر. 

  • و قوله: {ما كان لِبشرٍ}، اللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحق كقوله تعالى: {ما يكُونُ لنا أنْ نتكلّم بِهذا} النور - ١٦، و قوله: {و ما كان لِنبِيٍّ أنْ يغُلّ} آل عمران - ١٦١. 

  • و قوله تعالى: {أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتاب و الْحُكْم و النُّبُوّة}، اسم كان إلا أنه توطئة لما يتبعه من قوله: {ثُمّ يقُول لِلنّاسِ}، و ذكر هذه التوطئة مع صحة المعنى بدونها ظاهرا يفيد وجها آخر لمعنى قوله {ما كان لِبشرٍ}، فإنه لو قيل ما كان لبشر أن يقول للناس، كان معناه أنه لم يشرع له هذا الحق‌ و إن أمكن أن يقول ذلك فسقا و عتوا، و لكنه 

تفسير الميزان ج۳

275
  • إذا قيل: {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتاب و الْحُكْم و النُّبُوّة ثُمّ يقُول} كان معناه أن إيتاء الله له العلم و الفقه مما عنده و تربيته له بتربية ربانية لا يدعه أن يعدو طور العبودية، و لا يوسع له أن يتصرف فيما لا يملكه و لا يحق له كما يحكيه تعالى عن عيسى (عليه السلام)في قوله: {و إِذْ قال اللّهُ يا عِيسى اِبْن مرْيم أ أنْت قُلْت لِلنّاسِ اِتّخِذُونِي و أُمِّي إِلهيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قال سُبْحانك ما يكُونُ لِي أنْ أقُول ما ليْس لِي بِحقٍّ} المائدة - ١١٦. 

  • و من هنا تظهر النكتة في قوله: {أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ} إلخ دون أن يقال: ما كان لبشر آتاه الله الكتاب و الحكم و النبوة أن يقول إلخ فإن العبارة الثانية تفيد معنى أصل التشريع كما تقدم بخلاف قوله: {أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ} إلخ فإنه يفيد أن ذلك غير ممكن البتة أي إن التربية الربانية و الهداية الإلهية لا تتخلف عن مقصدها كما قال تعالى: {أُولئِك الّذِين آتيْناهُمُ الْكِتاب و الْحُكْم و النُّبُوّة فإِنْ يكْفُرْ بِها هؤُلاءِ} (يعني قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)) {فقدْ وكّلْنا بِها قوْماً ليْسُوا بِها بِكافِرِين} الأنعام - ٨٩. 

  • فمحصل المعنى أنه لا يسع لبشر أن يجمع بين هذه النعم الإلهية و بين دعوة الناس إلى عبادة نفسه بأن يؤتى الكتاب و الحكم و النبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله، فالآية بحسب السياق بوجه كقوله تعالى: {لنْ يسْتنْكِف الْمسِيحُ أنْ يكُون عبْداً لِلّهِ و لا الْملائِكةُ الْمُقرّبُون} إلى أن قال: {و أمّا الّذِين اِسْتنْكفُوا و اِسْتكْبرُوا فيُعذِّبُهُمْ عذاباً ألِيماً و لا يجِدُون‌ لهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ ولِيًّا و لا نصِيراً} النساء - ١٧٣، فإن المستفاد من الآية: أن المسيح و كذا الملائكة المقربون أجل شأنا و أرفع قدرا أن يستنكفوا عن عبادة الله فإن الاستنكاف عن عبادته يستوجب أليم العذاب، و حاشا أن يعذب الله كرام أنبيائه و مقربي ملائكته. 

  • فإن قلت: الإتيان بثم الدالة على التراخي في قوله: {ثُمّ يقُول لِلنّاسِ}، ينافي الجمع الذي ذكرته. 

  • قلت: ما ذكرناه من معنى الجمع محصل المعنى، و كما يصح اعتبار الاجتماع و المعية بين المتحدين زمانا كذلك يصح اعتباره بين المترتبين و المتتاليين فهو نوع من الجمع. 

  • و أما قوله: {كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللّهِ}، فالعباد كالعبيد جمع عبد، و الفرق بينهما أن العباد يغلب استعماله فيما إذا نسب إلى الله سبحانه، يقال: عباد الله، و لا 

تفسير الميزان ج۳

276
  • يقال: غالبا عباد الناس، بل عبيد الناس و تقييد قوله: {عِباداً لِي} بقوله: {مِنْ دُونِ اللّهِ} تقييد قهري فإن الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلا ما هو خالص لوجهه الكريم كما قال تعالى: {ألا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ و الّذِين اِتّخذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِياء ما نعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقرِّبُونا إِلى اللّهِ زُلْفى‌ إِنّ اللّه يحْكُمُ بيْنهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يخْتلِفُون إِنّ اللّه لا يهْدِي منْ هُو كاذِبٌ كفّارٌ} الزمر - ٣، فرد عبادة من يعبد مع عبادته غيره‌ حتى بعنوان التقرب و التوسل و الاستشفاع. 

  • على أن حقيقة العبادة لا تتحقق إلا مع إعطاء استقلال ما للمعبود حتى في صورة الإشراك فإن الشريك من حيث إنه شريك مساهم ذو استقلال ما، و الله سبحانه له الربوبية المطلقة فلا يتم ربوبيته و لا تستقيم عبادته إلا مع نفي الاستقلال عن كل شي‌ء من كل جهة فعبادة غير الله عبادة له من دون الله و إن عبد الله معه. 

  • قوله تعالى: {و لكِنْ كُونُوا ربّانِيِّين بِما كُنْتُمْ تُعلِّمُون الْكِتاب و بِما كُنْتُمْ تدْرُسُون} الرباني‌ منسوب إلى الرب، زيد عليه الألف و النون للدلالة على التفخيم كما يقال لحياني لكثير اللحية و نحو ذلك، فمعنى الرباني شديد الاختصاص بالرب و كثير الاشتغال بعبوديته و عبادته، و الباء في قوله: {بِما كُنْتُمْ}، للسببية و ما مصدرية، و الكلام بتقدير القول و المعنى، و لكن يقول: كونوا ربانيين بسبب تعليمكم الكتاب للناس و دراستكم إياه فيما بينكم. 

  • و الدراسة أخص‌ من التعليم فإنه يستعمل غالبا فيما يتعلم عن الكتاب بقراءته قال الراغب: درس الدار بقي أثرها، و بقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه، فلذلك فسر الدروس بالانمحاء، و كذا درس الكتاب، و درست العلم تناولت أثره بالحفظ، لما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالحفظ، قال تعالى: {و درسُوا ما فِيهِ}، و قال: {بِما كُنْتُمْ تُعلِّمُون الْكِتاب و بِما كُنْتُمْ تدْرُسُون}{ و ما آتيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يدْرُسُونها} انتهى. 

  • و محصل الكلام أن البشر الذي هذا شأنه إنما يدعوكم إلى التلبس بالإيمان و اليقين بما في الكتاب الذي تعلمونه و تدرسونه من أصول المعارف الإلهية، و الاتصاف و التحقق بالملكات و الأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها، و العمل بالصالحات التي تدعون الناس إليها حتى تنقطعوا بذلك إلى ربكم، و تكونوا به علماء ربانيين. 

تفسير الميزان ج۳

277
  • و قوله: {بِما كُنْتُمْ}، حيث اشتمل على الماضي الدال على التحقق لا يخلو عن دلالة ما على أن الكلام في الآية مسوق للتعريض بالنصارى من أهل الكتاب في قولهم: إن عيسى أخبرهم بأنه ابنه و كلمته على الخلاف في تفسير البنوة، و ذلك أن بني إسرائيل هم الذين كان في أيديهم كتاب سماوي يعلمونه و يدرسونه و قد اختلفوا فيه اختلافا يصاحب التغيير و التحريف‌، و ما بعث عيسى (عليه السلام)إلا ليبين لهم بعض ما اختلفوا فيه، و ليحل بعض الذي حرم عليهم، و بالجملة ليدعوهم إلى القيام بالواجب من وظائف التعليم و التدريس و هو أن يكونوا ربانيين في تعليمهم و دراستهم كتاب الله سبحانه. 

  • و الآية و إن لم تأب الانطباق على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)بوجه فقد كانت لدعوته أيضا مساس بأهل الكتاب الذين كانوا يعلمون و يدرسون كتاب الله لكن عيسى (عليه السلام)أسبق انطباقا عليه، و كانت رسالته خاصة ببني إسرائيل بخلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و أما سائر الأنبياء العظام من أولي العزم و الكتاب: كنوح و إبراهيم و موسى فمضمون الآية لا ينطبق عليهم و هو ظاهر. 

  • قوله تعالى: {و لا يأْمُركُمْ أنْ تتّخِذُوا الْملائِكة و النّبِيِّين أرْباباً} عطف على قوله {يقُول} : على القراءة المشهورة التي هي نصب يأمركم، و هذا كما كان طائفة من أهل الكتاب كالصابئين يعبدون الملائكة و يسندون ذلك إلى الدعوة الدينية، و كعرب الجاهلية حيث كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، و هم يدعون أنهم على دين إبراهيم (عليه السلام)هذا في اتخاذ الملائكة أربابا. 

  • و أما اتخاذ النبيين أربابا فكقول اليهود: عزير بن الله على ما حكاه القرآن و لم يجوز لهم موسى (عليه السلام)ذلك، و لا وقع في التوراة إلا توحيد الرب و لو جوز لهم ذلك لكان آمرا به حاشاه من ذلك. 

  • و قد اختلفت الآيتان: أعني قوله: {ثُمّ يقُول لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللّهِ} و قوله: {و لا يأْمُركُمْ أنْ تتّخِذُوا الْملائِكة و النّبِيِّين أرْباباً} من جهتين في سياقهما: الأولى: أن المأمور في الأولى {ثُمّ يقُول لِلنّاسِ} الناس، و في الثانية هم المخاطبون بالآية، و الثانية: أن المأمور به في الأولى العبودية له و في الثانية الاتخاذ أربابا. 

  • أما الأولى فحيث كان الكلام مسوقا للتعريض بالنصارى في عبادتهم لعيسى، 

تفسير الميزان ج۳

278
  • و قولهم بألوهيته صريحا مسندين ذلك إلى دعوته كان ذلك نسبة منهم إليه أنه قال: {كُونُوا عِباداً لِي} بخلاف اتخاذ الملائكة و النبيين أربابا بالمعنى الذي قيل في غير عيسى فإنه يضاد الألوهية بلازمه لا بصريحه فلذلك قيل: أربابا، و لم يقل: آلهة. 

  • و أما الثانية فالوجه فيه أن التعبيرين كليهما ({كُونُوا عِباداً لِي}{لا يأْمُركُمْ أنْ تتّخِذُوا}) أمر لو تعلق بأحد تعلق بهؤلاء الذين يخاطبون بهذه الآيات من أهل الكتاب و العرب لكن التعبير لما وقع في الآية الأولى بالقول، و القول يقضي بالمشافهة و لم يكن الحاضرون في زمن نزول الآية حاضرين إذ ذاك لا جرم قيل: {ثُمّ يقُول لِلنّاسِ}، و لم يقل: ثم يقول لكم، و هذا بخلاف لفظ الأمر المستعمل في الآية الثانية فإنه لا يستلزم شفاها بل يتم مع الغيبة فإن الأمر المتعلق بالأسلاف متعلق بالأخلاف مع حفظ الوحدة القومية، و أما القول فهو لإفادته بحسب الانصراف إسماع الصوت يقضي بالمشافهة و الحضور إلا أن يعني به مجرد معنى التفهيم. 

  • و على هذا فالأصل في سياق هذه الآيات الحضور و خطاب الجمع، كما جرى عليه قوله تعالى {و لا يأْمُركُمْ} إلى آخر الآية. 

  • قوله تعالى: {أ يأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بعْد إِذْ أنْتُمْ مُسْلِمُون}، ظاهر الخطاب أنه متعلق بجميع المنتحلين بالنبوة من أهل‌ الكتاب أو المدعين للانتساب إلى الأنبياء كما كانت عرب الجاهلية تزعم أنهم حنفاء و الكلام موضوع على الفرض و التقدير فالمعنى أنكم على تقدير إجابتكم هذا البشر الذي أوتي الكتاب و الحكم و النبوة تكونون مسلمين لله متحلين بحلية الإسلام مصبوغين بصبغته فكيف يمكنه أن يأمركم بالكفر و يضلكم عن السبيل الذي هداكم إليه بإذن الله سبحانه. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بالإسلام هو دين التوحيد الذي هو دين الله عند جميع الأنبياء على ما يدل عليه أيضا احتفاف الآيات بهذا المعنى من الإسلام أعني قوله تعالى من قبل: {إِنّ الدِّين عِنْد اللّهِ الْإِسْلامُ} : آل عمران - ١٩، و قوله تعالى من بعد: {أ فغيْر دِينِ اللّهِ يبْغُون} إلى أن قال: {و منْ يبْتغِ غيْر الْإِسْلامِ دِيناً فلنْ يُقْبل مِنْهُ و هُو فِي الْآخِرةِ مِن الْخاسِرِين} آل عمران - ٨٥. 

  • و قد ذكر بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى: {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ} إلى آخر 

تفسير الميزان ج۳

279
  • الآيتين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)بناء على ما روي في سبب النزول و حاصله أن أبا رافع القرظي و رجلا من نصارى نجران قالا لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أ تريد أن نعبدك يا محمد؟ فأنزل الله: {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ} إلى آخر الآيتين الحديث ثم أيده بقوله في آخرهما {بعْد إِذْ أنْتُمْ مُسْلِمُون}فإن الإسلام‌ هو الدين الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و فيه أنه خلط بين الإسلام في عرف القرآن و هو دين التوحيد الذي بعث به جميع الأنبياء و بين الإسلام بالاصطلاح الحادث بين المسلمين بعد عصر النزول، و قد تقدم الكلام فيه. 

  • (خاتمة فيها فصول) 

  • ١ - ما هي قصة عيسى و أمه في القرآن؟ 

  • كانت أم المسيح مريم بنت عمران حملت بها أمها فنذرت أن تجعل ما في بطنها إذا وضعته محررا يخدم المسجد و هي تزعم أن ما في بطنها ذكور فلما وضعتها و بان لها أنها أنثى حزنت و تحسرت ثم سمتها مريم‌ أي الخادمة و قد كان توفي أبوها عمران قبل ولادتها فأتت بها المسجد تسلمها للكهنة و فيهم زكريا فتشاجروا في كفالتها ثم اصطلحوا على القرعة و ساهموا فخرج لزكريا فكفلها حتى إذا أدركت ضرب لها من دونهم حجابا فكانت تعبد الله سبحانه فيها لا يدخل عليها إلا زكريا و {كُلّما دخل عليْها زكرِيّا الْمِحْراب وجد عِنْدها رِزْقاً قال يا مرْيمُ أنّى لكِ هذا قالتْ هُو مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنّ اللّه يرْزُقُ منْ يشاءُ بِغيْرِ حِسابٍ}، و قد كانت (عليه السلام)صديقة، و كانت معصومة بعصمة الله، طاهرة مصطفاة محدثة حدثها الملائكة: بأن الله اصطفاها و طهرها و كانت من القانتين و من آيات الله للعالمين. (سورة آل عمران آية ٣٥-٤٤، سورة مريم آية ١٦، سورة الأنبياء آية ٩١، سورة التحريم آية ١٢). 

  • ثم إن الله تعالى أرسل إليها الروح و هي محتجبة {فتمثّل لها بشراً سوِيًّا}، و ذكر لها أنه رسول من ربها ليهب لها بإذن الله ولدا من غير أب، و بشرها بما سيظهر من ولدها من المعجزات الباهرة، و أخبرها أن الله سيؤيده بروح القدس، و يعلمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل، و رسولا إلى‌ بني إسرائيل ذا الآيات البينات، و أنبأها 

تفسير الميزان ج۳

280
  • بشأنه و قصته ثم نفخ الروح فيها فحملت بها حمل المرأة بولدها الآيات من آل عمران: ٣٥-٤٤). 

  • ثم انتبذت مريم به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا و هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي و اشربي و قري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله (سورة مريم آية ٢٠-٢٧)، و كان حمله و وضعه و كلامه و سائر شئون وجوده من سنخ ما عند سائر الأفراد من الإنسان. 

  • فلما رآها قومها - و الحال هذه - ثاروا عليها بالطعنة و اللوم بما يشهد به حال امرأة حملت و وضعت من غير بعل، و {قالُوا يا مرْيمُ لقدْ جِئْتِ شيْئاً فرِيًّا يا أُخْت هارُون ما كان أبُوكِ اِمْرأ سوْءٍ و ما كانتْ أُمُّكِ بغِيًّا فأشارتْ إِليْهِ قالُوا كيْف نُكلِّمُ منْ كان فِي الْمهْدِ صبِيًّا قال إِنِّي عبْدُ اللّهِ آتانِي الْكِتاب و جعلنِي نبِيًّا و جعلنِي مُباركاً أيْن ما كُنْتُ و أوْصانِي بِالصّلاةِ و الزّكاةِ ما دُمْتُ حيًّا و برًّا بِوالِدتِي و لمْ يجْعلْنِي جبّاراً شقِيًّا و السّلامُ عليّ يوْم وُلِدْتُ و يوْم أمُوتُ و يوْم أُبْعثُ حيًّا} سورة مريم آية - ٢٧-٣٣ فكان هذا الكلام منه (عليه السلام) كبراعة الاستهلال بالنسبة إلى‌ ما سينهض على البغي و الظلم و إحياء شريعة موسى (عليه السلام) و تقويمه، و تجديد ما اندرس من معارفه، و بيان ما اختلفوا فيه من آياته. 

  • ثم نشأ عيسى (عليه السلام) و شب و كان هو و أمه على العادة الجارية في الحياة البشرية يأكلان و يشربان و فيهما ما في سائر الناس من عوارض الوجود إلى آخر ما عاشا. 

  • ثم إن عيسى (عليه السلام) أوتي الرسالة إلى بني إسرائيل فانبعث يدعوهم إلى دين التوحيد، و يقول: {أنِّي قدْ جِئْتُكُمْ بِآيةٍ مِنْ ربِّكُمْ أنِّي أخْلُقُ لكُمْ مِن الطِّينِ كهيْئةِ الطّيْرِ فأنْفُخُ فِيهِ فيكُونُ طيْراً بِإِذْنِ اللّهِ و أُبْرِئُ الْأكْمه و الْأبْرص و أُحْيِ الْموْتى‌ بِإِذْنِ اللّهِ و أُنبِّئُكُمْ بِما تأْكُلُون و ما تدّخِرُون فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ فِي ذلِك لآيةً لكُمْ} {إِنّ اللّه ربِّي و ربُّكُمْ فاعْبُدُوهُ}

  • و كان يدعوهم إلى شريعته الجديدة و هو تصديق شريعة موسى (عليه السلام) إلا أنه 

تفسير الميزان ج۳

281
  • نسخ بعض ما حرم في التوراة تشديدا على اليهود، و كان يقول: {قدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمةِ و لِأُبيِّن لكُمْ بعْض الّذِي تخْتلِفُون فِيهِ} و كان يقول {يا بنِي إِسْرائِيل إِنِّي رسُولُ اللّهِ إِليْكُمْ مُصدِّقاً لِما بيْن يديّ مِن التّوْراةِ و مُبشِّراً بِرسُولٍ يأْتِي مِنْ بعْدِي اِسْمُهُ أحْمدُ}

  • و أنجز (عليه السلام) ما ذكره لهم من المعجزات كخلق الطير و إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و الإخبار عن المغيبات بإذن الله. 

  • و لم يزل يدعوهم إلى توحيد الله و شريعته الجديدة حتى أيس من إيمانهم لما شاهد من عتو القوم و عنادهم و استكبار الكهنة و الأحبار عن ذلك فانتخب من الشرذمة التي آمنت به الحواريين أنصارا له إلى الله. 

  • ثم إن اليهود ثاروا عليه يريدون قتله فتوفاه الله و رفعه إليه، و شبه لليهود: فمن زاعم أنهم قتلوه، و من زاعم أنهم صلبوه، {و لكِنْ شُبِّه لهُمْ} آل عمران آية ٤٥-٥٨، الزخرف آية ٦٣-٦٥، الصف آية ٦ و ١٤، المائدة آية ١١٠و ١١١، النساء آية ١٥٧ و ١٥٨) فهذه جمل ما قصه القرآن في عيسى بن مريم و أمه.

  • ٢ - منزلة عيسى عند الله و موقفه في نفسه 

  • كان (عليه السلام) عبدا لله و كان نبيا (سورة مريم آية ٣٠) و كان رسولا إلى بني إسرائيل (آل عمران آية ٤٩) و كان واحدا من الخمسة أولي العزم صاحب شرع و كتاب و هو الإنجيل (الأحزاب آية ٧، الشورى آية ١٣، المائدة آية ٤٦) و كان سماه الله بالمسيح عيسى (آل عمران آية ٤٥) و كان كلمة لله و روحا منه (النساء آية ١٧١) و كان إماما (الأحزاب آية ٧) و كان من شهداء الأعمال (النساء آية ١٥٩، المائدة آية ١١٧) و كان مبشرا برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)(الصف آية ٦) و كان وجيها في الدنيا و الآخرة و من المقربين (آل عمران آية ٤٥) و كان من المصطفين (آل عمران آية ٣٣) و كان من المجتبين، و كان من الصالحين (الأنعام آية ٨٥-٨٧) و كان مباركا أينما كان و كان زكيا و كان آية للناس و رحمة من الله و برا بوالدته و كان مسلما عليه (مريم آية ١٩ ٣٣) و كان ممن علمه الله الكتاب و الحكمة (آل عمران آية ٤٨)، فهذه اثنتان و عشرون خصلة من مقامات الولاية هي جمل ما وصف الله به 

تفسير الميزان ج۳

282
  • هذا النبي المكرم و رفع بها قدره، و هي على قسمين: اكتسابية كالعبودية و القرب و الصلاح، و اختصاصية، و قد شرحنا كلا منها في الموضع المناسب له من هذا الكتاب بما نطيق فهمه فليرجع فيها إلى مظانها منه. 

  • ٣ - ما الذي قاله عيسى (ع)؟ و ما الذي قيل فيه؟ 

  • ذكر القرآن أن عيسى كان عبدا رسولا، و أنه لم يدع لنفسه ما نسبوه إليه، و لا تكلم معهم إلا بالرسالة، كما قال تعالى: {و إِذْ قال اللّهُ يا عِيسى اِبْن مرْيم أ أنْت قُلْت لِلنّاسِ اِتّخِذُونِي و أُمِّي إِلهيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قال سُبْحانك ما يكُونُ لِي أنْ أقُول ما ليْس لِي بِحقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فقدْ علِمْتهُ تعْلمُ ما فِي نفْسِي و لا أعْلمُ ما فِي نفْسِك إِنّك أنْت علاّمُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لهُمْ إِلاّ ما أمرْتنِي بِهِ أنِ اُعْبُدُوا اللّه ربِّي و ربّكُمْ و كُنْتُ عليْهِمْ شهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فلمّا توفّيْتنِي كُنْت أنْت الرّقِيب عليْهِمْ و أنْت على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ شهِيدٌ إِنْ تُعذِّبْهُمْ فإِنّهُمْ عِبادُك و إِنْ تغْفِرْ لهُمْ فإِنّك أنْت الْعزِيزُ الْحكِيمُ قال اللّهُ هذا يوْمُ ينْفعُ الصّادِقِين صِدْقُهُمْ} المائدة - ١١٦ ١١٩. 

  • و هذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبودية على عصارتها، و يتضمن من بارع الأدب على مجامعة يفصح عما كان يراه عيسى المسيح (عليه السلام)من موقفه نفسه تلقاء ربوبية ربه، و تجاه الناس و أعمالهم فذكر أنه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربه عبدا لا شأن له إلا الامتثال لا يرد إلا عن أمر، و لا يصدر إلا عن أمر، و لم يؤمر إلا بالدعوة إلى عبادة الله وحده و لم يقل لهم إلا ما أمر به: {أنِ اُعْبُدُوا اللّه ربِّي و ربّكُمْ}

  • و لم يكن له من الناس إلا تحمل الشهادة على أعمالهم فحسب، و أما ما يفعله الله فيهم و بهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك، غفر أو عذب. 

  • فإن قلت: فما معنى ما تقدم في الكلام على الشفاعة أن عيسى (عليه السلام)من الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفع؟ 

  • قلت: القرآن صريح أو كالصريح في ذلك، قال تعالى: {و لا يمْلِكُ الّذِين يدْعُون مِنْ دُونِهِ الشّفاعة إِلاّ منْ شهِد بِالْحقِّ و هُمْ يعْلمُون} الزخرف - ٨٦، و قد قال تعالى فيه: {و يوْم الْقِيامةِ يكُونُ عليْهِمْ شهِيداً} النساء - ١٥٩، و قال تعالى: {و إِذْ 

تفسير الميزان ج۳

283
  • علّمْتُك الْكِتاب و الْحِكْمة و التّوْراة و الْإِنْجِيل} المائدة - ١١٠، و قد تقدم إشباع الكلام في معنى الشفاعة، و هذا غير التفدية التي يقول بها النصارى‌، و هي إبطال الجزاء بالفدية و العوض فإنها تبطل السلطنة المطلقة الإلهية على ما سيجي‌ء من بيانه، و الآية إنما تنفي ذلك، و أما الشفاعة فالآية غير متعرضة لأمرها لا إثباتا و لا نفيا فإنها لو كانت بصدد إثباتها على منافاته‌ للمقام۱ لكان حق الكلام أن يقال: و إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، و لو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر الشهادة على الناس وجه، و هذا إجمال ما سيأتي في تفسير الآيات تفصيله إن شاء الله تعالى. 

  • و أما ما قاله الناس في عيسى (عليه السلام)فإنهم و إن تشتتوا في مذاهبهم بعده، و اختلفوا في مسالكهم بما ربما جاوز السبعين من حيث كليات ما اختلفوا فيه، و جزئيات المذاهب و الآراء كثيرة جدا. 

  • لكن القرآن إنما يهتم بما قالوا به في أمر عيسى نفسه و أمه لمساسه بأساس التوحيد الذي هو الغرض الوحيد فيما يدعو إليه القرآن الكريم و الدين الفطري القويم، و أما بعض الجزئيات كمسألة التحريف و مسألة التفدية فلم يهتم به ذاك الاهتمام. 

  • و الذي حكاه القرآن الكريم عنهم أو نسبه إليهم ما في قوله تعالى: {و قالتِ النّصارى‌ الْمسِيحُ اِبْنُ اللّهِ} التوبة - ٣٠، و ما في معناه، كقوله تعالى: {و قالُوا اِتّخذ الرّحْمنُ ولداً سُبْحانهُ} الأنبياء - ٢٦، و ما في قوله تعالى: {لقدْ كفر الّذِين قالُوا إِنّ اللّه هُو الْمسِيحُ اِبْنُ مرْيم} المائدة - ٧٢، و ما في قوله تعالى: {لقدْ كفر الّذِين قالُوا إِنّ اللّه ثالِثُ ثلاثةٍ} المائدة - ٧٣، و ما في قوله تعالى: {و لا تقُولُوا ثلاثةٌ} النساء - ١٧١. 

  • و هذه الآيات و إن اشتملت بظاهرها على كلمات مختلفة ذوات مضامين و معان متفاوتة، و لذلك ربما حملت٢‌ على اختلاف المذاهب في ذلك كمذهب الملكانية القائلين بالبنوة الحقيقية، و النسطورية القائلين بأن النزول و البنوة من قبيل إشراق النور على جسم شفاف كالبلور، و اليعقوبية القائلين بأنه من الانقلاب، و قد انقلب الإله سبحانه لحما و دما. 

    1. فإن المقام مقام التذلل دون الاسترسال.
    2. كما فعله الشهرستاني في الملل و النحل.

تفسير الميزان ج۳

284
  • لكن الظاهر أن القرآن لا يهتم بخصوصيات مذاهبهم المختلفة، و إنما يهتم بكلمة واحدة مشتركة بينهم جميعا و هو البنوة، و أن المسيح من سنخ الإله سبحانه، و ما يتفرع عليه من حديث التثليث و إن اختلفوا في تفسيرها اختلافا كثيرا، و تعرقوا في المشاجرة و النزاع، و الدليل على ذلك وحدة الاحتجاج الوارد عليهم في القرآن لسانا. 

  • بيان ذلك: أن التوراة و الأناجيل الحاضرة جميعا تصرح بتوحيد الإله تعالى، من جانب و الإنجيل يصرح بالبنوة من جانب آخر، و صرح بأن الابن هو الأب لا غير. 

  • و لم يحملوا البنوة الموجودة فيه على التشريف و التبريك مع ما في موارد منه من التصريح بذلك كقوله: و أنا أقول لكم أحبوا أعداءكم، و باركوا على لاعنيكم و أحسنوا إلى من أبغضكم، وصلوا على من يطردكم و يعسفكم كيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات لأنه المشرق شمسه على الأخيار و الأشرار و الممطر على الصديقين و الظالمين، و إذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم؟ أ ليس العشارون يفعلون كذلك؟ و إن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل لكم؟ أ ليس كذلك يفعل الوثنيون كونوا كاملين مثل أبيكم السماوي فهو كامل» آخر الإصحاح الخامس من إنجيل متى‌۱

  • و قوله أيضا: «فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة و يمجدوا أباكم الذي في السماوات» إنجيل متى - الإصحاح الخامس. 

  • و قوله أيضا: «لا تصنعوا جميع مراحمكم قدام الناس كي يروكم فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات.» 

  • و قوله أيضا في الصلوة: «و هكذا تصلون أنتم يا أبانا الذي في السماوات يتقدس اسمك» إلخ. 

  • و قوله: أيضا «فإن غفرتم للناس خطاياهم غفر لكم أبوكم السمائي خطاياكم كل ذلك» في الإصحاح السادس من إنجيل متى. 

  • و قوله: «و كونوا رحماء مثل أبيكم الرحيم» إنجيل لوقا - الإصحاح السادس. 

    1. النسخة العربية المطبوعة سنة ١٨١١ ميلادية و عنها ننقل جميع ما ننقله في هذا البحث عن كتب العهد العربية.

تفسير الميزان ج۳

285
  • و قوله لمريم المجدلية: «امضي إلى إخوتي و قولي لهم: إني صاعد إلى أبي الذي هو أبوكم و إلهي الذي هو إلهكم» إنجيل يوحنا - الإصحاح العشرون. 

  • فهذه و أمثالها من فقرات الأناجيل تطلق لفظ الأب على الله تعالى و تقدس بالنسبة إلى عيسى و غيره جميعا كما ترى بعناية التشريف و نحوه. 

  • و إن كان ما في بعض الموارد منها يعطي أن هذه البنوة و الأبوة نوع من الاستكمال المؤدي إلى الاتحاد كقوله: «تكلم اليسوع بهذا و رفع عينيه إلى السماء فقال: يا أبة قد حضرت الساعة فمجد ابنك ليمجدك ابنك ثم ذكر دعاءه لرسله من تلامذته‌ ثم قال: و لست أسأل في هؤلاء فقط بل و في الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بأجمعهم واحدا كما أنك يا أبة ثابت في و أنا أيضا فيك ليكونوا أيضا فينا واحدا ليؤمن العالم أنك أرسلتني و أنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما نحن واحد أنا فيهم و أنت في و يكونوا كاملين لواحد لكي يعلم العالم أنك أرسلتني و أنني أحببتهم كما أحببتني.» إنجيل يوحنا - الإصحاح السابع عشر. 

  • لكن وقع فيها أقاويل يتأبى ظواهرها عن تأويلها إلى التشريف و نحوه كقوله:«قال له توما: يا سيد ما نعلم أين تذهب؟ و كيف نقدر أن نعرف الطريق؟ قال له يسوع: أنا هو الطريق و الحق و الحياة لا يأتي أحد إلى أبي إلا بي لو كنتم تعرفونني لعرفتم أبي أيضا و من الآن تعرفونه و قد رأيتموه أيضا، قال له فيلبس: يا سيد أرنا الأب و حسبنا، قال له يسوع: أنا معكم كل هذا الزمان و لم تعرفني يا فيلبس؟ من رآني فقد رأى الأب فكيف تقول أنت: أرنا الأب؟ أ ما تؤمن أني في أبي و أبي في و هذا الكلام الذي أقوله لكم ليس هو من ذاتي وحدي بل أبي الحال في هو يفعل هذه الأفعال آمنوا بي، أنا في أبي و أبي في.» إنجيل يوحنا - الإصحاح الرابع عشر. 

  • و قوله: «لكني خرجت من الله و جئت و لم آت من عندي بل هو أرسلني» إنجيل يوحنا - الإصحاح الثامن. 

  • و قوله: «أنا و أبي واحد نحن.» إنجيل يوحنا - الإصحاح العاشر. 

  • و قوله لتلامذته: «اذهبوا و تلمذوا كل الأمم و عمدوهم‌۱ باسم الأب و الابن 

    1. التعميد نوع من التغسيل عند النصارى يتطهر به المغتسل من الذنوب و هو من فرائض الكنيسة.

تفسير الميزان ج۳

286
  • و روح القدس.» إنجيل متى - الإصحاح الثامن و العشرون. 

  • و قوله: «في البدء كان الكلمة و الكلمة كان عند الله، و الله كان الكلمة منذ البدء كان هذا عند الله كل به كان و بغيره لم يكن شي‌ء مما كان به كانت الحياة، و الحياة كانت نور الناس.» إنجيل يوحنا - الإصحاح الأول. 

  • فهذه الكلمات و ما يماثلها مما وقع في الإنجيل هي التي دعت النصارى إلى القول بالتثليث في الوحدة. 

  • و المراد به حفظ «أن المسيح بن الله مع التحفظ على التوحيد الذي نص عليه المسيح في تعليمه كما في قوله: إن أول كل الوصايا: اسمع يا إسرائيل الرب إلهك إله واحد.» هو إنجيل مرقس -الإصحاح الثاني عشر. 

  • و محصل ما قالوا به (و إن كان لا يرجع إلى محصل معقول): أن الذات جوهر واحد له أقانيم ثلاث، و المراد بالأقنوم هو الصفة التي هي ظهور الشي‌ء و بروزه و تجليه لغيره و ليست الصفة غير الموصوف: و الأقانيم الثلاث هي: أقنوم الوجود و أقنوم العلم، و هو الكلمة، و أقنوم الحياة و هو الروح. 

  • و هذه الأقانيم الثلاث هي: الأب و الابن و الروح القدس: و الأول أقنوم الوجود، و الثاني أقنوم العلم و الكلمة، و الثالث أقنوم الحياة، فالابن و هو الكلمة و أقنوم العلم نزل من عند أبيه و هو أقنوم الوجود بمصاحبة روح القدس و هو أقنوم الحيوة التي بها يستنير الأشياء. 

  • ثم اختلفوا في تفسير هذا الإجمال اختلافا عظيما أوجب تشتتهم و انشعابهم شعبا و مذاهب كثيرة تجاوز السبعين، و سيأتيك نبؤها على قدر ما يلائم حال هذا الكتاب. 

  • إذا تأملت ما قدمناه عرفت: أن ما يحكيه القرآن عنهم، أو ينسبه إليهم بقوله: {و قالتِ النّصارى‌ الْمسِيحُ اِبْنُ اللّهِ}، (الآية) و قوله: {لقدْ كفر الّذِين قالُوا إِنّ اللّه هُو الْمسِيحُ اِبْنُ مرْيم}، (الآية) و قوله: {لقدْ كفر الّذِين قالُوا إِنّ اللّه ثالِثُ ثلاثةٍ} (الآية) و قوله: {و لا تقُولُوا ثلاثةٌ اِنْتهُوا}، (الآية) كل ذلك يرجع إلى معنى واحد (و هو تثليث الوحدة) هو المشترك بين جميع المذاهب المستحدثة في النصرانية، و هو الذي قدمناه في معنى تثليث الوحدة. 

تفسير الميزان ج۳

287
  • و إنما اقتصر فيه على هذا المعنى المشترك لأن الذي يرد على أقوالهم في خصوص المسيح (عليه السلام)على كثرتها و تشتتها مما يحتج به القرآن أمر واحد يرد على وتيرة واحدة كما سيتضح. 

  • ٤ - احتجاج القرآن على مذهب التثليث 

  • يرد القرآن في الاحتجاج، و يرد قول المثلثة من طريقين، أحدهما: الطريق العام، و هو بيان استحالة الابن عليه تعالى في نفسه أي سواء كان عيسى هو الابن أو غيره، الثاني: الطريق الخاص و هو بيان أن عيسى بن مريم ليس ابنا إلها بل عبد مخلوق. 

