17

تفسير الميزان ج17

تفسير الميزان ج17 17076
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة الطباطبائي

القسم القرآن والحديث والدعاء

المجموعة الميزان في تفسير القرآن


التوضيح

تعرّض العلامة الطباطبائي في هذا الجزء إلى تفسير السور التالية: فاطر، يس، الصافات، ص، الزمر، المؤمن (غافر)، حم السجدة

/٤۰۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

تفسير الميزان ج۱۷

1

تفسير الميزان ج۱۷

2
  •  

  • الميزان في تفسير القرآن 

  • الجزء السابع عشر

  •  

  •  

  •  

  • تأليف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

  •  

تفسير الميزان ج۱۷

4
  •  

  •  

  •  

  •  

  • تمتاز هذه الطبعة عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل

  • واضافات و تغییرات هامة من قبل المؤلف

  • ملاحظة: تم تطبيق الصفحات مع طبعة الأعلمي الثالثة المطبوعة في سنة ۱٩۷٣ م

  •  

تفسير الميزان ج۱۷

5
  • (٣٥) سورة فاطر مكية و هي خمس و أربعون آية (٤٥) 

  • [سورة فاطر (٣٥): آیة ١]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ١} 

  • (بيان) 

  • غرض السورة بيان الأصول الثلاثة: وحدانيته تعالى في ربوبيته و رسالة الرسول و المعاد إليه و تقرير الحجة لذلك و قد توسل لذلك بعد جمل من نعمه العظيمة السماوية و الأرضية و الإشارة إلى تدبيره المتقن لأمر العالم عامة و الإنسان خاصة. 

  • و قد قدم على هذا التفصيل الإشارة الإجمالية إلى انحصار فتح الرحمة و إمساكها و هو إفاضة النعمة و الكف عنها فيه تعالى بقوله: {مَا يَفْتَحِ اَللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} (الآية). 

  • و قدم على ذلك الإشارة إلى وسائط هذه الرحمة المفتوحة و النعم الموهوبة و هم الملائكة المتوسطون بينه تعالى و بين خلقه في حمل أنواع النعم من عنده تعالى و إيصالها إلى خلقه فافتتح السورة بذكرهم. 

تفسير الميزان ج۱۷

6
  • و السورة مكية كما يدل عليه سياق آياتها، و قد استثنى بعضهم آيتين و هما قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اَللَّهِ} (الآية)و قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا} (الآية) و هو غير ظاهر من سياق الآيتين. 

  • قوله تعالى: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} الفطرعلى ما ذكره الراغب هو الشق طولا فإطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنه شق العدم فأخرج من بطنها السماوات و الأرض فمحصل معناه أنه موجد السماوات و الأرض إيجادا ابتدائيا من غير مثال سابق، فيقرب معناه من معنى البديع و المبدع و الفرق بين الإبداع و الفطر أن العناية في الإبداع متعلقة بنفي المثال السابق و في الفطر بطرد العدم و إيجاد الشي‌ء من رأس لا كالصانع الذي يؤلف مواد مختلفة فيظهر به صورة جديدة لم تكن. 

  • و المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود فيشملهما و ما فيهما من مخلوق فيكون من قبيل إطلاق معظم الأجزاء و إرادة الكل مجازا، أو المراد نفس السماوات و الأرض اعتناء بشأنهما لكبر خلقتهما و عجيب أمرهما كما قال‌: {لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ} المؤمن: ٥٧. 

  • و كيف كان فقوله: {فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} من أسمائه تعالى أجري صفة لله و المراد بالوصف الاستمرار دون الماضي فقط لأن الإيجاد مستمر و فيض الوجود غير منقطع و لو انقطع لانعدمت الأشياء. 

  • و الإتيان بالوصف بعد الوصف للإشعار بأسباب انحصار الحمد فيه تعالى كأنه قيل: الحمد لله على ما أوجد السماوات و الأرض و على ما جعل الملائكة رسلا أولي أجنحة فهو تعالى محمود ما أتى فيما أتى إلا الجميل. 

  • قوله تعالى: {جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ} الملائكة جمع ملك بفتح اللام و هم موجودات خلقهم الله و جعلهم وسائط بينه و بين العالم المشهود وكلهم بأمور العالم التكوينية و التشريعية عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون. 

  • فقوله تعالى: {جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً} يشعر بل يدل على كون جميع الملائكة - و الملائكة جمع محلى باللام مفيد للعموم - رسلا وسائط بينه و بين خلقه في إجراء 

تفسير الميزان ج۱۷

7
  • أوامره التكوينية و التشريعية. 

  • و لا موجب لتخصيص الرسل في الآية بالملائكة النازلين على الأنبياء (عليهم السلام) و قد أطلق القرآن الرسل على غيرهم من الملائكة كقوله تعالى: ‌{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} الأنعام: ٦١، و قوله‌{إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} يونس: ٢١، و قوله‌{وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرىَ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ }العنكبوت: ٣١. 

  • و الأجنحة جمع جناح و هو من الطائر بمنزلة اليد من الإنسان يتوسل به إلى الصعود إلى الجو و النزول منه و الانتقال من مكان إلى مكان بالطيران. 

  • فوجود الملك مجهز بما يفعل به نظير ما يفعله الطائر بجناحه فينتقل به من السماء إلى الأرض بأمر الله و يعرج به منها إليها و من أي موضع إلى أي موضع، و قد سماه القرآن جناحا و لا يستوجب ذلك إلا ترتب الغاية المطلوبة من الجناح عليه و أما كونه من سنخ جناح غالب الطير ذا ريش و زغب فلا يستوجبه مجرد إطلاق اللفظ كما لم يستوجبه في نظائره كألفاظ العرش و الكرسي و اللوح و القلم و غيرها. 

  • و قوله: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ} صفة للملائكة، و مثنى و ثلاث و رباع ألفاظ دالة على تكرر العدد أي اثنين اثنين و ثلاثة ثلاثة و أربعة أربعة كأنه قيل: جعل الملائكة بعضهم ذا جناحين و بعضهم ذا ثلاثة أجنحة و بعضهم ذا أربعة أجنحة. 

  • و قوله: {يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} لا يخلو من إشعار بحسب السياق بأن منهم من يزيد أجنحته على أربعة. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} تعليل لجميع ما تقدمه أو الجملة الأخيرة و الأول أظهر. 

  • (بحث روائي) 

  • في البحار عن الإختصاص بإسناده عن المعلى بن محمد رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الملائكة من نور، الخبر. 

تفسير الميزان ج۱۷

8
  • و في تفسير القمي قال الصادق (عليه السلام): خلق الله الملائكة مختلفة و قد أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جبرئيل و له ستمائة جناح على ساقه الدر مثل القطر على البقل قد ملأ ما بين السماء و الأرض و قال إذا أمر الله عز و جل ميكائيل بالهبوط إلى الدنيا صارت رجله في السماء السابعة و الأخرى في الأرض السابعة، و إن لله ملائكة أنصافهم من برد و أنصافهم من نار يقولون: يا مؤلفا بين البرد و النار ثبت قلوبنا على طاعتك. 

  • و قال: إن لله ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينه مسيرة خمسمائة عام بخفقان الطير. 

  • و قال: إن الملائكة لا يأكلون و لا يشربون و لا ينكحون و إنما يعيشون بنسيم العرش، و إن لله عز و جل ملائكة ركعا إلى يوم القيامة و إن لله عز و جل ملائكة سجدا إلى يوم القيامة. 

  • ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من شي‌ء مما خلق الله عز و جل أكثر من الملائكة و إنه ليهبط في كل يوم أو في كل ليلة سبعون ألف ملك، فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثم يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم يأتون أمير المؤمنين (عليه السلام) فيسلمون ثم يأتون الحسين (عليه السلام) فيقيمون عنده فإذا كان عند السحر وضع لهم معراج إلى السماء ثم لا يعودون أبدا. 

  • و قال أبو جعفر (عليه السلام): إن الله عز و جل خلق إسرافيل و جبرائيل و ميكائيل من تسبيحة واحدة، و جعل لهم السمع و البصر و جودة العقل و سرعة الفهم. 

  • و قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خلقة الملائكة: و ملائكة خلقتهم و أسكنتهم سماواتك فليس فيهم فترة، و لا عندهم غفلة، و لا فيهم معصية، هم أعلم خلقك بك و أخوف خلقك منك، و أقرب خلقك منك، و أعملهم بطاعتك، لا يغشاهم نوم العيون و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان لم يسكنوا الأصلاب، و لم تضمهم الأرحام، و لم تخلقهم من ماء مهين أنشأتهم إنشاء فأسكنتهم سماواتك و أكرمتهم بجوارك، و ائتمنتهم على وحيك، و جنبتهم الآفات، و وقيتهم البليات، و طهرتهم من الذنوب، و لو لا قوتك لم يقووا، و لو لا تثبيتك لم يثبتوا، و لو لا رحمتك لم يطيعوا، و لو لا أنت لم يكونوا. 

تفسير الميزان ج۱۷

9
  • أما إنهم على مكانتهم منك و طاعتهم إياك و منزلتهم عندك و قلة غفلتهم عن أمرك لو عاينوا ما خفي عنهم منك لاحتقروا أعمالهم، و لآزروا على أنفسهم، و لعلموا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك سبحانك خالقا و معبودا ما أحسن بلاءك عند خلقك. 

  • و في البحار، عن الدر المنثور، عن أبي العلاء بن سعد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال يوما لجلسائه: أطت السماء و حق لها أن تئط ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرأ {وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ}

  • و عن الخصال، بإسناده عن محمد بن طلحة يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: الملائكة على ثلاثة أجزاء فجزء لهم جناحان و جزء لهم ثلاثة أجنحة و جزء لهم أربعة أجنحة. 

  • أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن طلحة مثله، و لعل المراد به وصف أغلب الملائكة حتى لا يعارض سياق الآية و الروايات الأخر. 

  • و عن التوحيد، بإسناده عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ليس أحد من الناس إلا و معه ملائكة حفظ يحفظونه من أن يتردى في بئر أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء فإذا حان أجله خلوا بينه و بين ما يصيبه. (الخبر). 

  • و عن البصائر، عن السياري عن عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي و غيره رفعوه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم. ثم قال: إن موسى (عليه السلام) لما أن سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكا. 

  • و عن الصحيفة السجادية، و كان من دعائه على حملة العرش و كل ملك مقرب: اللهم و حملة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك، و لا يسأمون من تقديسك، و لا يستحسرون عن عبادتك، و لا يؤثرون التقصير على الجد في أمرك، و لا يغفلون عن الوله إليك، و إسرافيل صاحب الصور الشاخص الذي ينتظر منك الإذن و حلول الأمر فينبه بالنفخة صرعى رهائن القبور، و ميكائيل ذو الجاه عندك و المكان الرفيع من طاعتك و جبريل الأمين على وحيك المطاع في سماواتك المكين لديك المقرب عندك، و الروح الذي هو على ملائكة الحجب و الروح الذي هو من أمرك. 

تفسير الميزان ج۱۷

10
  • اللهم فصل عليهم و على الملائكة الذين من دونهم من سكان سماواتك و أهل الأمانة على رسالاتك، و الذين لا يدخلهم سأمة من دءوب و لا إعياء من لغوب و لا فتور و لا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات و لا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات، الخشع الأبصار فلا يرومون النظر إليك، النواكس الأذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك المستهترون بذكر آلائك و المتواضعون دون عظمتك و جلال كبريائك، و الذين يقولون إذا نظروا إلى جهنم تزفر على أهل معصيتك سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. 

  • فصل عليهم و على الروحانيين من ملائكتك و أهل الزلفة عندك و حمال الغيب إلى رسلك و المؤتمنين على وحيك و قبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك و أغنيتهم عن الطعام و الشراب بتقديسك و أسكنتهم بطون أطباق سماواتك، و الذين هم على أرجائها إذا نزل الأمر بتمام وعدك. 

  • و خزان المطر و زواجر السحاب و الذي بصوت زجره يسمع زجل الرعود، و إذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق، و مشيعي الثلج و البرد و الهابطين مع قطر المطر إذا نزل، و القوام على خزائن الرياح، و الموكلين بالجبال فلا تزول، و الذين عرفتهم مثاقيل المياه و كيل ما يحويه لواعج الأمطار و عوالجها و رسلك من الملائكة إلى أهل الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء و محبوب الرخاء. 

  • و السفرة الكرام البررة و الحفظة الكرام الكاتبين، و ملك الموت و أعوانه، و منكر و نكير، و مبشر و بشير، و رؤمان فتان القبور، و الطائفين بالبيت المعمور، و مالك و الخزنة، و رضوان و سدنة الجنان، و الذين لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون، و الذين يقولون: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، و الزبانية الذين إذا قيل لهم: «خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه» ابتدروه سراعا و لم ينظروه، و من ألهمنا ذكره و لم نعلم مكانه منه و بأي أمر وكلته، و سكان الهواء و الأرض و الماء، و من منهم على الخلق. 

  • فصل عليهم يوم تأتي كل نفس معها سائق و شهيد و صل عليهم صلاة تزيدهم كرامة على كرامتهم و طهارة على طهارتهم. الدعاء. 

  • و في البحار، عن الدر المنثور، عن ابن شهاب: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سأل جبرئيل 

تفسير الميزان ج۱۷

11
  • أن يتراءى له في صورته فقال جبرئيل: إنك لن تطيق ذلك. قال: إني أحب ذلك فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبرئيل في صورته فغشي على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين رآه ثم أفاق و جبرئيل مسنده و واضع إحدى يديه على صدره و الأخرى بين كتفيه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما كنت أرى أن شيئا ممن يخلق هكذا فقال جبرئيل: فكيف لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر جناحا جناح في المشرق و جناح في المغرب و إن العرش على كاهله، و إنه ليتضأل الأحيان لعظمة الله حتى يصير مثل الوصع‌۱ حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته. 

  • و في الصافي عن التوحيد، بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: و قوله في آخر الآيات: {مَا زَاغَ اَلْبَصَرُ وَ مَا طَغىَ لَقَدْ رَأىَ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرىَ} رأى جبرئيل في صورته مرتين هذه المرة و مرة أخرى و ذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم و صفتهم إلا الله. 

  • و عن الخصال، بإسناده عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن جبرئيل أتاني فقال: إنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب و لا تمثال جسد و لا إناء يبال فيه.

  • أقول: و هناك روايات أخرى في صفة الملائكة فوق حد الإحصاء واردة في باب المعاد و معراج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أبواب متفرقة أخرى، و فيما أوردناه أنموذج كاف في ذلك. 

  • و في العيون في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة بإسناده عنه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا، و قرأ {يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}

  • و في التوحيد، بإسناده عن زرارة عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن القضاء و القدر خلقان من خلق الله يزيد في الخلق ما يشاء. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} روى أبو هريرة عن النبي 

    1. بفتح الصاد و سكونها طائر أصفر من العصفور.

تفسير الميزان ج۱۷

12
  • (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: هو الوجه الحسن و الصوت الحسن و الشعر الحسن.

  • أقول: و الروايات الثلاث الأخيرة من قبيل الجري و الانطباق. 

  • (كلام في الملائكة) 

  • تكرر ذكر الملائكة في القرآن الكريم و لم يذكر منهم بالتسمية إلا جبريل و ميكال و ما عداهما مذكور بالوصف كملك الموت و الكرام الكاتبين و السفرة الكرام البررة و الرقيب و العتيد و غير ذلك. 

  • و الذي ذكره الله سبحانه في كلامه و تشايعه الأحاديث السابقة من صفاتهم و أعمالهم هو أولا: أنهم موجودات مكرمون هم وسائط بينه تعالى و بين العالم المشهود فما من حادثة أو واقعة صغيرة أو كبيرة إلا و للملائكة فيها شأن و عليها ملك موكل أو ملائكة موكلون بحسب ما فيها من الجهة أو الجهات و ليس لهم في ذلك شأن إلا إجراء الأمر الإلهي في مجراه أو تقريره في مستقره كما قال تعالى: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الأنبياء: ٢٧. 

  • و ثانيا: أنهم لا يعصون الله فيما أمرهم به فليست لهم نفسية مستقلة ذات إرادة مستقلة تريد شيئا غير ما أراد الله سبحانه فلا يستقلون بعمل و لا يغيرون أمرا حملهم الله إياه بتحريف أو زيادة أو نقصان قال تعالى: ‌{لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم: ٦. 

  • و ثالثا: أن الملائكة على كثرتهم على مراتب مختلفة علوا و دنوا فبعضهم فوق بعض و بعضهم دون بعض فمنهم آمر مطاع و منهم مأمور مطيع لأمره، و الآمر منهم آمر بأمر الله حامل له إلى المأمور و المأمور مأمور بأمر الله مطيع له، فليس لهم من أنفسهم شي‌ء البتة قال تعالى: ‌{وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} الصافات: ١٦٤ و قال: ‌{مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} التكوير: ٢١، و قال: ‌{قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ} سبأ: ٢٣. 

  • و رابعا: أنهم غير مغلوبين لأنهم إنما يعملون بأمر الله و إرادته {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‌ءٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ} فاطر: ٤٤، و قد قال الله: ‌{وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلىَ 

تفسير الميزان ج۱۷

13
  • أَمْرِهِ} يوسف: ٢١، و قال: ‌{إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} الطلاق: ٣. 

  • و من هنا يظهر أن الملائكة موجودات منزهة في وجودهم عن المادة الجسمانية التي هي في معرض الزوال و الفساد و التغير و من شأنها الاستكمال التدريجي الذي تتوجه به إلى غايتها، و ربما صادفت الموانع و الآفات فحرمت الغاية و بطلت دون البلوغ إليها. 

  • و من هنا يظهر أن ما ورد في الروايات من صور الملائكة و أشكالهم و هيئاتهم الجسمانية كما تقدم نبذة منها في البحث الروائي السابق إنما هو بيان تمثلاتهم و ظهوراتهم للواصفين من الأنبياء و الأئمة (عليه السلام) ، و ليس من التصور و التشكل في شي‌ء ففرق بين التمثل و التشكل فتمثل الملك إنسانا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان فهو في ظرف المشاهدة و الإدراك ذو صورة الإنسان و شكله و في نفسه و الخارج من ظرف الإدراك ملك ذو صورة ملكية و هذا بخلاف التشكل و التصور فإنه لو تشكل بشكل الإنسان و تصور بصورته صار إنسانا في نفسه من غير فرق بين ظرف الإدراك و الخارج عنه فهو إنسان في العين و الذهن معا؟ و قد تقدم كلام في معنى التمثل في تفسير سورة مريم. 

  • و لقد صدق الله سبحانه ما تقدم من معنى التمثل في قوله في قصة المسيح و مريم‌{ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} مريم: ١٧ و قد تقدم تفسيره. 

  • و أما ما شاع في الألسن أن الملك جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة إلا الكلب و الخنزير، و الجن جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب و الخنزير فمما لا دليل عليه من عقل و لا نقل من كتاب أو سنة معتبرة، و أما ما ادعاه بعضهم من إجماع المسلمين على ذلك فمضافا إلى منعه لا دليل على حجيته في أمثال هذه المسائل الاعتقادية. 

  • [سورة فاطر (٣٥): الآیات ٢ الی ٨]

  • {مَا يَفْتَحِ اَللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٢ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اُذْكُرُوا 

تفسير الميزان ج۱۷

14
  • نِعْمَتَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اَللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٣ وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ ٤ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ ٥ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ ٦ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ٧ أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ٨} 

  • (بيان) 

  • لما أشار إلى الملائكة و هم وسائط في وصول النعم إلى الخليقة أشار إلى نفس النعم إشارة كلية فذكر أن عامة النعم من الله سبحانه لا غير فهو الرازق لا يشاركه فيه أحد، ثم احتج بالرازقية على الربوبية ثم على المعاد و أن وعده تعالى بالبعث و عذاب الكافرين و مغفرة المؤمنين الصالحين حق، و في الآيات تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اَللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} إلخ المعنى أن ما يؤتيه الله الناس من النعمة و هو الرزق فلا مانع عنه 

تفسير الميزان ج۱۷

15
  • و ما يمنع فلا مؤتي له فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما يرسل الله للناس إلخ. كما عبر في الجملة الثانية بالإرسال لكنه عدل عن الإرسال إلى الفتح لما وقع مكررا في كلامه أن لرحمته خزائن كقوله: ‌{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهَّابِ} ص: ٩ و قوله‌ { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفَاقِ} الإسراء: ١٠٠و التعبير بالفتح أنسب من الإرسال في الخزائن ففيه إشارة إلى أن الرحمة التي يؤتاها الناس مخزونة في خزائن محيطة بالناس لا يتوقف نيلهم منها إلا إلى فتحها من غير مئونة زائدة. 

  • و قد عبر عن الرزق الذي هو النعمة بالرحمة للدلالة على أن إفاضته تعالى لهذه النعم ناشئة من مجرد الرحمة من غير توقع لنفع يعود إليه أو كمال يستكمل به. 

  • و قوله: {وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} أي و ما يمنع من الرحمة فلا مرسل له من دونه، و في التعبير بقوله: {مِنْ بَعْدِهِ} إشارة إلى أنه تعالى أول في المنع كما أنه أول في الإعطاء. 

  • و قوله: {وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} تقرير للحكم المذكور في الآية الكريمة بالاسمين الكريمين فهو تعالى لكونه عزيزا لا يغلب إذا أعطى فليس لمانع أن يمنع عنه و إذا منع فليس لمعط أن يعطيه، و هو تعالى حكيم إذا أعطى أعطى عن حكمة و مصلحة و إذا منع منع عن حكمة و مصلحة و بالجملة لا معطي إلا الله و لا مانع إلا هو، و منعه و إعطائه عن حكمة. 

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اَللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} إلخ. لما قرر في الآية السابقة أن الإعطاء و المنع لله سبحانه لا يشاركه في ذلك أحد احتج في هذه الآية بذلك على توحده في الربوبية. 

  • و تقرير الحجة أن الإله إنما يكون إلها معبودا لربوبيته و هي ملكة تدبير أمر الناس و غيرهم، و الذي يملك تدبير الأمر بهذه النعم التي يتقلب فيها الناس و غيرهم و يرتزقون بها هو الله سبحانه دون غيره من الآلهة التي اتخذوها لأنه سبحانه هو الذي خلقها دونهم و الخلق لا ينفك عن التدبير و لا يفارقه فهو سبحانه إلهكم لا إله إلا هو لأنه ربكم الذي يدبر أمركم بهذه النعم التي تتقلبون فيها و إنما كان ربا مدبرا بهذه النعم لأنه 

تفسير الميزان ج۱۷

16
  • خالقها و خالق النظام الذي يجري عليها. 

  • و بذلك يظهر أن المراد بالناس المخاطبين الوثنيون و غيرهم ممن اتخذ لله شريكا. 

  • و قوله: {اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ} المراد بالذكر ما يقابل النسيان دون الذي الذكر اللفظي. 

  • و قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اَللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} الرزق‌ هو ما يمد به البقاء و مبدؤه السماء بواسطة الأشعة و الأمطار و غيرهما و الأرض بواسطة النبات و الحيوان و غيرهما. 

  • و بذلك يظهر أيضا أن في الآية إيجازا لطيفا فقد بدلت الرحمة في الآية السابقة نعمة في هذه الآية أولا ثم النعمة رزقا ثانيا و كان مقتضى سياق الآيتين أن يقال: هل من رازق أو هل من منعم أو هل من راحم لكن بدل ذلك من قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ} ليكون إشارة إلى برهان ثان ينقطع به الخصام، فإنهم يرون تدبير العالم لآلهتهم بإذن الله فلو قيل: هل من رازق أو منعم غير الله لم ينقطع الخصام و أمكن أن يقولوا نعم آلهتنا بتفويض التدبير من الله إليهم لكن لما قيل: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ} أشير بالوصف إلى أن الرازق و المدبر هو خالق الرزق لا غير فانقطع الخصام و لم يمكنهم إلا أن يجيبوا بنفي خالق غير الله يرزقهم من السماء و الأرض. 

  • و قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} اعتراض بالتوحيد يفيد التعظيم نظير قوله: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ}

  • أي لا معبود بالحق إلا هو لأن المستحق للعبادة هو الذي ينعم عليكم و يرزقكم و ليس إلا الله. 

  • و قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} توبيخ متفرع على ما سبغ من البرهان أي فإذا كان الأمر هكذا و أنتم تقرون بذلك فإلى متى تصرفون عن الحق إلى الباطل و من التوحيد إلى الإشراك. 

  • و في إعراب الآية أعني قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اَللَّهِ} إلخ. بين القوم مشاجرات طويلة و الذي يناسب ما تقدم من تقرير البرهان أن {مِنْ} زائدة للتعميم، و قوله: 

تفسير الميزان ج۱۷

17
  • {غَيْرُ اَللَّهِ} صفة لخالق تابع لمحله، و كذا قوله: {يَرْزُقُكُمْ} إلخ. و {مِنْ خَالِقٍ} مبتدأ محذوف الخبر و هو موجود، و قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} اعتراض، و قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} تفريع على ما تقدمه. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ} تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أي و إن يكذبوك بعد استماع هذه البراهين الساطعة فلا تحزن فليس ذلك ببدع فقد كذبت رسل من قبلك كذبتهم أممهم و أقوامهم و إلى الله ترجع عامة الأمور فيجازيهم بما يستحقونه بتكذيبهم الحق بعد ظهوره فليسوا بمعجزين بتكذيبهم. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} من قبيل وضع السبب موضع المسبب و أن قوله: {وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ} معطوف على قوله: {فَقَدْ كُذِّبَتْ} إلخ. 

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ} خطاب عام للناس يذكرهم بالمعاد كما كان الخطاب العام السابق يذكرهم بتوحده تعالى في الربوبية و الألوهية. 

  • فقوله: {إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ} أي وعده أنه يبعثكم فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا و إن شرا {حَقٌّ} أي ثابت واقع، و قد صرح بهذا الوعد في قوله الآتي: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ}

  • و قوله: {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا} النهي و إن كان متوجها إلى الحياة الدنيا صورة لكنه في الحقيقة متوجه إليهم، و المعنى إذا كان وعد الله حقا فلا تغتروا بالحياة الدنيا بالاشتغال بزينتها و التلهي بما ينسيكم يوم الحساب من ملاذها و ملاهيها و الاستغراق في طلبها و الإعراض عن الحق. 

  • و قوله: {وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ} الغرور بفتح الغين صيغة مبالغة من الغرور بالضم و هو الذي يبالغ في الغرور و من عادته ذلك، و الظاهر - كما قيل - إن المراد به الشيطان و يؤيده التعليل الواقع في الآية التالية: {إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} إلخ. 

  • و معنى غروره بالله توجيهه أنظارهم إلى مظاهر حلمه و عفوه تعالى تارة و مظاهر 

تفسير الميزان ج۱۷

18
  • ابتلائه و استدراجه و كيده أخرى فيرون أن الاشتغال بالدنيا و نسيان الآخرة و الإعراض عن الحق و الحقيقة لا يستعقب عقوبة و لا يستتبع مؤاخذة، و أن أبناء الدنيا كلما أمعنوا في طلبهم و توغلوا في غفلتهم و استغرقوا في المعاصي و الذنوب زادوا في عيشهم طيبا و في حياتهم راحة و بين الناس جاها و عزة فيلقي الشيطان عند ذلك في قلوبهم أن لا كرامة إلا في التقدم في الحياة الدنيا، و لا خبر عما وراءها و ليس ما تتضمنه الدعوة الحقة من الوعد و الوعيد و تخبر به النبوة من البعث و الحساب و الجنة و النار إلا خرافة. 

  • فالمراد بغرور الشيطان الإنسان بالله اغترار الإنسان بما يعامل به الله الإنسان على غفلته و ظلمه. 

  • و ربما قيل: إن المراد بالغرور الدنيا الغارة للإنسان و أن قوله: {وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ} تأكيد لقوله: {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا} بتكراره معنى. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} إلخ. تعليل للنهي المتقدم في قوله: {وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ} و المراد بعداوة الشيطان أنه لا شأن له إلا إغواء الإنسان و تحريمه سعادة الحياة و حسن العاقبة، و المراد باتخاذ الشيطان عدوا التجنب من اتباع دعوته إلى الباطل و عدم طاعته فيما يشير إليه في وساوسه و تسويلاته و لذلك علل عداوته بقوله: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ}

  • فقوله: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ} في مقام تعليل ما تقدمه و الحزب‌ هو العدة من الناس يجمعهم غرض واحد، و اللام في {لِيَكُونُوا} للتعليل فكونهم من أصحاب السعير علة غائية لدعوته، و السعير النار المسعرة و هو من أسماء جهنم في القرآن. 

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ} هذا هو الوعد الحق الذي ذكره الله سبحانه، و تنكير العذاب للدلالة على التفخيم على أن لهم دركات و مراتب مختلفة من العذاب باختلاف كفرهم و فسوقهم فالإبهام أنسب و يجري نظير الوجهين في قوله: {مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ}

  • قوله تعالى: {أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} تقرير و بيان للتقسيم الذي تتضمنه الآية السابقة أعني تقسيم الناس إلى كافر 

تفسير الميزان ج۱۷

19
  • له عذاب شديد و مؤمن عامل بالصالحات له مغفره و أجر كبير و المراد أنهما لا يستويان فلا تستوي عاقبة أمرهما. 

  • فقوله: {أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} مبتدأ خبره محذوف أي كمن ليس كذلك، و الفاء لتفريع الجملة على معنى الآية السابقة، و الاستفهام للإنكار، و المراد بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا الكافر و يشير به إلى أنه منكوس فهمه مغلوب على عقله يرى عمله على غير ما هو عليه و المعنى أنه لا يستوي من زين له عمله السيئ فرآه حسنا و الذي ليس كذلك بل يرى السيئ سيئا. 

  • و قوله: {فَإِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} تعليل للإنكار السابق في قوله: {أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} أي الكافر الذي شأنه ذلك و المؤمن الذي بخلافه لا يستويان لأن الله يضل أحدهما بمشيته و هو الكافر الذي يرى السيئة حسنة و يهدي الآخر بمشيته و هو المؤمن الذي يعمل الصالحات و يرى السيئة سيئة. 

  • و هذا الإضلال إضلال على سبيل المجازاة و ليس إضلالا ابتدائيا فلا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه. 

  • و بالجملة اختلاف الكافر و المؤمن في عاقبتهما بحسب الوعد الإلهي بالعذاب و الرحمة لاختلافهما بالإضلال و الهداية الإلهيين و اختلافهما بالإضلال و الهداية باختلافهما في رؤية السيئة حسنة و عدمها. 

  • و قوله: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} الحسرات‌ جمع حسرة و هي الغم لما فأت و الندم عليه، و هي منصوبة لأنه مفعول لأجله و المراد بذهاب النفس عليهم هلاكها فيهم لأجل الحسرات الناشئة من عدم إيمانهم. 

  • و الجملة متفرعة على الفرق السابق أي إذا كانت الطائفتان مختلفتين بالإضلال و الهداية من جانب الله فلا تهلك نفسك حسرات عليهم إذ كذبوك و كفروا بك فإن الله هو الذي يضلهم جزاء لكفرهم و رؤيتهم السيئة حسنة و هو عليم بما يصنعون فلا يختلط عليه الأمر و لا يفعل بهم إلا الحق و لا يجازيهم إلا بالحق. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} في موضع التعليل لقوله: 

تفسير الميزان ج۱۷

20
  • {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} فلا ينبغي للرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يهلك نفسه عليهم حسرات حيث ضلوا و حقت عليهم كلمة العذاب فإن الله هو الذي يضلهم لصنعهم و هو عليم بما يصنعون. 

  • [سورة فاطر (٣٥): الآیات ٩ الی ١٤]

  • {وَ اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلىَ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ اَلنُّشُورُ ٩ مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ اَلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ١٠وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى‌ وَ لاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ ١١ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٢ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ١٣ إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا 

تفسير الميزان ج۱۷

21
  • دُعَاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجَابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ١٤} 

  • (بيان) 

  • احتجاجات على وحدانيته تعالى في ألوهيته بعد جملة من النعم السماوية و الأرضية التي يتنعم بها الإنسان و لا خالق لها و لا مدبر لأمرها إلا الله سبحانه، و فيها بعض الإشارة إلى البعث. 

  • قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلىَ بَلَدٍ مَيِّتٍ} إلخ العناية في المقام بتحقق وقوع الأمطار و إنبات النبات بها، و لذلك قال: {اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيَاحَ} و هذا بخلاف ما في سورة الروم من قوله‌{اَللَّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} الروم: ٤٨. 

  • و قوله: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} عطف على {أَرْسَلَ} و الضمير للرياح و الإتيان بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية و الإثارة إفعال من ثار الغبار يثور ثورانا إذا انتشر ساطعا. 

  • و قوله: {فَسُقْنَاهُ إِلى‌ بَلَدٍ مَيِّتٍ} أي إلى أرض لا نبات فيها {فَأَحْيَيْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} و أنبتنا فيها نباتا بعد ما لم تكن، و نسبة الإحياء إلى الأرض و إن كانت مجازية لكن نسبته إلى النبات حقيقية و أعمال النبات من التغذية و النمو و توليد المثل و ما يتعلق بذلك أعمال حيوية تنبعث من أصل الحياة. 

  • و لذلك شبه البعث و إحياء الأموات بعد موتهم بإحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات بعد توقفه عن العمل و ركوده في الشتاء فقال: {كَذَلِكَ اَلنُّشُورُ} أي البعث فالنشور بسط الأموات يوم القيامة بعد إحيائهم و إخراجهم من القبور. 

  • و في قوله: {فَسُقْنَاهُ إِلىَ بَلَدٍ مَيِّتٍ} إلخ. التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير فهو تعالى في قوله: {وَ اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ} بنعت الغيبة و في قوله: {فَسُقْنَاهُ} إلخ. بنعت التكلم مع الغير و لعل النكتة في ذلك هي أنه لما قال: {وَ اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيَاحَ} أخذ لنفسه نعت 

تفسير الميزان ج۱۷

22
  • الغيبة و يتبعه فيه الإرسال فإن فعل الغائب غائب، ثم لما قال: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} على نحو حكاية الحال الماضية صار المخاطب كأنه يرى الفعل و يشاهد الرياح و هي تثير السحاب و تنشره في الجو فصار كأنه يرى من يرسل الرياح لأن مشاهدة الفعل كادت أن لا تنفك عن مشاهدة الفاعل فلما ظهر تعالى بنعت الحضور غير سياق كلامه من الغيبة إلى التكلم و اختار لفظ التكلم مع الغير للدلالة على العظمة. 

  • و قوله: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ} و لم يقل: فأحييناه مع كفايته و كذا قوله: {بَعْدَ مَوْتِهَا} مع جواز الاكتفاء بما تقدمه للأخذ بصريح القول الذي لا ارتياب دونه. 

  • قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً} قال الراغب في المفردات:‌ العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة قال تعالى: {أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} انتهى. 

  • فالصلابة هو الأصل في معنى العزة ثم توسع فاستعمل العزيز فيمن يقهر و لا يقهر كقوله تعالى‌: {يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا} يوسف: ٨٨. و كذا العزة بمعنى الغلبة قال تعالى: ‌{وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطَابِ } (صلى الله عليه وآله و سلم)‌: ٢٣ و العزة بمعنى القلة و صعوبة المنال، قال تعالى: ‌{وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} حم السجدة: ٤١ و العزة بمعنى مطلق الصعوبة قال تعالى: ‌{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} التوبة: ١٢٨: «و العزة بمعنى الأنفة و الحمية قال تعالى: {بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقَاقٍ} ص: ٢ إلى غير ذلك. 

  • ثم إن العزة بمعنى كون الشي‌ء قاهرا غير مقهور أو غالبا غير مغلوب تختص بحقيقة معناها بالله عز و جل إذ غيره تعالى فقير في ذاته ذليل في نفسه لا يملك لنفسه شيئا إلا أن يرحمه الله و يؤتيه شيئا من العزة كما فعل ذلك بالمؤمنين به قال تعالى: ‌{وَ لِلَّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ} المنافقون: ٨. 

  • و بذلك يظهر أن قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً} ليس بمسوق لبيان اختصاص العزة بالله بحيث لا ينالها غيره و أن من أرادها فقد طلب محالا و أراد ما لا يكون بل المعنى من كان يريد العزة فليطلبها منه تعالى لأن العزة له جميعا لا توجد عند غيره بالذات. 

  • فوضع قوله: {فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً} في جزاء الشرط من قبيل وضع السبب موضع 

تفسير الميزان ج۱۷

23
  • المسبب و هو طلبها من عنده أي اكتسابها منه بالعبودية التي لا تحصل إلا بالإيمان و العمل الصالح. 

  • قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الكلم كما قيل اسم جنس جمعي يذكر و يؤنث، و قال في المجمع:‌ و الكلم جمع كلمة يقال؟ هذا كلم و هذه كلم فيذكر و يؤنث، و كل جمع ليس بينه و بين واحده إلا الهاء يجوز فيه التذكير و التأنيث انتهى. 

  • و المراد بالكلم على أي حال ما يفيد معنى تاما كلاميا و يشهد به توصيفه بالطيب فطيب الكلم هو ملاءمته لنفس سامعه و متكلمه بحيث تنبسط منه و تستلذه و تستكمل به و ذلك إنما يكون بإفادته معنى حقا فيه سعادة النفس و فلاحها. 

  • و بذلك يظهر أن المراد به ليس مجرد اللفظ بل بما أن له معنى طيبا فالمراد به الاعتقادات الحقة التي يسعد الإنسان بالإذعان لها و بناء عمله عليها و المتيقن منها كلمة التوحيد التي يرجع إليها سائر الاعتقادات الحقة و هي المشمولة لقوله تعالى: ‌{أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} إبراهيم: ٢٥ و تسمية الاعتقاد قولا و كلمة أمر شائع بينهم. 

  • و صعود الكلم الطيب إليه تعالى هو تقربه منه تعالى اعتلاء و هو العلي الأعلى رفيع الدرجات، و إذ كان اعتقادا قائما بمعتقده فتقربه منه تعالى تقرب المعتقد به منه، و قد فسروا صعود الكلم الطيب بقبوله تعالى له و هو من لوازم المعنى. 

  • ثم إن الاعتقاد و الإيمان إذا كان حق الاعتقاد صادقا إلى نفسه صدقه العمل و لم يكذبه أي يصدر عنه العمل على طبقه فالعمل من فروع العلم و آثاره التي لا تنفك عنه، و كلما تكرر العمل زاد الاعتقاد رسوخا و جلاء و قوي في تأثيره فالعمل الصالح و هو العمل الحري بالقبول الذي طبع عليه بذل العبودية و الإخلاص لوجهه الكريم يعين الاعتقاد الحق في ترتب أثره عليه و هو الصعود إليه تعالى و هو المعزى إليه بالرفع فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. 

  • فقد تبين بما مر معنى قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} و أن ضمير {إِلَيْهِ} لله سبحانه و المراد بالكلم الطيب الاعتقاد الحق كالتوحيد، و بصعوده 

تفسير الميزان ج۱۷

24
  • تقربه منه تعالى، و بالعمل الصالح ما كان على طبق الاعتقاد الحق و يلائمه و أن الفاعل في {يَرْفَعُهُ} ضمير مستكن راجع إلى العمل الصالح و ضمير المفعول راجع إلى الكلم الطيب. 

  • و لهم في الآية أقوال أخر: 

  • فقد قيل: إن المراد بصعود الكلم الطيب قبوله و الإثابة عليه كما تقدمت الإشارة إليه، و قيل: المراد صعود الملائكة بما كتب من الإيمان و الطاعات إلى الله سبحانه، و قيل: المراد صعودهم به إلى السماء فسمي الصعود إلى السماء صعودا إلى الله مجازا. 

  • و قيل: إن فاعل {يَرْفَعُهُ} ضمير عائد إلى الكلم الطيب و ضمير المفعول للعمل الصالح و المعنى أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح أي أن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا صدر عن التوحيد، و قيل: فاعل {يَرْفَعُهُ} ضمير مستكن راجع إليه تعالى و المعنى العمل الصالح يرفعه الله. 

  • و جملة هذه الوجوه لا تخلو من بعد و الأسبق إلى الذهن ما قدمناه من المعنى. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ اَلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} ذكروا أن {اَلسَّيِّئَاتِ} وصف قائم مقام موصوف محذوف و هو المكرات، و وضع اسم الإشارة موضع الضمير في {مَكْرُ أُولَئِكَ} للدلالة على أنهم متعينون لا مختلطون بغيرهم و المعنى و الذين يمكرون المكرات السيئات لهم عذاب شديد و مكر أولئك الماكرين هو يبور و يهلك فلا يستعقب أثرا حيا فيه سعادتهم و عزتهم. 

  • و قد بان أن المراد بالسيئات أنواع المكرات و الحيل التي يتخذها المشركون وسائل لكسب العزة، و الآية مطلقة، و قيل: المراد المكرات التي اتخذتها قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في دار الندوة و غيرها من إثبات أو إخراج أو قتل فرد الله كيدهم إليهم و أخرجهم إلى بدر و قتلهم و أثبتهم في القليب فجمع عليهم الإثبات و الإخراج و القتل و هذا وجه حسن لكن الآية مطلقة. 

  • و وجه اتصال ذيل الآية بصدرها أعني اتصال قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ} إلى آخر الآية بقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً} أن المشركين كانوا يعتزون بآلهتهم كما قال تعالى: ‌{وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} مريم: ٨١ فدعاهم الله سبحانه و هم يطلبون العز إلى نفسه بتذكيرهم أن العزة لله جميعا و بين تعالى ذلك بأن 

تفسير الميزان ج۱۷

25
  • توحيده يصعد إليه و العمل الصالح يرفعه فيكتسب الإنسان بالتقرب منه عزة من منبع العزة و أما الذين يمكرون كل مكر سيئ لاكتساب العزة فلهم عذاب شديد و ما مكروه من المكر بائر هالك لا يصعد إلى محل و لا يكسب لهم عزا. 

  • قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} إلخ. يشير تعالى إلى خلق الإنسان فابتدأ خلقه من تراب و هو المبدأ البعيد الذي تنتهي إليه الخلقة ثم من نطفة و هي مبدأ قريب تتعلق به الخلقة. 

  • و قيل المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن الشي‌ء يضاف إلى أصله و قيل: بل المراد خلق آدم نفسه و قيل: بل المراد خلقهم خلقا إجماليا من تراب في ضمن خلق آدم من تراب و الخلق التفصيلي هو من نطفة كما قال: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}

  • و الفرق بين الوجوه الثلاثة أن في الأول نسبة الخلق من تراب إليهم على طريق المجاز العقلي، و في الثاني المراد بخلقهم خلق آدم و لا مجاز في النسبة، و في الثالث المراد خلق كل واحد من الأفراد من التراب حقيقة من غير مجاز إلا أنه خلق إجمالي لا تفصيلي و بهذا يفارق ما قدمناه من الوجه. 

  • و يمكن تأييد القول الأول بقوله تعالى: ‌‌{خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } الرحمن: ١٤، و الثاني بنحو قوله: ‌‌{وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} السجدة: ٨، و الثالث بقوله: ‌{وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ} الأعراف: ١١ و لكل وجه. 

  • و قوله: {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} أي ذكورا و إناثا، و قيل: أي قدر بينكم الزوجية و زوج بعضكم من بعض، و هو كما ترى، و قيل: أي أصنافا و شعوبا. و هو كسابقه. 

  • و قوله: {وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى‌ وَ لاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} من زائدة لتأكيد النفي، و الباء في {بِعِلْمِهِ} للمصاحبة و هو حال من الحمل و الوضع، و المعنى ما تحمل و لا تضع أنثى إلا و علمه يصاحب حمله و وضعه، و ذكر بعضهم أنه حال من الفاعل و أن كونه حالا من الحمل و الوضع و كذا من مفعوليهما أي المحمول و الموضوع خلاف الظاهر و هو ممنوع. 

تفسير الميزان ج۱۷

26
  • و قوله: {وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} أي و ما يمد و يزاد في عمر أحد فيكون معمرا و لا ينقص من عمره أي عمر أحد إلا في كتاب. 

  • فقوله: {وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} من قبيل قوله‌{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} يوسف: ٢٦ فوضع معمر موضع نائب الفاعل و هو أحد بعناية أنه بعد تعلق التعمير به يصير معمرا و إلا فتعمير المعمر لا معنى له. 

  • و قوله: {وَ لاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} الضمير في {عُمُرِهِ} راجع إلى {مُعَمَّرٍ} باعتبار موصوفه المحذوف و هو أحد و المعنى و لا ينقص من عمر أحد و إلا فنقص عمر المفروض معمرا تناقض خارق للفرض. 

  • و قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} و هو اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغيير إليه فقد كتب فيه أن فلانا يزاد في عمره كذا لسبب كذا و فلانا ينقص من عمره كذا لسبب كذا و أما كتاب المحو و الإثبات فهو مورد التغير و سياق الآية يفيد وصف العلم الثابت و لهم في قوله: {وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} وجوه أخر ضعيفة لا جدوى في التعرض لها. 

  • و قوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ} تعليل و تقرير لما في الآية من وصف خلق الإنسان و كيفية إحداثه و إبقائه و المعنى أن هذا التدبير الدقيق المتين المهيمن على كليات الحوادث و جزئياتها المقرر كل شي‌ء في مقره على الله يسير لأنه الله العليم القدير المحيط بكل شي‌ء بعلمه و قدرته فهو تعالى رب الإنسان كما أنه رب كل شي‌ء. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} إلى آخر الآية قيل: العذب‌ من الماء طيبه، و الفرات‌ الماء الذي يكسر العطش أو البارد كما في المجمع، و السائغ‌ هو الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته و الأجاج‌ الذي يحرق لملوحته أو المر. 

  • و قوله: {وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} اللحم الطري‌ الغض الجديد، و المراد لحم السمك أو السمك و الطير، البحري و الحلية المستخرجة من البحر اللؤلؤ و المرجان و الأصداف قال تعالى: ‌{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجَانُ} الرحمن: ٢٢. 

  • و في الآية تمثيل للمؤمن و الكافر بالبحر العذب و المالح يتبين به عدم تساوي المؤمن 

تفسير الميزان ج۱۷

27
  • و الكافر في الكمال الفطري و إن تشاركا في غالب الخواص الإنسانية و آثارها فالمؤمن باق على فطرته الأصلية ينال بها سعادة الحياة الدائمة و الكافر منحرف فيها متلبس بما لا تستطيبه الفطرة الإنسانية و سيعذب بأعماله فمثلهما مثل البحرين المختلفين عذوبة و ملوحة فهما مختلفان من حيث البقاء على فطرة الماء الأصلية و هي العذوبة و الخروج عنها بالملوحة و إن اشتركا في بعض الآثار التي ينتفع بها، فمن كل منهما تأكلون لحما طريا و هو لحم السمك و الطير المصطاد من البحر و تستخرجون حلية تلبسونها كاللؤلؤ و المرجان و الأصداف. 

  • فظاهر الآية أن الحلية المستخرجة مشتركة بين البحر العذب و البحر المالح لكن جمعا من المفسرين استشكلوا ذلك بأن اللؤلؤ و المرجان إنما يستخرجان من البحر المالح دون العذب، و قد أجابوا عنه بأجوبة مختلفة. 

  • منها أن الآية مسوقة لبيان اشتراك البحرين في مطلق الفائدة و إن اختص ببعضها كأنه قيل: و من كل تنتفعون و تستفيدون كما تأكلون منهما لحما طريا و تستخرجون من البحر المالح حلية تلبسونها و ترى الفلك فيه مواخر. 

  • و منها أنه شبه المؤمن و الكافر بالعذب و الأجاج ثم فضل الأجاج على الكافر بأن في الأجاج بعض النفع و الكافر لا نفع في وجوده فالآية على طريقة قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ثم قال‌: {وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهَارُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْمَاءُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ} البقرة: ٧٤. 

  • و منها أن قوله: {وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين و إن اشتركا في بعض المنافع تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما خرج به عن صفاء فطرته و المؤمن و الكافر و إن اتفقا أحيانا في بعض المكارم كالشجاعة و السخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على صفاء الفطرة الأصلية دون الآخر. 

  • و منها أنه لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة و إن لم نره فالإشكال باختصاص الحلية بالماء المالح ممنوع. 

  • و منها منع أصل الدعوى و هو كون الآية {وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ} إلخ. تمثيلا 

تفسير الميزان ج۱۷

28
  • للمؤمن و الكافر بل هي واقعة في سياق تعداد النعم لإثبات الربوبية كقوله قبلا: {وَ اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيَاحَ} و قوله بعدا: {يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ} إلخ. فالآية مسوقة لبيان نعمة البحر و اختلافه بالعذوبة و الملوحة و ما فيهما من المنافع المشتركة و المختصة. 

  • و يؤيد هذا الوجه أن نظير الآية في سورة النحل واقعة في سياق الآيات العادة لنعم الله سبحانه و هو قوله‌{وَ هُوَ اَلَّذِي سَخَّرَ اَلْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: النحل: ١٤. 

  • و الحق أن أصل الاستشكال في غير محله و أن البحرين يشتركان في وجود الحلية فيهما كما هو مذكور في الكتب الباحثة عن هذه الشئون مشروح فيها۱ 

  • قوله تعالى: {وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ضمير {فِيهِ} للبحر، و مواخر جمع ماخرة من المخر بمعنى الشق عدت السفينة ماخرة لشقها الماء بجؤجؤتها. 

  • قيل: إنما أفرد ضمير الخطاب في قوله: {تَرَى} بخلاف الخطابات المتقدمة و المتأخرة لأن الخطاب لكل أحد يتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط. 

  • و قوله: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي مخر الفلك البحر بتسخيره لتطلبوا من عطائه و هو الرزق و رجاء أن تشكروا الله سبحانه، و قد تقدم أن الترجي الذي تفيده «لعل» في كلامه تعالى قائم بالمقام دون المتكلم. 

  • و قد قيل في هذه الآية: {وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} و في سورة النحل: {وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} فاختلفت الآيتان في تقديم {فِيهِ} على {مَوَاخِرَ} و تأخيره منه و عطف {لِتَبْتَغُوا} و عدمه. 

  • و لعل النكتة في ذلك أن آية النحل مصدرة بكلمة التسخير فهي مسوقة لبيان كيفية التسخير و الأنسب لذلك تأخير {فِيهِ} ليتعلق بمواخر و يشير إلى مخر البحر 

    1. و قد ذكر وجود الحلية في الماء العذب في مادة صدف من دائرة المعارف للبستاني و ذكر أيضا في أمريكا{L Eneylopodia L} و بريطانيا{L Enylopoedia L} وجودها فيه و سميت عدة من الأنهار العذبة في أمريكا و أوربا و آسيا يستخرج منها اللؤلؤ.

تفسير الميزان ج۱۷

29
  • فيصرح بالتسخير بخلاف ما هاهنا ثم التسخير له غايات كثيرة منها ابتغاء الفضل و الأنسب لذلك عطف {لِتَبْتَغُوا} على محذوف ليدل على عدم انحصار الغاية في ابتغاء الفضل بخلاف ما هاهنا فإن الغرض بيان أنه الرازق المدبر ليرتدع المكذبون و قد تقدم ذكر تكذيبهم عن تكذيبهم و يكفي في ذلك بيان ابتغائهم الفضل غاية من غير حاجة إلى العطف و الله أعلم. 

  • و قال في روح المعاني في المقام: و الذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذلك سوابقها و لواحقها و تعقيب الآيات بقوله سبحانه: {وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة و هو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه {فِيهِ} إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك، و كان الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية: {وَ لِتَبْتَغُوا} بالواو و مخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله: {لِتَبْتَغُوا} انتهى. 