  • أما الطريق الأول فتوضيحه أن حقيقة البنوة و التولد هو أن يجزئ واحد من هذه الموجودات الحية المادية كالإنسان و الحيوان بل النبات أيضا شيئا من مادة نفسه ثم يجعله بالتربية التدريجية فردا آخر من نوعه مماثلا لنفسه يترتب عليه من الخواص و الآثار ما كان يترتب على المجزأ منه كالحيوان يفصل من نفسه النطفة، و النبات يفصل من نفسه اللقاح ثم يأخذ في تربيته‌ تدريجا حتى يصيره حيوانا أو نباتا آخر مماثلا لنفسه، و من المعلوم أن الله سبحانه يمتنع عليه ذلك: أما أولا فلاستلزامه الجسمية المادية، و الله سبحانه منزه من المادة و لوازمها الافتقارية كالحركة و الزمان و المكان و غير ذلك، و أما ثانيا فلأن الله سبحانه لإطلاق ألوهيته و ربوبيته له القيومية المطلقة على ما سواه فكل شي‌ء سواه مفتقر الوجود إليه قائم الوجود به فكيف يمكن فرض شي‌ء غيره يماثله في النوعية يستقل عنه بنفسه، و يكون له من الذات و الأوصاف و الأحكام ما له من غير افتقار إليه، و أما ثالثا فلأن جواز الإيلاد و الاستيلاد عليه تعالى يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه تعالى، و هو يستلزم دخوله تحت ناموس المادة و الحركة و هو خلف بل ما يقع بإرادته و مشيته تعالى إنما يقع من غير مهلة و تدريج. 

  • و هذا البيان هو الذي يفيده قوله تعالى: {و قالُوا اِتّخذ اللّهُ ولداً سُبْحانهُ بلْ لهُ ما فِي السّماواتِ و الْأرْضِ كُلٌّ لهُ قانِتُون بدِيعُ السّماواتِ و الْأرْضِ و إِذا قضى‌ أمْراً فإِنّما يقُولُ لهُ كُنْ فيكُونُ} البقرة - ١١٧، و على ما قربناه فقوله: {سُبْحانهُ} برهان، و قوله: {لهُ ما فِي السّماواتِ و الْأرْضِ كُلٌّ لهُ قانِتُون} برهان آخر و قوله: {بدِيعُ 

تفسير الميزان ج۳

288
  • السّماواتِ و الْأرْضِ و إِذا قضى‌} إلخ برهان ثالث. 

  • و يمكن أن يجعل قوله: {بدِيعُ السّماواتِ و الْأرْضِ} من قبيل إضافة الصفة إلى فاعلها، و يستفاد منه أن خلقه تعالى على غير مثال سابق فلا يمكن منه الإيلاد لأنه خلق على مثال نفسه لأن مفروضهم العينية فيكون هذه الفقرة وحدها برهانا آخر. 

  • و لو فرض قولهم: اتخذ الله ولدا كلاما ملقى لا على وجه الحقيقة بل على وجه التوسع في معنى الابن و الولد بأن يراد به انفصال شي‌ء عن شي‌ء يماثله في الحقيقة من غير تجز مادي أو تدريج زماني (و هذا هو الذي يرومه النصارى بقولهم: المسيح بن الله بعد تنقيحه) ليتخلص بذلك عن إشكال الجسمية و المادية و التدريج بقي إشكال المماثلة. 

  • توضيحه أن إثبات الابن و الأب إثبات للعدد بالضرورة، و هو إثبات للكثرة الحقيقية و إن فرضت الوحدة النوعية بين الأب و الابن كالأب و الابن من الإنسان هما واحد في الحقيقة الإنسانية، و كثير من حيث إنهما فردان من الإنسان، و على هذا فلو فرض وحدة الإله كان كل ما سواه و من جملتها الابن غيرا له مملوكا مفتقرا إليه فلا يكون الابن المفروض إلها مثله، و لو فرض ابن مماثل له غير مفتقر إليه بل مستقل مثله بطل التوحيد في الإله عز اسمه. 

  • و هذا البيان هو المدلول عليه بقوله تعالى: {و لا تقُولُوا ثلاثةٌ اِنْتهُوا خيْراً لكُمْ إِنّما اللّهُ‌ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانهُ أنْ يكُون لهُ ولدٌ لهُ ما فِي السّماواتِ و ما فِي الْأرْضِ و كفى‌ بِاللّهِ وكِيلاً} النساء - ١٧١. 

  • و أما الطريق الثاني و هو بيان أن شخص عيسى بن مريم (عليه السلام)ليس ابنا لله مشاركا له في الحقيقة الإلهية فلما كان فيه من البشرية و لوازمها. 

  • و توضيحه أن المسيح (عليه السلام)حملت به مريم، و ربته جنينا في رحمها، ثم وضعته وضع المرأة ولدها، ثم ربته كما يتربى الولد في حضانة أمه، ثم أخذ في النشوء و قطع مراحل الحيوة و الارتقاء في مدارج العمر من الصبا و الشباب و الكهولة، و في جميع ذلك كان حاله حال إنسان طبيعي في حيوته، يعرضه من العوارض و الحالات ما يعرض الإنسان: من جوع و شبع، و سرور و مساءة، و لذة و ألم، و أكل و شرب، و نوم و يقظة، و تعب و راحة، و غير ذلك. 

تفسير الميزان ج۳

289
  • فهذا ما شوهد من حال المسيح (عليه السلام)حين مكثه بين الناس، و لا يرتاب ذو عقل أن من كان هذا شأنه فهو إنسان كسائر الأناسي من نوعه و إذا كان كذلك فهو مخلوق مصنوع كسائر أفراد نوعه، و أما صدور الخوارق و تحقق المعجزات بيده كإحياء الأموات و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص، و كذا تحقق الخوارق من الآيات في وجوده كتكونه من غير أب فإنما هي أمور خارقة للعادة المألوفة و السنة الجارية في الطبيعة فإنها نادرة الوجود لا مستحيلته فهذا آدم تذكر الكتب السماوية أنه خلق من تراب و لا أب له، و هؤلاء أنبياء الله كصالح و إبراهيم و موسى (عليه السلام)جرت بأيديهم آيات معجزة كثيرة مذكورة في مسفورات الوحي من غير أن تقتضي فيهم ألوهية، و لا خروجا عن طور الإنسانية. 

  • و هذه الطريقة هي المسلوكة في قوله تعالى: {لقدْ كفر الّذِين قالُوا إِنّ اللّه ثالِثُ ثلاثةٍ و ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ} إلى أن قال : {ما الْمسِيحُ اِبْنُ مرْيم إِلاّ رسُولٌ قدْ خلتْ مِنْ قبْلِهِ الرُّسُلُ و أُمُّهُ صِدِّيقةٌ كانا يأْكُلانِ الطّعام اُنْظُرْ كيْف نُبيِّنُ لهُمُ الْآياتِ ثُمّ اُنْظُرْ أنّى يُؤْفكُون} المائدة - ٧٥، و قد خص أكل الطعام من بين جميع الأفعال بالذكر لكونه من أحسنها دلالة على المادية و استلزاما للحاجة و الفاقة المنافية للألوهية، فمن المعلوم أن من يجوع و يظمأ بطبعه ثم يشبع بأكلة أو يرتوي بشربة ليس عنده غير الحاجة و الفاقة التي لا يرفعها إلا غيره، و ما معنى ألوهية من هذا شأنه؟ فإن الذي قد أحاطت به الحاجة و احتاج في رفعها إلى الخارج من نفسه فهو ناقص في نفسه مدبر بغيره، و ليس بإله غني بذاته بل هو مخلوق مدبر بربوبية من ينتهي إليه تدبيره. 

  • و إلى هذا يمكن أن يرجع قوله تعالى: {لقدْ كفر الّذِين قالُوا إِنّ اللّه هُو الْمسِيحُ اِبْنُ مرْيم قُلْ فمنْ يمْلِكُ مِن اللّهِ شيْئاً إِنْ أراد أنْ يُهْلِك الْمسِيح اِبْن مرْيم و أُمّهُ و منْ فِي الْأرْضِ جمِيعاً و لِلّهِ مُلْكُ السّماواتِ و الْأرْضِ و ما بيْنهُما يخْلُقُ ما يشاءُ و اللّهُ على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ قدِيرٌ} المائدة - ١٧. 

  • و كذا قوله تعالى في ذيل الآية المنقولة سابقا (آية ٧٥) خطابا للنصارى: {قُلْ أ تعْبُدُون مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يمْلِكُ لكُمْ ضرًّا و لا نفْعاً و اللّهُ هُو السّمِيعُ الْعلِيمُ} المائدة - ٧٦. 

  • فإن الملاك في هذا النوع من الاحتجاجات هو أن الذي شوهد من أمر المسيح 

تفسير الميزان ج۳

290
  • أنه كان يعيش على الناموس الجاري في حيوة الإنسان متصفا بجميع صفاته و أفعاله و أحواله النوعية كالأكل و الشرب و سائر الاحتياجات الإنسانية، و الخواص البشرية و لم يكن هذا التلبس و الاتصاف بحسب ظاهر الحس أو تسويل الخيال فحسب بل كان على الحقيقة و كان المسيح (عليه السلام)إنسانا ذا هذه الأوصاف و الأحوال و الأفعال، و الأناجيل مشحونة بتسميته نفسه إنسانا و ابن الإنسان، مملوءة بالقصص الناطقة بأكله و شربه و نومه و مشيه و مسافرته و تعبه و تكلمه و نحو ذلك بحيث لا يقبل شي‌ء منها صرفا و لا تأويلا، و مع تسليم هذه الأمور يجري على المسيح ما يجري على غيره فهو لا يملك من غيره شيئا كغيره، و يمكن أن يهلك كغيره. 

  • و كذا حديث عبادته و دعائه بحيث لا يرتاب في أن ما كان يأتيه من عبادة فإنما للتقرب من الله و الخضوع لقدس ساحته لا لتعليم الناس أو لأغراض أخر تشابه ذلك. 

  • و إلى حديث العبادة و الاحتجاج به يومئ قوله تعالى: {لنْ يسْتنْكِف الْمسِيحُ أنْ يكُون عبْداً لِلّهِ و لا الْملائِكةُ الْمُقرّبُون‌ و منْ يسْتنْكِفْ عنْ عِبادتِهِ و يسْتكْبِرْ فسيحْشُرُهُمْ إِليْهِ جمِيعاً} النساء - ١٧٢، فعبادة المسيح أول دليل على أنه ليس بإله، و أن الألوهية لغيره لا نصيب له فيها، فأي معنى لنصب الشي‌ء نفسه في مقام العبودية و المملوكية لنفسه؟ و كون الشي‌ء قائما بنفسه من عين الجهة التي بها يقوم نفسه و الأمر ظاهر و كذا عبادة الملائكة كاشفة عن أنها ليست ببنات الله سبحانه و لا أن روح القدس إله بعد ما كانوا بأجمعهم عابدين لله طائعين له كما قال تعالى: {و قالُوا اِتّخذ الرّحْمنُ ولداً سُبْحانهُ بلْ عِبادٌ مُكْرمُون لا يسْبِقُونهُ بِالْقوْلِ و هُمْ بِأمْرِهِ يعْملُون يعْلمُ ما بيْن أيْدِيهِمْ و ما خلْفهُمْ و لا يشْفعُون إِلاّ لِمنِ اِرْتضى‌ و هُمْ مِنْ خشْيتِهِ مُشْفِقُون} الأنبياء - ٢٨. 

  • على أن الأناجيل مشحونة بأن الروح طائع لله و رسله مؤتمر للأمر محكوم بالحكم و لا معنى لأمر الشي‌ء نفسه و لا لطاعته لذاته، و لا لانقياده و ائتماره لمخلوق نفسه. 

  • و نظير عبادة المسيح لله سبحانه في الدلالة على المغايرة دعوته الناس إلى عبادة الله كما يشير إليه قوله تعالى {لقدْ كفر الّذِين قالُوا إِنّ اللّه هُو الْمسِيحُ اِبْنُ مرْيم و قال الْمسِيحُ يا بنِي إِسْرائِيل اُعْبُدُوا اللّه ربِّي و ربّكُمْ إِنّهُ منْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فقدْ حرّم اللّهُ عليْهِ الْجنّة و مأْواهُ النّارُ و ما لِلظّالِمِين مِنْ أنْصارٍ} المائدة - ٧٢، و سبيل الآية و احتجاجها ظاهر. 

تفسير الميزان ج۳

291
  • و الأناجيل أيضا مشحونة في دعوته إلى الله سبحانه، و هي و إن لم تشتمل على هذا اللفظ الجامع{اُعْبُدُوا اللّه ربِّي و ربّكُمْ} لكنها مشتملة على الدعوة إلى عبادة الله، و على اعترافه بأنه ربه الذي بيده زمام أمره، و على اعترافه بأنه رب الناس، و لا تتضمن دعوته إلى عبادة نفسه صريحا و لا مرة مع ما فيها من قوله: أنا و أبي واحد نحن» إنجيل يوحنا - الإصحاح العاشر، فمن الواجب أن يحمل على تقدير صحته على أن المراد: أن إطاعتي إطاعة الله كما قال تعالى في كتابه الكريم: {منْ يُطِعِ الرّسُول فقدْ أطاع اللّه} النساء - ٨٠.

  • ٥ - المسيح من الشفعاء عند الله و ليس بفاد 

  • زعمت النصارى: أن المسيح فداهم بدمه الكريم، و لذلك لقبوه بالفادي، قالوا: إن آدم لما عصى الله بالأكل من الشجرة المنهية في الجنة أخطأ بذلك و لزمته الخطيئة، و كذلك لزمت ذريته من بعده ما توالدوا و تناسلوا، و جزاء الخطيئة العقاب في الآخرة و الهلاك الأبدي الذي لا مخلص منه، و قد كان الله سبحانه رحيما عادلا. 

  • فبدا إذ ذاك إشكال عويص لا انحلال له، و هو أنه لو عاقب آدم و ذريته بخطيئتهم كان ذلك منافيا لرحمته التي لها خلقهم، و لو غفر لهم كان ذلك منافيا لعدله فإن مقتضى العدل أن يعاقب المجرم الخاطئ بجرمه و خطيئته كما أن مقتضاه أن يثاب المحسن المطيع بإحسانه و إساءته‌۱

  • و لم تزل هذه العويصة على حالها حتى حلها ببركة المسيح، و ذلك بأن حل المسيح (و هو ابن الله، و هو الله نفسه) رحم واحدة من ذرية آدم و هو مريم البتول و تولد منها كما يتولد إنسان‌ فكان بذلك إنسانا كاملا لأنه ابن إنسان، و إلها كاملا لأنه ابن الله، و ابن الله هو الله (تعالى) معصوما عن جميع الذنوب و الخطايا. 

  • و بعد أن عاش بين الناس برهة يسيرة من الزمان يعاشرهم و يخالطهم، و يأكل و يشرب معهم، و يكلمهم و يستأنس بهم، و يمشي فيهم تسخر لأعدائه ليقتلوه شر 

    1. هذا ما عليه معظمهم و يظهر من بعضهم كالقسيس مار إسحاق أن التخلف في مجازاة الجريمة و الخطيئة و بعبارة أخرى خلف الوعيد جائز دون خلف الوعد.

تفسير الميزان ج۳

292
  • قتلة، و هي قتلة الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي فاحتمل اللعن و الصلب بما فيه من الزجر و الأذى و العذاب ففدى الناس بنفسه ليخلصوا بذلك من عقاب الآخرة و هلاك السرمد و هو كفارة لخطايا المؤمنين به بل لخطايا كل العالم‌۱ هذا ما قالوه. 

  • و قد جعلت النصارى هذه الكلمة أعني مسألة الصلب و الفداء أساس دعوتهم فلا يبدءون إلا بها، و لا يختمون إلا عليها كما أن القرآن يجعل أساس الدعوة الإسلامية هو التوحيد كما قال الله مخاطبا لرسوله (صلى الله عليه وآله و سلم): {قُلْ هذِهِ سبِيلِي أدْعُوا إِلى اللّهِ على‌ بصِيرةٍ أنا و منِ اِتّبعنِي و سُبْحان اللّهِ و ما أنا مِن الْمُشْرِكِين} يوسف - ١٠٨، مع أن المسيح (على ما يصرح به الأناجيل، و قد تقدم نقله). كان يجعل أول الوصايا هو التوحيد و محبة الله سبحانه. 

  • و قد ناقشهم غيرهم من المسلمين و سائر الباحثين فيما يشتمل عليه قولهم هذا من وجوه الفساد و البطلان، و ألفت فيها كتب و رسائل و ملئت بها صحف و طوامير ببيان منافاتها لضرورة العقل، و مناقضتها لكتب العهدين. و الذي يهمنا و يوافق الغرض الموضوع له هذا الكتاب بيان جهات منافاته لأصول تعليم القرآن‌ و ختمه ببيان الفرق بين ما يثبته القرآن من الشفاعة و ما يثبتونه من الفداء. 

  • على أن القرآن يذكر صراحة أنه إنما يخاطب الناس و يكلمهم ببيان ما يقرب من أفق عقولهم، و يمكن بياناته من فقههم و فهمهم، و هو الأمر الذي به يميز الإنسان الحق من الباطل فينقاد لهذا و يأبى ذاك، و يفرق بين الخير و الشر و النافع و الضار فيأخذ بهذا و يترك ذاك، و الذي ذكرناه من اعتبار القرآن في بياناته حكم العقل السليم مما لا غبار عليه عند من راجع الكتاب العزيز. 

  • فأما ما ذكروه ففيه أولا: أنهم ذكروا معصية آدم (عليه السلام)بالأكل من الشجرة المنهية، و القرآن يدفع ذلك من جهتين: 

  • الأولى: أن النهي هناك كان نهيا إرشاديا يقصد به صلاح المنهي و وجه الرشد 

    1. في الرسالة الأولى ليوحنا الفصل الأول يا أولادي هذه الألفاظ أكتبها إليكم لئلا تخطئوا و إن يخطئ أحدكم فلنا لدى الرب معزى عدل يسوع المسيح و ذلك هو اغتفار من أجل خطايانا فقط بل و من أجل العالم كله.

تفسير الميزان ج۳

293
  • في أمره لا إعمال المولوية و الأمر الذي هو من هذا القبيل لا يترتب على امتثاله و لا تركه ثواب و لا عقاب مولوي كأوامر المشير و نواهيه لمن يستشيره، و أوامر الطبيب و نواهيه للمريض بل إنما يترتب على امتثال التكليف الإرشادي الرشد المنظور لمصلحة المكلف، و على مخالفته الوقوع في مفسدة المخالفة و ضرر الفعل بما أنه فعل، و بالجملة لم يلحق بآدم (عليه السلام)إلا أنه أخرج من الجنة و فاته راحة القرب و سرور الرضا، و أما العقاب الأخروي فلا لأنه لم يعص معصية مولوية حتى يستتبع عقابا، راجع تفسير الآيات ٣٥-٣٩، من سورة البقرة. 

  • و الثانية: أنه (عليه السلام)كان نبيا و القرآن ينزه ساحة الأنبياء (عليه السلام)و يبرئ نفوسهم‌ الشريفة عن اقتراف المعاصي و الفسق عن أمر الله سبحانه، و البرهان العقلي أيضا يؤيد ذلك، راجع ما ذكرناه في البحث عن عصمة الأنبياء في تفسير الآية ٢١٣ من سورة البقرة. 

  • و ثانيا: قولهم: إن الخطيئة لزمت آدم فإن القرآن يدفعه بقوله: {ثُمّ اِجْتباهُ ربُّهُ فتاب عليْهِ و هدى‌} طه - ١٢٢، و قوله: {فتلقّى آدمُ مِنْ ربِّهِ كلِماتٍ فتاب عليْهِ إِنّهُ هُو التّوّابُ الرّحِيمُ} البقرة - ٣٧. 

  • و الاعتبار العقلي يؤيد ذلك بل يبينه فإن الخطيئة و تبعة الذنب إنما هو أمر محذور مخوف منه يعتبره العقل أو المولى لازما للمخالفة و التمرد ليستحكم بذلك أمر التكليف فلو لا العقاب و الثواب لم يستقم أمر المولوية و لم يمتثل أمر و لا نهي و كما أن من شئون المولوية بسط العقاب على المجرمين في جرائمهم كالثواب على المطيعين في طاعاتهم كذلك من شئون المولوية إطلاق التصرف في دائرة مولويته فللمولى أن يغمض عن خطيئة المخطئين و معصية العاصين بالعفو و المغفرة فإنه نوع تصرف و حكومة كما أن له أن يؤاخذ بها و هي نوع حكومة، و حسن العفو و المغفرة عن الموالي و أولي القوة و السطوة في الجملة مما لا ريب فيه، و العقلاء من الإنسان يستعملونه إلى هذا الحين فكون كل خطيئة صادرة من الإنسان لازمة للإنسان مما لا وجه له البتة و إلا لم يكن لأصل العفو و المغفرة تحقق لأن المغفرة و العفو إنما يكون لإمحاء الخطيئة و إبطال أثر الذنب، و مع فرض أن الخطيئة لازمة غير منفكة لا يبقى موضوع للعفو و المغفرة، مع أن الوحي الإلهي مملو بحديث العفو و المغفرة، و كتب العهدين كذلك حتى أن هذا الكلام 

تفسير الميزان ج۳

294
  • المنقول منهم لا يخلو عنه، و بالجملة دعوى كون ذنب من الذنوب أو خطيئة من الخطايا لازمة غير قابلة في نفسه للمغفرة و الإمحاء حتى بالتوبة و الإنابة و الرجوع و الندم مما لا يقبله عقل سليم و لا طبع مستقيم. 

  • و ثالثا: أن قولهم: إن خطيئة آدم كما لزمته كذلك لزمت ذريته إلى يوم القيامة يستلزم أن يشمل تبعة الذنب الصادر من واحد غيره أيضا ممن لم يذنب في المعاصي المولوية. و بعبارة أخرى أن يصدر فعل عن واحد و يعم عصيانه و تبعته غير فاعله كما يشمل فاعله، و هذا غير أن يأتي قوم بالمعصية و يرضى به آخرون من أخلافهم فتحسب المعصية على الجميع و بالجملة هو تحمل الوزر من غير صدور الذنب و القرآن يرد ذلك كما في قوله: {ألاّ تزِرُ وازِرةٌ وِزْر أُخْرى‌ و أنْ ليْس لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سعى‌} النجم - ٣٩، و العقل يساعده عليه لقبح مؤاخذة من لم يذنب بذنب لم يصدر عنه. راجع أبحاث الأفعال في تفسير آية ٢١٦-٢١٨ من سورة البقرة. 

  • و رابعا: أن كلامهم مبني على كون تبعة جميع الخطايا و الذنوب هو الهلاك الأبدي من غير فرق بينها، و لازمه أن لا يختلف الخطايا و الذنوب من حيث الصغر و الكبر بل يكون جميعها كبائر موبقات، و الذي يراه القرآن الكريم في تعليمه أن الخطايا و المعاصي مختلفة فمنها كبائر، و منها صغائر، و منها ما تناله المغفرة، و منها مالا تناله إلا بالتوبة كالشرك، قال تعالى: {إِنْ تجْتنِبُوا كبائِر ما تُنْهوْن عنْهُ نُكفِّرْ عنْكُمْ سيِّئاتِكُمْ} النساء - ٣١، و قال تعالى: {إِنّ اللّه لا يغْفِرُ أنْ يُشْرك بِهِ و يغْفِرُ ما دُون ذلِك لِمنْ يشاءُ} النساء - ٤٨، فجعل تعالى من المحرمات المنهي عنها و هي الخطايا و الذنوب ما هي كبائر، و ما هي سيئات أي صغائر بقرينة المقابلة، و جعل تعالى من الذنوب ما لا يقبل المغفرة، و منها ما يقبلها فالذنوب على أي حال مختلفة، و ليس كل ذنب بموجب للخلود في النار و الهلاك الأبدي. 

  • على أن العقل يأبى عن نضد جميع الذنوب و نظمها في سلك واحد فاللطم غير القتل و النظر المريب غير الزنا، و هكذا، و العقلاء من الإنسان في جميع الأدوار لم يضعوا كل ذنب و خطإ موضع غيره، و يرون للمعاصي المختلفة تبعات و مؤاخذات مختلفة فكيف يصح إجراء الجميع مجرى واحدا مع هذا الاختلاف الفاحش بينها، و إذا فرض اختلافها لم يصح إلا جعل العقاب الخالد و الهلاك الأبدي لبعضها كالشرك بالله، 

تفسير الميزان ج۳

295
  • كما يقول القرآن الكريم. و من المعلوم أن مخالفة نهي ما في الأكل من الشجرة ليس يحل محل الكفر بالله العظيم و ما يشابه ذلك فلا وجه لجعل عقابه و تبعته هو العذاب المؤبد (راجع بحث الأفعال السابق الذكر). 

  • و خامسا: ما ذكروه من وقوع الإشكال، و حدوث التزاحم بين صفة الرحمة و صفة العدل ثم الاحتيال إلى رفعه بنزول المسيح و صعوده بالوجه الذي ذكروه. و المتأمل في هذا الكلام و ما يستتبعه من اللوازم‌ يجد أنهم يرون أن الله تعالى و تقدس موجود خالق ينسب و ينتهي إليه هذا العالم المخلوق بجميع أجزائه غير أنه إنما يفعل بإرادة و علم في نفسه، و إرادته في تحققها تتوقف إلى ترجيح علمي كما أن الإنسان إنما يريد شيئا إذا رجحه بعلمه، فهناك مصالح و مفاسد يطبق الله أفعاله عليها فيفعلها، و ربما أخطأ في التطبيق فندم‌۱ على الفعل، و ربما فكر في أمر و لم يهتد إلى طريق صلاحه، و ربما جهل أمرا، و بالجملة هو تعالى في أوصافه و أفعاله كالإنسان إنما يفعل ما يفعل بالتفكر و التروي و يروم فيه تطبيق فعله على المصلحة فهو محكوم بحكم المصالح و مقهور بعملها فيه من الخارج، و يمكن له الاهتداء إلى الصلاح و يمكن له الضلال و الاشتباه و الغفلة فربما يعلم و ربما يجهل، و ربما يغلب و ربما يغلب عليه فقدرته محدودة كعلمه، و إذا جاز عليه هذا الذي ذكر جاز عليه سائر ما يطرأ الفاعل المتفكر المريد في فعله من سرور و حزن و حمد و ندم و ابتهاج و انفعال و غير ذلك، و الذي هذا شأنه يكون موجودا ماديا جسمانيا واقعا تحت ناموس الحركة و التغير و الاستكمال، و الذي هو كذلك ممكن مخلوق بل إنسان مصنوع، و ليس بالواجب تعالى، الخالق لكل شي‌ء. 

  • و أنت بالرجوع إلى كتب العهدين تجد صدق جميع ما نسبناه إليهم في الواجب تعالى من جسميته و اتصافه بجميع أوصاف الجسمانيات و خاصة الإنسان. 

  • و القرآن في جميع هذه المعاني المذكورة ينزه الله تعالى عن هذه الأوهام الخرافية، كما يقول تعالى: {سُبْحان اللّهِ عمّا يصِفُون} الصافات - ١٥٩، و البراهين العقلية القاطعة قائمة على أنه تعالى ذات مستجمع لجميع صفات الكمال فله الوجود من غير شائبة عدم، 

    1. في الإصحاح السادس من سفر التكوين من التوراة: و كره الله خلقة ولد آدم على الأرض (التوراة العربية مطبوعة سنة ١٨١١ الميلادية).

تفسير الميزان ج۳

296
  • و القدرة المطلقة من غير عجز، و العلم المطلق من غير طرو جهل، و الحيوة المطلقة من غير إمكان موت و فناء، و إذا كان كذلك لم يجز عليه تغير حال في وجوده أو علمه أو قدرته أو حيوته. 

  • و إذا كان كذلك لم يكن جسما و لا جسمانيا لأن الأجسام و الجسمانيات محاط التغيرات و التحولات، و محال الإمكانات و الافتقارات و الاحتياجات، و إذا لم يكن جسما و لا جسمانيا لم يطرأ عليه الحالات المختلفة و الطواري المتنوعة: من غفلة و سهو و غلط و ندم و تحير و تأثر و انفعال و هوان و صغر و مغلوبية و نحوها، و قد استوفينا البحث البرهاني المتعلق بهذه المعاني في هذا الكتاب في موارد يناسبها، يجدها المراجع إذا راجع. 

  • و على الناقد المتبصر و المتأمل المتدبر أن يقايس بين القولين: ما يقول به القرآن الكريم في إله العالم فيثبت له كل صفة كمال، و ينزهه عن كل صفة نقص، و بالأخرة يعده أكبر و أعظم من أن يحكم فيه أفهامنا بما صحبته من عالم الحد و التقدير، و بين ما يثبته العهدان في الباري تعالى بما لا يوجد إلا في أساطير يونان، و خرافات هند القديم و الصين، و أمور كان الإنسان الأولي يتوهمها فيتأثر مما قدمه إليه وهمه. 

  • و سادسا: قولهم إن الله أرسل ابنه المسيح و أمره أن يحل رحما من الأرحام ليتولد إنسانا و هو إله‌، و هذا هو القول غير المعقول الذي انتهض لبيان بطلانه القرآن الكريم على ما أوضحناه في البيان السابق فلا نعيد. 

  • و من المعلوم أن العقل أيضا لا يساعد عليه فإنك إذا تأملت فيما يجب من الصفات أن يقال باتصاف الواجب تعالى بها كالثبات السرمدي، و عدم التغير، و عدم تحدد الوجود، و الإحاطة بكل شي‌ء، و التنزه عن الزمان و المكان و ما يتبعهما، و تأملت في تكون إنسان من حين كونه نطفة فجنينا في رحم سواء اعتبرت في معناه تفسير الملكانيين لهذه الكلمة أو تفسير النسطوريين، أو تفسير اليعقوبيين أو غيرهم إذ لا نسبة بين ما له الجسمية و جميع أوصاف الجسمية و آثارها و بين ما ليس فيه جسمية و لا شي‌ء مما يتصف به من زمان أو مكان أو حركة أو غير ذلك فكيف يمكن تعقل الاتحاد بينهما بوجه. 

تفسير الميزان ج۳

297
  • و عدم انطباق القول المذكور على القضايا الضرورية العقلية هو السر فيما يذكره بولس و غيره من رؤسائهم القديسين من تقبيح الفلسفة و الإزراء بالأحكام العقلية، يقول بولس: قد كتب لأهلكن حكمة الحكماء و لأخالفن فهم الفقهاء أين الحكيم أين الكاتب أين مستفحص هذا الدهر بتعمق؟ أ و ليس قد حمق الله حكمة هذا العالم - إلى أن قال -: و إذ اليهود يسألون آية و اليونانيون يطلبون حكمة نكرز۱ نحن بالمسيح مصلوب» رسالة بولس - الإصحاح الأول، و نظائر هذه الكلمات كثيرة في كلامه و كلام غيره و ليست إلا لسياسة النشر و الإذاعة و التبليغ و العظة، يوقن بذلك من أرعى نظره في هذه الرسائل و الكتب و تعمق في طريق تكليمها الناس و إلقاء بياناتها إليهم. 

  • و من ما مر يظهر ما في قولهم: إنه تعالى معصوم من الذنوب و الخطايا فإن‌ الإله الذي صوروه غير مصون عن الخطإ أصلا بمعنى الغلط في الإدراك و الغلط في الفعل من غير أن ينتهي إلى مخالفة من يجب موافقته. 

  • و أما الذنب و المعصية بمعنى التمرد فيما يجب فيه الطاعة و الانقياد فهو غير متصور في حقه تعالى فالعصمة أيضا غير متصورة في حقه سبحانه. 

  • و سابعا: قولهم: إنه بعد أن صار إنسانا عاشر الناس معاشرة الإنسان للإنسان حق تسخر لأعدائه فيه تجويز اتصاف الواجب بحقيقة من حقائق الممكنات حتى يكون إلها و إنسانا في عرض واحد، فكان من الجائز أن يصير الواجب شيئا من مخلوقاته أي يتصف بحقيقة كل نوع من هذه الأنواع الخارجية، فتارة يكون إنسانا من الأناسي، و تارة فرسا، و تارة طائرا، و تارة حشرة، و تارة غير ذلك، و تارة يكون أزيد من نوع واحد من الأنواع كالإنسان و الفرس و الحشرة معا. 

  • و هكذا يجوز أن يصدر عنه أي فعل فرض من أفعال الموجودات لجواز أن يصير هو ذلك النوع فيفعل فعله المختص به، و كذا يجوز أن يصدر عنه أفعال متقابلة معا كالعدل و الظلم، و أن يتصف بصفات متقابلة كالعلم و الجهل، و القدرة و العجز، و الحياة و الموت و الغنى و الفقر، تعالى الملك الحق، و هذا غير المحذور المتقدم في الأمر السادس.

    1. كرز كرزا، وعظ و نادى. 

تفسير الميزان ج۳

298
  • و ثامنا: قولهم: إنه تحمل الصلب و اللعن أيضا لأن المصلوب ملعون‌، ما ذا يريدون بقولهم: إنه تحمل اللعن؟ و ما ذا يراد بهذا اللعن؟ أ هو هذا اللعن الذي يعرفه العرف و اللغة و هو الإبعاد من الرحمة و الكرامة أو غير ذلك؟ فإن كان هو الذي نعرفه، و تعرفه اللغة فما معنى إبعاده تعالى نفسه من الرحمة أو إبعاد غيره إياه من الرحمة؟ فهل الرحمة إلا الفيض الوجودي و موهبة النعمة و الاختصاص بمزايا الوجود فيرجع هذا الإبعاد و اللعن بحسب المعنى إلى الفقر في المال أو الجاه أو نحو ذلك في الدنيا أو الآخرة أو كلتيهما، و حينئذ فما معنى لحوق اللعن بالله تعالى و تقدس بأي وجه تصوروه؟ مع أنه الغني بالذات الذي هو يسد باب الفقر عن كل شي‌ء. 

  • و التعليم القرآني على خلاف هذا التعليم العجيب بتمام معنى الكلمة، قال تعالى: {يا أيُّها النّاسُ أنْتُمُ الْفُقراءُ إِلى اللّهِ و اللّهُ هُو الْغنِيُّ} الفاطر - ١٥، و القرآن يسميه تعالى بأسماء و يصفه بصفات يستحيل معها عروض أي فقر و فاقة و حاجة و نقيصة و فقد و عدم و سوء و قبح و ذل و هوان إلى ساحة قدسه و كبريائه. 

  • فإن قيل: إن اتصافه بالهوان، و حمله اللعن بواسطة اتحاده بالإنسان، و إلا فهو تعالى في نفسه و حيال ذاته أجل من أن يعرضه ذلك. 

  • قيل لهم: هل يوجب هذا الاتحاد حمله اللعن و اتصافه بهذه الأمور الشاقة حقيقة و من غير مجاز أو لا؟ فإن كان الأول لزم المحذور الذي ذكرناه، و إن كان الثاني‌ عاد الإشكال، أعني أن تولد المسيح لم يوجب انحلال إشكال تزاحم الرحمة و العدل، فإن تحمل غيره تعالى للمصائب و أقسام العذاب و اللعن لا يتم أمر الفدية أي صيرورة الله فدية عن أفراد الإنسان، و هو ظاهر. 

  • و تاسعا: قولهم: إن ذلك كفارة لخطايا المؤمنين بعيسى بل لخطايا كل العالم، يدل ذلك على أنهم لم يحصلوا حقيقة معنى الذنوب و الخطايا و كيفية استتباعها للعقاب الأخروي و كيف يتحقق هذا العقاب، و لم يعرفوا حقيقة الارتباط بين هذه الذنوب و الخطايا و بين التشريع، و ما هو موقف التشريع من ذلك؟ على ما يتكفله البيان القرآني و تعليمه. 

  • فقد بينا في المباحث السابقة في هذا الكتاب و من جملتها ما في تفسير قوله تعالى: 

تفسير الميزان ج۳

299
  • {إِنّ اللّه لا يسْتحْيِي أنْ يضْرِب مثلاً ما} البقرة - ٢٦، و في ذيل قوله تعالى: {كان النّاسُ أُمّةً واحِدةً} البقرة - ٢١٣، أن الأحكام و القوانين التي يقع فيها المخالفة و التمرد ثم الذنب و الخطيئة إنما هي أمور وضعية اعتبارية أريد بوضعها و اعتبارها أن يحفظ مصالح المجتمع الإنساني بالعمل بها و الرقوب لها، و أن العقاب المترتب على المعصية و المخالفة إنما هو تبعة سوء اعتبروه و وضعوه ليكون ذلك صارفا للإنسان المكلف عن اقتراف المعصية و التمرد عن الطاعة، هذا ما عند العقلاء البانين للمجتمع الإنساني. 

  • لكن التعليم القرآني يعطي في هذا المعنى ما هو أرقى من ذلك و أرق و يؤيده البحث العقلي على ما مر و هو أن الإنسان بانقياده للشرع المنصوب له من جانب الله و عدم انقياده له تتهيأ في نفسه حقائق من الصفات الباطنة الحميدة الفاضلة أو الرذيلة الخسيسة الخبيثة، و هذه هي التي تهيئ للإنسان نعمة أخروية أو نقمة أخروية اللتين ممثلهما الجنة و النار و حقيقتهما القرب و البعد من الله فالحسنات أو الخطايا تتكي و تنتهي إلى أمور حقيقية لها نظام حقيقي غير اعتباري. 

  • و من البين أيضا أن التشريع الإلهي إنما هو تتمة للتكميل الإلهي في الخلقة، و إنهاء الهداية التكوينية إلى غايتها و هدفها من الخلقة، و بعبارة أخرى، شأنه تعالى إيصال كل نوع إلى كمال وجوده و هدف ذاته و من كمال وجود الإنسان النظام النوعي الصالح في الدنيا، و الحيوة الناعمة السعيدة في الآخرة، و الطريق إلى ذلك الدين الذي يتكفل قوانين صالحة لإصلاح الاجتماع و جهات من التقرب باسم العبادات يعمل بها الإنسان فينتظم بذلك معاشه و يتهيأ في نفسه و يصلح في ذاته و عمله للكرامة الإلهية في الدار الآخرة، كل ذلك من جهة النور المجعول في قلبه و الطهارة الحاصلة في نفسه هذا حق الأمر. 

  • فللإنسان قرب و بعد من الله سبحانه هما الملاكان في سعادته و شقاوته الدائمتين و لصلاح اجتماعه المدني في الدنيا، و الدين هو العامل الوحيد في إيجاد هذا القرب و البعد، و جميع ذلك أمور حقيقية غير مبتنية على اللغو و الجزاف. 

  • و إذا فرضنا أن اقتراف معصية واحدة كالأكل من الشجرة المنهية من آدم أوجب له الهلاك الدائم و لا له فحسب بل و لجميع ذريته ثم لم يكن هناك ما يعالج به الداء و يفرج به الهم إلا فداء المسيح فما فائدة تشريع الدين قبل المسيح؟ و ما فائدة تشريعه معه؟ و ما فائدة تشريعه بعده؟! 

تفسير الميزان ج۳

300
  • و ذلك أنه لما فرض أن الهلاك الدائم و العقاب الأخروي محتوم من جهة صدور المعصية لا ينفع في صرفه عن الإنسان لا عمل و لا توبة إلا بنحو الفداء لم يكن معنى لتشريع الشرائع و إنزال الكتب و إرسال الرسل من عند الله سبحانه، و لم يزل الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير خالية عن وجه الصحة فما ذا كاد يصلحه هذا السعي بعد وجوب العذاب و حتم الفساد. 

  • و إذا فرض هناك من تكمل بالعمل بالشرائع السابقة (و كم من الأنبياء و الربانيين من الأمم السالفة كذلك كالنبي المكرم إبراهيم و موسى (عليه السلام)و غيرهما) و قد قضوا و ماتوا قبل إدراك زمان الفداء فما ذا ترى أ ترى أنهم ختموا الحيوة على الشقاء أو السعادة؟ و ما الذي استقبلهم به الموت و عالم الآخرة؟ استقبلهم بالعقاب و الهلاك أم بالثواب و الحيوة السعيدة؟. 

  • مع أن المسيح يصرح بأنه إنما أرسل لتخليص المذنبين و المخطئين و أما الصلحاء و الأخيار فلا حاجة لهم إلى ذلك؟۱ 

  • و بالجملة فلا يبقى لتشريع الشرائع الإلهية و جعل النواميس الدينية قبل فداء المسيح غرض صحيح يصونه عن العبث و اللغوية، و لا لهذا الفعل العجيب من الله (تعالى و تقدس) محمل حق إلا أن يقال، إنه تعالى كان يعلم أن لو لم يرفع محذور خطيئة آدم لم ينفعه شي‌ء من هذه التشريعات قط، و إنما شرع هذه الشرائع على سبيل الاحتياط برجاء أن سيوفق يوما لرفع المحذور و يجني ثمرة تشريعه بعد ذلك، و يبلغ غايته و يظفر بأمنيته إذ ذاك فشرع ما شرع بكتمان الأمر عن الأنبياء و الناس، و إخفاء أن هاهنا محذورا لو لم يرتفع خابت مساعي الأنبياء و المؤمنين كافة، و ذهبت الشرائع سدى، و إظهار أن التشريع و الدعوة على الجد و الحقيقة. 

  • فغر الناس و غر نفسه: أما غرور الناس فبإظهار أن العمل بالشرائع يضمن مغفرتهم و سعادتهم، و أما غرور نفسه فلأن التشريع بعد رفع المحذور بالفداء يعود 

    1. فتقمقم الفريسيون و الكتبة على تلاميذه قائلين لما تأكلون و تشربون مع العشارين و الخطاة أجابهم يسوع قائلا لا يحتاج الأصحاء إلى الطبيب لكن المرضى لم آت لأدعو الصديقين لكن الخطاة إلى التوبة إنجيل لوقا - الإصحاح الخامس.

تفسير الميزان ج۳

301
  • لغوا لا أثر له في سعادة الناس كما أنه من غير رفع المحذور كان لا أثر له فهذا، حال تشريع الدين قبل وصول أوان الفداء و تحققه! 

  • و أما في زمان الفداء و بعده فالأمر في صيرورة التشريع و الدعوة الدينية و الهداية الإلهية لغوا أوضح و أبين‌، فما هي الفائدة في الإيمان بالمعارف الحقة و الإتيان بالأعمال الصالحة بعد ارتفاع محذور الخطيئة، و استيجاب نزول المغفرة و الرحمة على الناس مؤمنهم و كافرهم، برهم و فاجرهم، من غير فرق بين أتقى الأتقياء و أشقى الأشقياء في أنهما يشتركان في الهلاك المؤبد مع بقاء الخطيئة، و في الرحمة اللازمة مع ارتفاعها بالفداء و المفروض أنه لا ينفع أي عمل صالح في رفعها لو لا الفداء. 

  • فإن قيل: إن الفداء إنما ينفع في حق من آمن بالمسيح فللدعوة ثمرة كما يصرح به المسيح في بشارته‌۱

  • قيل: مضافا إلى أنه مناقض لما تقدمت الإشارة إليه من كلام يوحنا في رسالته، أنه هدم لجميع الأصول الماضية إذ لا يبقى من الناس آدم فمن دونه في حظيرة النجاة و الخلاص إلا شرذمة منهم و هم المؤمنون بالمسيح و الروح بل واحدة من طوائفهم المختلفة في الأصول و أما غيرهم فهم باقون على الهلاك الدائم، فليت شعري إلى ما يئول أمر الأنبياء المكرمين قبل المسيح و أمر المؤمنين من أممهم؟ و بما ذا يتصف الدعوة التي جاءوا بها من كتاب و حكم، أ بالصدق أم بالكذب؟ و الأناجيل تصدق التوراة و دعوتها، و ليس فيها دعوة إلى قصة الروح و الفداء! و هل هي تصدق ما هو صادق أو تصدق الكاذب؟ 

  • فإن قيل: إن الكتب السماوية السابقة فيما نعلم تبشر بالمسيح، و هذه منهم دعوة إجمالية إلى المسيح و إن لم تفصل القول في كيفية نزوله و فدائه فلم يزل الله يبشر أنبياءه بظهور المسيح ليؤمنوا به و يطيبوا نفسا بما سيصنعه. 

  • قيل: أولا: إن القول به قبل موسى تخرص على الغيب، على أن البشارة لو كانت 

    1. أقول لكم إن كل من اعترف لي قدام الناس فابن الإنسان يعترف به أيضا. قدام ملائكة الله، و من أنكرني قدام الناس أنكره أيضا قدام ملائكة الله، و كل من يقول كلمة في ابن الإنسان يغفر له و من يجدف على روح القدس لا يغفر له» إنجيل لوقا - الإصحاح الثاني عشر.

تفسير الميزان ج۳

302
  • فإنما هي بشارة بالخلاص و ليست بدعوة إلى الإيمان و التدين به. و ثانيا: إن ذلك لا يدفع محذور لغوية الدعوة في فروع الدين من الأخلاق و الأفعال حتى من المسيح نفسه، و الأناجيل مملوءة بذلك. و ثالثا: إن محذور الخطيئة و انتقاض الغرض الإلهي باق على حاله فإن الله تعالى إنما خلقهم ليرحم جميعهم و يبسط النعمة و السعادة على كافتهم و قد آل أمره إلى عقابهم و الغضب عليهم و إهلاكهم للأبد إلا شرذمة منهم. 

  • فهذه نبذة من وجوه فساده عند العقل، و يؤيده و يجري عليه القرآن الكريم، قال تعالى: {الّذِي أعْطى‌ كُلّ شيْ‌ءٍ خلْقهُ ثُمّ هدى‌} طه - ٥٠، فبين أن كل شي‌ء مهدي إلى غايته و ما يبتغيه بوجوده، و الهداية تعم التكوينية و التشريعية فالسنة الإلهية جارية على بسط الهداية، و منها هداية الإنسان هداية دينية. 

  • ثم قال تعالى و هو أول هداية دينية ألقاها إلى آدم و من معه حين إهباطهم من الجنة: {قُلْنا اِهْبِطُوا مِنْها جمِيعاً فإِمّا يأْتِينّكُمْ مِنِّي هُدىً فمنْ تبِع هُداي فلا خوْفٌ عليْهِمْ و لا هُمْ يحْزنُون و الّذِين كفرُوا و كذّبُوا بِآياتِنا أُولئِك أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُون} البقرة - ٣٩، و ما يشتمل عليه‌ بمنزلة التلخيص لتفاصيل الشرائع إلى يوم القيامة ففيه تشريع و وعد و وعيد عليه من غير تردد و ارتياب، و قد قال تعالى: {الْحقّ أقُولُ} ص - ٨٤، و قال تعالى: {ما يُبدّلُ الْقوْلُ لديّ و ما أنا بِظلاّمٍ لِلْعبِيدِ} ق - ٢٩، فبين أنه لا يتردد فيما جزم به من الأمر و لا ينقض ما أنفذه من الأمر فما يقضيه، هو الذي يمضيه، و إنما يفعل ما قاله، فلا ينحرف فعله عن المجرى الذي أراد عليه لا من جهة نفسه بأن يريد شيئا ثم يتردد في فعله، أو يريده ثم يبدو له فلا يفعله و لا جهة غيره بأن يريد شيئا و يقطع به و يعزم عليه ثم يمنعه مانع من العقل أو يبدو إشكال يعترض عليه في طريق الفعل فكل ذلك من قهر القاهر، و غلبة المانع الخارجي قال تعالى: {و اللّهُ غالِبٌ على‌ أمْرِهِ} يوسف - ٢١، و قال تعالى: {إِنّ اللّه بالِغُ أمْرِهِ} الطلاق - ٣، و قال تعالى حكاية عن موسى: {قال عِلْمُها عِنْد ربِّي فِي كِتابٍ لا يضِلُّ ربِّي و لا ينْسى‌} طه - ٥٢، و قال تعالى: {الْيوْم تُجْزى‌ كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ لا ظُلْم الْيوْم إِنّ اللّه سرِيعُ الْحِسابِ} المؤمن - ١٧. 

  • تدل هذه الآيات و ما يشابهها على أنه تعالى إنما خلق الخلق و لم يغفل عن أمره، و لم يجهل شيئا مما سيظهر منه و لم يندم على ما فعله‌، ثم شرع لهم الشرائع تشريعا 

تفسير الميزان ج۳

303
  • جديا فاصلا من غير هزل و لا خوف و لا رجاء، ثم إنه يجزي كل ذي عمل بعمله، إن خيرا فخير و إن شرا فشر من غير أن يغلبه تعالى غالب، أو يحكم عليه حاكم من شريك أو فدية أو خلة أو شفاعة من دون إذنه فكل ذلك ينافي ملكه المطلق لما سواه من خلقه. 

  • و عاشرا: ما ذكروه من حديث الفداء و حقيقة الفداء أن يلزم الإنسان أو ما يتعلق به من نفس أو مال أثر سيئ من قتل أو فناء فيعوض بغيره أي شي‌ء كان ليصان بذلك من لحوق ذلك الأثر به كما يفدي الإنسان الأسير بنفس أو مال و كما تفدي الجرائم و الجنايات بالأموال و يسمى البدل فدية و فداء، فالتفدية نوع معاملة ينتزع بها حق صاحب الحق و سلطنته عن المفدي عنه إلى الفداء فيستنقذ به المفدي عنه من أن يلحق به الشر. 

  • و من هنا يظهر أن الفداء غير معقول في ما يتعلق بالله سبحانه فإن السلطنة الإلهية - على خلاف السلطنة الوضعية الاعتبارية الإنسانية - سلطنة حقيقية واقعية غير جائزة التبديل مستحيلة الصرف، فالأشياء بأعيانها و آثارها موجودة قائمة بالله سبحانه و كيف يتصور تغيير الواقع عما هو عليه فليس إلا أمرا لا يمكن تعقله فضلا عن أن يمكن وقوعه و هذا بخلاف الملك و السلطنة و الحق و أمثالها الدائرة بيننا معاشر أبناء الاجتماع فإنها و أمثالها أمور وضعية اعتبارية زمامها بأيدينا، نحن المجتمعين نبطلها مرة، و نبدلها أخرى على حسب تغير مصالحنا في الحيوة و المعاش (راجع ما تقدم من البحث في تفسير قوله تعالى: {مالِكِ يوْمِ الدِّينِ} الحمد - ٤، و قوله تعالى: {قُلِ اللّهُمّ مالِك الْمُلْكِ} (الآية) آل عمران - ٢٦. 

  • و قد نفى الله سبحانه الفدية بالخصوص في قوله: {فالْيوْم لا يُؤْخذُ مِنْكُمْ فِدْيةٌ و لا مِن الّذِين كفرُوا مأْواكُمُ النّارُ} الحديد - ١٥، و قد تقدم فيما مر أن من هذا القبيل قول المسيح فيما يحكيه الله تعالى عنه: {و إِذْ قال اللّهُ يا عِيسى اِبْن مرْيم أ أنْت قُلْت لِلنّاسِ اِتّخِذُونِي و أُمِّي إِلهيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قال سُبْحانك ما يكُونُ لِي أنْ أقُول ما ليْس لِي بِحقٍّ} إلى أن قال: {ما قُلْتُ لهُمْ إِلاّ ما أمرْتنِي بِهِ أنِ اُعْبُدُوا اللّه ربِّي و ربّكُمْ و كُنْتُ عليْهِمْ شهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فلمّا توفّيْتنِي كُنْت أنْت الرّقِيب عليْهِمْ و أنْت على‌ كُلِّ شيْ‌ءٍ شهِيدٌ إِنْ تُعذِّبْهُمْ فإِنّهُمْ عِبادُك و إِنْ تغْفِرْ لهُمْ فإِنّك أنْت الْعزِيزُ الْحكِيمُ} المائدة - ١١٨ 

تفسير الميزان ج۳

304
  • فإن قوله: {و كُنْتُ عليْهِمْ}إلخ، في معنى أنه لم يكن لي شأن فيهم إلا ما أنت وظفته علي و عينته و هو تبليغ الرسالة و الشهادة على الأعمال ما دمت فيهم، و أما هلاكهم و نجاتهم و عذابهم و مغفرتهم فإنما ذلك إليك من غير أن يرتبط بي شي‌ء من ذلك أو يكون لي شأن فيه فأملك لهم شيئا منك أخرجهم به من عذابك أو تسلطك عليهم، و في ذلك نفي الفداء إذ لو كان هناك فداء لم يصح تبريه من أعمالهم و إرجاع العذاب و المغفرة معا إلى الله سبحانه بنفي ارتباطهما به أصلا. 

  • و في معنى هذه الآيات قوله تعالى: {و اِتّقُوا يوْماً لا تجْزِي نفْسٌ عنْ نفْسٍ شيْئاً و لا يُقْبلُ مِنْها شفاعةٌ و لا يُؤْخذُ مِنْها عدْلٌ و لا هُمْ يُنْصرُون} البقرة - ٤٨، و كذا قوله تعالى: {يوْمٌ لا بيْعٌ فِيهِ و لا خُلّةٌ و لا شفاعةٌ} البقرة - ٢٥٤، و قوله تعالى: {يوْم تُولُّون مُدْبِرِين ما لكُمْ مِن اللّهِ مِنْ عاصِمٍ} المؤمن - ٣٣، فإن العدل في الآية الأولى و البيع في الآية الثانية و العصمة من الله في الآية الثالثة مما ينطبق عليه الفداء فنفيها نفي الفداء. 

  • نعم أثبت القرآن الشريف في مورد المسيح الشفاعة بدل ما يثبتونه من الفداء و الفرق بينهما أن الشفاعة (كما تقدم البحث عنها في قوله تعالى: {و اِتّقُوا يوْماً لا تجْزِي} البقرة - ٤٨، نوع من ظهور قرب الشفيع و مكانته لدى المشفوع عنده من غير أن يملك الشفيع منه شيئا أو يسلب عنه ملك أو سلطنة، أو يبطل حكمه الذي خالفه المجرم أو يبطل قانون المجازاة بل إنما هو نوع دعاء و استدعاء من الشفيع لتصرف المشفوع عنده و هو الرب ما يجوز له من التصرف في ملكه، و هذا التصرف الجائز مع وجود الحق هو العفو الجائز للمولى مع كونه ذا حق أن يعذبه لمكان المعصية و قانون العقوبة. 

  • فالشفيع يحضه و يستدعي منه أن يعمل بالعفو و المغفرة في مورد استحقاق العذاب للمعصية من غير أن يسلب من المولى ملك أو سلطان بخلاف الفداء فإنه كما مر معاملة يتبدل به سلطنة من شي‌ء إلى شي‌ء آخر هو الفداء و يخرج المفدي عنه عن سلطان القابل الآخذ للفداء. 

  • و يدل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى: {و لا يمْلِكُ الّذِين يدْعُون مِنْ دُونِهِ الشّفاعة إِلاّ منْ‌ شهِد بِالْحقِّ و هُمْ يعْلمُون} الزخرف - ٨٦، فإنه صريح في وقوع الشفاعة من المستثنى، و المسيح (عليه السلام)ممن كانوا يدعونهم من دون الله، و قد نص القرآن بأن 

تفسير الميزان ج۳

305
  • الله علمه الكتاب و الحكمة، و بأنه من الشهداء يوم القيامة، قال تعالى: {و يُعلِّمُهُ الْكِتاب و الْحِكْمة} آل عمران - ٤٨، و قال تعالى حكاية عنه: {و كُنْتُ عليْهِمْ شهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ} المائدة - ١١٧، و قال تعالى: {و يوْم الْقِيامةِ يكُونُ عليْهِمْ شهِيداً} النساء – ١٥٩ .

  • فالآيات كما ترى تدل على كون المسيح (عليه السلام)من الشفعاء، و قد تقدم تفصيل القول في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {و اِتّقُوا يوْماً لا تجْزِي نفْسٌ عنْ نفْسٍ شيْئاً} (الآية) البقرة - ٤٨. 

  • ٦ - من أين نشأ هذه الآراء؟ 

  • القرآن ينفي أن يكون المسيح (عليه السلام)هو الملقي لهذه الآراء و العقائد إليهم و المروج لها فيما بينهم بل إنهم تعبدوا لرؤسائهم في الدين و سلموا الأمر إليهم و هم نقلوا إليهم عقائد الماضين من الوثنيين كما قال تعالى: {و قالتِ الْيهُودُ عُزيْرٌ اِبْنُ اللّهِ و قالتِ النّصارى‌ الْمسِيحُ اِبْنُ اللّهِ ذلِك قوْلُهُمْ بِأفْواهِهِمْ يُضاهِؤُن قوْل الّذِين كفرُوا مِنْ قبْلُ قاتلهُمُ اللّهُ أنّى يُؤْفكُون اِتّخذُوا أحْبارهُمْ و رُهْبانهُمْ أرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ و الْمسِيح اِبْن مرْيم و ما أُمِرُوا إِلاّ لِيعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِله إِلاّ هُو سُبْحانهُ عمّا يُشْرِكُون} الآيات - التوبة - ٣١. 

  • و هؤلاء الكافرون الذين يشير تعالى إليهم بقوله: {يُضاهِؤُن قوْل الّذِين كفرُوا مِنْ قبْلُ}، ليسوا هم عرب الجاهلية في وثنيتهم حيث قالوا: إن الملائكة بنات الله فإن قولهم‌ بأن لله ابنا أقدم تاريخا من تماسهم مع العرب و اختلاطهم بهم و خاصة قول اليهود بذلك مع أن ظاهر قوله: {مِنْ قبْلُ}، أنهم سابقون فيه على اليهود و النصارى، على أن اتخاذ الأصنام في الجاهلية مما نقل إليهم من غيرهم و لم يكونوا بمبتكرين في ذلك‌۱.

    1. ذكروا أن أول من وضع الأصنام على الكعبة و دعا الناس إليها عمرو بن لحي و كان في زمان سابور ذي الأكتاف ساد قومه بمكة و استولى على سدانة البيت ثم سافر إلى مدينة البلقاء بأرض الشام فرأى قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية و الأشخاص البشرية نستنصر بها فننصر، و نستمطر بها فنمطر فطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكة و وضعه على الكعبة و دعا الناس إلى عبادتها، و كان معه إساف و نائلة على شكل زوجين فدعا الناس إليهما و التقرب إلى الله بهما ذكره في الملل و النحل و غيره. و من عجيب الأمر أن القرآن يذكر أسماء من أصنام العرب في قصة نوح و شكواه من قومه قال تعالى حكاية عنه: و قالوا لا تذرن آلهتكم و لا تذرن ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا نوح - ٢٣.

تفسير الميزان ج۳

306
  • على أن الوثنية من الروم و يونان و مصر و سورية و الهند كانوا أقرب إلى أهل الكتاب القاطنين بفلسطين و حواليه، و انتقال العقائد و المزاعم الدينية إليهم منهم أسهل، و الأسباب بذلك أوفق. 

  • فليس المراد بالذين كفروا الذين ضاهاهم أهل الكتاب في القول بالبنوة إلا قدماء وثنية الهند و الصين و وثنية الغرب من الروم و يونان و شمال إفريقا كما أن التاريخ يحكي عنهم نظائر هذه المزاعم الموجودة في أهل الكتاب من اليهود و النصارى من البنوة و الأبوة و التثليث و حديث الصلب و الفداء و غير ذلك، و هذا من الحقائق التاريخية التي ينبه عليها القرآن الشريف. 

  • و نظير الآيات السابقة في الدلالة على هذه الحقيقة قوله تعالى: {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ لا تغْلُوا فِي دِينِكُمْ غيْر الْحقِّ و لا تتّبِعُوا أهْواء قوْمٍ قدْ ضلُّوا مِنْ قبْلُ و أضلُّوا كثِيراً و ضلُّوا عنْ سواءِ السّبِيلِ} المائدة - ٧٧، فإن الآية تبين أن غلوهم في الدين بغير الحق إنما طرأ عليهم بالتقليد و اتباع أهواء قوم ضالين من قبلهم. 

  • و ليس المراد بهؤلاء القوم أحبارهم و رهبانهم، فإن الكلام مطلق غير مقيد و لم يقل: قوم منكم، و أضلوا كثيرا منكم، و ليس المراد بهم عرب الجاهلية كما تقدم، على أنه وصف هؤلاء القوم بأنهم أضلوا كثيرا أي كانوا أئمة ضلال مقلدين متبعين (بصيغة المفعول فيهما) و لم يكن العرب يومئذ إلا شرذمة مضطهدين أميين ليس عندهم من العلم و الحضارة و التقدم ما يتبعهم به و فيه غيرهم من الأمم كفارس و الروم و الهند و غيرهم. 

  • فليس المراد بهؤلاء القوم المذكورين إلا وثنية الصين و الهند و الغرب كما تقدم.

  • ٧ - ما هو الكتاب الذي ينتسب إليه أهل الكتاب و كيف هو؟ 

  • الرواية و إن عدت المجوس من أهل الكتاب، و لازم ذلك أن يكون لهم كتاب خاص أو ينتموا إلى واحد من الكتب التي يذكرها القرآن‌ ككتاب، نوح و صحف إبراهيم، و توراة موسى، و إنجيل عيسى، و زبور داود، لكن القرآن لا يذكر شأنهم، و لا يذكر كتابا لهم، و الذي عندهم من أوستا لا ذكر منه فيه، و ليس عندهم من سائر الكتب اسم. 

تفسير الميزان ج۳

307
  • و إنما يطلق القرآن أهل الكتاب فيما يطلق، و يريد بهم اليهود و النصارى لكان الكتاب الذي أنزله الله عليهم. 

  • و الذي عند اليهود من الكتب المقدسة خمسة و ثلاثون كتابا منها توراة موسى مشتملة على خمسة أسفار۱، و منها كتب المؤرخين اثنا عشر كتابا٢، و منها كتاب أيوب، و منها زبور داود، و منها ثلاثة كتب لسليمان‌٣، و منها كتب النبوات سبعة عشر كتابا٤

  • و لم يذكر القرآن من بينها إلا توراة موسى و زبور داود (عليه السلام). 

  • و الذي عند النصارى من مقدسات الكتب، الأناجيل الأربعة: و هي إنجيل متى، و إنجيل مرقس، و إنجيل لوقا، و إنجيل يوحنا، و منها كتاب أعمال الرسل، و منها عدة من الرسائل‌٥.، و منها رؤيا يوحنا. 

  • و لم يذكر القرآن شيئا من هذه الكتب المقدسة المختصة بالنصارى إلا أنه ذكر أن هناك كتابا سماويا أنزله الله على عيسى بن مريم يسمى بالإنجيل‌، و هو إنجيل واحد ليس بالأناجيل، و النصارى و إن كانوا لا يعرفونه و لا يعترفون به إلا أن في كلمات 

    1. و هي سفر الخليقة، و سفر الخروج، و سفر الأحبار، و سفر العدد، و سفر الاستثناء.
    2. و هي كتاب يوشع، و كتاب قضاة بني إسرائيل، و كتاب راعوث، و السفر الأول من أسفار صموئيل، و الثاني منها، و السفر الأول من أسفار الملوك، و الثاني منها. و السفر الأول من أخبار الأيام، و السفر الثاني منها، و السفر الأول لعزرا، و الثاني له، و سفر إستير.
    3. و هي كتاب الأمثال، و كتاب تسبيح التسابيح.‌
    4. و هي كتاب نبوة أشعيا، و كتاب نبوة أرميا، و مراثي أرميا، و كتاب حزقيال، و كتاب نبوة دانيال، و كتاب نبوة هوشع، و كتاب نبوة يوييل، و كتاب نبوة عاموص، و كتاب نبوة عويذيا، و كتاب نبوة يونان، و كتاب نبوة ميخا، و كتاب نبوة ناحوم، و كتاب نبوة حيقوق، و كتاب نبوة صفونيا، و كتاب نبوة حجى، و كتاب نبوة زكريا، و كتاب نبوة ملاخيا.
    5. و هي أربع عشرة رسالة لبولس، و رسالة ليعقوب، و رسالتان لبطرس، و ثلاث وسائل ليوحنا، و رسالة ليهوذا.

تفسير الميزان ج۳

308
  • رؤسائهم لقيطات تتضمن الاعتراف بأنه كان للمسيح كتاب اسمه إنجيل‌۱

  • و القرآن مع ذلك لا يخلو من إشعار بأن بعضا من التوراة الحقة موجود فيما عند اليهود، و كذا بعض من الإنجيل الحق موجود في أيدي النصارى، قال تعالى: {و كيْف يُحكِّمُونك و عِنْدهُمُ التّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ} المائدة - ٤٣، و قال تعالى: {و مِن الّذِين قالُوا إِنّا نصارى‌ أخذْنا مِيثاقهُمْ فنسُوا حظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ} المائدة - ١٤، و الدلالة ظاهرة.

  • (بحث تاريخي) 

  • ١ - قصة التوراة الحاضرة

  • بنو إسرائيل هم الأسباط من آل يعقوب كانوا يعيشون أولا عيشة القبائل البدويين ثم أشخصهم الفراعنة إلى مصر و كانوا يعامل معهم معاملة الأسراء المملوكين حتى نجاهم الله بموسى من فرعون و عمله. 

  • و كانوا في زمن موسى يسيرون مسير الحيوة بالإمام و هو موسى و بعده يوشع (عليه السلام)ثم كانوا برهة من الزمان يدبر أمرهم القضاة مثل إيهود و جدعون و غيرهما. و بعد ذلك يشرع فيهم عصر الملك و أول الملوك فيهم شاءول و هو الذي يسميه القرآن الشريف بطالوت ثم داود ثم سليمان. 

  • ثم انقسمت المملكة و انشعبت القدرة و مع ذلك ملك فيهم ملوك كثيرون كرحبعام و أبيام و يربعام و يهوشافاط و يهورام و غيرهم بضعة و ثلاثون ملكا. 

  • و لم تزل تضعف القدرة بعد الانقسام حتى تغلبت عليهم ملوك بابل و تصرفوا في أورشليم و هو بيت المقدس، و ذلك في حدود سنة ستمائة قبل المسيح، و ملك بابل يومئذ بخت نصر (نبوكد نصر) ثم تمردت اليهود عن طاعته فأرسل إليهم عساكره 

    1. في رسالة بولس إلى أهل غلاطية - الإصحاح الأول: إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم و يريدون أن يحولوه أي يغيروه. 
      و قد استشهد النجار في قصص الانبياء بما مر و بموارد من كلمات بولس في رسائله على أنه كان هناك إنخمل غير الاربعهء يسمى إنجيل المسيح. 

تفسير الميزان ج۳

309
  • فحاصروهم ثم فتحوا البلدة، و نهبوا خزائن الملك، و خزائن الهيكل (المسجد الأقصى) و جمعوا من أغنيائهم و أقويائهم و صناعهم ما يقرب من عشرة آلاف نفسا و ساروا بهم إلى بابل، و ما أبقوا في المحل إلا الضعفاء و الصعاليك، و نصب بخت نصر صديقا» و هو آخر ملوك بني إسرائيل ملكا عليهم، و عليه الطاعة لبخت نصر. 

  • و كان الأمر على ذلك قريبا من عشر سنين حتى وجد صدقيا بعض القوة و الشدة، و اتصل بعض الاتصال بواحد من فراعنة مصر فاستكبر و تمرد عن طاعة بخت نصر. 

  • فأغضب ذلك بخت نصر غضبا شديدا فساق إليهم الجيوش و حاصر بلادهم فتحصنوا عنه بالحصون، و تمادى بهم التحصن قريبا من سنة و نصف حتى ظهر فيهم القحط و الوباء. 

  • و أصر بخت نصر على المحاصرة حتى فتح الحصون، و ذلك في سنة خمسمائة و ست و ثمانين قبل المسيح، و قتل نفوسهم، و خرب ديارهم و خربوا بيت الله، و أفنوا كل آية و علامة دينية، و بدلوا هيكلهم تلا من تراب‌، و فقدت عند ذلك التوراة و التابوت الذي كانت تجعل فيه. 

  • و بقي الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريبا و هم قاطنون ببابل و ليس من كتابهم عين و لا أثر، و لا من مسجدهم و ديارهم إلا تلال و رياع. 

  • ثم لما جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك، و كان من أمره مع البابليين ما كان، و فتح بابل و دخله أطلق أسراء بابل من بني إسرائيل، و كان عزرا المعروف من المقربين عنده فأمره عليهم، و أجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة، و يبني لهم الهيكل، و يعيدهم إلى سيرتهم الأولى و كان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة و سبعة و خمسين قبل المسيح، و بعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق و صححها، و هي التوراة الدائرة اليوم‌۱

  • و أنت ترى بعد التدبر في القصة أن سنة التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير 

    1. مأخوذة من قاموس الكتاب تأليف مستر هاكس الأمريكائي الهمداني و مآخذ أخرى من التواريخ.

تفسير الميزان ج۳

310
  • متصلة بموسى (عليه السلام)إلا بواحد (و هو عزرا)، لا نعرفه أولا و لا نعرف كيفية اطلاعه و تعمقه ثانيا، و لا نعرف مقدار أمانته ثالثا، و لا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعا، و لا ندري بالاستناد إلى أي مستند صحح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامسا. 

  • و قد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثرا مشئوما آخر و هو إنكار عدة من باحثي المؤرخين من الغربيين وجود موسى و ما يتبعه، و قولهم: إنه شخص خيالي كما قيل نظيره في المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام)، لكن ذلك لا يسع لمسلم فإن القرآن الشريف يصرح بوجوده (عليه السلام)و ينص عليه.

  • ٢ - قصة المسيح و الإنجيل 

  • اليهود مهتمون بتاريخ قوميتهم، و ضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار التي مرت بهم، و مع ذلك فإنك لو تتبعت كتبهم و مسفوراتهم‌ لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفية ولادته، و لا على ظهوره و دعوته و لا على سيرته و الآيات التي أظهرها الله على يديه، و لا على خاتمة حيوته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك، فما هو السبب في ذلك؟ و ما هو الذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفاءهم أمره؟ 

  • و القرآن يذكر عنهم أنهم قذفوا مريم و رموها بالبهتان في ولادة عيسى، و أنهم ادعوا قتل عيسى، قال تعالى: {و بِكُفْرِهِمْ و قوْلِهِمْ على‌ مرْيم بُهْتاناً عظِيماً و قوْلِهِمْ إِنّا قتلْنا الْمسِيح عِيسى اِبْن مرْيم رسُول اللّهِ و ما قتلُوهُ و ما صلبُوهُ و لكِنْ شُبِّه لهُمْ و إِنّ الّذِين اِخْتلفُوا فِيهِ لفِي شكٍّ مِنْهُ ما لهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اِتِّباع الظّنِّ و ما قتلُوهُ يقِيناً} النساء - ١٥٧. 

  • فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القومية من غير أن يكون مودعا في كتاب؟ و عند كل أمة أحاديث دائرة من واقعيات و أساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة. 

  • أو أنهم سمعوا من النصارى الذكر المكرر من المسيح و ولادته و ظهوره و دعوته أخذوا ذلك من أفواههم و باهتوا مريم و ادعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شي‌ء 

تفسير الميزان ج۳

311
  • من ذلك غير أن القرآن - كما يظهر بالتدبر في الآية السابقة لا ينسب إليهم صريحا إلا دعوى القتل دون الصلب، و يذكر أنهم على ريب من الأمر، و أن هناك اختلافا!. 

  • [الأناجيل الأربعة]

  • و أما حقيقة ما عند النصارى من قصة المسيح و أمر الإنجيل و البشارة فهي‌ أن قصته (عليه السلام)و ما يتعلق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدسة عندهم و هي الأناجيل الأربعة التي هي أناجيل متى و مرقس و لوقا و يوحنا، و كتاب أعمال الرسل للوقا، و عدة رسائل لبولس و بطرس و يعقوب و يوحنا و يهوذا، و اعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها: 

  • أما إنجيل متى: فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه و انتشاره ذكر بعضهم أنه صنف سنة ٣٨ الميلادية، و ذكر آخرون أنه كتب ما بين سنة ٥٠إلى سنة ٦٠۱. فهو مؤلف بعد المسيح. 

  • و المحققون من قدمائهم و متأخريهم على أنه كان أصله مكتوبا بالعبرانية ثم ترجم إلى اليونانية و غيرها أما النسخة الأصلية العبرانية فمفقودة، و أما الترجمة فلا يدرى حالها، و لا يعرف مترجمها٢

  • و أما إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذا لبطرس، و لم يكن من الحواريين و ربما ذكروا أنه إنما كتب إنجيله بإشارة بطرس و أمره، و كان لا يرى إلهية المسيح‌٣، و لذلك ذكر بعضهم أنه إنما كتب إنجيله للعشائر و أهل القرى فعرف المسيح تعريف رسول إلهي مبلغ لشرائع الله‌٤، و كيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلادية. 

  • و أما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريا و لا رأى المسيح و إنما تلقن النصرانية من بولس، و بولس كان يهوديا متعصبا على النصرانية يؤذي المؤمنين بالمسيح و يقلب 

    1. قاموس الكتاب المقدس للمستر هاكس مادة - متى‌.
    2. كتاب ميزان الحق، و اعترف به على تردد في قاموس الكتاب المقدس.
    3. نقل ذلك عبد الوهاب النجار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الأخبار في تراجم الأخيار لبطرس قرماج.
    4. ذكره في قاموس الكتاب المقدس، يقول فيه: إن نص تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية، و انتشر بعد وفاة بطرس و بولس لكنه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنه كتبه لأهل القبائل و القرويين لا لأهل البلاد و خاصة الرومية، فتدبر في كلامه!

تفسير الميزان ج۳

312
  • الأمور عليهم، ثم اتفق مفاجأة أن ادعى أنه صرع و في حال الصرع لمسه المسيح و لامه و زجره عن الإساءة إلى متبعيه و أنه آمن بالمسيح و أرسله المسيح ليبشر بإنجيله. 

  • و بولس هذا هو الذي شيد أركان النصرانية الحاضرة على ما هي عليها۱ فبنى التعليم على أن الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل، و أباح لهم أكل الميتة و لحم الخنزير و نهى عن الختنة و كثيرا مما في التوراة٢ مع أن الإنجيل لم يأت إلا مصدقا لما بين يديه من التوراة، و لم يحلل إلا أشياء معدودة، و بالجملة إنما جاء عيسى ليقوم شريعة التوراة و يرد إليها المنحرفين و الفاسقين لا ليبطل العمل و يقصر السعادة على الإيمان الخالي. 