  • قوله تعالى: {يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} إلخ. إيلاج الليل في النهار قصر النهار بطول الليل و إيلاج النهار في الليل قصر الليل بطول النهار، و المراد بالجملتين الإشارة إلى اختلاف الليل و النهار في الطول و القصر المستمر في أيام السنة بتغير الأيام و لذا عبر بقوله: {يُولِجُ} الدال على استمرار التغيير بخلاف جريان الشمس و القمر فإنه ثابت على حاله و لذا عبر فيه بقوله: {وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} و العناية صورية مسامحية. 

  • و قوله: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ} بمنزلة النتيجة لما تقدم أي إذا كان أمر خلقكم و تدبيركم برا و بحرا و أرضا و سماء منتسبا إليه مدبرا بتدبيره فذلكم الله ربكم الذي يملككم و يدبر أمركم. 

  • و قوله: {لَهُ اَلْمُلْكُ} مستنتج مما قبله و توطئة و تمهيد لما بعده من قوله: {وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}. 

  • و قوله: {وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} القطمير على ما قاله الراغب الأثر على رأس النواة و ذلك مثل للشي‌ء الطفيف، و في المجمع، القطمير لفافة النواة. 

  • و قيل: الحبة في بطن النواة انتهى و الكلام على أي حال مبالغة في نفي أصل الملك 

تفسير الميزان ج۱۷

30
  • و المراد بالذين تدعون من دون الله آلهتهم الذين كانوا يدعونها من الأصنام و أربابها. 

  • قوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجَابُوا لَكُمْ} إلخ بيان و تقرير لما تقدم من قوله: {وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} أي تصديق كونهم لا يملكون شيئا أنكم إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأن الأصنام جمادات لا شعور لها و لا حس و أرباب الأصنام كالملائكة و القديسين من البشر في شغل شاغل من ذلك على أنهم لا يملكون سمعا من عند أنفسهم فلا يسمعون إلا بإسماعه. 

  • و قوله: {وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجَابُوا لَكُمْ} إذ لا قدرة لهم على الاستجابة قولا و لا فعلا أما الأصنام فظاهر و أما أرباب الأصنام فقدرتهم من الله سبحانه و لن يأذن الله لأحد أن يستجيب أحدا يدعوه بالربوبية قال تعالى: ‌{لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لاَ اَلْمَلاَئِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً }النساء: ١٧٢. 

  • و قوله: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يردون عبادتكم إليكم و يتبرءون منكم بدلا من أن يكونوا شفعاء لكم {‌إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا} البقرة: ١٦٦. 

  • فالآية في نفي الاستجابة و كفر الشركاء يوم القيامة في معنى قوله‌{وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى‌ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَ إِذَا حُشِرَ اَلنَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَ كَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} الأحقاف: ٦. 

  • و قوله: {وَ لاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي لا يخبرك عن حقيقة الأمر مخبر مثل مخبر خبير و هو خطاب خاص بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد الإعراض عن خطابهم لعدم تفقههم بالبيان الحق أو خطاب عام في صورة الخطاب الخاص خوطب به السامع أي من كان كقوله: {وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} (الآية) السابقة، و قوله‌{وَ تَرَى اَلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ} (الآية) الكهف: ١٧، و قوله‌{وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ} الكهف: ١٨. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي‌ في قوله تعالى‌: {كَذَلِكَ اَلنُّشُورُ} حدثني أبي عن ابن أبي عمير 

تفسير الميزان ج۱۷

31
  • عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم.

  • أقول: و في هذا المعنى عدة روايات أخر. 

  • و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و أحمد و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أ ما مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء؟ قال: بلى. قال: كذلك يحيي الله الموتى و كذلك النشور.

  • و في تفسير القمي‌ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن لكل قول مصداقا من عمل يصدقه أو يكذبه فإذا قال ابن آدم و صدق قوله بعمله رفع قوله بعمله إلى الله، و إذا قال و خالف عمله قوله رد قوله على عمله الخبيث و هوى به في النار.

  • و في التوحيد، بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه (عليه السلام) في حديث قال: و إن لله تبارك و تعالى بقاعا في سماواته فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه. أ لا تسمع الله عز و جل يقول: {تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ} و يقول في قصة عيسى بن مريم (عليهما السلام) {بَلْ رَفَعَهُ اَللَّهُ} و يقول عز و جل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}

  • أقول: و عن الفقيه، مثله. 

  • و في نهج البلاغة:‌ و لو لا إقرارهن‌۱ له بالربوبية و إذعانهن له بالطواعية٢ لما جعلهن موضعا لعرشه و لا مسكنا لملائكته و لا مصعدا للكلم الطيب و العمل الصالح من خلقه. و في تفسير القمي‌ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} الأجاج المر.

  • و فيه في قوله: {وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} قال: الجلدة الرقيقة التي على ظهر النوى. 

    1. الضمير للسماوات.
    2. الطاعة

تفسير الميزان ج۱۷

32
  • [سورة فاطر (٣٥): الآیات ١٥ الی ٢٦]

  • {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ ١٥ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ١٦ وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ بِعَزِيزٍ ١٧ وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‌ وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى‌ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ‌ءٌ وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبى‌ إِنَّمَا تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ ١٨ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‌ وَ اَلْبَصِيرُ ١٩ وَ لاَ اَلظُّلُمَاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ ٢٠وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ ٢١ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَحْيَاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوَاتُ إِنَّ اَللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ ٢٢ إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ٢٣ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ٢٤ وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتَابِ اَلْمُنِيرِ ٢٥ ثُمَّ أَخَذْتُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ٢٦} 

  • (بيان) 

  • لما بين لهم أن الخلق و التدبير إليه تعالى فهو ربهم له الملك دون الذين يدعون من دونه فهم لا يملكون شيئا حتى يقوموا بتدبيره، أخذ يبين ذلك ببيان آخر مشوب 

تفسير الميزان ج۱۷

33
  • بالوعيد و التهديد و هو أنه تعالى غني عنهم و هم فقراء إليه فله أن يذهبهم و يأت بخلق جديد إن شاء جزاء بما كسبوا. 

  • ثم وجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما حاصله أن هذه المؤاخذة و الإهلاك لا يشمل إلا هؤلاء المكذبين دون المؤمنين الذين يؤثر فيهم إنذار النبي (عليه السلام) فبينهما فرق ظاهر و هو (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ نذير كالنذر الماضين و حاله كحال من قبله من المنذرين و إن يكذبوه فقد كذبت الأنبياء الماضين مكذبو أممهم فأخذهم الله أخذا شديدا و سيأخذ المكذبين من هذه الأمة. 

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ} لا ريب أن في الآية نوع تمهيد بالنسبة إلى الآيتين التاليتين يتبين بها مضمونهما و هي مع ذلك مستقلة في مفادها. 

  • بيان ذلك: أن السياق يشعر بأن أعمال هؤلاء المكذبين كانت تكشف عن أنهم كانوا يتوهمون أن لهم أن يستغنوا عن الله سبحانه بعبادة آلهتهم و أن لله إليهم حاجة و لذلك يدعوهم إلى نفسه بالدعوة الإلهية التي يقوم بها رسله فهناك غنى و فقر و لهم نصيب من الغنى و لله نصيب من الفقر تعالى عن ذلك. 

  • فرد الله سبحانه زعمهم ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ} فقصر الفقر فيهم و قصر الغنى فيه سبحانه فكل الفقر فيهم و كل الغنى فيه سبحانه، و إذ كان الغنى و الفقر و هما الوجدان و الفقدان متقابلين لا يرتفعان عن موضوعهما كان لازم القصر السابق قصر آخر و هو قصرهم في الفقر و قصره تعالى في الغنى فليس لهم إلا الفقر و ليس له تعالى إلا الغنى. 

  • فالله سبحانه غني بالذات له أن يذهبهم و يستغني عنهم و هم فقراء بالذات ليس لهم أن يستغنوا عنه بغيره. 

  • و الملاك في غناه تعالى عنهم و فقرهم أنه تعالى خالقهم و مدبر أمرهم و إليه الإشارة بأخذ لفظ الجلالة في بيان فقرهم و بيان غناه، و الإشارة إلى الخلق و التدبير في قوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} و كذا توصيفه تعالى بالحميد و هو المحمود في فعله 

تفسير الميزان ج۱۷

34
  • الذي هو خلقه و تدبيره. 

  • فيعود معنى الكلام إلى نحو من قولنا: يا أيها الناس أنتم بما أنكم مخلوقون مدبرون لله الفقراء إلى الله فيكم كل الفقر و الحاجة و الله بما أنه الخالق المدبر، الغني لا غنى سواه. 

  • و على هذا لا ضير في قصر الفقر في الناس سواء أريد به المكذبون خاصة أو عامة الناس مع كون غيرهم من المخلوقات فقراء إلى الله كمثلهم و ذلك أن عموم علة الحكم يعمم الحكم فكأنه قيل: أنتم معاشر الخليقة الفقراء إلى خالقكم المدبر لأمركم و هو الغني الحميد. 

  • و قد أجيب عن إشكال قصر الفقر في الناس مع عمومه لغيرهم بوجوه من الجواب: 

  • منها أن في قصر الفقر في الناس مبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم و شدة احتياجهم هم الفقراء فحسب و أن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم و لذلك قال تعالى: {خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} و لا يرد الجن لأنهم لا يحتاجون في المطعم و الملبس و غيرهما كما يحتاج الإنسان. 

  • و منها أن المراد الناس و غيرهم و هو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب و أولي العلم على غيرهم. 

  • و منها أن الوجه حمل اللام في الناس على العهد و في الفقراء على الجنس لأن المخاطبين في الآية هم الذين خوطبوا في قوله: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ} (الآية) أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه و أنتم أشد الخلائق احتياجا إليه. 

  • و منها أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا حقيقي. 

  • و غير خفي عليك أن مفاد الآية و سياقها لا يلائم شيئا من هذه الأجوبة نعم يمكن توجيه الجواب الأخير بما يرجع إلى ما قدمناه من الوجه. 

  • و تذييل الآية بصفة الحميد للإشارة إلى أنه غني محمود الأفعال إن أعطى و إن منع لأنه إذا أعطى لم يعطه لبدل لغناه عن الجزاء و الشكر و كل بدل مفروض و إن منع لم يتوجه إليه لائمة إذ لا حق لأحد عليه و لا يملك منه شي‌ء. 

  • قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي 

تفسير الميزان ج۱۷

35
  • إن يرد إذهابكم يذهبكم أيها الناس لأنه غني عنكم لا يستضر بذهابكم و يأت بخلق جديد يحمدونه و يثنون عليه لا لحاجة منه إليهم بل لأنه حميد و مقتضاه أن يجود فيحمد و ليس ذلك على الله بصعب لقدرته المطلقة لأنه الله عز اسمه. 

  • فقد بان أن مضمون الآية متفرع على مضمون الآية السابقة فقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} متفرع على كونه تعالى غنيا، و قوله: {وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} متفرع على كونه تعالى حميدا، و قد فرع مضمون الجملتين في موضع آخر على غناه و رحمته قال تعالى: ‌{ وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} الأنعام: ١٣٣. 

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىَ} إلخ. قال الراغب: الوزر بفتحتين الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} و الوزر بالكسر فالسكون الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبر به عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً} (الآية) كقوله: {لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ}. انتهى فالمعنى لا تحمل نفس حاملة للإثم إثم نفس أخرى و لازم ذلك أن لا تؤاخذ نفس إلا بما حملت من إثم نفسها و اكتسبته من الوزر. 

  • و الآية كأنه دفع دخل يشعر به آخرها كأنه لما قال: إن يشأ يذهبكم و يأت بآخرين، فهددهم بالإهلاك و الإفناء، قيل: هؤلاء المكذبون أخذوا بوزرهم فما حال المؤمنين؟ أ يؤخذون بوزر غيرهم؟. 

  • فأجيب أن لا تزر وازرة وزر أخرى و لا تحمل نفس حمل غيرها الذي أثقلها و إن كانت ذات قربى. 

  • فهؤلاء المكذبون هم المعنيون بالتهديد و لا تنفع فيهم دعوتك و إنذارك لأنهم مطبوع على قلوبهم، و إنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب و يقيمون الصلاة و الفريقان لا يستويان لأن مثلهم مثل الأعمى و البصير، و الظلمات و النور، و الظل و الحرور، و الأحياء و الأموات. 

  • فقوله: {وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىَ} أي لا تحمل نفس حاملة للوزر و الإثم إثم نفس أخرى حاملة. 

  • و قوله: {وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلىَ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ‌ءٌ وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبىَ} أي 

تفسير الميزان ج۱۷

36
  • و إن تدع نفس مثقلة أثقلها حملها من الإثم غيرها إلى ما حملته من الإثم ليحمله عنها لا يستجاب لها و لا يحمل من حملها شي‌ء و لو كان المدعو ذا قربى للداعي كالأب و الأم و الأخ و الأخت. 

  • و قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ} أي هؤلاء المكذبون لا ينتفعون بالإنذار و لا تتحقق معهم حقيقة الإنذار لأنهم مطبوع على قلوبهم إنما تنذر و ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب و يقيمون الصلاة التي هي أفضل العبادات و أهمها و بالجملة يؤمنون بالله و يعبدونه أي الذين يخشون ربهم بالغيب و يقيمون الصلاة إثر إنذارك لا أنهم يخشون ربهم و يصلون ثم ينذرون بعد ذلك حتى يلزم تحصيل الحاصل فالآية كقوله: ‌{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} يوسف: ٣٦. 

  • و قوله: {وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} بدل الخشية و إقامة الصلاة من التزكي للإشارة إلى أن المطلوب بالدعوة و الإنذار هو التزكي و تزكية النفس تلبسها بالخشية من الله على الغيب و إقامة الصلاة. 

  • و فيه تقرير و تأكيد لما تقدم من كونه تعالى غنيا حميدا فهو تعالى لا ينتفع بما يدعو إليه من التزكي بل الذي تزكى فإنما يتزكى لنفع نفسه. 

  • و قد ختم الآية بقوله: {وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ} للدلالة على أن تزكية من تزكى لا تذهب سدى، فإن كلا من الفريقين صائرون إلى ربهم لا محالة و هو يحاسبهم و يجازيهم فيجازي هؤلاء المتزكين أحسن الجزاء. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىَ وَ اَلْبَصِيرُ} الظاهر أنه عطف على قوله: {وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ} تعليل في صورة التمثيل لعدم مساواة هؤلاء المتزكين لأولئك المكذبين، و قيل: عطف على قوله السابق: {وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ}

  • قوله تعالى: {وَ لاَ اَلظُّلُمَاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ} تكرار حروف النفي مرة بعد مرة في الآية و ما يليها لتأكيد النفي. 

  • قوله تعالى: {وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ} الحرور شدة حر الشمس - على ما قيل - و قيل: هو السموم و قيل: السموم يهب نهارا و الحرور يهب ليلا و نهارا. 

تفسير الميزان ج۱۷

37
  •  قوله تعالى: {وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَحْيَاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوَاتُ} إلى آخر الآية عطف على قوله: {وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‌ وَ اَلْبَصِيرُ} و إنما كرر قوله: {مَا يَسْتَوِي} و لم يعطف {اَلْأَحْيَاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوَاتُ} على قوله: {اَلْأَعْمىَ وَ اَلْبَصِيرُ} كرابعته لطول الفصل فأعيد {مَا يَسْتَوِي} لئلا يغيب المعنى عن ذهن السامع فهو كقوله: ‌{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ } إلى أن قال: {كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} الخ. التوبة: ٨. 

  • و الجمل المتوالية المترتبة أعني قوله: {وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىَ وَ اَلْبَصِيرُ } - إلى قوله - {وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَحْيَاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوَاتُ} تمثيلات للمؤمن و الكافر و تبعات أعمالهما. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} و هو المؤمن كان ميتا فأحياه الله فأسمعه لما في نفسه من الاستعداد لذلك قال تعالى: ‌{أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً } الأنعام: ١٢٢، و أما النبي (عليه السلام) فإنما هو وسيلة و الهدى هدى الله. 

  • و قوله: {وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ} أي الأموات و المراد بهم الكفار المطبوع على قلوبهم. 

  • قوله تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} قصر إضافي أي ليس لك إلا إنذارهم و أما هداية من اهتدى منهم و إضلال من ضل و لم يهتد جزاء له بسيئ عمله فإنما ذلك لله سبحانه. و لم يذكر البشير مع النذير مع كونه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ متلبسا بالوصفين معا لأن المقام مقام الإنذار فالمناسب هو التعرض لوصف الإنذار مع أنه مذكور في الآية التالية. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} المفاد على ما يقتضيه السياق إنا أرسلناك بالتبشير و الإنذار و ليس ببدع مستغرب فما من أمة من الأمم إلا و قد خلا و مضى فيها نذير فذلك من سنن الله الجارية في خلقه. 

  • و ظاهر السياق أن المراد بالنذير الرسول المبعوث من عند الله و فسر بعضهم النذير بمطلق من يقوم بالعظة و الإنذار من نبي أو عالم غير نبي و هو خلاف ظاهر الآية. 

  • نعم ليس من الواجب أن يكون نذير كل أمة من أفرادها فقد قال تعالى: {خَلاَ فِيهَا} و لم يقل: «خلا منها». 

  • قوله تعالى: {وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ 

تفسير الميزان ج۱۷

38
  •  وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتَابِ اَلْمُنِيرِ} البينات‌ هي الآيات المعجزة التي تشهد على حقية الرسل، و الزبر جمع زبور و لعل المراد بها بقرينة مقابلتها للكتاب الصحائف و الكتب التي فيها ذكر الله تعالى من غير أن تتضمن الأحكام و الشرائع، و الكتاب المنير الكتاب المنزل من السماء المتضمن للشرائع ككتاب نوح و إبراهيم و توراة موسى و إنجيل عيسى (عليهم السلام) ، و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ أَخَذْتُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} الأخذ كناية عن التعذيب، و النكير الإنكار، و الباقي ظاهر. 

  • (كلام في معنى عموم الإنذار) 

  • قد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني و في قصص نوح (عليه السلام) في الجزء العاشر من الكتاب ما يدل من طريق العقل على عموم النبوة و يؤيده الكتاب. 

  • فلا تخلو أمة من الأمم الإنسانية عن ظهور ما للدعوة الحقة النبوية فيها و أما كون نبي كل أمة من نفس تلك الأمة فلا دليل عليه، و قد عرفت أن قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} (الآية) مفاده ذلك. 

  • و أما فعلية الإنذار بحيث يبلغ كل فرد فرد من الأمة مضافا إلى أصل الاقتضاء و اطراد الدعوة في كل واحد واحد فحكومة العلل و الأسباب المتزاحمة في هذه النشأة المادية لا توافقه كما لا توافق سائر المقتضيات العامة التي قدرها الصنع كما أن في بنية كل مولود إنساني أن يعمر عمرا طبيعيا و الحوادث تحول بين أكثر الأفراد و بين ذلك، و كل مولود إنساني مجهز بجهاز التناسل للاستيلاد و الإيلاد و كثير من الأفراد يموت قبل بلوغه فلا يبلغ ذلك إلى غير ذلك من النظائر. 

  • فالنبوة و الإنذار عام لكل أمة و لا يستلزم استلزاما ضروريا أن تبلغ الدعوة كل شخص من أشخاصها بل من الجائز أن تبلغ بلا واسطة أو معها بعض الأمة و تتخلف عن بعض لحيلولة علل و أسباب مزاحمة بينه و بين البلوغ فمن توجهت منهم إليه الدعوة و بلغته تمت عليه الحجة و من توجهت إليه و لم تبلغه لم تتم عليه الحجة و كان من المستضعفين 

تفسير الميزان ج۱۷

39
  • و كان أمره إلى الله قال تعالى: ‌{إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} النساء: ٩٨. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور في قوله تعالى: {وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‌} أخرج أحمد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن ماجة عن عمرو بن الأحوص: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال في حجة الوداع: ألا لا يجني جان إلا على نفسه لا يجني والد على ولده و لا مولود على والده. 

  • و في تفسير القمي‌ في قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ} قال: هؤلاء الكفار لا يسمعون منك كما لا يسمع أهل القبور. 

  • و في الدر المنثور، أخرج أبو سهل السري بن سهل الجند يسابوري الخامس من حديثه من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىَ} {وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ} قال كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقف على القتلى يوم بدر و يقول: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا يا فلان بن فلان أ لم تكفر بربك؟ أ لم تكذب نبيك؟ أ لم تقطع رحمك؟ فقالوا: يا رسول الله أ يسمعون ما تقول؟ قال: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول فأنزل الله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىَ}{وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ} مثل ضربه الله للكفار أنهم لا يسمعون لقوله. 

  • أقول: و في الرواية ما لا يخفى من لوائح الوضع فساحة النبي (عليه السلام) أجل من أن يقول ما ليس له به علم من ربه حتى ينزل الله عليه آية تكذبه فيما يدعيه و يخبر به. 

  • على أن ما نقله من الآية لا يطابق المصحف فصدره مأخوذ من سورة النمل الآية ٨٠و ذيله مأخوذ من سورة فاطر الآية ٢٢. 

  • على أن سياق الآية مكي في سياق آيات سابقة و لاحقة مكية. 

  • و في الإحتجاج، في احتجاج الصادق (عليه السلام): قال السائل فأخبرني عن المجوس أ فبعث إليهم نبيا؟ فإني أجد لهم كتبا محكمة و مواعظ بليغة و أمثالا شافية، و يقرون 

تفسير الميزان ج۱۷

40
  • بالثواب و العقاب، و لهم شرائع يعملون بها. قال: ما من أمة إلا خلا فيها نذير، و قد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله فأنكروه و جحدوا كتابه. 

  • [سورة فاطر (٣٥): الآیات ٢٧ الی ٣٨]

  • {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَ مِنَ اَلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَ غَرَابِيبُ سُودٌ ٢٧ وَ مِنَ اَلنَّاسِ وَ اَلدَّوَابِّ وَ اَلْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ٢٨ إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اَللَّهِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ٢٩ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ٣٠وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اَللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ٣١ ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ ٣٢ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ٣٣ وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ٣٤ اَلَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ 

تفسير الميزان ج۱۷

41
  • اَلْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ٣٥ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضىَ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ٣٦ وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ اَلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جَاءَكُمُ اَلنَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ٣٧ إِنَّ اَللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ٣٨} 

  • (بيان) 

  • رجوع إلى ذكر آيات أخر من آيات التوحيد و فيها انتقال إلى حديث الكتاب و أنه حق نازل من عند الله تعالى و قد انجر الكلام في الفصل السابق من الآيات إلى ذكر النبوة و الكتاب حيث قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً} و قال: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتَابِ اَلْمُنِيرِ} فكان من الحري أن يتعرض لصفة الكتاب و ما تستتبعه من الآثار. 

  • قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} إلخ. حجة أخرى على التوحيد و هو أن الله سبحانه ينزل الماء من السماء بالأمطار و هو أقوى العوامل المعينة لخروج الثمرات، و لو كان خروجها عن مقتضى طباع هذا العامل و هو واحد لكان جميعها ذا لون واحد فاختلاف الألوان يدل على وقوع التدبير الإلهي. 

  • و القول بأن اختلافها منوط باختلاف العوامل المؤثرة فيها و منها اختلاف العناصر الموجودة فيها نوعا و قدرا و خصوصية التأليف. 

  • مدفوع بأن الكلام منقول حينئذ إلى اختلاف نفس العناصر و هي منتهية إلى 

تفسير الميزان ج۱۷

42
  • المادة المشتركة التي لا اختلاف فيها فاختلاف العناصر المكونة منها يدل على عامل آخر وراء المادة يدبر أمرها و يسوقها إلى غايات مختلفة. 

  • و الظاهر أن المراد باختلاف ألوان الثمرات اختلاف نفس ألوانها و يلزمه اختلافات أخر من حيث الطعم و الرائحة و الخواص، و قيل المراد باختلاف الألوان اختلاف الأنواع فكثيرا ما يطلق اللون في الفواكه و الأطعمة على النوع كما يقال: قدم فلان ألوانا من الطعام و الفاكهة فهو من الكناية، و قوله بعد: {وَ مِنَ اَلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ} لا يخلو من تأييد للوجه الأول. 

  • و في قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} إلخ. التفات من الغيبة إلى التكلم. قيل: إن ذلك لكمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة و الحكمة. 

  • و نظير الوجه يجري في قوله السابق: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً} و أما ما في الآية السابقة من قوله: {ثُمَّ أَخَذْتُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} فلعل الوجه فيه أن أمرهم إلى الله لا يتخلل بينه و بينهم أحد حتى يشفع لهم أو ينصرهم فينجوا من العذاب. 

  • و قوله: {وَ مِنَ اَلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَ غَرَابِيبُ سُودٌ} الجدد بالضم فالفتح جمع جدة بضم الجيم و هي الطريقة و الجادة، و البيض‌ و الحمر جمع أبيض و أحمر، و الظاهر أن قوله: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} صفة لجدد و {أَلْوَانُهَا} فاعل {مُخْتَلِفٌ} و لو كانت الجملة مبتدأ و خبرا لقيل: مختلفة ألوانها كما قيل، و الغرابيب‌ جمع غربيب و هو الأسود الشديد السواد و منه الغراب و {سُودٌ} بدل أو عطف بيان لغرابيب. 

  • و المعنى: أ لم تر أن من الجبال طرائق بيض و حمر و سود مختلف ألوانها، و المراد إما الطرق المسلوكة في الجبال و لها ألوان مختلفة، و إما نفس الجبال التي هي خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض و حمر و سود مختلف ألوانها. 

  • قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ وَ اَلدَّوَابِّ وَ اَلْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أي و من الناس و الدواب التي تدب في الأرض و الأنعام كالإبل و الغنم و البقر بعض مختلف ألوانه بالبياض و الحمرة و السواد كاختلاف الثمرات و الجبال في ألوانها. 

تفسير الميزان ج۱۷

43
  • و قيل: قوله: {كَذَلِكَ} خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير الأمر كذلك فهو تقرير إجمالي للتفصيل المتقدم من اختلاف الثمرات و الجبال و الناس و الدواب و الأنعام. 

  • و قيل: {كَذَلِكَ} متعلق بقوله: {يَخْشَى} في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ} و الإشارة إلى ما تقدم من الاعتبار بالثمرات و الجبال و غيرهما و المعنى إنما يخشى الله كذلك الاعتبار بالآيات من عباده العلماء، و هو بعيد لفظا و معنى. 

  • قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ} استئناف يوضح أن الاعتبار بهذه الآيات إنما يؤثر أثره و يورث الإيمان بالله حقيقة و الخشية منه بتمام معنى الكلمة في العلماء دون الجهال، و قد مر أن الإنذار إنما ينجح فيهم حيث قال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ} فهذه الآية كالموضحة لمعنى تلك تبين أن الخشية حق الخشية إنما توجد في العلماء. 

  • و المراد بالعلماء العلماء بالله و هم الذين يعرفون الله سبحانه بأسمائه و صفاته و أفعاله معرفة تامة تطمئن بها قلوبهم و تزيل وصمة الشك و القلق عن نفوسهم و تظهر آثارها في أعمالهم فيصدق فعلهم قولهم، و المراد بالخشية حينئذ حق الخشية و يتبعها خشوع في باطنهم و خضوع في ظاهرهم. هذا ما يستدعيه السياق في معنى الآية. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} يفيد معنى التعليل فلعزته تعالى و كونه قاهرا غير مقهور و غالبا غير مغلوب من كل جهة يخشاه العارفون، و لكونه غفورا كثير المغفرة للآثام و الخطيئات يؤمنون به و يتقربون إليه و يشتاقون إلى لقائه. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اَللَّهِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} تلاوة الكتاب قراءة القرآن و قد أثنى عليها الله سبحانه، و إقامة الصلاة إدامة إتيانها و حفظها من أن تترك، و الإنفاق من الرزق سرا و علانية بذل المال سرا تحذرا من الرياء و زوال الإخلاص في الإنفاق المسنون، و بذل المال علانية ليشيع بين الناس كما في الإنفاق الواجب. 

  • و قوله: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} أي لن تهلك بالخسران، و ذكر بعضهم أن قوله: {يَرْجُونَ} إلخ. خبر إن في صدر الآية و عند بعضهم الخبر مقدر يتعلق به قوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ} إلخ «أي فعلوا ما فعلوا ليوفيهم أجورهم» إلخ. 

تفسير الميزان ج۱۷

44
  •  قوله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} متعلق بقوله: {يَتْلُونَ} و ما عطف عليه في الآية السابقة أي إنهم عملوا ما عملوا لأن يوفيهم و يؤتيهم إيتاء تاما كاملا أجورهم و ثوابات أعمالهم. 

  • و قوله: {وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} يمكن أن يراد بهذه الزيادة تضعيف الثواب أضعافا كما في قوله{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام: ١٦٠و قوله: ‌{مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} البقرة: ٢٦١، و يمكن أن يراد بها زيادة ليست من سنخ ثواب الأعمال كما في قوله: ‌{لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ} ق: ٣٥. 

  • و قوله: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} تعليل لمضمون الآية و زيادة فهو تعالى لكونه غفورا يغفر زلاتهم و لكونه شكورا يثيبهم و يزيد من فضله. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ هُوَ اَلْحَقُّ} ضمير الفصل و اللام في قوله: {هُوَ اَلْحَقُّ} للتأكيد لا للقصر أي هو حق لا يشوبه باطل. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلى آخر الآية. يقال: أورثه‌ مالا كذا أي تركه فيهم يقومون بأمره بعده و قد كان هو القائم بأمره المتصرف فيه، و كذا إيراث العلم و الجاه و نحوهما تركه عند الغير يقوم بأمره بعد ما كان عند غيره ينتفع به فإيراث القوم الكتاب تركه عندهم يتناولونه خلفا عن سلف و ينتفعون به. 

  • و تصح هذه النسبة و إن كان القائم به بعض القوم دون كلهم، قال تعالى: ‌{وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْهُدى‌ وَ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ هُدىً وَ ذِكْرى‌ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ } المؤمن: ٥٤، و قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلرَّبَّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبَارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اَللَّهِ} المائدة: ٤٤، و قال:‌{ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} الشورى: ١٤. فبنو إسرائيل أورثوا الكتاب و إن كان المؤدون حقه القائمون بأمره بعضهم لا جميعهم. 

  • و المراد بالكتاب في الآية على ما يعطيه السياق هو القرآن الكريم كيف؟ و قوله في الآية السابقة: {وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ} نص فيه، فاللام في الكتاب 

تفسير الميزان ج۱۷

45
  • للعهد دون الجنس فلا يعبأ بقول من يقول: إن اللام للجنس و المراد بالكتاب مطلق الكتاب السماوي المنزل على الأنبياء. 

  • و الاصطفاء أخذ صفوة الشي‌ء و يقرب من معنى الاختيار و الفرق أن الاختيار أخذ الشي‌ء من بين الأشياء بما أنه خيرها و الاصطفاء أخذه من بينها بما أنه صفوتها و خالصها. 

  • و قوله: {مِنْ عِبَادِنَا} يحتمل أن يكون {مِنْ} للتبيين أو للابتداء أو للتبعيض الأقرب إلى الذهن أن يكون بيانية و قد قال تعالى: ‌{وَ سَلاَمٌ عَلى‌ عِبَادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفى‌ }النمل: ٥٩. 

  • و اختلفوا في هؤلاء المصطفين من عباده من هم؟ فقيل: هم الأنبياء، و قيل: هم بنو إسرائيل الداخلون في قوله: ‌{إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفى‌ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى اَلْعَالَمِينَ} آل عمران: ٣٣، و قيل: هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فقد أورثوا القرآن من نبيهم إليه يرجعون و به ينتفعون علماؤهم بلا واسطة و غيرهم بواسطتهم، و قيل: هم العلماء من الأمة المحمدية. 

  • و قيل - و هو المأثور عن الصادقين (عليهما السلام) في روايات كثيرة مستفيضة - إن المراد بهم ذرية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أولاد فاطمة (عليها السلام) و هم الداخلون في آل إبراهيم في قوله‌: {إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفى‌ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ} آل عمران: ٣٣، و قد نص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على علمهم بالقرآن و إصابة نظرهم فيه و ملازمتهم إياه بقوله‌ في الحديث المتواتر المتفق عليه: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض‌». 

  • و على هذا فالمعنى بعد ما أوحينا إليك القرآن ثم للتراخي الرتبي أورثنا ذريتك إياه و هم الذين اصطفينا من عبادنا إذا اصطفينا آل إبراهيم و إضافة العباد إلى نون العظمة للتشريف. 

  • و قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} يحتمل أن يكون ضمير {فَمِنْهُمْ} راجعا إلى {اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا} فيكون الطوائف الثلاث الظالم لنفسه و المقتصد و السابق بالخيرات شركاء في الوراثة و إن كان الوارث الحقيقي العالم بالكتاب و الحافظ له هو السابق بالخيرات.

تفسير الميزان ج۱۷

46
  • و يحتمل أن يكون راجعا إلى {عِبَادِنَا } من غير إفادة الإضافة للتشريف فيكون قوله: {فَمِنْهُمْ} مفيدا للتعليل و المعنى إنما أورثنا الكتاب بعض عبادنا و هم المصطفون لا جميع العباد لأن من عبادنا من هو ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق و لا يصلح الكل للوراثة. 

  • و يمكن تأييد أول الاحتمالين بأن لا مانع من نسبة الوراثة إلى الكل مع قيام البعض بها حقيقة كما نجد نظيره في قوله تعالى‌{وَ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ} المؤمن: ٥٤. 

  • و ما في الآية من المقابلة بين الظالم لنفسه و المقتصد و السابق بالخيرات يعطي أن المراد بالظالم لنفسه من عليه شي‌ء من السيئات و هو مسلم من أهل القرآن لكونه مصطفى و وارثا، و المراد بالمقتصد المتوسط الذي هو في قصد السبيل و سواء الطريق و المراد بالسابق بالخيرات بإذن الله من سبق الظالم و المقتصد إلى درجات القرب فهو إمام غيره بإذن الله بسبب فعل الخيرات قال تعالى: ‌{وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ }الواقعة: ١١. 

  • و قوله تعالى: {ذَلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ} أي ما تقدم من الإيراث هو الفضل الكبير من الله لا دخل للكسب فيه. 

  • هذا ما يعطيه السياق و تفيده الأخبار من معنى الآية و فيها للقوم اختلاف عجيب فقد اختلف في {ثُمَّ} فقيل: هي للتراخي بحسب الأخبار، و قيل: للتراخي الرتبي، و قيل: للتراخي الزماني. ثم العطف على {أَوْحَيْنَا} أو على {اَلَّذِي أَوْحَيْنَا}

  • و اختلف في {أَوْرَثْنَا} فقيل: هو على ظاهره، و قيل: معناه حكمنا بإيراثه و قدرناه، و اختلف في {اَلْكِتَابَ} فقيل: المراد به القرآن، و قيل: جنس الكتب السماوية، و اختلف في {اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا} فقيل: المراد بهم الأنبياء، و قيل: بنو إسرائيل، و قيل: أمة محمد، و قيل: العلماء منهم، و قيل: ذرية النبي من ولد فاطمة (عليها السلام). 

  • و اختلف في {مِنْ عِبَادِنَا} فقيل: من للتبعيض أو للابتداء أو للتبيين و يختلف المراد من العباد بحسب اختلاف معنى {مِنْ} و كذا إضافة {عِبَادِنَا} للتشريف على بعض الوجوه و لغيره على بعضها. 

تفسير الميزان ج۱۷

47
  • و اختلف في {فَمِنْهُمْ} فقيل: مرجع الضمير {اَلَّذِينَ} و قيل: {عِبَادِنَا} و اختلف في الظالم لنفسه و المقتصد و السابق فقيل الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه و المقتصد من استوى ظاهره و باطنه و السابق من كان باطنه خيرا من ظاهره، و قيل: السابق هم السابقون الماضون في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أصحابه و المقتصد من تبع أثرهم و لحق بهم من الصحابة و الظالم لنفسه غيرهم، و قيل: الظالم من غلبت عليه السيئة و المقتصد المتوسط حالا و السابق هو المقرب إلى الله السابق في الدرجات. 

  • و هناك أقوال متفرقة أخر تركنا إيرادها و لو ضربت الاحتمالات بعضها في بعض جاوز الألف. 

  • قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} التحلية هي التزيين و الأساور جمع أسورة و هي جمع سوار بكسر السين قال الراغب: سوار المرأة معرب و أصله دستواره. انتهى. 

  • و قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} إلخ. ظاهره أنه بيان للفضل الكبير قال في المجمع: هذا تفسير للفضل كأنه قيل: ما ذلك الفضل؟ فقال: هي جنات أي جزاء جنات أو دخول جنات و يجوز أن يكون بدلا من الفضل كأنه قال: ذلك دخول جنات. انتهى. و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} قيل: المراد بالحزن الذي يحمدون الله على إذهابه بإدخالهم الجنة الحزن الذي كان يتوجه إليهم في الحياة الدنيا و ما يحف بها من الشدائد و النوائب. 

  • و قيل: المراد به الحزن الذي كان قد أحاط بهم بعد الارتحال من الدنيا، و قيل الدخول في جنة الآخرة إشفاقا مما اكتسبوه من السيئات. 

  • و على هذا فالقول قول الظالم لنفسه منهم أو قوله و قول المقتصد و أما السابق بالخيرات منهم فلا سيئة في صحيفة أعماله حتى يعذب بها. و هذا الوجه أنسب لقولهم في آخر حمدهم: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}

  • قوله تعالى: {اَلَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ اَلْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} المقامة الإقامة، و دار المقامة المنزل الذي لا خروج منه و لا تحول. 

تفسير الميزان ج۱۷

48
  • و النصب‌ بفتحتين التعب و المشقة، و اللغوب‌ بضم اللام: العي و التعب في طلب المعاش و غيره. 

  • و المعنى: الذي جعلنا حالين في دار الخلود من فضله من غير استحقاق منا عليه لا يمسنا في هذه الدار و هي الجنة مشقة و تعب و لا يمسنا فيها عي و لا كلال في طلب ما نريد أي إن لنا فيها ما نشاء. 

  • و في قوله: {مِنْ فَضْلِهِ} مناسبة خاصة مع قوله السابق: {ذَلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ}

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} إلى آخر الآية اللام في {لَهُمْ} للاختصاص و يفيد كون النار جزاء لهم لا ينفك عنهم، و قوله: {لاَ يُقْضى‌ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} أي لا يحكم عليهم بالموت حتى يموتوا فهم أحياء على ما هم فيه من شدة العذاب و لا يخفف عنهم من عذاب النار كذلك نجزي كل كفور شديد الكفران أو كثيره. 

  • قوله تعالى: {وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} إلى آخر الآية في المجمع:‌ الاصطراخ‌ الصياح و النداء بالاستغاثة افتعال من الصراخ انتهى. 

  • و قوله: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} إلخ. بيان لاصطراخهم، و قوله: {أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} إلخ. جواب اصطراخهم و قوله: {فَذُوقُوا} و قوله: {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} كل منهما متفرع على ما قبله. 

  • و المعنى: و هؤلاء الذين في النار من الكفار يصطرخون و يصيحون بالاستغاثة فيها قائلين: ربنا أخرجنا من النار نعمل صالحا غير سيئ غير الذي كنا نعمل فيقال لهم ردا عليهم: - كلا - أ و لم نعمركم عمرا يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فأنذركم هذا العذاب فلم تتذكروا و لم تؤمنوا؟ فذوقوا العذاب فما للظالمين من نصير ينصرهم ليتخلصوا من العذاب. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ} فيعاملكم بما في باطنكم من الاعتقاد و آثار الأعمال و يحاسبكم عليه سواء وافق ظاهركم باطنكم أو خالف قال تعالى: ‌{إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اَللَّهُ} البقرة: ٢٨٤، و قال: ‌{يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ} الطارق: ٩. 

تفسير الميزان ج۱۷

49
  • (بحث روائي) 

  • في المجمع في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ} (الآية) روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: يعني بالعلماء من صدق قوله فعله، و من لم يصدق فعله قوله فليس بعالم. و في الحديث: أعلمكم بالله أخوفكم لله.

  •  أقول: و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليه السلام) ما في معناه. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الترمذي و الحاكم عن الحسن قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): العلم علمان: علم في القلب فذاك العلم النافع، و علم على اللسان فذاك حجة الله على خلقه. 

  • و في المجمع، روى ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال في قوله: {وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه معروفا في الدنيا.

  • و في الكافي، بإسناده عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (الآية) قال: فقال: ولد فاطمة (عليها السلام) ، و السابق بالخيرات الإمام و المقتصد العارف بالإمام و الظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام.

  • و عن كتاب سعد السعود، لابن طاووس في حديث لأبي إسحاق السبيعي عن الباقر (عليه السلام) في الآية قال: هي لنا خاصة يا أبا إسحاق أما السابق بالخيرات فعلي بن أبي طالب و الحسن و الحسين و الشهيد منا، و أما المقتصد فصائم بالنهار و قائم بالليل، و أما الظالم لنفسه ففيه ما في الناس و هو مغفور له.

  • أقول: المراد بالشهيد بقرينة الروايات الأخر الإمام. 

  • و في معاني الأخبار، مسندا عن الصادق (عليه السلام) في الآية قال: الظالم يحوم حوم نفسه و المقتصد يحوم حوم قلبه و السابق بالخيرات يحوم حوم ربه. 

تفسير الميزان ج۱۷

50
  • أقول: الحوم و الحومان‌ الدوران، و دوران الظالم لنفسه حوم نفسه اتباعه أهواءها و سعيه في تحصيل ما يرضيها، و دوران المقتصد حوم قلبه اشتغاله بما يزكي قلبه و يطهره بالزهد و التعبد، و دوران السابق بالخيرات حوم ربه إخلاصه له تعالى فيذكره و ينسى غيره فلا يرجو إلا إياه و لا يقصد إلا إياه. 

  • و اعلم أن الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) في كون الآية خاصة بولد فاطمة (عليها السلام) كثيرة جدا. 

  • و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و أحمد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي عن أبي الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اَللَّهِ} فأما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب، و أما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا، و أما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يلقاهم الله برحمة فهم الذين يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب و لا يمسنا فيها لغوب. 

  • أقول: و رواه في المجمع، عن أبي الدرداء عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ و في معناه أحاديث أخر، و هناك ما يخالفها و لا يعبأ به كما فيه، عن ابن مردويه عن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} قال: الكافر. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} قال: النصب العناء و اللغوب الكسل و الضجر. 

  • و في نهج البلاغة، و قال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة. 

  • أقول: و رواه عنه (عليه السلام) في المجمع، و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير عنه (عليه السلام).

  • و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و البيهقي في سننه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين و هو المعمر 

تفسير الميزان ج۱۷

51
  • الذي قال الله: {أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}

  • أقول: و روي ذلك بطرق أخرى عن سهل بن سعد و أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌. 

  • و في المجمع:‌ و قيل هو توبيخ لابن ثماني عشرة سنة و روي ذلك عن الباقر (عليه السلام). 

  • أقول: و رواه في الفقيه، عنه (عليه السلام) مضمرا. 

  • [سورة فاطر (٣٥): الآیات ٣٩ الی ٤٥]

  • {هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لاَ يَزِيدُ اَلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَ لاَ يَزِيدُ اَلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً ٣٩ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلى‌ بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً ٤٠إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ٤١ وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‌ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ٤٢ اِسْتِكْبَاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ اَلْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَحْوِيلاً ٤٣ أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا 

تفسير الميزان ج۱۷

52
  • كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‌ءٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ٤٤ وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى‌ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَ لَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ٤٥} 

  • (بيان) 

  • احتجاج على توحيد الربوبية كقوله: {هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ} (الآية)، و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ} (الآية)، و على نفي ربوبية شركائهم {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} (الآية)و توبيخ و تهديد لهم على نقضهم ما أبرموه باليمين و مكرهم السيئ. 

  • ثم تسجيل أن الله لا يعجزه شي‌ء و إنما يمهل من أمهله من هؤلاء الظالمين إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم جازاهم ما يستحقونه و بذلك تختتم السورة. 

  • قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ} إلخ. الخلائف‌ جمع خليفة، و كون الناس خلائف في الأرض هو قيام كل لاحق منهم مقام سابقه و سلطته على التصرف و الانتفاع منها كما كان السابق مسلطا عليه و هم إنما نالوا هذه الخلافة من جهة نوع الخلقة و هو الخلقة من طريق النسل و الولادة فإن هذا النوع من الخلقة يقسم المخلوق إلى سلف و خلف. 

  • فجعل الخلافة الأرضية نوع من التدبير مشوب بالخلق غير منفك عنه و لذلك استدل به على توحده تعالى في ربوبيته لأنه مختص به تعالى لا مجال لدعواه لغيره. 

  • فقوله: {هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ} حجة على توحده تعالى في ربوبيته 

تفسير الميزان ج۱۷

53
  • و انتفائها عن شركائهم: تقريره أن الذي جعل الخلافة الأرضية في العالم الإنساني هو ربهم المدبر لأمرهم، و جعل الخلافة لا ينفك عن نوع الخلقة فخالق الإنسان هو رب الإنسان لكن الخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله هو رب الإنسان. 

  • و قوله: {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي فالله سبحانه هو رب الإنسان فمن كفر و ستر هذه الحقيقة و نسب الربوبية إلى غيره تعالى فعلى ضرره كفره. 

  • و قوله: {وَ لاَ يَزِيدُ اَلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَ لاَ يَزِيدُ اَلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً} بيان لكون كفرهم عليهم و هو أن كفرهم يورث لهم مقتا عند ربهم و المقت شدة البغض لأن فيه إعراضا عن عبوديته و استهانة بساحته، و يورث لهم خسارا في أنفسهم لأنهم بدلوا السعادة الإنسانية شقاء و وبالا سيصيبهم في مسيرهم و منقلبهم إلى دار الجزاء. 

  • و إنما عبر عن أثر الكفر بالزيادة لأن الفطرة الإنسانية بسيطة ساذجة واقعة في معرض الاستكمال و الازدياد فإن أسلم الإنسان زاده ذلك كمالا و قربا من الله و إن كفر زاده ذلك مقتا عند الله و خسارا. 

  • و إنما قيد المقت بقوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} دون الخسار لأن الخسار من تبعات تبديل الإيمان كفرا و السعادة شقاء و هو أمر عند أنفسهم و أما المقت و شدة البغض فمن عند الله سبحانه. 

  • و الحب و البغض المنسوبان إلى الله سبحانه من صفات الأفعال و هي معان خارجة عن الذات غير قائمة بها، و معنى حبه تعالى لأحد انبساط رحمته عليه و انجذابها إليه و بغضه تعالى لأحد انقباض رحمته منه و ابتعادها عنه. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية إضافة الشركاء إليهم بعناية أنهم يدعون أنهم شركاء لله فهي إضافة لامية مجازية. 

  • و في الآية تلقين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الحجة على نفي ربوبية آلهتهم الذين كانوا يعبدونهم و تقرير الحجة أنهم لو كانوا أربابا آلهة من دون الله لكان لهم شي‌ء من تدبير العالم فكانوا خالقين لما يدبرونه لأن الخلق و التدبير لا ينفك أحدهما عن الآخر و لو كانوا خالقين لدل 

تفسير الميزان ج۱۷

54
  • عليه دليل و الدليل إما من العالم أو من قبل الله سبحانه أما العالم فلا شي‌ء منه يدل على كونه مخلوقا لهم و لو بنحو الشركة و هو قوله: {أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمَاوَاتِ}

  • و أما من قبله تعالى فلو كان لكان كتابا سماويا نازلا من عنده سبحانه يعترف بربوبيتهم و يجوز للناس أن يعبدوهم و يتخذوهم آلهة، و لم ينزل كتاب على هذه الصفة و هم معترفون بذلك و هو قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلىَ بَيِّنَةٍ مِنْهُ}

  • و إنما عبر عن نفي خالقيتهم في الأرض بقوله: {أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ} و لم يقل: أنبئوني أ لهم شرك في الأرض؟ و عبر في السماوات بقوله: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمَاوَاتِ} و لم يقل: أم ما ذا خلقوا من السماوات. 

  • لأن المراد بالأرض - على ما يدل عليه سياق الاحتجاج - العالم الأرضي و هو الأرض بما فيها و ما عليها و المراد بالسماوات العالم السماوي المشتمل على السماوات و ما فيها و ما عليها فقوله: {مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ} في معنى أ لهم شرك في الأرض و لا يكون إلا بخلق شي‌ء منها، و قوله: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمَاوَاتِ} في معنى أم ما ذا خلقوا من السماوات، و قد اكتفى بذكر الخلق في جانب الأرض إشارة إلى أن الشرك في الربوبية لا يكون إلا بخلق. 

  • و قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلىَ بَيِّنَةٍ مِنْهُ} أي بل آتيناهم كتابا فهم على بينة منه أي على حجة ظاهرة من الكتاب أن لشركائهم شركة معنا و ذلك بدلالته على أنهم شركاء لله. 

  • و قد قال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً} و لم يقل: أم لهم كتاب و نحو ذلك ليتأكد النفي و الإنكار فإن قولنا: أم لهم كتاب و نحو ذلك إنكار لوجود الكتاب لكن قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً} إنكار لوجود الكتاب ممن ينزل الكتاب لو نزل. 

  • و قد تبين بما تقدم أن ضمير الجمع في {آتَيْنَاهُمْ} و في {فَهُمْ عَلىَ بَيِّنَةٍ} للمشركين فلا يعبأ بما قيل: إن الضميرين للشركاء. 

  • و قوله: {بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً} إضراب عما تقدم من الاحتجاج بأن الذي حملهم على الشرك ليس هو حجة تحملهم عليه و يعتمدون عليها بل 

تفسير الميزان ج۱۷

55
  • غرور بعضهم بعضا بوعد الشفاعة و الزلفى فأسلافهم يغرون أخلافهم و رؤساؤهم و أئمتهم يغرون مرءوسيهم و تابعيهم و يعدونهم شفاعة الشركاء عند الله سبحانه و لا حقيقة لها. 

  • و حجة الآية عامة على المشركين عبدة الأصنام و هم الذين يعبدون الملائكة و الجن و قديسي البشر و يتخذون لهم أصناما يتوجهون إليها، و على الذين يعبدون روحاني الكواكب و يتوجهون إلى الكواكب ثم يتخذون للكواكب أصناما، و على الذين يعبدون الملائكة و العناصر من غير أن يتخذوا لها أصناما كما ينقل عن الفرس القدماء، و على الذين يعبدون بعض البشر كالنصارى للمسيح (عليه السلام). 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} إلخ. قيل: إن الآية استئناف مقرر لغاية قبح الشرك و هوله أي إن الله تعالى يحفظ السماوات و الأرض كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا و تضمحلا لأن الممكن كما يحتاج إلى الواجب حال إيجاده يحتاج إليه حال بقائه. انتهى. 

  • و الظاهر أنه تعالى لما استدل على توحده في الربوبية يجعل الخلافة في النوع الإنساني بقوله: {هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ} (الآية) ثم نفى الشركة مطلقا بالحجة عمم الحجة بحيث تشمل الخلق كله أعني السماوات و الأرض فاحتج على توحده بإبقاء الخلق بعد إحداثه فإن من البين الذي لا يرتاب فيه أن حدوث الشي‌ء و أصل تلبسه بالوجود بعد العدم غير بقائه و تلبسه بالوجود بعد الوجود على نحو الاستمرار فبقاء الشي‌ء بعد حدوثه يحتاج إلى إيجاد بعد إيجاد على نحو الاتصال و الاستمرار. 

  • و إبقاء الشي‌ء بعد إحداثه كما أنه إيجاد بعد الإيجاد كذلك هو تدبير لأمره فإنك إن دققت النظر وجدت أن النظام الجاري في الكون إنما يجري بالإحداث و الإبقاء فقط. و الموجد و الخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله سبحانه هو الخالق المدبر للسماوات و الأرض وحده لا شريك له. 