  • و قد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. و ذلك بعد موت بطرس و بولس، و قد صرح جمع بأن إنجيله ليس كتابا إلهاميا كسائر الأناجيل‌٣ كما يدل عليه ما وقع في مبتدإ إنجيله. 

  • و أما إنجيل يوحنا: فقد ذكر كثير من النصارى أن يوحنا هذا هو يوحنا بن زبدي الصياد أحد التلاميذ الاثنى عشر (الحواريين) الذي كان يحبه المسيح حبا شديدا٤

  • و ذكروا أن «شيرينطوس» و «أبيسون» و جماعتهما لما كانوا يرون أن المسيح ليس إلا إنسانا مخلوقا لا يسبق وجوده وجود أمه اجتمعت أساقفة آسيا و غيرهم في 

    1. راجع مادة بولس من قاموس الكتاب المقدس.
    2. راجع كتاب أعمال الرسل و رسائل بولس.
    3. قال في أول إنجيل لوقا: لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الأمور التي نحن بها عارفون كما عهد إلينا أولئك الأولون الذين كانوا من قبل معاينين و كانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضا إذ كنت تابعا لكل شي‌ء بتحقيق أن أكتب إليك أيها العزيز تأويلا، و دلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة و قد نقل ذلك أيضا عن مستر كدل في رسالة الإلهام و صرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأولين من إنجيل لوقا و أنهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني، و جزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا إلحاقية، و ذكر إكهارن أيضا في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات التي نقلها لوقا و الكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير، و قول كلي مي شيس أن متى و مرقس يتخالفان في التحرير و إذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا» نقل عن قصص الأنبياء للنجار - ص ٤٧٧.
    4. راجع قاموس الكتاب المقدس مادة يوحنا.

تفسير الميزان ج۳

313
  • سنة ٩٦ ميلادية عند يوحنا و التمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم، و يبين بنوع خصوصي لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم‌۱

  • و قد اختلفت كلماتهم في السنة التي ألف فيها هذا الإنجيل فمن قائل إنها سنة ٦٥، و قائل إنها سنة ٩٦، و قائل إنها سنة ٩٨. 

  • و قال جمع منهم إنه ليس تأليف يوحنا التلميذ: فبعضهم على أنه تأليف طالب من طلبة المدرسة الإسكندرية٢، و بعضهم على أن هذا الإنجيل كله و كذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه بل إنما صنفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، و نسبه إلى يوحنا ليعتبره الناس‌٣، و بعضهم على أن إنجيل يوحنا كان في الأصل عشرين بابا فألحقت كنيسة أفاس الباب الحادي و العشرين بعد موت يوحنا٤، فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة، و إذا أخذنا بالقدر المتيقن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متى، مرقس، لوقا، يوحنا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كله إلى هذه الأناجيل الأربعة و ينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها و أسبقها و هو إنجيل متى، و قد مر أنه ترجمة مفقود الأصل لا يدرى من الذي ترجمه؟ و كيف كان أصله و على ما ذا كان يبني تعليمه، أ برسالة المسيح أم بألوهيته. 

  • و هذا الإنجيل الموجود يترجم أنه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجار و أقام الدعوة إلى الله، و كان يدعي أنه ابن الله مولود من غير أب بشري و أن أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب و القتل، و أنه أحيا الميت، و أبرأ الأكمه و الأبرص، و شفى المجانين بإخراج الجن من أبدانهم، و أنه كان له اثنا عشر تلميذا: أحدهم متى صاحب الإنجيل بارك لهم و أرسلهم للدعوة و تبليغ الدين المسيحي إلخ. 

    1. نقله في قصص الأنبياء عن جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.
    2. نقل ذلك من كتاب كاتلك هرالد في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥، نقله عن استادلن (عن القصص)، و أشار إليه في القاموس في مادة يوحنا.
    3. قال ذلك برطشنيدر على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأول (عن القصص).
    4. المدرك السابق.

تفسير الميزان ج۳

314
  • فهذا ملخص ما تنتهي إليه الدعوة المسيحية على انبساطها على شرق الأرض و غربها، و هو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم و الرسم، مبهم العين و الوصف. 

  • و هذا الوهن العجيب في مبدإ القصة هو الذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من أروبا أن ادعى أن المسيح عيسى بن مريم شخص خيالي‌ صوره بعض النزعات الدينية على حكومات الوقت أو لها و تأيد ذلك بموضوع خرافي آخر يشبهه كل الشبه في جميع شئون القصة، و هو موضوع كرشنا الذي تدعي وثنية الهند القديمة أنه ابن الله نزل عن لاهوته، و فدى الناس بنفسه صلبا ليخلصهم من الأوزار و الخطايا كما يدعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجي‌ء ذكره). 

  • و أوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أن هناك شخصين مسميين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، و المسيح المصلوب، و بينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون. 

  • و أن التاريخ الميلاد الذي سنتنا هذه سنة ألف و تسعمائة و ستة و خمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأول غير المصلوب يتقدم عليه بما يزيد على مائتين و خمسين سنة و قد عاش نحوا من ستين سنة، و المسيح الثاني المصلوب يتأخر عنه بما يزيد على مائتين و تسعين سنة و قد عاش نحو من ثلاث و ثلاثين سنة۱

  • على أن عدم انطباق التاريخ الميلاد على ميلاد المسيح في الجملة مما لم يسع للنصارى إنكاره‌٢ و هو سكتة تاريخية. 

  • على أن هاهنا أمورا مريبة موهمة أخرى فقد ذكروا أنه كتب في القرنين الأولين من الميلاد أناجيل كثيرة أخرى ربما أنهوها إلى نيف و مائة من الأناجيل، و الأناجيل الأربعة منها ثم حرمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلا الأناجيل الأربعة التي عرفت 

    1.  و قد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل بهروز في كتاب ألفه جديدا. في البشارات النبوية. 
      و أرجو أن أوفق لإيداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب، و القدر المتيقن (الذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.
    2. راجع مادة مسيح من قاموس الكتاب المقدس. 

تفسير الميزان ج۳

315
  • قانونية لموافقة متونها تعليم الكنيسة۱

  • [إنجيل برنابا] 

  • و من جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربية و الفارسية و هو يوافق في عامة قصصه ما قصه القرآن في المسيح عيسى بن مريم‌٢

  • و من العجيب أن المواد التاريخية المأثورة عن غير اليهود أيضا ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحية من حديث البنوة و الفداء و غيرهما ذكر المؤرخ الأمريكي الشهير هندريك ويلم وان لون في تأليفه في تاريخ البشر كتابا كتبه الطبيب إسكولابيوس كولتلوس الرومي سنة ٦٢ الميلادية إلى ابن أخيه جلاديوس أنسا و كان جنديا في عسكر الروم بفلسطين يذكر فيه أنه عاد مريضا برومية يسمى بولس فأعجبه كلامه و قد كان بولس كلمه بالدعوة المسيحية و ذكر له طرفا من أخبار المسيح و دعوته. 

  • ثم يذكر أنه ترك بولس و لم يره حتى سمع بعد حين أنه قتل في طريق أوستى ثم يسأل ابن أخيه‌ أن يبحث عن أخبار هذا النبي الإسرائيلي الذي كان يذكره بولس و عن أخبار بولس نفسه و يكتب إليه ما بلغه من ذلك. 

  • فكتب إليه «جلاديوس أنسا» بعد ستة أسابيع من معسكر الروم بأورشليم 

    1. و لقد لام شيلسوس الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه الخطاب الحقيقي على تلاعبهم بالأناجيل، و محوهم بالغد ما أدرجوه بالأمس، و في سنة ٣٨٤ م، أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم و الحديث تعتبر قانونية في الكنائس و كان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الأساقفة، و تمت تلك الترجمة التي تسمى (فولكانا) و كان ذلك خاصا بالأناجيل الأربعة: متى و مرقس و لوقا و يوحنا، و قد قال مرتب تلك الأناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ما كان فيها مغايرا للمعنى، و أبقينا الباقي على ما كان عليه)، ثم إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع التريدنيتني» سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثم خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠و أمر بطبع نسخ جديدة، ثم خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضا، و أمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).
    2. و قد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين و ترجمه إلى العربية الدكتور خليل سعاده بمصر و ترجمه إلى الفارسية الحبر الفاضل سردار كابلي بإيران.

تفسير الميزان ج۳

316
  • أني سألت عدة من شيوخ البلد و معمريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم. [هذا و السنة سنة ٦٢ ميلادية و هم شيوخ!] 

  • حتى لقيت بياع زيتون فسألته هل يعرفه فأنعم لي في الجواب ثم دلني على رجل اسمه يوسف و ذكر أنه كان من أتباعه و محبيه و أنه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه. 

  • فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحصت أياما فوجدته شيخا هرما و قد كان قديما يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية. 

  • كان الرجل على كبر سنه صحيح المشاعر جيد الحافظة و قص لي جميع الأخبار و القضايا الحادثة في ذلك الأوان أوان الاغتشاش و الفتنة. 

  • ذكر أن فونتيوس فيلاطوس كان حاكما على سامرا و يهودية في عهد القيصر «تي‌بريوس». 

  • فاتفق أن وقع أيام حكومته فتنة في أورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة و كانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أن ابن نجار من أهل الناصرة يدعو الناس و يستنهضهم على الحكومة. 

  • فلما تحققوا أمره تبين أن ابن النجار المتهم شاب عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أن رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه و يباغضونه بأشد ما يكون و قد قالوا لفيلاطوس إن هذا الشاب الناصري يقول لو أن يونانيا أو روميا أو فلسطينيا عامل الناس و عاشرهم بالعدالة و الشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطالعة كتاب الله و تلاوة آياته. 

  • و كان هذه التعرضات و الاقتراحات لم تؤثر في فيلاطوس أثرها لكنه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد و هم يريدون أن يقبضوا على عيسى و أصحابه و يقطعوهم إربا إربا رأى أن الأصلح أن يقبض هو على هذا الشاب النجار و يسجنه حتى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم. 

  • و كان فيلاطوس لم يتضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كل الاتضاح‌ و كلما 

تفسير الميزان ج۳

317
  • كلم الناس في أمره و سألهم و استوضحهم علت أصواتهم و تنادوا: «هو كافر»، «هو ملحد»، «هو خائن» فلم ينته الأمر إلى طائل. 

  • حتى استقر رأي فيلاطوس أن يكلم عيسى بنفسه فأشخصه و كلمه و سأله عما يقصده بما يبلغه من الدين فأجابه عيسى أنه لا يهتم بأمر الحكومة و السياسة و لا له في ذلك غرض و أنه يهتم بالحياة الروحانية أكثر مما يهتم بأمر الحياة الجسمانية و أنه يعتقد أن الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس و يعبد الله الفرد الواحد وحده الذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات. 

  • و كان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيين و سائر فلاسفة يونان فكأنه لم ير في ما كلمه به عيسى موضع غمضة و لا محل مؤاخذة و لذلك عزم ثانيا أن يخلص هذا النبي السليم المتين من شر اليهود و سوف في حكم قتله و إنجازه. 

  • لكن اليهود لم يرضوا بذلك و لم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنه فتن بأكاذيب عيسى و أقاويله و أن فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر و أخذوا يستشهدون عليه و يسجلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة و قد كان برز قبل ذلك فتن و انقلابات في فلسطين و القوى المؤمنة القيصرية قليلة العدة لا تقوى على إسكات الناس فيها كل القوة. 

  • و كان على الحكام و سائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم و عدم رضايتهم. 

  • فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدا من أن يفدي هذا الشاب المسجون للأمن العام و يجيب الناس فيما سألوه من قتله. 

  • و أما عيسى فإنه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه و قد عفا قبل موته عمن تسبب إلى قتله من اليهود ثم قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه و يشتمونه و يسبونه. 

  • قال «جلاديوس أنسا» هذا ما قص لي يوسف من قصة عيسى و دموعه تجري على خديه و حين ودعني للمفارقة قدمت إليه شيئا من المسكوك الذهبي لكنه أبى أن يأخذه و قال لي يوجد هاهنا من هو أفقر مني فأعطه إياه. 

تفسير الميزان ج۳

318
  • و سألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامة و القدر الذي تبين من أمره أنه كان رجلاخياما ثم ترك شغله و اشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الرب الرءوف الرحيم الإله الذي بينه و بين يهوه إله يهود الذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد مما بين السماء و الأرض. 

  • و الظاهر أن بولس سافر أولا إلى آسيا الصغرى ثم إلى يونان و أنه كان يقول للعبيد و الأرقاء إنهم جميعا أبناء لأب يحبهم و يرأف بهم و أن السعادة ليست تخص بعض الناس دون بعض بل تعم جميع الناس من فقير و غني بشرط أن يعاشروا على المؤاخاة و يعيشوا على الطهارة و الصداقة انتهى ملخصا. 

  • هذه عامة فقرات هذا الكتاب مما يرتبط بما نحن فيه من البحث. 

  • و بالتأمل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصل للمتأمل أن ظهور الدعوة المسيحية كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام)و أنه لم يكن إلا ظهور دعوة نبوية بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهية بظهور اللاهوت و نزولها إليهم و تخليصهم بالفداء.

  • ثم إن عدة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس و تلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند و إفريقية و رومية و غيرها و بسطوا الدعوة المسيحية لكنهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصلية من التعليم كلاهوت المسيح و كفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى و كون دين الإنجيل دينا أصيلا ناسخا لدين موسى أو كونه تابعا لشريعة التوراة مكملا إياها۱ فافترقوا عند ذلك فرقا. 

  • و الذي يجب الإمعان فيه أن الأمم التي بسطت الدعوة المسيحية و ظهرت فيها أول ظهورها كالروم و الهند و غيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنية الصابئة أو البرهمنية أو البوذائية و فيها أصول من مذاق التصوف من جهة و الفلسفة البرهمنية من جهة و فيها جميعا شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت على أن القول بتثليث 

    1. يشير إليه كتاب أعمال الرمل و وسائل بولس، و قد اعترضت به النصارى.

تفسير الميزان ج۳

319
  • الوحدة و نزول اللاهوت في لباس الناسوت و تحملها الصلب‌۱ و العذاب فداء كان دائرا بين القدماء من وثنية الهند و الصين و مصر و كلدان و الآشور و الفرس، و كذا قدماء وثنية الغرب كالرومان و الإسكندناويين و غيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلفة في الأديان و المذاهب القديمة. 

  • ذكر «دوان» في كتابه «خرافات التوراة و ما يماثلها في الأديان الأخرى»: إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أن أعظم و أشهر عبادتهم اللاهوتية هو التثليث، و يسمون هذا التعليم بلغتهم «ترى‌مورتى» و هي عبارة مركبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتية «ترى»‌ و معناها الثلاثة و «مورتى»‌ و معناها هيئات أو أقانيم، و هي «برهما، و فشنو، و سيفا» ثلاثة أقانيم متحدة لا ينفك عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم. 

  • ثم ذكر: أن برهما عندهم هو الأب و فشنو هو الابن و سيفا هو روح القدس. 

  • ثم ذكر أنهم يدعون سيفا كرشنا٢ الرب المخلص و الروح العظيم الذي ولد منه «فشنو» الإله الذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة التي هي الإله الواحد. 

  • و ذكر أيضا: أنهم يرمزون للأقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى. 

  • و قال مستر «فابر» في كتابه «أصل الوثنية» كما نجد عند الهنود ثالوثا مؤلفا من «برهما» و «فشنو» و «سيفا» نجد عند البوذيين ثالوثا فإنهم يقولون: إن «بوذ» إله له ثلاثة أقانيم، و كذلك بوذيو (جينست) يقولون: إن «جيفا» مثلث الأقانيم. 

    1. القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدا فقد كانوا يقتلون من اشتد جرمه و فظع ذنبه بالصلب الذي هو من أشد أسباب القتل عذابا و أسوئها ذكرا، و كانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحداهما الأخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثم يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين و يدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المتعرضة بالمسامير، و كذا تدق قدماه على الخشبة و ربما شدتا من غير دق ثم تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوما أو أياما ثم تكسر قدماه من السافين و يقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الإنزال، و كان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة، و كان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.
    2. و هو المعبر عنه بالإنكليزية كرس و هو المسيح المخلص. 

تفسير الميزان ج۳

320
  • قال: و الصينيون يعبدون بوذه و يسمونه فو» و يقولون إنه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود. 

  • و قال دوان في كتابه المتقدم ذكره: و كان قسيسو هيكل منفيس بمصر يعبرون عن الثالوث المقدس للمبتدئين بتعلم الدين بقولهم: إن الأول خلق الثاني و الثاني خلق الثالث، و بذلك تم الثالوث المقدس. 

  • و سأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكى أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ و هل يكون بعده أحد أعظم منه؟ فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم و هو الله قبل كل شي‌ء ثم الكلمة و معهما روح القدس، و لهذه الثلاثة طبيعة واحدة، و هم واحد بالذات و عنهم صدرت القوة الأبدية، فاذهب يا فاني يا صاحب الحياة القصيرة. 

  • و قال بونويك في كتابه «عقائد قدماء المصريين» أغرب كلمة عم انتشارها في ديانة المصريين هي قولهم بلاهوت الكلمة، و أن كل شي‌ء حصل بواسطتها، و أنها منبثقة من الله، و أنها هي الله، انتهى، و هذا عين العبارة التي يبتدي بها إنجيل يوحنا. 

  • و قال «هيجين» في كتاب «الإنكلوساكسون» كان الفرس يدعون متروسا الكلمة و الوسيط و مخلص الفرس. 

  • و نقل عن كتاب سكان أوروبة الأولين: أنه كان الوثنيون القدماء يقولون: إن الإله مثلث الأقانيم. 

  • و نقل عن اليونان و الرومان و الفنلنديين و الإسكندناويين قضية الثالوث السابق الذكر، و كذا القول بالكلمة عن الكلدانيين و الآشوريين و الفينيقيين. 

  • و قال دوان في كتابه «خرافات التوراة و ما يقابلها من الديانات الأخرى» ( ص ١٨١ ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص: 

  • «إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد جدا عند الهنود الوثنيين و غيرهم» و ذكر شواهد على ذلك: 

  • منها قوله: يعتقد الهنود أن كرشنا المولود البكر - الذي هو نفس الآلهة فشنو الذي لا ابتداء له و لا انتهاء على رأيهم - تحرك حنوا كي يخلص الأرض من ثقل حملها 

تفسير الميزان ج۳

321
  • فأتاها و خلص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه. 

  • و ذكر أن «مستر مور» قد صور كرشنا مصلوبا كما هو مصور في كتب الهنود مثقوب اليدين و الرجلين، و على قميصه صورة قلب الإنسان معلقا، و وجدت له صورة مصلوبا و على رأسه إكليل من الذهب، و النصارى تقول: إن يسوع صلب و على رأسه إكليل من الشوك. 

  • و قال «هوك» في ص ٣٢٦ من المجلد الأول من رحلته: و يعتقد الهنود الوثنيون بتجسد بعض الآلهة، و تقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة. 

  • و قال «موريفورليمس» في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) و يعتقد الهنود الوثنيون بالخطيئة الأصلية، و مما يدل على ذلك ما جاء في مناجاتهم و توسلاتهم التي يتوسلون بها بعد الكياتري و هو، إني مذنب و مرتكب الخطيئة، و طبيعتي شريرة، و حملتني أمي بالإثم فخلصني يا ذا العين الحندقوقية يا مخلص الخاطئين من الآثام و الذنوب. 

  • و قال القس «جورج كوكس» في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: و يصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتا لأنه قدم شخصه ذبيحة. 

  • و نقل «هيجين» عن «اندارادا الكروزوبوس» و هو أول أوروبي دخل بلاد التيبال و التبت: أنه قال في الإله «اندرا» الذي يعبدونه: أنه سفك دمه بالصلب و ثقب المسامير لكي يخلص البشر من ذنوبهم، و أن صورة الصلب موجودة في كتبهم. 

  • و في كتاب جورجيوس الراهب صورة الإله اندرا هذا مصلوبا، و هو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسي أقصرها - و فيه صورة وجهه - و السفلي أطولها، و لو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنها تمثل شخصا، هذا. 

  • و أما ما يروى عن البوذيين في بوذا فهو أكثر انطباقا على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتى أنهم يسمونه المسيح، و المولود الوحيد، و مخلص العالم، و يقولون إنه إنسان كامل و إله كامل تجسد بالناسوت، و أنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر و يخلصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، و يجعلهم وارثين لملكوت السماوات، 

تفسير الميزان ج۳

322
  • بين ذلك كثير من علماء الغرب: منهم بيل في كتابه، و هوك في رحلته، و موالر في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتية، و غيرهم‌۱

  • فهذه نبذة أو أنموذجة من عقيدة تلبس اللاهوت بالناسوت، و حديث الصلب و الفداء في الديانات القديمة التي كانت الأمم متمسكين بها منكبين عليها يوم شرعت الديانة النصرانية تنبسط على الأرض، و أخذت الدعوة المسيحية تأخذ بمجامع القلوب في المناطق التي جال الدعاة المسيحيون فيها، فهل هذا إلا أن الدعاة المسيحيين أخذوا أصول المسيحية و أفرغوها في قالب الوثنية و استمالوا بذلك قلوب الناس في تقبل دعوتهم و هضم تعليمهم؟

  • و يؤيد ذلك ما ترى في كلمات بولس و غيره من الطعن في حكمة الحكماء و فلسفتهم و الإزراء بطرق الاستدلالات العقلية، و أن الإله الرب يرجح بلاهة الأبله على عقل العاقل. 

  • و ليس ذلك إلا لأنهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقل و الاستدلال فرده أهله بأنه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة و الامتلاء بالروح المقدس فشاكلوا بذلك ما يصر به جهلة المتصوفة أن طريقتهم طور وراء طور العقل. 

  • ثم إن الدعاة منهم ترهبوا و جالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل و التواريخ) و بسطوا الدعوة المسيحية و استقبلتهم في ذلك العامة في شتات البلاد، كان من سر موفقيتهم و خاصة في إمبراطورية الروم هي الضغطة الروحية التي عمت البلاد من فشو الظلم و التعدي، و شمول أحكام الاسترقاق و الاستعباد، و البون البعيد في حيوة الطبقة الحاكمة و المحكومة و الآمرة و المأمورة و الفصل الشاسع بين عيشة الأغنياء و أهل الإتراف و الفقراء و المساكين و الأرقاء. 

  • و قد كانت الدعاة تدعو إلى المؤاخاة و المحابة و التساوي و المعاشرة الجميلة بين الناس، و رفض الدنيا و عيشتها الكدرة الفانية، و الإقبال على الحيوة الصافية السعيدة التي في ملكوت السماء، و لهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك 

    1. يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار الجزء السادس في تفسير سورة النساء و فى دوائر المعارف، و في كتاب العقائد الوثنية في الديائة النصرانية و غيرها. 

تفسير الميزان ج۳

323
  • و القياصرة كل العناية، و لا يقصدونهم بالأذى و السياسة و الطرد. 

  • فلم يزالوا يزيدون عددا من غير تظاهر و تنافس و ينمون قوة و شدة حتى حصل لهم جم غفير في إمبراطورية الروم و إفريقية و الهند و غيرها من البلاد، و لم يزالوا كلما بنوا كنيسة و فتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحدا من بيوت الأوثان أغلقوا بابه. 

  • و كانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنية في هدم أساسهم، و لا بملوك الوقت و حكامه في التعالي عن خضوعهم و في مخالفة أحكامهم و دساتيرهم، و ربما كان ذلك يؤديهم إلى الهلاك و القتل و الحبس و العذاب فكان لا تزال تقتل طائفة و تسجن أخرى و تشرد ثالثة. 

  • و كان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر كنستانتين» فآمن بالملة المسيحية و أعلن بها فأخذ التنصر بالرسمية و بنيت الكنائس في الروم و ما يتبع إمبراطوريته من الممالك، و ذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلادي. 

  • تمركزت النصرانية يومئذ في كنيسة الروم و أخذت تبعث القسيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس و الديرات و مدارس يدرسون بها التعليم الإنجيلي. 

  • و الذي يجب إلفات النظر إليه أنهم وضعوا البحث على أصول مسلمة إنجيلية فأخذوا التعاليم الإنجيلية كمسألة الأب و الابن و الروح، و مسألة الصلب و الفداء و غير ذلك أصولا مسلمة و بنوا البحث‌ و التنقير عليها. 

  • و هذا أول ما ورد على أبحاثهم الدينية من الوهن و الوهاء فإن استحكام البناء المبني و إن بلغ ما بلغ و استقامته لا يغني عن وهن الأساس المبني عليه شيئا، و ما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة و الصلب و الفداء أمر غير معقول. 

  • و قد اعترف عدة من باحثيهم في التثليث بأنه أمر غير معقول لكنهم اعتذروا عنه بأنه من المسائل الدينية التي يجب أن تقبل تعبدا فكم في الأديان من مسألة تعبدية تحيلها العقول. 

  • و هو من الظنون الفاسدة المتفرعة على أصلهم الفاسد، و كيف يتصور وقوع مسألة مستحيلة في دين حق؟ و نحن إنما نقبل الدين و نميز كونه دين حق بالعقل و كيف يمكن 

تفسير الميزان ج۳

324
  • عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقة على أمر يبطله العقل و يحيله؟ و هل هذا إلا تناقض صريح؟. 

  • نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، و السنة الطبيعية القائمة، و أما المحال الذاتي فلا البتة. 

  • و هذا الطريق المذكور من البحث هو الذي أوجب وقوع الخلاف و المشاجرة بين الباحثين المتفكرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانية و انكباب المحصلين على الأبحاث المذهبية في مدارس الروم و الإسكندرية و غيرهما. 

  • فكانت الكنيسة تزيد كل يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة و تهيئ مجمعا مشكلا عند ظهور كل قول حديث و بدعة جديدة من البطارقة و الأساقفة لإقناعهم بالمذهب العام و تكفيرهم و نفيهم و طردهم و قتلهم إذا لم يقنعوا. 

  • و أول مجمع عقدوه مجمع نيقيه‌ لما قال أريوس: إن أقنوم الابن غير مساو لأقنوم الأب، و إن القديم هو الله و المسيح مخلوق. 

  • اجتمعت البطارقة و المطارفة و الأساقفة في قسطنطينية بمحضر من القيصر كنستانتين و كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، و اتفقوا على هذه الكلمة نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شي‌ء، و صانع ما يرى و ما لا يرى، و بالابن الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، و ليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم و كل شي‌ء، الذي من أجلنا و من أجل خلاصنا نزل من السماء، و تجسد من روح القدس، و ولد من مريم البتول، و صلب أيام فيلاطوس، و دفن ثم قام في اليوم الثالث، و صعد إلى السماء، و جلس عن يمين أبيه، و هو مستعد للمجي‌ء تارة أخرى للقضاء بين الأموات و الأحياء، و نؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الذي يخرج من أبيه، و بمعمودية۱ واحدة لغفران الخطايا، و بجماعة واحدة قدسية 

    1. المراد بالمعمودية طهارة الباطن و قداسته.

تفسير الميزان ج۳

325
  • مسيحية - جاثليقية، و بقيام أبداننا۱ و الحيوة أبد الآبدين‌٢». 

  • هذا هو المجمع الأول و كم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبري عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطورية و اليعقوبية و الأليانية و اليليارسية و المقدانوسية و السباليوسية و النوئتوسية و البولسية و غيرها. 

  • و مع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها و لا تتوانى و لا تهن في دعوتها و تزيد كل يوم في قوتها و سيطرتها حتى وفقت لجلب سائر دول أوروبا إلى التنصر كفرنسا و الإنجليز و النمسا و البروس و الإسبانيا٦٢٠٠و البرتغال و البلجيك و هولندا و غيرهم إلا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاد سنة ٤٩٦. 

  • و لم تزل تتقدم و ترتقي الكنيسة من جانب و من جانب آخر كانت تهاجم الأمم الشمالية و العشائر البدوية على الروم و الحروب و الفتن تضعف سلطنة القياصرة؛ و آل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم و الأمم المتغلبة على إلقاء زمام أمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام أمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانية و الجسمانية لرئيس الكنيسة اليوم و هو البابا جريجوار و كان ذلك سنة ٥٩٠الميلادية. 

  • و صارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحي غير أن الروم لما كانت انشعبت إمبراطوريته إلى الروم الغربي الذي عاصمتها روما و الروم الشرقي الذي عاصمتها قسطنطينية كانت قياصرة الروم الشرقي يعدون أنفسهم رؤساء دينيين لمملكتهم من غير أن يتبعوا كنيسة روما و هذا مبدأ انشعاب المسيحية إلى الكاثوليك أتباع كنيسة روما و الأورثوذكس و هم غيرهم. 

  • و كان الأمر على ذلك حتى إذا فتحت قسطنطينية بيد آل عثمان و قتل القيصر بالي‌اولوكوس و هو آخر قياصرة الروم الشرقي و قسيس الكنيسة اليوم (قتل في 

    1.  أورد عليه أنه يستلزم القول بالمعاد الجسماني و النصارى تقول بالمعاد الروحاني كما يدل عليه الإنجيل. 
      و أظن أن الإنجيل إنما يدل على عدم وجود اللذائذ الجسمانية الدنيوية في القيامة، و أما كون الإنسان روحا مجردا من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدل على أن الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم و ظاهر العهدين أن الله سبحانه و ملائكته جميعا أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.
    2. الملل و النحل للشهرستاني 

تفسير الميزان ج۳

326
  • كنيسة «أياصوفيا».) 

  • [انشعاب الكنائس‌] 

  • و ادعى وراثة هذا المنصب الديني أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببية كانت بينهم و بين قياصرة الروم و كانت الروس تنصرت في القرن العاشر الميلاد فصارت ملوك روسيا قسيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة روما و كان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلادية. 

  • و بقي الأمر على هذا الحال نحوا من خمسة قرون حتى قتل تزار نيكولا و هو آخر قياصرة الروسيا قتل هو و جميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلادية بيد الشيوعيين فعادت كنيسة روما تقريبا إلى حالها قبل الانشعاب. 

  • لكن الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤساؤها السلطة على جميع جهات حيوة الناس في القرون الوسطى التي كانت الكنيسة فيها في أوج‌ ارتقائها و ارتفاعها ثار عليها جماهير من المتدينين تخلصا من القيود التي كانت تحملها عليهم الكنيسة. 

  • فخرجت طائفة عن تبعية أحكام رؤساء الكنيسة و الباباوات و طاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيلي على ما يفهمه مجامعهم و يقرره اتفاق علمائهم و قسيسهم و هؤلاء هم الأورثوذكس. 

  • و طائفة خرجت عن متابعة كنيسة روما أصلا فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيلي لكنيسة روما و لا معتنين للأوامر الصادرة منها و هؤلاء هم البروتستانت. 

  • فانشعب العالم المسيحي اليوم إلى ثلاث فرق الكاثوليك و هي التابعة لكنيسة روما و تعليمها و الأورثوذكس و هي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها و قد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة و خاصة بعد انتقال كنيسة قسطنطينية إلى مسكو بروسيا (كما تقدم) و البروتستانت و هي الخارجة عن تبعية الكنيسة و تعليمها جميعا و قد استقلت طريقتهم و تظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاد. 

  • هذا إجمال ما جرى عليه أمر الدعوة المسيحية في زمان يقرب من عشرين قرنا و البصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أن القصد من ذكر جمل تاريخهم:

  • أولا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحولات التاريخية في مذهبهم و المعاني التي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينية بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج 

تفسير الميزان ج۳

327
  • أو الألف و العادة من عقائد الوثنية و الأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم. 

  • و ثانيا: أن اقتدار الكنيسة و خاصة كنيسة روما بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلادية إلى نهاية أوجه حتى كانت لهم سيطرة الدين و الدنيا و انقادت لهم كراسي الملك بأوربا فكان لهم عزل من شاءوا و نصب من شاءوا۱

  • يروى أن البابا مرة أمر إمبراطور ألمانيا أن يقف ثلاثة أيام حافيا على باب قصره في فصل الشتاء لزلة صدرت منه يريد أن يغفرها له‌٢

  • و رفس البابا مرة تاج الملك برجله حيث جاءه جاثيا يطلب المغفرة٣

  • و قد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفا لم يدعهم إلا أن يروا دين الإسلام دين الوثنية يستفاد ذلك من الشعارات و الأشعار التي نظموها في استنهاض النصارى و تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبية التي نشبت بينهم و بين المسلمين سنين متطاولة. 

  • فإنهم كانوا٤ يرون أن المسلمين يعبدون الأصنام و أن لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب ماهوم و يسمى بافوميد و ماهومند و هو أول الآلهة و هو محمد و بعده ايلين و هو الثاني و بعده ترفاجان و هو الثالث و ربما يظهر من بعض كلماتهم أن للمسلمين إلهين آخرين و هما مارتوان وجوبين و لكنهما بعد الثلاثة المتقدمة رتبة و كانوا يقولون إن محمدا بنى دعوته على دعوى الألوهية و ربما قالوا إنه كان اتخذ لنفسه صنما من ذهب. 

  • و في أشعار ريشار التي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: «قوموا و قلبوا ماهومند و ترفاجان و ألقوهما في النار تقربا من إلهكم». 

  • و في أشعار رولان في وصف «ماهوم» إله المسلمين: «أنه مصنوع تاما من الذهب و الفضة و لو رأيته أيقنت أنه لا يمكن لصانع أن يصور في خياله أجمل منه ثم 

    1. الفتوحات الاسلامية.
    2. المدرك السابق.
    3. المدرك السابق.
    4. هذا و ما بعده الى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري در كالستري) الديائة الإسلامية، الفصل الأول منه.

تفسير الميزان ج۳

328
  • يصنعه عظيمة جثته جيدة صنعته و في سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب و الفضة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر، و قد أقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات و أجودها، بطنه خال، و ربما أحس الناظر من بطنه ضوءا هو مرصعة بالأحجار الثمينة المتلألئة، يرى باطنه من ظاهره، و لا يوجد له في جودة الصنعة نظير. 

  • و لما كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدة، و قد انهزم المسلمون في بعض حروبهم، بعث قائد القوم واحدا في طلب إلههم الذي كان بمكة يعني محمدا (صلی الله عليه و آله)، يروي بعض من شاهد الواقعة أن الإله (يعني محمدا) جاءهم و قد أحاط به جم غفير من أتباعه و هم يضربون الطبول و العيدان و المزامير و البوقات المعمولة من فضة و يتغنون و يرقصون حتى أتوا به إلى المعسكر بسرور و ترح و مرح، و قد كان خليفته منتظرا لقدومه فلما رآه قام على ساقه و اشتغل بعبادته بخضوع و خشوع. 

  • و يذكر «ريشار» أيضا في وصف وحي الإله (ماهوم) الذي سمعت وصفه فيقول: «إن السحرة سخروا واحدا من الجن و جعلوه في بطن ذلك الصنم، و كان ذلك الجني يرعد و يعربد أولا ثم يأخذ في تكليم المسلمين و هم ينصتون له». 

  • و أمثال هذه الطرف توجد كثيرا في بطن ذلك الصنم و كان ذلك الجني يرعد و يعربد أولا ثم يأخذ في كتبهم المؤلفة في سني الحروب الصليبية أو المتعرضة لشئونها و إن كان ربما أبهتت القارئ و أدهشته تعجبا و حيرة، و كاد أن لا يصدق صحة النقل حين يحدث له أمور لم يشاهدها مسلم في يقظة و لا رآها في نومة أو نعسة. 

  • و ثالثا: أن يتحقق الباحث المتدبر كيفية طرق التطور على الدعوة المسيحية في مسيرها خلال القرون الماضية حتى اليوم، فإن العقائد الوثنية وردت فيها بخفي دبيبها أولا بالغلو في حق المسيح (عليه السلام) ثم تمكنت فأفرغت الدعوة في قالب التثليث: الأب و الابن و الروح، و القول بالصلب و الفداء، و استلزم ذلك القول برفض العمل و الاكتفاء بالاعتقاد. 

  • و كان ذلك أولا في صورة الدين و كان يعقد أزمتهم بالكنيسة بإتيان أشياء من صوم و صلاة و تعميد لكن لم يزل الإلحاد ينمو جسمه و يقوى روحه و يبرز الانشعابات حتى ظهرت البروتستانت، و قامت القوانين الرسمية مقام الهرج و المرج في السياسات مدونة على أساس الحرية في ما وراء القانون (الأحكام العملية المضمونة الإجراء) فلم يزل 

تفسير الميزان ج۳

329
  • التعليم الديني يضعف أثرا و يخيب سعيا حتى انثلمت تدريجا أركان الأخلاق و الفضائل الإنسانية عقيب شيوع المادية التي استتبعتها الحرية التامة. 

  • و ظهرت الشيوعية و الاشتراك بالبناء على فلسفة ماترياليسم ديالكتيك و رفض القول باللاهوت و الأخلاق الفاضلة الثابتة و الأعمال الدينية فانهدمت الإنسانية المعنوية، و ورثتها الحيوانية المادية مؤلفة من سبعية و بهيمية، و انتهضت الدنيا تسير إليها سيرا حثيثا. 

  • و أما النهضات الدينية التي عمت الدنيا أخيرا فليست إلا ملاعب سياسية يلعب بها رجال السياسة للتوسل بها إلى غاياتهم و أمانيهم فالسياسة الفنية اليوم تدق‌ كل باب و تدب كل جحر و ثقب. 

  • ذكر الدكتور «جوزف شيتلر» أستاذ العلوم الدينية في كلية لوتران في شيكاغو: «أن النهضة الدينية الجديدة في أمريكا ليست إلا تطبيق الدين على المجموعة من شئون الحيوة في المدنية الحديثة، و تثبيت أن المدنية الحاضرة لا تضاد الدين. 

  • و أن فيه خطر أن يعتقد عامة الناس أنهم متدينون بالدين الحق بما في أيديهم من نتائج المدنية الحاضرة حتى يستغنوا عن الالتحاق إلى النهضة الحقيقية الدينية لو ظهرت يوما بينهم فلا يلتفتوا إليها.»۱ 

  • و ذكر الدكتور جرج فلوروفسكى أكبر مدافع أرثوذكس روسيا بإمريكا أن التعليمات الدينية بإمريكا ليست إلا سلوة كاذبة للقلوب لأنها لو كانت نهضة حية حقيقية دينية لكان من الواجب أن تتكئ على تعليمات عميقة واقعية٢

  • فانظر من أين خرج وفد الدين و في أين نزل. بدأت الدعوة باسم إحياء الدين (العقيدة) و الأخلاق (الملكات الحسنة) و الشريعة (الأعمال) و اختتمت بإلغاء الجميع و وضع التمتع الحيواني موضعها. 

  • و ليس ذلك كله إلا تطور الانحراف الأولى الواقع من بولس المدعو بالقديس، 

    1. المجلة الإمريكية لايف» الجزء المؤرخ ٦ فورية ١٩٥٦.
    2. كسابقه.

تفسير الميزان ج۳

330
  • بولس الحواري و أعضاده فلو أنهم سموا هذه المدنية الحاضرة التي تعترف الدنيا بأنها تهدد الإنسانية بالفناء مدنية بولسية» كان أحق بالتصديق من قولهم: إن المسيح هو قائد الحضارة و المدنية الحاضرة و حامل لوائها. 

  • (بحث روائي)

  • في تفسير القمي:في قوله تعالى: {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتاب} (الآية) إن عيسى‌ لم يقل للناس: إني خلقتكم فكونوا عبادا لي من دون الله، و لكن قال لهم: {كُونُوا ربّانِيِّين} أي علماء.

  • أقول: و قد مر في البيان السابق ما يؤيده من القرائن، و قوله: لم يقل للناس: إني خلقتكم، بمنزلة الاحتجاج على عدم قوله ذلك أي لو كان قال لهم ذلك لوجب أن يخبرهم بأنه خلقهم و لم يخبر و لم يفعل.

  • و فيه أيضا :في قوله تعالى: {و لا يأْمُركُمْ أنْ تتّخِذُوا الْملائِكة و النّبِيِّين أرْباباً} (الآية) قال: كان قوم يعبدون الملائكة، و قوم من النصارى زعموا أن عيسى رب، و اليهود قالوا: {عُزيْرٌ اِبْنُ اللّهِ} فقال الله{و لا يأْمُركُمْ أنْ تتّخِذُوا الْملائِكة و النّبِيِّين أرْباباً}.

  • أقول: و قد تقدم بيانه.

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود، و النصارى من أهل نجران عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و دعاهم إلى الإسلام: أ تريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني، يقال له الرئيس: أ و ذاك تريد منا يا محمد؟ 

  • فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني و لا بذلك أمرني، فأنزل الله من قولهما: {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتاب} إلى قوله {: بعْد إِذْ أنْتُمْ مُسْلِمُون}.

  • و فيه أيضا و أخرج عبد بن حميد عن الحسن، قال: بلغني أن رجلا قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أ فلا نسجد لك؟ قال: لا و لكن أكرموا 

تفسير الميزان ج۳

331
  • نبيكم و اعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فأنزل الله: {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتاب} إلى قوله {بعْد إِذْ أنْتُمْ مُسْلِمُون}

  • أقول: و قد روي في سبب النزول غير هذين السببين و الظاهر أن ذلك من الاستنباط النظري و قد تقدم تفصيل الكلام في ذلك و من الممكن أن تجتمع عدة أسباب في نزول آية؛ و الله أعلم.‌ 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٨١ الی ٨٥ ] 

  • {و إِذْ أخذ اللّهُ مِيثاق النّبِيِّين لما آتيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ و حِكْمةٍ ثُمّ جاءكُمْ رسُولٌ مُصدِّقٌ لِما معكُمْ لتُؤْمِنُنّ بِهِ و لتنْصُرُنّهُ قال أ أقْررْتُمْ و أخذْتُمْ على‌ ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أقْررْنا قال فاشْهدُوا و أنا معكُمْ مِن الشّاهِدِين ٨١ فمنْ تولّى بعْد ذلِك فأُولئِك هُمُ الْفاسِقُون ٨٢ أ فغيْر دِينِ اللّهِ يبْغُون و لهُ أسْلم منْ فِي السّماواتِ و الْأرْضِ طوْعاً و كرْهاً و إِليْهِ يُرْجعُون ٨٣ قُلْ آمنّا بِاللّهِ و ما أُنْزِل عليْنا و ما أُنْزِل على‌ إِبْراهِيم و إِسْماعِيل و إِسْحاق و يعْقُوب و الْأسْباطِ و ما أُوتِي مُوسى‌ و عِيسى‌ و النّبِيُّون مِنْ ربِّهِمْ لا نُفرِّقُ بيْن أحدٍ مِنْهُمْ و نحْنُ لهُ مُسْلِمُون ٨٤ و منْ يبْتغِ غيْر الْإِسْلامِ دِيناً فلنْ يُقْبل مِنْهُ و هُو فِي الْآخِرةِ مِن الْخاسِرِين ٨٥}

  • (بيان) 

  • الآيات غير خالية عن الارتباط بما قبلها و السياق سياق واحد مستمر جار على وحدته و كأنه تعالى لما بين أن أهل الكتاب لم يزالوا يبغون فيما حملوه من علم الكتاب 

تفسير الميزان ج۳

332
  • و الدين يحرفون الكلم عن مواضعه، و يستغشون بتلبيس الأمر على الناس و التفرقة بين النبيين و إنكار آيات نبوة رسول الله ص، و نفي أن يكون نبي من الأنبياء كموسى و عيسى (عليه السلام)يأمرهم باتخاذ نفسه أو غيره من النبيين و الملائكة أربابا على ما هو صريح قول النصارى، و ظاهر قول اليهود. 

  • شدد النكير عليهم في ذلك بأنه كيف يتأتى ذلك و قد أخذ الله الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بكل نبي يأتيهم ممن تقدمهم أو تأخر عنهم و ينصروه، و ذلك بتصديق كل منهم لمن تقدم عليه من الأنبياء، و تبشيره بمن تأخر عنه كتصديق عيسى (عليه السلام)لموسى و شريعته، و تبشيره بمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و كذا أخذه تعالى الميثاق منهم أن يأخذوا العهد على ذلك من أممهم و أشهدهم عليهم، و بين أن هذا هو الإسلام الذي شمل حكمه من في السماوات و الأرض. 

  • ثم أمر نبيه أن يجري على هذا الميثاق جري قبول و طاعة فيؤمن بالله و بجميع ما أنزله على أنبيائه من غير تفرقة بينهم، و أن يسلم لله سبحانه، و أن يأتي بذلك عن نفسه و عن أمته، و هو معنى أخذ الميثاق منه بلا واسطة و من أمته بواسطته كما سيجي‌ء بيانه. 

  • قوله تعالى: {و إِذْ أخذ اللّهُ مِيثاق النّبِيِّين لما آتيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ و حِكْمةٍ ثُمّ جاءكُمْ رسُولٌ مُصدِّقٌ لِما معكُمْ لتُؤْمِنُنّ بِهِ و لتنْصُرُنّهُ}، الآية تنبئ عن ميثاق مأخوذ، و قد أخذ الله هذا الميثاق للنبيين كما يدل عليه قوله تعالى: {ثُمّ جاءكُمْ رسُولٌ} إلخ كما أنه تعالى أخذه من النبيين على ما يدل عليه قوله: {أ أقْررْتُمْ و أخذْتُمْ على‌ ذلِكُمْ إِصْرِي} إلخ، و قوله بعد: {قُلْ آمنّا بِاللّهِ} إلى آخر الآية فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيين و مأخوذ منهم و إن كان مأخوذا من غيرهم أيضا بواسطتهم. 

  • و على هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى: {مِيثاق النّبِيِّين} الميثاق المأخوذ منهم أو المأخوذ لهم و الميثاق واحد، و بعبارة أخرى يجوز أن يراد بالنبيين، المأخوذ لهم الميثاق و المأخوذ منهم الميثاق إلا أن سياق قوله تعالى: {ما كان لِبشرٍ أنْ يُؤْتِيهُ اللّهُ} إلى آخر الآيتين في اتصاله بهذه الآية يؤيد كون المراد بالنبيين هم الذين أخذ منهم الميثاق فإن وحدة السياق تعطي أن المراد: أن النبيين بعد ما آتاهم الله الكتاب و الحكم و النبوة لا يتأتى لهم أن يدعوا إلى الشريك و كيف يتأتى لهم ذلك؟ و قد أخذ منهم الميثاق 

تفسير الميزان ج۳

333
  • على الإيمان و النصرة لغيرهم من النبيين الذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه، فالأنسب أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيين. 

  • و قوله: {لما آتيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ و حِكْمةٍ} القراءة المشهورة، و هي قراءة غير حمزة بفتح اللام و التخفيف في {لما} و عليها فما موصولة و آتيتكم، و قرأ آتيناكم صلته، و الضمير محذوف، يدل عليه قوله: {مِنْ كِتابٍ و حِكْمةٍ}، و الموصول مبتدأ خبره قوله: {لتُؤْمِنُنّ بِهِ} إلخ و اللام في لما ابتدائية، و في لتؤمنن به لام القسم، و المجموع بيان للميثاق المأخوذ، و المعنى: للذي آتيتكموه من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم آمنتم به و نصرتموه البتة. 

  • و يمكن أن يكون ما شرطية و جزاؤها قوله لتؤمنن به، و المعنى مهما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه، و هذا أحسن لأن دخول اللام المحذوف قسمها في الجزاء أشهر، و المعنى عليه أسلس و أوضح، و الشرط في موارد المواثيق أعرف، و أما قراءة كسر اللام في لما فاللام فيها للتعليل و ما موصولة، و الترجيح لقراءة الفتح. 

  • و الخطاب في قوله: {آتيْتُكُمْ}، و قوله: {جاءكُمْ}، و إن كان بحسب النظر البدوي للنبيين لكن قوله بعد: {أ أقْررْتُمْ و أخذْتُمْ على‌ ذلِكُمْ إِصْرِي}، قرينة على أن الخطاب للنبيين و أممهم جميعا أي أن الخطاب مختص بهم و حكمه شامل لهم و لأممهم جميعا فعلى الأمم أن يؤمنوا و ينصروا كما على النبيين أن يؤمنوا و ينصروا. 

  • و ظاهر قوله: {ثُمّ جاءكُمْ رسُولٌ مُصدِّقٌ لِما معكُمْ}، التراخي الزماني‌ أي إن على النبي السابق أن يؤمن و ينصر النبي اللاحق، و أما ما يظهر من قوله: {قُلْ آمنّا بِاللّهِ} إلخ أن الميثاق مأخوذ من كل من السابق و اللاحق للآخر، و أن على اللاحق أن يؤمن و ينصر السابق كالعكس فإنما هو أمر يشعر به فحوى الخطاب دون لفظ الآية كما سيجي‌ء إن شاء الله العزيز. 

  • و قوله: {لتُؤْمِنُنّ بِهِ و لتنْصُرُنّهُ}، الضمير الأول و إن كان من الجائز أن يرجع إلى الرسول كالضمير الثاني إذ لا ضير في إيمان نبي لنبي آخر، قال تعالى: {آمن الرّسُولُ بِما أُنْزِل إِليْهِ مِنْ ربِّهِ و الْمُؤْمِنُون كُلٌّ آمن بِاللّهِ و ملائِكتِهِ و كُتُبِهِ و رُسُلِهِ} (الآية) البقرة - ٢٨٥، 

تفسير الميزان ج۳

334
  • لكن الظاهر من قوله: {قُلْ آمنّا بِاللّهِ و ما أُنْزِل عليْنا و ما أُنْزِل على‌ إِبْراهِيم} إلخ، رجوعه إلى ما أوتوا من كتاب و حكمة، و رجوع الضمير الثاني إلى الرسول، و المعنى لتؤمنن بما آتيتكم من كتاب و حكمة و لتنصرن الرسول الذي جاءكم مصدقا لما معكم. 

  • قوله تعالى: {قال أ أقْررْتُمْ و أخذْتُمْ على‌ ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أقْررْنا}، الاستفهام للتقرير، و الإقرار معروف، و الإصر هو العهد، و هو مفعول أخذتم، و أخذ العهد يستلزم مأخوذا منه غير الأخذ و ليس إلا أمم الأنبياء، فالمعنى أ أقررتم أنتم بالميثاق، و أخذتم على ذلكم عهدي من أممكم قالوا: أقررنا. 

  • و قيل: المراد بأخذ العهد قبول الأنبياء ذلك لأنفسهم فيكون قوله: {و أخذْتُمْ على‌ ذلِكُمْ إِصْرِي} عطف بيان لقوله {أقْررْتُمْ}، و يؤيده قوله: {قالُوا أقْررْنا} من غير أن يذكر الأخذ في الجواب، و على هذا يكون الميثاق‌لا يتعدى الأنبياء إلى غيرهم من الأمم و يبعده قوله: {قال فاشْهدُوا}، لظهور الشهادة في أنها على الغير، و كذا قوله بعد: {قُلْ آمنّا بِاللّهِ} إلخ من غير أن يقول: قل آمنت فإن ظاهره أنه إيمان من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من قبل نفسه و أمته إلا أن يقال: إن اشتراك الأمم مع الأنبياء إنما يستفاد من هاتين الجملتين: أعني قوله: {فاشْهدُوا}، و قوله: {قُلْ آمنّا بِاللّهِ}، من غير أن يفيد قوله: {و أخذْتُمْ}، في ذلك شيئا. 

  • قوله تعالى: {قال فاشْهدُوا و أنا معكُمْ مِن الشّاهِدِين}، ظاهر الشهادة كما مر أن يكون على الغير فهي شهادة من الأنبياء و أممهم جميعا، و يشهد لذلك كما مر قوله: {قُلْ آمنّا بِاللّهِ}، و يشهد لذلك السياق أيضا، فإن الآيات مسوقة للاحتجاج على أهل الكتاب في تركهم إجابة دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كما أنها تحتج عليهم في ما نسبوه إلى عيسى و موسى (عليه السلام)و غيرهما كما يدل عليه قوله تعالى: {أ فغيْر دِينِ اللّهِ يبْغُون}، و غيره. 

  • و ربما يقال: إن المراد بقوله: {فاشْهدُوا}، شهادة بعض الأنبياء على بعض كما ربما يقال: إن المخاطبين بقوله: {فاشْهدُوا}، هم الملائكة دون الأنبياء. 

  • و المعنيان و إن كانا جائزين في نفسهما غير أن اللفظ غير ظاهر في شي‌ء منهما بغير قرينة، و قد عرفت أن القرينة على الخلاف. 

  • و من اللطائف الواقعة في الآية أن الميثاق مأخوذ من النبيين للرسل على ما يعطيه 

تفسير الميزان ج۳

335
  • قوله: {و إِذْ أخذ اللّهُ مِيثاق النّبِيِّين} إلى قوله: {ثُمّ جاءكُمْ رسُولٌ}، و قد مر في ذيل قوله تعالى: {كان النّاسُ أُمّةً واحِدةً} (الآية) البقرة - ٢١٣، الفرق بين النبوة و الرسالة و أن الرسول أخص مصداقا من النبي. 

  • فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذا من مقام النبوة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس. 

  • و بذلك يمكن المناقشة فيما ذكر بعضهم أن المحصل من معنى الآية أن الميثاق مأخوذ من عامة النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، و يأمر بعضهم بالإيمان ببعض، أي إن الدين واحد يدعو إليه جميع الأنبياء، و هو ظاهر. 

  • فمحصل معنى الآية على ما مر: أن الله أخذ الميثاق من الأنبياء و أممهم أن لو آتاهم الله الكتاب و الحكمة و جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن بما آتاهم و ينصرن الرسول و ذلك من الأنبياء تصديق من المتأخر للمتقدم و المعاصر، و بشارة من المتقدم بالمتأخر و توصية الأمة، و من الأمة الإيمان و التصديق و النصرة، و لازم ذلك وحدة الدين الإلهي. 

  • و ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالآية أن الله أخذ الميثاق من النبيين أن يصدقوا محمدا ص، و يبشروا أممهم بمبعثه، فهو و إن كان صحيحا إلا أنه أمر يدل عليه سياق الآيات كما مرت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب و لومهم و عتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم و كتمان آيات النبوة و العناد و العتو مع صريح الحق. 

  • قوله تعالى: {فمنْ تولّى بعْد ذلِك} إلخ تأكيد للميثاق المأخوذ المذكور، و المعنى واضح. 

  • قوله تعالى: {أ فغيْر دِينِ اللّهِ يبْغُون و لهُ أسْلم}، تفريع على الآية السابقة المتضمنة لأخذ ميثاق النبيين، و المعنى فإذا كان دين الله واحدا و هو الذي أخذ عليه الميثاق من عامة النبيين و أممهم‌ و كان على المتقدم من الأنبياء و الأمم أن يبشروا بالرسول المتأخر و يؤمنوا بما عنده و يصدقوه فما ذا يقصده هؤلاء معاشر أهل الكتاب و قد كفروا بك و ظاهر حالهم أنهم يبغون الدين فهل يبغون غير الإسلام الذي هو دين الله الوحيد؟ 

تفسير الميزان ج۳

336
  • و لذلك لا يصدقونك و لا يتمسكون بدين الإسلام مع أنه كان يجب عليهم الاعتصام بالإسلام لأنه الدين الذي يبتني على الفطرة، و كذلك يجب أن يكون الدين، و الدليل عليه أن من في السماوات و الأرض من أولي العقل و الشعور مسلمون لله في مقام التكوين فيجب أن يسلموا عليه في مقام التشريع. 

  • قوله تعالى: {و لهُ أسْلم منْ فِي السّماواتِ و الْأرْضِ طوْعاً و كرْهاً}، هذا الإسلام الذي يعم من في السماوات و الأرض و منهم أهل الكتاب الذين يذكر أنهم غير مسلمين، و لفظ أسلم صيغة ماض ظاهره المضي و التحقق لا محالة و هو التسليم التكويني لأمر الله دون الإسلام بمعنى الخضوع العبودي، و يؤيده أو يدل عليه قوله {طوْعاً و كرْهاً}

  • و على هذا فقوله: {و لهُ أسْلم}، من قبيل الاكتفاء بذكر الدليل و السبب عن ذكر المدلول و المسبب، و تقدير الكلام: أ فغير الإسلام يبغون؟ و هو دين الله لأن من في السماوات و الأرض مسلمون له منقادون لأمره، فإن رضوا به كان انقيادهم طوعا من أنفسهم، و إن كرهوا ما شاءه و أرادوا غيره كان الأمر أمره و جرى عليهم كرها من غير طوع. 

  • و من هنا يظهر أن الواو في قوله: {طوْعاً و كرْهاً}، للتقسيم، و أن المراد بالطوع و الكره رضاهم بما أراد الله فيهم مما يحبونه، و كراهتهم لما أراده فيهم مما لا يحبونه كالموت و الفقر و المرض و نحوها. 

  • قوله تعالى: {و إِليْهِ يُرْجعُون} هذا سبب آخر لوجوب ابتغاء الإسلام دينا فإن مرجعهم إلى الله مولاهم الحق لا إلى ما يهديهم إليه كفرهم و شركهم. 

  • قوله تعالى: {قُلْ آمنّا بِاللّهِ و ما أُنْزِل عليْنا}، أمر النبي أن يجري على الميثاق الذي أخذ منه و من غيره فيقول عن نفسه و عن المؤمنين من أمته: {آمنّا بِاللّهِ و ما أُنْزِل عليْنا}إلخ. 

  • و هذا من الشواهد على أن الميثاق مأخوذ من الأنبياء و أممهم جميعا كما مرت الإشارة إليه آنفا. 

  • قوله تعالى: {و ما أُنْزِل على‌ إِبْراهِيم و إِسْماعِيل} إلى آخر الآية، هؤلاء المذكورون بأسمائهم هم الأنبياء من آل إبراهيم، و لا تخلو الآية من إشعار بأن المراد بالأسباط 

تفسير الميزان ج۳

337
  • هم الأنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل كداود و سليمان و يونس و أيوب و غيرهم. 

  • و قوله: {و النّبِيُّون مِنْ ربِّهِمْ}، تعميم للكلام ليشمل آدم و نوحا و من دونهما، ثم جمع الجميع بقوله: {لا نُفرِّقُ بيْن أحدٍ مِنْهُمْ و نحْنُ لهُ مُسْلِمُون}

  • قوله تعالى: {و منْ يبْتغِ غيْر الْإِسْلامِ دِيناً فلنْ يُقْبل مِنْهُ} إلخ نفي لغير مورد الإثبات من الميثاق المأخوذ، و فيه تأكيد لوجوب الجري على الميثاق. 

  • (بحث روائي)

  • في المجمع، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أن الله أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبينا أن يخبروا أممهم بمبعثه و نعته، و يبشروهم به و يأمروهم بتصديقه.

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: لم يبعث الله نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث و هو حي ليؤمنن به و لينصرنه، و يأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا: {و إِذْ أخذ اللّهُ مِيثاق النّبِيِّين لما آتيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ و حِكْمةٍ} الآية. 

  • أقول: و الروايتان تفسران الآية بمجموع ما يدل عليه اللفظ و السياق كما مر.

  • و في المجمع، و الجوامع، عن الصادق (عليه السلام): في الآية معناه و إذ أخذ الله ميثاق أمم النبيين كل أمة بتصديق نبيها، و العمل بما جاءهم به فما وفوا به و تركوا كثيرا من شرائعهم و حرفوا كثيرا.

  • أقول: و ما ذكر في الرواية من قبيل ذكر المصداق المنطبقة عليه الآية فلا ينافي شمول المراد بالآية الأنبياء و أممهم جميعا.

  • و في المجمع، أيضا عن أمير المؤمنين (عليه السلام): في قوله تعالى: {أ أقْررْتُمْ و أخذْتُمْ} (الآية) قال: أ أقررتم و أخذتم العهد بذلك على أممكم، قالوا أي قال الأنبياء و أممهم: أقررنا بما أمرتنا 

تفسير الميزان ج۳

338
  • بالإقرار به قال الله: فاشهدوا بذلك على أممكم، و أنا معكم من الشاهدين عليكم و على أممكم.

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب: في قوله {قال فاشْهدُوا} يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك، و أنا معكم من الشاهدين عليكم و عليهم فمن تولى عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم فأولئك هم الفاسقون، هم العاصون في الكفر. 

  • أقول: و قد مر توجيه معنى الرواية.

  • و في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام): قال لهم في الذر: {أ أقْررْتُمْ و أخذْتُمْ على‌ ذلِكُمْ إِصْرِي} أي عهدي {قالُوا أقْررْنا} قال الله للملائكة {فاشْهدُوا}

  • أقول: لفظ الآية لا يأباه و إن كان لا يستفاد من ظاهره كما تقدم.

  • و في الدر المنثور: في قوله تعالى: {و منْ يبْتغِ غيْر الْإِسْلامِ دِيناً} الآية- أخرج أحمد و الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): تجي‌ء الأعمال يوم القيامة فتجي‌ء الصلوة فتقول: يا رب أنا الصلوة فيقول: إنك على خير، و تجي‌ء الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول: إنك على خير، ثم يجي‌ء الصيام فيقول: أنا الصيام فيقول: إنك على خير، ثم تجي‌ء الأعمال كل ذلك يقول الله: إنك على خير، بك اليوم آخذ، و بك أعطي. قال الله في كتابه{و منْ يبْتغِ غيْر الْإِسْلامِ دِيناً فلنْ يُقْبل مِنْهُ و هُو فِي الْآخِرةِ مِن الْخاسِرِين} 

  • و في التوحيد، و تفسير العياشي: في الآية عن الصادق (عليه السلام): هو توحيدهم لله عز و جل.

  • أقول: التوحيد المذكور يلازم التسليم في جميع ما يريده الله تعالى من عباده فيرجع إلى المعنى الذي قدمناه في البيان. 

  • و لو أريد به مجرد نفي الشريك كان الطوع و الكره هما الدلالة الاختيارية و الاضطرارية. 

  • و اعلم: أن هاهنا عدة روايات أخر رواها العياشي و القمي في تفسيريهما، و غيرهما 

تفسير الميزان ج۳

339
  • في معنى قوله: {و إِذْ أخذ اللّهُ مِيثاق النّبِيِّين} الآية، و فيها لتؤمنن برسول الله، و لتنصرن أمير المؤمنين (عليه السلام)، و ظاهرها تفسير الآية بإرجاع ضمير لتؤمنن به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و ضمير و لتنصرنه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)من غير دليل يدل عليه من اللفظ. 

  • لكن في‌ ما رواه العياشي ما رواه عن سلام بن المستنير عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: لقد تسموا باسم ما سمى الله به أحدا إلا علي بن أبي طالب و ما جاء تأويله. قلت: جعلت فداك متى يجي‌ء تأويله؟ قال: إذا جاء جمع الله أمامه النبيين و المؤمنين حتى ينصروه و هو قول الله: {و إِذْ أخذ اللّهُ مِيثاق النّبِيِّين لما آتيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ و حِكْمةٍ} إلى قوله {و أنا معكُمْ مِن الشّاهِدِين}

  • و بذلك يهون أمر الإشكال فإنه إنما يرد لو كانت الروايات واردة مورد التفسير و أما التأويل فقد عرفت أنه ليس من قبيل المعنى، و لا مرتبطا باللفظ في ما تقدم من تفسير قوله: {هُو الّذِي أنْزل عليْك الْكِتاب} (الآية) آل عمران - ٧. 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٨٦ الی ٩١ ] 

  • {كيْف يهْدِي اللّهُ قوْماً كفرُوا بعْد إِيمانِهِمْ و شهِدُوا أنّ الرّسُول حقٌّ و جاءهُمُ الْبيِّناتُ و اللّهُ لا يهْدِي الْقوْم الظّالِمِين ٨٦ أُولئِك جزاؤُهُمْ أنّ عليْهِمْ لعْنة اللّهِ و الْملائِكةِ و النّاسِ أجْمعِين ٨٧ خالِدِين فِيها لا يُخفّفُ عنْهُمُ الْعذابُ و لا هُمْ يُنْظرُون ٨٨ إِلاّ الّذِين تابُوا مِنْ بعْدِ ذلِك و أصْلحُوا فإِنّ اللّه غفُورٌ رحِيمٌ ٨٩ إِنّ الّذِين كفرُوا بعْد إِيمانِهِمْ ثُمّ اِزْدادُوا كُفْراً لنْ تُقْبل توْبتُهُمْ و أُولئِك هُمُ الضّالُّون ٩٠إِنّ الّذِين كفرُوا و ماتُوا و هُمْ كُفّارٌ فلنْ يُقْبل مِنْ

تفسير الميزان ج۳

340
  • أحدِهِمْ مِلْ‌ءُ الْأرْضِ ذهباً و لوِ اِفْتدى‌ بِهِ أُولئِك لهُمْ عذابٌ ألِيمٌ و ما لهُمْ مِنْ ناصِرِين ٩١} 

  • (بيان) 

  • الآيات ممكنة الارتباط بما تقدمها من الكلام على أهل الكتاب و إن كان يمكن أن تستقل بنفسها و تنفصل عما تقدمها، و هو ظاهر. 

  • قوله تعالى: {كيْف يهْدِي اللّهُ قوْماً كفرُوا بعْد إِيمانِهِمْ}، الاستفهام يفيد الاستبعاد و الإنكار، و المراد به استحالة الهداية، و قد ختم الآية بقوله: {و اللّهُ لا يهْدِي الْقوْم الظّالِمِين}، و قد مر في نظير هذه الجملة أن الوصف مشعر بالعلية أي لا يهديهم مع وجود هذا الوصف فيهم، و ذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم و توبتهم منه. 

  • و أما قوله: {و شهِدُوا أنّ الرّسُول حقٌّ}، فإن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم هو مشاهدتهم أن آيات النبوة التي عندهم منطبقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كما يفيده قوله: {و جاءهُمُ الْبيِّناتُ}، و إن كان المراد بهم أهل الردة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم بالرسالة لا إقرارا صوريا مبنيا على الجهالة و الحمية و نحوهما بل إقرارا مستندا إلى ظهور الأمر كما يفيده قوله: {و جاءهُمُ الْبيِّناتُ}. 

  • و كيف كان الأمر فانضمام قوله: {و شهِدُوا} إلخ إلى أول الكلام يفيد أن المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحق و تمام الحجة فيكون كفرا عن عناد مع الحق و لجاج مع أهله و هو البغي بغير الحق و الظلم الذي‌ لا يهتدي صاحبه إلى النجاة و الفلاح. 

  • و قد قيل في قوله: {و شهِدُوا} إلخ إنه معطوف على قوله: {إِيمانِهِمْ} لما فيه من معنى الفعل، و التقدير كفروا بعد أن آمنوا و شهدوا إلخ أو أن الواو للحال، و الجملة حالية بتقدير قد. 

  • قوله تعالى: {أُولئِك جزاؤُهُمْ أنّ عليْهِمْ لعْنة اللّهِ} إلى قوله: {و لا هُمْ يُنْظرُون}، قد مر الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى: {أُولئِك يلْعنُهُمُ اللّهُ و يلْعنُهُمُ اللاّعِنُون} البقرة - ١٥٩. 

  • قوله تعالى: {إِلاّ الّذِين تابُوا مِنْ بعْدِ ذلِك و أصْلحُوا} إلخ أي دخلوا في الصلاح، و المراد به كون توبتهم نصوحا تغسل عنهم درن الكفر و تطهر باطنهم بالإيمان، و أما 

تفسير الميزان ج۳

341
  • الإتيان بالأعمال الصالحة فهو و إن كان مما يتفرع على ذلك و يلزمه غير أنه ليس بمقوم لهذه التوبة و لا ركنا منها، و لا في الآية دلالة عليه. 

  • و في قوله: {فإِنّ اللّه غفُورٌ رحِيمٌ} وضع العلة موضع المعلول و التقدير فيغفر الله له و يرحمه فإن الله غفور رحيم. 

  • قوله تعالى: {إِنّ الّذِين كفرُوا بعْد إِيمانِهِمْ ثُمّ اِزْدادُوا كُفْراً} إلى آخر الآيتين‌ تعليل لما يشتمل عليه قوله أولا: {كيْف يهْدِي اللّهُ قوْماً كفرُوا} إلخ و هو من قبيل التعليل بتطبيق الكلي العام على الفرد الخاص، و المعنى أن الذي يكفر بعد ظهور الحق و تمام الحجة عليه، و لا يتوب بعده توبة مصلحة إنما هو أحد رجلين إما كافر يكفر ثم يزيد كفرا فيطغى، و لا سبيل للصلاح إليه فهذا لا يهديه الله و لا يقبل توبته لأنه لا يرجع بالحقيقة بل هو منغمر في الضلال، و لا مطمع في اهتدائه. 

  • و إما كافر يموت على كفره و عناده من غير توبة يتوبها فلا يهديه الله في الآخرة بأن يدخله الجنة إذ لم يرجع إلى ربه و لا بدل لذلك حتى يفتدي به، و لا شفيع و لا ناصر حتى يشفع له أو ينصره. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {و أُولئِك هُمُ الضّالُّون} باشتماله على اسمية الجملة، و الإشارة البعيدة في أولئك، و ضمير الفصل، و الاسمية و اللام في الخبر يدل على تأكد الضلال فيهم بحيث لا ترجى هدايتهم. 

  • و كذا يظهر أن المراد بقوله: {و ما لهُمْ مِنْ ناصِرِين} نفي انتفاعهم بالشفعاء الذين هم الناصرون يوم القيامة فإن الإتيان بصيغة الجمع يدل على تحقق ناصرين يوم القيامة كما مر نظيره في الاستدلال على الشفاعة بقوله تعالى: {فما لنا مِنْ شافِعِين} (الآية) في مبحث الشفاعة (آية ٤٨ من سورة البقرة) فارجع إليه. 

  • و قد اشتملت الآية الثانية على ذكر نفي الفداء و الناصرين لكونهما كالبدل، و البدل إنما يكون من فائت يفوت الإنسان و قد فاتتهم التوبة في الدنيا و لا بدل لها يحل محلها في الآخرة. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {و ماتُوا و هُمْ كُفّارٌ} في معنى: و فاتتهم التوبة فلا ينتقض هذا البيان الظاهر في الحصر بما ذكره الله تعالى في قوله: {و ليْستِ التّوْبةُ لِلّذِين يعْملُون 

تفسير الميزان ج۳

342
  • السّيِّئاتِ حتّى إِذا حضر أحدهُمُ الْموْتُ قال إِنِّي تُبْتُ الْآن و لا الّذِين يمُوتُون و هُمْ كُفّارٌ أُولئِك أعْتدْنا لهُمْ عذاباً ألِيماً} النساء - ١٨ فإن المراد بحضور الموت ظهور آثار الآخرة و انقطاع الدنيا و تفوت عند ذلك التوبة. 

  • و المل‌ء في قوله: {مِلْ‌ءُ الْأرْضِ ذهباً} مقدار ما يسعه الإناء من شي‌ء فاعتبر الأرض إناء يملؤه الذهب فالجملة من قبيل الاستعارة التخييلية و الاستعارة بالكناية. 

  • (بحث روائي)

  • في المجمع: في قوله تعالى {كيْف يهْدِي اللّهُ قوْماً} (الآية) قيل‌ نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت، و كان قتل المجدر بن زياد البلوي غدرا، و هرب و ارتد عن الإسلام، و لحق بمكة ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هل لي من توبة؟ فسألوا فنزلت الآية إلى قوله: {إِلاّ الّذِين تابُوا}، فحملها إليه رجل من قومه فقال: إني لأعلم أنك لصدوق، و رسول الله أصدق منك، و إن الله أصدق الثلاثة، و رجع إلى المدينة و تاب و حسن إسلامه، عن مجاهد و السدي و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن المنذر عن ابن عباس :أن الحارث بن سويد قتل المجدر بن زياد و قيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد ثم لحق بقريش فكان بمكة ثم بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله فيه: {كيْف يهْدِي اللّهُ قوْماً} إلى آخر القصة. 

  • أقول: و روي القصة بطرق أخرى و فيها اختلافات، و من جملتها ما رواه عن عكرمة :أنها نزلت في أبي عامر الراهب و الحارث بن سويد بن الصامت و وحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام و لحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت {إِلاّ الّذِين تابُوا مِنْ بعْدِ ذلِك} الآيات.

  • و منها ما في المجمع :في قوله تعالى: {إِنّ الّذِين كفرُوا بعْد إِيمانِهِمْ ثُمّ اِزْدادُوا} (الآية) أنها نزلت في أحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد لما رجع الحارث قالوا نقيم بمكة على‌الكفر ما بدا لنا فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فلما 

تفسير الميزان ج۳

343
  • افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)مكة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته فنزل فيمن مات منهم كافرا { إِنّ الّذِين كفرُوا و ماتُوا و هُمْ كُفّارٌ} (الآية) نسبها إلى بعضهم. 

  • و قيل إنها نزلت في أهل الكتاب، و قيل: إن قوله تعالى: {إِنّ الّذِين كفرُوا بعْد إِيمانِهِمْ ثُمّ اِزْدادُوا كُفْراً} الآية نزلت في اليهود خاصة حيث آمنوا ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم)، و قيل غير ذلك. 

  • و التأمل في هذه الأقوال و الروايات يعطي أن جميعها من الأنظار الاجتهادية من سلف المفسرين كما تنبه له بعضهم. 

  • و أما الرواية عن الصادق (عليه السلام) فمرسلة ضعيفة، على أن من الممكن أن يتعدد أسباب النزول في آية أو آيات، و الله أعلم.