  • فقوله: {إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ} الإمساك بمعناه المعروف و قوله: {أَنْ تَزُولاَ} - و تقديره كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا - متعلق به، و قيل: الإمساك بمعنى المنع أو بمعنى الحفظ و على أي حال فالإمساك كناية عن الإبقاء و هو الإيجاد بعد الإيجاد على سبيل الاتصال و الاستمرار، و الزوال هو الاضمحلال و البطلان. 

تفسير الميزان ج۱۷

56
  • و نقل عن بعضهم أنه فسر الزوال بالانتقال المكاني، و المعنى أن الله يمنع السماوات و الأرض من أن ينتقل شي‌ء منهما عن مكانه الذي استقر فيه فيرتفع أو ينخفض انتهى و الشأن في تصور مراده تصورا صحيحا. 

  • و قوله: {وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} السياق يعطي أن المراد بالزوال هاهنا الإشراف على الزوال إذ نفس الزوال لا يجتمع معه الإمساك و المعنى و أقسم لئن أشرفتا على الزوال لم يمسكهما أحد من بعد الله سبحانه إذ لا مفيض للوجود غيره و يمكن أن يكون المراد بالزوال معناه الحقيقي و المراد بالإمساك القدرة على الإمساك و قد تبين أن {مِنْ} الأولى زائدة للتأكيد و الثانية للابتداء، و ضمير {مِنْ بَعْدِهِ} راجع إليه تعالى، و قيل: راجع إلى الزوال. 

  • و قوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} فهو لحلمه لا يعجل إلى أمر و لمغفرة يستر جهات العدم في الأشياء، و مقتضى الاسمين أن يمسك السماوات و الأرض أن تزولا إلى أجل مسمى. 

  • و قال في إرشاد العقل السليم:‌ إنه كان حليما غفورا غير معاجل بالعقوبة التي تستوجبها جناياتهم حيث أمسكهما و كانتا جديرتين بأن تهدا هدا حسبما قال تعالى: {تَكَادُ اَلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ} انتهى. 

  • قوله تعالى: {وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‌ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} قال الراغب: الجهد - بفتح الجيم - و الجهد – بضمها - الطاقة و المشقة - إلى أن قال - و قال تعالى: {وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي حلفوا و اجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. انتهى. و قال: النفر الانزعاج عن الشي‌ء و إلى الشي‌ء كالفزع إلى الشي‌ء و عن الشي‌ء يقال: نفر عن الشي‌ء نفورا قال تعالى: {مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} انتهى. 

  • قيل‌۱ بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود و النصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم انتهى، و سياق الآية يصدق هذا النقل و يؤيده. 

    1. رواه في الدر المنثور عن أبي هلال و عن ابن جريح.

تفسير الميزان ج۱۷

57
  • فقوله: {وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الضمير لقريش و قد حلفوا هذا الحلف قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بدليل قوله بعد: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}، و المقسم به قوله: {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} إلخ. 

  • و قوله: {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‌ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ} أي إحدى الأمم التي جاءهم نذير كاليهود و النصارى و إنما قال: {لَيَكُونُنَّ أَهْدى‌ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ} و لم يقل: أهدى منهم لأن المعنى أنهم كانوا أمة ما جاءهم نذير ثم لو جاءهم نذير كانوا أمة ذات نذير كإحدى تلك الأمم المنذرة ثم بتصديق النذير يصيرون أهدى من التي ماثلوها و هو قوله: {أَهْدى‌ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ} فافهمه. 

  • و قيل: إن مقتضى المقام العموم، و قوله: {إِحْدَى اَلْأُمَمِ} عام و إن كان نكرة في سياق الإثبات و اللام في {اَلْأُمَمِ} للعهد، و المعنى ليكونن أهدى من كل واحدة من تلك الأمم التي كذبوا رسلهم من اليهود و النصارى و غيرهم. 

  • و قيل: المعنى ليكونن أهدى من أمة يقال فيها: إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها من الأمم كما يقال: هو واحد القوم و واحد عصره. انتهى. 

  • و لا يخلو الوجه الأخير عن تكلف و بعد. 

  • و قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} المراد بالنذير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و النفور التباعد و الهرب. 

  • قوله تعالى: {اِسْتِكْبَاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، و ذلك ضربان: مكر محمود و ذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل و على ذلك قال تعالى: {وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْمَاكِرِينَ} و مذموم و هو أن يتحرى به فعل قبيح قال تعالى: {لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} انتهى. 

  • و قال أيضا: قال عز و جل: {وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} أي لا ينزل و لا يصيب. قيل: و أصله حق فقلب نحو زل و زال و قد قرئ فأزلهما الشيطان و أزالهما و على هذا ذمه و ذامه. انتهى. 

  • و قوله: {اِسْتِكْبَاراً فِي اَلْأَرْضِ} مفعول لأجله لقوله: {نُفُوراً} أي نفروا عنه 

تفسير الميزان ج۱۷

58
  • و تباعدوا للاستكبار في الأرض و قوله: {وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ} معطوف على {اِسْتِكْبَاراً} و مفعول لأجله مثله، و قيل: معطوف على {نُفُوراً} و الإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل قوله ثانيا: {وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ} إلخ. 

  • و قوله: {وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} أي لا يصيب و لا ينزل المكر السيئ إلا بأهله و لا يستقر إلا فيه، فإن المكر السيئ و إن كان ربما أصاب به مكروه للممكور به، لكنه سيزول و لا يدوم إلا أن أثره السيئ بما أنه المكر سيئ يبقى في نفس الماكر و سيظهر فيه و يجزى به إما في الدنيا و إما في الآخرة البتة، و لهذا فسر الآية في مجمع البيان، بقوله: و المعنى لا ينزل جزاء المكر السيئ إلا بمن فعله. 

  • و الكلام مرسل إرسال المثل كقوله تعالى: ‌{إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلى‌ أَنْفُسِكُمْ} يونس: ٢٣ {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلى‌ نَفْسِهِ} الفتح: ١٠. 

  • و قوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ اَلْأَوَّلِينَ} النظر و الانتظار بمعنى التوقع و الفاء للتفريع و الجملة استنتاج مما تقدمها و الاستفهام للإنكار و المعنى و إذ مكروا المكر السيئ و المكر السيئ يحيق بأهله فهم لا ينتظرون إلا السنة الجارية في الأمم الماضين و هي العذاب الإلهي النازل بهم إثر مكرهم و تكذيبهم بآيات الله. 

  • و قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَحْوِيلاً} تبديل السنة أن توضع العافية و النعمة موضع العذاب، و تحويلها أن ينقل العذاب من قوم يستحقونه إلى غيرهم، و سنة الله لا تقبل تبديلا و لا تحويلا لأنه تعالى على صراط مستقيم لا يقبل حكمه تبعيضا و لا استثناء. 

  • و قد أخذ الله بالعذاب هؤلاء المشركين الماكرين يوم بدر فقتل عامتهم. و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو لكل سامع. 

  • قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} استشهاد على سنته الجارية في الأمم الماضية و قد كانوا أشد قوة من مشركي مكة فأخذهم الله بالعذاب لما مكروا و كذبوا. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‌ءٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً 

تفسير الميزان ج۱۷

59
  •  قَدِيراً} تتميم لسابق البيان لمزيد إنذارهم و تخويفهم، و المحصل ليتقوا الله و ليؤمنوا به و لا يمكروا به و لا يكذبوا فإن سنة الله في ذلك هي العذاب كما يشهد به ما جرى في الأمم السابقة من الإهلاك و التعذيب و قد كانوا أشد قوة منهم و الله سبحانه لا يعجزه شي‌ء في السماوات و الأرض بقوة أو مكر فإنه عليم على الإطلاق لا يغفل و لا يجهل حتى ينخدع بمكر أو حيلة قدير على الإطلاق لا يقاومه شي‌ء. 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى‌ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} إلخ المراد بالمؤاخذة المؤاخذة الدنيوية كما يدل عليه قوله الآتي: {وَ لَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى} إلخ. و المراد بالناس جميعهم فإن الآية مسبوقة بذكر مؤاخذة بعضهم و هم الماكرون المكذبون بآيات الله، و المراد بما كسبوا المعاصي التي اكتسبوها بقرينة المؤاخذة التي هي العذاب و قد قال في نظيره الآية من سورة النحل‌{وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} النحل: ٦١. 

  • و المراد بظهرها ظهر الأرض لأن الناس يعيشون عليه على أن الأرض تقدم ذكرها في الآية السابقة. 

  • و المراد بالدابة كل ما يدب في الأرض من إنسان ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير و احتمل أن يكون المراد كل ما يدب في الأرض من حيوان و إهلاك غير الإنسان من أنواع الحيوان إنما هو لكونها مخلوقة للإنسان كما قال تعالى: ‌{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً} البقرة: ٢٩. 

  • و قول بعضهم: ذلك لشؤم المعاصي و قد قال تعالى: {وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} مدفوع بأن شؤم المعصية لا يتعدى العاصي إلى غيره و قد قال تعالى: ‌{وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‌} فاطر: ١٨، و أما الآية أعني قوله{وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الأنفال: ٢٥ فمدلولها على ما تقدم من تفسيرها اختصاص الفتنة بالذين ظلموا منهم خاصة لا عمومها لهم و لغيرهم فراجع. 

  • و قوله: {وَ لَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى} و هو الموت أو القيامة و قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} أي فيجازي كلا بما عمل فإنه بصير بهم عليم بأعمالهم لأنهم عباده و كيف يمكن أن يجهل الخالق خلقه و الرب عمل عبده؟. 

تفسير الميزان ج۱۷

60
  • و قد بان بما تقدم أن قوله: {فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} من وضع السبب موضع المسبب الذي هو الجزاء. 

  • و الآية أعني قوله تعالى: {وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ} إلخ. واقعة موقع الجواب عن سؤال مقدر ناش عن الآية السابقة فإنه تعالى لما أنذر أهل المكر و التكذيب من المشركين بالمؤاخذة و استشهد بما جرى في الأمم السابقة و ذكر أنه لا يعجزه شي‌ء في السماوات و الأرض كأنه قيل: فإذا لم يعجزه شي‌ء في السماوات و الأرض فكيف يترك سائر الناس على ما هم عليه من المعاصي؟ و ما ذا يمنعه أن يؤاخذهم بما كسبوا؟ فأجاب أنه لو يؤاخذ جميع الناس بما كسبوا من المعاصي كما يؤاخذ هؤلاء الماكرين المكذبين ما ترك على ظهر الأرض أحدا منهم يدب و يتحرك، و قد قضى سبحانه أن يعيشوا في الأرض و يعمروها إذ قال‌: { وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‌ حِينٍ} البقرة: ٣٦ فلا يؤاخذهم و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى و هو الموت أو البعث فإذا جاء أجلهم عاملهم بما عملوا إنه كان بعباده بصيرا. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إياكم و المكر السيئ فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله و لهم من الله طالب.

  • و في تفسير القمي‌ حدثني أبي عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): سبق العلم، و جف القلم، و مضى القضاء و تم القدر بتحقيق الكتاب، و تصديق الرسل، و بالسعادة من الله لمن آمن و اتقى و بالشقاء لمن كذب و كفر، و بالولاية من الله عز و جل للمؤمنين، و بالبراءة منه المشركين. 

  • ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله عز و جل يقول: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، و بفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، و بقوتي و عصمتي و عافيتي أديت إلي فرائضي و أنا أولى بحسناتك منك و أنت أولى بذنبك مني، الخير مني إليك واصل بما أوليتك به و الشر منك إليك بما جنيت جزاء 

تفسير الميزان ج۱۷

61
  • و بكثير من تسلطي لك انطويت على طاعتي، و بسوء ظنك بي قنطت من رحمتي. 

  • فلي الحمد و الحجة عليك بالبيان، و لي السبيل عليك بالعصيان، و لك الجزاء الحسن عندي بالإحسان، لم أدع تحذيرك، و لم آخذك عند غرتك و هو قوله عز و جل: {وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى‌ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}، لم أكلفك فوق طاقتك، و لم أحملك من الأمانة إلا ما أقررت بها على نفسك، و رضيت لنفسي منك بما رضيت به لنفسك مني ثم قال عز و جل: {وَ لَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً}.

  • (٣٦) سورة يس مكية و هي ثلاث و ثمانون آية (٨٣) 

  • [سورة يس (٣٦): الآیات ١ الی ١٢]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يس ١ وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ ٢ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ٣ عَلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٤ تَنْزِيلَ اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ ٥ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ٦ لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلى‌ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٧ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ٨ وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ٩ وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٠إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ وَ خَشِيَ اَلرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ ١١ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى‌ وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ١٢} 

تفسير الميزان ج۱۷

62
  • (بيان) 

  • غرض السورة بيان الأصول الثلاثة للدين فهي تبتدئ بالنبوة و تصف حال الناس في قبول الدعوة و ردها و أن غاية الدعوة الحقة إحياء قوم بركوبهم صراط السعادة و تحقيق القول على آخرين و بعبارة أخرى تكميل الناس في طريقي السعادة و الشقاء. 

  • ثم تنتقل السورة إلى التوحيد فتعد جملة من آيات الوحدانية ثم تنتقل إلى ذكر المعاد فتذكر بعث الناس للجزاء و امتياز المجرمين يومئذ من المتقين و تصف ما تئول إليه حال كل من الفريقين. 

  • ثم ترجع إلى ما بدأت فتلخص القول في الأصول الثلاثة و تستدل عليها و عند ذلك تختتم السورة. 

  • و من غرر الآيات فيها قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فالسورة عظيمة الشأن تجمع أصول الحقائق و أعراقها و قد ورد من طرق العامة و الخاصة: أن لكل شي‌ء قلبا و قلب القرآن يس۱ و السورة مكية بشهادة سياق آياتها. 

  • قوله تعالى: {يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ } - إلى قوله - {فَهُمْ غَافِلُونَ} إقسام منه تعالى بالقرآن الحكيم على كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من المرسلين، و قد وصف القرآن بالحكيم لكونه مستقرا فيه الحكمة و هي حقائق المعارف و ما يتفرع عليها من الشرائع و العبر و المواعظ. 

  • و قوله: {إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ} مقسم عليه كما تقدم. 

  • و قوله: {عَلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبر بعد خبر لقوله: {إِنَّكَ}، و تنكير الصراط - كما قيل - للدلالة على التفخيم و توصيفه بالمستقيم للتوضيح فإن الصراط هو الطريق 

    1. رواه الصدوق في ثواب الأعمال عن أبي عبد الله ع و السيوطي في الدر المنثور عن أنس و أبي هريرة و معقل بن يسار عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

تفسير الميزان ج۱۷

63
  • الواضح المستقيم، و المراد به الطريق الذي يوصل عابريه إلى الله تعالى أي إلى السعادة الإنسانية التي فيها كمال العبودية لله و القرب، و قد تقدم في تفسير الفاتحة بعض ما ينفع في هذا المقام من الكلام. 

  • و قوله: {تَنْزِيلَ اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ} وصف للقرآن مقطوع عن الوصفية منصوب على المدح، و المصدر بمعنى المفعول و محصل المعنى أعني بالقرآن ذاك المنزل الذي أنزله الله العزيز الرحيم الذي استقر فيه العزة و الرحمة. 

  • و التذييل بالوصفين للإشارة إلى أنه قاهر غير مقهور و غالب غير مغلوب فلا يعجزه إعراض المعرضين عن عبوديته و لا يستذله جحود الجاحدين و تكذيب المكذبين، و أنه ذو رحمة واسعة لمن يتبع الذكر و يخشاه بالغيب لا لينتفع بإيمانهم بل ليهديهم إلى ما فيه سعادتهم و كمالهم فهو بعزته و رحمته أرسل الرسول و أنزل عليه القرآن الحكيم لينذر الناس فيحق كلمة العذاب على بعضهم و يشمل الرحمة منهم آخرين. 

  • و قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} تعليل للإرسال و التنزيل و {قَوْماً} نافية و الجملة صفة لقوله: {قَوْماً} و المعنى إنما أرسلك و أنزل عليك القرآن لتنذر و تخوف قوما لم ينذر آباؤهم فهم غافلون. 

  • و المراد بالقوم إن كان هو قريش و من يلحق بهم فالمراد بآبائهم آباؤهم الأدنون فإن الأبعدين من آبائهم كان فيهم النبي إسماعيل ذبيح الله، و قد أرسل إلى العرب رسل آخرون كهود و صالح و شعيب (عليهم السلام)، و إن كان المراد جميع الناس المعاصرين نظرا إلى عموم الرسالة فكذلك أيضا فآخر رسول معروف بالرسالة قبله (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ هو عيسى (عليه السلام) و بينهما زمان الفترة. 

  • و اعلم أن ما ذكرناه في تركيب الآيات هو الذي يسبق منها إلى الفهم و قد أوردوا في ذلك وجوها أخر بعيدة عن الفهم تركناها من أرادها فليراجع المطولات. 

  • قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلىَ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} اللام للقسم أي أقسم لقد ثبت و وجب القول على أكثرهم، و المراد بثبوت القول عليهم صيرورتهم مصاديق يصدق عليهم القول. 

  • و المراد بالقول الذي حق عليهم كلمة العذاب التي تكلم بها الله سبحانه في بدء 

تفسير الميزان ج۱۷

64
  • الخلقة مخاطبا بها إبليس‌{فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } ص: ٨٥ و المراد بتبعية إبليس طاعته فيما يأمر به بالوسوسة و التسويل بحيث تثبت الغواية و ترسخ في النفس كما يشير إليه قوله تعالى خطابا لإبليس‌{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} الحجر: ٤٣. 

  • و لازمه الطغيان و الاستكبار على الحق كما يشير إليه ما يحكيه الله من تساؤل المتبوعين و التابعين في النار{ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} الصافات: ٣٢، و قوله‌ {وَ لَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ اَلْعَذَابِ عَلَى اَلْكَافِرِينَ قِيلَ اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ} الزمر: ٧٢. 

  • و لازمه الانكباب على الدنيا و الإعراض عن الآخرة بالمرة و رسوخ ذلك في نفوسهم قال تعالى: ‌{وَ لَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللَّهِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اِسْتَحَبُّوا اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكَافِرِينَ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللَّهُ عَلى‌ قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصَارِهِمْ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْغَافِلُونَ} النحل: ١٠٨ فيطبع الله على قلوبهم و من آثاره أن لا سبيل لهم إلى الإيمان قال تعالى: ‌{إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} يونس: ٩٦. 

  • و بما تقدم ظهر أن الفاء في قوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} للتفريع لا للتعليل كما احتمله بعضهم. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} الأعناق‌ جمع عنق بضمتين و هو الجيد، و الأغلال‌ جمع غل بالكسر و هي على ما قيل ما تشد به اليد إلى العنق للتعذيب و التشديد، و مقمحون‌ اسم مفعول من الإقماح و هو رفع الرأس كأنهم قد ملأت الأغلال ما بين صدورهم إلى أذقانهم فبقيت رءوسهم مرفوعة إلى السماء لا يتأتى لهم أن ينكسوها فينظروا إلى ما بين أيديهم من الطريق فيعرفوها و يميزوها من غيرها. 

  • و تنكير قوله: {أَغْلاَلاً} للتفخيم و التهويل. 

  • و الآية في مقام التعليل لقوله السابق: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}

تفسير الميزان ج۱۷

65
  • قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} السد الحاجز بين الشيئين، و قوله: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ }{وَ مِنْ خَلْفِهِمْ} كناية عن جميع الجهات، و الغشي و الغشيان‌ التغطية يقال: غشيه كذا أي غطاه و أغشى الأمر فلانا أي جعل الأمر يغطيه، و الآية متممة للتعليل السابق و قوله: {جَعَلْنَا} معطوف على {جَعَلْنَا} المتقدم. 

  • و عن الرازي في تفسيره في معنى التشبيه في الآيتين أن المانع عن النظر في الآيات قسمان: قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحا لا يرى نفسه و لا يقع بصره على بدنه، و قسم يمنع عن النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن ابتلي بهما حرم عن النظر بالكلية. 

  • و معنى الآيتين أنهم لا يؤمنون لأنا جعلنا في أعناقهم أغلالا نشد بها أيديهم على أعناقهم فهي إلى الأذقان فهم مرفوعة رءوسهم باقون على تلك الحال و جعلنا من جميع جهاتهم سدا فجعلناه يغطيهم فهم لا يبصرون فلا يهتدون. 

  • ففي الآيتين تمثيل لحالهم في حرمانهم من الاهتداء إلى الإيمان و تحريمه تعالى عليهم ذلك جزاء لكفرهم و غوايتهم و طغيانهم في ذلك. 

  • و قد تقدم في قوله تعالى‌{إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} البقرة: ٢٦ في الجزء الأول من الكتاب أن ما وقع في القرآن من هذه الأوصاف و نظائرها التي وصف بها المؤمنون و الكفار يكشف عن حياة أخرى للإنسان في باطن هذه الحياة الدنيوية مستورة عن الحس المادي ستظهر له إذا انكشفت الحقائق بالموت أو البعث، و عليه فالكلام في أمثال هذه الآيات جار في مجرى الحقيقة دون المجاز كما عليه القوم. 

  • قوله تعالى: {وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} عطف تفسير و تقرير لما تتضمنه الآيات الثلاث المتقدمة و تلخيص للمراد و تمهيد لما يتلوه من قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ} (الآية). 

  • و احتمل أن يكون عطفا على قوله: {لاَ يُبْصِرُونَ} و المعنى فهم لا يبصرون 

تفسير الميزان ج۱۷

66
  • و يستوي عليهم إنذارك و عدم إنذارك لا يؤمنون و الوجه الأول أقرب إلى الفهم. 

  • قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ وَ خَشِيَ اَلرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ} القصر للإفراد، و المراد بالإنذار الإنذار النافع الذي له أثر، و بالذكر القرآن الكريم، و باتباعه تصديقه و الميل إليه إذا تليت آياته، و التعبير بالماضي للإشارة إلى تحقق الوقوع، و المراد بخشية الرحمن بالغيب خشيته تعالى من وراء الحجاب و قبل انكشاف الحقيقة بالموت أو البعث، و قيل: أي حال غيبته من الناس بخلاف المنافق و هو بعيد. 

  • و قد علقت الخشية على اسم الرحمن الدال على صفة الرحمة الجالبة للرجاء للإشعار بأن خشيتهم خوف مشوب برجاء و هو الذي يقر العبد في مقام العبودية فلا يأمن و لا يقنط. 

  • و تنكير {مَغْفِرَةٍ} و {أَجْرٍ كَرِيمٍ} للتفخيم أي فبشره بمغفرة عظيمة من الله و أجر كريم لا يقدر قدره و هو الجنة، و الدليل على جميع ما تقدم هو السياق. 

  • و المعنى: إنما تنذر الإنذار النافع الذي له أثر، من اتبع القرآن إذا تليت عليه آياته و مال إليه و خشي الرحمن خشية مشوبة بالرجاء فبشره بمغفرة عظيمة و أجر كريم لا يقدر قدره. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى‌ وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} المراد بإحياء الموتى إحياؤهم للجزاء. 

  • و المراد بما قدموا الأعمال التي عملوها قبل الوفاة فقدموها على موتهم، و المراد بآثارهم ما تركوها لما بعد موتهم من خير يعمل به كتعليم علم ينتفع به أو بناء مسجد يصلى فيه أو ميضاة يتوضأ فيها، أو شر يعمل به كوضع سنة مبتدعة يستن بها أو بناء مفسقة يعصى الله فيها. 

  • و ربما قيل: إن المراد بما قدموا النيات و بآثارهم الأعمال المترتبة المتفرعة عليها و هو بعيد من السياق. 

  • و المراد بكتابة ما قدموا و آثارهم ثبتها في صحائف أعمالهم و ضبطها فيها بواسطة كتبة الأعمال من الملائكة و هذه الكتابة غير كتابة الأعمال و إحصائها في الإمام المبين 

تفسير الميزان ج۱۷

67
  • الذي هو اللوح المحفوظ و إن توهم بعضهم أن المراد بكتابة ما قدموا و آثارهم هو إحصاؤها في الكتاب المبين و ذلك أنه تعالى يثبت في كلامه كتابا يحصي كل شي‌ء ثم لكل أمة كتابا يحصي أعمالهم ثم لكل إنسان كتابا يحصي أعماله كما قال‌: {وَ لاَ رَطْبٍ وَ لاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الأنعام: ٥٩، و قال: ‌{كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‌ إِلى‌ كِتَابِهَا} الجاثية: ٢٨، و قال: ‌{وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} الإسراء: ١٣، و ظاهر الآية أيضا يقضي بنوع من البينونة بين كتاب الأعمال و الإمام المبين حيث فرق بينهما بالخصوص و العموم و اختلاف التعبير بالكتابة و الإحصاء. 

  • و قوله: {وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} هو اللوح المحفوظ من التغيير الذي يشتمل على تفصيل قضائه سبحانه في خلقه فيحصي كل شي‌ء و قد ذكر في كلامه تعالى بأسماء مختلفة كاللوح المحفوظ و أم الكتاب و الكتاب المبين و الإمام المبين كل منها بعناية خاصة. 

  • و لعل العناية في تسميته إماما مبينا أنه لاشتماله على القضاء المحتوم متبوع للخلق مقتدى لهم و كتب الأعمال كما سيأتي في تفسير سورة الجاثية مستنسخة منه قال تعالى: ‌{ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الجاثية: ٢٩. 

  • و قيل: المراد بالإمام المبين صحف الأعمال و ليس بشي‌ء، و قيل: علمه تعالى و هو كسابقه نعم لو أريد به العلم الفعلي كان له وجه. 

  • و من عجيب القول في هذا المقام ما ذكره بعضهم أن الذي كتب في اللوح المحفوظ هو ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة لا حوادث العالم إلى أبد الآبدين و ذلك أن اللوح عند المسلمين جسم و كل جسم متناهي الأبعاد كما يشهد به الأدلة و بيان كل شي‌ء فيه على الوجه المعروف عندنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي و هو محال بالبديهة فالوجه تخصيص عموم كل شي‌ء و القول بأن المراد به الحوادث إلى يوم القيامة هذا. و هو تحكم و سنتعرض له تفصيلا. 

  • و الآية في معنى التعليل بالنسبة إلى ما تقدمها كأنه تعالى يقول: ما أخبرنا به و وصفناه من حال أولئك الذين حق عليهم القول و هؤلاء الذين يتبعون الذكر و يخشون 

تفسير الميزان ج۱۷

68
  • ربهم بالغيب هو كذلك لأن أمر حياة الكل إلينا و أعمالهم و آثارهم محفوظة عندنا فنحن على علم و خبرة بما تئول إليه حال كل من الفريقين. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} قال: قد رفعوا رءوسهم. 

  • و فيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} الهدى، أخذ الله سمعهم و أبصارهم و قلوبهم و أعمالهم عن الهدى. 

  • نزلت في أبي جهل بن هشام و نفر من أهل بيته و ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قام يصلي و قد حلف أبو جهل لعنه الله لئن رآه يصلي ليدمغه ۱فجاءه و معه حجر و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قائم يصلي فجعل كلما رفع الحجر ليرميه أثبت الله عز و جل يده إلى عنقه و لا يدور الحجر بيده فلما رجع إلى أصحابه سقط الحجر من يده. 

  • ثم قام رجل آخر و هو رهطه أيضا فقال أنا أقتله فلما دنا منه فجعل يسمع قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأرعب فرجع إلى أصحابه فقال: حال بيني و بينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه فخفت أن أتقدم. 

  • و قوله تعالى: {وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فلم يؤمن من أولئك الرهط من بني مخزوم أحد. 

  • أقول:و روي نحو منه في الدر المنثور، عن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس و فيه: أن ناسا من بني مخزوم تواطئوا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليقتلوه منهم أبو جهل و الوليد بن المغيرة فبينا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قائم يصلي يسمعون قراءته فأرسلوا إليه الوليد ليقتله فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلي فيه فجعل يسمع قراءته و لا يراه فانطلق إليهم فأعلمهم ذلك فأتوه فلما انتهوا إلى المكان الذي يصلي فيه سمعوا قراءته فيذهبون إليه فيسمعون أيضا من 

    1. دمغه أي شجه حتى بلغت الشجة دماغه.

تفسير الميزان ج۱۷

69
  • خلفهم فانصرفوا فلم يجدوا إليه سبيلا. فذلك قوله: {وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} (الآية).

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه و إذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم و إذا هم لا يبصرون فجاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: ننشدك الله و الرحم يا محمد و لم يكن بطن من بطون قريش إلا و للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيهم قرابة فدعا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت: {يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ } - إلى قوله - {أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}. قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.

  •  أقول: و قد رووا القصة بأشكال مختلفة في بعضها أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ الآيات فاحتجب منهم فلم يروه و دفع الله عنه شرهم و كيدهم، و في بعضها أن الآيات - من أول السورة إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} - نزلت في القصة فقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا} إلى آخر الآيتين يقص صنع الله بهم في ستر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن أبصارهم و قوله: {وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} إلخ يخبر عن عدم إيمان ذاك النفر. 

  • و أنت خبير بأن سياق الآيات يأبى الانطباق على هذه الروايات بما فيها من القصة فهو سياق متناسق منسجم يصف حال طائفتين من الناس و هم الذين حق عليهم القول فهم لا يؤمنون و الذين يتبعون الذكر و يخشون ربهم بالغيب. 

  • و أين ذلك من حمل قوله: {لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلىَ أَكْثَرِهِمْ} على الناس المنذرين و حمل قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ} و {جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} الآيتين على قصة أبي جهل و رهطه، و حمل قوله: {وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} على رهطه و أضف إلى ذلك حمل قوله: {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ} على قصة قوم من الأنصار بالمدينة و سيوافيك خبره فيختل بذلك السياق و تنثلم وحدة النظم. 

  • فالحق أن الآيات نازلة دفعة ذات سياق واحد تصف حال الناس و تفرقهم عند بلوغ الدعوة و وقوع الإنذار على فرقتين، و لا مانع من وقوع القصة و احتجاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أعدائه بالآيات. 

  • و فيه، أخرج عبد الرزاق و الترمذي و حسنه و البزار و ابن جرير و ابن المنذر 

تفسير الميزان ج۱۷

70
  • و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى‌ وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ} فدعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إنه يكتب آثاركم ثم قرأ عليهم الآية فتركوا.

  • و فيه، أخرج الفاريابي و أحمد في الزهد و عبد بن حميد و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كانت الأنصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبا من المسجد فنزلت {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ} فقالوا: بل نمكث مكاننا.

  •  أقول: و الكلام في الروايتين كالكلام فيما تقدمهما. 

  • و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من سن سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شي‌ء. و من سن سنة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شي‌ء. ثم تلا هذه الآية: {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ}.

  • و في تفسير القمي‌ في قوله تعالى‌: {وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} أي في كتاب مبين و هو محكم، و ذكر ابن عباس عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا و الله الإمام المبين أبين الحق من الباطل ورثته من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و في معاني الأخبار، بإسناده إلى أبي الجارود عن أبي جعفر عن أبيه عن جده (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث: أنه قال في علي (عليه السلام) إنه الإمام الذي أحصى الله تبارك و تعالى فيه علم كل شي‌ء. 

  • أقول: الحديثان لو صحا لم يكونا من التفسير في شي‌ء بل مضمونهما من بطن القرآن و إشاراته، و لا مانع من أن يرزق الله عبدا وحده و أخلص العبودية له العلم بما في الكتاب المبين و هو (عليه السلام) سيد الموحدين بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

تفسير الميزان ج۱۷

71
  • [سورة يس (٣٦): الآیات ١٣ الی ٣٢]

  • {وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ اَلْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ ١٣ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ١٤ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَ مَا أَنْزَلَ اَلرَّحْمَنُ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ١٥ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ١٦ وَ مَا عَلَيْنَا إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ١٧ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٨ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ١٩ وَ جَاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى‌ قَالَ يَا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ ٢٠اِتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ٢١ وَ مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٢٢ أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لاَ يُنْقِذُونِ ٢٣ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٢٤ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ٢٥ قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ٢٦ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ ٢٧ وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى‌ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ٢٨ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ٢٩ يَا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٣٠أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ 

تفسير الميزان ج۱۷

72
  • أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ ٣١ وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ٣٢} 

  • (بيان) 

  • مثل مشتمل على الإنذار و التبشير ضربه الله سبحانه لعامة القوم يشير فيه إلى الرسالة الإلهية و ما تستتبعه الدعوة الحقة من المغفرة و الأجر الكريم لمن آمن بها و اتبع الذكر و خشي الرحمن بالغيب، و من العذاب الأليم لمن كفر و كذب بها فحق عليه القول، و فيه إشارة إلى وحدانيته تعالى و معاد الناس إليه جميعا. 

  • و لا منافاة بين إخباره بأنهم لا يؤمنون سواء أنذروا أم لم ينذروا و بين إنذارهم لأن في البلاغ إتماما للحجة و تكميلا للسعادة أو الشقاوة قال تعالى: ‌{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىَ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} الأنفال: ٤٢، و قال: ‌{وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} الإسراء: ٨٢. 

  • قوله تعالى: {وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ اَلْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ} المثل‌ كلام أو قصة يمثل به مقصد من المقاصد فيتضح للمخاطب، و لما كانت قصتهم توضح ما تقدم من الوعد و الوعيد أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يضربها مثلا لهم. 

  • و الظاهر أن {مَثَلاً} مفعول ثان لقوله: {اِضْرِبْ} و مفعوله الأول قوله: {أَصْحَابَ اَلْقَرْيَةِ} و المعنى و اضرب لهم أصحاب القرية و حالهم هذه الحال مثلا و قد قدم المفعول الثاني تحرزا عن الفصل المخل. 

  • قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} التعزيز من العزة بمعنى القوة و المنعة، و قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ} بيان تفصيلي لقوله: {إِذْ جَاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ}

  • و المعنى: و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية و هم في زمان أرسلنا إليهم رسولين اثنين من رسلنا فكذبوهما أي الرسولين فقويناهما برسول ثالث فقالت الرسل إنا إليكم 

تفسير الميزان ج۱۷

73
  • مرسلون من جانب الله. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَ مَا أَنْزَلَ اَلرَّحْمَنُ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} كانوا يرون أن البشر لا ينال النبوة و الوحي، و يستدلون على ذلك بأنفسهم حيث لا يجدون من أنفسهم شيئا من ذاك القبيل فيسرون الحكم إلى نفوس الأنبياء مستندين إلى أن حكم الأمثال واحد. 

  • و على هذا التقرير يكون معنى قوله: {وَ مَا أَنْزَلَ اَلرَّحْمَنُ مِنْ شَيْ‌ءٍ} لم ينزل الله وحيا و لو نزل شيئا على بشر لنلناه من نفوسنا كما تدعون أنتم ذلك، و تعبيرهم عن الله سبحانه بالرحمن إنما هو لكونهم كسائر الوثنيين معترفين بالله سبحانه و اتصافه بكرائم الصفات‌۱ كالخلق و الرحمة و الملك غير أنهم يرون أنه فوض أمر التدبير إلى مقربي خلقه كالملائكة الكرام فهم الأرباب المدبرون و الآلهة المعبودون، و أما الله عز اسمه فهو رب الأرباب و إله الآلهة. 

  • و من الممكن أن يكون ذكر اسم الرحمن في الحكاية دون المحكي فيكون التعبير به لحلمه و رحمته تعالى قبل إنكارهم و تكذيبهم للحق الصريح. 

  • و قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} بمنزلة النتيجة لصدر الآية، و محصل قولهم إنكم بشر مثلنا و لا نجد نحن على بشريتنا في نفوسنا شيئا من الوحي النازل الذي تدعونه و أنتم مثلنا فما أنزل الرحمن شيئا من الوحي فدعواكم كاذبة و إذ ليس لكم إلا هذه الدعوى فإن أنتم إلا تكذبون. 

  • و يظهر بما تقدم نكتة الحصر في قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} و كذا الوجه في نفي الفعل و لم يقل: إن أنتم إلا كاذبون لأن المراد نفي الفعل في الحال دون الاستمرار و الاستقبال. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَ مَا عَلَيْنَا إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ} لم يحك الله سبحانه عن هؤلاء الرسل جوابا عن حجة قومهم {مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} إلخ. 

    1. لكنهم مختلفون في تفسيرها و الصابئون يفسرونها بالنفي فمعنى العالم و القادر عندهم من ليس بجاهل و عاجز.

تفسير الميزان ج۱۷

74
  • كما نقل عن الرسل المبعوثين إلى الأمم الدارجة لما احتجت أممهم بمثل هذه الحجة {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} فردتها رسلهم بقولهم‌{إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَمُنُّ عَلى‌ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} إبراهيم: ١١ و قد مر تقريره. 

  • بل حكى عنهم أنهم ذكروا للقوم أنهم مرسلون إليهم مأمورون بتبليغ الرسالة ليس عليهم إلا ذلك و أنهم في غنى عن تصديقهم لهم و إيمانهم بهم و يكفيهم فيه أن يعلم ربهم بأنهم مرسلون لا حاجة لهم إلى أزيد من ذلك. 

  • فقوله: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} إخبار عن رسالتهم و قد أكد الكلام بأن المشددة المكسورة و اللام، و الاستشهاد بعلم ربهم بذلك، و قوله: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} معترض بمنزلة القسم، و المعنى إنا مرسلون إليكم صادقون في دعوى الرسالة و يكفينا في ذلكم علم ربنا الذي أرسلنا بها و لا حاجة لنا فيه إلى تصديقكم لنا و لا نفع لنا فيه من أجر و نحوه و لا يهمنا تحصيله منكم بل الذي يهمنا هو تبليغ الرسالة و إتمام الحجة. 

  • و قوله: {وَ مَا عَلَيْنَا إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ} البلاغ‌ هو التبليغ و المراد به تبليغ الرسالة أي لم يؤمر و لم نكلف إلا بتبليغ الرسالة و إتمام الحجة. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} القائلون أصحاب القرية و المخاطبون هم الرسل، و التطير هو التشؤم و قولهم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} إلخ. تهديد منهم للرسل. 

  • و المعنى: قالت أصحاب القرية لرسلهم، إنا تشأمنا بكم و نقسم لئن لم تنتهوا عن التبليغ و لم تكفوا عن الدعوة لنرجمنكم بالحجارة و ليصلن إليكم و ليقعن بكم منا عذاب أليم. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} القائلون هم الرسل يخاطبون به أصحاب القرية. 

  • و قوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الطائر في الأصل هو الطير و كان يتشاءم به ثم توسع و استعمل في كل ما يتشاءم به، و ربما يستعمل فيما يستقبل الإنسان من الحوادث، و ربما يستعمل في البخت الشقي الذي هو أمر موهوم يرونه مبدأ لشقاء الإنسان و حرمانه من كل خير. 

تفسير الميزان ج۱۷

75
  • و كيف كان فقوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ظاهر معناه أن الذي ينبغي أن تتشأموا به هو معكم و هو حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد و إقبالكم إلى الباطل الذي هو الشرك. 

  • و قيل: المعنى طائركم أي حظكم و نصيبكم من الخير و الشر معكم من أفعالكم إن خيرا فخير و إن شرا فشر، هذا و هو أخذ الطائر بالمعنى الثاني لكن قوله بعد: {أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أنسب بالنسبة إلى المعنى الأول. 

  • و قوله: {أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ} استفهام توبيخي و المراد بالتذكير تذكيرهم بالحق من وحدانيته تعالى و رجوع الكل إليه و نحوهما و جزاء الشرط محذوف في الكلام تلويحا إلى أنه مما لا ينبغي أن يذكر أو يتفوه به و التقدير أ إن ذكرتم بالحق قابلتموه بمثل هذا الجحود الشنيع و الصنيع الفظيع من التطير و التوعد. 

  • و قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي مجاوزون للحد في المعصية و هو إضراب عما تقدم و المعنى بل السبب الأصلي في جحودكم و تكذيبكم للحق أنكم قوم تستمرون على الإسراف و مجاوزة الحد. 

  • قوله تعالى: {وَ جَاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى‌ قَالَ يَا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ} أقصى المدينة أبعد مواضعها بالنسبة إلى مبدإ مفروض، و قد بدلت القرية في أول الكلام مدينة هنا للدلالة على عظمها و السعي‌ هو الإسراع في المشي. 

  • و وقع نظير هذا التعبير في قصة موسى و القبطي و فيها {وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى‌} فقدم «رجل» هناك و أخر هاهنا و لعل النكتة في ذلك أن الاهتمام هناك بمجي‌ء الرجل و إخباره موسى بائتمار الملإ لقتله فقدم الرجل ثم أشير إلى اهتمام الرجل نفسه بإيصال الخبر و إبلاغه فجي‌ء بقوله: {يَسْعى‌} حالا مؤخرا بخلاف ما هاهنا فالاهتمام بمجيئه من أقصى المدينة ليعلم أن لا تواطؤ بينه و بين الرسل في أمر الدعوة فقدم {مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ} و أخر الرجل و سعيه. 

  • و قد اشتد الخلاف بينهم في اسم الرجل و اسم أبيه و حرفته و شغله و لا يهمنا الاشتغال بذلك في فهم المراد و لو توقف عليه الفهم بعض التوقف لأشار سبحانه في كلامه إليه و لم يهمله. 

تفسير الميزان ج۱۷

76
  • و إنما المهم هو التدبر في حظه من الإيمان في هذا الموقف الذي انتهض فيه لتأييد الرسل (عليهم السلام) و نصرتهم فقد كان على ما يعطيه التدبر في المنقول من كلامه رجلا نور الله سبحانه قلبه بنور الإيمان يؤمن بالله إيمان إخلاص يعبده لا طمعا في جنة أو خوفا من نار بل لأنه أهل للعبادة و لذلك كان من المكرمين و لم يصف الله سبحانه في كلامه بهذا الوصف إلا ملائكته المقربين و عباده المخلصين، و قد خاصم القوم فخصمهم و أبطل ما تعلق به القوم من الحجة على عدم جواز عبادة الله سبحانه و وجوب عبادة آلهتهم و أثبت وجوب عبادته وحده و صدق الرسل في دعواهم الرسالة ثم آمن بهم. 

  • قوله تعالى: {اِتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} بيان لقوله: {اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ} و في وضع قوله: {مَنْ لاَ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} في هذه الآية موضع قوله: {اَلْمُرْسَلِينَ} في الآية السابقة إشعار بالعلية و بيانها أن عدم جواز اتباع قائل في قوله إنما يكون لأحد أمرين: إما لكون قوله ضلالا و القائل به ضالا و لا يجوز اتباع الضال في ضلاله، و إما لأن القول و إن كان حقا و الحق واجب الاتباع لكن لقائله غرض فاسد يريد أن يتوسل إليه بكلمة الحق كاقتناء المال و اكتساب الجاه و المقام و نحو ذلك، و أما إذا كان القول حقا و كان القائل بريئا من الغرض الفاسد منزها من الكيد و المكر و الخيانة كان من الواجب اتباعه في قوله، و هؤلاء الرسل مهتدون في قولهم: لا تعبدوا إلا الله، و هم لا يريدون منكم أجرا من مال أو جاه فمن الواجب عليكم أن تتبعوهم في قولهم. 

  • أما أنهم مهتدون فلقيام الحجة على صدق ما يدعون إليه من التوحيد و كونه حقا، و الحجة هي قوله: {وَ مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ} إلى تمام الآيتين. 

  • و أما أنهم لا يريدون منكم أجرا فلما دل عليه قولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} و قد تقدم تقريره. 

  • و بهذا البيان يتأيد ما قدمناه من كون قولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} مسوقا لنفي إرادتهم من القوم أجرا أو غير ذلك. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} - إلى قوله - {وَ لاَ يُنْقِذُونِ} شرع في استفراغ الحجة على التوحيد و نفي الآلهة في آيتين 

تفسير الميزان ج۱۷

77
  • و اختار لذلك سياق التكلم وحده إلا في جملة اعترض بها في خلال الكلام و هي قوله: {وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} و ذلك بإجراء الحكم في نفسه بما أنه إنسان أوجده الله و فطره حتى يجري في كل إنسان هو مثله و الأفراد أمثال فقوله: {وَ مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ} إلخ. في معنى و ما للإنسان لا يعبد إلخ. أ يتخذ الإنسان من دونه آلهة إلخ. 

  • و قد عبر عنه تعالى بقوله: {اَلَّذِي فَطَرَنِي} للإشعار بالعلية فإن فطره تعالى للإنسان و إيجاده له بعد العدم لازمه رجوع كل ما للإنسان من ذات و صفات و أفعال إليه تعالى و قيامه به و ملكه له فليس للإنسان إلا العبودية محضة فعلى الإنسان أن ينصب نفسه في مقام العبودية و يظهرها بالنسبة إليه تعالى و هذا هو العبادة فعليه أن يعبده تعالى لأنه أهل لها. 

  • و هذا هو الذي أشرنا إليه آنفا أن الرجل كان يعبد الله بالإخلاص له لا طمعا في جنة و لا خوفا من نار بل لأنه أهل للعبادة. 

  • و إذ كان الإيمان به تعالى و عبادته هكذا أمرا لا يناله عامة الناس فإن الأكثرين منهم إنما يعبدون خوفا أو طمعا أو لكليهما التفت الرجل بعد بيان حال نفسه إلى القوم فقال: {وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يريد به إنذارهم بيوم الرجوع و أنه تعالى سيحاسبهم على ما عملوا فيجازيهم بمساوئ أعمالهم فقوله: {وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كالمعترضة الخارجة عن السياق أو هي هي. 

  • ثم إن الآيتين حجتان قائمتان على إبطال ما احتج به الوثنية و بنوا على ذلك عبادة الأصنام و أربابها. 

  • توضيح ذلك أنهم قالوا: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو خيال أو عقل لا يناله شي‌ء من القوى الإدراكية فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فسبيل العبادة أن نتوجه إلى مقربي حضرته و الأقوياء من خلقه كالملائكة الكرام و الجن و القديسين من البشر حتى يكونوا شفعاء لنا عند الله في إيصال الخيرات و دفع الشرور و المكاره. 

  • و الجواب عن أولى الحجتين بما حاصله أن الإنسان و إن كان لا يحيط علما بالذات المتعالية لكنه يعرفه تعالى بصفاته الخاصة به مثل كونه فاطرا له موجدا إياه فله أن يتوجه إليه من طريق هذه الصفات و إنكار إمكانه مكابرة، و هذا الجواب هو الذي 

تفسير الميزان ج۱۷

78
  • أشار إليه بقوله: {وَ مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي}

  • و عن الثانية أن هؤلاء الآلهة إن كانت لهم شفاعة كانت مما أفاضه الله عليهم و الله سبحانه لا يعطيهم ذلك إلا فيما لا تتعلق به منه إرادة حاتمة و لازمه أن شفاعتهم فيما أذن الله لهم فيه كما قال‌: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} يونس ٣ أما إذا أراد الله شيئا إرادة حتم فلا تنفع شفاعتهم شيئا في المنع عن نفوذها فاتخاذهم آلهة و عدمه سواء في عدم التأثير لجلب خير أو دفع شر، و إلى ذلك أشار بقوله: {أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لاَ يُنْقِذُونِ}

  • و تعبيره عنه تعالى بالرحمن إشارة إلى سعة رحمته و كثرتها و أن النعم كلها من عنده و تدبير الخير و الشر إليه و يتحصل من هنا برهان آخر على وحدانيته تعالى في الربوبية، إذ لما كان جميع النعم و كذا النظام الجاري فيها، من رحمته و قائمة به من غير استقلال في شي‌ء منها كان المستقل بالتدبير هو تعالى حتى أن تدبير الملائكة لو فرض تدبيرهم لشي‌ء من رحمته و تدبيره تعالى و كانت الربوبية له تعالى وحده و كذا الألوهية. 

  • قوله تعالى: {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} تسجيل للضلال على اتخاذ الآلهة. 

  • قوله تعالى: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} من كلام الرجل خطابا للرسل و قوله: {فَاسْمَعُونِ} كناية عن الشهادة بالتحمل، و قوله: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} إلخ. تجديد الشهادة بالحق و تأكيد للإيمان فإن ظاهر السياق أنه إنما قال: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} بعد محاجته خطابا للرسل ليستشهدهم على إيمانه و ليؤيدهم بإيمانهم بمرأى من القوم و مسمع. 

  • و قيل: إنه خطاب للقوم تأييدا للرسل، و المعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك أو المعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني و آمنوا به أو أنه أراد به أن يغضبهم و يشغلهم عن الرسل بنفسه حيث إنه رأى أنهم بصدد الإيقاع بهم. هذا. 

  • و فيه أنه لا يلائمه التعبير عن الله سبحانه بقوله: {بِرَبِّكُمْ} فإن القوم ما كانوا يتخذونه تعالى ربا لهم و إنما كانوا يعبدون الأرباب من دون الله سبحانه. 

  • و رد بأن المعنى إني آمنت بربكم الذي قامت الحجة على ربوبيته لكم و هو الله سبحانه. و فيه أنه تقييد من غير مقيد. 

تفسير الميزان ج۱۷

79
  •  قوله تعالى: {قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ} الخطاب للرجل و هو - كما يفيده السياق - يلوح إلى أن القوم قتلوه فنودي من ساحة العزة أن ادخل الجنة كما يؤيده قوله بعد: {وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى‌ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ} إلخ فوضع قوله: {قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ} موضع الإخبار عن قتلهم إياه إشارة إلى أنه لم يكن بين قتله بأيديهم و بين أمره بدخول الجنة أي فصل و انفكاك كأن قتله بأيديهم هو أمره بدخول الجنة. 

  • و المراد بالجنة على هذا جنة البرزخ دون جنة الآخرة، و قول بعضهم: إن المراد بها جنة الآخرة و المعنى سيقال له: ادخل الجنة يوم القيامة و التعبير بالماضي لتحقق الوقوع تحكم من غير دليل كما قيل: إن الله رفعه إلى السماء فقيل له ادخل الجنة فهو حي يتنعم فيها إلى قيام الساعة، و هو تحكم كسابقه. 

  • و قيل: إن القائل: {اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ} هو القوم قالوا له ذاك حين قتله استهزاء و فيه أنه لا يلائم ما أخبر الله سبحانه عنه بقوله بعد: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} إلخ فإن ظاهره أنه تمنى علم قومه بما هو فيه بعد استماع نداء {اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ} و لم يسبق من الكلام ما يصح أن يبتني عليه قوله ذاك. 

  • و قوله: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ} استئناف كسابقه كالجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان بعد تأييده للرسل؟ فقيل: {قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ} ثم قيل: فما ذا كان بعد؟ فقيل: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} إلخ و هو نصح منه لقوله ميتا كما كان ينصحهم حيا. 

  • و {مَا} في قوله: {بِمَا غَفَرَ لِي} إلخ مصدرية، و قوله: {وَ جَعَلَنِي} عطف على {غَفَرَ} و المعنى بمغفرة ربي لي و جعله إياي من المكرمين. 

  • و موهبة الإكرام و إن كانت وسيعة ينالها كثيرون كالإكرام بالنعمة كما في قوله: ‌{ فَأَمَّا اَلْإِنْسَانُ إِذَا مَا اِبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}، الفجر: ١٥ و قوله:‌ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات: ١٣ فإن كرامة العبد عند الله إكرام منه له لكنه لم يعد من المكرمين بوصف الإطلاق إلا طائفتين من خلقه: الملائكة الكرام كما في قوله: ‌{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 

تفسير الميزان ج۱۷

80
  • الأنبياء: ٢٧، و الكاملين في إيمانهم من المؤمنين سواء كانوا من المخلصين بكسر اللام كما في قوله‌{أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} المعارج: ٣٥، أو من المخلصين بفتح اللام كما في قوله‌ {إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ } إلى أن قال {وَ هُمْ مُكْرَمُونَ} الصافات: ٤٢. 