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٩٢ الی ٩٥] 

  • {لنْ تنالُوا الْبِرّ حتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّون و ما تُنْفِقُوا مِنْ شيْ‌ءٍ فإِنّ اللّه بِهِ علِيمٌ ٩٢ كُلُّ الطّعامِ كان حِلاًّ لِبنِي إِسْرائِيل إِلاّ ما حرّم إِسْرائِيلُ على‌ نفْسِهِ مِنْ قبْلِ أنْ تُنزّل التّوْراةُ قُلْ فأْتُوا بِالتّوْراةِ فاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِين ٩٣ فمنِ اِفْترى‌ على اللّهِ الْكذِب مِنْ بعْدِ ذلِك فأُولئِك هُمُ الظّالِمُون ٩٤ قُلْ صدق اللّهُ فاتّبِعُوا مِلّة إِبْراهِيم حنِيفاً و ما كان مِن الْمُشْرِكِين ٩٥}

  • (بيان‌) 

  • ارتباط الآية الأولى بما قبلها غير واضح و من الممكن أن‌ لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات التي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض، و قد عرفت نظير هذا الإشكال في قوله تعالى: {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ تعالوْا} (الآية) آل عمران - ٦٤، من حيث تاريخ النزول. 

تفسير الميزان ج۳

344
  • و ربما يقال: إن الخطاب في الآية موجه إلى بني إسرائيل، و لا يزال موجها إليهم، و محصل المعنى بعد ما مر من توبيخهم و لومهم على حب الدنيا و إيثار المال و المنال على دين الله: أنكم كاذبون في دعواكم أنكم منسوبون إلى الله سبحانه و أنبيائه و أنكم أهل البر و التقوى، فإنكم تحبون كرائم أموالكم و تبخلون في بذلها و لا تنفقون منها إلا الردي الذي لا تتعلق به النفوس مما لا يعبأ بزواله و فقده مع أنه لا ينال البر إلا بإنفاق الإنسان ما يحبه من كرائم ماله، و لا يفوت الله سبحانه حفظه، هذا محصل ما قيل: و فيه تمحل ظاهر! 

  • و أما بقية الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه. 

  • قوله تعالى: {لنْ تنالُوا الْبِرّ حتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّون}، النيل‌ هو الوصول، و البر هو التوسع في فعل الخير، قال الراغب: البر 

  • خلاف البحر، و تصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير، انتهى. 

  • و مراده من فعل الخير أعم مما هو فعل القلب كالاعتقاد الحق و النية الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله و الإنفاق في سبيل الله تعالى، و قد اشتمل على القسمين جميعا قوله تعالى: {ليْس الْبِرّ أنْ تُولُّوا وُجُوهكُمْ قِبل الْمشْرِقِ و الْمغْرِبِ و لكِنّ الْبِرّ منْ آمن بِاللّهِ و الْيوْمِ الْآخِرِ و الْملائِكةِ و الْكِتابِ و النّبِيِّين و آتى الْمال على‌ حُبِّهِ ذوِي الْقُرْبى‌ و الْيتامى‌ و الْمساكِين و اِبْن السّبِيلِ و السّائِلِين و فِي الرِّقابِ و أقام الصّلاة و آتى الزّكاة و الْمُوفُون بِعهْدِهِمْ إِذا عاهدُوا و الصّابِرِين فِي الْبأْساءِ و الضّرّاءِ و حِين الْبأْسِ} (الآية) البقرة - ١٧٧. 

  • و من انضمام الآية إلى قوله: {لنْ تنالُوا الْبِرّ} (الآية) يتبين أن المراد بها أن إنفاق المال على حبه، أحد أركان البر التي لا يتم إلا باجتماعها نعم جعل الإنفاق غاية لنيل البر لا يخلو عن العناية و الاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلق القلبي بما جمعه من المال، و عده كأنه جزء من نفسه إذا فقده فكأنه فقد جزء من حيوة نفسه بخلاف سائر العبادات و الأعمال التي لا يظهر معها فوت و لا زوال منه. 

  • و من هنا يظهر ما في قول بعضهم إن البر هو الإنفاق مما تحبون، و كان هذا القائل جعلها من قبيل قول القائل: لا تنجو من ألم الجوع حتى تأكل، و نحو ذلك، لكنه محجوج بما مر من الآية. 

تفسير الميزان ج۳

345
  • و يتبين من آية البقرة المذكورة أيضا أن المراد بالبر هو ظاهر معناه اللغوي أعني التوسع في الخير فإنها بينته بمجامع الخيرات الاعتقادية و العملية، و منه يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالبر هو إحسان الله و إنعامه، و ما في قول آخرين: إن المراد به الجنة. 

  • قوله تعالى: {و ما تُنْفِقُوا مِنْ شيْ‌ءٍ فإِنّ اللّه بِهِ علِيمٌ}، تطييب لنفوس المنفقين أن ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدورا من غير أجر فإن الله الذي يأمرهم به عليم بإنفاقهم و ما ينفقونه. 

  • قوله تعالى: {كُلُّ الطّعامِ كان حِلاًّ لِبنِي إِسْرائِيل إِلاّ ما حرّم إِسْرائِيلُ على‌ نفْسِهِ مِنْ قبْلِ أنْ تُنزّل التّوْراةُ}، الطعام‌ كل ما يطعم و يتغذى به و كان يطلق عند أهل الحجاز على البر خاصة و ينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق، و الحل مقابل الحرمة، و كأنه مأخوذ من الحل مقابل العقد و العقل فيفيد معنى الإطلاق، و إسرائيل‌ هو يعقوب النبي (عليه السلام)سمي به لأنه كان مجاهدا في الله مظفرا به، و يقول أهل الكتاب: إن معناه المظفر الغالب على الله سبحانه لأنه صارع الله في موضع يسمى فنيئيل فغلبه (على ما في التوراة) و هو مما يكذبه القرآن و يحيله العقل. 

  • و قوله: {إِلاّ ما حرّم إِسْرائِيلُ على‌ نفْسِهِ} استثناء من الطعام المذكور آنفا، و قوله: {مِنْ قبْلِ أنْ تُنزّل التّوْراةُ} متعلق بكان في الجملة الأولى، و المعنى لم يحرم الله قبل نزول التوراة شيئا من الطعام على بني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه. 

  • و في قوله تعالى: {قُلْ فأْتُوا بِالتّوْراةِ فاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِين}، دلالة على أنهم كانوا ينكرون ذلك، أعني حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، و يدل عليه أنهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع و يحيلون ذلك كما مر ذكره في ذيل قوله تعالى: {ما ننْسخْ مِنْ آيةٍ أوْ نُنْسِها} (الآية) البقرة - ١٠٦، فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى: {فبِظُلْمٍ مِن الّذِين هادُوا حرّمْنا عليْهِمْ طيِّباتٍ أُحِلّتْ لهُمْ} النساء - ١٦٠. 

  • و كذا يدل قوله تعالى بعد: {قُلْ صدق اللّهُ فاتّبِعُوا مِلّة إِبْراهِيم حنِيفاً}، أنهم كانوا يجعلون ما ينكرونه (من حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، و كون التحريم إنما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحل بالحرمة) وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين، و الاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله(صلى الله عليه وآله و سلم)عن ربه أن دينه هو ملة إبراهيم الحنيف، و هي ملة فطرية لا إفراط فيها و لا تفريط، كيف؟ و هم كانوا يقولون: إن إبراهيم كان 

تفسير الميزان ج۳

346
  • يهوديا على شريعة التوراة، فكيف يمكن أن تشتمل ملته على حلية ما حرمتها التوراة، و النسخ غير جائز؟. 

  • فقد تبين أن الآية إنما تتعرض لدفع شبهة أوردتها اليهود، و يظهر من عدم تعرض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى: {و قالتِ الْيهُودُ يدُ اللّهِ مغْلُولةٌ} المائدة - ٦٤، و قوله: {و قالُوا لنْ تمسّنا النّارُ إِلاّ أيّاماً معْدُودةً} البقرة - ٨٠، و قوله {و قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ} البقرة - ٨٨ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. 

  • و كذا قوله تعالى بعد عدة آيات: {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ لِم تصُدُّون عنْ سبِيلِ اللّهِ منْ آمن} إلى أن قال: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِنْ تُطِيعُوا فرِيقاً مِن الّذِين أُوتُوا الْكِتاب يرُدُّوكُمْ بعْد إِيمانِكُمْ كافِرِين} الآيات - آل عمران ١٠٠-٩٨. 

  • و بالجملة يظهر من ذلك أنها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون و يتحاورون. 

  • و حاصلها: أنه كيف يكون النبي صادقا و هو يخبر بالنسخ، و أن الله إنما حرم الطيبات على بني إسرائيل لظلمهم، و هذا نسخ لحل سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرمات محرمة دائما من غير إمكان تغيير لحكم الله، و حاصل الجواب من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتعليم من الله تعالى: أن التوراة ناطقة بكون كل الطعام حلا قبل نزولها فأتوا بالتوراة و اتلوها إن كنتم صادقين في قولكم، و هو قوله تعالى: {كُلُّ الطّعامِ كان حِلاًّ لِبنِي إِسْرائِيل} إلى قوله { إِنْ كُنْتُمْ صادِقِين}

  • فإن أبيتم الإتيان بالتوراة و تلاوتها فاعترفوا بأنكم المفترون على الله الكذب و أنكم الظالمون، و ذلك قوله تعالى: {فمنِ اِفْترى‌} إلى قوله {الظّالِمُون}

  • و قد تبين بذلك أني صادق في دعوتي فاتبعوا ملتي و هي ملة إبراهيم حنيفا، و ذلك قوله تعالى: {قُلْ صدق اللّهُ فاتّبِعُوا مِلّة إِبْراهِيم} إلى آخر الآية. 

  • و للمفسرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنهم على أي حال ذكروا أن الآية متعرضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مر. 

  • و أعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم: أن الآية متعرضة لجواب شبهة 

تفسير الميزان ج۳

347
  • أوردتها اليهود في النسخ، و تقريرها: أن اليهود كأنها قالت: إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم و النبيين بعده كما تدعي فكيف تستحل ما كان محرما عليه و عليهم كلحم الإبل؟ أما و قد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم، و موافق في الدين، و لا أن تخص إبراهيم بالذكر فتقول: إني أولى به. 

  • و محصل الجواب: أن كل الطعام كان حلا لعامة الناس و منهم بنو إسرائيل لكن بني إسرائيل حرموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي، و السيئات كما قال تعالى: {فبِظُلْمٍ مِن الّذِين هادُوا حرّمْنا عليْهِمْ طيِّباتٍ أُحِلّتْ لهُمْ} (الآية) النساء - ١٦٠، فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب وحده، و معنى تحريمهم ذلك على أنفسهم: أنهم ارتكبوا الظلم و اجترحوا السيئات فكانت سببا للتحريم، و قوله: {مِنْ قبْلِ أنْ تُنزّل التّوْراةُ} متعلق بقوله: {حرّم إِسْرائِيلُ}، و لو كان المراد بقوله: إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله: {مِنْ قبْلِ أنْ تُنزّل التّوْراةُ} لغوا زائدا من الكلام لبداهة أن يعقوب كان قبل التوراة زمانا فلا وجه لذكره. 

  • هذا محصل ما ذكره و ذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلا أنه قال: إن المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعا من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهلية تفعل ذلك على ما قصه الله تعالى في كتابه. 

  • و قد ارتكبا جميعا من التكلف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه، و عمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى: {مِنْ قبْلِ أنْ تُنزّل التّوْراةُ} على أنه متعلق بقوله: {حرّم إِسْرائِيلُ}، مع كونه متعلقا بقوله: {كان حِلاًّ}، في صدر الكلام و قوله: {إِلاّ ما حرّم}، استثناء معترض. 

  • و من ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه. 

  • على أن إطلاق إسرائيل و إرادة بني إسرائيل و إن كان جائزا على حد قولهم: بكر و تغلب و نزار و عدنان يريدون بني بكر و بني تغلب و بني نزار و بني عدنان لكنه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول، و لا 

تفسير الميزان ج۳

348
  • أن القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة (في غير هذا المورد الذي يدعيانه) مع أن بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعا، و من جملتها نفس هذه الآية: {كُلُّ الطّعامِ كان حِلاًّ لِبنِي إِسْرائِيل إِلاّ ما حرّم إِسْرائِيلُ على‌ نفْسِهِ}، فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية؟ حيث عبر عنهم أولا ببني إسرائيل، ثم أردف ذلك بقوله: {إِسْرائِيل}، مع أن المقام من أوضح مقامات الالتباس، و ناهيك في ذلك أن الجم الغفير من المفسرين فهموا منه أن المراد به يعقوب لا بنوه. 

  • و من أحسن الشواهد على أن المراد به يعقوب قوله تعالى: {على‌ نفْسِهِ} بإرجاع ضمير المفرد المذكر إلى إسرائيل و لو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال: على نفسها أو على أنفسهم. 

  • قوله تعالى: {قُلْ فأْتُوا بِالتّوْراةِ فاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِين} أي حتى يتبين أن أي الفريقين على الحق، أنا أم أنتم، و هذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • قوله تعالى: {فمنِ اِفْترى‌ على اللّهِ الْكذِب مِنْ بعْدِ ذلِك فأُولئِك هُمُ الظّالِمُون}، ظاهره أنه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيه ص، و على هذا ففيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)بأن أعداءه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله، و تعريض لليهود، و الكلام يجري مجرى الكناية. 

  • و أما احتمال كون الكلام من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الإشارة في قوله: {مِنْ بعْدِ ذلِك}، و على هذا أيضا يجري الكلام مجرى الكناية و الستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى: {إِنّا أوْ إِيّاكُمْ لعلى‌ هُدىً أوْ فِي ضلالٍ مُبِينٍ} سبأ - ٢٤، و المشار إليه بذلك هو البيان و الحجة. 

  • و إنما قال: من بعد ذلك مع أن المفتري ظالم على أي حال لأن الظلم لا يتحقق قبل التبين كما قيل، و القصر في قوله: {فأُولئِك هُمُ الظّالِمُون} قصر قلب على أي حال. 

  • قوله تعالى: {قُلْ صدق اللّهُ فاتّبِعُوا مِلّة إِبْراهِيم حنِيفاً} إلخ أي فإذا كان الحق معي فيما أخبرتكم به و دعوتكم إليه فاتبعوا ديني و اعترفوا بحلية لحم الإبل و غيره من الطيبات التي أحلها الله، و إنما كان حرمها عليكم عقوبة لاعتدائكم و ظلمكم كما أخبر تعالى به. 

تفسير الميزان ج۳

349
  • فقوله: {فاتّبِعُوا} إلخ كالكناية عن اتباع دينه، و إنما لم يذكره بعينه لأنهم كانوا معترفين بملة إبراهيم، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفا فطريا لأن الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيبات من اللحوم و سائر الرزق. 

  • (بحث روائي)

  • في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): أن إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة فحرم على نفسه لحم الإبل و ذلك قبل أن تنزل التوراة فلما نزلت التوراة لم يحرمه و لم يأكله.

  • أقول: و ما يقرب منه مروي من طرق أهل السنة و الجماعة.

  • و قوله في الرواية: لم يحرمه و لم يأكله، ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه، و المعنى لم يحرمه موسى و لم يأكله، و يحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل، و يظهر من التاج، أن التفعيل و المفاعلة فيه بمعنى واحد 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٩٦ الی ٩٧ ] 

  • {إِنّ أوّل بيْتٍ وُضِع لِلنّاسِ للّذِي بِبكّة مُباركاً و هُدىً لِلْعالمِين ٩٦ فِيهِ آياتٌ بيِّناتٌ مقامُ إِبْراهِيم و منْ دخلهُ كان آمِناً و لِلّهِ على النّاسِ حِجُّ الْبيْتِ منِ اِسْتطاع إِليْهِ سبِيلاً و منْ كفر فإِنّ اللّه غنِيٌّ عنِ الْعالمِين ٩٧}

  • (بيان‌)

  • الآيتان جواب عن شبهة أخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ، و هي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة، و قد مر في تفسير قوله تعالى: {فولِّ وجْهك شطْر الْمسْجِدِ الْحرامِ} (الآية) البقرة - ١٤٤ أن تحويل 

تفسير الميزان ج۳

350
  • القبلة كان من الأمور الهامة التي كانت له تأثيرات عميقة مادية و معنوية في حيوة أهل الكتاب و خاصة اليهود مضافا إلى كونه مخالفا لمذهبهم من النسخ، و لذلك طالت المشاجرات و المشاغبات بينهم و بين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد. 

  • و المستفاد من (الآية) {إِنّ أوّل بيْتٍ} إلخ - أنهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ و بين انتساب الحكم إلى ملة إبراهيم فيكون محصل الشبهة: أن الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملة إبراهيم مع أن الله جعل بيت المقدس قبلة و هل هذا إلا القول بحكم نسخي في ملة إبراهيم الحقة مع كون النسخ محالا باطلا؟ 

  • و الجواب: أن الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شك و وضعها للعبادة، و فيها آيات بينات تدل على ذلك كمقام إبراهيم، و أما بيت المقدس فبانيه سليمان و هو بعد إبراهيم بقرون. 

  • قوله تعالى: {إِنّ أوّل بيْتٍ وُضِع لِلنّاسِ للّذِي بِبكّة} إلى آخر الآية، البيت معروف، و المراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم و هو أن يجعلوه ذريعة يتوسل به إلى عبادة الله سبحانه، و يستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، و بقصده و المسير إليه و غير ذلك، و الدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركا و هدى للعالمين و غير ذلك، و يشعر به التعبير عن الكعبة بالذي ببكة فإن فيه تلويحا إلى ازدحام الناس عنده في الطواف و الصلوة و غيرهما من العبادات و المناسك، و أما كونه أول بيت بني على الأرض و وضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ. 

  • و المراد ببكة أرض البيت سميت بكة لازدحام الناس فيها، و ربما قيل إن بكة هي مكة، و أنه من تبديل الميم باء كما في قولهم لازم و لازب و راتم و راتب و نحو ذلك، و قيل: هو اسم للحرم، و قيل: المسجد، و قيل: المطاف. 

  • و المباركة مفاعلة من البركة و هي الخير الكثير، فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه و جعله فيه‌، و هي و إن كانت تشمل البركات الدنيوية و الأخروية، إلا أن ظاهر مقابلتها مع قوله: {هُدىً لِلْعالمِين} أن المراد بها إفاضة البركات الدنيوية و عمدتها وفور الأرزاق و توفر الهمم و الدواعي إلى عمرانه بالحج إليه و الحضور عنده و الاحترام له و إكرامه فيئول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم: {ربّنا إِنِّي أسْكنْتُ مِنْ ذُرِّيّتِي 

تفسير الميزان ج۳

351
  • بِوادٍ غيْرِ ذِي زرْعٍ عِنْد بيْتِك الْمُحرّمِ ربّنا لِيُقِيمُوا الصّلاة فاجْعلْ أفْئِدةً مِن النّاسِ تهْوِي إِليْهِمْ و اُرْزُقْهُمْ مِن الثّمراتِ لعلّهُمْ يشْكُرُون} إبراهيم - ٣٧. 

  • و كونه هدى هو إراءته للناس سعادة آخرتهم، و إيصاله إياهم إلى الكرامة و القرب و الزلفى بما وضعه الله للعبادة، و بما شرع عنده من أقسام الطاعات و النسك و لم يزل منذ بناه إبراهيم مقصدا للقاصدين و معبدا للعابدين. 

  • و قد دل القرآن على أن الحج شرع أول ما شرع في زمن إبراهيم (عليه السلام)بعد الفراغ من بنائه، قال تعالى: {و عهِدْنا إِلى‌ إِبْراهِيم و إِسْماعِيل أنْ طهِّرا بيْتِي لِلطّائِفِين و الْعاكِفِين و الرُّكّعِ السُّجُودِ} البقرة - ١٢٥، و قال: خطابا لإبراهيم: {و أذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحجِّ يأْتُوك رِجالاً و على‌ كُلِّ ضامِرٍ يأْتِين مِنْ كُلِّ فجٍّ عمِيقٍ} الحج - ٢٧، و الآية كما ترى تدل على أن هذا الأذان و الدعوة سيقابل بتلبية عامة من الناس الأقربين و الأبعدين من العشائر و القبائل. 

  • و دل أيضا على أن هذا الشعار الإلهي كان على استقراره و معروفيته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى (عليه السلام): {إِنِّي أُرِيدُ أنْ أُنْكِحك إِحْدى اِبْنتيّ هاتيْنِ على‌ أنْ تأْجُرنِي ثمانِي حِججٍ فإِنْ‌ أتْممْت عشْراً فمِنْ عِنْدِك} القصص - ٢٧، فقد أراد بالحج سنة و ليس إلا لكون السنين تعد بالحج لتكررها بتكرره. 

  • و كذا في دعوة إبراهيم (عليه السلام) شي‌ء كثير يدل على كون البيت لم يزل معمورا بالعبادة آية في الهداية (راجع سورة إبراهيم). 

  • و كان عرب الجاهلية يعظمونه و يأتون بالحج بعنوان أنه من شرع إبراهيم، و قد ذكر التاريخ أن سائر الناس أيضا كانوا يعظمونه، و هذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجه إلى الله سبحانه و ذكره، و أما بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح، و قد ملأ ذكره مشارق الأرض و مغاربها، و هو يعرض نفسه لأفهام الناس و قلوبهم بنفسه و بذكره، و في عبادات المسلمين و طاعاتهم و قيامهم و قعودهم و مذابحهم و سائر شئونهم. 

  • فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام الذي لا يمسه إلا المطهرون من عباد الله المخلصين. 

تفسير الميزان ج۳

352
  • على أنه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة و ائتلاف الأمة و شهادة منافعهم، و يهدي عالم غيرهم بإيقاظهم و تنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة و ائتلاف القوى المختلفة المتشتتة. 

  • و من هنا يظهر أولا: أنه هدى إلى سعادة الدنيا و الآخرة كما أنه هدى بجميع مراتب الهداية، فالهداية مطلقة. 

  • و ثانيا: أنه هدى للعالمين لا لعالم خاص و جماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين و ذلك لما فيه من سعة الهداية. 

  • قوله تعالى: {فِيهِ آياتٌ بيِّناتٌ مقامُ إِبْراهِيم}، الآيات و إن وصفت بالبينات، و أفاد ذلك تخصصا ما في الموصوف إلا أنها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام، و المقام مقام بيان مزايا البيت و مفاخره التي بها يتقدم على غيره في الشرف و لا يناسب ذلك إلا الإتيان ببيان واضح، و الوصف بما لا غبار عليه بالإبهام و الإجمال، و هذا من الشواهد على كون قوله: {مقامُ إِبْراهِيم و منْ دخلهُ كان آمِناً و لِلّهِ على النّاسِ} إلى آخر الآية بيانا لقوله: {آياتٌ بيِّناتٌ}فالآيات هي: {مقامُ إِبْراهِيم}، و تقرير الأمن فيه، و إيجاب حجة على الناس المستطيعين. 

  • لكن لا كما يتراءى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلا أو عطف بيان من قوله: {آياتٌ} لوضوح أن ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا: هي مقام إبراهيم، و الأمن لمن دخله، و حجة لمن استطاع إليه سبيلا، و في ذلك إرجاع قوله: {و منْ دخلهُ}، سواء كان إنشاء أو إخبارا إلى المفرد بتقدير أن و إرجاع قوله: {و لِلّهِ على النّاسِ}، و هي جملة إنشائية إلى الخبرية ثم عطفه على الجملة السابقة و تأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أن فيها أيضا، و كل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام البتة. 

  • و إنما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله: {مقامُ إِبْراهِيم}إلخ، كل لغرض خاص من إخبار أو إنشاء حكم ثم تتبين بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال: فلان رجل شريف هو ابن فلان و يقري الضيف و يجب علينا أن نتبعه. 

  • قوله تعالى: {مقامُ إِبْراهِيم} مبتدأ لخبر محذوف و التقدير فيه مقام إبراهيم، و هو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل (ع)، و قد استفاض النقل بأن الحجر مدفون 

تفسير الميزان ج۳

353
  • في المكان الذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافة المطاف حيال الملتزم، و قد أشار إليه أبو طالب عم النبي في قصيدته اللامية: 

  • و موطئ إبراهيم في الصخر رطبة***على قدميه حافيا غير ناعل‌
  • و ربما يفهم من قوله: {مقامُ إِبْراهِيم} أن البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه. 

  • و يمكن أن يكون تقدير الكلام: هي مقام إبراهيم و الأمن و الحج ثم وضع قوله: {و منْ دخلهُ}، و قوله: {و لِلّهِ على النّاسِ}، و هما جملتان مشتملتان على حكم إنشائي موضع الخبرين، و هذا من أعاجيب أسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين، و يحفظ الجهتين كحكاية الكلام في موضع الإخبار كقوله: {كُلٌّ آمن بِاللّهِ و ملائِكتِهِ و كُتُبِهِ و رُسُلِهِ لا نُفرِّقُ بيْن أحدٍ مِنْ رُسُلِهِ} البقرة - ٢٨٥، و كما مر في قوله تعالى {أ لمْ تر إِلى الّذِي حاجّ إِبْراهِيم فِي ربِّهِ} (الآية) البقرة - ٢٥٨، و قوله: {أوْ كالّذِي مرّ على‌ قرْيةٍ} (الآية) البقرة - ٢٥٩، و قد بينا النكتة في ذلك في تفسير الثانية، و كما في قوله تعالى: {يوْم لا ينْفعُ مالٌ و لا بنُون إِلاّ منْ أتى اللّه بِقلْبٍ سلِيمٍ} الشعراء - ٨٩، و كما في قوله تعالى: {و لكِنّ الْبِرّ منْ آمن بِاللّهِ} (الآية) البقرة - ١٧٧، حيث وضع صاحب البر، مكان البر، و كما في قوله تعالى: {و مثلُ الّذِين كفرُوا كمثلِ الّذِي ينْعِقُ بِما لا يسْمعُ} (الآية) البقرة - ١٧١ و مثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم. 

  • و على هذا فوزان قوله: {فِيهِ آياتٌ بيِّناتٌ مقامُ إِبْراهِيم} إلى قوله {عنِ الْعالمِين} في التردد بين الإنشاء و الإخبار، وزان قوله: {و اُذْكُرْ عبْدنا أيُّوب إِذْ نادى‌ ربّهُ أنِّي مسّنِي الشّيْطانُ بِنُصْبٍ و عذابٍ اُرْكُضْ بِرِجْلِك هذا مُغْتسلٌ بارِدٌ و شرابٌ و وهبْنا لهُ أهْلهُ و مِثْلهُمْ معهُمْ رحْمةً مِنّا و ذِكْرى‌ لِأُولِي الْألْبابِ و خُذْ بِيدِك ضِغْثاً فاضْرِبْ بِهِ و لا تحْنثْ إِنّا وجدْناهُ صابِراً نِعْم الْعبْدُ إِنّهُ أوّابٌ} ص - ٤٤. 

  • و هذا الذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدلية، و إن كان بدلا و لا بد فالأولى جعل قوله: {مقامُ إِبْراهِيم} بدلا و جعل الجملتين التاليتين مستأنفتين 

تفسير الميزان ج۳

354
  • دالتين على بدلين محذوفين. و التقدير فيه آيات بينات مقام إبراهيم و أمن الداخل و حج المستطيع للبيت. 

  • و لا ريب في كون كل واحد من هذه الأمور آية بينة دالة بوقوعها على الله سبحانه مذكرة لمقامه إذ ليست الآية إلا العلامة الدالة على الشي‌ء بوجه، و أي علامة دالة عليه تعالى مذكرة لمقامه أعظم و أجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم و من حرم آمن يأمن من دخله و من مناسك و عبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من الناس تتكرر بتكرر السنين، و لا تنسخ بانتساخ الليالي و الأيام، و أما كون كل آية أمرا خارقا للعادة ناقضا لسنة الطبيعة فليس من الواجب، و لا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه، و لا استعماله في القرآن ينحصر فيه. قال تعالى: {ما ننْسخْ مِنْ آيةٍ أوْ نُنْسِها} (الآية) البقرة - ١٠٦، و هي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعا، و قال تعالى: {أ تبْنُون بِكُلِّ رِيعٍ آيةً تعْبثُون} الشعراء - ١٢٨، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و من هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسرين على توجيه كون المقام آية خارقة، و كون الأمن و الحج مذكورين لغير غرض بيان الآية. 

  • و كذا إصرار آخرين على أن المراد بالآيات البينات أمور أخر من خواص الكعبة (و قد أغمضنا عن ذكرها، و من أرادها فليراجع بعض مطولات التفاسير) فإن ذلك مبني على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة و خوارق العادة، و لا دليل على ذلك كما مر. 

  • فالحق أن قوله: {و منْ دخلهُ كان آمِناً} مسوق لبيان حكم تشريعي لا خاصة تكوينية غير أن الظاهر أن يكون الجملة إخبارية يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم و البقرة و قد كان هذا الحق محفوظا للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهلية و يتصل بزمن إبراهيم (عليه السلام). 

  • و أما كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأن الفتن و الحوادث العظام لا تقع و لا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب و المقاتلات و اختلال الأمن فيه، و خاصة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية، و قوله تعالى {أ و لمْ يروْا أنّا جعلْنا حرماً آمِناً و يُتخطّفُ النّاسُ مِنْ حوْلِهِمْ} العنكبوت - ٦٧، لا يدل على أزيد من استقرار الأمن و استمراره في الحرم، و ليس ذلك إلا لما يراه الناس من 

تفسير الميزان ج۳

355
  • حرمة هذا البيت و وجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم (عليه السلام)و ينتهي بالأخرة إلى جعله سبحانه و تشريعه. 

  • و كذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكي في قوله تعالى: {ربِّ اِجْعلْ هذا الْبلد آمِناً} إبراهيم - ٣٥، و قوله: {ربِّ اِجْعلْ هذا بلداً آمِناً} البقرة - ١٢٦، حيث سأل الأمن لبلد مكة فأجابه الله بتشريع الأمن و سوق الناس سوقا قلبيا إلى تسليم ذلك و قبوله زمانا بعد زمان. 

  • قوله تعالى: {و لِلّهِ على النّاسِ حِجُّ الْبيْتِ منِ اِسْتطاع إِليْهِ سبِيلاً}، الحج‌ بالكسر (و قرئ بالفتح) هو القصد ثم اختص استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بينه الشرع، و قوله: {سبِيلاً} تمييز من قوله: {اِسْتطاع}

  • و الآية تتضمن تشريع الحج إمضاء لما شرع لإبراهيم (عليه السلام)كما يدل عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم: {و أذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحجِّ} (الآية) الحج - ٢٧، و من هنا يظهر أن وزان قوله: {و لِلّهِ على النّاسِ} إلخ، وزان قوله تعالى: {و منْ دخلهُ كان آمِناً} في كونه إخبارا عن تشريع سابق و إن كان من الممكن أن يكون إنشاء على نحو الإمضاء لكن الأظهر من السياق هو الأول كما لا يخفى. 

  • قوله تعالى: {و منْ كفر فإِنّ اللّه غنِيٌّ عنِ الْعالمِين}، الكفر هاهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلوة و الزكاة فالمراد بالكفر الترك. و الكلام من قبيل وضع المسبب أو الأثر مقام السبب أو المنشإ كما أن قوله: {فإِنّ اللّه غنِيٌّ}إلخ من قبيل وضع العلة موضع المعلول، و التقدير: و من ترك الحج فلا يضر الله شيئا فإن الله غني عن العالمين. 

  • (بحث روائي)

  • عن ابن شهرآشوب عن أمير المؤمنين (عليه السلام): في قوله تعالى: {إِنّ أوّل‌ بيْتٍ وُضِع لِلنّاسِ}(الآية) فقال له رجل أ هو أول بيت؟ قال: لا قد كان قبله بيوت، و لكنه أول بيت وضع للناس مباركا، فيه الهدى و الرحمة و البركة. و أول من بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش.

تفسير الميزان ج۳

356
  • و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي بن أبي طالب: في قوله: {إِنّ أوّل بيْتٍ وُضِع لِلنّاسِ للّذِي بِبكّة} قال: كانت البيوت قبله و لكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله. 

  • أقول: و رواه أيضا عن ابن جرير عن مطر مثله، و الروايات في هذه المعاني كثيرة.

  • و في العلل، عن الصادق (عليه السلام): موضع البيت بكة، و القرية مكة.

  • و فيه أيضا عنه (عليه السلام): إنما سميت بكة بكة لأن الناس يبكون فيها. 

  • أقول: يعني يزدحمون.

  • و فيه، عن الباقر (عليه السلام): إنما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال و النساء، و المرأة تصلي بين يديك، و عن يمينك، و عن شمالك و معك و لا بأس بذلك إنما يكره ذلك في سائر البلدان.

  • و فيه، عن الباقر (عليه السلام)قال: لما أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجا ثم أزبد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلا من زبد ثم دحى الأرض من تحته و هو قول الله{إِنّ أوّل بيْتٍ وُضِع لِلنّاسِ للّذِي بِبكّة مُباركاً}، فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة ثم مدت الأرض منها.

  • أقول: و الأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة، و ليست مخالفة للكتاب، و لا أن هناك برهانا يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أن الأرض عنصر بسيط قديم، و قد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان. 

  • و هذا تفسير ما ورد من الروايات في أن الكعبة أول بيت (أي بقعة) في الأرض و إن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الأوليان.

  • و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (ع): في قوله تعالى: {فِيهِ آياتٌ بيِّناتٌ} أنه سئل ما هذه الآيات البينات؟ قال: مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه قدماه، و الحجر الأسود، و منزل إسماعيل. 

  • أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و لعل ذكره هذه الأمور من باب العد و إن لم تشتمل على بعضها الآية. 

تفسير الميزان ج۳

357
  • و في تفسير العياشي، عن عبد الصمد، قال: طلب أبو جعفر أن يشتري من أهل مكة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أبا عبد الله (عليه السلام) فقال له: إني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم و أفنيتهم لنزيد في المسجد و قد منعوا في ذلك فقد غمني غما شديدا، فقال أبو عبد الله (ع): لم يغمك ذلك و حجتك عليهم فيه ظاهرة، فقال: و بما أحتج عليهم؟ فقال: بكتاب الله، فقال: في أي موضع؟ فقال: قول الله: {إِنّ أوّل بيْتٍ وُضِع لِلنّاسِ للّذِي بِبكّة}، و قد أخبرك الله: أن أول بيت‌٠وضع للناس هو الذي ببكة فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، و إن كان البيت قديما فيهم فله فناؤه، فدعاهم أبو جعفر فاحتج عليهم بهذا فقالوا له: اصنع ما أحببت.

  • و فيه، عن الحسن بن علي بن النعمان، قال: لما بنى المهدي في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا فسأل عن ذلك الفقهاء فكل قال له: إنه لا ينبغي أن تدخل شيئا في المسجد الحرام غصبا، فقال له علي بن يقطين: يا أمير المؤمنين إني أكتب إلى موسى بن جعفر (عليه السلام)لأخبرك بوجه الأمر في ذلك فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر (عليه السلام)عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع عليها صاحبها، فكيف المخرج من ذلك؟. 

  • فقال ذلك لأبي الحسن (ع)، فقال أبو الحسن (ع): فلا بد من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لا بد منه، فقال له: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، و إن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها. 

  • فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله ثم أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن (عليه السلام) فسألوه أن يكتب إلى المهدي كتابا في ثمن دارهم فكتب إليه أن أوضح‌۱ لهم شيئا فأرضاهم. 

  • أقول: و الروايتان مشتملتان على استدلال لطيف، و كان أبو جعفر المنصور كان هو البادئ بتوسعة المسجد الحرام ثم تم الأمر للمهدي.

    1. ارضخ (خ). 

تفسير الميزان ج۳

358
  • و في الكافي، عن الصادق (ع): في قوله تعالى: {و لِلّهِ على النّاسِ حِجُّ الْبيْتِ} إلخ، يعني به الحج و العمرة جميعا لأنهما مفروضان.

  • أقول: و رواه العياشي في تفسيره، و قد فسر الحج فيه بمعناه اللغوي و هو القصد.

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (ع): {و منْ كفر} قال: ترك.

  • أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، و قد عرفت أن الكفر ذو مراتب كالإيمان، و أن المراد منه الكفر بالفروع.

  • و في الكافي، عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام)في حديث قال: قلت: فمن لم يحج منا فقد كفر؟ قال: لا، و لكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر.

  • أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و الكفر في الرواية بمعنى الرد، و الآية تحتمله، فالكفر فيها بمعناه اللغوي و هو الستر على الحق، و على حسب الموارد تتعين له مصاديق. 

  • (بحث تاريخي) [ملخص تاريخ الكعبة]

  • من المتواتر المقطوع به أن الذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل (عليه السلام)و كان القاطنون حولها يومئذ ابنه إسماعيل و جرهم من قبائل اليمن و هي بناء مربع تقريبا و زواياها الأربع إلى الجهات الأربع‌ تتكسر عليها الرياح و لا تضرها مهما اشتدت. 

  • ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتى جددها العمالقة ثم بنو جرهم (أو بالعكس) كما مر في الرواية عن أمير المؤمنين (ع). 

  • ثم لما آل أمر الكعبة إلى قصي بن كلاب أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) (القرن الثاني قبل الهجرة) هدمها و بناها فأحكم بناءها، و سقفها بخشب الدوم و جذوع النخل و بنى إلى جانبها دار الندوة، و كان في هذه الدار حكومته و شوراه مع أصحابه، ثم قسم جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة، و فتحوا عليه أبواب دورهم. 