  • و الآية من أدلة وجود البرزخ. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى‌ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} الضميران للرجل، و {مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد قتله، و {مِنْ} الأولى و الثالثة لابتداء الغاية، و الثانية مزيدة لتأكيد النفي. 

  • و الآية توطئة للآية التالية، و هي مسوقة لبيان هوان أمر القوم و الانتقام منهم بإهلاكهم على الله سبحانه و أنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى عدة و عدة حتى ينزل من السماء جندا من الملائكة يقاتلونهم فيهلكونهم فلم يفعل ذلك فيهم و لا فعل ذلك في إهلاك من أهلك من الأمم الماضين و إنما أهلكهم بصيحة واحدة تقضي عليهم. 

  • قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} أي ما كان الأمر الذي كان سبب إهلاكهم بمشيتنا إلا صيحة واحدة، و تأنيث الفعل لتأنيث الخبر و تنكير {صَيْحَةً} و توصيفها بالوحدة للاستحقار، و الخمود السكون و استئناف الجملة لكونها كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان سبب إهلاكهم؟ فقيل: إن كانت إلا صيحة واحدة. 

  • و المعنى: كان سبب هلاكهم أيسر أمر و هي صيحة واحدة ففاجأهم السكون فصاروا ساكنين لا يسمع لهم حس و هم عن آخرهم موتى لا يتحركون. 

  • قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} أي يا ندامة العباد و نداء الحسرة عليهم أبلغ من إثباتها لهم، و سبب الحسرة ما يتضمنه قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} إلخ. 

  • و من هذا السياق يستفاد أن المراد بالعباد عامة الناس و تتأكد الحسرة بكونهم عبادا فإن رد العبد دعوة مولاه و تمرده عنه أشنع من رد غيره نصيحة الناصح. 

  • و بذلك يظهر سخافة قول من قال: إن المراد بالعباد الرسل أو الملائكة أو هما 

تفسير الميزان ج۱۷

81
  • جميعا. و كذا قول من قال: إن المراد بالعباد الناس لكن المتحسر هو الرجل. 

  • و ظهر أيضا أن قوله: {يَا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبَادِ} إلخ من قول الله تعالى لا من تمام قول الرجل. 

  • قوله تعالى: {أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} توبيخ لأولئك الذين نودي عليهم بالحسرة، و {مِنَ اَلْقُرُونِ} بيان لكم، و القرون‌ جمع قرن و هو أهل عصر واحد. 

  • و قوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بيان لقوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ} ضمير الجمع الأول للقرون و الثاني و الثالث للعباد. 

  • و المعنى: أ لم يعتبروا بكثرة المهلكين بأمر الله من القرون الماضية و أنهم مأخوذون بأخذ إلهي لا يتمكنون من الرجوع إلى ما كانوا يترفون فيه؟ 

  • و للقوم في مراجع الضمائر و في معنى الآية أقوال أخر بعيدة عن الفهم تركنا إيرادها. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} لفظة {إِنْ} حرف نفي و {كُلٌّ} مبتدأ تنوينه عوض عن المضاف إليه، و {لَمَّا} بمعنى إلا، و جميع‌ بمعنى مجموع، و لدينا ظرف متعلق به، و محضرون خبر بعد خبر و هو جميع، و احتمل بعضهم أن يكون صفة لجميع. 

  • و المعنى: و ما كلهم إلا مجموعون لدينا محضرون للحساب و الجزاء يوم القيامة فالآية في معنى قوله: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنَّاسُ وَ ذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} هود - ١٠٣. 

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع، قالوا: بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له و هو حبيب صاحب يس فسلما عليه فقال الشيخ لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال: أ معكما آية؟ قالا نعم نحن نشفي المريض و نبرئ الأكمه و الأبرص بإذن الله تعالى فقال 

تفسير الميزان ج۱۷

82
  • الشيخ: إن لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين قالا: فانطلق بنا إلى منزل نتطلع حاله فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا ففشا الخبر في المدينة و شفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى. 

  • و كان لهم ملك يعبد الأصنام فأنهي الخبر إليه فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع و لا يبصر إلى عبادة من يسمع و يبصر. قال الملك: و لنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك و آلهتك. قال: قوما حتى أنظر في أمركما فأخذهما الناس في السوق و ضربوهما. 

  • قال وهب بن منبه: بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها و لم يصلا إلى ملكها و طالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا و ذكرا الله فغضب الملك و أمر بحبسهما و جلد كل واحد منهما مائة جلدة. 

  • فلما كذب الرسولان و ضربا، بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريين على أمرهما لينصرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه و رضي عشرته و أنس به و أكرمه. ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن و ضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما؟ قال الملك: حال الغضب بيني و بين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما. 

  • فدعاهما الملك فقال لها شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شي‌ء لا شريك له. قال: و ما آتاكما؟ قالا: ما تتمناه، فأمر الملك حتى جاءوا بغلام مطموس العينين و موضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان الله حتى انشق موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعا في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك ثم قال شمعون للملك: أ رأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا؟ فيكون لك و لأهلك شرفا. فقال الملك: ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يضر و لا ينفع. 

  • ثم قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به و بكما. قالا: إلهنا قادر على كل شي‌ء فقال، الملك إن هاهنا ميتا مات منذ سبعة أيام لم ندفنه حتى يرجع أبوه و كان غائبا فجاءوا بالميت و قد تغير و أروح فجعلا يدعوان ربهما علانية و جعل 

تفسير الميزان ج۱۷

83
  • شمعون يدعو ربه سرا فقام الميت و قال لهم: إني قد مت منذ سبعة أيام و أدخلت في سبعة أودية من النار و أنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله فتعجب الملك، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك دعاه إلى الله فآمن و آمن من أهل مملكته قوم و كفر آخرون. 

  • قال: و قد روى مثل ذلك العياشي بإسناده عن الثمالي و غيره عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام) إلا أن في بعض الروايات: بعث الله الرسولين إلى أهل أنطاكية ثم بعث الثالث و في بعضها أن عيسى أوحى الله إليه أن يبعثهما ثم بعث وصيه شمعون ليخلصهما، و أن الميت الذي أحياه الله بدعائهما كان ابن الملك و أنه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه فقال له: يا بني ما حالك؟ قال: كنت ميتا فرأيت رجلين ساجدين يسألان الله تعالى أن يحييني. قال: يا بني فتعرفهما إذا رأيتهما؟ قال: نعم فأخرج الناس إلى الصحراء فكان يمر عليه رجل بعد رجل فمر أحدهما بعد جمع كثير فقال: هذا أحدهما. ثم مر الآخر فعرفهما و أشار بيده إليهما فآمن الملك و أهل مملكته.

  • و قال ابن إسحاق: بل كفر الملك و أجمع هو و قومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا و هو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكرهم و يدعوهم إلى طاعة الرسل. 

  • أقول: سياق آيات القصة لا يلائم بعض هذه الروايات. 

  • و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و أبو نعيم و ابن عساكر و الديلمي عن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): الصديقين ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذي قال: {يَا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ}، و حزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: {أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللَّهُ}، و علي بن أبي طالب و هو أفضلهم.

  • أقول: و رواه أيضا عن البخاري في تأريخه عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ و لفظه: الصديقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون و حبيب النجار صاحب آل ياسين و علي بن أبي طالب.

  • في المجمع، عن تفسير الثعلبي بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب و صاحب يس و مؤمن آل فرعون فهم الصديقون و علي أفضلهم. 

  • أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن الطبراني و ابن مردويه و ضعفه عن 

تفسير الميزان ج۱۷

84
  • ابن عباس عنه (عليه السلام) و لفظه: السبق ثلاثة فالسابق إلى موسى يوشع بن نون و السابق إلى عيسى صاحب يس و السابق إلى محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) علي بن أبي طالب. 

  • [سورة يس (٣٦): الآیات ٣٣ الی ٤٧]

  • {وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَ أَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ٣٣ وَ جَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ وَ فَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ اَلْعُيُونِ ٣٤ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ ٣٥ سُبْحَانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ٣٦ وَ آيَةٌ لَهُمُ اَللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ اَلنَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ٣٧ وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ ٣٨ وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ ٣٩ لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَ لاَ اَللَّيْلُ سَابِقُ اَلنَّهَارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ٤٠وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ ٤١ وَ خَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ٤٢ وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَ لاَ هُمْ يُنْقَذُونَ ٤٣ إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتَاعاً إِلى‌ حِينٍ ٤٤ وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ مَا 

تفسير الميزان ج۱۷

85
  • خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٤٥ وَ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ٤٦ وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٤٧} 

  • (بيان) 

  • بعد ما قص عليهم قصة أصحاب القرية و ما آل إليه أمرهم في الشرك و تكذيب الرسل و وبخهم على الاستهانة بأمر الرسالة، و أنذرهم بنزول العذاب عليهم كما نزل على المكذبين من القرون الأولى، و بأنهم جميعا محضرون للحساب و الجزاء. 

  • أورد آيات من الخلق و التدبير تدل على ربوبيته و ألوهيته تعالى وحده لا شريك له ثم وبخهم على ترك النظر في آيات الوحدانية و المعاد و الإعراض عنها و الاستهزاء بالحق و الإمساك عن الإنفاق للفقراء و المساكين. 

  • قوله تعالى: {وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَ أَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} يذكر سبحانه في الآية و اللتين بعدها آية من آيات الربوبية و هي تدبير أمر أرزاق الناس و تغذيتهم من أثمار النبات من الحبوب و التمر و العنب و غيرها. 

  • فقوله: {وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} و إن كان ظاهره أن الآية هي الأرض إلا أن الجملتين توطئتان لقوله: {وَ أَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} إلخ و مسوقتان للإشارة إلى أن هذه الأغذية النباتية من آثار نفخ الحياة في الأرض الميتة و تبديلها حبا و ثمرا يأكلون من ذلك فالآية بنظر هي الأرض الميتة من حيث ظهور هذه الخواص فيها و تمام تدبير أرزاق الناس بها. 

  • و قوله: {وَ أَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} أي و أخرجنا من الأرض بإنبات النبات حبا كالحنطة و الشعير و الأرز و سائر البقولات. 

تفسير الميزان ج۱۷

86
  • و قوله: {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} تفريع على إخراج الحب و بالأكل يتم التدبير، و ضمير {فَمِنْهُ} للحب. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ وَ فَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ اَلْعُيُونِ} قال الراغب: الجنة كل بستان ذي شجر تستر بأشجاره الأرض انتهى. و النخيل‌ جمع نخل و هو معروف، و الأعناب‌ جمع عنب يطلق على الشجرة و هي الكرم و على الثمرة. 

  • و قال الراغب: العين‌ الجارحة - إلى أن قال - و يستعار العين لمعان هي موجودة في الجارحة بنظرات مختلفة - إلى أن قال - و يقال لمنبع الماء عين تشبيها بها لما فيها من الماء انتهى، و التفجير في الأرض شقها لإخراج المياه، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ} اللام لتعليل ما ذكر في الآية السابقة أي جعلنا فيها جنات و فجرنا فيها العيون بشقها ليأكل الناس من ثمره. 

  • و قوله: {مِنْ ثَمَرِهِ} قيل: الضمير للمجعول من الجنات و لذا أفرد و ذكر و لم يقل: من ثمرها أي من ثمر الجنات، أو من ثمرهما أي من ثمر النخيل و الأعناب. 

  • و قيل: الضمير للمذكور و قد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة كما في قول رؤبة: 

  • فيها خطوط من سواد و بلق***كأنه في الجلد توليع البهق‌
  • فقد روي أن أبا عبيدة سأله عن قوله «كأنه» فقال كان ذاك. 

  • و في مرجع ضمير {مِنْ ثَمَرِهِ} أقوال أخر رديئة كقول بعضهم إن الضمير للنخيل فقط، و قول آخر: إنه للماء لدلالة العيون عليه أو بحذف مضاف و التقدير ماء العيون و قول آخر: إن الضمير للتفجير المفهوم من {فَجَّرْنَا} و المراد بالثمر على هذين الوجهين الفائدة، و قول آخر: إن الضمير له تعالى و إضافته إليه لأنه خلقه و ملكه. 

  • و قوله: {وَ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} العمل‌ هو الفعل و الفرق بينهما على ما ذكره الراغب أن أكثر ما يستعمل العمل في الفعل المقارن للقصد و الإرادة، و لذلك يشذ استعماله في الحيوان و الجماد، و لذلك أيضا يتصف العمل بالصلاح و خلافه فيقال. عمل صالح و عمل طالح و لا يتصف بهما مطلق الفعل. 

  • و {مَا} في {وَ مَا عَمِلَتْهُ} نافية و المعنى و لم يعمل الثمر بأيديهم حتى يشاركونا في تدبير 

تفسير الميزان ج۱۷

87
  • الأرزاق بل هو مما اختصصنا بخلقه و تتميم التدبير به من دون أن نستعين بهم فما بالهم لا يشكرون. 

  • و يؤيد هذا المعنى قوله في أواخر السورة و هو يمتن عليهم بخلق الأنعام لتدبير أمر رزقهم و حياتهم: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً } إلى أن قال {وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ وَ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ مَشَارِبُ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ}

  • و احتمل بعضهم كون {مَا} في {وَ مَا عَمِلَتْهُ} موصولة معطوفة على {ثَمَرِهِ} و المعنى ليأكلوا من ثمره و من الذي عملته أيديهم من ثمره كالخل و الدبس المأخوذين من التمر و العنب و غير ذلك. 

  • و هذا الوجه و إن عده بعضهم أوجه من سابقه ليس بذاك فإن المقام مقام بيان آيات دالة على ربوبيته تعالى بذكر أمور من التدبير يخصه تعالى و لا يناسبه ذكر شي‌ء من تدبير الغير معه و تتميم الحجة بذلك، و لو كان المراد ذكر عملهم بما أنه منته إلى خلقه تعالى و جزء من التدبير العام كان الأنسب أن يقال: و ما هديناهم إلى عمله أو ما يؤدي معناه لينتفي به توهم الشركة في التدبير. 

  • و احتمل بعضهم كون {مَا} نكرة موصوفة معطوفة على {ثَمَرِهِ} و المعنى ليأكلوا من ثمره و من شي‌ء عملته أيديهم. هذا و يرد عليه ما يرد على سابقه. 

  • و قوله: {أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ} توبيخ و استقباح لعدم شكره و شكره تعالى منهم على هذا التدبير إظهارهم جميل نعمه بذكره قولا و فعلا أي إظهارهم أنهم عباد له مدبرون بتدبيره و هو العبادة فشكره تعالى هو الاعتراف بربوبيته و اتخاذه إلها معبودا. 

  • قوله تعالى: {سُبْحَانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} إنشاء لتنزيهه تعالى، لما ذكر عدم شكرهم له على ما خلق لهم من أنواع النبات و رزقهم من الحبوب و الأثمار، و إنما عمل ذلك بتزويج بعض النبات بعضا كما قال‌: { وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} ق: ٧ أشار إلى ما هو أعظم و أوسع من خلق أزواج النبات و هو خلق الأزواج كلها و تنظيم العالم المشهود باستيلاد كل شي‌ء من فاعل و منفعل قبله هما أبواه كالذكر و الأنثى من الإنسان و الحيوان و النبات، و كل فاعل و منفعل يتلاقيان فينتجان بتلاقيهما أمرا ثالثا، أشار تعالى إلى ذلك فنزه نفسه بقوله: {سُبْحَانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} إلخ. فقوله: {سُبْحَانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} إنشاء 

تفسير الميزان ج۱۷

88
  • تسبيح على ما يعطيه السياق لا إخبار. 

  • و قوله: {مِمَّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ} هو و ما بعده بيان للأزواج و الذي تنبت الأرض هو النبات و لا يبعد شموله الحيوان و قد قال تعالى في الإنسان و هو من أنواع الحيوان: {وَ اَللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ نَبَاتاً} نوح: ١٧ و يؤيد ذلك أن ظاهر سياق البيان استيعابه للمبين مع عدم ذكر الحيوان في عدد الأزواج. 

  • و قوله: {وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي الناس، و قوله: {وَ مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} و هو الذي يجهله الإنسان من الخليقة أو يجهل كيفية ظهوره أو ظهور الكثرة فيه. 

  • و ربما قيل في الآية: إن المراد بالأزواج الأنواع و الأصناف، و لا يساعد عليه الآيات التي تذكر خلق الأزواج كقوله تعالى{وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الذاريات: ٤٩ و المقارنة و نوع من التألف و التركب من لوازم مفهوم الزوجية. 

  • قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر و الأنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج‌، و لكل قرينين فيها و في غيرها: زوج كالخف و النعل، و لكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا: زوج، قال: و قوله: {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} فبين أن كل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب. انتهى. 

  • فزوجية الزوج هي كونه مفتقرا في تحققه إلى تألف و تركب و لذلك يقال لكل واحد من القرينين من حيث هما قرينان: زوج لافتقاره إلى قرينه، و كذا يقال لمجموع القرينين: زوج لافتقاره في تحققه زوجا إلى التألف و التركب فكون الأشياء أزواجا مقارنة بعضها بعضا لإنتاج ثالث أو كونه مولدا من تألف اثنين. 

  • قوله تعالى: {وَ آيَةٌ لَهُمُ اَللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ اَلنَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} آية أخرى من آيات الربوبية الدالة على وقوع التدبير العام السماوي للعالم الإنساني مذكورة في أربع آيات. 

  • و لا شك أن الآية تشير إلى مفاجأة الليل عقيب ذهاب النهار، و السلخ‌ في الآية بمعنى الإخراج و لذلك عدي بمن و لو كان بمعنى النزع كما في قولنا: سلخت الإهاب عن الشاة تعين تعديه بعن دون من. 

تفسير الميزان ج۱۷

89
  • و يؤيد ذلك أنه تعالى عبر في مواضع من كلامه عن ورود كل من الليل و النهار عقيب الآخر بإيلاجه فيه فقال في مواضع من كلامه‌{يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ} الحج: ٦١ فإذا كان ورود النهار بعد الليل إيلاجا للنهار في الليل اعتبارا كان مفاجأة الليل بعد النهار إخراجا للنهار من الليل اعتبارا. 

  • كأن الليل أطبق عليهم و أحاطت بهم ظلمته ثم ولج فيه النهار فوسعهم نوره و ضياؤه ثم خرج منه ففاجأهم الليل ثانيا بانطباق الظلام و إحاطته بما أضاءه النهار ففي الكلام نوع من الاستعارة بالكناية. 

  • و لعل فيما ذكرناه من الوجه كفاية عما أطنبوا فيه من البحث في معنى سلخ النهار من الليل ثم مفاجأة الليل. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ} جريها حركتها و قوله {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} اللام بمعنى إلى أو للغاية، و المستقر مصدر ميمي أو اسم زمان أو مكان، و المعنى أنها تتحرك نحو مستقرها أو حتى تنتهي إلى مستقرها أي استقرارها و سكونها بانقضاء أجلها أو زمن استقرارها أو محله. 

  • و أما جريها و هو حركتها فظاهر النظر الحسي يثبت لها حركة دورية حول الأرض لكن الأبحاث العلمية تقضي بالعكس و تكشف أن لها مع سياراتها حركة انتقالية نحو النسر الواقع. 

  • و كيف كان فمحصل المعنى أن الشمس لا تزال تجري ما دام النظام الدنيوي على حاله حتى تستقر و تسكن بانقضاء أجلها فتخرب الدنيا و يبطل هذا النظام، و هذا المعنى يرجع بالمال إلى معنى القراءة المنسوبة إلى أهل البيت و غيرهم: «و الشمس تجري لا مستقر لها» كما قيل. 

  • و أما حمل جريها على حركتها الوضعية حول مركزها فهو خلاف ظاهر الجري الدال على الانتقال من مكان إلى مكان. 

  • و قوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ} أي الجري المذكور تقدير و تدبير ممن لا يغلبه غالب في إرادته و لا يجهل جهات الصلاح في أفعاله. 

تفسير الميزان ج۱۷

90
  •  قوله تعالى: {وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ} المنازل‌ جمع منزل اسم مكان من النزول و الظاهر أن المراد به المنازل الثمانية و العشرون التي يقطعها القمر في كل ثمانية و عشرين يوما و ليلة تقريبا. 

  • و العرجون‌ عود عذق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته و هو عود أصفر مقوس يشبه الهلال، و القديم‌ العتيق. 

  • و قد اختلفت الأنظار في معنى الآية للاختلاف في تركيبها، و أقرب التقديرات من الفهم قول من قال: إن التقدير و القمر قدرناه ذا منازل أو قدرنا له منازل حتى عاد هلالا يشبه العرجون العتيق المصفر لونه. 

  • تشير الآية إلى اختلاف مناظر القمر بالنسبة إلى أهل الأرض فإن نوره مكتسب من الشمس يستنير بها نصف كرته تقريبا و ما يقرب من النصف الآخر غير المسامت للشمس مظلم ثم يتغير موضع الاستنارة و لا يزال كذلك حتى يعود إلى الوضع الأول و يعرض ذلك أن يظهر لأهل الأرض في صورة هلال ثم لا يزال ينبسط عليه النور حتى يتبدر ثم لا يزال ينقص حتى يعود إلى ما كان عليه أوله. 

  • و لاختلاف صوره آثار بارزة في البر و البحر و حياة الناس على ما بين في الأبحاث المربوطة. 

  • فالآية الكريمة تذكر من آية القمر أحواله الطارئة له بالنسبة إلى الأرض و أهلها دون حاله في نفسه و دون حاله بالنسبة إلى الشمس فقط. 

  • و من هنا لا يبعد أن يقال في قوله تعالى: {وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} إن المراد بقوله: {تَجْرِي} الإشارة إلى ما يعطيه ظاهر الحس من حركتها اليومية و الفصلية و السنوية و هي حالها بالنسبة إلينا، و بقوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} حالها في نفسها و هي سكونها بالنسبة إلى سياراتها المتحركة حولها كأنه قيل: و آية لهم أن الشمس على استقرارها تجري عليهم و قد دبر العزيز العليم بذلك كينونة العالم الأرضي و حياة أهله و الله أعلم. 

  • قوله تعالى: {لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَ لاَ اَللَّيْلُ سَابِقُ اَلنَّهَارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} لفظة ينبغي تدل على الترجح و نفي ترجح الإدراك من الشمس نفي وقوعه منها، و المراد به أن التدبير ليس مما يجري يوما و يقف آخر بل هو تدبير دائم غير مختل و لا منقوض حتى ينقضي الأجل المضروب منه تعالى لذلك. 

تفسير الميزان ج۱۷

91
  • فالمعنى أن الشمس و القمر ملازمان لما خط لهما من المسير فلا تدرك الشمس القمر حتى يختل بذلك التدبير المعمول بهما و لا الليل سابق النهار و هما متعاقبان في التدبير فيتقدم الليل و النهار فيجتمع ليلتان ثم نهاران بل يتعاقبان. 

  • و لم يتعرض لنفي إدراك القمر للشمس و لا لنفي سبق النهار الليل لأن المقام مقام بيان انحفاظ النظم الإلهي عن الاختلال و الفساد فنفى إدراك ما هو أعظم و أقوى و هو الشمس لما هو أصغر و أضعف و هو القمر، و يعلم منه حال العكس و نفى سبق الليل الذي هو افتقاده للنهار الذي هو ليله و الليل مضاف إليه متأخر طبعا منه و يعلم به حال العكس. 

  • و قوله: {وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي كل من الشمس و القمر و غيرهما من النجوم و الكواكب يجرون في مجرى خاص به كما تسبح السمكة في الماء فالفلك هو المدار الفضائي الذي يتحرك فيه الجرم العلوي، و لا يبعد حينئذ أن يكون المراد بالكل كل من الشمس و القمر و الليل و النهار و إن كان لا يوجد في كلامه تعالى ما يشهد على ذلك. 

  • و الإتيان بضمير الجمع الخاص بالعقلاء في قوله {يَسْبَحُونَ} لعله للإشارة إلى كونها مطاوعة لمشيته مطيعة لأمره تعالى كالعقلاء كما في قوله‌{ثُمَّ اِسْتَوى‌ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} حم السجدة: ١١. 

  • و للمفسرين في جمل الآية آراء أخر مضطربة أضربنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع المفصلات. 

  • قوله تعالى: {وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ} قال الراغب: الذرية أصلها الصغار من الأولاد، و تقع في التعارف على الصغار و الكبار معا، و يستعمل للواحد و الجمع و أصله للجمع. انتهى، و الفلك‌ السفينة، و المشحون‌ المملوء. 

  • آية أخرى من آيات ربوبيته تعالى و هو جريان تدبيره في البحر حيث يحمل ذريتهم في الفلك المشحون بهم و بأمتعتهم يجوزون به من جانب إلى جانب للتجارة و غيرها، و لا حامل لهم فيه و لا حافظ لهم عن الغرق إلا هو تعالى و الخواص التي يستفيدون منها في ركوب البحر أمور مسخرة له تعالى منتهية إلى خلقه على أن هذه الأسباب لو لم تنته إليه تعالى لم تغن طائلا. 

تفسير الميزان ج۱۷

92
  • و إنما نسبت الحمل إلى الذرية دونهم أنفسهم فلم يقل: أنا حملناهم لإثارة الشفقة و الرحمة. 

  • قوله تعالى: {وَ خَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} المراد به على ما فسروه الأنعام قال تعالى: ‌{وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} الزخرف: ١٢ و قال: ‌{ وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} المؤمن - ٨٠. 

  • و فسر بعضهم الفلك المذكور في الآية السابقة بسفينة نوح (عليه السلام) و ما في هذه الآية بالسفن و الزوارق المعمولة بعدها و هو تفسير ردي‌ء و مثله تفسير ما في هذه الآية بالإبل خاصة. 

  • و ربما فسر ما في هذه الآية بالطيارات و السفن الجوية المعمولة في هذه الأعصار و التعميم أولى. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَ لاَ هُمْ يُنْقَذُونَ} الصريخ‌ هو الذي يجيب الصراخ و يغيث، الاستغاثة و الإنقاذ هو الإنجاء من الغرق. 

  • و الآية متصلة بقوله السابق: {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ} أي إن الأمر إلى مشيتنا فإن نشأ نغرقهم فلا يغيثهم مغيث و لا ينقذهم منقذ. 

  • قوله تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتَاعاً إِلى‌ حِينٍ} استثناء مفرغ و التقدير لا ينجون بسبب من الأسباب و أمر من الأمور إلا لرحمة منا تنالهم و لتمتع إلى حين الأجل المسمى الذي قدرناه لهم. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ مَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لما ذكر الآيات الدالة على الربوبية ذمهم على عدم رعايتهم حقها و عدم إقبالهم عليها و عدم ترتيبهم عليها آثارها فإذا قيل لهم هذه الآيات البينات ناطقة أن ربكم الله فاتقوا معصيته في حالكم الحاضرة و ما قدمتم من المعاصي، أو عذاب الشرك و المعاصي التي أنتم مبتلون بها و ما خلفتم وراءكم، أو اتقوا ما بين أيديكم من الشرك و المعاصي في الحياة الدنيا و ما خلفكم من العذاب في الآخرة، أعرضوا عنه و لم يستجيبوا له على ما هو دأبهم في جميع الآيات التي ذكروا بها. 

  • و من هنا يظهر أولا أن المراد بما بين أيديهم و ما خلفهم الشرك و المعاصي التي هم مبتلون بها في حالهم الحاضرة و ما كانوا مبتلين به قبل، أو العذاب الذي استوجبوه ـ 

تفسير الميزان ج۱۷

93
  • بذلك و المآل واحد، أو الشرك و المعاصي في الدنيا و العذاب في الآخرة و هو أوجه الوجوه. 

  • و ثانيا: أن حذف جواب إذا للدلالة على أن حالهم بلغت من الجرأة على الله و الاستهانة بالحق مبلغا لا يستطاع معها ذكر ما يجيبون به داعي الحق إذا دعاهم إلى التقوى فيجب أن يترك أسفا و لا يذكر، و قد دل عليه بقوله: {وَ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}

  • قوله تعالى: {وَ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} المراد بإتيان الآيات موافاتها لهم بالمشاهدة أو بالتلاوة و الذكر، و أيضا هي أعم من أن تكون آية آفاقية أو أنفسية، أو تكون آية معجزة كالقرآن فهم معرضون عنها جميعا. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ} إلى آخر الآية كان قوله: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ مَا خَلْفَكُمْ} متعرضا لجوابهم إذا دعوا إلى عبادة الله و هي أحد ركني الدين الحق، و هذه الآية تعرضت لجوابهم إذا دعوا إلى الشفقة على خلق الله و هو الركن الآخر و معلوم أن جوابهم الرد دون القبول. 

  • فقوله: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ} يتضمن دعوتهم إلى الإنفاق على الفقراء و المساكين من أموالهم و في التعبير عن الأموال بما رزقهم الله إشعار بأن المالك لها حقيقة هو الله الذي رزقهم بها و سلطهم عليها، و هو الذي خلق الفقراء و المساكين و أقام حاجتهم إلى ما عند هؤلاء من فضل المؤن الذي لا يفتقرون إليه فلينفقوا عليهم و ليحسنوا و ليجملوا و الله يحب الإحسان و جميل الفعل. 

  • و قوله: {قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ أَطْعَمَهُ} جوابهم للدعوة إلى الإنفاق، و إنما أظهر القائل الذين كفروا و مقتضى المقام الإضمار للإشارة إلى أن كفرهم بالحق و إعراضهم عنه باتباع الشهوات هو الذي دعاهم إلى الاعتذار بمثل هذا العذر المبني على الإعراض عما تدعو إليه الفطرة من الشفقة على خلق الله و إصلاح ما فسد في المجتمع كما أن الإظهار في قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} للإشارة إلى أن قائل {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ} هم الذين آمنوا. 

  • و في قولهم: {أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ أَطْعَمَهُ} إشعار بأن المؤمنين إنما قالوا لهم: 

تفسير الميزان ج۱۷

94
  • {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ} بعنوان أنه مما يشاؤه الله و يريده حكما دينيا فردوه بأن إرادة الله لا تتخلف عن مراده فلو شاء أن يطعمهم أطعمهم أي وسع في رزقهم و جعلهم أغنياء. 

  • و هذه مغالطة منهم خلطوا فيه بين الإرادة التشريعية المبنية على الابتلاء و الامتحان و هداية العباد إلى ما فيه صلاح حالهم في دنياهم و آخرتهم و من الجائز أن تتخلف عن المراد بالعصيان، و بين الإرادة التكوينية التي لا تتخلف عن المراد و من المعلوم أن مشيئة الله و إرادته المتعلقة بإطعام الفقراء و الإنفاق عليهم من المشيئة التشريعية دون التكوينية فتخلفها في مورد الفقراء إنما يدل على عصيان الذين كفروا و تمردهم عما أمروا به لا على عدم تعلق الإرادة به و كذب مدعيه. 

  • و هذه مغالطة بنوا عليها جل ما افتعلوه من سنن الوثنية و قد حكى الله سبحانه ذلك عنهم في قوله‌{وَ قَالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ نَحْنُ وَ لاَ آبَاؤُنَا وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ} النحل: ٣٥، و قوله‌{سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَ لاَ آبَاؤُنَا وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْ‌ءٍ} الأنعام: ١٤٨، و قوله‌{ وَ قَالُوا لَوْ شَاءَ اَلرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} الزخرف: ٢٠. 

  • و قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} من تمام قول الذين كفروا يخاطبون به المؤمنين أي إنكم في ضلال مبين في دعواكم أن الله أمرنا بالإنفاق و شاء منا ذلك. 

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع: روي عن علي بن الحسين زين العابدين و أبي جعفر الباقر و جعفر الصادق (عليهم السلام): «لا مستقر لها» بنصب الراء.

  • و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و أحمد البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي عن أبي ذر قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قوله تعالى: {وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: مستقرها تحت العرش. 

  • أقول: و قد روي هذا المعنى عن أبي ذر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ من طرق الخاصة و العامة 

تفسير الميزان ج۱۷

95
  • مختصرة و مطولة، و في بعضها أنها بعد الغروب تصعد سماء سماء حتى تصل إلى ما دون العرش فتسجد و تستأذن في الطلوع و تبقى على ذلك حتى تكسى نورا و يؤذن لها في الطلوع. 

  • و الرواية إن صحت فهي مؤولة. 

  • و في روضة الكافي، بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الشمس قبل القمر و خلق النور قبل الظلمة. 

  • و في المجمع، روى العياشي في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال: كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا و الفضل بن سهل و المأمون في الإيوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا (عليه السلام): إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال: النهار خلق قبل أم الليل؟ فما عندكم؟ قال: و أداروا الكلام فلم يكن عندهم في ذلك شي‌ء. 

  • فقال الفضل للرضا: أخبرنا بها أصلحك الله. قال: نعم من القرآن أم من الحساب قال له الفضل من جهة الحساب فقال: قد علمت يا فضل إن طالع الدنيا السرطان و الكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان و المشتري في السرطان و المريخ في الجدي و الشمس في الحمل و الزهرة في الحوت و عطارد في السنبلة و القمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل، و من القرآن قوله تعالى: {وَ لاَ اَللَّيْلُ سَابِقُ اَلنَّهَارِ} أي الليل قد سبقه النهار. 

  • أقول: نقل الآلوسي في روح المعاني، هذا الحديث ثم قال: و في الاستدلال بالآية بحث ظاهر، و أما بالحساب فله وجه في الجملة و رأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار و له موافقة لما ذكر و الذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضا أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه انتهى. 

  • و قد اختلط عليه الأمر في تحصيل حقيقة معنى الليل و النهار. 

  • توضيحه: أن الليل و النهار متقابلان تقابل العدم و الملكة كالعمى و البصر فكما أن العمى ليس مطلق عدم البصر حتى يكون الجدار مثلا أعمى لعدم البصر فيه بل هو عدم البصر مما من شأنه أن يتصف بالبصر كالإنسان كذلك الليل ليس هو مطلق عدم النور بل هو زمان عدم استضاءة ناحية من نواحي الأرض بنور الشمس و من المعلوم أن 

تفسير الميزان ج۱۷

96
  • عدم الملكة يتوقف في تحققه على تحقق الملكة المقابلة له قبله حتى يتعين بالإضافة إليه فلو لا البصر لم يتحقق عمى و لو لا النهار لم يتحقق الليل. 

  • فمطلق الليل بمعناه الذي هو به ليل مسبوق الوجود بالنهار و قوله: {وَ لاَ اَللَّيْلُ سَابِقُ اَلنَّهَارِ} و إن كان ناظرا إلى الترتيب المفروض بين النهر و الليالي و أن هناك نهارا و ليلا و نهارا و ليلا و أن واحدا من هذه الليالي لا يسبق النهار الذي بجنبه. 

  • لكنه تعالى أخذ في قوله: {وَ لاَ اَللَّيْلُ سَابِقُ اَلنَّهَارِ} مطلق الليل و نفى تقدمه على مطلق النهار و لم يقل: إن واحدا من الليالي الواقعة في هذا الترتيب لا يسبق النهار الواقع في الترتيب قبله. 

  • فالحكم في الآية مبني على ما يقتضيه طبيعة الليل و النهار بحسب التقابل الذي أودعه الله بينهما و قد استفيد منه الحكم بانحفاظ الترتيب في تعاقب الليل و النهار فإن كل ليل هو افتقاد النهار الذي هو يتلوه فلا يتقدم عليه و إلى هذا يشير (عليه السلام) بعد ذكر الآية بقوله: «أي الليل قد سبقه النهار» يعني أن سبق النهار الليل هو خلقه قبله و ليس كما يتوهم أن هناك نهر أو ليالي موجودة ثم يتعين لكل منها محله. 

  • و قول المعترض: «و أما بالحساب فله وجه في الجملة» لا يدرى وجه قوله: في الجملة و هو وجه تام مبني على تسليم أصول التنجيم صحيح بالجملة على ذلك التقدير لا في الجملة. 

  • و كذا قوله: «و رأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار و له موافقة لما ذكر» لا محصل له لأن دائرة نصف النهار و هي الدائرة المارة على القطبين و نقطة ثالثة بينهما غير متناهية في العدد لا تتعين لها نقطة معينة في السماء دون نقطة أخرى فيكون كون الشمس في إحداهما نهارا للأرض دون أخرى. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ مَا خَلْفَكُمْ} روى الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: معناه اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب و ما خلفكم من العقوبة.

  • [سورة يس (٣٦): الآیات ٤٨ الی ٦٥]

  •  {وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ مَا يَنْظُرُونَ 

تفسير الميزان ج۱۷

97
  • إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ ٤٩ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لاَ إِلىَ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ٥٠وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ إِلى‌ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ٥١ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ ٥٢ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ٥٣ فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٥٤ إِنَّ أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ٥٥ هُمْ وَ أَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى اَلْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُنَ ٥٦ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ٥٧ سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ٥٨ وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ ٥٩ أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ٦٠وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ٦١ وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ٦٢ هَذِهِ جَهَنَّمُ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ٦٣ اِصْلَوْهَا اَلْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ٦٤ اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‌ أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٦٥} 

تفسير الميزان ج۱۷

98
  • (بيان) 

  • لما فرغ من تفصيل آيات التوحيد المشار إليه إجمالا في أول الكلام شرع في تفصيل خبر المعاد و ذكر كيفية قيام الساعة و إحضارهم للحساب و الجزاء و ما يجزى به أصحاب الجنة و ما يجازى به المجرمون كل ذلك تبيينا لما تقدم من إجمال خبر المعاد. 

  • قوله تعالى: {وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} كلام منهم وارد مورد الاستهزاء مبني على الإنكار، و لعله لذلك جي‌ء باسم الإشارة الموضوعة للقريبة و لأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين كثيرا ما كانوا يسمعونهم حديث يوم القيامة و ينذرونهم به، و الوعد يستعمل في الخير و الشر إذا ذكر وحده و إذا قابل الوعيد تعين الوعد للخير و الوعيد للشر. 

  • قوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ} النظر بمعنى الانتظار، و المراد بالصيحة نفخة الصور الأولى بإعانة السياق، و توصيف الصيحة بالوحدة للإشارة إلى هوان أمرهم على الله جلت عظمته فلا حاجة إلى مئونة زائدة، و {يَخِصِّمُونَ} أصله يختصمون من الاختصام بمعنى المجادلة و المخاصمة. 

  • و الآية جواب لقولهم: {مَتى‌ هَذَا اَلْوَعْدُ} مسوقة سوق الاستهزاء بهم و الاستهانة بأمرهم كما كان قولهم كذلك، و المعنى ما ينتظر هؤلاء القائلون: متى هذا الوعد في سؤالهم عن وقت الوعد المنبئ عن الانتظار إلا صيحة واحدة يسيرة علينا بلا مئونة و لا تكلف تأخذهم فلا يسعهم أن يفروا و ينجوا منها و الحال أنهم غافلون عنها يختصمون فيما بينهم. 

  • قوله تعالى: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لاَ إِلى‌ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي يتفرع على هذه الصيحة بما أنها تفاجئهم و لا تمهلهم أن يموتوا من فورهم فلا يستطيعوا توصية على أن الموت يعمهم جميعا دفعة فلا يترك منهم أحدا يوصى إليه و لا أن يرجعوا إلى أهلهم إذا كانوا في الخارج من بيوتهم مثلا. 

  • قوله تعالى: {وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ إِلى‌ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} هذه هي نفخة الصور الثانية التي بها الإحياء و البعث، و الأجداث‌ جمع جدث و هو القبر و النسل‌ الإسراع في المشي و في التعبير عنه بقوله: {إِلى‌ رَبِّهِمْ} تقريع لهم لأنهم كانوا ينكرون 

تفسير الميزان ج۱۷

99
  • ربوبيته و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ} البعث‌ الإقامة، و المرقد محل الرقاد و المراد به القبر، و تعبيرهم عنه تعالى بالرحمن نوع استرحام و قد كانوا يقولون في الدنيا{ وَ مَا اَلرَّحْمَنُ} الفرقان: ٦٠، و قوله: {وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ} عطف على قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ} و الجملة الفعلية قد تعطف على الاسمية. 

  • و قولهم: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} مبني على إنكارهم البعث و هم في الدنيا و رسوخ أثر الإنكار و الغفلة عن يوم الجزاء في نفوسهم و هم لا يزالون مستغرقين في الأهواء فإذا قاموا من قبورهم مسرعين إلى المحشر فاجأهم الورود في عالم لا يستقبلهم فيه إلا توقع الشر فأخذهم الفزع الأكبر و الدهشة التي لا تقوم لها الجبال و لذا يتبادرون أولا إلى دعوة الويل و الهلاك كما كان ذلك دأبهم في الدنيا عند الوقوع في المخاطر ثم سألوا عمن بعثهم من مرقدهم لأن الذي أحاط بهم من الدهشة أذهلهم من كل شي‌ء. 

  • ثم ذكروا ما كانت الرسل (عليهم السلام) يذكرونهم به من الوعد الحق بالبعث و الجزاء فشهدوا بحقية الوعد و استعصموا بالرحمة فقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ} على ما هو دأبهم في الدنيا حيث يكيدون عدوهم إذا ظهر عليهم بالتملق و إظهار الذلة و الاعتراف بالظلم و التقصير ثم صدقوا الرسل بقولهم: {وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ}

  • و بما تقدم ظهر أولا وجه دعوتهم بالويل إذا بعثوا. 

  • و ثانيا وجه سؤالهم عمن بعثهم من مرقدهم الظاهر في أنهم جاهلون به أولا ثم إقرارهم بأنه الذي وعده الرحمن و تصديقهم المرسلين فيما بلغوا عنه تعالى. 

  • و يظهر أيضا أن قوله: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} إلخ و قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ} إلخ. من قولهم. 

  • و قيل: قوله: {وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ} عطف على مدخول {مَا} و {مَا} موصولة أو مصدرية و {هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ} إلخ جواب من الله أو من الملائكة أو من المؤمنين لقولهم: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}؟. 

تفسير الميزان ج۱۷

100
  • و غير خفي أنه خلاف الظاهر و خاصة على تقدير كون {مَا} مصدرية و لو كان قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ} إلخ. جوابا من الله أو الملائكة لقولهم: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} لأجيب بالفاعل دون الفعل لأنهم سألوا عن فاعل البعث! و ما قيل: إن العدول إليه لتذكير كفرهم و تقريعهم عليه مع تضمنه الإشارة إلى الفاعل هذا. لا يغني طائلا. 

  • و ظهر أيضا أن قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ} مبتدأ و خبر، و قيل {هَذَا} صفة لمرقدنا بتأويل اسم الإشارة إلى المشتق و {مَا} مبتدأ خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمن حق و هو بعيد عن الفهم. 

  • قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} اسم كان محذوف و التقدير إن كانت الفعلة أو النفخة إلا نفخة واحدة تفاجئهم أنهم مجموع محضرون لدينا من غير تأخير و مهلة. 

  • و التعبير بقوله: {لَدَيْنَا} لأن اليوم يوم الحضور لفصل القضاء عند الله سبحانه. 

  • قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي في هذا اليوم يقضي بينهم قضاء عدلا و يحكم حكما حقا فلا تظلم نفس شيئا. 

  • و قوله: {وَ لاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} عطف تفسير لقوله: {فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} و هو في الحقيقة بيان برهاني لانتفاء الظلم يومئذ لدلالته على أن جزاء أعمال العاملين يومئذ نفس أعمالهم، و لا يتصور مع ذلك ظلم لأن الظلم‌ وضع الشي‌ء في غير موضعه و تحميل العامل عمله وضع الشي‌ء في موضعه ضرورة. 

  • و خطاب الآية من باب تمثيل يوم القيامة و إحضاره و إحضار من فيه بحسب العناية الكلامية، و ليس - كما توهم - حكاية عما سيقال لهم أو يخاطبون به من جانب الله سبحانه أو الملائكة أو المؤمنين يوم القيامة فلا موجب له من جهة السياق. 

  • و المخاطب بقوله: {وَ لاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} السعداء و الأشقياء جميعا. 

  • و ما قيل عليه أن الحصر يأبى التعميم فإنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم و يزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة مدفوع بأن الحصر في الآية نازل إلى جزاء العمل و أجره و ما 

تفسير الميزان ج۱۷

101
  • يدل من الآيات على المزيد كقوله: ‌{لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ} ق: ٣٥ أمر وراء الجزاء و الأجر خارج عن طور العمل. 

  • و ربما أجيب عنه بأن معنى الآية أن الصالح لا ينقص ثوابه و الطالح لا يزاد عقابه فإن الحكمة تنافيه أما زيادة الثواب و نقض العقاب فلا مانع منه أو أن المراد بقوله: {لاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير و إن شرا فشر. 

  • و فيه أن مدلول الآية لو كان ما ذكر اندفع الإشكال لكن الشأن في دلالتها على ذلك. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} الشغل‌ الشأن الذي يشغل الإنسان و يصرفه عما عداه، و الفاكه‌ من الفكاهة و هي التحدث بما يسر أو التمتع و التلذذ و لا فعل له من الثلاثي المجرد على ما قيل. 

  • و قيل: {فَاكِهُونَ} معناه ذوو فاكهة نحو لابن و تامر و يبعده أن الفاكهة مذكورة في السياق و لا موجب لتكرارها. 

  • و المعنى أن أصحاب الجنة في هذا اليوم في شأن يشغلهم عن كل شي‌ء دونه و هو التنعم في الجنة متمتعون فيها. 

  • قوله تعالى: {هُمْ وَ أَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى اَلْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُنَ} الظلال‌ جمع ظل و قيل جمع ظلة بالضم و هي السترة من الشمس من سقف أو شجر أو غير ذلك، و الأريكة كل ما يتكأ عليه من وسادة أو غيرها. 

  • و المعنى: هم أي أصحاب الجنة و أزواجهم من حلائلهم المؤمنات في الدنيا أو من الحور العين في ظلال أو أستار من الشمس و غيرها متكئون على الأرائك اتكاء الأعزة. 

  • قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} الفاكهة ما يتفكه به من الثمرات كالتفاح و الأترج و نحوهما، و قوله: {يَدَّعُونَ} من الادعاء بمعنى التمني أي لهم في الجنة فاكهة و لهم فيها ما يتمنونه و يطلبونه. 

  • قوله تعالى: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} سلام مبتدأ محذوف الخبر و التنكير للتفخيم و التقدير سلام عليهم أو لهم سلام، و {قَوْلاً} مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير 

تفسير الميزان ج۱۷

102
  • أقوله قولا من رب رحيم. 

  • و الظاهر أن السلام منه تعالى و هو غير سلام الملائكة المذكور في قوله‌{وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدَّارِ} الرعد: ٢٤. 

  • قوله تعالى: {وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ} أي و نقول اليوم للمجرمين امتازوا من أصحاب الجنة و هو تمييزهم منهم يوم القيامة و إنجاز لما في قوله في موضع آخر: { أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ص: ٢٨، و قوله: {أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَ مَمَاتُهُمْ} الجاثية: ٢١. 

  • قوله تعالى: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} العهد الوصية، و المراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس و يأمر به إذ لا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته، و قد علل النهي عن طاعته بكونه عدوا مبينا لأن العدو لا يريد بعدوه خيرا. 

  • و قيل: المراد بعبادته عبادة الآلهة من دون الله و إنما نسبت إلى الشيطان لكونها بتسويله و تزيينه، و هو تكلف من غير موجب. 

  • و إنما وجه الخطاب إلى المجرمين بعنوان أنهم بنو آدم لأن عداوة الشيطان إنما نشبت أول ما نشبت بآدم حيث أمر أن يسجد له فأبى و استكبر فرجم ثم عاد ذريته بعداوته و أوعدهم كما حكاه الله تعالى إذ قال: ‌{أَ رَأَيْتَكَ هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} الإسراء: ٦٢. 

  • و أما عهده تعالى و وصيته إلى بني آدم أن لا يطيعوه فهو الذي وصاهم به بلسان رسله و أنبيائه و حذرهم عن اتباعه كقوله تعالى: ‌{يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ} الأعراف: ٢٧: و قوله{وَ لاَ يَصُدَّنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} الزخرف: ٦٢. 

  • و قيل: المراد بالعهد عهده تعالى إليهم في عالم الذر حيث قال: {أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى‌}. و قد عرفت مما قدمناه في تفسير آية الذر أن العهد الذي هناك هو بوجه عين العهد الذي وجه إليهم في الدنيا. 

تفسير الميزان ج۱۷

103
  •  قوله تعالى: {وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} عطف تفسير لما سبقه، و قد تقدم كلام في معنى الصراط المستقيم في تفسير قوله: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ} من سورة الفاتحة. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} الجبل‌ الجماعة و قيل: الجماعة الكثيرة و الكلام مبني على التوبيخ و العتاب. 

  • قوله تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي كان يستمر عليكم الإيعاد بها مرة بعد مرة بلسان الأنبياء و الرسل (عليه السلام) و أول ما أوعد الله سبحانه بها حين قال لإبليس‌{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} الحجر: ٤٣ و في لفظ الآية إشارة إلى إحضار جهنم يومئذ. 

  • قوله تعالى: {اِصْلَوْهَا اَلْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} الصلا. اللزوم و الاتباع، و قيل: مقاساة الحرارة و يظهر بقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أن الخطاب للكفار و هم المراد بالمجرمين. 

  • قوله تعالى: {اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‌ أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي يشهد كل منها بما كانوا يكسبونه بواسطته فالأيدي بالمعاصي التي كسبوها بها و الأرجل بالمعاصي الخاصة بها على ما يعطيه السياق. 

  • و من هنا يظهر أن كل عضو ينطق بما يخصه من العمل و أن ذكر الأيدي و الأرجل من باب الأنموذج و لذا ذكر في موضع آخر السمع و البصر و الفؤاد كما في سورة الإسراء الآية ٣٦. و في موضع آخر الجلود كما في سورة حم السجدة الآية ٢٠، و سيأتي بعض ما يتعلق به من الكلام في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} (الآية) قال: ذلك في آخر الزمان يصاح فيهم صيحة و هم في أسواقهم يتخاصمون فيموتون كلهم في مكانهم لا يرجع أحد منهم إلى منزله و لا يوصي بوصية، و ذلك قوله عز و جل: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لاَ إِلىَ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}

  •  

تفسير الميزان ج۱۷

104
  • و في المجمع، في الحديث: تقوم الساعة و الرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعان فما يطويانه حتى تقوم الساعة، و الرجل يرفع أكلته إلى فيه حتى تقوم الساعة، و الرجل يليط۱ حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم. 

  • أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كذا عن قتادة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ مرسلا.

  • و في تفسير القمي و قوله عز و جل: {وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ إِلى‌ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} قال: من القبور.

  • و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} فإن القوم كانوا في القبور فلما قاموا حسبوا أنهم كانوا نياما و قالوا: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}قالت الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ}

  • و في الكافي، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبو ذر رحمه الله يقول في خطبته: و ما بين الموت و البعث إلا كنومة نمتها ثم استيقظت منها.

  • و في تفسير القمي‌ في قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} قال: يفاكهون النساء و يلاعبونهن. 

  • و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عز و جل: {فِي ظِلاَلٍ عَلَى اَلْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُنَ} الأرائك السرر عليها الحجال.

  • و فيه في قوله عز و جل: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال: السلام منه هو الأمان. و قوله: {وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ} قال: إذا جمع الله الخلق يوم القيامة بقوا قياما على أقدامهم حتى يلجمهم العرق فينادون: يا رب حاسبنا و لو إلى النار قال: فيبعث الله رياحا فتضرب بينهم و ينادي مناد: {وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ} فيميز بينهم فصار المجرمون في النار، و من كان في قلبه الإيمان صار إلى الجنة. 

  • أقول: و قد ورد في بعض الروايات أن الله سبحانه يتجلى لهم فيشتغلون به عن كل من سواه ما دام التجلي و المراد به ارتفاع كل حجاب بينهم و بين ربهم دون الرؤية 

    1. لاطه أي ملأه.

تفسير الميزان ج۱۷

105
  • البصرية التي لا تتحقق إلا بمقارنة الجهات و الأبعاد فإنها مستحيلة في حقه تعالى. 

  • و في اعتقادات الصدوق، قال (عليه السلام): من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، و إن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.

  • و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و ليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز و جل {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتَابَهُمْ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الإسراء: ٧١. 

  • و في تفسير العياشي، عن مسعد بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم الله على الأفواه فلا تكلم و تكلمت الأيدي و شهدت الأرجل و نطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا.

  •  أقول: و في هذا المعنى روايات أخر يأتي بعضها في ذيل تفسير قوله تعالى‌{ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ} (الآية) حم السجدة: ٢٠، و تقدم بعضها في الكلام على قوله‌{إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً }الإسراء: ٣٦. 

  • [سورة يس (٣٦): الآیات ٦٦ الی ٨٣]

  • {وَ لَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا اَلصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ٦٦ وَ لَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلىَ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اِسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَ لاَ يَرْجِعُونَ ٦٧ وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي اَلْخَلْقِ أَ فَلاَ يَعْقِلُونَ ٦٨ وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ ٦٩ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ 

تفسير الميزان ج۱۷

106
  • عَلَى اَلْكَافِرِينَ ٧٠أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ٧١ وَ ذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ ٧٢ وَ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ مَشَارِبُ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ ٧٣ وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ٧٤ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ٧٥ فَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ ٧٦ أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ٧٧ وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ٧٨ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ٧٩ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ٨٠أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلى‌ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى‌ وَ هُوَ اَلْخَلاَّقُ اَلْعَلِيمُ ٨١ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٨٢ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٨٣} 

تفسير الميزان ج۱۷

107
  • (بيان) 

  • بيان تلخيصي للمعاني السابقة في سياق آخر ففيه تهديد لهم بالعذاب، و الإشارة إلى أنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ رسول و أن كتابه ذكر و قرآن و ليس بشاعر و لا كتابه بشعر، و الإشارة إلى خلق الأنعام آية للتوحيد، و الاحتجاج على الميعاد. 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا اَلصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} قال في مجمع البيان:‌ الطمس‌ محو الشي‌ء حتى يذهب أثره فالطمس على العين كالطمس على الكتاب و مثله الطمس على المال و هو إذهابه حتى لا يقع عليه إدراك، و أعمى مطموس و طميس‌ و هو أن يذهب الشق الذي بين الجفنين، انتهى. 

  • فقوله: {وَ لَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلىَ أَعْيُنِهِمْ} أي لو أردنا لأذهبنا أعينهم فصارت ممسوحة لا أثر منها فذهبت به أبصارهم و بطل أبصارهم. 

  • و قوله: {فَاسْتَبَقُوا اَلصِّرَاطَ} أي أرادوا السبق إلى الطريق الواضح الذي لا يخطئ قاصده و لا يظل سالكه فلم يبصروه و لن يبصروه فالاستبعاد المفهوم من قوله: {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} كناية عن الامتناع. 

  • و قول بعضهم: إن المراد باستباق الصراط مبادرتهم إلى سلوك طريق الحق و عدم اهتدائهم إليها، لا يخلو من بعد. 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلىَ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اِسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَ لاَ يَرْجِعُونَ} قال في المجمع:‌ و المسخ‌ قلب الصورة إلى خلقة مشوهة كما مسخ قوم قردة و خنازير و قال: و المكانة و المكان واحد. انتهى. و المراد بمسخهم على مكانتهم تشوية خلقهم و هم قعود في مكانهم الذي هم فيه من غير أن يغيرهم عن حالهم بعلاج و تكلف بل بمجرد المشية فهو كناية عن كونه هينا سهلا عليه تعالى من غير أي صعوبة. 

  • و قوله: {فَمَا اِسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَ لاَ يَرْجِعُونَ} أي مضيا في العذاب و لا يرجعون إلى حالهم قبل العذاب و المسخ فالمضي و الرجوع كنايتان عن الرجوع إلى حال السلامة و البقاء على حال العذاب و المسخ. 

تفسير الميزان ج۱۷

108
  • و قيل: المراد مضيهم نحو مقاصدهم و رجوعهم إلى منازلهم و أهليهم و لا يخلو من بعد. 

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي اَلْخَلْقِ أَ فَلاَ يَعْقِلُونَ} التعمير التطويل في العمر، و التنكيس‌ تقليب الشي‌ء بحيث يعود أعلاه أسفله و يتبدل قوته ضعفا و زيادته نقصا و الإنسان في عهد الهرم منكس الخلق يتبدل قوته ضعفا و علمه جهلا و ذكره نسيانا. 

  • و الآية في مقام الاستشهاد بتنكيس الخلق على إمكان مضمون الآيتين السابقتين و المراد أن الذي ينكس خلق الإنسان إذا عمره قادر على أن يطمس على أعينهم و على أن يمسخهم على مكانتهم. 

  • و في قوله: {أَ فَلاَ يَعْقِلُونَ} توبيخهم على عدم التعقل و حثهم على التدبر في هذه الأمور و الاعتبار بها. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ} عطف و رجوع إلى ما تقدم في صدر السورة من تصديق رسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كون كتابه تنزيلا من عنده تعالى. 

  • فقوله: {وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ} نفى أن يكون علمه الشعر و لازمه أن يكون بحيث لا يحسن قول الشعر لا أن يحسنه و يمتنع من قوله للنهي من الله متوجه إليه، و لا أن النازل من القرآن ليس بشعر و إن أمكنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ أن يقوله. 

  • و به يظهر أن قوله: {وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ} في مقام الامتنان عليه بأنه نزهه عن أن يقول شعرا فالجملة في مقام دفع الدخل و المحصل أن عدم تعليمنا إياه الشعر ليس يوجب نقصا فيه و لا أنه تعجيز له بل لرفع درجته و تنزيه ساحته عما يتعاوره العارف بصناعة الشعر فيقع في معرض تزيين المعاني بالتخيلات الشعرية الكاذبة التي كلما أمعن فيها كان الكلام أوقع في النفس، و تنظيم الكلام بأوزان موسيقية ليكون أوقع في السمع، فلا ينبغي له (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ أن يقول الشعر و هو رسول من الله و آية رسالته و متن دعوته القرآن المعجز في بيانه الذي هو ذكر و قرآن مبين. 

  • و قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ} تفسير و توضيح لقوله: {وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ} بما أن لازم معناه أن القرآن ليس بشعر فالحصر المستفاد من 

تفسير الميزان ج۱۷

109
  • قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ} إلخ من قصر القلب و المعنى ليس هو بشعر ما هو إلا ذكر و قرآن مبين. 

  • و معنى كونه ذكرا و قرآنا أنه ذكر مقروء من الله ظاهر ذلك. 

  • قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكَافِرِينَ} تعليل متعلق بقوله: {وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ} و المعنى و لم نعلمه الشعر لينذر بالقرآن المنزه من أن يكون شعرا من كان حيا «إلخ» أو متعلق بقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ} إلخ و المعنى ليس ما يتلوه على الناس إلا ذكرا و قرآنا مبينا نزلناه إليه {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} إلخ و مآل الوجهين واحد. 

  • و الآية - كما ترى - تعد غاية إرسال الرسول و إنزال القرآن إنذار من كان حيا - و هو كناية عن كونه يعقل الحق و يسمعه - و حقيقة القول و وجوبه على الكافرين فمحاذاة الآية لما في صدر السورة من الآيات في هذا المعنى ظاهر. 

  • قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ذكر آية من آيات التوحيد تدل على ربوبيته تعالى و تدبيره للعالم الإنساني و هي نظيرة ما تقدم في ضمن آيات التوحيد السابقة من إحياء الأرض الميتة بإخراج الحب و الثمرات و تفجير العيون. 

  • و المراد بكون الأنعام مما عملته أيديه تعالى عدم إشراكهم في خلقها و اختصاصه به تعالى فعمل الأيدي كناية عن الاختصاص. 

  • و قوله: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} تفريع على قوله: {خَلَقْنَا لَهُمْ} فإن المعنى خلقنا لأجلهم فهي مخلوقة لأجل الإنسان و لازمه اختصاصها به و ينتهي الاختصاص إلى الملك فإن الملك الاعتباري الذي في المجتمع من شعب الاختصاص. 

  • و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن في تفرع قوله: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} على قوله: {خَلَقْنَا لَهُمْ} خفاء، و الظاهر تفرعها على مقدر و التقدير خلقناها لهم فهم لها مالكون، و أنت خبير بعدم خفاء تفرعها على {خَلَقْنَا لَهُمْ} و عدم الحاجة إلى تقدير. 

  • و قيل: الملك بمعنى القدرة و القهر، و فيه أنه مفهوم من قوله بعد: {وَ ذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} و التأسيس خير من التأكيد. 

تفسير الميزان ج۱۷

110
  • قوله تعالى: {وَ ذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ} تذليل الأنعام جعلها منقادة لهم غير عاصية و هو تسخيرها لهم، و الركوب‌ بفتح الراء الحمولة كالإبل و البقر، و قوله: {وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي من لحمها يأكلون. 

  • قوله تعالى: {وَ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ مَشَارِبُ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ} المراد بالمنافع ما ينتفعون به من شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و المشارب‌ جمع مشرب - مصدر ميمي بمعنى المفعول - و المراد بها الألبان، و الكلام في معنى الشكر كالكلام فيما تقدم في قوله: {وَ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ}

  • و معنى الآيات الثلاث: أ و لم يعلموا أنا خلقنا لأجلهم و لتدبير أمر حياتهم الدنيا أنعاما من الإبل و البقر و الغنم فتفرع على ذلك أنهم مالكون لها ملكا يصحح لهم أنواع تصرفاتهم فيها من غير معارض، و ذللناها لهم بجعلها مسخرة لهم منقادة غير عاصية فمنها ركوبهم الذي يركبونه، و منها أي من لحومها يأكلون، و لهم فيها منافع ينتفعون بأشعارها و أوبارها و جلودها و مشروبات من ألبانها يشربونها أ فلا يشكرون الله على هذا التدبير الكامل الذي يكشف عن ربوبيته لهم؟ أ و لا يعبدونه شكرا لأنعمه؟. 

  • قوله تعالى: {وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} ضمائر الجمع للمشركين، و المراد بالآلهة الأصنام أو الشياطين و فراعنة البشر دون الملائكة المقربين و الأولياء من الإنسان لعدم ملاءمة ذيل الكلام: {وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} لذلك. 

  • و إنما اتخذوهم آلهة رجاء أن ينصروا من ناحيتهم لأن عامتهم تتخذ إلها زعما منهم أن تدبير أمره مفوض إلى من اتخذه إلها من خير أو شر فيعبده العابد منهم ليرضيه بعبادته فلا يسخط فيقطع النعمة أو يرسل النقمة. 

  • قوله تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} أي لا يستطيع هؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم آلهة نصر هؤلاء المشركين لأنهم لا يملكون شيئا من خير أو شر. 

  • و قوله: {وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} الظاهر أن أول الضميرين للمشركين و ثانيهما للآلهة من دون الله و المراد أن المشركين جند للآلهة و ذلك أن من لوازم معنى الجندية التبعية و الملازمة و المشركون هم المعدودون أتباعا لآلهتهم مطيعين لهم دون العكس. 

تفسير الميزان ج۱۷

111
  • و المراد بالإحضار في قوله: {مُحْضَرُونَ} الإحضار للجزاء يوم القيامة قال تعالى: ‌{وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} الصافات: ١٥٨ و قال: ‌{وَ لَوْ لاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ} الصافات: ٥٧. و محصل المعنى لا يستطيع الآلهة المتخذون نصر المشركين و هم أي المشركون لهم أي لآلهتهم أتباع مطيعون محضرون معهم يوم القيامة. 

  • و أما قول القائل: إن المعنى أن المشركين جند لآلهتهم معدون للذب عنهم في الدنيا، أو إن المعنى و هم أي الآلهة لهم أي للمشركين جند محضرون لعذاب المشركين يوم القيامة لأنهم وقود النار التي يعذب بها المشركون، أو محضرون لعذابهم إظهارا لعجزهم عن النصر أو لإقناط المشركين عن شفاعتهم فهي معان رديئة. 

  • قوله تعالى: {فَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ} الفاء لتفريع النهي عن الحزن على حقيقة اتخاذهم الآلهة من دون الله رجاء للنصر أي إذا كان هذا حقيقة حالهم أن الذين استنصروهم لا يستطيعون نصرهم أبدا و أنهم سيحضرون معهم للعذاب فلا يحزنك قولهم ما قالوا به من الشرك فإنا لسنا بغافلين عنهم حتى يعجزونا أو يفسدوا علينا بعض الأمر بل نعلم ما يسرون من أقوالهم و ما يعلنون، و في تركيب الآية بعض أقوال رديئة أضربنا عنه. 

  • قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} رجوع إلى ما تقدم من حديث البعث و الاحتجاج عليه إثر إنكارهم، و لا يبعد أن يكون بيانا تفصيليا لقولهم المشار إليه في قوله تعالى: {فَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} إلخ و المراد بالرؤية العلم القطعي أي أ و لم يعلم الإنسان علما قاطعا أنا خلقناه من نطفة، و تنكير نطفة للتحقير و الخصيم المصر على خصومته و جداله. 

  • و الاستفهام للتعجب و المعنى من العجيب أن الإنسان يعلم أنا خلقناه من نطفة مهينة فيفاجئه أنه خصيم مجادل مبين. 

  • قوله تعالى: {وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ} الرميم‌ البالي من العظام، و {نَسِيَ خَلْقَهُ} حال من فاعل ضرب، و قوله: {قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ} بيان للمثل الذي ضربه الإنسان، و لذلك جي‌ء به مفصولا 

تفسير الميزان ج۱۷

112
  • من غير عطف لأن الكلام في معنى أن يقال: فما ذا ضرب مثلا؟ فقيل قال من يحيي العظام و هي رميم. 

  • و المعنى و ضرب الإنسان لنا مثلا و قد نسي خلقه من نطفة لأول مرة، و لو كان ذاكره لم يضرب المثل الذي ضربه و هو قوله: «من يحيي العظام و هي بالية؟» لأنه كان يرد على نفسه و يجيب عن المثل الذي ضربه بخلقه الأول كما لقنه الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ جوابا عنه. 

  • قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} تلقين الجواب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • الإنشاء هو الإيجاد الابتدائي و تقييده بقوله {أَوَّلَ مَرَّةٍ} للتأكيد، و قوله: {وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى أنه تعالى لا ينسى و لا يجهل شيئا من خلقه فإذا كان هو خالق هذه العظام لأول مرة و هو لا يجهل شيئا مما كانت عليه قبل الموت و بعده فإحياؤه ثانيا بمكان من الإمكان لثبوت القدرة و انتفاء الجهل و النسيان. 

  • قوله تعالى: {اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} بيان لقوله: {اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} و الإيقاد إشعال النار. 

  • و الآية مسوقة لرفع استبعاد جعل الشي‌ء الموات شيئا ذا حياة و الحياة و الموت متنافيان و الجواب أنه لا استبعاد فيه فإنه هو الذي جعل لكم من الشجر الأخضر الذي يقطر ماء نارا فإذا أنتم منه توقدون و تشعلون النار، و المراد به على المشهور بين المفسرين شجر۱ 

  • المرخ و العفار كانوا يأخذون منهما على خضرتهما فيجعل العفار زندا أسفل و يجعل المرخ زندا أعلى فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله فحصول الحي من الميت ليس بأعجب من انقداح النار من الشجرة الخضراء و هما متضادان. 

  • قوله تعالى: {أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلى‌ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى‌ وَ هُوَ اَلْخَلاَّقُ اَلْعَلِيمُ} الاستفهام للإنكار و الآية بيان للحجة السابقة المذكورة 

    1. المرخ بالفتح فالسكون و الخاء المعجمة، و العفار بعين مفتوحة ثم الفاء ثم الراء المهملة شجرتان تشتعلان بسحق أحدهما على الآخر.

تفسير الميزان ج۱۷

113
  • في قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلخ. ببيان أقرب إلى الذهن و ذلك بتبديل إنشائهم أول مرة من خلق السماوات و الأرض الذي هو أكبر من خلق الإنسان كما قال تعالى: ‌{لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ} المؤمن: ٥٧. 

  • فالآية في معنى قولنا: و كيف يمكن أن يقال: إن الله الذي خلق عوالم السماوات و الأرض بما فيها من سعة الخلقة البديعة و عجيب النظام العام المتضمن لما لا يحصى من الأنظمة الجزئية المدهشة للعقول المحيرة للألباب و العالم الإنساني جزء يسير منها، لا يقدر أن يخلق مثل هؤلاء الناس، بلى و إنه خلاق عليم. 

  • و المراد بمثلهم قيل: هم و أمثالهم و فيه أنه مغاير لمعنى مثل على ما يعرف من اللغة و العرف. 

  • و قيل: المراد بمثلهم هم أنفسهم بنحو الكناية على حد قولهم: مثلك غني عن كذا أي أنت غني عنه، و فيه أنه لو كان كناية لصح التصريح به لكن لا وجه لقولنا: أ و ليس الذي خلق السماوات و الأرض بقادر على أن يخلقهم فإن الكلام في بعثهم لا في خلقهم و المشركون معترفون بأن خالقهم هو الله سبحانه. 

  • و قيل: ضمير {مِثْلَهُمْ} للسماوات و الأرض فإنهما تشملان ما فيهما من العقلاء فأعيد إليهما ضمير العقلاء تغليبا فالمراد أن الله الخالق للعالم قادر على خلق مثله. 

  • و فيه أن المقام مقام إثبات بعث الإنسان لا بعث السماوات و الأرض. على أن الكلام في الإعادة و خلق مثل الشي‌ء ليس إعادة لعينه بل بالضرورة. 

  • فالحق أن يقال: إن المراد بخلق مثلهم إعادتهم للجزاء بعد الموت كما يستفاد من كلام الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان. 

  • بيانه أن الإنسان مركب من نفس و بدن، و البدن في هذه النشأة في معرض التحلل و التبدل دائما فهو لا يزال يتغير أجزاؤه و المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه فهو في كل آن غيره في الآن السابق بشخصه و شخصية الإنسان محفوظة بنفسه – روحه - المجردة المنزهة عن المادة و التغيرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت و الفساد. 

  • و المتحصل من كلامه تعالى أن النفس لا تموت بموت البدن و أنها محفوظة حتى ترجع 

تفسير الميزان ج۱۷

114
  • إلى الله سبحانه كما تقدم استفادته من قوله تعالى‌{وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‌ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} الم السجدة: ١١. 

  • فالبدن اللاحق من الإنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه لكن الإنسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإنسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله لأن الشخصية بالنفس و هي واحدة بعينها. 

  • و لما كان استبعاد المشركين في قولهم: {مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ} راجعا إلى خلق البدن الجديد دون النفس أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم و أما عودهم بأعيانهم فهو إنما يتم بتعلق النفوس و الأرواح المحفوظة عند الله بالأبدان المخلوقة جديدا، فيكون الأشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم كما قال تعالى: ‌{أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلى‌ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتى‌} الأحقاف - ٣٣ فعلق الإحياء على الموتى بأعيانهم فقال: {عَلى‌ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتى‌} و لم يقل: على أن يحيي أمثال الموتى. 

  • قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (الآية) من غرر الآيات القرآنية تصف كلمة الإيجاد و تبين أنه تعالى لا يحتاج في إيجاد شي‌ء مما أراده إلى ما وراء ذاته المتعالية من سبب يوجد له ما أراده أو يعينه في إيجاده أو يدفع عنه مانعا يمنعه. 

  • و قد اختلف تعبيره تعالى عن هذه الحقيقة في كلامه فقال‌: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ‌ءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} النحل: ٤٠، و قال: ‌{وَ إِذَا قَضى‌ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} البقرة: ١١٧. 

  • فقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ} الظاهر أن المراد بالأمر الشأن، و قوله في آية النحل المنقولة آنفا: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ‌ءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} إن كان يؤيد كون الأمر بمعنى القول و هو الأمر اللفظي بلفظة كن إلا أن التدبر في الآيات يعطي أن الغرض فيها وصف الشأن الإلهي عند إرادة خلق شي‌ء من الأشياء لا بيان أن قوله تعالى عند خلق شي‌ء من الأشياء هذا القول دون غيره، فالوجه حمل القول على الأمر بمعنى الشأن بمعنى أنه جي‌ء به لكونه 

تفسير الميزان ج۱۷

115
  • مصداقا للشأن لا حمل الأمر على القول بمعنى ما يقابل النهي. 

  • و قوله: {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} أي إذا أراد إيجاد شي‌ء كما يعطيه سياق الآية و قد ورد في عدة من الآيات القضاء مكان الإرادة كقوله: {إِذَا قَضى‌ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}۱ و لا ضير فالقضاء هو الحكم و القضاء و الحكم و الإرادة من الله شي‌ء واحد و هو كون‌٢ الشي‌ء الموجود بحيث ليس له من الله سبحانه إلا أن يوجد فمعنى إذا أردناه إذا أوقفناه موقف تعلق الإرادة. 

  • و قوله: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} خبر إنما أمره أي يخاطبه بكلمة كن و من المعلوم أن ليس هناك لفظ يتلفظ به و إلا احتاج في وجوده إلى لفظ آخر و هلم جرا فيتسلسل و لا أن هناك مخاطبا ذا سمع يسمع الخطاب فيوجد به لأدائه إلى الخلف فالكلام تمثيل لإفاضته تعالى وجود الشي‌ء من غير حاجة إلى شي‌ء آخر وراء ذاته المتعالية و من غير تخلف و لا مهل. 

  • و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم حيث قال: الظاهر أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن و إليه ذهب معظم السلف و شئون الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام فدع عنك الكلام و الخصام. انتهى. 

  • و ذلك أن ما ذكره من كون شئونه تعالى وراء طور الأفهام لو أبطل الحجة العقلية القطعية بطلت بذلك المعارف الدينية من أصلها فصحة الكتاب مثلا بما يفيده من المعارف الحقيقية إنما تثبت بالحجة العقلية فلو بطلت الحجة العقلية بكتاب أو سنة أو شي‌ء آخر مما يثبت هو بها لكان ذلك الدليل المبطل مبطلا لنفسه أولا فلا تزل قدم بعد ثبوتها. 

  • و من المعلوم أن ليس هناك إلا الله عز اسمه و الشي‌ء الذي يوجد لا ثالث بينهما و إسناد العلية و السببية إلى إرادته دونه تعالى - و الإرادة صفة فعلية منتزعة من مقام الفعل كما تقدم - يستلزم انقطاع حاجة الأشياء إليه تعالى من رأس لاستيجابه استغناء الأشياء بصفة منتزعة منها عنه تعالى و تقدس. 

    1. البقرة: ١٧، آل عمران: ٤٧، مريم: ٣٥، المؤمن: ٦٨.
    2. فإن هذه الإرادة صفة فعلية خارجة عن الذات منتزعة عن مقام الفعل. 

تفسير الميزان ج۱۷

116
  • و من المعلوم أن ليس هناك أمر ينفصل عنه تعالى يسمى إيجادا و وجودا ثم يتصل بالشي‌ء فيصير به موجودا و هو ظاهر فليس بعده تعالى إلا وجود الشي‌ء فحسب. 

  • و من هنا يظهر أن كلمة الإيجاد و هي كلمة كن هي وجود الشي‌ء الذي أوجده لكن بما أنه منتسب إليه قائم به و أما من حيث انتسابه إلى نفسه فهو موجود لا إيجاد و مخلوق لا خلق. 

  • و يظهر أيضا أن الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة و لا نظرة و لا يتحمل تبدلا و لا تغيرا، و لا يتلبس بتدريج و ما يتراءى في الخلق من هذه الأمور إنما يتأتى في الأشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربها سبحانه و هذا باب ينفتح منه ألف باب. 

  • و في الآيات للتلويح إلى هذه الحقائق إشارات لطيفة كقوله تعالى: ‌{كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} آل عمران: ٥٩، و قوله تعالى‌{وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} القمر: ٥٠، و قوله تعالى: ‌{وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} الأحزاب: ٣٨ إلى غير ذلك. 

  • و قوله في آخر الآية: {فَيَكُونُ} بيان لطاعة الشي‌ء المراد له تعالى و امتثاله لأمر {كُنْ} و لبسه الوجود. 

  • قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الملكوت‌ مبالغة في معنى الملك كالرحموت و الرهبوت في معنى الرحمة و الرهبة. 

  • و انضمام الآية إلى ما قبلها يعطي أن المراد بالملكوت الجهة التالية له تعالى من وجهي وجود الأشياء، و بالملك الجهة التالية للخلق أو الأعم الشامل للوجهين. و عليه يحمل قوله تعالى: ‌{وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ} الأنعام: ٧٥. و قوله‌{أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ }الأعراف: ١٨٥: و قوله: ‌{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} المؤمنون: ٨٨. 

  • و جعل الملكوت بيده تعالى للدلالة على أنه متسلط عليها لا نصيب فيها لغيره. 

  • و مآل المعنى قوله: {فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} تنزيهه تعالى عما استبعدوا منكرين للمعاد لغفلتهم عن أن ملكوت كل شي‌ء بيده و في قبضته. 

تفسير الميزان ج۱۷

117
  • و قوله: {وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} خطاب لعامة الناس من مؤمن و مشرك، و بيان لنتيجة البيان السابق بعد التنزيه. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ} (الآية) قال: كانت قريش تقول: إن هذا الذي يقوله محمد شعر فرد الله عليهم فقال: {وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ} و لم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) شعرا قط. 

  • و في المجمع، روي عن الحسن: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يتمثل بهذا البيت: كفى الإسلام و الشيب للمرء ناهيا. فقال له أبو بكر: يا رسول الله إنما قال: كفى الشيب و الإسلام للمرء ناهيا و أشهد أنك رسول الله و ما علمك الله الشعر و ما ينبغي لك. 

  • و فيه، عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يتمثل ببيت أخي بني قيس: 

  • ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا***و يأتيك بالأخبار من لم تزود 
  • فجعل يقول: و يأتيك من لم تزود بالأخبار فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فيقول: إني لست بشاعر و لا ينبغي لي. 

  • أقول: و روي في الدر المنثور، الخبرين عن الحسن و عائشة كما رواه و روي في الدر المنثور غير ذلك مما تمثل به (صلى الله عليه وآله و سلم)‌. 

  • و قال في المجمع: فأما قوله:

  • أنا النبي لا كذب***أنا ابن عبد المطلب‌
  • فقد قال قوم: إن هذا ليس بشعر، و قال آخرون: إنما هو اتفاق منه و ليس يقصد إلى شعر انتهى. و البيت منقول عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ و قد أكثروا من البحث فيه و طرح الرواية أهون من نفي كونه شعرا أو شعرا مقصودا إليه. 

  • و فيه‌ في قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} (الآية) و يجوز أن يكون المراد بمن كان حيا عاقلا. و روي ذلك عن علي (عليه السلام).

  • و في تفسير القمي‌ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: 

تفسير الميزان ج۱۷

118
  • {وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ } - إلى قوله - {مُحْضَرُونَ} يقول: لا تستطيع الآلهة لهم نصرا و هم للآلهة جند محضرون.

  • و عن تفسير العياشي، عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء أبي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثم قال: إذا كنا عظاما و رفاتا أ إنا لمبعوثون خلقا؟ فأنزل الله: {قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}

  • أقول: و روي مثله في الدر المنثور، بطرق كثيرة عن ابن عباس و عروة بن الزبير و عن قتادة و السدي و عكرمة و روي أيضا عن ابن عباس: أن القائل هو العاص بن وائل و بطريق آخر عنه أن القائل هو عبد الله بن أبي. 

  • و في الإحتجاج:‌ في احتجاج أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): قال السائل: أ فيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال (عليه السلام)‌: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الأشياء و تنفى فلا حس و لا محسوس ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها و ذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق و ذلك بين النفختين. 

  • قال: و أنى له بالبعث و البدن قد بلي و الأعضاء قد تفرقت فعضو ببلدة تأكله سباعها و عضو بأخرى تمزقه هوامها و عضو قد صار ترابا يبنى به مع الطين في حائط. 

  • قال (عليه السلام)‌: إن الذي أنشأه من غير شي‌ء و صوره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأه. 

  • قال: أوضح لي ذلك. قال (عليه السلام)‌: إن الروح مقيمة في مكانها روح المحسن في ضياء و فسحة، و روح المسي‌ء في ضيق و ظلمة و البدن يصير ترابا كما منه خلق و ما تقذف به السباع و الهوام من أجوافها فما أكلته و مزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض و يعلم عدد الأشياء و وزنها و إن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب. 

  • فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور فتربو الأرض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء و الزبد من اللبن إذا مخض 

تفسير الميزان ج۱۷

119
  • فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها و يلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا. 

  • و في نهج البلاغة:‌ يقول لما أراد كونه: كن فيكون، لا بصوت يقرع و لا نداء يسمع و إنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا و لو كان قديما لكان إلها ثانيا. 

  • و فيه يقول: و لا يلفظ و يريد و لا يضمر. 

  • و في الكافي، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من الله و من الخلق قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي و لا يهم و لا يتفكر، و هذه الصفات منفية عنه و هي صفات الخلق. 

  • فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما أنه لا كيف له.

  • أقول: و الروايات عنهم (عليهم السلام) في كون إرادته من صفات الفعل مستفيضة.

  • (٣٧) سورة الصافات مكية و هي مائة و اثنان و ثمانون آية (١٨٢) 

  • [سورة الصافات (٣٧): الآیات ١ الی ١١]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلصَّافَّاتِ صَفًّا ١ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً ٢ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ٣ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ٤ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ رَبُّ اَلْمَشَارِقِ ٥ إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِزِينَةٍ اَلْكَوَاكِبِ ٦ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ٧ لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلى‌ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ 

تفسير الميزان ج۱۷

120
  • جَانِبٍ ٨ دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ٩ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ ١١} 

  • (بيان) 

  • في السورة احتجاج على التوحيد، و إنذار للمشركين و تبشير للمخلصين من المؤمنين، و بيان ما يئول إليه حال كل من الفريقين ثم ذكر عدة من عباده المؤمنين ممن من الله عليهم و قضى أن ينصرهم على عدوهم، و في خاتمة السورة ما هو بمنزلة محصل الغرض منها و هو تنزيهه و السلام على عباده المرسلين و تحميده تعالى فيما فعل و السورة مكية بشهادة سياقها. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} الصافات - على ما قيل - جمع صافة و هي جمع صاف، و المراد بها على أي حال الجماعة التي تصطف أفرادها و الزاجرات‌ من الزجر و هو الصرف عن الشي‌ء بالتخويف بذم أو عقاب و التاليات‌ من التلاوة بمعنى القراءة. 

  • و قد أقسم الله تعالى بهذه الطوائف الثلاث: الصافات و الزاجرات و التاليات و قد اختلفت كلماتهم في المراد بها: 

  • فأما الصافات فقيل: إن المراد بها الملائكة تصف أنفسها في السماء صفوفا كصفوف المؤمنين في الصلاة، و قيل: إنها الملائكة تصف أجنحتها في الهواء إذا أرادت النزول إلى الأرض واقفة في انتظار أمر الله تعالى، و قيل: إنها الجماعة من المؤمنين يقومون في الصلاة أو في الجهاد مصطفين. 

  • و أما الزاجرات فقيل: إنها الملائكة تزجر العباد عن المعاصي فيوصله الله إلى قلوب الناس في صورة الخطرات كما يوصل وساوس الشياطين، و قيل: إنها الملائكة الموكلة بالسحاب تزجرها و تسوقها إلى حيث أراد الله سبحانه، و قيل: هي زواجر 

تفسير الميزان ج۱۷

121
  • القرآن و هي آياته الناهية عن القبائح، و قيل: هم المؤمنون يرفعون أصواتهم بالقرآن عند قراءته فيزجرون الناس عن المنهيات. 

  • و أما التاليات فقيل: هم الملائكة يتلون الوحي على النبي الموحى إليه، و قيل: هي الملائكة تتلو الكتاب الذي كتبه الله و فيها ذكر الحوادث، و قيل: جماعة قراء القرآن يتلونه في الصلاة. 

  • و يحتمل - و الله العالم - أن يكون المراد بالطوائف الثلاث المذكورة في الآيات طوائف الملائكة النازلين بالوحي المأمورين بتأمين الطريق و دفع الشياطين عن المداخلة فيه و إيصاله إلى النبي مطلقا أو خصوص محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) كما يستفاد من قوله تعالى: ‌{عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‌ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‌ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} الجن: ٢٨. 

  • و عليه فالمعنى أقسم بالملائكة الذين يصفون في طريق الوحي صفا فبالذين يزجرون الشياطين و يمنعونهم عن المداخلة في الوحي فبالذين يتلون على النبي الذكر و هو مطلق الوحي أو خصوص القرآن كما يؤيده التعبير عنه بتلاوة الذكر. 

  • و يؤيد ما ذكرنا وقوع حديث رمي الشياطين بالشهب بعد هذه الآيات، و كذا قوله بعد: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} (الآية) كما سنشير إليه. 

  • و لا ينافي ذلك إسناد النزول بالقرآن إلى جبرئيل وحده في قوله: ‌{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‌ قَلْبِكَ} البقرة: ٩٧ و قوله‌{نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى‌ قَلْبِكَ} الشعراء: ١٩٤ لأن الملائكة المذكورين أعوان جبرئيل فنزولهم به نزوله به و قد قال تعالى: ‌{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} عبس: ١٦، و قال حكاية عنهم: ‌{وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} مريم: ٦٤، و قال: ‌{وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ} الصافات: ١٦٦ و هذا كنسبة التوفي إلى الرسل من الملائكة في قوله‌: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} الأنعام: ٦١ و إلى ملك الموت و هو رئيسهم في قوله: ‌{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }السجدة: ١١. 

  • و لا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث: الصافات و الزاجرات و التاليات ـ 

تفسير الميزان ج۱۷

122
  • لأن موصوفها الجماعة، و التأنيث لفظي. 

  • و هذه أول سورة في القرآن صدرت بالقسم و قد أقسم الله سبحانه في كلامه بكثير من خلقه كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و النجم و الليل و النهار و الملائكة و الناس و البلاد و الأثمار، و ليس ذلك إلا لما فيها من الشرف باستناد خلقها إليه تعالى و هو قيومها المنبع لكل شرف و بهاء. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} الخطاب لعامة الناس و هو مقسم به، و هو كلام مسوق بدليل كما سيأتي. 

  • قوله تعالى: {رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ رَبُّ اَلْمَشَارِقِ} خبر بعد خبر لأن، أو خبر لمبتدإ محذوف و التقدير هو رب السماوات إلخ، أو بدل من واحد. 

  • و في سوق الأوصاف إشعار بعلة كون الإله واحدا كما أن خصوصية القسم مشعر بعلة كونه رب السماوات و الأرض و ما بينهما. 

  • كأنه قيل إن إلهكم لواحد لأن الملاك في ألوهية الإله و هي كونه معبودا بالحق أن يكون ربا يدبر الأمر على ما تعترفون و هو سبحانه رب السماوات و الأرض و ما بينهما الذي يدبر أمرها و يتصرف في جميعها. 

  • و كيف لا؟ و هو تعالى يوحي إلى نبيه فيتصرف في السماء و سكانها بإرسال ملائكة يصطفون بينها و بين الأرض و هناك مجال الشياطين فيزجرونهم و هو تصرف منه فيما بين السماء و الأرض و في الشياطين ثم يتلون الذكر على نبيه و فيه تكميل للناس و تربية لهم سواء صدقوا أم كذبوا ففي الوحي تصرف منه في السماوات و الأرض و ما بينهما فهو على وحدانيته رب الجميع المدبر لأمرها و الإله الواحد. 

  • و قوله: {وَ رَبُّ اَلْمَشَارِقِ} أي مشارق الشمس باختلاف الفصول أو المراد مشارق مطلق النجوم أو مطلق المشارق، و في تخصيص المشارق بالذكر مناسبة لطلوع الوحي بملائكته من السماء و قد قال تعالى: ‌{وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ اَلْمُبِينِ} التكوير - ٢٣، و قال: ‌{وَ هُوَ بِالْأُفُقِ اَلْأَعْلى‌} النجم: ٧. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِزِينَةٍ اَلْكَوَاكِبِ} المراد بالزينة ما يزين به، 

تفسير الميزان ج۱۷

123
  • و الكواكب بيان أو بدل من الزينة و قد تكرر حديث تزيين السماء الدنيا بزينة الكواكب في كلامه كقوله: ‌{وَ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} حم السجدة: ١٢ و قوله: ‌{وَ لَقَدْ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} الملك: ٥، و قوله: ‌{أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اَلسَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَ زَيَّنَّاهَا} ق: ٦. 

  • و لا يخلو من ظهور في كون السماء الدنيا من السماوات السبع التي يذكرها القرآن هو عالم الكواكب فوق الأرض و إن وجهه بعضهم بما يوافق مقتضى الهيئة القديمة أو الجديدة. 

  • قوله تعالى: {وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} حفظا مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير و حفظناها حفظا من كل شيطان مارد، و المراد بالشيطان الشرير من الجن و المارد الخبيث العاري من الخير. 

  • قوله تعالى: {لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلى‌ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} أصل {لاَ يَسَّمَّعُونَ} لا يتسمعون و التسمع‌ الإصغاء، و هو كناية عن كونهم ممنوعين مدحورين و بهذه العناية صار وصفا لكل شيطان و لو كان بمعنى الإصغاء صريحا أفاد لغوا من الفعل إذ لو كانوا لا يصغون لم يكن وجه لقذفهم. 

  • و الملأ من الناس الأشراف منهم الذين يملئون العيون، و الملأ الأعلى هم الذين يريد الشياطين التسمع إليهم و هم الملائكة الكرام الذين هم سكنة السماوات العلى على ما يدل عليه كلامه تعالى كقوله: ‌{لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} الإسراء: ٩٥. 

  • و قصدهم من التسمع إلى الملإ الأعلى الاطلاع على أخبار الغيب المستوردة عن هذا العالم الأرضي كالحوادث المستقبلة و الأسرار المكنونة كما يشير إليه قوله تعالى: ‌{وَ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّيَاطِينُ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَ مَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ اَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} الشعراء: ٢١٢، و قوله حكاية عن الجن: ‌{وَ أَنَّا لَمَسْنَا اَلسَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ اَلْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} الجن: ٩. 

  • و قوله: {وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} القذف‌ الرمي و الجانب‌ الجهة. 

  • قوله تعالى: {دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} الدحور الطرد و الدفع، و هو مصدر بمعنى المفعول منصوب حالا أي مدحورين أو مفعول له أو مفعول مطلق، و الواصب‌ الواجب اللازم. 

تفسير الميزان ج۱۷

124
  •  قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} الخطفة الاختلاس و الاستلاب، و الشهاب‌ ما يرى في الجو كالكوكب المنقض، و الثقوب‌ الركوز و سمي الشهاب ثاقبا لأنه لا يخطئ هدفه و غرضه. 

  • و المراد بالخطفة اختلاس السمع و قد عبر عنه في موضع آخر باستراق السمع قال تعالى: ‌{إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} الحجر: ١٨، و الاستثناء من ضمير الفاعل في قوله: {لاَ يَسَّمَّعُونَ} و جوز بعضهم كون الاستثناء منقطعا. 

  • و معنى الآيات الخمس: أنا زينا السماء التي هي أقرب السماوات منكم أو السماء السفلى بزينة و هي الكواكب، و حفظناها حفظا من كل شيطان خبيث عار من الخير ممنوعين من الإصغاء إلى الملإ الأعلى - للاطلاع إلى ما يلقون بين أنفسهم من أخبار الغيب - و يرمون من كل جهة حال كونهم مطرودين و لهم عذاب لازم لا يفارقهم إلا من اختلس من أخبارهم الاختلاسة فأتبعه شهاب ثاقب لا يخطئ غرضه. 

  • (كلام في معنى الشهب) 

  • أورد المفسرون أنواعا من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين و رميهم بالشهب و هي مبنية على ما يسبق إلى الذهن من ظاهر الآيات و الأخبار أن هناك أفلاكا محيطة بالأرض تسكنها جماعات الملائكة و لها أبواب لا يلج فيها شي‌ء إلا منها و أن في السماء الأولى جمعا من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب. 

  • و قد اتضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء و يتفرع على ذلك بطلان الوجوه التي أوردوها في تفسير الشهب و هي وجوه كثيرة أودعوها في المطولات كالتفسير الكبير، للرازي و روح المعاني، للآلوسي و غيرهما. 

  • و يحتمل - و الله العالم - أن هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس و هو القائل عز و جل: ‌{وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ} العنكبوت: ٤٣. 

تفسير الميزان ج۱۷

125
  • و هو كثير في كلامه تعالى و منه العرش و الكرسي و اللوح و الكتاب و قد تقدمت الإشارة إليها و سيجي‌ء بعض منها. 

  • و على هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا أفق أعلى نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض، و المراد باقتراب الشياطين من السماء و استراقهم السمع و قذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة و الحوادث المستقبلة و رميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت، أو كرتهم على الحق لتلبيسه و رمي الملائكة إياهم بالحق الذي يبطل أباطيلهم. 

  • و إيراده تعالى قصة استراق الشياطين للسمع و رميهم بالشهب عقيب الإقسام بملائكة الوحي و حفظهم إياه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه و الله أعلم. 

  • [بيان] 

  • قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ} اللازب‌ الملتزق بعضه ببعض بحيث يلزمه ما جاوره، و قال في مجمع البيان:‌ اللازب و اللازم بمعنى. انتهى. 

  • و المراد بقوله: {مَنْ خَلَقْنَا} إما الملائكة المشار إليهم في الآيات السابقة و هم حفظة الوحي و رماة الشهب، و إما غير الناس من الخلق العظيم كالسماوات و الأرض و الملائكة، و التعبير بلفظ أولي العقل للتغليب. 

  • و المعنى: فإذا كان الله هو رب السماوات و الأرض و ما بينهما و الملائكة فاسألهم أن يفتوا أ هم أشد خلقا أم غيرهم ممن خلقنا فهم أضعف خلقا لأنا خلقناهم من طين ملتزق فليسوا بمعجزين لنا. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ اَلصَّافَّاتِ صَفًّا} قال: الملائكة و الأنبياء. 

  • و فيه، عن أبيه و يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض. (الحديث). 

  • و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: {عَذَابٌ وَاصِبٌ} 

تفسير الميزان ج۱۷

126
  • أي دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم. 

  • و فيه، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث المعراج: قال: فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى سماء الدنيا و عليها ملك يقال له: إسماعيل و هو صاحب الخطفة التي قال الله عز و جل: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} و تحته سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك. (الحديث). 

  • أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة أوردنا بعضا منها في تفسير قوله تعالى: ‌{ إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} الحجر: ١٨ و سيأتي بعضها في تفسير سورتي الملك و الجن إن شاء الله تعالى. 

  • و في نهج البلاغة:‌ ثم جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت و لاطها بالبلة حتى لزبت.

  • [سورة الصافات (٣٧): الآیات ١٢ الی ٧٠]

  • {بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ ١٢ وَ إِذَا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ ١٣ وَ إِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ١٤ وَ قَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ١٥ أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ١٦ أَ وَ آبَاؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ ١٧ قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ دَاخِرُونَ ١٨ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ١٩ وَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ اَلدِّينِ ٢٠هَذَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ٢١ اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ وَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ٢٢ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى‌ صِرَاطِ اَلْجَحِيمِ ٢٣ وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ 

تفسير الميزان ج۱۷

127
  • مَسْؤُلُونَ ٢٤ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ٢٥ بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ٢٦ وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ٢٧ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اَلْيَمِينِ ٢٨ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ٢٩ وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ ٣٠فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ٣١ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ٣٢ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ٣٣ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ٣٤ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ٣٥ وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ٣٦ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ اَلْمُرْسَلِينَ ٣٧ إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا اَلْعَذَابِ اَلْأَلِيمِ ٣٨ وَ مَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٣٩ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ ٤٠أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ٤١ فَوَاكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ ٤٢ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ ٤٣ عَلى‌ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ٤٤ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ٤٥ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ٤٦ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَ لاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ٤٧ وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ 

تفسير الميزان ج۱۷

128
  • عِينٌ ٤٨ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ٤٩ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ٥٠قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ٥١ يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ ٥٢ أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ ٥٣ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ٥٤ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ اَلْجَحِيمِ ٥٥ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ٥٦ وَ لَوْ لاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ ٥٧ أَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ٥٨ إِلاَّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولى‌ وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٥٩ إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ٦٠لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ اَلْعَامِلُونَ ٦١ أَ ذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ ٦٢ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ٦٣ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ ٦٤ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّيَاطِينِ ٦٥ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ ٦٦ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ٦٧ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى اَلْجَحِيمِ ٦٨ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ٦٩ فَهُمْ عَلى‌ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ٧٠} 

تفسير الميزان ج۱۷

129
  • (بيان) 

  • حكاية استهزائهم بآيات الله و بعض أقاويلهم المبنية على الكفر و إنكار المعاد و الرد عليهم بتقرير أمر البعث و ما يجري عليهم فيه من الشدة و ألوان العذاب و ما يكرم الله به عباده المخلصين من النعمة و الكرامة. 

  • و فيها ذكر تخاصم أهل النار يوم القيامة، و ذكر محادثة بين أهل الجنة و أخرى بين بعضهم و بعض أهل النار. 

  • قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ وَ إِذَا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ} أي بل عجبت يا محمد من تكذيبهم إياك مع دعوتك إياهم إلى كلمة الحق، و هم يسخرون و يهزءون من تعجبك منهم أو من دعائك إياهم إلى الحق، و إذا ذكروا بآيات الله الدالة على التوحيد و دين الحق لا يذكرون و لا يتنبهون. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} في مجمع البيان:‌ سخر و استسخر بمعنى واحد. انتهى. 

  • و المعنى: و إذا رأوا هؤلاء المشركون أية معجزة من آيات الله المعجزة كالقرآن و شق القمر يستهزءون بها. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} في إشارتهم إلى الآية بلفظة هذا إشعار منهم أنهم لا يفقهون منها إلا أنها شي‌ء ما من غير زيادة و هو من أقوى الإهانة و الاستسخار. 

  • قوله تعالى: {أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَ وَ آبَاؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ} إنكار منهم للبعث مبني على الاستبعاد فمن المستبعد عند الوهم أن يموت الإنسان فيتلاشى بدنه و يعود ترابا و عظاما ثم يعود إلى صورته الأولى. 

  • و من الدليل على أن الكلام مسوق لإفادة الاستبعاد تكرارهم الاستفهام الإنكاري 

تفسير الميزان ج۱۷

130
  • بالنسبة إلى آبائهم الأولين فإن استبعاد الوهم لبعثهم و قد انمحت رسومهم و لم يبق منهم إلا أحاديث أشد و أقوى من استبعاده بعثهم أنفسهم. 

  • و لو كان إنكارهم البعث مبنيا على أنهم ينعدمون بالموت فتستحيل إعادتهم كان الحكم فيهم و في آبائهم على نهج واحد و لم يحتج إلى تجديد استفهام بالنسبة إلى آبائهم. 

  • قوله تعالى: {قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيبهم بأنهم مبعوثون. 

  • و قوله: {وَ أَنْتُمْ دَاخِرُونَ} أي صاغرون مهانون أذلاء، و هذا في الحقيقة احتجاج بعموم القدرة و نفوذ الإرادة من غير مهلة، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون و لذا عقبه بقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} و قد قال تعالى: ‌{ وَ لِلَّهِ غَيْبُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا أَمْرُ اَلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} النحل - ٧٧. 

  • و قوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} إلخ الفاء لإفادة التعليل و الجملة تعليل لقوله: {وَ أَنْتُمْ دَاخِرُونَ} و في التعبير بزجرة إشعار باستذلالهم. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ اَلدِّينِ هَذَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} معطوف على قوله: {يَنْظُرُونَ} المشعر بأنهم مبهوتون مدهوشون متفكرون ثم يتنبهون بكونه يوم البعث فيه الدين و الجزاء و هم يحذرون منه بما كفروا و كذبوا و لذا قالوا: يوم الدين، و لم يقولوا يوم البعث، و التعبير بالماضي لتحقق الوقوع. 

  • و قوله: {هَذَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} قيل هو كلام بعضهم لبعض و قيل: كلام الملائكة أو كلامه تعالى لهم، و يؤيده الآية التالية، و الفصل هو التمييز بين الشيئين و سمي يوم الفصل لكونه يوم التمييز بين الحق و الباطل بقضائه و حكمه تعالى أو التمييز بين المجرمين و المتقين قال تعالى: ‌{وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ} يس: ٥٩. 

  • قوله تعالى: {اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ وَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى‌ صِرَاطِ اَلْجَحِيمِ} من كلامه تعالى للملائكة و المعنى و قلنا للملائكة: احشروهم و قيل: هو من كلام الملائكة بعضهم لبعض. 

تفسير الميزان ج۱۷

131
  • و الحشر - على ما ذكره الراغب - إخراج الجماعة عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها. 

  • و المراد بالذين ظلموا على ما يؤيده آخر الآية المشركون و لا كل المشركين بل المعاندون للحق الصادون عنه منهم قال تعالى: ‌{فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} الأعراف: ٤٤ ٤٥، و التعبير بالماضي في المقام يفيد فائدة الوصف فليس المراد بالذين ظلموا من تحقق منه ظلم ما و لو مرة واحدة بل تعريف لهم بحاصل ما اكتسبوا في حياتهم الدنيا كما لو قيل: ما ذا فعل فلان في حياته فيقال ظلم، فالفعل يفيد فائدة الوصف، و في كلامه تعالى من ذلك شي‌ء كثير كقوله تعالى: ‌{وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً} الزمر: ٧٣: «و قوله: {وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‌ جَهَنَّمَ زُمَراً} الزمر: ٧١ و قوله: ‌{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى‌ وَ زِيَادَةٌ} يونس - ٢٦. 

  • و قوله: {وَ أَزْوَاجَهُمْ} الظاهر أن المراد به قرناؤهم من الشياطين قال تعالى: ‌{ وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } إلى أن قال {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ} الزخرف: ٣٨. 

  • و قيل: المراد بالأزواج الأشباه و النظائر فأصحاب الزنا يحشرون مع أصحاب الزنا و أصحاب الخمر مع أصحاب الخمر و هكذا. 

  • و فيه أن لازمه أن يراد بالذين ظلموا طائفة خاصة من أصحاب كل معصية و اللفظ لا يساعد عليه على أن ذيل الآية لا يناسبه. 

  • و قيل: المراد بالأزواج نساؤهم الكافرات و هو ضعيف كسابقه. 

  • و قوله: {وَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} الظاهر أن المراد به الأصنام التي يعبدونها نظرا إلى ظاهر لفظة {مَا} فالآية نظيرة قوله: ‌{إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الأنبياء: ٩٨. 

  • و يمكن أن يكون المراد بلفظة {مَا} ما يعم أولي العقل من المعبودين كالفراعنة و النماردة، و أما الملائكة المعبودون و المسيح (عليه السلام) فيخرجهم من العموم قوله 

تفسير الميزان ج۱۷

132
  • تعالى: ‌{إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى‌ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الأنبياء: ١٠١. 

  • و قوله: {فَاهْدُوهُمْ إِلى‌ صِرَاطِ اَلْجَحِيمِ} الجحيم‌ من أسماء جهنم في القرآن و هو من الجحمة بمعنى شدة تأجج النار على ما ذكره الراغب. 

  • و المراد بهدايتهم إلى صراطها إيصالهم إليه و إيقاعهم فيه بالسوق، و قيل: تسمية ذلك بالهداية من الاستهزاء، و قال في مجمع البيان:‌ إنما عبر عن ذلك بالهداية من حيث كان بدلا من الهداية إلى الجنة كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} من حيث إن هذه البشارة وقعت لهم بدلا من البشارة بالنعيم. انتهى. 