  • [بناء الكعبة]

  • و قبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها 

تفسير الميزان ج۳

359
  • و كان الذي يبنيها ياقوم الرومي، و يساعده عليه نجار مصري، و لما انتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أن أيها يختص بشرف وضعه فرأوا أن يحكموا محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و سنه إذ ذاك خمس و ثلاثون سنة لما عرفوا من وفور عقله و سداد رأيه، فطلب رداء و وضع عليه الحجر، و أمر القبائل فأمسكوا بأطرافه و رفعوه حتى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقي أخذه هو فوضعه بيده في موضعه. 

  • و كانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بناءها على ما هي عليه الآن و قد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء. 

  • و كان البناء على هذا الحال حتى تسلط عبد الله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد بن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكة، و أصاب الكعبة بالمنجنيق‌ فانهدمت و أحرقت كسوتها و بعض أخشابها، ثم انكشف عنها لموت يزيد، فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة و يعيد بناءها فأتى لها بالجص النقي من اليمن، و بناها به و أدخل الحجر في البيت، و ألصق الباب بالأرض، و جعل قبالته بابا آخر ليدخل الناس من باب و يخرجوا من آخر، و جعل ارتفاع البيت سبعة و عشرين ذراعا و لما فرغ من بنائها ضمخها بالمسك و العبير داخلا و خارجا، و كساها بالديباج، و كان فراغه من بنائها ١٧ رجب سنة ٦٤ هجرية. 

  • ثم لما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعث الحجاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتى غلبه فقتله، و دخل البيت فأخبر عبد الملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأول، فهدم الحجاج من جانبها الشمالي ستة أذرع و شبرا، و بنى ذلك الجدار على أساس قريش، و رفع الباب الشرقي و سد الغربي ثم كبس أرضها بالحجارة التي فضلت منها. 

  • و لما تولى السلطان سليمان العثماني الملك سنة ستين و تسعمائة غير سقفها، و لما تولى السلطان أحمد العثماني سنة إحدى و عشرين بعد الألف أحدث فيها ترميما و لما حدث السيل العظيم سنة تسع و ثلاثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشمالية و الشرقية و الغربية فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها و لم يزل على ذلك حتى اليوم و هو سنة ألف و ثلاث مائة و خمس و سبعين هجرية قمرية و سنة ألف و ثلاثمائة و ثمانية و ثلاثين هجرية شمسية. 

تفسير الميزان ج۳

360
  • شكل الكعبة 

  • شكل الكعبة مربع تقريبا و هي مبنية بالحجارة الزرقاء الصلبة و يبلغ ارتفاعها ستة عشر مترا، و قد كانت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)أخفض منه بكثير على ما يستفاد من حديث رفع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)عليا (عليه السلام)على عاتقه يوم الفتح لأخذ الأصنام التي كانت على الكعبة و كسرها. 

  • و طول الضلع الذي فيه الميزاب و الذي قبالته عشرة أمتار و عشرة سانتيمترات، و طول الضلع الذي فيه الباب و الذي قبالته اثنا عشر مترا، و الباب على ارتفاع مترين من الأرض، و في الركن الذي على يسار الباب للداخل، الحجر الأسود على ارتفاع متر و نصف من أرض المطاف، و الحجر الأسود حجر ثقيل بيضي الشكل غير منتظم لونه أسود ضارب إلى الحمرة، و فيه نقط حمراء، و تعاريج صفراء، و هي أثر لحام القطع التي كانت تكسرت منه، قطرة نحو ثلاثين سانتي مترا. 

  • و تسمى زوايا الكعبة من قديم أيامها بالأركان فيسمى الشمالي بالركن العراقي، و الغربي بالشامي و الجنوبي باليماني، و الشرقي الذي فيه الحجر الأسود بالأسود، و تسمى المسافة التي بين الباب و ركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إياه في دعائه و استغاثته، و أما الميزاب على الحائط الشمالي و يسمى ميزاب الرحمة فمما أحدثه الحجاج بن يوسف ثم غيره السلطان سليمان سنة ٩٥٤ إلى ميزاب من الفضة ثم أبدله السلطان أحمد سنة ١٠٢١ بآخر من فضة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخللها نقوش ذهبية، ثم أرسل السلطان عبد المجيد من آل عثمان سنة ١٢٧٣ ميزابا من الذهب فنصب مكانه و هو الموجود الآن. 

  • و قبالة الميزاب حائط قوسي يسمى بالحطيم، و هو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشمالية و الغربية، و يبعدان عنهما مقدار مترين و ثلاثة سانتيمترات، و يبلغ ارتفاعه مترا، و سمكه مترا و نصف متر، و هو مبطن بالرخام المنقوش، و المسافة بين‌ منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار و أربعة و أربعون سانتي مترا. 

  • و الفضاء الواقع بين الحطيم و بين حائط البيت هو المسمى بحجر إسماعيل، و قد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريبا في الكعبة في بناء إبراهيم، و الباقي كان زريبة لغنم هاجر و ولدها، و يقال: إن هاجر و إسماعيل مدفونان في الحجر. 

  • و أما تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير و ترميم، و ما للبيت من السنن 

تفسير الميزان ج۳

361
  • و التشريفات فلا يهمنا التعرض له. 

  • كسوة الكعبة 

  • قد تقدم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصة هاجر و إسماعيل و نزولهما أرض مكة أن هاجر علق كساءها على باب الكعبة بعد تمام بنائها. 

  • و أما كسوة البيت نفسه فيقال: إن أول من كساها تبع أبو بكر أسعد كساها بالبرود المطرزة بأسلاك الفضة، و تبعه خلفاؤه ثم أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض، و كلما بلي منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصي، و وضع قصي على العرب رفادة لكسوتها سنويا و استمر ذلك في بنيه و كان أبو ربيعة بن المغيرة يكسوها سنة و قبائل قريش سنة. 

  • و قد كساها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالثياب اليمانية، و كان على ذلك حتى إذا حج الخليفة العباسي المهدي شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة، و ذكروا أنه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية، و إبدالها بكسوة واحدة كل سنة، و جرى العمل على ذلك حتى اليوم‌، و للكعبة كسوة من داخل، و أول من كساها من داخل أم العباس بن عبد المطلب لنذر نذرته في ابنها العباس. 

  • منزلة الكعبة 

  • كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الأمم المختلفة فكانت الهنود يعظمونها، و يقولون: إن روح سيفا و هو الأقنوم الثالث عندهم حلت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز. 

  • و كانت الصابئة من الفرس و الكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة۱، و ربما قيل: إنه بيت زحل لقدم عهده و طول بقائه. 

  • و كانت الفرس يحترمون الكعبة أيضا زاعمين أن روح هرمز حلت فيها، و ربما حجوا إليها زائرين. 

  • و كانت اليهود يعظمونها و يعبدون الله فيها على دين إبراهيم، و كان بها صور 

    1. البيوت المعظمة هي: ١ - الكعبة، ٢ - مارس على رأس جبل بأصفهان، ٣ - مندوسان ببلاد الهند، ٤ - نوبهار بمدينة بلخ، ٥ - بيت غمدان بمدينة صنعاء، ٦ - كاوسان بمدينة فرغانة من خراسان، ٧ - بيت بأعالي بلاد الصين.

تفسير الميزان ج۳

362
  • و تماثيل منها تمثال إبراهيم و إسماعيل، و بأيديهما الأزلام، و منها صورتا العذراء و المسيح، و يشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضا كاليهود. 

  • و كانت العرب أيضا تعظمها كل التعظيم، و تعدها بيتا لله تعالى، و كانوا يحجون إليها من كل جهة و هم يعدون البيت بناء لإبراهيم، و الحج من دينه الباقي بينهم بالتوارث. 

  • ولاية الكعبة 

  • كانت الولاية على الكعبة لإسماعيل ثم لولده من بعده حتى تغلبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثم ملكتها العماليق و هم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم، و قد كانوا ينزلون أسفل مكة كما أن جرهم كانت تنزل أعلى مكة و فيهم ملوكهم. 

  • ثم كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولوها نحو من ثلاثمائة سنة، و زادوا في بناء البيت و رفعته على ما كان في بناء إبراهيم. 

  • ثم لما نشأت ولد إسماعيل و كثروا و صاروا ذوي قوة و منعة و ضاقت بهم الدار حاربوا جرهم فغلبوهم و أخرجوهم من مكة و مقدم الإسماعيليين يومئذ عمرو بن لحي، و هو كبير خزاعة فاستولى على مكة و تولى أمر البيت، و هو الذي وضع الأصنام على الكعبة و دعا الناس إلى عبادتها، و أول صنم وضعه عليها هو هبل، حمله معه من الشام إلى مكة و وضعه عليها ثم أتبعه بغيره حتى كثرت و شاعت عبادتها بين العرب، و هجرت الحنيفية. 

  • و في ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهمي يخاطب عمرو بن لحي. 

  • يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة***شتى بمكة حول البيت أنصابا 
  • و كان للبيت رب واحد أبدا***فقد جعلت له في الناس أربابا
  • لتعرفن بأن الله في مهل***سيصطفي دونكم للبيت حجابا
  • و كانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعي فجعلها حليل من بعده لابنته و كانت تحت قصي بن كلاب، و جعل فتح الباب و غلقها لرجل من خزاعة يسمى أبا غبشان الخزاعي فباعه أبو غبشان من قصي بن كلاب ببعير و زق خمر، و في ذلك يضرب المثل السائر «أخسر ممن صفقة أبي غبشان». 

  • فانتقلت الولاية إلى قريش، و جدد قصي بناء البيت كما قدمناه و كان الأمر على 

تفسير الميزان ج۳

363
  • ذلك حتى فتح النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)مكة، و دخل الكعبة و أمر بالصور و التماثيل فمحيت، و أمر بالأصنام فهدمت و كسرت، و قد كان مقام إبراهيم و هو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم موضوعا بمعجن في جوار الكعبة ثم دفن في محله الذي يعرف به الآن، و هو قبة قائمة على أربعة أعمدة يقصدها الطائفون للصلاة. 

  • و أخبار الكعبة و ما يتعلق بها من المعاهد الدينية كثيرة طويلة الذيل اقتصرنا منها على ما تمسه حاجة الباحث المتدبر في آيات الحج و الكعبة. 

  • و من خواص هذا البيت الذي بارك الله فيه و جعله هدى أنه لم يختلف في شأنه أحد من طوائف الإسلام‌. 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ٩٨ الی ١٠١ ] 

  • {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ لِم تكْفُرُون بِآياتِ اللّهِ و اللّهُ شهِيدٌ على‌ ما تعْملُون ٩٨ قُلْ يا أهْل الْكِتابِ لِم تصُدُّون عنْ سبِيلِ اللّهِ منْ آمن تبْغُونها عِوجاً و أنْتُمْ شُهداءُ و ما اللّهُ بِغافِلٍ عمّا تعْملُون ٩٩ يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِنْ تُطِيعُوا فرِيقاً مِن الّذِين أُوتُوا الْكِتاب يرُدُّوكُمْ بعْد إِيمانِكُمْ كافِرِين ١٠٠و كيْف تكْفُرُون و أنْتُمْ تُتْلى‌ عليْكُمْ آياتُ اللّهِ و فِيكُمْ رسُولُهُ و منْ يعْتصِمْ بِاللّهِ فقدْ هُدِي إِلى‌ صِراطٍ مُسْتقِيمٍ ١٠١}

  • (بيان‌)

  • الآيات كما ترى باتصال السياق تدل على أن أهل الكتاب (فريق منهم و هم اليهود أو فريق من اليهود) كانوا يكفرون بآيات الله، و يصدون المؤمنين عن سبيل الله بإراءته إياهم عوجا غير مستقيم، و تمثيل سبيل الضلال المعوج المنحرف سبيلا لله، 

تفسير الميزان ج۳

364
  • و ذلك بإلقاء شبهات إلى المؤمنين يرون بها الحق باطلا، و الباطل الذي يدعونهم إليه حقا، و الآيات السابقة تدل على ما انحرفوا فيه من إنكار حلية كل الطعام قبل التوراة، و إنكار نسخ استقبال بيت المقدس، فهذه الآيات متممات للآيات السابقة المتعرضة لحل الطعام قبل التوراة، و كون الكعبة أول بيت وضع للناس فهي تشتمل على الإنكار و التوبيخ لليهود في إلقائهم الشبهات و تفتينهم المؤمنين في دينهم، و تحذير للمؤمنين أن يطيعوهم فيما يدعون إليه فيكفروا بالدين، و ترغيب و تحريص لهم أن يعتصموا بالله فيهتدوا إلى صراط الإيمان و تدوم هدايتهم.

  • و قد ورد عن زيد بن أسلم كما رواه السيوطي في لباب النقول، على ما قيل‌۱: أن شاش بن قيس - و كان يهوديا - مر على نفر من الأوس و الخزرج يتحدثون فغاظه ما رأى من تألفهم بعد العداوة فأمر شابا معه من اليهود أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث ففعل، فتنازعوا و تفاخروا حتى‌ وثب رجلان. أوس بن قرظي من الأوس، و جبار بن صخر من الخزرج فتقاولا و غضب الفريقان، و تواثبوا للقتال فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فجاء حتى وعظهم و أصلح بينهم فسمعوا و أطاعوا فأنزل الله في أوس و جبار: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِنْ تُطِيعُوا فرِيقاً مِن الّذِين أُوتُوا الْكِتاب} (الآية) و في شاش بن قيس: {يا أهْل الْكِتابِ لِم تصُدُّون عنْ سبِيلِ اللّهِ} الآية. 

  • و الرواية مختصرة مستخرجة مما رواه في الدر المنثور، عن زيد بن أسلم مفصلا و روي ما يقرب منها عن ابن عباس و غيره. 

  • و كيف كان، الآيات أقرب انطباقا على ما ذكرنا منها على الرواية كما هو ظاهر، على أن الآيات يذكر الكفر و الإيمان، و شهادة اليهود، و تلاوة آيات الله على المؤمنين، و نحو ذلك، و كل ذلك لما ذكرناه أنسب، و يؤيد ذلك قوله تعالى: {ودّ كثِيرٌ مِنْ أهْلِ الْكِتابِ لوْ يرُدُّونكُمْ مِنْ بعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حسداً مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ} الآيةالبقرة - ١٠٩ فالحق كما ذكرنا أن الآيات متممة لسابقتها. 

  • قوله تعالى: {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ لِم تكْفُرُون بِآياتِ اللّهِ}إلخ، المراد بالآيات بقرينة وحدة السياق حلية الطعام قبل نزول التوراة، و كون القبلة هي الكعبة في الإسلام. 

    1. المجلد الرابع من تفسير المنار: سورة آل عمران - تفسير الآية.

تفسير الميزان ج۳

365
  • قوله تعالى: {قُلْ يا أهْل الْكِتابِ لِم تصُدُّون عنْ سبِيلِ اللّهِ} إلى قوله: {عِوجاً}، الصد الصرف، و قوله: {تبْغُونها} أي تطلبون السبيل، و قوله: {عِوجاً} العوج‌ المعطوف المحرف، و المراد طلب سبيل الله معوجا من غير استقامة. 

  • قوله تعالى: {و أنْتُمْ شُهداءُ}، أي تعلمون أن الطعام كان حلا قبل نزول التوراة و أن من خصائص النبوة تحويل القبلة إلى الكعبة، و قد حاذى في عدهم شهداء في هذه الآية ما في الآية السابقة من عد نفسه تعالى شهيدا على فعلهم و كفرهم، و فيه من اللطف ما لا يخفى فهم شهداء على حقيقة ما ينكرونه و الله شهيد على إنكارهم و كفرهم. و لما نسب الشهادة إليهم في هذه الآية أبدل ما ذيل به الآية السابقة أعني قوله: {و اللّهُ شهِيدٌ على‌ ما تعْملُون} من قوله في ذيل هذه الآية: { و ما اللّهُ بِغافِلٍ عمّا تعْملُون} فأفاد ذلك أنهم شهداء على الحقية، و الله سبحانه شهيد على الجميع. 

  • قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا} إلى قوله: {و فِيكُمْ رسُولُهُ}، المراد بالفريق كما تقدم هم اليهود أو فريق منهم، و قوله تعالى: {و أنْتُمْ تُتْلى‌ عليْكُمْ آياتُ اللّهِ و فِيكُمْ رسُولُهُ} أي يمكنكم أن تعتصموا بالحق الذي يظهر لكم بالإنصات إلى آيات الله و التدبر فيها ثم الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلة التدبر أو الرجوع ابتداء إلى رسوله الذي هو فيكم غير محتجب عنكم و لا بعيد عنكم، و استظهار الحق بالرجوع إليه ثم إبطال شبهة ألقتها اليهود إليكم و التمسك بآيات الله و برسوله و الاعتصام بهما اعتصام بالله، {و منْ يعْتصِمْ بِاللّهِ فقدْ هُدِي إِلى‌ صِراطٍ مُسْتقِيمٍ}

  • فالمراد بالكفر في قوله: {و كيْف تكْفُرُون}، الكفر بعد الإيمان، و قوله: {وأنْتُمْ تُتْلى‌ عليْكُمْ}، كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله و برسوله، و قوله: {و منْ يعْتصِمْ بِاللّهِ}، بمنزلة الكبرى الكلية لذلك و المراد بالهداية إلى صراط مستقيم الاهتداء إلى إيمان ثابت و هو الصراط الذي لا يختلف و لا يتخلف أمره، و يجمع سالكيه في مستواه و لا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلوا. 

  • و في تحقيق الماضي في قوله: {فقدْ هُدِي}، مع حذف الفاعل دلالة على تحقق الفعل من غير شعور بفاعله. 

  • و يتبين من الآية أن الكتاب و السنة كافيان في الدلالة على كل حق يمكن أن يضل فيه. 

  •  

تفسير الميزان ج۳

366
  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٠٢ الی ١١٠] 

  • {يا أيُّها الّذِين آمنُوا اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ و لا تمُوتُنّ إِلاّ و أنْتُمْ مُسْلِمُون ١٠٢ و اِعْتصِمُوا بِحبْلِ اللّهِ جمِيعاً و لا تفرّقُوا و اُذْكُرُوا نِعْمت اللّهِ عليْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أعْداءً فألّف بيْن قُلُوبِكُمْ فأصْبحْتُمْ بِنِعْمتِهِ إِخْواناً و كُنْتُمْ على‌ شفا حُفْرةٍ مِن النّارِ فأنْقذكُمْ مِنْها كذلِك يُبيِّنُ اللّهُ لكُمْ آياتِهِ لعلّكُمْ تهْتدُون ١٠٣ و لْتكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يدْعُون إِلى الْخيْرِ و يأْمُرُون بِالْمعْرُوفِ و ينْهوْن عنِ الْمُنْكرِ و أُولئِك هُمُ الْمُفْلِحُون ١٠٤ و لا تكُونُوا كالّذِين تفرّقُوا و اِخْتلفُوا مِنْ بعْدِ ما جاءهُمُ الْبيِّناتُ و أُولئِك لهُمْ عذابٌ عظِيمٌ ١٠٥ يوْم تبْيضُّ وُجُوهٌ و تسْودُّ وُجُوهٌ فأمّا الّذِين اِسْودّتْ وُجُوهُهُمْ أ كفرْتُمْ بعْد إِيمانِكُمْ فذُوقُوا الْعذاب بِما كُنْتُمْ تكْفُرُون ١٠٦ و أمّا الّذِين اِبْيضّتْ وُجُوهُهُمْ ففِي رحْمتِ اللّهِ هُمْ فِيها خالِدُون ١٠٧ تِلْك آياتُ اللّهِ نتْلُوها عليْك بِالْحقِّ و ما اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالمِين ١٠٨ و لِلّهِ ما فِي السّماواتِ و ما فِي الْأرْضِ و إِلى اللّهِ تُرْجعُ الْأُمُورُ ١٠٩ كُنْتُمْ خيْر أُمّةٍ أُخْرِجتْ لِلنّاسِ تأْمُرُون بِالْمعْرُوفِ و تنْهوْن عنِ الْمُنْكرِ و تُؤْمِنُون بِاللّهِ و لوْ آمن أهْلُ الْكِتابِ لكان خيْراً لهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُون و أكْثرُهُمُ الْفاسِقُون ١١٠} 

تفسير الميزان ج۳

367
  • (بيان)

  • الآيات من تتمة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب و تفتينهم، و أن عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلوا و لا يسقطوا في حفر المهالك، و هي مع ذلك كلام اعتقبه كلام، و لا تغير السياق السابق أعني أن التعرض لحال أهل الكتاب لم يختتم بعد، و الدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات: {لنْ يضُرُّوكُمْ إِلاّ أذىً} إلخ. 

  • قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ}، قد مر فيما مر أن التقوى‌ و هو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنبا و تحرزا من عذابه كما قال تعالى: {فاتّقُوا النّار الّتِي وقُودُها النّاسُ و الْحِجارةُ} البقرة - ٢٤، و ذلك إنما يتحقق بالجري على ما يريده و يرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى، و الانتهاء عن نواهيه، و الشكر لنعمه، و الصبر عند بلائه، و يرجع الأخيران جميعا إلى الشكر بمعنى وضع الشي‌ء موضعه و بالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع و لا يعصى و يخضع له فيما أعطى أو منع. 

  • لكنه إذا أخذ التقوى حق التقوى الذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان محض العبودية التي لا تشوبها إنية و غفلة و هي الطاعة من غير معصية، و الشكر من غير كفر، و الذكر من غير نسيان، و هو الإسلام الحق أعني الدرجة العليا من درجاته، و على هذا يرجع معنى قوله: {و لا تمُوتُنّ إِلاّ و أنْتُمْ مُسْلِمُون} إلى نحو قولنا: و دوموا على هذه الحال (حق التقوى) حتى تموتوا. 

  • و هذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى: {فاتّقُوا اللّه ما اِسْتطعْتُمْ} التغابن - ١٦، فإن هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شي‌ء مما تستطيعونه غير أن الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الأشخاص و أفهامهم‌ و هممهم، و لا ريب أن حق التقوى بالمعنى الذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس، فإن في هذا المسير الباطني مواقف و معاهد و مخاطر لا يعقلها إلا العالمون، و دقائق و لطائف لا يتنبه لها إلا المخلصون، فرب مرحلة من مراحل التقوى لا يصدق الفهم العامي بكونها مما تستطيعه النفس الإنسانية فيجزم بكونها غير مستطاعة و إن كان أهل التقوى الحقة خلفوها وراء ظهورهم، و أقبلوا بهممهم على ما هو أشق و أصعب. 

  • فقوله: {فاتّقُوا اللّه ما اِسْتطعْتُمْ} (الآية) كلام يتلقاه الأفهام المختلفة بمعان مختلفة على 

تفسير الميزان ج۳

368
  • حسب ما يطبقه كل فهم على ما يستطيعه صاحبه ثم يكون ذلك وسيلة ليفهم من هذه الآية أعني قوله: ‌{ اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ و لا تمُوتُنّ إِلاّ و أنْتُمْ مُسْلِمُون} أن المراد أن يقعوا في صراط حق التقوى، و يقصدوا نيل هذا المقام و الشخوص و المثول فيه، و ذلك نظير الاهتداء إلى الصراط المستقيم الذي لا يتمكن منه إلا الأوحديون، و مع ذلك يدعى إليه جميع الناس، فيكون محصل الآيتين: {اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ}{فاتّقُوا اللّه ما اِسْتطعْتُمْ}) أن يندب جميع الناس و يدعوا إلى حق التقوى ثم يؤمروا بالسير إلى هذا المقصد ما قدروا و استطاعوا، و ينتج ذلك أن يقع الجميع في صراط التقوى إلا أنهم في مراحل مختلفة، و على درجات مختلفة على طبق ما عندهم من الأفهام و الهمم، و على ما يفاض‌ عليهم من توفيق الله و تأييده و تسديده، فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين. 

  • و منه يظهر: أن الآيتين غير مختلفتين بحسب المضمون، و لا أن الآية الأولى أعني قوله: {اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ} الآية، أريد بها عين ما أريد من قوله: {فاتّقُوا اللّه ما اِسْتطعْتُمْ} (الآية) بل الآية الأولى تدعو إلى المقصد و الثانية تبين كيفية السلوك. 

  • قوله تعالى: {و لا تمُوتُنّ إِلاّ و أنْتُمْ مُسْلِمُون} الموت من الأمور التكوينية التي هي خارجة عن حومة اختيارنا، و لذلك يكون الأمر و النهي المتعلقان به و بأمثاله أمرا و نهيا تكوينيين كقوله: {فقال لهُمُ اللّهُ مُوتُوا} البقرة - ٢٤٣، و قوله: {أنْ يقُول لهُ كُنْ فيكُونُ} يس - ٨٢، إلا أنه ربما يجعل الأمر غير الاختياري مضافا إلى أمر اختياري فيتركبان بنحو و ينسب المركب إلى الاختيار فيتأتى الأمر و النهي الاعتباري حينئذ كقوله تعالى: {فلا تكُوننّ مِن الْمُمْترِين} البقرة - ١٤٧، و قوله: {و لا تكُنْ مع الْكافِرِين} هود - ٤٢، و قوله: {و كُونُوا مع الصّادِقِين} التوبة - ١١٩، و غير ذلك، فإن أصل الكون لازم تكويني للإنسان لا أثر لاختياره فيه لكنه بارتباطه بأمر اختياري كالامتراء و الكفر و التزام الصدق مثلا يعد أمرا اختياريا فيؤمر به و ينهى عنه أمرا و نهيا مولويين. 

  • و بالجملة النهي عن الموت إلا مع الإسلام إنما هو لمكان عده اختياريا و يرجع بالأخرة إلى الكناية عن لزوم التزام الإسلام في جميع الحالات حتى يقع الموت في واحدة من هذه الحالات، فيكون الميت مات في حال الإسلام. 

  • قوله تعالى: {و اِعْتصِمُوا بِحبْلِ اللّهِ جمِيعاً و لا تفرّقُوا}، ذكر سبحانه فيما مر 

تفسير الميزان ج۳

369
  • من قوله: {و كيْف تكْفُرُون و أنْتُمْ تُتْلى‌ عليْكُمْ آياتُ اللّهِ و فِيكُمْ رسُولُهُ و منْ يعْتصِمْ بِاللّهِ} الآية أن التمسك بآيات الله و برسوله (الكتاب و السنة) اعتصام بالله مأمون معه المتمسك المعتصم، مضمون له الهدى، و التمسك بذيل الرسول تمسك بذيل الكتاب فإن الكتاب هو الذي يأمر بذلك في مثل قوله {و ما آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ و ما نهاكُمْ عنْهُ فانْتهُوا} الحشر - ٧. 

  • و قد بدل في هذه الآية الاعتصام المندوب إليه في تلك الآية بالاعتصام بحبل الله فأنتج ذلك أن حبل الله هو الكتاب المنزل من عند الله، و هو الذي يصل ما بين العبد و الرب و يربط السماء بالأرض، و إن شئت قلت: إن حبل الله هو القرآن و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقد عرفت أن مآل الجميع واحد. 

  • و القرآن و إن لم يدع إلا إلى حق التقوى و الإسلام الثابت لكن غرض هذه الآية غير غرض الآية السابقة الآمرة بحق التقوى و الموت على الإسلام فإن الآية السابقة تتعرض لحكم الفرد، و هذه الآية تتعرض لحكم الجماعة المجتمعة و الدليل عليه قوله: {جمِيعاً} و قوله: {و لا تفرّقُوا}؛ فالآيات تأمر المجتمع الإسلامي بالاعتصام بالكتاب و السنة كما تأمر الفرد بذلك. 

  • قوله تعالى: {و اُذْكُرُوا نِعْمت اللّهِ عليْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أعْداءً فألّف بيْن قُلُوبِكُمْ فأصْبحْتُمْ بِنِعْمتِهِ إِخْواناً}جملة {إِذْ كُنْتُمْ}، بيان لما ذكر من النعمة، و عليه يعطف قوله: {و كُنْتُمْ على‌ شفا حُفْرةٍ مِن النّارِ فأنْقذكُمْ مِنْها}

  • و الأمر بذكر هذه النعمة مبني على ما عليه دأب‌ القرآن أن يضع تعليمه على بيان العلل و الأسباب، و يدعو إلى الخير و الهدى من وجهه من غير أن يأمر بالتقليد العامي المعمي، و حاشا التعليم الإلهي أن يهدي الناس إلى السعادة و هي العلم النافع و العمل الصالح ثم يأمر بالوقوع في تيه التقليد و ظلمة الجهل. 

  • لكن يجب أن لا يشتبه الأمر و لا يختلط الحال على المتدبر الباحث، فالله سبحانه يعلم الناس حقيقة سعادتهم، و يعلم الوجه فيها ليتبصروا بارتباط الحقائق بعضها ببعض، و أن الجميع فائضة من منبع التوحيد مع وجوب إسلامهم لله لأنه الله رب العالمين 

تفسير الميزان ج۳

370
  • و اعتصامهم بحبله لأنه حبل الله رب العالمين كما يومئ إليه ما في آخر الآيات من قوله: {تِلْك آياتُ اللّهِ نتْلُوها عليْك}، الآيتان. 

  • و بالجملة هو أمرهم أن لا يقبلوا قولا، و لا يطيعوا أمرا إلا عن علم بوجهه، ثم أمرهم بالتسليم المطلق لنفسه و بين وجهه أنه هو الله الذي يملكهم على الإطلاق فليس لهم إلا ما أراده فيهم و تصرف فيه منهم، و أمرهم بالطاعة المطلقة لما يبلغه رسوله و بين وجهه بأنه رسول لا شأن له إلا البلاغ، ثم يكلمهم بحقائق المعارف، و بيان طرق السعادة، و بين الوجه العام في جميع ذلك ليهتدوا إلى روابط المعارف و طرق‌ السعادة فيتحققوا أصل التوحيد، و ليتأدبوا بهذا الأدب الإلهي فيتسلطوا على سبيل التفكر الصحيح، و يعرفوا طريق التكلم الحق فيكونوا أحياء بالعلم أحرارا من التقليد، و نتيجة ذلك أنهم لو عرفوا وجه الأمر في شي‌ء من المعارف الثابتة الدينية أو ما يلحق بها أخذوا به، و لو لم يعرفوا وقفوا عن الرد و رجعوا نيله بالبحث و التدبر من غير رد أو اعتراض بعد ثبوته. 

  • و هذا غير أن يقال: إن الدين موضوع على أن لا يقبل شي‌ء حتى من الله و رسوله إلا عن دليل فإن ذلك من أسفه الرأي و أردإ القول، و مرجعه إلى أن الله يريد من عباده أن يطالبوا الدليل بعد وجوده فإن ربوبيته و ملكه أصل كل دليل على وجوب التسليم و نفوذ الحكم. و رسالة رسوله هو الدليل على أن ما يؤديه عن الله سبحانه فافهم ذلك، أو مرجعه إلى إلغاء ربوبيته فيما يتصرف فيه بربوبيته و ليس إلا التناقض، و الحاصل أن المسلك الإسلامي و الطريق النبوي ليس إلا الدعوة إلى العلم دون التقليد على ما يزعمه هؤلاء المقلدة المتسمون بالناقدين. 

  • و لعل الوجه في ذكر أن هذا المذكور نعمة - {نِعْمت اللّهِ عليْكُمْ} - هو الإشارة إلى ما ذكرناه أي إن الدليل على ما ندبناكم إليه من الاتحاد و الاجتماع هو ما شاهدتموه من مرارة العداوة و حلاوة المحبة و الألفة و الأخوة و الإشراف على حفرة النار و التخلص منها، و إنما نذكركم بهذا الدليل لا لأن علينا أن نؤيد قولنا بما لولاه لم يكن حقا فإنما قولنا حق سواء دللنا عليه أو لا، بل لأن تعلموا أن ذلك نعمة منا عليكم فتعرفوا أن في هذا الاجتماع‌ كسائر ما نندبكم إليه سعادتكم و راحتكم و مفازتكم. 

  • و ما ذكره تعالى من الدليلين أحدهما و هو قوله: {إِذْ كُنْتُمْ أعْداءً}، مبتن على أصل 

تفسير الميزان ج۳

371
  • التجربة، و الثاني و هو قوله: {و كُنْتُمْ على‌ شفا حُفْرةٍ}، على طريقة البيان العقلي كما هو ظاهر. 

  • و في قوله: {فأصْبحْتُمْ بِنِعْمتِهِ إِخْواناً} تكرار للامتنان الذي يدل عليه قوله: {و اُذْكُرُوا نِعْمت اللّهِ عليْكُمْ}، و المراد بالنعمة هو التأليف فالمراد بالأخوة التي توجده و تحققه هذه النعمة أيضا تألف القلوب فالأخوة هاهنا حقيقة ادعائية. 

  • و يمكن أن يكون إشارة إلى ما يشتمل عليه قوله: {إِنّما الْمُؤْمِنُون إِخْوةٌ} (الآية) الحجرات - ١٠، من تشريع الأخوة بينهم فإن بين المؤمنين أخوة مشرعة تتعلق بها حقوق هامة. 

  • قوله تعالى: {و كُنْتُمْ على‌ شفا حُفْرةٍ مِن النّارِ فأنْقذكُمْ مِنْها}، شفا الحفرة، طرفها الذي يشرف على السقوط فيها من كان به. 

  • و المراد من النار إن كان نار الآخرة فالمراد بكونهم على شفا حفرتها أنهم كانوا كافرين ليس بينهم و بين الوقوع فيها إلا الموت الذي هو أقرب إلى الإنسان من سواد العين إلى بياضها فأنقذهم الله منها بالإيمان. 

  • و إن كان المراد بيان حالهم في مجتمعهم الفاسد الذي كانوا فيه قبل إيمانهم و تألف قلوبهم، و كان المراد بالنار هي الحروب و المنازعات - و هو من الاستعمالات الشائعة بطريق الاستعارة - فالمقصود أن المجتمع الذي بني على تشتت القلوب و اختلاف المقاصد و الأهواء، و لا محالة لا يسير مثل هذا المجتمع بدليل واحد يهديهم إلى غاية واحدة بل بأدلة شتى تختلف باختلاف الميول الشخصية و التحكمات الفردية اللاغية التي تهديهم إلى أشد الخلاف و الاختلاف يشرفهم إلى أردإ التنازع، و يهددهم دائما بالقتال و النزال، و يعدهم الفناء و الزوال، و هي النار التي لا تبقى و لا تذر على حفرة الجهالة التي لا منجا و لا مخلص للساقط فيها. 

  • فهؤلاء هم طائفة من المسلمين كانوا آمنوا قبل نزول الآية بعد كفرهم، و هم المخاطبون الأقربون بهذه الآيات لم يكونوا يعيشون مدى حيوتهم قبل الإسلام إلا في حال تهددهم الحروب و المقاتلات آنا بعد آن، فلا أمن و لا راحة و لا فراغ، و لم يكونوا يفقهون ما حقيقة الأمن العام الذي يعم المجتمع بجميع جهاتها من جاه و مال و عرض و نفس و غير ذلك. 

تفسير الميزان ج۳

372
  • ثم لما اجتمعوا على الاعتصام بحبل الله، و لاحت لهم آيات السعادة، و ذاقوا شيئا من حلاوة النعم وجدوا صدق ما يذكرهم به الله من هني‌ء النعمة و لذيذ السعادة فكان الخطاب أوقع في نفوسهم و نفوس غيرهم. 

  • و لذلك بني الكلام و وضعت الدعوة على أساس المشاهدة و الوجدان دون مجرد التقدير و الفرض فليس العيان كالبيان، و لا التجارب كالفرض و التقدير، و لذلك بعينه أشار في التحذير الآتي في قوله: {و لا تكُونُوا كالّذِين تفرّقُوا و اِخْتلفُوا}إلخ إلى حال من قبلهم فإن مآل حالهم بمرأى و مسمع من المؤمنين فعليهم أن يعتبروا بهم و بما آل إليه أمرهم فلا يجروا مجراهم و لا يسلكوا مسلكهم. 

  • ثم نبههم الله على خصوصية هذا البيان فقال: {كذلِك يُبيِّنُ اللّهُ لكُمْ آياتِهِ لعلّكُمْ تهْتدُون}

  • قوله تعالى: {و لْتكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يدْعُون إِلى الْخيْرِ و يأْمُرُون بِالْمعْرُوفِ و ينْهوْن عنِ الْمُنْكرِ} إلخ، التجربة القطعية تدل على أن المعلومات التي يهيئها الإنسان لنفسه في حياته - و لا يهيئ و لا يدخر لنفسه إلا ما ينتفع به - من أي طريق هيأها و بأي وجه ادخرها تزول عنه إذا لم يذكرها و لم يدم على تكرارها بالعمل، و لا نشك أن العمل في جميع شئونه يدور مدار العلم يقوى بقوته، و يضعف بضعفه و يصلح بصلاحه، و يفسد بفساده، و قد مثل الله سبحانه حالهما في قوله: {الْبلدُ الطّيِّبُ يخْرُجُ نباتُهُ بِإِذْنِ ربِّهِ و الّذِي خبُث لا يخْرُجُ إِلاّ نكِداً} (الآية) الأعراف - ٥٨. 