  • قوله تعالى: {وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} قال في المجمع: يقال: وقفت أنا و وقفت غيري - أي يعدّي و لا يعدي - و بعض بني تميم يقول: أوقفت الدابة و الدار. انتهى. 

  • فقوله: {وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} أي احبسوهم لأنهم مسئولون أي حتى يسأل عنهم. و السياق يعطي أن هذا الأمر بالوقوف و السؤال إنما يقع في صراط الجحيم. 

  • و اختلفت كلماتهم فيما هو السؤال عنه فقيل: يسألون عن قول لا إله إلا الله، و قيل: عن شرب الماء البارد استهزاء بهم، و قيل: عن ولاية علي (عليه السلام). 

  • و هذه الوجوه لو صحت فإنما تشير إلى مصاديق ما يسأل عنه و السياق يشهد أن السؤال هو ما يشتمل عليه قوله: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلونه في الدنيا فتستعينون به على حوائجكم و مقاصدكم، و ما يتلوه من قوله: {بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} أي مسلمون لا يستكبرون يدل على أن المراد بقوله: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} السؤال عن استكبارهم عن طاعة الحق كما كانوا يستكبرون في الدنيا. 

  • فالسؤال عن عدم تناصرهم سؤال عن سبب الاستكبار الذي كانوا عليه في الدنيا فقد تبين به أن المسئول عنه هو كل حق أعرضوا عنه في الدنيا من اعتقاد حق أو عمل صالح استكبارا على الحق تظاهرا بالتناصر. 

  • قوله تعالى: {وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } - إلى قوله - {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} تخاصم واقع بين الأتباع و المتبوعين يوم القيامة، و التعبير عنه بالتساؤل لأنه في معنى 

تفسير الميزان ج۱۷

133
  • سؤال بعضهم بعضا تلاوما و تعاتبا يقول التابعون لمتبوعيهم: لم أضللتمونا؟ فيقول المتبوعون: لم قبلتم منا و لا سلطان لنا عليكم؟. 

  • فقوله: {وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} البعض الأول هم المعترضون و البعض الثاني المعترض عليهم كما يعطيه سياق التساؤل و تساؤلهم تخاصمهم. 

  • و قوله: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اَلْيَمِينِ} أي من جهة الخير و السعادة فاستعمال اليمين فيها شائع كثير كقوله: ‌{وَ أَصْحَابُ اَلْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ اَلْيَمِينِ }الواقعة: ٢٧ و المعنى أنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير و السعادة فتقطعون الطريق و تحولون بيننا و بين الخير و السعادة و تضلوننا. 

  • و قيل: المراد باليمين الدين و هو قريب من الوجه السابق، و قيل: المراد باليمين القهر و القوة كما في قوله تعالى: ‌{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} الصافات: ٩٣ و لا يخلو من وجه نظرا إلى جواب المتبوعين. 

  • و قوله: {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } - إلى قوله - {غَاوِينَ} جواب المتبوعين بتبرئة أنفسهم من إشقاء التابعين و أن جرمهم مستند إلى سوء اختيار أنفسهم. 

  • فقالوا: بل لم تكونوا مؤمنين أي لم نكن نحن السبب الموجب لإجرامكم و هلاككم بخلوكم عن الإيمان بل لم تكونوا مؤمنين لا أنا جردناكم من الإيمان. 

  • ثم قالوا: {وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} و هو في معنى الجواب على فرض التسليم كأنه قيل: و لو فرض أنه كان لكم إيمان فما كان لنا عليكم من سلطان حتى نسلبه منكم و نجردكم منه. على أن سلطان المتبوعين إنما هو بالتابعين فهم الذين يعطونهم السلطة و القوة فيتسلطون عليهم أنفسهم. 

  • ثم قالوا: {بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ} و الطغيان‌ هو التجاوز عن الحد و هو إضراب عن قوله: {لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} كأنه قيل: و لم يكن سبب هلاككم مجرد الخلو من الإيمان بل كنتم قوما طاغين كما كنا مستكبرين طاغين فتعاضدنا جميعا على ترك سبيل الرشد و اتخاذ سبيل الغي فحق علينا كلمة العذاب التي قضى بها الله سبحانه قال تعالى: 

تفسير الميزان ج۱۷

134
  • {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً} النبأ: ٢٢ و قال: ‌{فَأَمَّا مَنْ طَغى‌ وَ آثَرَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا فَإِنَّ اَلْجَحِيمَ هِيَ اَلْمَأْوى‌} النازعات: ٣٩. 

  • و لهذا المعنى عقب قوله: {بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ} بقوله: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} أي لذائقون العذاب. 

  • ثم قالوا: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} و هو متفرع على ثبوت كلمة العذاب و آخر الأسباب لهلاكهم فإن الطغيان يستتبع الغواية ثم نار جهنم، قال تعالى لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} الحجر: ٤٣. 

  • فكأنه قيل: فلما تلبستم بالطغيان حل بكم الغواية بأيدينا من غير سلطان لنا عليكم إلا اتباعكم لنا و اتصالكم بنا فسرى إليكم ما فينا من الصفة و هي الغواية فالغاوي لا يتأتى منه إلا الغواية و الإناء لا يترشح منه إلا ما فيه، و بالجملة إنكم لم تجبروا و لم تسلبوا الاختيار منذ بدأتم في سلوك سبيل الهلاك إلى أن وقعتم في ورطته و هي الغواية فحق عليكم القول. 

  • قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } - إلى قوله - {يَسْتَكْبِرُونَ} ضمير {فَإِنَّهُمْ} للتابعين و المتبوعين فهم مشتركون في العذاب لاشتراكهم في الظلم و تعاونهم على الجرم من غير مزية لبعضهم على بعض. 

  • و استظهر بعضهم أن المغوين أشد عذابا و ذلك في مقابلة أوزارهم و أوزار أمثال أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة و الحق أن الآيات مسوقة لبيان اشتراكهم في الظلم و الجرم و العذاب اللاحق بهم من قبله، و يمكن مع ذلك أن يلحق بكل من المتبوعين و التابعين ألوان من العذاب ناشئة عن خصوص شأنهم قال تعالى: ‌{وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} العنكبوت: ١٣، و قال: ‌{رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ} الأعراف: ٣٨. 

  • و قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} تأكيد لتحقيق العذاب، و المراد بالمجرمين المشركون بدليل قوله بعد: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} أي إذا 

تفسير الميزان ج۱۷

135
  • عرض عليهم التوحيد أن يؤمنوا به أو كلمة الإخلاص أن يقولوها استمروا على استكبارهم و لم يقبلوا. 

  • قوله تعالى: {وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ اَلْمُرْسَلِينَ} قولهم هذا إنكار منهم للرسالة بعد استكبارهم عن التوحيد و إنكارهم له. 

  • و قوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ اَلْمُرْسَلِينَ} رد لقولهم: {لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} حيث رموه (عليه السلام) بالشعر و الجنون و فيه رمي لكتاب الله بكونه شعرا و من هفوات الجنون فرد عليهم بأن ما جاء به حق و فيه تصديق الرسل السابقين فليس بباطل من القول كالشعر و هفوة الجنون و ليس ببدع غير مسبوق في معناه. 

  • قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا اَلْعَذَابِ اَلْأَلِيمِ} تهديد لهم بالعذاب لاستكبارهم و رميهم الحق بالباطل. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي لا ظلم فيه لأنه نفس عملكم يرد إليكم. 

  • قوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ } - إلى قوله - {بَيْضٌ مَكْنُونٌ} استثناء منقطع من ضمير {لَذَائِقُوا} أو من ضمير {مَا تُجْزَوْنَ} و لكل وجه و المعنى على الأول لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم و ليسوا بذائقي العذاب الأليم و المعنى على الثاني لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وراء جزاء عملهم و سيجي‌ء الإشارة إلى معناه. 

  • و احتمال كون الاستثناء متصلا ضعيف لا يخلو من تكلف. 

  • و قد سماهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه و العبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة و لا عمل فهؤلاء لا يريدون إلا ما أراده الله و لا يعملون إلا له. 

  • ثم أثبت لهم أنهم مخلصون بفتح اللام أي إن الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد فلا تعلق لهم بشي‌ء غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا و لا من نعم العقبى و ليس في قلوبهم إلا الله سبحانه. 

تفسير الميزان ج۱۷

136
  • و من المعلوم أن من كانت هذه صفته كان التذاذه و تنعمه غير ما يلتذ و يتنعم غيره و ارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه و إن شاركهم في ضروريات المأكل و المشرب و من هنا يتأيد أن المراد بقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} الإشارة إلى أن رزقهم في الجنة - و هم عباد مخلصون - رزق خاص لا يشبه رزق غيرهم و لا يختلط بما يتمتع به من دونهم و إن اشتركا في الاسم. 

  • فقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي رزق خاص متعين ممتاز من رزق غيرهم فكونه معلوما كناية عن امتيازه كما في قوله‌{وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} الصافات: ١٦٤ و الإشارة بلفظ البعيد للدلالة على علو مقامهم. 

  • و أما ما فسره بعضهم أن المراد بكون رزقهم معلوما كونه معلوم الخصائص مثل كونه غير مقطوع و لا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة، و كذا ما ذكره آخرون أن المراد أنه معلوم الوقت لقوله‌{وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا }مريم: ٦٢ و كذا قول القائل: إن المراد به الجنة فهي وجوه غير سديدة. 

  • و من هنا يظهر أن أخذ قوله: {إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} استثناء من ضمير {وَ مَا تُجْزَوْنَ} لا يخلو من وجه كما تقدمت الإشارة إليه. 

  • و قوله: {فَوَاكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ} الفواكه‌ جمع فاكهة و هي ما يتفكه به من الأثمار بيان لرزقهم المعلوم غير أنه تعالى شفعه بقوله: {وَ هُمْ مُكْرَمُونَ} للدلالة على امتياز هذا الرزق أعني الفاكهة مما عند غيرهم بأنها مقارنة لإكرام خاص يخصهم قبال اختصاصهم بالله سبحانه و كونه لهم لا يشاركهم فيه شي‌ء. 

  • و في إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ذلك فقد تقدم في قوله‌{فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} (الآية) النساء: ٦٩، و قوله‌{وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} المائدة: ٣ و غيرهما أن حقيقة النعمة هي الولاية و هي كونه تعالى هو القائم بأمر عبده. 

  • و قوله: {عَلى‌ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} السرر جمع سرير و هو معروف و كونهم متقابلين معناه استئناس بعضهم ببعض و استمتاعهم بنظر بعضهم في وجه بعض من غير أن يرى بعضهم قفا بعض. 

تفسير الميزان ج۱۷

137
  • و قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} الكأس‌ إناء الشراب و نقل عن كثير من اللغويين أن إناء الشراب لا يسمى كأسا إلا و فيه الشراب فإن خلا منه فهو قدح و المعين‌ من الشراب الظاهر منه من عان الماء إذا ظهر و جرى على وجه الأرض، و المراد بكون الكأس من معين صفاء الشراب فيها و لذا عقبه بقوله: {بَيْضَاءَ}

  • و قوله: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أي صافية في بياضها لذيذة للشاربين فاللذة مصدر أريد به الوصف مبالغة أو هي مؤنث لذ بمعنى لذيذ كما قيل. 

  • و قوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَ لاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} الغول‌ الإضرار و الإفساد، قال الراغب: الغول إهلاك الشي‌ء من حيث لا يحس به انتهى. فنفي الغول عن الخمر نفي مضارها و الإنزاف‌ فسر بالسكر المذهب للعقل و أصله إذهاب الشي‌ء تدريجا. 

  • و محصل المعنى: أنه ليس فيها مضار الخمر التي في الدنيا و لا إسكارها بإذهاب العقل. 

  • و قوله: {وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ عِينٌ} وصف للحور التي يرزقونها و قصور طرفهن كناية عن نظرهن نظرة الغنج و الدلال و يؤيده ذكر العين‌ بعده و هو جمع عيناء مؤنث أعين و هي الواسعة العين في جمال. 

  • و قيل: المراد بقاصرات الطرف أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن لا يردن غيرهم لحبهن لهم، و بالعين أن أعينهن شديدة في سوادها شديدة في بياضها. 

  • و قوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} البيض معروف و هو اسم جنس واحدته بيضة و المكنون‌ هو المستور بالادخار قيل: المراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي و لم يصبه الغبار، و قيل: المراد تشبيههن ببطن البيض قبل أن يقشر و قبل أن تمسه الأيدي. 

  • قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } - إلى قوله - {فَلْيَعْمَلِ اَلْعَامِلُونَ} حكاية محادثة تقع بين أهل الجنة فيسأل بعضهم عن أحوال بعض و يحدث بعضهم بما جرى عليه في الدنيا و تنتهي المحادثة إلى تكليمهم بعض أهل النار و هو في سواء الجحيم. 

  • فقوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} ضمير الجمع لأهل الجنة من عباد الله 

تفسير الميزان ج۱۷

138
  • المخلصين و تساؤلهم - كما تقدم - سؤال بعضهم عن بعض و ما جرى عليه. 

  • و قوله: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي قال قائل من أهل الجنة المتسائلين إني كان لي في الدنيا مصاحب يختص بي من الناس. كذا يعطي السياق. 

  • و قيل: المراد بالقرين القرين من الشياطين و فيه أن القرآن إنما يثبت قرناء الشياطين في المعرضين عن ذكر الله و المخلصون في عصمة إلهية من قرين الشياطين و كذا من تأثير الشيطان فيهم كما حكى عن إبليس استثناءهم من الإغواء{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} ص: ٨٣ نعم ربما أمكن أن يتعرض لهم الشيطان من غير تأثير فيهم لكنه غير أثر القرين. 

  • و قوله: {يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ} ضمير {يَقُولُ} للقرين، و مفعول {اَلْمُصَدِّقِينَ} البعث للجزاء و قد قام مقامه قوله: {أَ إِذَا مِتْنَا} إلخ و المدينون‌ المجزيون. 

  • و المعنى: كأن يقول لي قريني مستبعدا منكرا أ إنك لمن المصدقين للبعث للجزاء أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما فتلاشت أبداننا و تغيرت صورها أ إنا لمجزيون بالإحياء و الإعادة؟ فهذا مما لا ينبغي أن يصدق. 

  • و قوله: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} ضمير {قَالَ} للقائل المذكور قبلا، و الاطلاع‌ الإشراف و المعنى ثم قال القائل المذكور مخاطبا لمحادثيه من أهل الجنة: هل أنتم مشرفون على النار حتى تروا قريني و الحال التي هو فيها؟. 

  • و قوله: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ اَلْجَحِيمِ} السواء الوسط و منه سواء الطريق أي وسطه و المعنى فأشرف القائل المذكور على النار فرآه أي قرينه في وسط الجحيم. 

  • و قوله: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} {إِنْ} مخففة من الثقيلة، و الإرداء السقوط من مكان عال كالشاهق و يكنى به عن الهلاك و المعنى أقسم بالله إنك قربت أن تهلكني و تسقطني فيما سقطت فيه من الجحيم. 

  • و قوله: {وَ لَوْ لاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ} المراد بالنعمة التوفيق و الهداية 

تفسير الميزان ج۱۷

139
  • الإلهية، و الإحضار الإشخاص للعذاب قال في مجمع البيان:‌ و لا يستعمل «أحضر» مطلقا إلا في الشر. 

  • و المعنى و لو لا توفيق ربي و هدايته لكنت من المحضرين للعذاب مثلك. 

  • و قوله: {أَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولى‌ وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} الاستفهام للتقرير و التعجيب، و المراد بالموتة الأولى هي الموتة عن الحياة الدنيا و أما الموتة عن البرزخ المدلول عليها بقوله‌{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ} المؤمن: ١١ فلم يعبأ بها لأن الموت الذي يزعم الزاعم فيه الفناء و البطلان هو الموت الدنيوي. 

  • و المعنى - على ما في الكلام من الحذف و الإيجاز - ثم يرجع القائل المذكور إلى نفسه و أصحابه فيقول متعجبا أ نحن خالدون منعمون فما نحن بميتين إلا الموتة الأولى و ما نحن بمعذبين؟. 

  • قال في مجمع البيان:‌ و يريدون به التحقيق لا الشك و إنما قالوا هذا القول لأن لهم في ذلك سرورا مجددا و فرحا مضاعفا و إن كان قد عرفوا أنهم سيخلدون في الجنة و هذا كما أن الرجل يعطى المال الكثير فيقول مستعجبا: كل هذا المال لي؟ و هو يعلم أن ذلك له و هذا كقوله: 

  • أ بطحاء مكة هذا الذي***أراه عيانا و هذا أنا؟
  • قال: و لهذا عقبه بقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ} انتهى. 

  • و قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ} هو من تمام قول القائل المذكور و فيه إعظام لموهبة الخلود و ارتفاع العذاب و شكر للنعمة. 

  • و قوله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ اَلْعَامِلُونَ} ظاهر السياق أنه من قول القائل المذكور و الإشارة بهذا إلى الفوز أو الثواب أي لمثل هذا الفوز أو الثواب فليعمل العاملون في دار التكليف، و قيل: هو من قول الله سبحانه و قيل: من قول أهل الجنة. 

  • و اعلم أن لهم أقوالا مختلفة في نسبة أكثر الجمل السابقة إلى قول الله تعالى أو قول الملائكة أو قول أهل الجنة غير القائل المذكور و الذي أوردناه هو الذي يساعد عليه السياق. 

تفسير الميزان ج۱۷

140
  •  قوله تعالى: {أَ ذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ } - إلى قوله - {يُهْرَعُونَ} مقايسة بين ما هيأه الله نزلا لأهل الجنة مما وصفه من الرزق الكريم و بين ما أعده نزلا لأهل النار من شجرة الزقوم التي طلعها كأنه رءوس الشياطين و شراب من حميم. 

  • فقوله: {أَ ذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ} الإشارة بذلك إلى الرزق الكريم المذكورة سابقا المعد لورود أهل الجنة و النزل‌ بضمتين ما يهيأ لورود الضيف فيقدم إليه إذا ورد من الفواكه و نحوها. 

  • و الزقوم - على ما قيل - اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة و البلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت به الشجرة الموصوفة بما في الآية من الأوصاف، و قيل: إن قريشا ما كانت تعرفه و سيأتي ذلك في البحث الروائي. 

  • و لفظة خير في الآية بمعنى الوصف دون التفضيل إذ لا خيرية في الزقوم أصلا فهو كقوله: ‌{مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ} الجمعة: ١١ و الآية على ما يعطيه السياق من كلامه تعالى. 

  • و قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} الضمير لشجرة الزقوم، و الفتنة المحنة و العذاب. 

  • و قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ} وصف لشجرة الزقوم، و أصل الجحيم قعرها، و لا عجب في نبات شجرة في النار و بقائها فيها فحياة الإنسان و بقاؤه خالدا فيها أعجب و الله يفعل ما يشاء. 

  • و قوله: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّيَاطِينِ} الطلع‌ حمل النخلة أو مطلق الشجرة أول ما يبدو، و تشبيه ثمرة الزقوم برءوس الشياطين بعناية أن الأوهام العامية تصور الشيطان في أقبح صورة كما تصور الملك في أحسن صورة و أجملها قال تعالى: ‌{مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} يوسف: ٣١، و بذلك يندفع ما قيل: إن الشي‌ء إنما يشبه بما يعرف و لا معرفة لأحد برءوس الشياطين. 

  • و قوله: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ} الفاء للتعليل يبين به كونها نزلا للظالمين يأكلون منها، و في قوله: {فَمَالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ} إشارة إلى تسلط جوع 

تفسير الميزان ج۱۷

141
  • شديد عليهم يحرصون به على الأكل كيفما كان. 

  • و قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} الشوب‌ المزيج و الخليط، و الحميم‌ الماء الحار البالغ في حرارته، و المعنى ثم إن لأولئك الظالمين - زيادة عليها - لخليطا مزيجا من ماء حار بالغ الحرارة يشربونه فيختلط به ما ملئوا منه البطون من الزقوم. 

  • و قوله: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى اَلْجَحِيمِ} أي إنهم بعد شرب الحميم يرجعون إلى الجحيم فيستقرون فيها و يعذبون، و في الآية تلويح إلى أن الحميم خارج الجحيم. 

  • و قوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلى‌ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} ألفيت‌ كذا أي وجدته و صادفته، و الإهراع‌ الإسراع و المعنى أن سبب أكلهم و شربهم ثم رجوعهم إلى الجحيم أنهم صادفوا آباءهم ضالين و هم مقلدون و أتباع لهم و هم أصلهم و مرجعهم فهم يسرعون على آثارهم فجوزوا بنزل كذلك و الرجوع إلى الجحيم جزاء وفاقا. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ} قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): عجبت بالقرآن حين أنزل و يسخر منه ضلال بني آدم.

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} قال: الذين ظلموا آل محمد (عليه السلام) حقهم {وَ أَزْوَاجَهُمْ} قال: أشباههم. 

  • أقول: صدر الرواية من الجري. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} قيل: عن ولاية علي (عليه السلام) عن أبي سعيد الخدري. 

  • أقول: و رواه الشيخ في الأمالي، بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و في العيون، عن علي و عن الرضا (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌، و في تفسير القمي‌ عن الإمام (عليه السلام).

  • و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا تزول قدم 

تفسير الميزان ج۱۷

142
  •  عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، و شبابه فيما أبلاه، و عن ماله من أين كسبه و فيما أنفقه، و عن حبنا أهل البيت. 

  • أقول: و روي في العلل عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ مثله. 

  • و في نهج البلاغة:‌ اتقوا الله في عباده و بلاده فإنكم مسئولون حتى عن البقاع و البهائم. 

  • و في الدر المنثور، أخرج البخاري في تأريخه و الترمذي و الدارمي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من داع دعا إلى شي‌ء إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه و إن دعا رجل رجلا ثم قرأ {وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ}

  • و في روضة الكافي، بإسناده عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث: و أما قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} قال: يعلمه‌۱ الخدام فيأتون به إلى أولياء الله قبل أن يسألوهم إياه. أما قوله: {فَوَاكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ} قال: فإنهم لا يشتهون شيئا في الجنة إلا أكرموا به.

  • و في تفسير القمي‌ و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ اَلْجَحِيمِ} يقول: في وسط الجحيم. 

  • و فيه‌ في قوله تعالى: {أَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} إلخ بإسناده عن أبيه عن علي بن مهزيار و الحسن بن محبوب عن النضر بن سويد عن درست عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النارجي‌ء بالموت و يذبح كالكبش بين الجنة و النار ثم يقال: خلود فلا موت أبدا فيقول أهل الجنة: {أَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولى‌ وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ اَلْعَامِلُونَ}

  • أقول: و حديث ذبح الموت في صورة كبش يوم القيامة من المشهورات رواه الشيعة و أهل السنة، و هو تمثل الخلود يومئذ. 

  • و في المجمع، في قوله تعالى: {شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ} روي أن قريشا لما سمعت هذه 

    1. يعني: خ.

تفسير الميزان ج۱۷

143
  • الآية قالت: ما نعرف هذه الشجرة قال ابن الزبعري: الزقوم بكلام البربر التمر و الزبد و في رواية بلغة اليمن فقال أبو جهل لجاريته: يا جارية زقمينا فأتته الجارية بتمر و زبد فقال لأصحابه: تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمد فيزعم أن النار تنبت الشجر و النار تحرق الشجر فأنزل الله سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ}.

  •  أقول: و هذا المعنى مروي بطرق عديدة.

  • [سورة الصافات (٣٧): الآیات ٧١ الی ١١٣]

  • {وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ اَلْأَوَّلِينَ ٧١ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ٧٢ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ ٧٣ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ ٧٤ وَ لَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ ٧٥ وَ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ ٧٦ وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ ٧٧ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ ٧٨ سَلاَمٌ عَلى‌ نُوحٍ فِي اَلْعَالَمِينَ ٧٩ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ٨٠إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ٨١ ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ ٨٢ وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ٨٣ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ٨٤ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا ذَا تَعْبُدُونَ ٨٥ أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اَللَّهِ تُرِيدُونَ ٨٦ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٨٧ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ ٨٨ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ٨٩ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ٩٠فَرَاغَ إِلى‌ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَ لاَ تَأْكُلُونَ ٩١ 

تفسير الميزان ج۱۷

144
  • مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ ٩٢ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ٩٣ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ٩٤ قَالَ أَ تَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ٩٥ وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ ٩٦ قَالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي اَلْجَحِيمِ ٩٧ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ ٩٨ وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلى‌ رَبِّي سَيَهْدِينِ ٩٩ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ ١٠٠فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ١٠١ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‌ فِي اَلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرى‌ قَالَ يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّابِرِينَ ١٠٢ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ ١٠٣ وَ نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ١٠٤ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ١٠٥ إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْبَلاَءُ اَلْمُبِينُ ١٠٦ وَ فَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ١٠٧ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ ١٠٨ سَلاَمٌ عَلى‌ إِبْرَاهِيمَ ١٠٩ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ١١٠إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ١١١ وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصَّالِحِينَ ١١٢ وَ بَارَكْنَا عَلَيْهِ وَ عَلى‌ إِسْحَاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ١١٣} 

تفسير الميزان ج۱۷

145
  • (بيان) 

  • تعقيب لغرض السياق السابق المتعرض لشركهم و تكذيبهم بآيات الله و تهديدهم بأليم العذاب يقول: إن أكثر الأولين ضلوا كضلالهم و كذبوا الرسل المنذرين كتكذيبهم و يستشهد بقصص نوح و إبراهيم و موسى و هارون و إلياس و لوط و يونس (عليهم السلام) و ما في الآيات المنقولة إشارة إلى قصة نوح و خلاصة قصص إبراهيم (عليهما السلام). 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ اَلْأَوَّلِينَ } - إلى قوله - {اَلْمُخْلَصِينَ} كلام مسوق لإنذار مشركي هذه الأمة بتنظيرهم للأمم الهالكين من قبلهم فقد ضل أكثرهم كما ضل هؤلاء و أرسل إليهم رسل منذرون كما أرسل منذر إلى هؤلاء فكذبوا فكان عاقبة أمرهم الهلاك إلا المخلصين منهم. 

  • و اللام في {لَقَدْ ضَلَّ} للقسم و كذا في {لَقَدْ أَرْسَلْنَا} و المنذرين الأول بكسر الذال المعجمة و هم الرسل و الثاني بفتح الذال المعجمة و هم الأمم الأولون، و {إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ} إن كان المراد بهم من في الأمم من المخلصين كان استثناء متصلا و إن عم الأنبياء كان منقطعا إلا بتغليبه غير الأنبياء عليهم و المعنى ظاهر. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ} اللامان للقسم و هو يدل على كمال العناية بنداء نوح و إجابته تعالى، و قد مدح تعالى نفسه في إجابته فإن التقدير فلنعم المجيبون نحن، و جمع المجيب لإفادة التعظيم و قد كان نداء نوح على ما يفيده السياق دعاءه على قومه و استغاثته بربه المنقولين في قوله تعالى‌{وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً} نوح: ٢٦، و في قوله تعالى‌{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} القمر: ١٠. 

  • قوله تعالى: {وَ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ} الكرب - على ما ذكره الراغب - الغم الشديد و المراد به الطوفان أو أذى قومه، و المراد بأهله أهل بيته و المؤمنون به من قومه و قد قال تعالى في سورة هود: {قُلْنَا اِحْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ 

تفسير الميزان ج۱۷

146
  •  اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ} هود: ٤٠و الأهل كما يطلق على زوج الرجل و بنيه يطلق على كل من هو من خاصته. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ} أي الباقين من الناس بعد قرنهم و قد بحثنا في هذا المعنى في قصة نوح من سورة هود. 

  • قوله تعالى: {وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ} المراد بالترك الإبقاء و بالآخرين الأمم الغابرة غير الأولين، و قد ذكرت هذه الجملة بعد ذكر إبراهيم (عليه السلام) أيضا في هذه السورة و قد بدلت في القصة بعينها من سورة الشعراء من قوله‌{وَ اِجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ} الشعراء: ٨٤ و استفدنا منه هناك أن المراد بلسان صدق كذلك أن يبعث الله بعده من يقوم بدعوته و يدعو إلى ملته و هي دين التوحيد. 

  • فيتأيد بذلك أن المراد بالإبقاء في الآخرين هو إحياؤه تعالى دعوة نوح (عليه السلام) إلى التوحيد و مجاهدته في سبيل الله عصرا بعد عصر و جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة. 

  • قوله تعالى: {سَلاَمٌ عَلى‌ نُوحٍ فِي اَلْعَالَمِينَ} المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعا محلى باللام مفيدا للعموم، و الظاهر أن المراد به عالمو البشر و أممهم و جماعاتهم إلى يوم القيامة فإنه تحية من عند الله مباركة طيبة تهدى إليه من قبل الأمم الإنسانية ما جرى فيها شي‌ء من الخيرات اعتقادا أو عملا فإنه (عليه السلام) أول من انتهض لدعوة التوحيد و دحض الشرك و ما يتبعه من العمل و قاسى في ذلك أشد المحنة فيما يقرب من ألف سنة لا يشاركه في ذلك أحد فله نصيب من كل خير واقع بينهم إلى يوم القيامة، و لا يوجد في كلامه تعالى سلام على هذه السعة على أحد ممن دونه. 

  • و قيل: المراد بالعالمين عوالم الملائكة و الثقلين من الجن و الإنس. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ} تعليل لما امتن عليه من الكرامة كإجابة ندائه و تنجيته و أهله من الكرب العظيم و إبقاء ذريته و تركه عليه في الآخرين و السلام عليه في العالمين، و تشبيه جزائه بجزاء عموم المحسنين من حيث أصل الجزاء الحسن لا في خصوصياته فلا يوجب ذلك اشتراك الجميع فيما اختص به (عليه السلام) و هو ظاهر. 

تفسير الميزان ج۱۷

147
  • قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ} تعليل لإحسانه المدلول عليه بالجملة السابقة و ذلك لأنه (عليه السلام) لكونه عبدا لله بحقيقة معنى الكلمة كان لا يريد و لا يفعل إلا ما يريده الله، و لكونه من المؤمنين حقا كان لا يرى من الاعتقاد إلا الحق و سرى ذلك إلى جميع أركان وجوده و من كان كذلك لا يصدر منه إلا الحسن الجميل فكان من المحسنين. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ} ثم للتراخي الكلامي دون الزماني و المراد بالآخرين قومه المشركون. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} الشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم و بالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر قال تعالى:‌ {وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} سبأ: ٥٤. 

  • و ظاهر السياق أن ضمير {شِيعَتِهِ} لنوح أي إن إبراهيم كان ممن يوافقه في دينه و هو دين التوحيد، و قيل: الضمير لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا دليل عليه من جهة اللفظ. 

  • قيل: و من حسن الإرداف في نظم الآيات تعقيب قصة نوح (عليه السلام) و هو آدم الثاني أبو البشر بقصة إبراهيم (عليه السلام) و هو أبو الأنبياء إليه تنتهي أنساب جل الأنبياء بعده و على دينه تعتمد أديان التوحيد الحية اليوم كدين موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و أيضا نوح (عليه السلام) نجاه الله من الغرق و إبراهيم (عليه السلام) نجاه الله من الحرق. 

  • قوله تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} مجيئه ربه كناية عن تصديقه له و إيمانه به، و يؤيد ذلك أن المراد بسلامة القلب عروه عن كل ما يضر التصديق و الإيمان بالله سبحانه من الشرك الجلي و الخفي و مساوئ الأخلاق و آثار المعاصي و أي تعلق بغيره ينجذب إليه الإنسان و يختل به صفاء توجهه إليه سبحانه. 

  • و بذلك يظهر أن المراد بالقلب السليم ما لا تعلق له بغيره تعالى كما في الحديث و سيجي‌ء إن شاء الله في البحث الروائي الآتي. 

  • و قيل: المراد به السالم من الشرك، و يمكن أن يوجه بما يرجع إلى الأول و قيل: المراد به القلب الحزين، و هو كما ترى. 

  • و الظرف في الآية متعلق بقوله سابقا {مِنْ شِيعَتِهِ} و الظروف يغتفر فيها ما لا 

تفسير الميزان ج۱۷

148
  • يغتفر في غيرها، و قيل متعلق باذكر المقدر. 

  • قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا ذَا تَعْبُدُونَ} أي أيّ شي‌ء تعبدون؟ و إنما سألهم عن معبودهم و هو يرى أنهم يعبدون الأصنام تعجبا و استغرابا. 

  • قوله تعالى: {أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اَللَّهِ تُرِيدُونَ} أي تقصدون آلهة دون الله إفكا و افتراء، إنما قدم الإفك و الآلهة لتعلق عنايته بذلك. 

  • قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} لا شك أن ظاهر الآيتين أن إخباره (عليه السلام) بأنه سقيم مرتبط بنظرته في النجوم و مبني عليه و نظرته في النجوم إما لتشخيص الساعة و خصوص الوقت كمن به حمى ذات نوبة يعين وقتها بطلوع كوكب أو غروبها أو وضع خاص من النجوم و إما للوقوف على الحوادث المستقبلة التي كان المنجمون يرون أن الأوضاع الفلكية تدل عليها، و قد كان الصابئون مبالغين فيها و كان في عهده (عليه السلام) منهم جم غفير. 

  • فعلى الوجه الأول لما أراد أهل المدينة أن يخرجوا كافة إلى عيد لهم نظر إلى النجوم و أخبرهم أنه سقيم ستعتريه العلة فلا يقدر على الخروج معهم. 

  • و على الوجه الثاني نظر (عليه السلام) حينذاك إلى النجوم نظرة المنجمين فأخبرهم أنها تدل على أنه سيسقم فليس في وسعه الخروج معهم. 

  • و أول الوجهين أنسب لحاله (عليه السلام) و هو في إخلاص التوحيد بحيث لا يرى لغيره تعالى تأثيرا، و لا دليل لنا قويا يدل على أنه (عليه السلام) لم يكن به في تلك الأيام سقم أصلا، و قد أخبر القرآن بإخباره بأنه سقيم و ذكر سبحانه قبيل ذلك أنه جاء ربه بقلب سليم فلا يجوز عليه كذب و لا لغو من القول. 

  • و لهم في الآيتين وجوه أخر أوجهها أن نظرته في النجوم و إخباره بالسقم من المعاريض في الكلام و المعاريض أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره و يفهم منه غير ما يقصده فلعله نظر (عليه السلام) في النجوم نظر الموحد في صنعه تعالى يستدل به عليه تعالى و على وحدانيته و هم يحسبون أنه ينظر إليها نظر المنجم فيها ليستدل بها على الحوادث ثم قال: إني سقيم يريد أنه سيعتريه سقم فإن الإنسان لا يخلو في حياته من سقم ما و مرض ما 

تفسير الميزان ج۱۷

149
  • كما قال‌: {وَ إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} الشعراء: ٨٠و هم يحسبون أنه يخبر عن سقمه يوم يخرجون فيه لعيد لهم، و المرجح عنده لجميع ذلك ما كان يهتم به من الرواغ إلى أصنامهم و كسرها. 

  • لكن هذا الوجه مبني على أنه كان صحيحا غير سقيم يومئذ، و قد سمعت أن لا دليل يدل عليه. 

  • على أن المعاريض غير جائزة على الأنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم. 

  • قوله تعالى: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} ضمير الجمع للقوم و ضمير الإفراد لإبراهيم (عليه السلام) أي خرجوا من المدينة و خلفوه. 

  • قوله تعالى: {فَرَاغَ إِلى‌ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَ لاَ تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ} الروغ و الرواغ و الروغان‌ الحياد و الميل، و قيل أصله الميل في جانب ليخدع من يريده. 

  • و في قوله: {أَ لاَ تَأْكُلُونَ}؟ تأييد لما ذكروا أن المشركين كانوا يضعون أيام أعيادهم طعاما عند آلهتهم. 

  • و قوله: {أَ لاَ تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ}؟ تكليم منه لآلهتهم و هي جماد و هو يعلم أنها جماد لا تأكل و لا تنطق لكن الوجد و شدة الغيظ حمله على أن يمثل موقفها موقف العقلاء ثم يؤاخذها مؤاخذة العقلاء كما يفعل بالمجرمين. 

  • فنظر إليها و هي ذوات أبدان كهيئة من يتغذى و يأكل و عندها شي‌ء من الطعام فامتلأ غيظا و جاش وجدا فقال: {أَ لاَ تَأْكُلُونَ}؟ فلم يسمع منها جوابا فقال: {مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ}؟ و أنتم آلهة يزعم عبادكم أنكم عقلاء قادرون مدبرون لأمورهم فلما لم يسمع لها حسا راغ عليها ضربا باليمين. 

  • قوله تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} أي تفرع على ذاك الخطاب أن مال على آلهتهم يضربهم ضربا باليد اليمنى أو بقوة بناء على كون المراد باليمين القوة. 

  • و قول بعضهم: إن المراد باليمين القسم و المعنى مال عليهم ضربا بسبب القسم الذي سبق منه و هو قوله‌{تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} الأنبياء: ٥٧ بعيد. 

  • قوله تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} الزف و الزفيف‌ الإسراع في المشي أي فجاءوا 

تفسير الميزان ج۱۷

150
  • إلى إبراهيم و الحال أنهم يسرعون اهتماما بالحادثة التي يظنون أنه الذي أحدثها. 

  • و في الكلام إيجاز و حذف من خبر رجوعهم إلى المدينة و وقوفهم على ما فعل بالأصنام و تحقيقهم الأمر و ظنهم به (عليه السلام) مذكور في سورة الأنبياء. 

  • قوله تعالى: {قَالَ أَ تَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ} فيه إيجاز و حذف من حديث القبض عليه و الإتيان به على أعين الناس و مسألته و غيرها. 

  • و الاستفهام للتوبيخ و فيه مع ذلك احتجاج على بطلان طريقتهم فهو يقول: لا يصلح ما نحته الإنسان بيده أن يكون ربا للإنسان معبودا له و الله سبحانه خلق الإنسان و ما يعمله و الخلق لا ينفك عن التدبير فهو رب الإنسان و من السفه أن يترك هذا و يعبد ذاك. 

  • و قد بان بذلك أن الأظهر كون ما في قوله: {مَا تَنْحِتُونَ} موصولة و التقدير ما تنحتونه، و كذا في قوله: {وَ مَا تَعْمَلُونَ} و جوز بعضهم كون {مَا} فيها مصدرية و هو في أولهما بعيد جدا. 

  • و لا ضير في نسبة الخلق إلى ما عمله الإنسان أو إلى عمله لأن ما يريده الإنسان و يعمله من طريق اختياره مراد الله سبحانه من طريق إرادة الإنسان و اختياره و لا يوجب هذا النوع من تعلق الإرادة بالفعل بطلان تأثير إرادة الإنسان و خروج الفعل عن الاختيار و صيرورته مجبرا عليه، و هو ظاهر. 

  • و لو كان المراد نسبة خلق أعمالهم إلى الله سبحانه بلا واسطة لا من طريق إرادتهم بل بتعلق إرادته بنفس عملهم و أفاد الجبر لكان القول أقرب إلى أن يكون عذرا لهم من أن يكون توبيخا و تقبيحا، و كانت الحجة لهم لا عليهم. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي اَلْجَحِيمِ} البنيان‌ مصدر بنى يبني و المراد به المبني، و الجحيم‌ النار في شدة تأججها. 

  • قوله تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ} الكيد الحيلة و المراد احتيالهم إلى إهلاكه و إحراقه بالنار. 

  • و قوله: {فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ} كناية عن جعل إبراهيم فوقهم لا يؤثر فيه كيدهم 

تفسير الميزان ج۱۷

151
  • شيئا إذ قال سبحانه{يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاَماً عَلى‌ إِبْرَاهِيمَ} الأنبياء: ٦٩. 

  • و قد اختتم بهذا فصل من قصص إبراهيم (عليه السلام) و هو انتهاضه أولا على عبادة الأوثان و اختصامه لعبادها و انتهاء أمره إلى إلقائه النار و إبطاله تعالى كيدهم. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلى‌ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فصل آخر من قصصه (عليه السلام) يذكر عزمه على المهاجرة من بين قومه و استيهابه من الله ولدا صالحا و إجابته إلى ذلك و قصة ذبحه و نزول الفداء. 

  • فقوله: {وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلى‌ رَبِّي} إلخ كالإنجاز لما وعدهم به مخاطبا لآزر{ وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى‌ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا }مريم: ٤٨ و منه يعلم أن مراده بالذهاب إلى ربه الذهاب إلى مكان يتجرد فيه لعبادته تعالى و دعائه و هو الأرض المقدسة. 

  • و قول بعضهم: إن المراد أذهب إلى حيث أمرني ربي لا شاهد عليه. 

  • و كذا قول بعضهم: إن المراد أني ذاهب إلى لقاء ربي حيث يلقونني في النار فأموت و ألقى ربي سيهديني إلى الجنة. 

  • و فيه - كما قيل - إن ذيل الآية لا يناسبه و هو قوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ} و كذا قوله بعده: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ}

  • قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ} حكاية دعاء إبراهيم (عليه السلام) و مسألته الولد أي قال: {رَبِّ هَبْ لِي }«إلخ» و قد قيده بكونه من الصالحين. 

  • قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} أي فبشرناه أنا سنرزقه غلاما حليما و فيه إشارة إلى أنه يكون ذكرا و يبلغ حد الغلمان، و أخذ الغلومة في وصفه مع أنه بلغ مبلغ الرجال للإشارة إلى حاله التي يظهر فيها صفة كماله و صفاء ذاته و هو حلمه الذي مكنه من الصبر في ذات الله إذ قال: {يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّابِرِينَ}

  • و لم يوصف في القرآن من الأنبياء بالحلم إلا هذا النبي الكريم في هذه الآية و أبوه في قوله تعالى: ‌{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} هود: ٧٥. 

تفسير الميزان ج۱۷

152
  • قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‌ فِي اَلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرى‌} إلخ الفاء في أول الآية فصيحة تدل على محذوف و التقدير فلما ولد له و نشأ و بلغ معه السعي، و المراد ببلوغ السعي بلوغه من العمر مبلغا يسعى فيه لحوائج الحياة عادة و هو سن الرهاق، و المعنى فلما راهق الغلام قال له يا بني إلخ. 

  • و قوله: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‌ فِي اَلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} هي رؤيا إبراهيم ذبح ابنه، و قوله: {إِنِّي أَرى‌} يدل على تكرر هذه الرؤيا له كما في قوله‌{وَ قَالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى‌} الخ: يوسف: ٣٣. 

  • و قوله: {فَانْظُرْ مَا ذَا تَرى‌} هو من الرأي بمعنى الاعتقاد أي فتفكر فيما قلت و عين ما هو رأيك فيه، و هذه الجملة دليل على أن إبراهيم (عليه السلام) فهم من منامه أنه أمر له بالذبح مثل له في مثال نتيجة الأمر و لذا طلب من ابنه الرأي فيه و هو يختبره بما ذا يجيبه؟. 

  • و قوله: {قَالَ يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّابِرِينَ} جواب ابنه، و قوله: {يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} إظهار رضا بالذبح في صورة الأمر و قد قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} و لم يقل اذبحني إشارة إلى أن أباه مأمور بأمر ليس له إلا ائتماره و طاعته. 

  • و قوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّابِرِينَ} تطييب منه لنفس أبيه أنه لا يجزع منه و لا يأتي بما يهيج وجد الوالد عن ولده المزمل بدمائه، و قد زاد في كلامه صفاء على صفاء إذ قيد وعده بالصبر بقوله: {إِنْ شَاءَ اَللَّهُ} فأشار إلى أن اتصافه بهذه الصفة الكريمة أعني الصبر ليس له من نفسه و لا أن زمامه بيده بل هو من مواهب الله و مننه إن يشأ تلبس به و له أن لا يشاء فينزعه منه. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ} الإسلام‌ الرضا و الاستسلام: و التل‌ الصرع و الجبين‌ أحد جانبي الجبهة و اللام في {لِلْجَبِينِ} لبيان ما وقع عليه الصراع كقوله: ‌{يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} الإسراء: ١٠٧، و المعنى فلما استسلما إبراهيم و ابنه لأمر الله و رضيا به و صرعة إبراهيم على جبينه. 

  • و جواب لما محذوف إيماء إلى شدة المصيبة و مرارة الواقعة. 

  • قوله تعالى: {وَ نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيَا} معطوف على جواب 

تفسير الميزان ج۱۷

153
  • لما المحذوف، و قوله: {قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيَا} أي أوردتها مورد الصدق و جعلتها صادقة و امتثلت الأمر الذي أمرناك فيها أي إن الأمر فيها كان امتحانيا يكفي في امتثاله تهيؤ المأمور للفعل و إشرافه عليه فحسب. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْبَلاَءُ اَلْمُبِينُ} الإشارة بكذلك إلى قصة الذبح بما أنها محنة شاقة و ابتلاء شديد و الإشارة بهذا إليها أيضا و هو تعليل لشدة الأمر. 

  • و المعنى: إنا على هذه الوتيرة نجزي المحسنين فنمتحنهم امتحانات شاقة صورة هينة معنى فإذا أتموا الابتلاء جزيناهم أحسن الجزاء في الدنيا و الآخرة، و ذلك لأن الذي ابتلينا به إبراهيم لهو البلاء المبين. 

  • قوله تعالى: {وَ فَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي و فدينا ابنه بذبح عظيم و كان كبشا أتى به جبرئيل من عند الله سبحانه فداء على ما في الأخبار، و المراد بعظمة الذبح عظمة شأنه بكونه من عند الله سبحانه و هو الذي فدى به الذبيح. 

  • قوله تعالى: {وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ} تقدم الكلام فيه. 

  • قوله تعالى: {سَلاَمٌ عَلى‌ إِبْرَاهِيمَ} تحية منه تعالى عليه، و في تنكير سلام تفخيم له. 

  • قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ} تقدم تفسير الآيتين. 

  • قوله تعالى: {وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصَّالِحِينَ} الضمير لإبراهيم (عليه السلام). 

  • و اعلم أن هذه الآية المتضمنة للبشرى بإسحاق بوقوعها بعد البشرى السابقة بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} المتعقبة بقوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ} إلى آخر القصة ظاهرة كالصريحة أو هي صريحة في أن الذبيح غير إسحاق و هو إسماعيل (عليه السلام) و قد فصلنا القول في ذلك في قصص إبراهيم (عليه السلام) من سورة الأنعام. 

  • قوله تعالى: {وَ بَارَكْنَا عَلَيْهِ وَ عَلى‌ إِسْحَاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ 

تفسير الميزان ج۱۷

154
  •  مُبِينٌ} المباركة على شي‌ء جعل الخير و النماء و الثبات فيه أي و جعلنا فيما أعطينا إبراهيم و إسحاق الخير الثابت و النماء. 

  • و يمكن أن يكون قوله: {وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} إلخ قرينة على أن المراد بقوله: {بَارَكْنَا} إعطاء البركة و الكثرة في أولاده و أولاد إسحاق، و الباقي ظاهر. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قال: القلب السليم الذي يلقى الله عز و جل و ليس فيه أحد سواه. 

  • و فيه، قال: القلب السليم من الشك. 

  • و في روضة الكافي، بإسناده عن حجر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): عاب آلهتهم فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم. قال أبو جعفر (عليه السلام): و الله ما كان سقيما و ما كذب. 

  • أقول: و في معناه روايات أخر و في بعضها:ما كان إبراهيم سقيما و ما كذب إنما عنى سقيما في دينه مرتادا.

  • و قد تقدم الروايات في قصة حجاج إبراهيم (عليه السلام) قومه و كسره الأصنام و إلقائه في النار في تفسير سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الشعراء. 

  • و في التوحيد، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث و قد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات قال: و قد أعلمتك أن رب شي‌ء من كتاب الله عز و جل تأويله غير تنزيله و لا يشبه كلام البشر و سأنبئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله. 

  • من ذلك قول إبراهيم (عليه السلام): {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلىَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة و اجتهادا و قربة إلى الله عز و جل أ لا ترى أن تأويله غير تنزيله؟. 

  • و فيه، بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: يا فتح إن لله إرادتين و مشيئتين: إرادة حتم، و إرادة عزم ينهى و هو يشاء ذلك و يأمر و هو 

تفسير الميزان ج۱۷

155
  • لا يشاء أ و ما رأيت أنه نهى آدم و زوجته عن أن يأكلا من الشجرة و هو يشاء ذلك؟ و لو لم يشأ لم يأكلا، و لو أكلا لغلبت شهوتهما مشيئة الله تعالى، و أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام) و شاء أن لا يذبحه و لو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله عز و جل. قلت: فرجت عني فرج الله عنك. 

  • و عن أمالي الشيخ، بإسناده إلى سليمان بن يزيد قال: حدثنا علي بن موسى قال: حدثني أبي عن أبيه عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: الذبيح إسماعيل (عليه السلام).

  • أقول: و روي مثله في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام) ، و بهذا المضمون روايات كثيرة أخرى عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، و قد وقع في بعض رواياتهم أنه إسحاق و هو مطروح لمخالفة الكتاب. 

  • و عن الفقيه‌ سئل الصادق (عليه السلام) عن الذبيح من كان؟ فقال: إسماعيل لأن الله تعالى ذكر قصته في كتابه ثم قال: {وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصَّالِحِينَ}.

  • أقول: هذا ما تقدم في بيان الآية أن الآية بسياقها ظاهرة بل صريحة في ذلك. 

  • و في المجمع، عن ابن إسحاق: أن إبراهيم كان إذا زار إسماعيل و هاجر حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة و يروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ معه السعي رأى في المنام أن‌۱ يذبحه فقال له: يا بني خذ الحبل و المدية٢ ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب. 

  • فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه فقال: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب و اكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح من دمي شيئا فتراه أمي و اشحذ شفرتك و أسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله. 

  • ثم ساق القصة و فيها ثم انحنى إليه بالمدية و قلب جبرئيل المدية على قفاها و اجتر 

    1. أنه ظ
    2. المدية: السكين.

تفسير الميزان ج۱۷

156
  • الكبش من قبل ثبير و اجتر الغلام من تحته و وضع الكبش مكان الغلام، و نودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. 

  • أقول: و الروايات في القصة كثيرة و لا تخلو من اختلاف. 

  • و فيه‌ روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل و بين بشارته بإسحاق (عليه السلام) ؟ قال: كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} يعني إسماعيل و هي أول بشارة بشر الله به إبراهيم (عليه السلام) في الولد. 

  • [سورة الصافات (٣٧): الآیات ١١٤ الی ١٣٢]

  • {وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلىَ مُوسىَ وَ هَارُونَ ١١٤ وَ نَجَّيْنَاهُمَا وَ قَوْمَهُمَا مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ ١١٥ وَ نَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ اَلْغَالِبِينَ ١١٦ وَ آتَيْنَاهُمَا اَلْكِتَابَ اَلْمُسْتَبِينَ ١١٧ وَ هَدَيْنَاهُمَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ ١١٨ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي اَلْآخِرِينَ ١١٩ سَلاَمٌ عَلى مُوسى‌ وَ هَارُونَ ١٢٠إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ١٢١ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ١٢٢ وَ إِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ١٢٣ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ لاَ تَتَّقُونَ ١٢٤ أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخَالِقِينَ ١٢٥ اَللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ ١٢٦ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ١٢٧ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ ١٢٨ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ ١٢٩ سَلاَمٌ عَلى‌ إِلْيَاسِينَ ١٣٠إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ١٣١ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ١٣٢} 

تفسير الميزان ج۱۷

157
  • (بيان) 

  • ملخص قصة موسى و هارون و إشارة إلى قصة إلياس (عليه السلام). و بيان ما أنعم الله عليهم و عذاب مكذبيهم و جانب الرحمة يربو فيها على جانب العذاب و التبشير يزيد على الإنذار. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلىَ مُوسىَ وَ هَارُونَ} المن‌ الإنعام و من المحتمل أن يكون المراد به ما سيعده مما أنعم عليهما و على قومهما من التنجية و النصر و إيتاء الكتاب و الهداية و غيرها فيكون قوله: {وَ نَجَّيْنَاهُمَا} إلخ من عطف التفسير. 

  • قوله تعالى: {وَ نَجَّيْنَاهُمَا وَ قَوْمَهُمَا مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ} و هو الغم الشديد من استضعاف فرعون لهم يسومهم سوء العذاب و يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم. 

  • قوله تعالى: {وَ نَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ اَلْغَالِبِينَ} و هو الذي أدى إلى خروجهم من مصر و جوازهم البحر و هلاك فرعون و جنوده. 

  • و بذلك يندفع ما توهم أن مقتضى الظاهر أن يذكر النصر قبل التنجية لتوقفها عليه، و ذلك أن النصر إنما يكون فيما إذا كان للمنصور قوة ما لكنها لا تكفي لدفع الشر فتتم بالنصر و كان لبني إسرائيل عند الخروج من مصر بعض القوة فناسب إطلاق النصر على إعانتهم على ذلك بخلاف أصل تخليصهم من يد فرعون فإنهم كانوا أسراء مستعبدين لا قوة لهم فلا يناسب هذا الاعتبار إلا ذكر التنجية دون النصر. 

  • قوله تعالى: {وَ آتَيْنَاهُمَا اَلْكِتَابَ اَلْمُسْتَبِينَ} أي يستبين المجهولات الخفية فيبينها و هي التي يحتاج إليها الناس في دنياهم و آخرتهم. 

  • قوله تعالى: {وَ هَدَيْنَاهُمَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ} المراد بها الهداية بتمام معنى الكلمة، و لذا خصها بهما و لم يشرك فيها معهما قومهما، و لقد تقدم كلام في معنى الهداية إلى الصراط المستقيم في سورة الفاتحة. 

  • قوله تعالى: {وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي اَلْآخِرِينَ} - إلى قوله - {اَلْمُؤْمِنِينَ} تقدم تفسيرها. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ} قيل: إنه (عليه السلام) من آل هارون كان 

تفسير الميزان ج۱۷

158
  • مبعوثا إلى بعلبك‌۱ و لم يذكر في كلامه ما يستشهد به عليه. 

  • قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ لاَ تَتَّقُونَ أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخَالِقِينَ} - إلى قوله - {اَلْأَوَّلِينَ} شطر من دعوته (عليه السلام) يدعو قومه فيها إلى التوحيد و يوبخهم على عبادة بعل صنم كان لهم و ترك عبادة الله سبحانه. 

  • و كلامه (عليه السلام) على ما فيه من التوبيخ و اللوم يتضمن حجة تامة على توحيده تعالى فإن قوله: {وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخَالِقِينَ اَللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ} يوبخهم أولا على ترك عبادة أحسن الخالقين، و الخلق و الإيجاد كما يتعلق بذوات الأشياء يتعلق بالنظام الجاري فيها الذي يسمى تدبيرا فكما أن الخلق إليه تعالى فالتدبير أيضا إليه فهو المدبر كما أنه الخالق، و أشار إلى ذلك بقوله: {اَللَّهَ رَبَّكُمْ} بعد وصفه تعالى بأحسن الخالقين. 

  • ثم أشار إلى أن ربوبيته تعالى لا تختص بقوم دون قوم كالأصنام التي يتخذ كل قوم بعضا منها دون بعض فيكون صنم ربا لقوم دون آخرين بل هو تعالى رب لهم و لآبائهم الأولين لا يختص ببعض دون بعض لعموم خلقه و تدبيره، و إليه أشار بقوله: {اَللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ}

  • قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي مبعوثون ليحضروا العذاب، و قد تقدم أن الإحضار إذا أطلق أفاد معنى الشر. 

  • قوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} دليل على أنه كان في قومه جمع منهم. 

  • قوله تعالى: {وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ} - إلى قوله - {اَلْمُؤْمِنِينَ} تقدم الكلام في نظائرها. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {أَ تَدْعُونَ بَعْلاً} قال: كان لهم صنم يسمونه بعلا. 

  • و في المعاني، بإسناده إلى قادح عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي 

    1. و لعلهم أخذوه من بعل فقد قيل: أن بعلبك سمي به لأن بعلا كان منصوبا في معبد فيه. 

تفسير الميزان ج۱۷

159
  • (عليه السلام) في قول الله عز و جل: «سلام على آل يس» قال: يس محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و نحن آل يس. 

  • أقول: و عن العيون، عن الرضا (عليه السلام) مثله، و هو مبني على قراءة آل يس كما قرأه نافع و ابن عامر و يعقوب و زيد. 

  • (كلام في قصة إلياس (عليه السلام) ) 

  • ١ - قصته في القرآن

  • لم يذكر اسمه (عليه السلام) في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع و في سورة الأنعام عند ذكر هداية الأنبياء حيث قال‌: {وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى‌ وَ عِيسى‌ وَ إِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصَّالِحِينَ} الأنعام: ٨٥. 

  • و لم يذكر تعالى من قصته في هذه السورة إلا أنه كان يدعو إلى عبادة الله سبحانه قوما كانوا يعبدون بعلا فآمن به و أخلص الإيمان قوم منهم و كذبه آخرون و هم جل القوم و إنهم لمحضرون. 

  • و قد أثنى الله سبحانه عليه في سورة الأنعام بما أثنى به على الأنبياء عامة و أثنى عليه في هذه السورة بأنه من عباده المؤمنين المحسنين و حياه بالسلام بناء على القراءة المشهورة: {سَلاَمٌ عَلىَ إِلْيَاسِينَ}.

  • ٢ - الأحاديث فيه

  • ورد فيه (عليه السلام) أخبار مختلفة متهافتة كغالب الأخبار الواردة في قصص الأنبياء، الحاكية للعجائب كالذي‌ روي عن ابن مسعود: أن إلياس هو إدريس و ما عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن الخضر هو إلياس‌، و ما عن وهب و كعب الأحبار و غيرهما: أن إلياس حي لا يموت إلى النفخة الأولى، و ما عن وهب: أن إلياس سأل الله أن يريحه من قومه فأرسل الله إليه دابة كهيئة الفرس في لون النار فوثب إليه فانطلق به فكساه الله الريش و النور و قطع عنه لذة المطعم و المشرب فصار في الملائكة، و ما عن كعب الأحبار: أن إلياس صاحب الجبال و البر و أنه الذي سماه الله بذي النون، و ما عن الحسن: أن إلياس موكل بالفيافي و الخضر موكل بالجبال، و ما عن أنس: أن 

تفسير الميزان ج۱۷

160
  • إلياس لاقى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في بعض أسفاره فقعدا يتحدثان ثم نزل عليهما مائدة من السماء فأكلا و أطعماني ثم ودعه و ودعني ثم رأيته مر على السحاب نحو السماء إلى غير ذلك‌.۱ 

  • و في بعض أخبار الشيعة أنه (عليه السلام) حي مخلد٢ لكنها ضعاف و ظاهر آيات القصة لا يساعد عليه. 

  • و في البحار، في قصة إلياس (عليه السلام) عن قصص الأنبياء، بالإسناد عن الصدوق بإسناده إلى وهب بن منبه، و رواه الثعلبي في العرائس، عن ابن إسحاق و علماء الأخبار أبسط منه - و الحديث طويل جدا، و ملخصه -:أنه بعد انشعاب ملك بني إسرائيل و تقسمه بينهم سار سبط منهم إلى بعلبك و كان لهم ملك منهم يعبد صنما اسمه بعل و يحمل الناس على عبادته. 

  • و كانت له مرأة فاجرة قد تزوجت قبله بسبعة من الملوك و ولدت تسعين ولدا سوى أبناء الأبناء، و كان الملك يستخلفها إذ غاب فتقضي بين الناس، و كان له كاتب مؤمن حكيم قد خلص من يدها ثلاثمائة مؤمن تريد قتلهم، و كان في جوار قصر الملك رجل مؤمن له بستان و كان الملك يحترم جواره و يكرمه. 

  • ففي بعض ما غاب الملك قتلت المرأة الجار المؤمن و غصبت بستانه فلما رجع و علم به عاتبها فاعتذرت إليه و أرضته فآلى الله تعالى على نفسه أن ينتقم منهما إن لم يتوبا فأرسل إليهم إلياس (عليه السلام) يدعوهم إلى عبادة الله و أخبرهما بما آلى الله فاشتد غضبهم عليه و هموا بتعذيبه و قتله فهرب منهم إلى أصعب جبل هناك فلبث فيه سبع سنين يعيش بنبات الأرض و ثمار الشجر. 

  • فأمرض الله ابنا للملك يحبه حبا شديدا فاستشفع ببعل فلم ينفعه فقيل له: إنه غضبان عليك إن لم تقتل إلياس فأرسل إليه فئة من قومه ليخدعوه و يقبضوا عليه فأرسل الله إليهم نارا فأحرقتهم ثم أرسل إليه فئة أخرى من ذوي البأس مع كاتبه 

    1. رواه في الدر المنثور في تفسير آيات القصة.
    2. رواه في البحار عن قصص الأنبياء.

تفسير الميزان ج۱۷

161
  • المؤمن فذهب معه إلياس صونا له من غضب الملك لكن الله سبحانه أمات ابنه فشغله حزنه عن إلياس فرجع سالما. 

  • ثم لما طال الأمر نزل إلياس من الجبل و استخفى عند أم يونس بن متى في بيتهاو يونس طفل رضيع ثم خرج بعد ستة أشهر إلى الجبل ثانيا و اتفق أن مات بعده يونس ثم أحياه الله بدعاء إلياس بعد ما خرجت أمه في طلبه فوجدته فتضرعت إليه. 

  • ثم إنه سأل الله أن ينتقم له من بني إسرائيل و يمسك عنهم الأمطار فأجيب و سلط الله عليهم القحط فأجهدوا سنين فندموا فجاءوه فتابوا و أسلموا فدعا الله فأرسل عليهم المطر فسقاهم و أحيا بلادهم. 

  • فشكوا إليه هدم الجدران و عدم البذر من الحبوب فأوحى إليه أن يأمرهم أن يبذروا الملح فأنبت لهم الحمص و أن يبذروا الرمل فأنبت لهم منه الدخن. 

  • ثم لما كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد و عادوا إلى أخبث ما كانوا عليه فأمل ذلك إلياس فدعا الله أن يريحه منهم فأرسل الله إليه فرسا من نار فوثب عليه إلياس فرفعه الله إلى السماء و كساه الريش و النور فكان مع الملائكة. 

  • ثم سلط الله على الملك و امرأته عدوا فقصدهما و ظهر عليهما فقتلهما و ألقى جيفتهما في بستان ذلك الرجل المؤمن الذي قتلاه و غصبوا بستانه. و أنت بالتأمل فيما تقصه الرواية لا ترتاب في ضعفها. 

  • [سورة الصافات (٣٧): الآیات ١٣٣ الی ١٤٨]

  • {وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ١٣٣ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ١٣٤ إِلاَّ عَجُوزاً فِي اَلْغَابِرِينَ ١٣٥ ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ ١٣٦ وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ١٣٧ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ١٣٨ 

تفسير الميزان ج۱۷

162
  • وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ١٣٩ إِذْ أَبَقَ إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ ١٤٠فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ ١٤١ فَالْتَقَمَهُ اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ ١٤٢ فَلَوْ لاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ ١٤٣ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‌ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ١٤٤ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ ١٤٥ وَ أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ١٤٦ وَ أَرْسَلْنَاهُ إِلى‌ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ١٤٧ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلى‌ حِينٍ ١٤٨} 

  • (بيان) 

  • خلاصة قصة لوط (عليه السلام) ثم قصة يونس (عليه السلام) و ابتلاء الله تعالى له بالحوت مأخوذا بما أعرض عن قومه عند ارتفاع العذاب عنهم بعد نزوله و إشرافه عليهم. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} و إنما نجاه و أهله من العذاب النازل على قومه و هو الخسف و أمطار حجارة من سجيل على ما ذكره الله تعالى في سائر كلامه. 

  • قوله تعالى: {إِلاَّ عَجُوزاً فِي اَلْغَابِرِينَ} أي في الباقين في العذاب المهلكين به و هي امرأة لوط. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ} التدمير الإهلاك، و الآخرين قومه الذين أرسل إليهم. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} فإنهم على طريق الحجاز إلى الشام، و المراد بالمرور عليهم المرور على ديارهم الخربة و هي اليوم مستورة بالماء على ما قيل. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ} أي السفينة 

تفسير الميزان ج۱۷

163
  • المملوءة من الناس و الإباق‌ هرب العبد من مولاه. 

  • و المراد بإباقه إلى الفلك خروجه من قومه معرضا عنهم و هو (عليه السلام) و إن لم يعص في خروجه ذلك ربه و لا كان هناك نهي من ربه عن الخروج لكن خروجه إذ ذاك كان ممثلا لإباق العبد من خدمة مولاه فأخذه الله بذلك، و قد تقدم بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: ‌{وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} الأنبياء: ٨٧. 

  • قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ} المساهمة المقارعة و الإدحاض‌ الغلبة أي فقارع من في السفينة فكان من المغلوبين، و قد كان عرض لسفينتهم الحوت فاضطروا إلى أن يلقوا واحدا منهم في البحر ليبتلعه و يخلي السفينة فقارعوا فأصابت يونس (عليه السلام). 

  • قوله تعالى: {فَالْتَقَمَهُ اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ} الالتقام‌ الابتلاع، و مليم‌ من ألام أي دخل في اللوم كأحرم إذا دخل في الحرم أو بمعنى صار ذا ملامة. 

  • قوله تعالى: {فَلَوْ لاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‌ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} عده من المسبحين و هم الذين تكرر منهم التسبيح و تمكن منهم حتى صار وصفا لهم يدل على دوام تلبسه زمانا بالتسبيح. قيل: أي من المسبحين قبل التقام الحوت إياه، و قيل: بل في بطن الحوت، و قيل: أي كان من المسبحين قبل التقام الحوت و في بطنه. 

  • و الذي حكي من تسبيحه في كلامه تعالى قوله في سورة الأنبياء: {فَنَادى‌ فِي اَلظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} الأنبياء: ٨٧ و لازم ذلك أن يكون من المسبحين في بطن الحوت خاصة أو فيه و فيما قبله فاحتمال كون المراد تسبيحه قبل التقام الحوت مرجوح لا ينبغي أن يصار إليه. 

  • على أن تسبيحه مع اعترافه بالظلم في قوله: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} - على ما سيجي‌ء - تسبيح له تعالى عما كان يشعر به‌۱ فعله من ترك قومه و ذهابه على وجهه، و قوله: {فَلَوْ لاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ} إلخ يدل على أن تسبيحه كان هو السبب المستدعي لنجاته، و لازم ذلك أن يكون إنما ابتلي بما ابتلي به لينزهه تعالى فينجو بذلك من الغم الذي ساقه إليه فعله إلى ساحة العافية. 

    1. و هو أن الله لا يقدر عليه كما قال تعالى: «و ظن أن لن نقدر عليه».

تفسير الميزان ج۱۷

164
  • و بذلك يظهر أن العناية في الكلام إنما هي بتسبيحه في بطن الحوت خاصة فخير الأقوال الثلاثة أوسطها. 

  • فالظاهر أن المراد بتسبيحه نداؤه في الظلمات بقوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} و قد قدم التهليل ليكون كالعلة المبينة لتسبيحه كأنه يقول: لا معبود بالحق يتوجه إليه غيرك فأنت منزه مما كان يشعر به فعلى أني آبق منك معرض عن عبوديتك متوجه إلى سواك إني كنت ظالما لنفسي في فعلي فها أنا متوجه إليك متبرئ مما كان يشعر به فعلى من التوجه عنك إلى غيرك. 

  • فهذا معنى تسبيحه و لو لا ذلك منه لم ينج أبدا إذ كان سبب نجاته منحصرا في التسبيح و التنزيه بالمعنى الذي ذكر. 

  • و بذلك يظهر أن المراد بقوله: {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‌ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} تأبيد مكثه في بطنه إلى أن يبعث فيخرج منه كالقبر الذي يقبر فيه الإنسان و يلبث فيه حتى يبعث فيخرج منه قال تعالى: ‌{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى‌} طه: ٥٥. 

  • و لا دلالة في الآية على كونه (عليه السلام) على تقدير اللبث حيا في بطن الحوت إلى يوم يبعثون أو ميتا و بطنه قبره مع بقاء بدنه و بقاء جسد الحوت على حالهما أو بنحو آخر فلا مساغ لاختلافهم في كونه (عليه السلام) حيا على هذا التقدير أو ميتا و بطنه قبره، و أن المراد بيوم يبعثون النفخة الأولى التي فيها يموت الخلائق أو النفخة الثانية أو التأجيل بيوم القيامة كناية عن طول اللبث. 

  • قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ} النبذ طرح الشي‌ء و الرمي به، و العراء المكان الذي لا سترة فيه يستظل بها من سقف أو خباء أو شجر. 

  • و المعنى على ما يعطيه السياق أنه صار من المسبحين فأخرجناه من بطن الحوت و طرحناه خارج الماء في أرض لا ظل فيها يستظل به و هو سقيم. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} اليقطين‌ من نوع القرع و يكون ورقه عريضا مستديرا و قد أنبتها الله عليه ليستظل بورقها. 

  • قوله تعالى: {وَ أَرْسَلْنَاهُ إِلى‌ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أو في مورد الترقي و تفيد معنى بل، و المراد بهذه الجماعة أهل نينوى. 

تفسير الميزان ج۱۷

165
  • قوله تعالى: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلى‌ حِينٍ} أي آمنوا به فلم نعذبهم و لم نهلكهم بما أشرف عليهم من العذاب فمتعناهم بالحياة و البقاء إلى أجلهم المقدر لهم. 

  • و الآية في إشعارها برفع العذاب عنهم و تمتيعهم تشير إلى قوله تعالى‌{فَلَوْ لاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَتَّعْنَاهُمْ إِلى‌ حِينٍ} يونس: ٩٨. 

  • و لا يخلو السياق من إشعار - بل دلالة - على أن المراد من إرساله في قوله: {وَ أَرْسَلْنَاهُ} أمره بالذهاب ثانيا إلى القوم، و بإيمانهم في قوله: {فَآمَنُوا} إلخ إيمانهم بتصديقه و اتباعه بعد ما آمنوا و تابوا حين رأوا العذاب. 

  • و من هنا يظهر ضعف ما استدل بعضهم بالآيتين أن إرساله إلى القوم كان بعد خروجه من بطن الحوت و أنه أمر أولا بالذهاب إلى أهل نينوى و دعوتهم إلى الله و كانوا يعبدون الأصنام فاستعظم الأمر و خرج من بيته يسير في الأرض لعل الله يصرف عنه هذا التكليف و ركب البحر فابتلاه الله بالحوت ثم لما نبذ بالعراء كلف ثانيا فأجاب و أطاع و دعاهم فاستجابوا فدفع الله عذابا كان يهددهم إن لم يؤمنوا. 

  • و ذلك أن السياق كما سمعت يدل على كون إرساله بأمر ثان و أن إيمانهم كان إيمانا ثانيا بعد الإيمان و التوبة و أن تمتيعهم إلى حين كان مترتبا على إيمانهم به لا على كشف العذاب عنهم فلم يكن الله سبحانه ليتركهم لو لم يؤمنوا برسوله ثانيا كما آمنوا به و تابوا إليه أولا في غيبته فافهم ذلك. 

  • على أن قوله تعالى‌{وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً} الأنبياء: ٨٧ و قوله‌{وَ لاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ اَلْحُوتِ إِذْ نَادى‌ وَ هُوَ مَكْظُومٌ} ن: ٤٨ لا يلائم ما ذكروه، و كذا قوله‌{إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} يونس: ٩٨ إذ لا يطلق الكشف إلا في عذاب واقع حال أو مشرف. 

  • (كلام في قصة يونس (عليه السلام) في فصول) 

  • ١ - قصته في القرآن 

  • لم يتعرض القرآن الكريم إلا لطرف من قصته و قصة قومه فقد تعرض في سورة الصافات لإرساله ثم إباقه و ركوبه الفلك و التقام الحوت له ثم نجاته و إرساله إلى 

تفسير الميزان ج۱۷

166
  • القوم و إيمانهم قال تعالى: {وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ. فَلَوْ لاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ. وَ أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ.وَ أَرْسَلْنَاهُ إِلى‌ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلىَ حِينٍ}. 

  • و في سورة الأنبياء: لتسبيحه في بطن الحوت و تنجيته قال تعالى: ‌{وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادى‌ فِي اَلظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ} الأنبياء: ٨٧ - ٨٨. 

  • و في سورة ن: لندائه مكظوما و خروجه من بطنه و اجتبائه قال تعالى: ‌{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ اَلْحُوتِ إِذْ نَادى‌ وَ هُوَ مَكْظُومٌ. لَوْ لاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ} ن: ٥٠. 

  • و في سورة يونس: لإيمان قومه و كشف العذاب عنهم قال تعالى: ‌{فَلَوْ لاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَتَّعْنَاهُمْ إِلى‌ حِينٍ} يونس: ٩٨. 

  • و خلاصة ما يستفاد من الآيات بضم بعضها إلى بعض و اعتبار القرائن الحافة بها أن يونس (عليه السلام) كان من الرسل أرسله الله تعالى إلى قومه و هم جمع كثير يزيدون على مائة ألف فدعاهم فلم يجيبوه إلا بالتكذيب و الرد حتى جاءهم عذاب أوعدهم به يونس ثم خرج من بينهم. 

  • فلما أشرف عليهم العذاب و شاهدوه مشاهدة عيان أجمعوا على الإيمان و التوبة إلى الله سبحانه فكشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا. 

  • ثم إن يونس (عليه السلام) استخبر عن حالهم فوجد العذاب انكشف عنهم و كأنه لم يعلم بإيمانهم و توبتهم فلم يعد إليهم و ذهب لوجهه على ما به من الغضب و السخط عليهم فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربه مغاضبا عليه ظانا أن لا يقدر عليه و ركب البحر في فلك مشحون. 

  • فعرض لهم حوت عظيم لم يجدوا بدا من أن يلقوا إليه واحدا منهم يبتلعه 

تفسير الميزان ج۱۷

167
  • و ينجو الفلك بذلك فساهموا و قارعوا فيما بينهم فأصابت يونس (عليه السلام) فألقوه في البحر فابتلعه الحوت و نجت السفينة. 

  • ثم إن الله سبحانه حفظه حيا سويا في بطنه أياما و ليالي و يونس (عليه السلام) يعلم أنها بلية ابتلاه الله بها مؤاخذة بما فعل و هو ينادي في بطنه: {أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} الأنبياء ٨٧. 

  • فاستجاب الله له فأمر الحوت أن يلفظه فنبذه بالعراء و هو سقيم فأنبت الله سبحانه عليه شجرة من يقطين يستظل بأوراقها ثم لما استقامت حاله أرسله إلى قومه فلبوا دعوته و آمنوا به فمتعهم الله إلى حين. 

  • و الأخبار الواردة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على كثرتها و بعض الأخبار من طرق أهل السنة مشتركة المتون في قصة يونس (عليه السلام) على النحو الذي يستفاد من الآيات و إن اختلفت في بعض الخصوصيات الخارجة عن ذلك‌۱ 

  • ٢ - قصته عند أهل الكتاب 

  • هو (عليه السلام) مذكور باسم يوناه بن إمتاي في مواضع من العهد القديم و كذا في مواضع من العهد الجديد أشير في بعضها إلى قصة لبثه في بطن الحوت لكن لم تذكر قصته الكاملة في شي‌ء منهما. 

  • و نقل الآلوسي في روح المعاني، في قصته عند أهل الكتاب و يؤيده ما في بعض كتبهم من إجمال‌٢ القصة: 

  • أن الله أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى٣ و كانت إذ ذاك عظيمة جدا لا يقطع إلا في نحو ثلاثة أيام و كانوا قد عظم شرهم و كثر فسادهم، فاستعظم الأمر و هرب إلى ترسيس‌٤ فجاء يافا٥ فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر و أعطى 

    1. و لذلك نوردها لأنها في نفسها آحاد لا حجية لها في مثل المقام و لا يمكن تصحيح خصوصياتها بالآيات و هو ظاهر لمن راجعها.
    2. قاموس الكتاب المقدس.
    3. كانت مدينة عظيمة من مدائن آشور على ساحل دجلة.
    4. اسم مدينة.
    5. مدينة في الأرض المقدسة.

تفسير الميزان ج۱۷

168
  • الأجرة و ركب السفينة فهاجت ريح عظيمة و كثرت الأمواج و أشرفت السفينة على الغرق. 

  • ففزع الملاحون و رموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة و عند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة و نام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائما؟ قم و ادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه و لا يهلكنا. 

  • و قال بعضهم لبعض: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له: أخبرنا ما ذا عملت: و من أين جئت؟ و إلى أين تمضي؟ و من أي كورة أنت؟ و من أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبد الرب إله السماء خالق البر و البحر و أخبرهم خبره فخافوا خوفا عظيما و قالوا له: لم صنعت ما صنعت؟ يلومونه على ذلك. 

  • ثم قالوا له: ما نصنع الآن بك؟ ليسكن البحر عنا؟ فقال: ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوه إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس و ألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر و أمر الله حوتا عظيما فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام و ثلاث ليال و صلى في بطنه إلى ربه و استغاث به فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال له: قم و امض إلى نينوى و ناد في أهلها كما أمرتك من قبل. 

  • فمضى (عليه السلام) و نادى و قال: يخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله و نادوا بالصيام و لبسوا المسوح جميعا و وصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه و نزع حلته و لبس مسحا و جلس على الرماد و نودي أن لا يذق أحد من الناس و البهائم طعاما و لا شرابا و جاروا إلى الله تعالى و رجعوا عن الشر و الظلم فرحمهم الله و لم ينزل بهم العذاب. 

  • فحزن يونس و قال: إلهي من هذا هربت، فإني علمت أنك الرحيم الرءوف الصبور التواب. يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال: يا يونس حزنت من هذا جدا؟ فقال: نعم يا رب. 

  • و خرج يونس و جلس مقابل المدينة و صنع له هناك مظلة و جلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة؟ فأمر الله يقطينا فصعد على رأسه ليكون ظلا له من كربه ففرح باليقطين فرحا عظيما و أمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح 

تفسير الميزان ج۱۷

169
  • سموم و أشرقت الشمس على رأس يونس فعظم الأمر عليه و استطاب الموت. 

  • فقال الرب: يا يونس أ حزنت جدا على اليقطين؟ فقال: نعم يا رب حزنت جدا فقال تعالى: حزنت عليه و أنت لم تتعب فيه و لم تربه بل صار من ليلته و هلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم و لا شمالهم و بهائمهم كثيرة انتهى. و جهات اختلاف القصة مع ما يستفاد من القرآن الكريم ظاهرة كالفرار من الرسالة و عدم رضاه برفع العذاب عنهم مع علمه بإيمانهم و توبتهم. 

  • فإن قلت: نظير ذلك وارد في القرآن الكريم كنسبة الإباق إليه في سورة الصافات و كذا مغاضبته و ظنه أن الله لن يقدر عليه على ما في سورة الأنبياء. 

  • قلت: بين النسبتين فرق فكتبهم المقدسة أعني العهدين لا تأبى عن نسبة المعاصي حتى الكبائر الموبقة إلى الأنبياء (عليهم السلام) فلا موجب لتوجيه ما نسب من المعاصي إليه بما يخرج به عن كونه معصية بخلاف القرآن الكريم فإنه ينزه ساحتهم عن لوث المعاصي حتى الصغائر فما ورد فيه مما يوهم ذلك يحمل على أحسن الوجوه بهذه القرينة الموجبة و لذا حملنا قوله: {إِذْ أَبَقَ} و قوله: {مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ} على حكاية الحال و إيهام فعله. 

  • ٣ - ثناؤه تعالى عليه

  • أثنى الله سبحانه عليه بأنه من المؤمنين «سورة الأنبياء ٨٨» و أنه اجتباه و قد عرفت أن اجتباءه إخلاصه العبد لنفسه خاصة، و أنه جعله من الصالحين «سورة ن: ٥٠» و عده في سورة الأنعام فيمن عده من الأنبياء و ذكر أنه فضلهم على العالمين و أنه هداهم إلى صراط مستقيم «سورة الأنعام: ٨٧». 

  • (بحث روائي) 

  • في الفقيه، و قال الصادق (عليه السلام): ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز و جل إلا خرج سهم الحق، و قال: أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله. أ ليس الله عز و جل يقول: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ}

تفسير الميزان ج۱۷

170
  • و في البحار، عن البصائر بإسناده عن حبة العرني قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله عرض ولايتي على أهل السماوات و على أهل الأرض أقر بها من أقر و أنكرها من أنكر أنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتى أقر بها.

  • أقول: و في معناه روايات أخر، و المراد الولاية الكلية الإلهية التي هو (عليه السلام) أول من فتح بابها من هذه الأمة و هي قيامه تعالى مقام عبده في تدبير أمره فلا يتوجه العبد إلا إليه و لا يريد إلا ما أراده و ذلك بسلوك طريق العبودية التي تنتهي بالعبد إلى أن يخلصه الله لنفسه فلا يشاركه فيه غيره. 

  • و كان ظاهر ما أتى به يونس (عليه السلام) مما لا يرتضيه الله تعالى فلم يكن قابلا للانتساب إلى إرادته فابتلاه الله بما ابتلاه ليعترف بظلمه على نفسه و أنه تعالى منزه عن إرادة مثله فالبلايا و المحن التي يبتلى بها الأولياء من التربية الإلهية التي يربيهم بها و يكملهم و يرفع درجاتهم بسببها و إن كان بعضها من جهة أخرى مؤاخذة ذات عتاب، و قد قيل البلاء للولاء. 

  • و يؤيد ذلك‌ ما عن العلل، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لأي علة صرف الله العذاب عن قوم يونس و قد أظلهم و لم يفعل ذلك بغيرهم من الأمم؟ فقال: لأنه كان في علم الله أنه سيصرفه عنهم لتوبتهم و إنما ترك إخبار يونس بذلك لأنه أراد أن يفرغه لعبادته في بطن الحوت فيستوجب بذلك ثوابه و كرامته. 

  • [سورة الصافات (٣٧): الآیات ١٤٩ الی ١٨٢]

  • {فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ اَلْبَنَاتُ وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ ١٤٩ أَمْ خَلَقْنَا اَلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَ هُمْ شَاهِدُونَ ١٥٠أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ١٥١ وَلَدَ اَللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ١٥٢ أَصْطَفَى اَلْبَنَاتِ عَلَى اَلْبَنِينَ ١٥٣ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ١٥٤ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ ١٥٥ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ١٥٦ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١٥٧ 

تفسير الميزان ج۱۷

171
  • وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ١٥٨ سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٥٩ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ ١٦٠فَإِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ ١٦١ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ١٦٢ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ اَلْجَحِيمِ ١٦٣ وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ١٦٤ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ ١٦٥ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ ١٦٦ وَ إِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ١٦٧ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ اَلْأَوَّلِينَ ١٦٨ لَكُنَّا عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ ١٦٩ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ١٧٠وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ ١٧١ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ ١٧٢ وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ ١٧٣ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ١٧٤ وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ١٧٥ أَ فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ١٧٦ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ اَلْمُنْذَرِينَ ١٧٧ وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ١٧٨ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ١٧٩ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠وَ سَلاَمٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ ١٨١ وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٨٢} 

تفسير الميزان ج۱۷

172
  • (بيان) 

  • قدم سبحانه ما بين به أنه رب معبود، عبده عباد مخلصون كالأنبياء المكرمين و كفر به آخرون فنجى عباده و أخذ الكافرين بأليم العذاب. ثم تعرض في هذه الآيات لما يعتقدونه في آلهتهم و هم الملائكة و الجن و أن الملائكة بنات الله و بينه و بين الجنة نسبا. 

  • و الوثنية البرهمية و البوذية و الصابئة ما كانوا يقولون بأنوثة جميع الملائكة و إن قالوا بها في بعضهم لكن المنقول عن بعض قبائل العرب الوثنيين كجهينة و سليم و خزاعة و بني مليح القول بأنوثة الملائكة جميعا، و أما الجن فالقول بانتهاء نسبهم إليه في الجملة منقول عن الجميع. 

  • و بالجملة يشير تعالى في الآيات إلى فساد قولهم ثم يبشر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالنصر و يهددهم بالعذاب، و يختم السورة بتنزيهه تعالى و التسليم على المرسلين و الحمد لله رب العالمين. 

  • قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ اَلْبَنَاتُ وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ} حلل سبحانه قولهم: إن الملائكة بنات الله إلى ما يستلزمه من اللوازم و هي أن الملائكة أولاده، و أنهم بنات، و أنه تعالى خص نفسه بالبنات و هم مخصوصون بالبنين ثم رد هذه اللوازم واحدا بعد واحد فرد قولهم: إن له البنات و لهم البنين بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ اَلْبَنَاتُ وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ} و هو استفهام إنكاري لقولهم بما يلزمه من تفضيلهم على الله لما أنهم يفضلون البنين على البنات و يتنزهون منهن و يئدونهن. 

  • قوله تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا اَلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَ هُمْ شَاهِدُونَ} أم منقطعة أي بل أ خلقنا الملائكة إناثا و هم شاهدون يشهدون خلقهم و لم يكونوا شاهدين خلقهم و لا لهم أن يدعوا ذلك، و الذكورة و الأنوثة مما لا يثبت إلا بنوع من الحس، و هذا رد لقولهم بأنوثة الملائكة. 

  • قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اَللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} رد لقولهم بالولادة بأنه من الإفك أي صرف القول عن وجهه إلى غير وجهه أي من الحق إلى الباطل فيوجهون خلقهم بما يعدونه ولادة و يعبرون عنه بها فهم آفكون كاذبون. 

  • قوله تعالى: {أَصْطَفَى اَلْبَنَاتِ عَلَى اَلْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ} 

تفسير الميزان ج۱۷

173
  • كرر الإنكار على اصطفاء البنات من بين لوازم قولهم لشدة شناعته. 

  • ثم وبخهم بقوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} لكون قولهم حكما من غير دليل ثم عقبه بقوله: {أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ} توبيخا و إشارة إلى أن قولهم ذلك - فضلا عن كونه مما لا دليل عليه - الدليل على خلافه و لو تذكروا لانكشف لهم فقد تنزهت ساحته تعالى عن أن يتجزأ فيلد أو يحتاج فيتخذ ولدا، و قد احتج عليهم بذلك في مواضع من كلامه. 

  • و الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للدلالة على اشتداد السخط الموجب لتوبيخهم شفاها. 

  • قوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أم منقطعة و المراد بالسلطان و هو البرهان كتاب نازل من عند الله سبحانه يخبر فيه أن الملائكة بناته على ما يعطيه السياق إذ لما لم يثبت بعقل أو حس بقي أن يثبت بكتاب من عند الله نازل بالوحي فلو كانت دعواهم حقة و هم صادقون فيها كان لهم أن يأتوا بالكتاب. 

  • و إضافة الكتاب إليهم بعناية فرضه دالا على دعواهم. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} جعل النسب بينه و بين الجنة قولهم: إن الجنة أولاده و قد تقدم تفصيل قولهم في تفسير سورة هود في الكلام على عبادة الأصنام. 

  • و قوله: {وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي للحساب أو للنار على ما يفيده إطلاق {لَمُحْضَرُونَ} و كيف كان فهم يعلمون أنهم مربوبون لله سيحاسبهم و يجازيهم بما عملوا فبينهم و بين الله سبحانه نسبة الربوبية و العبودية لا نسب الولادة و من كان كذلك لا يستحق العبادة. 

  • و من الغريب قول بعضهم: إن المراد بالجنة طائفة من الملائكة يسمون بها و لازمه إرجاع ضمير {إِنَّهُمْ} إلى الكفار دون الجنة. و هو مما لا شاهد له من كلامه تعالى مضافا إلى بعده من السياق. 

  • قوله تعالى: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} ضمير {يَصِفُونَ} - نظرا إلى اتصال الآية بما قبلها - راجع إلى الكفار المذكورين قبل، و الاستثناء منه 

تفسير الميزان ج۱۷

174
  • منقطع و المعنى هو منزه عن وصفهم أو عما يصفه الكفار به من الأوصاف كالولادة و النسب و الشركة و نحوها لكن عباد الله المخلصين يصفونه تعالى وصفا يليق به - أو بما يليق به من الأوصاف -.

  • و قيل: إنه استثناء منقطع من ضمير {لَمُحْضَرُونَ}، و قيل: من فاعل {جَعَلُوا} و ما بينهما من الجمل المتخللة اعتراض، و هما وجهان بعيدان. 

  • و للآيتين باستقلالهما معنى أوسع من ذلك و أدق و هو رجوع ضمير {يَصِفُونَ} إلى الناس، و الوصف مطلق يشمل كل ما يصفه به واصف، و الاستثناء متصل و المعنى هو منزه عن كل ما يصفه الواصفون إلا عباد الله المخلصين. 

  • و ذلك أنهم إنما يصفونه بمفاهيم محدودة عندهم و هو سبحانه غير محدود لا يحيط به حد و لا يدركه نعت فكل ما وصف به فهو أجل منه و كل ما توهم أنه هو فهو غيره لكن له سبحانه عباد أخلصهم لنفسه و خصهم بنفسه لا يشاركه فيهم أحد غيره فعرفهم نفسه و أنساهم غيره يعرفونه و يعرفون غيره به فإذا وصفوه في نفوسهم وصفوه بما يليق بساحة كبريائه و إذا وصفوه بألسنتهم و الألفاظ قاصرة و المعاني محدودة اعترفوا بقصور البيان و أقروا بكلال اللسان‌ 

  • كما قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو سيد المخلصين: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‌۱ فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ اَلْجَحِيمِ} تفريع على حكم المستثنى و المستثنى منه أو المستثنى خاصة، و المعنى لما كان ما وصفتموه ضلالا - و عباد الله المخلصون لا يضلون في وصفهم - فلستم بمضلين به إلا سالكي سبيل النار. 

  • و الظاهر من السياق أن {مَا} في {مَا تَعْبُدُونَ} موصولة و المراد بها الأصنام فحسب أو الأصنام و آلهة الضلال كشياطين الجن، و ما في {مَا أَنْتُمْ} نافية، و ضمير {عَلَيْهِ} لله سبحانه و الظرف متعلق بفاتنين، و فاتنين اسم فاعل من الفتنة بمعنى الإضلال و {صَالِ} من الصلو بمعنى الاتباع فصالي الجحيم هو المتبع للجحيم السالك سبيل النار، و الاستثناء مفرغ تقديره ما أنتم بفاتنين أحدا إلا من هو صال الجحيم. 

    1. فقد أثنى على الله و تمم نقصه بأنه يريد ما يريده الله من الثناء على نفسه.

تفسير الميزان ج۱۷

175
  • و المعنى فإنكم و آلهة الضلال التي تعبدونها لستم جميعا بمضلين أحدا على الله إلا من هو متبع الجحيم. 

  • و قيل: إن {مَا} الأولى مصدرية أو موصولة و جملة {فَإِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ} كلام» تام مستقل من قبيل قولهم: أنت و شأنك و المعنى فإنكم و ما تعبدون متقارنان ثم استونف و قيل: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} و {بِفَاتِنِينَ} مضمن معنى الحمل و ضمير {عَلَيْهِ} راجع إلى {مَا تَعْبُدُونَ} إن كانت ما مصدرية و إلى {مَا} بتقدير مضاف إن كانت موصولة و المعنى ما أنتم بحاملين على عبادتكم أو على عبادة ما تعبدونه إلا من هو صال الجيم. 

  • قيل: و يمكن أن يكون «على» بمعنى الباء و الضمير لما تعبدون أو لما أن كانت موصولة و {بِفَاتِنِينَ} على ظاهر معناه من غير تضمين، و المعنى ما أنتم بمضلين أحدا بعبادتكم أو بعبادة ما تعبدونه إلا «إلخ». 

  • و هذه كلها تكلفات من غير موجب و الكلام فيما في الآية من الالتفات كالكلام فيما سبق منه. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ} الآيات الثلاث - على ما يعطيه السياق - اعتراض من كلام جبرئيل أو هو و أعوانه من ملائكة الوحي نظير قوله تعالى في سورة مريم‌{وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ} الخ: مريم: ٦٤. 

  • و قيل: هي من كلام الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) يصف نفسه و المؤمنين به للكافرين تبكيتا لهم و تقريعا و هو متصل بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} و التقدير فاستفتهم و قل: ما منا معشر المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة و إنا لنحن الصافون في الصلاة و إنا لنحن المسبحون. و هو تكلف لا يلائمه السياق. 

  • و الآيات الثلاث مسوقة لرد قولهم بألوهية الملائكة بإيراد نفس اعترافهم بما ينتفي به قول الكفار و هم لا ينفون العبودية عن الملائكة بل يرون أنهم مربوبون لله سبحانه أرباب و آلهة لمن دونهم يستقلون بالتصرف فيما فوض إليهم من أمر العالم من غير أن يرتبط شي‌ء من هذا التدبير إلى الله سبحانه و هذا هو الذي ينفيه الملائكة عن أنفسهم لا كونهم أسبابا متوسطة بينه تعالى و بين خلقه كما قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ 

تفسير الميزان ج۱۷

176
  • لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الأنبياء: ٢٧. 

  • فقوله: {وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أي معين مشخص أقيم فيه ليس له أن يتعداه بأن يفوض إليه أمر فيستقل فيه بل مجبول على طاعة الله فيما يأمر به و عبادته. 

  • و قوله: {وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ} أي نصف عند الله في انتظار أوامره في تدبير العالم لنجريها على ما يريد. كما قال تعالى: {لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} هذا ما يفيده السياق، و ربما قيل: إن المراد إنا نصف للصلاة عند الله و هو بعيد من الفهم لا شاهد عليه. 

  • و قوله: {وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ} أي المنزهون له تعالى عما لا يليق بساحة كبريائه كما قال تعالى: ‌{يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} الأنبياء: ٢٠. 

  • فالآيات الثلاث تصف موقف الملائكة في الخلقة و عملهم المناسب لخلقتهم و هو الاصطفاف لتلقي أمره تعالى و التنزيه لساحة كبريائه عن الشريك و كل ما لا يليق بكمال ذاته المتعالية. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ اَلْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} رجوع إلى السياق السابق. 

  • و الضمير في قوله: {وَ إِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} لقريش و من يتلوهم، و {إِنْ} مخففة من الثقيلة، و المراد بذكر من الأولين كتاب سماوي من جنس الكتب النازلة على الأولين. 

  • و المعنى لو أن عندنا كتابا سماويا من جنس الكتب النازلة قبلنا على الأولين لاهتدينا و كنا عباد الله المخلصين يريدون أنهم معذورون لو كفروا لعدم قيام الحجة عليهم من قبل الله سبحانه. 

  • و هذا في الحقيقة هفوة منهم فإن مذهب الوثنية يحيل النبوة و الرسالة و نزول الكتاب السماوي. 

  • قوله تعالى: {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} الفاء فصيحة، و المعنى فأنزلنا عليهم الذكر و هو القرآن الكريم فكفروا به و لم يفوا بما قالوا فسوف يعلمون وبال كفرهم 

تفسير الميزان ج۱۷

177
  • و هذا تهديد منه تعالى لهم. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ} كلمته تعالى لهم قوله الذي قاله فيهم و هو حكمه و قضاؤه في حقهم و سبق الكلمة تقدمها عهدا أو تقدمها بالنفوذ و الغلبة و اللام تفيد معنى النفع أي إنا قضينا قضاء محتوما فيهم إنهم لهم المنصورون و قد أكد الكلام بوجوه من التأكيد.

  • و قد أطلق النصر من غير تقييده بدنيا أو آخرة أو بنحو آخر بل القرينة على خلافه قال تعالى: ‌{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ }المؤمن: ٥١. 

  • فالرسل (عليهم السلام) منصورون في الحجة لأنهم على الحق و الحق غير مغلوب. 

  • و هم منصورون على أعدائهم إما بإظهارهم عليهم و إما بالانتقام منهم قال تعالى: ‌{ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‌ } إلى أن قال {حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَ لاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ} يوسف: ١١٠. 

  • و هم منصورون في الآخرة كما قال تعالى: ‌{يَوْمَ لاَ يُخْزِي اَللَّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} التحريم: ٨، و قد تقدم آنفا آية في سورة المؤمن في هذا المعنى. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ} الجند هو المجتمع الغليظ و لذا يقال للعسكر جند فهو قريب المعنى من الحزب‌۱ و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه:‌ { وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغَالِبُونَ} المائدة: ٥٦. 

  • و المراد بقوله: {جُنْدَنَا} هو المجتمع المؤتمر بأمره المجاهد في سبيله و هم المؤمنون خاصة أو الأنبياء و من تبعهم من المؤمنين و في الكلام على التقدير الثاني تعميم بعد التخصيص، و كيف كان فالمؤمنون منصورون كمتبوعيهم من الأنبياء قال تعالى: {وَ لاَ

    1. قال تعالى: «إذ جاءتكم جنود» الأحزاب: ٩ و قال فيهم بعينهم: «و لما رأى المؤمنون الأحزاب» الأحزاب: ٢٢.

تفسير الميزان ج۱۷

178
  • تَهِنُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} آل عمران: ١٣٩ و قد مر بعض الآيات الدالة عليه آنفا. 

  • و الحكم أعني النصر و الغلبة حكم اجتماعي منوط على العنوان لا غير أي إن الرسل و هم عباد أرسلهم الله و المؤمنون و هم جند لله يعملون بأمره و يجاهدون في سبيله ما داموا على هذا النعت منصورون غالبون، و أما إذا لم يبق من الإيمان إلا اسمه و من الانتساب إلا حديثه فلا ينبغي أن يرجى نصر و لا غلبة. 

  • قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} تفريع على حديث النصر و الغلبة ففيه وعد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالنصر و الغلبة و إيعاد للمشركين و لقريش خاصة. 

  • و الأمر بالإعراض عنهم ثم جعله مغيا بقوله: {حَتَّى حِينٍ} يلوح إلى أن الأمد غير بعيد و كان كذلك فهاجر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد قليل و أباد الله صناديد قريش في غزوة بدر و غيرها. 

  • قوله تعالى: {وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} الأمر بالإبصار و الإخبار بإبصارهم عاجلا و عطف الكلام على الأمر بالتولي معجلا يفيد بحسب القياس أن المعنى أنظرهم و أبصر ما هم عليه من الجحود و العناد قبال إنذارك و تخويفك فسوف يبصرون وبال جحودهم و استكبارهم. 

  • قوله تعالى: {أَ فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ اَلْمُنْذَرِينَ} توبيخ لهم لاستعجالهم و قولهم: متى هذا الوعد؟ متى هذا الفتح؟ و إيذان بأن هذا العذاب مما لا ينبغي أن يستعجل لأنه يعقب يوما بئيسا و صباحا مشئوما. 

  • و نزول العذاب بساحتهم كناية عن نزوله بهم على نحو الشمول و الإحاطة، و قوله: {فَسَاءَ صَبَاحُ اَلْمُنْذَرِينَ} أي بئس صباحهم صباحا، و المنذرون هم المشركون من قريش. 

  • قوله تعالى: {وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} تأكيد لما مر بتكرار الآيتين على ما قيل، و احتمل بعضهم أن يكون المراد بما تقدم التهديد بعذاب الدنيا و بهذا، التهديد بعذاب الآخرة. و لا يخلو من وجه فإن الواقع في الآية {وَ أَبْصِرْ} 

تفسير الميزان ج۱۷

179
  • من غير مفعول كما في الآية السابقة من قوله: {وَ أَبْصِرْهُمْ} و الحذف يشعر بالعموم و أن المراد إبصار ما عليه عامة الناس من الكفر و الفسوق و يناسبه التهديد بعذاب يوم القيامة. 

  • قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} تنزيه له تعالى عما يصفه به الكفار المخالفون لدعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مما تقدم ذكره في السورة. 

  • و الدليل عليه إضافة التنزيه إلى قوله: {رَبِّكَ} أي الرب الذي تعبده و تدعو إليه، و إضافة الرب ثانيا إلى العزة المفيد لاختصاصه تعالى بالعزة فهو منيع الجانب على الإطلاق فلا يذله مذل و لا يغلبه غالب و لا يفوته هارب فالمشركون أعداء الحق المهددون بالعذاب ليسوا له بمعجزين. 

  • قوله تعالى: {وَ سَلاَمٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ} تسليم على عامة المرسلين و صون لهم من أن يصيبهم من قبله تعالى ما يسوؤهم و يكرهونه. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور، أخرج محمد بن نضر و ابن عساكر عن العلاء بن سعيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال يوما لجلسائه: أطت السماء و حق لها أن تئط، ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرأ {وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ}.

  •  أقول: و روي هذا المعنى عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ بغير هذا الطريق. 

  • و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان إذا قام إلى الصلاة قال: استووا تقدم يا فلان تأخر يا فلان أقيموا صفوفكم يريد الله بكم هدى الملائكة ثم يتلو: {وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ}

  • و في نهج البلاغة:‌ قال (عليه السلام) في وصف الملائكة: و صافون لا يتزايلون و مسبحون لا يسأمون. 

تفسير الميزان ج۱۷

180
  • (٣٨) سورة ص مكية و هي ثمان و ثمانون آية (٨٨) 

  • [سورة ص (٣٨): الآیات ١ الی ١٦]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ ١ بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقَاقٍ ٢ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَ لاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ٣ وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ٤ أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْ‌ءٌ عُجَابٌ ٥ وَ اِنْطَلَقَ اَلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلى‌ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْ‌ءٌ يُرَادُ ٦ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي اَلْمِلَّةِ اَلْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اِخْتِلاَقٌ ٧ أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ٨ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهَّابِ ٩ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي اَلْأَسْبَابِ ١٠جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزَابِ ١١ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو اَلْأَوْتَادِ ١٢ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحَابُ اَلْأَيْكَةِ أُولَئِكَ اَلْأَحْزَابُ ١٣ إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ١٤ وَ مَا يَنْظُرُ هَؤُلاَءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ١٥ وَ قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسَابِ ١٦} 

تفسير الميزان ج۱۷

181
  • (بيان) 

  • يدور الكلام في السورة حول كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) منذرا بالذكر النازل عليه من عند الله سبحانه الداعي إلى التوحيد و إخلاص العبودية له تعالى. 

  • فتبدأ بذكر اعتزاز الكفار و شقاقهم و بالجملة استكبارهم عن اتباعه و الإيمان به و صد الناس عنه و تفوههم بباطل القول في ذلك و رده في فصل. 

  • ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و ذكر قصص عباده الأولين في فصل ثم يذكر مآل حال المتقين و الطاغين في فصل. ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإبلاغ نذارته و دعوته إلى توحيد الله و أن مآل أتباع الشيطان إلى النار على ما قضى به الله يوم أمر الملائكة بالسجدة لآدم فأبى إبليس فرجمه و قضى عليه و على من تبعه النار في فصل. 

  • و السورة مكية بشهادة سياق آياتها. 

  • قوله تعالى: {ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقَاقٍ} المراد بالذكر ذكر الله تعالى بتوحيده و ما يتفرع عليه من المعارف الحقة من المعاد و النبوة و غيرهما، و العزة الامتناع، و الشقاق‌ المخالفة، قال في مجمع البيان:‌ و أصله أن يصير كل من الفريقين في شق أي في جانب و منه يقال: شق فلان العصا إذا خالف انتهى. 