  • و لا نشك أن العلم و العمل متعاكسان في التأثير فالعلم أقوى داع إلى العمل و العمل الواقع المشهود أقوى معلم يعلم الإنسان. 

  • و هذا الذي ذكر هو الذي يدعو المجتمع الصالح الذي عندهم العلم النافع و العمل الصالح أن يتحفظوا على معرفتهم و ثقافتهم، و أن يردوا المتخلف عن طريق الخير المعروف عندهم إليه، و أن لا يدعوا المائل عن طريق الخير المعروف و هو الواقع في مهبط الشر المنكر عندهم أن يقع في مهلكة الشر و ينهوه عنه. 

  • و هذه هي الدعوة بالتعليم و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هي التي يذكرها الله في هذه الآية بقوله: {يدْعُون إِلى الْخيْرِ و يأْمُرُون بِالْمعْرُوفِ و ينْهوْن عنِ الْمُنْكرِ}

تفسير الميزان ج۳

373
  • و من هنا يظهر السر في تعبيره تعالى عن الخير و الشر بالمعروف و المنكر فإن الكلام مبني على ما في الآية السابقة من قوله: {و اِعْتصِمُوا بِحبْلِ اللّهِ جمِيعاً و لا تفرّقُوا} إلخ. و من المعلوم أن المجتمع الذي هذا شأنه يكون المعروف فيه هو الخير، و المنكر فيه هو الشر، و لو لا العبرة بهذه النكتة لكان الوجه في تسمية الخير و الشر بالمعروف و المنكر كون الخير و الشر معروفا و منكرا بحسب نظر الدين لا بحسب العمل الخارجي. 

  • و أما قوله: {و لْتكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ}، فقد قيل: إن من للتبعيض بناء على أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و كذا الدعوة من الواجبات الكفائية. 

  • و ربما قيل: إن من بيانية و المراد منه و لتكونوا بهذا الاجتماع الصالح أمة يدعون إلى الخير فيجري الكلام على هذا مجرى قولنا: ليكن لي منك صديق أي كن صديقا لي. و الظاهر أن المراد بكون من بيانية كونها نشوئية ابتدائية. 

  • و الذي ينبغي أن يقال: أن البحث في كون من تبعيضية أو بيانية لا يرجع إلى ثمرة محصلة فإن الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أمور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائية إذ لا معنى للدعوة و الأمر و النهي المذكورات بعد حصول الغرض فلو فرضت الأمة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان معناه أن فيهم من يقوم بهذه الوظائف فالأمر قائم بالبعض على أي حال، و الخطاب إن كان للبعض فهو ذاك، و إن كان للكل كان أيضا باعتبار البعض، و بعبارة أخرى المسئول بها الكل و المثاب بها البعض، و لذلك‌ عقبه بقوله: {و أُولئِك هُمُ الْمُفْلِحُون} فالظاهر أن من تبعيضية، و هو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين و لا يصار إلى غيره إلا بدليل. 

  • و اعلم أن هذه الموضوعات الثلاثة أعني الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ذوات أبحاث تفسيرية طويلة عميقة سنتعرض لها في موضع آخر يناسبها إن شاء الله تعالى. و كذا ما يتعلق بها من الأبحاث العلمية و النفسية و الاجتماعية. 

  • قوله تعالى: {و لا تكُونُوا كالّذِين تفرّقُوا و اِخْتلفُوا مِنْ بعْدِ ما جاءهُمُ الْبيِّناتُ}. لا يبعد أن يكون قوله: {مِنْ بعْدِ ما جاءهُمُ الْبيِّناتُ} متعلقا بقوله: {و اِخْتلفُوا} فقط؛ و حينئذ كان المراد بالاختلاف التفرق من حيث الاعتقاد و بالتفرق الاختلاف و التشتت 

تفسير الميزان ج۳

374
  • من حيث الأبدان و قدم التفرق على الاختلاف لأنه كالمقدمة المؤدية إليه لأن القوم مهما كانوا مجتمعين متواصلين اتصلت عقائد بعضهم ببعض و اتحدت بالتماس و التفاعل، و حفظهم ذلك من الاختلاف فإذا تفرقوا و انقطع بعضهم عن بعض أداهم ذلك إلى اختلاف المشارب و المسالك، و لم يلبثوا دون أن يستقل أفكارهم و آراؤهم بعضها عن بعض، و برز فيهم الفرقة، و انشق عصا الوحدة فكأنه تعالى يقول: و لا تكونوا كالذين تفرقوا بالأبدان أولا، و خرجوا من الجماعة، و أفضاهم ذلك إلى اختلاف العقائد و الآراء أخيرا. 

  • و قد نسب تعالى هذا الاختلاف في موارد من كلامه إلى البغي. قال تعالى: {و ما اِخْتلف فِيهِ إِلاّ الّذِين أُوتُوهُ مِنْ بعْدِ ما جاءتْهُمُ الْبيِّناتُ بغْياً بيْنهُمْ} البقرة - ٢١٣، مع أن ظهور الاختلاف في العقائد و الآراء ضروري بين الأفراد لاختلاف الأفهام لكن كما أن ظهور هذا الاختلاف ضروري كذلك دفع الاجتماع لذلك، و رده المختلفين إلى ساحة الاتحاد أيضا ضروري فرفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة، و إعراض الأمة عن ذلك بغي منهم، و إلقاء لأنفسهم في تهلكة الاختلاف. 

  • و قد أكد القرآن الدعوة إلى الاتحاد، و بالغ في النهي عن الاختلاف، و ليس ذلك إلا لما كان يتفرس من أمر هذه الأمة، أنهم سيختلفون كالذين من قبلهم بل يزيدون عليهم في ذلك، و قد تقدم مرارا أن من دأب القرآن أنه إذا بالغ في التحذير عن شي‌ء و النهي عن اقترافه كان ذلك آية وقوعه و ارتكابه، و هذا أمر أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أيضا كما أخبر به القرآن، و أن الاختلاف سيدب في أمته ثم يظهر في صورة الفرق المتنوعة، و أن أمته ستختلف كما اختلفت اليهود و النصارى من قبل و سيجي‌ء الرواية في البحث الروائي. 

  • و قد صدق جريان الحوادث هذه الملحمة القرآنية فلم تلبث الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)دون أن تفرقوا شذر مدر، و اختلفوا في مذاهب شتى بعضهم يكفر بعضا من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا، و كلما رام أحد أن يوفق بين مختلفين منها أولد ذلك مذهبا ثالثا. 

  • و الذي يهدينا إليه البحث بالتحليل و التجزية أن أصل هذا الاختلاف ينتهي إلى المنافقين الذين يغلظ القرآن القول فيهم و عليهم و يستعظم مكرهم و كيدهم فإنك لو 

تفسير الميزان ج۳

375
  • تدبرت ما يذكره الله تعالى في حقهم في سور البقرة و التوبة و الأحزاب و المنافقين و غيرها لرأيت عجبا، و كان هذا حالهم في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لما ينقطع الوحي ثم لما توفاه الله غاب ذكرهم و سكنت أجراسهم دفعة. 

  • كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا***أنيس و لم يسمر بمكة سامر
  • و لم يلبث الناس دون أن وجدوا أنفسهم و قد تفرقوا أيادي سبإ، و باعدت بينهم شتى المذاهب، و استعبدتهم حكومات التحكم و الاستبداد، و أبدلوا سعادة الحيوة بشقاء الضلال و الغي. و الله المستعان، و المرجو من فضل الله أن يوفقنا لاستيفاء هذا البحث في تفسير سورة البراءة إن شاء الله. 

  • قوله تعالى: {يوْم تبْيضُّ وُجُوهٌ و تسْودُّ وُجُوهٌ} إلى آخر الآيتين، لما كان المقام مقام الكفر بالنعمة و هو نظير الخيانة مما يوجب خسة الانفعال و الخجل ذكر سبحانه من بين أنواع عذاب الآخرة ما يناسبها بحسب التمثيل و هو سواد الوجه الذي يكنى به في الدنيا عن الانفعال و الخجل و نحوهما كما يشعر أو يدل على ذلك قوله تعالى: {فأمّا الّذِين اِسْودّتْ وُجُوهُهُمْ أ كفرْتُمْ بعْد إِيمانِكُمْ}

  • و كذا ذكر من ثواب الشاكرين لهذه النعمة ما يناسب الشكر و هو بياض الوجه المكنى به في الدنيا عن الارتضاء و الرضا. 

  • قوله تعالى: {تِلْك آياتُ اللّهِ نتْلُوها عليْك بِالْحقِّ}، الظرف متعلق بقوله: {نتْلُوها}، و المراد كون التلاوة تلاوة حق من غير أن يكون باطلا شيطانيا، أو متعلق بالآيات باستشمام معنى الوصف فيه أو مستقر متعلق بمقدر، و المعنى أن هذه الآيات الكاشفة عن ما يصنع الله بالطائفتين: الكافرين و الشاكرين مصاحبة للحق من غير أن تجري على نحو الباطل و الظلم، و هذا الوجه أوفق لما يتعقبه من قوله: {و ما اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً}

  • قوله تعالى: {و ما اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالمِين}، تنكير الظلم و هو في سياق النفي يفيد الاستغراق، و ظاهر قوله: {لِلْعالمِين} و هو جمع محلى باللام أن يفيد الاستغراق، و المعنى على هذا أن الله لا يريد ظلما أي ظلم فرض لجميع العالمين، و كافة الجماعات، و هو كذلك فإنما التفرق بين الناس أمر يعود أثره المشئوم إلى جميع العالمين و كافة الناس. 

  • قوله تعالى: {و لِلّهِ ما فِي السّماواتِ و ما فِي الْأرْضِ و إِلى اللّهِ تُرْجعُ الْأُمُورُ}، لما ذكر أن 

تفسير الميزان ج۳

376
  • الله لا يريد الظلم علل ذلك بما يزول معه توهم صدور الظلم فذكر أن الله تعالى يملك جميع الأشياء من جميع الجهات فله أن يتصرف فيها كيف يشاء فلا يتصور في حقه التصرف فيما لا يملكه حتى يكون ظلما و تعديا. 

  • على أن الشخص إنما ينحو الظلم إذا كان له حاجة لا يتمكن من رفعها إلا بالتعدي على ما لا يملكه، و الله الغني الذي له ما في السماوات و الأرض هذا ما قرره بعضهم لكنه لا يلائم ظاهر الآية فإن هذا الجواب يبتني بالحقيقة على غناه تعالى دون ملكه، و المذكور في الآية هو الملك دون الغنى، و كيف كان فملكه دليل أنه تعالى ليس بظالم. 

  • و هناك دليل آخر و هو أن مرجع جميع الأمور أيا ما كانت إليه تعالى فليس لغيره تعالى من الأمر شي‌ء حتى يسلبه الله عنه و ينتزعه من يده و يجري فيه إرادة نفسه فيكون بذلك ظالما، و هذا هو الذي يشير إليه قوله: {و إِلى اللّهِ تُرْجعُ الْأُمُورُ}

  • و الوجهان كما ترى متلازمان أحدهما مبني على أن كل شي‌ء له تعالى و الثاني مبني على أن شيئا من الأمور ليس لغيره تعالى. 

  • قوله تعالى: {كُنْتُمْ خيْر أُمّةٍ أُخْرِجتْ لِلنّاسِ}، المراد بإخراج الأمة للناس (و الله أعلم) إظهارها لهم، و مزية هذه اللفظة (الإخراج) أن فيها إشعارا بالحدوث و التكون قال تعالى: {الّذِي أخْرج الْمرْعى‌} الأعلى - ٤، و الخطاب للمؤمنين فيكون قرينة على أن المراد بالناس عامة البشر و الفعل أعني قوله: {كُنْتُمْ} منسلخ عن الزمان على ما قيل و الأمة إنما تطلق على الجماعة و الفرد لكونهم ذوي هدف و مقصد يؤمرونه و يقصدونه، و ذكر الإيمان بالله بعد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من قبيل ذكر الكل بعد الجزء أو الأصل بعد الفرع. 

  • فمعنى الآية أنكم معاشر المسلمين خير أمة أظهرها الله للناس بهدايتها لأنكم على الجماعة تؤمنون بالله و تأتون بفريضتي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و من المعلوم أن انبساط هذا التشريف على جميع الأمة لكون البعض متصفين بحقيقة الإيمان و القيام بحق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هذا محصل ما ذكروه في المقام. 

  • و الظاهر (و الله أعلم) أن قوله: {كُنْتُمْ} غير منسلخ عن الزمان و الآية تمدح حال 

تفسير الميزان ج۳

377
  • المؤمنين في أول ظهور الإسلام من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار، و المراد بالإيمان هو الإيمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل الله و عدم التفرق فيه في مقابل الكفر به على ما يدل عليه قوله قبل: {أ كفرْتُمْ بعْد إِيمانِكُمْ} الآية، و كذا المراد بإيمان أهل الكتاب ذلك أيضا فيئول المعنى إلى أنكم معاشر أمة الإسلام كنتم في أول ما تكونتم و ظهرتم للناس خير أمة ظهرت لكونكم تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تعتصمون بحبل الله متفقين متحدين كنفس واحدة، و لو كان أهل الكتاب على هذا الوصف أيضا لكان خيرا لهم لكنهم اختلفوا منهم أمة مؤمنون و أكثرهم فاسقون. 

  • و اعلم أن في الآيات موارد من التفات من الغيبة إلى الخطاب و من خطاب الجمع إلى خطاب المفرد و بالعكس، و فيها موارد من وضع الظاهر موضع الضمير كتكرر لفظ الجلالة في عدة مواضع، و النكتة في الجميع ظاهرة للمتأمل. 

  • (بحث روائي)

  • في المعاني، و تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)عن قول الله عز و جل: {اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ} قال: يطاع فلا يعصى، و يذكر فلا ينسى، و يشكر فلا يكفر.

  • و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و ابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ} أن يطاع فلا يعصى، و يذكر فلا ينسى.

  • و فيه، أخرج الخطيب عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه. 

  • أقول: قد مر في البيان المتقدم كيفية استفادة معنى الحديثين الأولين من الآية، و أما الحديث الثالث فإنما هو تفسير بلازم المعنى، و هو ظاهر.

  • و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع، عن عبد خير قال: سألت علي بن أبي طالب عن قوله: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ} قال: و الله ما عمل بها غير بيت رسول الله نحن ذكرناه فلا ننساه، و نحن شكرناه فلن نكفره، و نحن أطعناه فلم نعصه. فلما نزلت هذه الآية قال الصحابة لا نطيق ذلك فأنزل الله: 

تفسير الميزان ج۳

378
  • {فاتّقُوا اللّه ما اِسْتطعْتُمْ} قال وكيع: ما أطقتم‌ (الحديث).

  • و في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)عن قول الله: {اِتّقُوا اللّه حقّ تُقاتِهِ}، قال: منسوخة، قلت و ما نسختها؟ قال: قول الله: {فاتّقُوا اللّه ما اِسْتطعْتُمْ}

  • أقول: و يستفاد من رواية وكيع أن المراد بالنسخ في رواية العياشي بيان مراتب التقوى، و أما النسخ بمعناه المصطلح كما نقل عن بعض المفسرين فهو معنى يرده ظاهر الكتاب.

  • و في المجمع، عن الصادق (عليه السلام): في الآية: و أنتم مسلمون بالتشديد.

  • و في الدر المنثور: في قوله تعالى: {و اِعْتصِمُوا بِحبْلِ اللّهِ جمِيعاً} (الآية) أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض.

  • و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله، و طرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تزالوا و لن تضلوا بعده أبدا.

  • و في المعاني، عن السجاد (عليه السلام)في حديث: و حبل الله هو القرآن.

  • أقول: و في هذا المعنى روايات أخرى من طرق الفريقين.

  • و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): آل محمد هم حبل الله الذي أمر بالاعتصام به فقال: {و اِعْتصِمُوا بِحبْلِ اللّهِ جمِيعاً و لا تفرّقُوا}

  • أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و قد تقدم في البيان ما يتأيد به معناها، و يؤيدها أيضا ما يأتي من الروايات.

  • و في الدر المنثور، أخرج الطبراني عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إني لكم فرط، و إنكم واردون علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟ قيل: و ما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الأكبر كتاب الله عز و جل سبب طرفه بيد الله، و طرفه بأيديكم فتمسكوا به لن تزالوا و لن تضلوا، و الأصغر عترتي، و إنهما لن يفترقا 

تفسير الميزان ج۳

379
  • حتى يردا علي الحوض. و سألت لهما ذاك ربي فلا تقدموهما فتهلكوا، و لا تعلموهما فإنهما أعلم منكم. 

  • أقول: و حديث الثقلين من المتواترات التي أجمع على روايتها الفريقان، و قد تقدم في أول السورة أن بعض علماء الحديث أنهى رواته من الصحابة إلى خمس و ثلاثين راويا من الرجال و النساء، و قد رواه عنهم جم غفير من الرواة و أهل الحديث.

  • و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن ماجة و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن، أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): افترقت بنو إسرائيل على إحدى و سبعين فرقة، و إن أمتي ستفترق على اثنتين و سبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة قالوا: يا رسول الله و من هذه الواحدة؟ قال: الجماعة، ثم قال: {اِعْتصِمُوا بِحبْلِ اللّهِ جمِيعاً} 

  • أقول: و الرواية أيضا من المشهورات، و قد روتها الشيعة بنحو آخر كما في الخصال، و المعاني، و الاحتجاج، و الأمالي، و كتاب سليم بن قيس، و تفسير العياشي، و اللفظ كما في الخصال، بإسناده إلى سليمان بن مهران عن جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام)قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إن أمة موسى افترقت بعده على إحدى و سبعين فرقة، فرقة منها ناجية، و سبعون في النار، و افترقت أمة عيسى بعده على اثنتين و سبعين فرقة، فرقة منها ناجية، و إحدى و سبعون في النار، و إن أمتي ستفترق بعدي على ثلاث و سبعين فرقة، فرقة منها ناجية، و اثنتان و سبعون في النار. 

  • أقول: و هي الموافقة لما يأتي.

  • و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و صححه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (عليه السلام): افترقت اليهود على إحدى و سبعين فرقة، و تفرقت النصارى على اثنتين و سبعين فرقة، و تفترق أمتي على ثلاث و سبعين فرقة. 

  • أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخرى عن معاوية و غيره.

  • و فيه، أخرج الحاكم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من نكح أمه علانية كان في أمتي مثله إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى و سبعين ملة، و تفترق أمتي على 

تفسير الميزان ج۳

380
  • ثلاث و سبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة، فقيل له: ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه اليوم و أصحابي). 

  • أقول: و عن جامع الأصول، لابن الأثير عن الترمذي عن ابن عمرو بن العاص عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): مثله.

  • و في كمال الدين، بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن الصادق عن آبائه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كل ما كان في الأمم السالفة فإنه يكون في هذه الأمة مثله حذو النعل بالنعل، و القذة بالقذة.

  • و في تفسير القمي، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، و القذة بالقذة، لا تخطئون طريقهم و لا يخطأ، شبر بشبر، و ذراع بذراع، و باع بباع‌، حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود و النصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة، و آخره الصلوة.

  • و عن جامع الأصول، فيما استخرجه من الصحاح، و عن صحيح الترمذي، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: و الذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم (و زاد رزين) حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتى إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم فلا أدري أ تعبدون العجل أم لا؟. 

  • أقول: و هذه الرواية أيضا من المشهورات، رواها أهل السنة في صحاحهم و غيرهم، و روتها الشيعة في جوامعهم.

  • و في الصحيحين، عن أنس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)قال: ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا اختلجوا دوني، فلأقولن: أي رب أصحابي فليقالن إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

  • و في الصحيحين، أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)قال: يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي أو قال من أمتي فيحلئون عن الحوض فأقول: يا رب أصحابي فيقول: لا علم لك بما أحدثوا بعدك ارتدوا على أعقابهم القهقرى فيحلئون.

  • أقول: و هذا الحديث أيضا من المشهورات، رواها الفريقان في صحاحهم 

تفسير الميزان ج۳

381
  • و جوامعهم عن عدة من الصحابة كابن مسعود و أنس و سهل بن ساعد و أبي هريرة و أبي سعيد الخدري و عائشة و أم سلمة و أسماء بنت أبي بكر و غيرهم و عن بعض أئمة أهل البيت (عليه السلام). 

  • و الروايات على كثرتها و تفننها تصدق ما استفدناه من ظاهر الآيات الكريمة، و توالي الحوادث و الفتن يصدق الروايات.

  • و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)قال: من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه، و من مات و ليس عليه إمام جماعة فإن موتته ميتة جاهلية. 

  • أقول: و الرواية أيضا من المشهورات مضمونا، و قد روى الفريقان عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)أنه قال: من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.

  • و عن جامع الأصول، من الترمذي و سنن أبي داود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لا تزال طائفة من أمتي على الحق.

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {أ كفرْتُمْ بعْد إِيمانِكُمْ} (الآية) عن أمير المؤمنين (عليه السلام): هم أهل البدع و الأهواء و الآراء الباطلة من هذه الأمة.

  • و فيه، و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خيْر أُمّةٍ أُخْرِجتْ لِلنّاسِ} (الآية) عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق (عليه السلام)قال: يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم، و هم الأمة التي بعث الله فيها و منها و إليها، و هم الأمة الوسطى، و هم خير أمة أخرجت للناس.

  • أقول: و قد مر الكلام في توضيح معنى الرواية في تفسير قوله تعالى: {و مِنْ ذُرِّيّتِنا أُمّةً مُسْلِمةً لك} البقرة - ١٢٨.

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر: {كُنْتُمْ خيْر أُمّةٍ أُخْرِجتْ لِلنّاسِ} قال: أهل بيت النبي‌ (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • و فيه، أخرج أحمد بسند حسن عن علي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أعطيت ما لم 

تفسير الميزان ج۳

382
  • يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب، و أعطيت مفاتيح الأرض، و سميت أحمد، و جعل التراب لي طهورا، و جعلت أمتي خير الأمم‌.

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١١١ الی ١٢٠]

  • {لنْ يضُرُّوكُمْ إِلاّ أذىً و إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُولُّوكُمُ الْأدْبار ثُمّ لا يُنْصرُون ١١١ ضُرِبتْ عليْهِمُ الذِّلّةُ أيْن ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحبْلٍ مِن اللّهِ و حبْلٍ مِن النّاسِ و باؤُ بِغضبٍ مِن اللّهِ و ضُرِبتْ عليْهِمُ الْمسْكنةُ ذلِك بِأنّهُمْ كانُوا يكْفُرُون بِآياتِ اللّهِ و يقْتُلُون الْأنْبِياء بِغيْرِ حقٍّ ذلِك بِما عصوْا و كانُوا يعْتدُون ١١٢ ليْسُوا سواءً مِنْ أهْلِ الْكِتابِ أُمّةٌ قائِمةٌ يتْلُون آياتِ اللّهِ آناء اللّيْلِ و هُمْ يسْجُدُون ١١٣ يُؤْمِنُون بِاللّهِ و الْيوْمِ الْآخِرِ و يأْمُرُون بِالْمعْرُوفِ و ينْهوْن عنِ الْمُنْكرِ و يُسارِعُون فِي الْخيْراتِ و أُولئِك مِن الصّالِحِين ١١٤ و ما يفْعلُوا مِنْ خيْرٍ فلنْ يُكْفرُوهُ و اللّهُ علِيمٌ بِالْمُتّقِين ١١٥ إِنّ الّذِين كفرُوا لنْ تُغْنِي عنْهُمْ أمْوالُهُمْ و لا أوْلادُهُمْ مِن اللّهِ شيْئاً و أُولئِك أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُون ١١٦ مثلُ ما يُنْفِقُون فِي هذِهِ الْحياةِ الدُّنْيا كمثلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أصابتْ حرْث قوْمٍ ظلمُوا أنْفُسهُمْ فأهْلكتْهُ و ما ظلمهُمُ اللّهُ و لكِنْ أنْفُسهُمْ يظْلِمُون ١١٧ يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تتّخِذُوا بِطانةً مِنْ دُونِكُمْ لا يأْلُونكُمْ خبالاً ودُّوا ما عنِتُّمْ قدْ بدتِ الْبغْضاءُ مِنْ أفْواهِهِمْ و ما تُخْفِي

تفسير الميزان ج۳

383
  • صُدُورُهُمْ أكْبرُ قدْ بيّنّا لكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تعْقِلُون ١١٨ ها أنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونهُمْ و لا يُحِبُّونكُمْ و تُؤْمِنُون بِالْكِتابِ كُلِّهِ و إِذا لقُوكُمْ قالُوا آمنّا و إِذا خلوْا عضُّوا عليْكُمُ الْأنامِل مِن الْغيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغيْظِكُمْ إِنّ اللّه علِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ١١٩ إِنْ تمْسسْكُمْ حسنةٌ تسُؤْهُمْ و إِنْ تُصِبْكُمْ سيِّئةٌ يفْرحُوا بِها و إِنْ تصْبِرُوا و تتّقُوا لا يضُرُّكُمْ كيْدُهُمْ شيْئاً إِنّ اللّه بِما يعْملُون مُحِيطٌ ١٢٠}

  • (بيان‌) 

  • الآيات الكريمة كما ترى تنعطف إلى ما كان الكلام فيه قبل من التعرض لحال أهل الكتاب و خاصة اليهود في كفرهم بآيات الله و إغوائهم أنفسهم، و صدهم المؤمنين عن سبيل الله، و إنما كانت الآيات العشر المتقدمة من قبيل الكلام في طي الكلام، فاتصال الآيات على حاله. 

  • قوله تعالى: {لنْ يضُرُّوكُمْ إِلاّ أذىً} إلخ، الأذى‌ ما يصل إلى الحيوان من الضرر: إما في نفسه أو جسمه أو تبعاته دنيويا كان أو أخرويا على ما ذكره الراغب مفردات القرآن. 

  • قوله تعالى: {ضُرِبتْ عليْهِمُ الذِّلّةُ أيْن ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحبْلٍ مِن اللّهِ و حبْلٍ مِن النّاسِ}، الذلة بناء نوع من الذل، و الذل‌ بالضم ما كان عن قهر، و بالكسر ما كان عن تصعب و شماس على ما ذكره الراغب، و معناه العام حال الانكسار و المطاوعة، و يقابله العز و هو الامتناع. 

  • و قوله: {ثُقِفُوا} أي وجدوا، و الحبل‌ السبب الذي يوجب التمسك به العصمة، و قد أستعير لكل ما يوجب نوعا من الأمن و العصمة و الوقاية كالعهد و الذمة و الأمان، و المراد (و الله أعلم): أن الذلة مضروبة عليهم كضرب السكة على الفاز أو كضرب 

تفسير الميزان ج۳

384
  • الخيمة على الإنسان فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلا بحبل و سبب من الله، و حبل و سبب من الناس. 

  • و قد كرر لفظ الحبل‌ بإضافته إلى الله و إلى الناس لاختلاف المعنى بالإضافة فإنه من الله القضاء و الحكم تكوينا أو تشريعا، و من الناس البناء و العمل. 

  • و المراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم، و الدليل على ذلك قوله: {أيْن ما ثُقِفُوا} فإن ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم، و هو إنما يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية. فيئول معنى الآية إلى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الإسلامي إلا أن يدخلوا تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء. 

  • و ظاهر بعض المفسرين أن قوله: {ضُرِبتْ عليْهِمُ الذِّلّةُ}، ليس في مقام تشريع الحكم بل إخبار عن ما جرى عليه أمرهم بقضاء من الله و قدر فإن الإسلام أدرك اليهود و هم يؤدون الجزية إلى المجوس، و بعض شعبهم كانوا تحت سلطة النصارى. 

  • و هذا المعنى لا بأس به و ربما أيده ذيل الكلام إلى آخر الآية فإنه ظاهر في أن السبب في ضرب الذلة و المسكنة عليهم ما كسبته أيديهم من الكفر بآيات الله، و قتل الأنبياء، و الاعتداء المستمر إلا أن لازم هذا المعنى اختصاص الكلام في الآية باليهود و لا مخصص ظاهرا، و سيجي‌ء في ذلك كلام في تفسير قوله تعالى: {و ألْقيْنا بيْنهُمُ الْعداوة و الْبغْضاء} المائدة - ٦٤. 

  • قوله تعالى: {و باؤُ بِغضبٍ مِن اللّهِ و ضُرِبتْ عليْهِمُ الْمسْكنةُ}، باءوا أي اتخذوا مباءة و مكانا، أو رجعوا، و المسكنة أشد الفقر، و الظاهر أن المسكنة أن لا يجد الإنسان سبيلا إلى النجاة و الخلاص عما يهدده من فقر أو أي عدم، و على هذا فيتلاءم معنى الآية صدرا و ذيلا. 

  • قوله تعالى: {ذلِك بِما عصوْا و كانُوا يعْتدُون}، و المعنى أنهم عصوا و كانوا قبل ذلك يستمرون على الاعتداء. 

  • قوله تعالى: {ليْسُوا سواءً} إلى قوله: { بِالْمُتّقِين}السواء مصدر أريد به معنى 

تفسير الميزان ج۳

385
  • الوصف أي ليسوا مستوين في الوصف و الحكم فإن منهم أمة قائمة يتلون آيات الله إلخ، و من هنا يظهر أن قوله: {مِنْ أهْلِ الْكِتابِ} إلخ، في مقام التعليل يبين به وجه عدم استواء أهل الكتاب. 

  • و قد اختلف في قوله: {قائِمةٌ}، فقيل: أي ثابتة على أمر الله، و قيل: أي عادلة، و قيل: أي ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة، و الحق أن اللفظ مطلق يحتمل الجميع غير أن ذكر الكتاب و ذكر أعمالهم الصالحة يعين أن المراد هو القيام على الإيمان و الطاعة. 

  • و الآناء جمع إنى بكسر الهمزة أو فتحها، و قيل: إنو و هو الوقت.

  • و المسارعة المبادرة و هي مفاعلة من السرعة قال في المجمع: و الفرق بين السرعة و العجلة أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه، و هي محمودة و ضدها الإبطاء، و هو مذموم، و العجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه و هي مذمومة، و ضدها الأناة و هي محمودة، انتهى، و الظاهر أن السرعة في الأصل وصف للحركة، و العجلة وصف للمتحرك. 

  • و الخيرات مطلق الأعمال الصالحة من عبادة أو إنفاق أو عدل أو قضاء حاجة، و هو جمع محلى باللام، و معناه الاستغراق، و يكثر إطلاقه على الخيرات المالية كما أن الخير يكثر إطلاقه على المال. 

  • و قد عد الله سبحانه لهم جمل مهمات الصالحات، و هي الإيمان، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و المسارعة في كل خير، ثم وصفهم بأنهم صالحون فهم أهل الصراط المستقيم و زملاء النبيين و الصديقين و الشهداء لقوله تعالى: {اِهْدِنا الصِّراط الْمُسْتقِيم صِراط الّذِين أنْعمْت عليْهِمْ غيْرِ الْمغْضُوبِ عليْهِمْ و لا الضّالِّين} الحمد - ٧، و قوله تعالى: {فأُولئِك مع الّذِين أنْعم اللّهُ عليْهِمْ مِن النّبِيِّين و الصِّدِّيقِين و الشُّهداءِ و الصّالِحِين} (الآية) ا لنساء - ٦٩، قيل: المراد بهؤلاء الممدوحين عبد الله بن سلام و أصحابه. 

  • قوله تعالى: {و ما يفْعلُوا مِنْ خيْرٍ فلنْ يُكْفرُوهُ}، من الكفران مقابل الشكر أي يشكر الله لهم فيرده إليهم من غير ضيعة كما قال تعالى: {و منْ تطوّع خيْراً فإِنّ اللّه 

تفسير الميزان ج۳

386
  • شاكِرٌ علِيمٌ} البقرة - ١٥٨، و قال: {و ما تُنْفِقُوا مِنْ خيْرٍ فلِأنْفُسِكُمْ} إلى أن قال {و ما تُنْفِقُوا مِنْ خيْرٍ يُوفّ إِليْكُمْ و أنْتُمْ لا تُظْلمُون} البقرة - ٢٧٢. 

  • قوله تعالى: {إِنّ الّذِين كفرُوا لنْ تُغْنِي عنْهُمْ}، ظاهر وحدة السياق أن المراد بهؤلاء، {الّذِين كفرُوا} هم الطائفة الأخرى من أهل الكتاب الذين لم يستجيبوا دعوة النبوة، و كانوا يوطئون على الإسلام، و لا يألون جهدا في إطفاء نوره. 

  • و ربما قيل: إن الآية ناظرة إلى حال المشركين فتكون التوطئة لما سيشير إليه من قصة أحد لكن لا يلائمه ما سيأتي من قوله: {و تُؤْمِنُون بِالْكِتابِ كُلِّهِ و إِذا لقُوكُمْ قالُوا آمنّا} إلخ فإن ذلك بيان لحال اليهود مع المسلمين دون حال المشركين، و من هناك يظهر أن اتصال السياق لم ينقطع بعد. 

  • و ربما جمع بعض المفسرين بين حمل هذه الآية على المشركين و حمل تلك على اليهود، و هو خطأ. 

  • قوله تعالى: {مثلُ ما يُنْفِقُون فِي هذِهِ الْحياةِ الدُّنْيا} الآية الصر البرد الشديد، و إنما قيد الممثل بقوله: {فِي هذِهِ الْحياةِ الدُّنْيا} ليدل على أنهم منقطعون عن الدار الآخرة فلا يتعلق إنفاقهم إلا بهذه الحيوة، و قيد حرث القوم بقوله: {ظلمُوا أنْفُسهُمْ} ليحسن ارتباطه بقوله بعده: {و ما ظلمهُمُ اللّهُ}

  • و محصل الكلام أن إنفاقهم في هذه الحيوة و هم يريدون به إصلاح شأنهم و نيل مقاصدهم الفاسدة لا يثمر لهم إلا الشقاء، و فساد ما يريدونه و يحسبونه سعادة لأنفسهم كالريح التي فيها صر تهلك حرث الظالمين، و ليس ذلك إلا ظلما منهم لأنفسهم فإن العمل الفاسد لا يأتي إلا بالأثر الفاسد. 

  • قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تتّخِذُوا بِطانةً مِنْ دُونِكُمْ}، الآية سميت الوليجة بطانة و هي ما يلي البدن من الثوب و هي خلاف الظهارة لكونها تطلع على باطن الإنسان و ما يضمره و يستسره، و قوله: {لا يأْلُونكُمْ} أي لا يقصرون فيكم، و قوله: {خبالاً} أي شرا و فسادا، و منه الخبل للجنون لأنه فساد العقل، و قوله: {ودُّوا ما عنِتُّمْ}، ما مصدرية أي ودوا و أحبوا عنتكم و شدة ضرركم، و قوله: {قدْ بدتِ الْبغْضاءُ مِنْ أفْواهِهِمْ} أريد به ظهور البغضاء و العداوة من لحن قولهم و فلتات لسانهم ففيه استعارة 

تفسير الميزان ج۳

387
  • لطيفة و كناية، و لم يبين ما في صدورهم بل أبهم قوله: {و ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكْبرُ} للإيماء إلى أنه لا يوصف لتنوعه و عظمته و به يتأكد قوله: {أكْبرُ}

  • قوله تعالى: {ها أنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونهُمْ} (الآية) الظاهر أن أولاء اسم إشارة و لفظة ها للتنبيه، و قد تخلل لفظة أنتم بين ها و أولاء، و المعنى أنتم هؤلاء على حد قولهم: زيد هذا و هند هذه كذا و كذا.

  • و قوله: {و تُؤْمِنُون بِالْكِتابِ كُلِّهِ}، اللام للجنس أي و أنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية النازلة من عند الله: كتابهم و كتابكم، و هم لا يؤمنون بكتابكم‌، و قوله{ و إِذا لقُوكُمْ قالُوا آمنّا}، أي إنهم منافقون، و قوله: {و إِذا خلوْا عضُّوا عليْكُمُ الْأنامِل مِن الْغيْظِ} العض‌ هو الأخذ بالأسنان مع ضغط، و الأنامل‌ جمع أنملة و هي طرف الإصبع. و الغيظ هو الحنق، و عض الأنامل على شي‌ء مثل يضرب للتحسر و التأسف غضبا و حنقا. 

  • و قوله: {قُلْ مُوتُوا بِغيْظِكُمْ} دعاء عليهم في صورة الأمر و بذلك تتصل الجملة بقوله: {إِنّ اللّه علِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي اللهم أمتهم بغيظهم إنك عليم بذات الصدور أي القلوب أي النفوس. 

  • قوله تعالى: {إِنْ تمْسسْكُمْ حسنةٌ تسُؤْهُمْ}، المساءة خلاف السرور، و في الآية دلالة على أن الأمن من كيدهم مشروط بالصبر و التقوى.

تفسير الميزان ج۳

388
  • فهرس ما في هذا المجلد من أمهات المطالب

تفسير الميزان ج۳

389