  • و المستفاد من سياق الآيات أن قوله: {وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ} قسم نظير ما في قوله: {يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ} {ق وَ اَلْقُرْآنِ اَلْمَجِيدِ} {ن وَ اَلْقَلَمِ} لا عطف على ما تقدمه، و أما المقسم عليه فالذي يدل عليه الإضراب في قوله: {بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقَاقٍ} أنه أمر يمتنع عن قبوله القوم و يكفرون به عزة و شقاقا و قد هلك فيه قرون كثيرة ثم ذكر إنذار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما قاله الكفار عليه و ما أمرهم به ملؤهم حول إنذاره (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ أنه أعني المقسم عليه نحو من قولنا: إنك لمن المنذرين، و يشهد على ذلك أيضا التعرض في السورة بإنذاره (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ بالذكر مرة بعد أخرى. 

  • و قد قيل في قوله: {ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ} من حيث الإعراب و المعنى وجوه كثيرة لا محصل لأكثرها تركنا إيرادها لعدم الجدوى. 

تفسير الميزان ج۱۷

182
  • و المعنى - و الله أعلم - أقسم بالقرآن المتضمن للذكر إنك لمن المنذرين بل الذين كفروا في امتناع عن قبوله و اتباعه و مخالفة له. 

  • قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَ لاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} القرن‌ أهل عصر واحد، و المناص‌ بالنون مصدر ناص ينوص أي تأخر كما أنه بالباء الموحدة بمعنى التقدم على ما في المجمع، و قيل: هو بمعنى الفرار. 

  • و المعنى: كثيرا ما أهلكنا من قبل هؤلاء الكفار من قرن و أمة بتكذيبهم الرسل المنذرين فنادوا عند نزول العذاب بالويل كقولهم: يا ويلنا إنا كنا ظالمين أو بالاستغاثة بالله سبحانه و ليس الحين حين تأخر الأخذ و العذاب أو ليس الحين حين فرار. 

  • قوله تعالى: {وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أي تعجبوا من مجي‌ء منذر من نوعهم بأن كان بشرا فإن الوثنية تنكر رسالة البشر. 

  • و قوله: {وَ قَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} يشيرون بهذا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يرمونه بالسحر لكونهم عاجزين عن الإتيان بمثل ما أتى به و هو القرآن، و بالكذب لزعمهم أنه يفتري على الله بنسبة القرآن و ما فيه من المعارف الحقة إليه تعالى. 

  • قوله تعالى: {أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْ‌ءٌ عُجَابٌ} العجاب‌ بتخفيف الجيم اسم مبالغة من العجب و هو بتشديد الجيم أبلغ. 

  • و هو من تتمة قول الكافرين و الاستفهام للتعجيب و الجعل بمعنى التصيير و هو كما قيل تصيير بحسب القول و الاعتقاد و الدعوى لا بحسب الواقع كما في قوله تعالى‌{ وَ جَعَلُوا اَلْمَلاَئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ إِنَاثاً} الزخرف: ١٩ فمعنى جعله (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ الآلهة إلها واحدا هو إبطاله ألوهية الآلهة من دون الله و حكمه بأن الإله هو الله لا إله إلا هو. 

  • قوله تعالى: {وَ اِنْطَلَقَ اَلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلى‌ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْ‌ءٌ يُرَادُ} نسبة الانطلاق إلى ملإهم و أشرافهم و قولهم ما قالوا يلوح إلى أن أشراف قريش اجتمعوا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليحلوا مشكلة دعوته إلى التوحيد و رفض الآلهة بنوع من الاستمالة و كلموه في ذلك فما وافقهم في شي‌ء منه ثم انطلقوا و قال بعضهم لبعض أو قالوا 

تفسير الميزان ج۱۷

183
  • لأتباعهم أن امشوا و اصبروا «إلخ» و هذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول مما سيجي‌ء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. 

  • و قوله: {أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلى‌ آلِهَتِكُمْ} بتقدير القول أي قائلين أن امشوا و اصبروا على آلهتكم و لا تتركوا عبادتها و إن عابها و قدح فيها، و ظاهر السياق أن القول قول بعضهم لبعض، و يمكن أن يكون قولهم لتبعتهم. 

  • و قوله: {إِنَّ هَذَا لَشَيْ‌ءٌ يُرَادُ} ظاهره أنه إشارة إلى ما يدعو إليه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يطلبه و أن مطلوبه شي‌ء يراد بالطبع و هو السيادة و الرئاسة و إنما جعل الدعوة ذريعة إليه فهو نظير قول الملإ من قوم نوح لعامتهم: ‌{مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} المؤمنون: ٢٤. 

  • و قيل: المعنى إن هذا الذي شاهدناه من إسراره (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ على ما يطلبه و تصلبه في دينه لشي‌ء عظيم يراد من قبله. 

  • و قيل: المعنى إن هذا الأمر لشي‌ء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا أن تمشوا و تصبروا. 

  • و قيل: المعنى إن الصبر خلق محمود يراد منا في مثل هذه الموارد، و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة لا يلائمها السياق. 

  • قوله تعالى: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي اَلْمِلَّةِ اَلْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اِخْتِلاَقٌ} أرادوا بالملة الآخرة المذهب الذي تداوله الآخرون من الأمم المعاصرين لهم أو المقارنين لعصرهم قبال الملل الأولى التي تداولها الأولون كأنهم يقولون: ليس هذا من الملة الآخرة التي يرتضيها أهل الدنيا اليوم بل من أساطير الأولين. 

  • و قيل: المراد بالملة الآخرة النصرانية لأنها آخر الملل و هم لا يقولون بالتوحيد بل بالتثليث. و ضعفه ظاهر إذ لم يكن للنصرانية وقع عندهم كالإسلام. 

  • و قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ اِخْتِلاَقٌ} أي كذب و افتعال. 

  • قوله تعالى: {أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} استفهام إنكاري بداعي التكذيب أي لا مرجح عند محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) يترجح به علينا فينزل عليه الذكر دوننا فهو في إنكار 

تفسير الميزان ج۱۷

184
  • الاختصاص بنزول الذكر نظير قولهم: ما أنت إلا بشر مثلنا في نفي الاختصاص بالرسالة. 

  • قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} إضراب عن جميع ما قالوه أي إنهم لم يقولوا عن إيمان و اعتقاد به بل هم في شك من ذكري و هو القرآن. 

  • و ليس شكهم فيه من جهة خفاء دلالة آية النبوة و قصورها عن إفادة اليقين بل تعلق قلوبهم بما عندهم من الباطل و لزومهم التقليد يصرفهم عن النظر في دلالة الآية الإلهية المعجزة فشكوا في الذكر و الحال أنه آية معجزة. 

  • و قوله: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} إضراب عن الإضراب أي ليس إنكارهم و عدم إيمانهم به عن شك منهم فيه بل لأنهم لعتوهم و استكبارهم لا يعترفون بحقيته و لو لم يكن شك، حتى يذوقوا عذابي فيضطروا إلى الاعتراف كما فعل غيرهم. 

  • و في قوله: {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} أي لم يذوقوا بعد عذابي، تهديد بعذاب واقع. 

  • قوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهَّابِ} الكلام في موقع الإضراب و {أَمْ} منقطعة و الكلام ناظر إلى قولهم: {أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} أي بل أ عندهم خزائن رحمة ربك التي ينفق منها على من يشاء حتى يمنعوك منها بل هي له تعالى و هو أعلم حيث يجعل رسالته و يخص برحمته من يشاء. 

  • و تذييل الكلام بقوله: {اَلْعَزِيزِ اَلْوَهَّابِ} لتأييد محصل الجملة أي ليس عندهم شي‌ء من خزائن رحمته لأنه عزيز منيع جانبه لا يداخل في أمره أحد، و لا لهم أن يصرفوا رحمته عن أحد لأنه وهاب كثير الهبات. 

  • قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي اَلْأَسْبَابِ} {أَمْ} منقطعة، و الأمر في قوله: {فَلْيَرْتَقُوا} للتعجيز و الارتقاء الصعود، و الأسباب‌ المعارج و المناهج‌ التي يتوسل بها إلى الصعود إلى السماوات و يمكن أن يراد بارتقاء الأسباب التسبيب بالعلل و الحيل الذي يحصل به لهم المنع و الصرف. 

  • و المعنى: بل لهم ملك السماوات و الأرض فيكون لهم أن يتصرفوا فيها فيمنعوا 

تفسير الميزان ج۱۷

185
  • نزول الوحي السماوي إلى بشر أرضي فإن كان كذلك فليصعدوا معارج السماوات أو فليتسببوا الأسباب و ليمنعوا من نزول الوحي عليك. 

  • قوله تعالى: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزَابِ} الهزيمة الخذلان و {مِنَ اَلْأَحْزَابِ} بيان لقوله: {جُنْدٌ مَا} و {مَا} للتقليل و التحقير، و الكلام مسوق لتحقير أمرهم رغما لما يشعر به ظاهر كلامهم من التعزز و الإعجاب بأنفسهم. 

  • يدل على ذلك تنكير {جُنْدٌ} و تتميمه بلفظة {مَا} و الإشارة إلى مكانتهم بهنالك الدال على البعيد و عدهم من الأحزاب المتحزبين على الرسل الذين قطع الله دابر الماضين منهم كما سيذكر و لذلك عد هذا الجند مهزوما قبل انهزامهم. 

  • و المعنى: هم جند ما أقلاء أذلاء منهزمون هنالك من أولئك الأحزاب المتحزبين على الرسل الذين كذبوهم فحق عليهم عقابي. 

  • قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو اَلْأَوْتَادِ} - إلى قوله - {فَحَقَّ عِقَابِ} ذو الأوتاد وصف فرعون و الأوتاد جمع وتد و هو معروف. قيل: سمي بذي الأوتاد لأنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها، و قيل: لأنه كان يعذب من غضب عليه من المجرمين بالأوتاد يوتد يديه و رجليه و رأسه على الأرض فيعذبه و قيل: معناه ذو الجنود أوتاد الملك، و قيل: غير ذلك من الوجوه، و لا دليل على شي‌ء منها يعول عليه. 

  • و أصحاب الأيكة قوم شعيب و قد تقدم في سورة الحجر و الشعراء، و قوله: {فَحَقَّ عِقَابِ} أي ثبت في حقهم و استقر فيهم عقابي فأهلكتهم. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا يَنْظُرُ هَؤُلاَءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} النظر الانتظار و الفواق‌ الرجوع و المهلة اليسيرة، و المعنى و ما ينتظر هؤلاء المكذبون من أمتك إلا صيحة واحدة تقضي عليهم و تهلكهم ما لها من رجوع أو مهلة و هي عذاب الاستئصال. 

  • قالوا: و المراد من الصيحة صيحة يوم القيامة لأن أمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) مؤخر عنهم العذاب إلى قيام الساعة، و قد عرفت في تفسير سورة يونس أن ظاهر آيات الكتاب يعطي خلاف ذلك فراجع. 

تفسير الميزان ج۱۷

186
  •  قوله تعالى: {وَ قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسَابِ} القط النصيب و الحظ، و هذه الكلمة استعجال منهم للعذاب قبل يوم القيامة استهزاء بحديث يوم الحساب و الوعيد بالعذاب فيه. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أقبل أبو جهل بن هشام و معه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا و آذى آلهتنا فادعه و مره فليكف عن آلهتنا و نكف عن إلهه. 

  • قال: فبعث أبو طالب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فدعاه فلما دخل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لم ير في البيت إلا مشركا فقال: السلام على من اتبع الهدى ثم جلس فخبره أبو طالب بما جاءوا به فقال: أ و هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب و يطئون أعناقهم؟ فقال أبو جهل: نعم و ما هذه الكلمة؟ قال: تقولون: لا إله إلا الله. 

  • قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم و خرجوا و هم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق فأنزل الله في قولهم: {ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ} - إلى قوله - {إِلاَّ اِخْتِلاَقٌ}.

  • و في تفسير القمي‌ في قوله تعالى: {وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} قال: لما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الدعوة اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سفه أحلامنا و سب آلهتنا و أفسد شبابنا و فرق جماعتنا فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا حتى يكون أغنى رجل في قريش و نملكه علينا. 

  • فأخبر أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بذلك فقال: و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري ما أردته و لكن يعطونني كلمة يملكون بها العرب و يدين لهم بها العجم و يكونون ملوكا في الجنة فقال لهم أبو طالب ذلك فقالوا: نعم و عشر كلمات فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تشهدون أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فقالوا: ندع ثلاثمائة و ستين إلها و نعبد إلها واحدا؟. 

تفسير الميزان ج۱۷

187
  • فأنزل الله سبحانه: {وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} - إلى قوله - {إِلاَّ اِخْتِلاَقٌ} أي تخليط {أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} - إلى قوله - {مِنَ اَلْأَحْزَابِ} يعني الذين تحزبوا عليه يوم الأحزاب. 

  • أقول: و القصة مروية من طريق أهل السنة أيضا و في بعض رواياتهم أنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ لما عرض عليهم كلمة التوحيد قالوا له: سلنا غير هذه قال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا و قالوا و الكلمة كناية عن تمليكهم إياه زمام نظام العالم الأرضي فإن الشمس و القمر من أعظم المؤثرات فيه، و قد أخذ على ما يظهر أن للحسن من القدر ليصح ما أريد من التمثيل. 

  • و في العلل، بإسناده إلى إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) كيف صارت الصلاة ركعة و سجدتين؟ و كيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين؟ فقال: إذا سألت عن شي‌ء ففرغ قلبك لتفهم. إن أول صلاة صلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك و تعالى قدام عرشه. 

  • و ذلك أنه لما أسري به و صار عند عرشه قال يا محمد ادن من صاد فاغسل مساجدك و طهرها و صل لربك فدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى حيث أمره الله تبارك و تعالى فتوضأ و أسبغ وضوءه. 

  • قلت: جعلت فداك و ما صاد الذي أمر أن يغتسل منه؟ فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال لها ماء الحيوان و هو ما قال الله عز و جل: {ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ} (الحديث). 

  • أقول: و روي هذا المعنى أعني أن (ص) نهر يخرج من ساق العرش في المعاني، عن سفيان الثوري عن الصادق (عليه السلام) ‌ و روي ذلك في مجمع البيان، عن ابن عباس: أنه اسم من أسماء الله تعالى قال: و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام).

  • و في المعاني، بإسناده إلى الأصبغ عن علي (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {وَ قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسَابِ} قال: نصيبهم من العذاب. 

تفسير الميزان ج۱۷

188
  • [سورة ص (٣٨): الآیات ١٧ الی ٢٩]

  • {اِصْبِرْ عَلىَ مَا يَقُولُونَ وَ اُذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ١٧ إِنَّا سَخَّرْنَا اَلْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرَاقِ ١٨ وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ١٩ وَ شَدَدْنَا مُلْكَهُ وَ آتَيْنَاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطَابِ ٢٠وَ هَلْ أَتَاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا اَلْمِحْرَابَ ٢١ إِذْ دَخَلُوا عَلى‌ دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغى‌ بَعْضُنَا عَلى‌ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ لاَ تُشْطِطْ وَ اِهْدِنَا إِلى‌ سَوَاءِ اَلصِّرَاطِ ٢٢ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطَابِ ٢٣ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلى‌ نِعَاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ قَلِيلٌ مَا هُمْ وَ ظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رَاكِعاً وَ أَنَابَ ٢٤ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفى‌ وَ حُسْنَ مَآبٍ ٢٥ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لاَ تَتَّبِعِ اَلْهَوى‌ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ ٢٦ 

تفسير الميزان ج۱۷

189
  • وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ ٢٧ أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ٢٨ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ ٢٩} 

  • (بيان) 

  • لما حكى سبحانه عن المشركين رميهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و دعوته الحقة باختلاق و أنها ذريعة إلى التقدم و الرئاسة و أنه لا مرجح له عليهم حتى يختص بالرسالة و الإنذار. ثم استهزائهم بيوم الحساب و عذابه الذي ينذرون به، أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و أن لا يزلزله هفواتهم و لا يوهن عزمه و أن يذكر عدة من عباده الأوابين له الراجعين إليه فيما دهمهم من الحوادث. 

  • و هؤلاء تسعة من الأنبياء الكرام ذكرهم الله سبحانه: داود و سليمان و أيوب و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و إسماعيل و اليسع و ذو الكفل (عليهم السلام) ، و بدأ بداود (عليه السلام) و ذكر بعض قصصه. 

  • قوله تعالى: {اِصْبِرْ عَلىَ مَا يَقُولُونَ وَ اُذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} الأيد القوة و كان (عليه السلام) ذا قوة في تسبيحه تعالى يسبح و يسبح معه الجبال و الطير و ذا قوة في ملكه و ذا قوة في علمه و ذا قوة و بطش في الحروب و قد قتل جالوت الملك كما قصه الله في سورة البقرة. 

  • و الأواب‌ اسم مبالغة من الأوب بمعنى الرجوع و المراد به كثرة رجوعه إلى ربه. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا اَلْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرَاقِ} الظاهر أن {مَعَهُ} متعلق بقوله: {يُسَبِّحْنَ} و جملة {مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} بيان لمعنى التسخير و قدم الظرف لتعلق العناية بتبعيتها لداود و اقتدائها في التسبيح لكن قوله تعالى في موضع 

تفسير الميزان ج۱۷

190
  • آخر: {وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ اَلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ} الأنبياء: ٧٩ يؤيد تعلق الظرف بسخرنا، و قد وقع في موضع آخر من كلامه تعالى: ‌{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ } سبأ: ١٠. و العشي‌ و الإشراق‌ الرواح و الصباح. 

  • و قوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا} إلخ «إن» فيه للتعليل و الآية و ما عطف عليها من الآيات بيان لكونه (عليه السلام) ذا أيد في تسبيحه و ملكه و علمه و كونه أوابا إلى ربه. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} المحشورة من الحشر بمعنى الجمع بإزعاج أي و سخرنا معه الطير مجموعة له تسبح معه. 

  • و قوله: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} استئناف يقرر ما تقدمه من تسبيح الجبال و الطير أي كل من الجبال و الطير أواب أي كثير الرجوع إلينا بالتسبيح فإن التسبيح من مصاديق الرجوع إليه تعالى. و يحتمل رجوع ضمير {لَهُ} إلى داود على بعد. 

  • و لم يكن تأييد داود (عليه السلام) في أصل جعله تعالى للجبال و الطير تسبيحا فإن كل شي‌ء مسبح لله سبحانه قال تعالى: ‌{وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الإسراء: ٤٤ بل في موافقة تسبيحها لتسبيحه و قرع تسبيحها أسماع الناس و قد تقدم كلام في معنى تسبيح الأشياء لله سبحانه في تفسير قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الآية) و أنه بلسان القال دون لسان الحال. 

  • قوله تعالى: {وَ شَدَدْنَا مُلْكَهُ وَ آتَيْنَاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطَابِ} قال الراغب: الشد العقد القوي يقال شددت الشي‌ء قويت عقده. انتهى فشد الملك من الاستعارة بالكناية و المراد به تقوية الملك و تحكيم أساسه بالهيبة و الجنود و الخزائن و حسن التدبير و سائر ما يتقوى به الملك. 

  • و الحكمة في الأصل بناء نوع من الحكم و المراد بها المعارف الحقة المتقنة التي تنفع الإنسان و تكمله، و قيل: المراد النبوة، و قيل الزبور و علم الشرائع، و قيل غير ذلك و هي وجوه ردية. 

  • و فصل الخطاب تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة واحد لغيره و تمييز حقه من باطله و ينطبق على القضاء بين المتخاصمين في خصامهم. 

تفسير الميزان ج۱۷

191
  • و قيل: المراد به الكلام القصد ليس بإيجازه مخلا و لا بإطنابه مملا، و قيل: فصل الخطاب قول أما بعد فهو (عليه السلام) أول من قال: أما بعد، و الآية التالية {وَ هَلْ أَتَاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ} إلخ تؤيد ما قدمناه. 

  • قوله تعالى: {وَ هَلْ أَتَاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا اَلْمِحْرَابَ} الخصم مصدر كالخصومة أريد به القوم الذي استقر فيهم الخصومة، و التسور الارتقاء إلى أعلى السور و هو الحائط الرفيع كالتسنم‌ بمعنى الارتقاء إلى سنام البعير و التذري‌ بمعنى الارتقاء إلى ذروة الجبل، و قد فسر المحراب بالغرفة و العلية، و الاستفهام للتعجيب و التشويق إلى استماع الخبر. 

  • و المعنى هل أتاك يا محمد خبر القوم المتخاصمين إذ علوا سور المحراب محراب داود (عليه السلام). 

  • قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلى‌ دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} إلى آخر الآية لفظة {إِذْ} هذه ظرف لقوله: {تَسَوَّرُوا} كما أن {إِذْ} الأولى ظرف لقوله: {نَبَأُ اَلْخَصْمِ} و محصل المعنى أنهم دخلوا على داود و هو في محرابه لا من الطريق العادي بل بتسوره بالارتقاء إلى سوره و الورود عليه منه و لذا فزع منهم لما رآهم دخلوا عليه من غير الطريق العادي و بغير إذن. 

  • و قوله: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} قال الراغب: الفزع‌ انقباض و نفار يعتري الإنسان من الشي‌ء المخيف و هو من جنس الجزع و لا يقال: فزعت من الله كما يقال: خفت منه. انتهى. 

  • و قد تقدم أن الخشية تأثير القلب بحيث يستتبع الاضطراب و القلق و هي رذيلة مذمومة إلا الخشية من الله سبحانه و لذا كان الأنبياء (عليهم السلام) لا يخشون غيره قال تعالى: ‌{وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ} الأحزاب: ٣٩. 

  • و أن الخوف هو التأثير عن المكروه في مقام العمل بتهيئة ما يتحرز به من الشر و يدفع به المكروه لا في مقام الإدراك فليس برذيلة مذمومة لذاته بل هو حسن فيما يحسن الاتقاء قال تعالى خطابا لرسوله‌: {وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} الأنفال: ٥٨. 

  • و إذا كان الفزع هو الانقباض و النفار الحاصل من الشي‌ء المخوف كان أمرا راجعا 

تفسير الميزان ج۱۷

192
  • إلى مقام العمل دون الإدراك فلم يكن رذيلة بذاته بل كان فضيلة عند تحقق مكروه ينبغي التحرز منه فلا ضير في نسبته إلى داود (عليه السلام) في قوله: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} و هو من الأنبياء الذين لا يخشون إلا الله. 

  • و قوله: {قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغىَ بَعْضُنَا عَلىَ بَعْضٍ} لما رأوا ما عليه داود (عليه السلام) من الفزع أرادوا تطييب نفسه و إسكان روعه فقالوا: {لاَ تَخَفْ} و هو نهي عن الفزع بالنهي عن سببه الذي هو الخوف {خَصْمَانِ بَغىَ} إلخ أي نحن خصمان أي فريقان متخاصمان تجاوز بعضنا ظلما على بعض. 

  • و قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ لاَ تُشْطِطْ} إلخ الشطط الجور أي فاحكم بيننا حكما مصاحبا للحق و لا تجر في حكمك و دلنا على وسط العدل من الطريق. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي} إلى آخر الآية بيان لخصومتهم و قوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي} كلام لواحد من أحد الفريقين يشير إلى آخر من الفريق الآخر بأن هذا أخ له إلخ. 

  • و بهذا يظهر فساد ما استدل بعضهم بالآية على أن أقل الجمع اثنان لظهور قوله: {إِذْ تَسَوَّرُوا} {إِذْ دَخَلُوا} في كونهم جمعا و دلالة قوله: {خَصْمَانِ} {هَذَا أَخِي} على الاثنينية. 

  • و ذلك لجواز أن يكون في كل واحد من جانبي التثنية أكثر من فرد واحد قال تعالى: ‌{هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا} الخ: الحج: ١٩ و جواز أن يكون أصل الخصومة بين فردين ثم يلحق بكل منهما غيره لإعانته في دعواه. 

  • و قوله: {لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطَابِ} النعجة الأنثى من الضأن، و {أَكْفِلْنِيهَا} أي اجعلها في كفالتي و تحت سلطتي و {عَزَّنِي فِي اَلْخِطَابِ} أي غلبني فيه و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلىَ نِعَاجِهِ } - إلى قوله - {وَ قَلِيلٌ مَا هُمْ} جواب داود (عليه السلام) ، و لعله قضاء تقديري قبل استماع كلام المتخاصم الآخر فإن من الجائز أن يكون عنده من القول ما يكشف عن كونه محقا فيما يطلبه و يقترحه على 

تفسير الميزان ج۱۷

193
  • صاحبه لكن صاحب النعجة الواحدة ألقى كلامه بوجه هيج الرحمة و العطوفة منه (عليه السلام) فبادر إلى هذا التصديق التقديري فقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلى‌ نِعَاجِهِ}

  • فاللام للقسم، و السؤال - على ما قيل - مضمن معنى الإضافة و لذا عدي إلى المفعول الثاني بإلى، و المعنى أقسم لقد ظلمك بسؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه. 

  • و قوله: {وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ قَلِيلٌ مَا هُمْ} من تمام كلام داود (عليه السلام) يقرر به كلامه الأول و الخلطاء الشركاء المخالطون. 

  • قوله تعالى: {وَ ظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رَاكِعاً وَ أَنَابَ} أي علم داود أنما فتناه بهذه الواقعة أي أنها إنما كانت فتنة فتناه بها و الفتنة الامتحان، و قيل: ظن بمعناه المعروف الذي هو خلاف اليقين و ذكر استغفاره و توبته مطلقين يؤيد ما قدمناه و لو كان الظن بمعناه المعروف كان الاستغفار و التوبة على تقدير كونها فتنة واقعا و إطلاق اللفظة يدفعه، و الخر - على ما ذكره الراغب - سقوط يسمع منه خرير و الخرير يقال لصوت الماء و الريح و غير ذلك مما يسقط من علو، و الركوع - على ما ذكره - مطلق الانحناء. 

  • و الإنابة إلى الله - على ما ذكره الراغب - الرجوع إليه بالتوبة و إخلاص العمل و هي من النوب بمعنى رجوع الشي‌ء مرة بعد أخرى. 

  • و المعنى: و علم داود أن هذه الواقعة إنما كانت امتحانا امتحناه و أنه أخطأ فاستغفر ربه - مما وقع منه - و خر منحنيا و تاب إليه. 

  • و أكثر المفسرين تبعا للروايات على أن هؤلاء الخصم الداخلين على داود (عليه السلام) كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه و ستعرف حال الروايات. 

  • لكن خصوصيات القصة كتسورهم المحراب و دخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه، و كذا تنبهه بأنه إنما كان فتنة من الله له لا واقعة عادية، و قوله تعالى بعد: {فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لاَ تَتَّبِعِ اَلْهَوى‌} الظاهر في أن الله ابتلاه بما ابتلى 

تفسير الميزان ج۱۷

194
  • لينبهه و يسدده في خلافته و حكمه بين الناس، كل ذلك يؤيد كونهم من الملائكة و قد تمثلوا له في صورة رجال من الإنس. 

  • و على هذا فالواقعة تمثل، تمثل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لأحدهما نعجة واحدة يسألها آخر له تسع و تسعون نعجة و سألوه القضاء فقال لصاحب النعجة الواحدة: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} إلخ و كان قوله (عليه السلام) - لو كان قضاء منجزا - حكما منه في ظرف التمثل كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال و حكم فيهم بما حكم و من المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثل كما لا تكليف في عالم الرؤيا و إنما التكليف في عالمنا المشهود و هو عالم المادة و لم تقع الواقعة فيه و لا كان هناك متخاصمان و لا نعجة و لا نعاج إلا في ظرف التمثل فكانت خطيئة داود (عليه السلام) في هذا الظرف من التمثل و لا تكليف هناك كخطيئة آدم (عليه السلام) في الجنة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض و تشريع الشرائع و جعل التكاليف، و استغفاره و توبته مما صدر منه كاستغفار آدم و توبته مما صدر منه و قد صرح الله بخلافته في كلامه كما صرح بخلافة آدم (عليه السلام) في كلامه و قد مر توضيح ذلك في قصة آدم (عليه السلام) من سورة البقرة في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و أما على قول بعض المفسرين من أن المتخاصمين الداخلين عليه كانوا بشرا و القصة على ظاهرها فينبغي أن يؤخذ قوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} إلخ قضاء تقديريا أي إنك مظلوم لو لم يأت خصيمك بحجة بينة، و إنما ذلك لحفظ على ما قامت عليه الحجة من طريقي العقل و النقل أن الأنبياء معصومون بعصمة من الله لا يجوز عليهم كبيرة و لا صغيرة. 

  • على أن الله سبحانه صرح قبلا بأنه آتاه الحكمة و فصل الخطاب و لا يلائم ذلك خطأه في القضاء. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفى‌ وَ حُسْنَ مَآبٍ} الزلفة و الزلفى‌ المنزلة و الحظوة، و المآب‌ المرجع، و تنكير {لَزُلْفى‌} و {مَآبٍ} للتفخيم، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآية الظاهر أن الكلام بتقدير القول و التقدير فغفرنا له ذلك و قلنا يا داود إلخ. 

  • و ظاهر الخلافة أنها خلافة الله فتنطبق على ما في قوله تعالى‌{وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً} البقرة: ٣٠و من شأن الخلافة أن يحاكي الخليفة 

تفسير الميزان ج۱۷

195
  • من استخلفه في صفاته و أعماله فعلى خليفة الله في الأرض أن يتخلق بأخلاق الله و يريد و يفعل ما يريده الله و يحكم و يقضي بما يقضي به الله و الله يقضي بالحق و يسلك سبيل الله و لا يتعداها. 

  • و لذلك فرع على جعل خلافته قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ} و هذا يؤيد أن المراد بجعل خلافته إخراجها من القوة إلى الفعل في حقه لا مجرد الخلافة الشأنية لأن الله أكمله في صفاته و آتاه الملك يحكم بين الناس. 

  • و قول بعضهم: إن المراد بخلافته المجعولة خلافته ممن قبله من الأنبياء و تفريع قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ} لأن الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل أو أن المترتب هو مطلق الحكم بين الناس الذي هو من آثار الخلافة و تقييده بالحق لأن سداده به، تصرف في اللفظ من غير شاهد. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَتَّبِعِ اَلْهَوىَ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} العطف و المقابلة بينه و بين ما قبله يعطيان أن المعنى و لا تتبع في قضائك الهوى هوى النفس فيضلك عن الحق الذي هو سبيل الله فتفيد الآية أن سبيل الله هو الحق. 

  • قال بعضهم: إن في أمره (عليه السلام) بالحكم بالحق و نهيه عن اتباع الهوى تنبيها لغيره ممن يلي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق و لا يتبع الباطل و إلا فهو (عليه السلام) من حيث إنه معصوم لا يحكم إلا بالحق و لا يتبع الباطل. 

  • و فيه أن أمر تنبيه غيره بما وجه إليه من التكليف في محله لكن عصمة المعصوم و عدم حكمه إلا بالحق لا يمنع توجه التكليف بالأمر و النهي إليه فإن العصمة لا توجب سلب اختياره و ما دام اختياره باقيا جاز بل وجب توجه التكليف إليه كما يتوجه إلى غيره من الناس، و لو لا توجه التكليف إلى المعصوم لم يتحقق بالنسبة إليه واجب و محرم و لم تتميز طاعة من معصية فلغا معنى العصمة التي هي المصونية عن المعصية. 

  • و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ} تعليل للنهي عن اتباع الهوى بأنه يلازم نسيان يوم الحساب و في نسيانه عذاب شديد و المراد بنسيانه عدم الاعتناء بأمره. 

  • و في الآية دلالة على أن كل ضلال عن سبيل الله سبحانه بمعصية من المعاصي لا 

تفسير الميزان ج۱۷

196
  • ينفك عن نسيان يوم الحساب. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} إلى آخر الآية، لما انتهى الكلام إلى ذكر يوم الحساب عطف عنان البيان عليه فاحتج عليه بحجتين إحداهما ما ساقه في هذه الآية بقوله: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ} إلخ و هو احتجاج من طريق الغايات إذ لو لم يكن خلق السماء و الأرض و ما بينهما و هي أمور مخلوقة مؤجلة توجد و تفنى مؤديا إلى غاية ثابتة باقية غير مؤجلة كان باطلا و الباطل بمعنى ما لا غاية له ممتنع التحقق في الأعيان. على أنه مستحيل من الحكيم و لا ريب في حكمته تعالى. 

  • و ربما أطلق الباطل و أريد به اللعب و لو كان المراد ذلك كانت الآية في معنى قوله‌{وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} الدخان: ٣٩. 

  • و قيل: الآية عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل: و لا تتبع الهوى لأنه يكون سببا لضلالك و لأنه تعالى لم يخلق العالم لأجل اتباع الهوى و هو الباطل بل خلقه للتوحيد و متابعة الشرع. 

  • و فيه أن الآية التالية: {أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ} إلخ لا تلائم هذا المعنى. 

  • و قوله: {ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ} أي خلق العالم باطلا لا غاية له و انتفاء يوم الحساب الذي يظهر فيه ما ينتجه حساب الأمور ظن الذين كفروا بالمعاد فويل لهم من عذاب النار. 

  • قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} هذه هي الحجة الثانية على المعاد و تقريرها أن للإنسان كسائر الأنواع كمالا بالضرورة و كمال الإنسان هو خروجه في جانبي العلم و العمل من القوة إلى الفعل بأن يعتقد الاعتقادات الحقة و يعمل الأعمال الصالحة اللتين يهديه إليهما فطرته الصحيحة و هما الإيمان بالحق و العمل الصالح اللذين بهما يصلح المجتمع الإنساني الذي في الأرض. 

  • فالذين آمنوا و عملوا الصالحات و هم المتقون هم الكاملون من الإنسان و المفسدون 

تفسير الميزان ج۱۷

197
  • في الأرض بفساد اعتقادهم و عملهم و هم الفجار هم الناقصون الخاسرون في إنسانيتهم حقيقة، و مقتضى هذا الكمال و النقص أن يكون بإزاء الكمال حياة سعيدة و عيش طيب و بإزاء خلافه خلاف ذلك. 

  • و من المعلوم أن هذه الحياة الدنيا التي يشتركان فيها هي تحت سيطرة الأسباب و العوامل المادية و نسبتها إلى الكامل و الناقص و المؤمن و الكافر على السواء فمن أجاد العمل و وافقته الأسباب المادية فاز بطيب العيش و من كان على خلاف ذلك لزمه الشقاء و ضنك المعيشة. 

  • فلو كانت الحياة مقصورة على هذه الحياة الدنيوية التي نسبتها إلى الفريقين على السواء و لم تكن هناك حياة تختص بكل منهما و تناسب حاله كان ذلك منافيا للعناية الإلهية بإيصال كل ذي حق حقه و إعطاء المقتضيات ما تقتضيه. 

  • و إن شئت فقل: تسوية۱ بين الفريقين و إلغاء ما يقتضيه صلاح هذا و فساد ذلك خلاف عدله تعالى. 

  • و الآية - كما ترى - لا تنفي استواء حال المؤمن و الكافر و إنما قررت المقابلة بين من آمن و عمل صالحا و بين من لم يكن كذلك سواء كان غير مؤمن أو مؤمنا غير صالح و لذا أتت بالمقابلة ثانيا بين المتقين و الفجار. 

  • قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ} أي هذا كتاب من وصفه كذا و كذا، و توصيفه بالإنزال المشعر بالدفعة دون التنزيل الدال على التدريج لأن ما ذكر من التدبر و التذكر يناسب اعتباره مجموعا لا نجوما مفرقة. 

  • و المقابلة بين {لِيَدَّبَّرُوا} و {لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ} تفيد أن المراد بضمير الجمع الناس عامة. 

  • و المعنى: هذا كتاب أنزلناه إليك كثير الخيرات و البركات للعامة و الخاصة ليتدبره الناس فيهتدوا به أو تتم لهم الحجة و ليتذكر به أولو الألباب فيهتدوا إلى الحق باستحضار حجته و تلقيها من بيانه. 

    1. الحجة الأولى برهانية و الثانية جدلية. 

تفسير الميزان ج۱۷

198
  • (بحث روائي) 

  • روي في الدر المنثور، بطريق عن أنس و عن مجاهد و السدي و بعدة طرق عن ابن عباس قصة دخول الخصم على داود (عليه السلام) على اختلاف ما في الروايات و روى مثلها القمي في تفسيره، و رواها في العرائس، و غيره و قد لخصها في مجمع البيان، كما يأتي: 

  • أن داود كان كثير الصلاة فقال: يا رب فضلت علي إبراهيم فاتخذته خليلا و فضلت علي موسى فكلمته تكليما فقال: يا داود إنا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله فإن شئت ابتليتك فقال: نعم يا رب فابتلني. 

  • فبينا هو في محرابه ذات يوم إذ وقعت حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة المحراب فذهب ليأخذها فاطلع من الكوة فإذا امرأة «أوريا بن حيان» تغتسل فهواها و هم بتزويجها فبعث بأوريا إلى بعض سراياه و أمر بتقديمه أمام التابوت الذي فيه السكينة ففعل ذلك و قتل. 

  • فلما انقضت عدتها تزوجها و بنى بها فولد له منها سليمان فبينا هو ذات يوم في محرابه إذ دخل عليه رجلان ففزع منهما فقالا: لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض - إلى قوله - و قليل ما هم، فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثم ضحك فتنبه داود على أنهما ملكان بعثهما الله إليه في صورة خصمين ليبكتاه على خطيئته فتاب و بكى حتى نبت الزرع من كثرة دموعه. 

  • ثم قال في المجمع - و نعم ما قال -: إنه مما لا شبهة في فساده فإن ذلك مما يقدح في العدالة فكيف يجوز أن يكون أنبياء الله الذين هم أمناؤه على وحيه و سفراؤه بينه و بين خلقه بصفة من لا تقبل شهادته و على حالة تنفر عن الاستماع إليه و القبول منه. 

  • أقول: و القصة مأخوذة من التوراة غير أن التي فيها أشنع و أفظع فعدلت بعض التعديل على ما سيلوح لك. 

  • ففي التوراة ما ملخصه: و كان في وقت المساء أن داود قام عن سريره و تمشي على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم و كانت المرأة جميلة المنظر جدا. 

  • فأرسل داود و سأل عن المرأة فقيل: إنها «بتشبع» امرأة «أوريا الحتي» فأرسل 

تفسير الميزان ج۱۷

199
  • داود رسلا و أخذها فدخلت عليه فاضطجع معها و هي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها و حبلت المرأة فأرسلت و أخبرت داود أنها حبلى. 

  • و كان أوريا في جيش لداود يحاربون بني عمون فكتب داود إلى يوآب أمير جيشه يأمره بإرسال أوريا إليه و لما أتاه و أقام عنده أياما كتب مكتوبا إلى يوآب‌۱ و أرسله بيد أوريا، و كتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة و ارجعوا من ورائه فيضرب و يموت ففعل به ذلك فقتل و أخبر داود بذلك. 

  • فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات ندبت بعلها و لما مضت المناحة أرسل داود و ضمها إلى بيته و صارت له امرأة و ولدت له ابنا و أما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب. 

  • فأرسل الرب ناثان النبي إلى داود فجاء إليه و قال له كان رجلان في مدينة واحدة واحد منهما غني و الآخر فقير، و كان للغني غنم و بقر كثيرة جدا و أما الفقير فلم يكن له شي‌ء إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها و رباها فجاء ضيف إلى الرجل الغني فعفا أن يأخذ من غنمه و من بقره ليهيئ للضيف الذي جاء إليه فأخذ نعجة الرجل الفقير و هيأ لضيفه، فحمي غضب داود على الرجل جدا و قال لناثان: حي هو الرب إنه يقتل الرجل الفاعل ذلك و ترد النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر و لأنه لم يشفق. 

  • فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل يعاتبك الرب و يقول: سأقيم عليك الشر من بيتك و آخذ نساءك أمام عينيك و أعطيهن لقريبك فيضطجع معهن قدام جميع إسرائيل و قدام الشمس جزاء لما فعلت بأوريا و امرأته. 

  • فقال داود لناثان: قد أخطأت إلى الرب فقال ناثان لداود: الرب أيضا قد نقل عنك خطيئتك. لا تموت غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمرأعداء الرب يشمتون فالابن المولود لك من المرأة يموت، فأمرض الله الصبي سبعة أيام ثم قبضه ثم ولدت مرأة أوريا بعده لداود ابنه سليمان. 

  • و في العيون في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل و المقالات: قال 

    1. ملخص من الإصحاح الحادي عشر و الثاني عشر من صموئيل الثاني.

تفسير الميزان ج۱۷

200
  • الرضا (عليه السلام) لابن جهم: و أما داود فما يقول من قبلكم فيه؟ قال: يقولون: إن داود كان يصلي في محرابه إذ تصور له إبليس على صورة طيرأحسن ما يكون من الطيو فقطع داود صلاته و قام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حيان. 

  • فاطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها و كان قد أخرج أوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا أمام التابوت فقدم فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت فقدم فقتل أوريا و تزوج داود بامرأته. 

  • قال: فضرب الرضا (عليه السلام) يده على جبهته و قال: إنا لله و إنا إليه راجعون لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل. 

  • فقال: يا ابن رسول الله ما كانت خطيئته؟ فقال: ويحك إن داود (عليه السلام) إنما ظن أنه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه فبعث الله عز و جل إليه الملكين فتسورا المحراب فقالا: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق و لا تشطط و اهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع و تسعون نعجة و لي نعجة واحدة فقال أكفلنيها و عزني في الخطاب فعجل داود على المدعى عليه فقال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه و لم يسأل المدعي البينة على ذلك، و لم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه أ لا تسمع الله عز و جل يقول: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ} إلى آخر الآية. 

  • فقال: يا ابن رسول الله ما قصته مع أوريا؟ قال الرضا (عليه السلام): إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا فأول من أباح الله عز و جل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود (عليه السلام) فتزوج بامرأة أوريا لما قتل و انقضت عدتها فذلك الذي شق على الناس من قتل أوريا.

  • و في أمالي الصدوق، بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال لعلقمة: إن رضا الناس لا يملك و ألسنتهم لا تضبط أ لم ينسبوا داود (عليه السلام) إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها، و أنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها. (الحديث). 

تفسير الميزان ج۱۷

201
  • (كلام في قصص داود (عليه السلام) في فصول) 

  • ١ - قصته في القرآن 

  • لم يقع من قصته في القرآن إلا إشارات فقد ذكر سبحانه أنه كان في جيش طالوت الملك حين حارب جالوت فقتل داود فأتاه الله الملك بعد طالوت و الحكمة و علمه مما يشاء «البقرة: ٢٥١» و جعله خليفة له يحكم بين الناس و آتاه فصل الخطاب «ص‌: ٢٠و ٢٦» و قد أيد الله ملكه و سخر معه الجبال و الطير يسبحن معه «الأنبياء: ٧٩، ص ١٩» و ألان له الحديد يعمل و ينسج منه الدروع «الأنبياء: ٨٠سبأ: ١١».

  • ٢ - جميل الثناء عليه في القرآن 

  • عده سبحانه من الأنبياء و أثنى عليه بما أثنى عليهم و خصه بقوله: ‌{وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً }«النساء: ١٦٣» و آتاه فضلا و علما «سبأ: ١٠النمل: ١٥» و آتاه الحكمة و فصل الخطاب و جعله خليفة في الأرض «ص: ٢٠و ٢٦» و وصفه بأنه أواب و إن له عنده لزلفى و حسن مآب «ص: ١٩ و ٢٥». 

  • ٣ - حول قصة المتخاصمين 

  • التدبر في آيات الكتاب المتعرضة لقصة دخول المتخاصمين على داود (عليه السلام) لا يعطي أزيد من كونه امتحانا منه تعالى له (عليه السلام) في ظرف التمثل ليربيه تربية إلهية و يعلمه رسم القضاء العدل فلا يجور في الحكم و لا يعدل عن العدل. 

  • و أما ما تضمنته غالب الروايات من قصة أوريا و امرأته فهو مما يجل عنه الأنبياء و يتنزه عنه ساحتهم و قد تقدم في بيان الآيات و البحث الروائي محصل الكلام في ذلك. 

  • [سورة ص (٣٨): الآیات ٣٠الی ٤٠]

  • {وَ وَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ٣٠إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ اَلصَّافِنَاتُ اَلْجِيَادُ ٣١ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ٣٢ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ 

تفسير الميزان ج۱۷

202
  • مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ ٣٣ وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَ أَلْقَيْنَا عَلى‌ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ ٣٤ قَالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهَّابُ ٣٥ فَسَخَّرْنَا لَهُ اَلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ٣٦ وَ اَلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ ٣٧ وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفَادِ ٣٨ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ٣٩ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفى‌ وَ حُسْنَ مَآبٍ ٤٠} 

  • (بيان) 

  • القصة الثانية من قصص العباد الأوابين التي أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يصبر و يذكرها. 

  • قوله تعالى:{وَ وَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي وهبناه له ولدا و الباقي ظاهر مما تقدم. 

  • قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ اَلصَّافِنَاتُ اَلْجِيَادُ} العشي‌ مقابل الغداة و هو آخر النهار بعد الزوال، و الصافنات‌ على ما في المجمع، جمع الصافنة من الخيل و هي التي تقوم على ثلاث قوائم و ترفع إحدى يديها حتى تكون على طرف الحافر. قال: و الجياد جمع جواد و الياء هاهنا منقلبة عن واو و الأصل جواد و هي السراع من الخيل كأنها تجود بالركض. انتهى. 

  • قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} الضمير لسليمان، و المراد بالخير: الخيل - على ما قيل - فإن العرب تسمي الخيل خيرا و عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة. 

تفسير الميزان ج۱۷

203
  • و قيل: المراد بالخير المال الكثير و قد استعمل بهذا المعنى في مواضع من كلامه تعالى كقوله: ‌{إِنْ تَرَكَ خَيْراً} البقرة: ١٨٠. 

  • و قوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} قالوا: إن {أَحْبَبْتُ} مضمن معنى الإيثار و {عَنْ} بمعنى على، و المراد إني آثرت حب الخيل على ذكر ربي و هو الصلاة محبا إياه أو أحببت الخيل حبا مؤثرا إياه على ذكر ربي فاشتغلت بما عرض علي من الخيل عن الصلاة حتى غربت الشمس. 

  • و قوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} الضمير على ما قالوا للشمس و المراد بتواريها بالحجاب غروبها و استتارها تحت حجاب الأفق، و يؤيد هذا المعنى ذكر العشي في الآية السابقة إذ لو لا ذلك لم يكن غرض ظاهر يترتب على ذكر العشي. 

  • فمحصل معنى الآية أني شغلني حب الخيل حين عرض الخيل علي عن الصلاة حتى فات وقتها بغروب الشمس، و إنما كان يحب الخيل في الله ليتهيأ به للجهاد في سبيل الله فكان الحضور للعرض عبادة منه فشغلته عبادة عن عبادة غير أنه يعد الصلاة أهم. 

  • و قيل: ضمير {تَوَارَتْ} للخيل و ذلك أنه أمر بإجراء الخيل فشغله النظر في جريها حتى غابت عن نظره و توارت بحجاب البعد، و قد تقدم أن ذكر العشي يؤيد المعنى السابق و لا دليل على ما ذكره من حديث الأمر بالجري من لفظ الآية. 

  • قوله تعالى: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ} قيل: الضمير في {رُدُّوهَا} للشمس و هو أمر منه للملائكة برد الشمس ليصلي صلاته في وقتها، و قوله: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ} أي شرع يمسح ساقيه و عنقه و يأمر أصحابه أن يمسحوا سوقهم و أعناقهم و كان ذلك وضوءهم ثم صلى و صلوا، و قد ورد ذلك في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام). 

  • و قيل: الضمير للخيل و المعنى قال: ردوا الخيل فلما ردت. شرع يمسح مسحا بسوقها و أعناقها و يجعلها مسبلة في سبيل الله جزاء ما اشتغل بها عن الصلاة. 

  • و قيل: الضمير للخيل و المراد بمسح أعناق الخيل و سوقها ضربها بالسيف و قطعها و المسح القطع فهو (عليه السلام) غضب عليها في الله لما شغلته عن ذكر الله فأمر بردها ثم ضرب بالسيف أعناقها و سوقها فقتلها جميعا. 

تفسير الميزان ج۱۷

204
  • و فيه أن مثل هذا الفعل مما تتنزه ساحة الأنبياء (عليهم السلام) عن مثله فما ذنب الخيل لو شغله النظر إليها عن الصلاة حتى تؤاخذ بأشد المؤاخذة فتقتل تلك القتلة الفظيعة عن آخرها مع ما فيه من إتلاف المال المحترم. 

  • و أما استدلال بعضهم عليه‌ برواية أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ } قطع سوقها و أعناقها بالسيف‌ ثم أضاف إليها و قد جعلها بذلك قربانا لله و كان تقريب الخيل مشروعا في دينه فليس من التقريب ذكر في الحديث و لا في غيره. 

  • على أنه (عليه السلام) لم يشتغل عن العبادة بالهوى بل شغلته عبادة عن عبادة كما تقدمت الإشارة إليه. 

  • فالمعول عليه هو أول الوجوه إن ساعده لفظ الآية و إلا فالوجه الثاني. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَ أَلْقَيْنَا عَلى‌ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} الجسد هو الجسم الذي لا روح فيه. 

  • قيل: المراد بالجسد الملقى على كرسيه هو سليمان نفسه لمرض امتحنه الله به و تقدير الكلام ألقيناه على كرسيه جسدا أي كجسد لا روح فيه من شدة المرض. 

  • و فيه أن حذف الضمير من «ألقيناه» و إخراج الكلام على صورته التي في الآية الظاهرة في أن الملقى هو الجسد مخل بالمعنى المقصود لا يجوز حمل أفصح الكلام عليه. 

  • و لسائر المفسرين أقوال مختلفة في المراد من الآية تبعا للروايات المختلفة الواردة فيها و الذي يمكن أن يؤخذ من بينها إجمالا أنه كان جسد صبي له أماته الله و ألقى جسده على كرسيه، و لقوله: {ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي} إشعار أو دلالة على أنه كان له (عليه السلام) فيه رجاء أو أمنية في الله فأماته الله سبحانه و ألقاه على كرسيه فنبهه أن يفوض الأمر إلى الله و يسلم له. 

  • قوله تعالی: {قَالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهَّابُ} ظاهر السياق أن الاستغفار مرتبط بما في الآية السابقة من إلقاء الجسد على كرسيه، و الفصل لكون الكلام في محل دفع الدخل كأنه لما قيل: {ثُمَّ أَنَابَ} قيل: فما ذا قال؟ فقيل: {قَالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي} إلخ. 

تفسير الميزان ج۱۷

205
  • و ربما استشكل في قوله: {وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} أن فيه ضنا و بخلا، فإن فيه اشتراط أن لا يؤتى مثل ما أوتيه من الملك لأحد من العالمين غيره. 

  • و يدفعه أن فيه سؤال ملك يختص به لا سؤال أن يمنع غيره عن مثل ما آتاه و يحرمه ففرق بين أن يسأل ملكا اختصاصيا و أن يسأل الاختصاص بملك أوتيه. 

  • قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ اَلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} متفرع على سؤاله الملك و إخباره عن إجابة دعوته و بيان الملك الذي لا ينبغي لأحد غيره و هو تسخير الريح و الجن. 

  • و الرخاء بالضم اللينة و الظاهر أن المراد بكون الريح تجري بأمره رخاء مطاوعتها لأمره و سهولة جريانها على ما يريده (عليه السلام) فلا يرد أن توصيف الريح هاهنا بالرخاء يناقض توصيفه في قوله: ‌{وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} الأنبياء: ٨١ بكونها عاصفة. 

  • و ربما أجيب عنه بأن من الجائز أن يجعلها الله رخوة تارة و عاصفة أخرى حسب ما أراد سليمان (عليه السلام). 

  • و قوله: {حَيْثُ أَصَابَ} أي حيث شاء سليمان (عليه السلام) و قصد و هو متعلق بتجري. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ} أي و سخرنا له الشياطين من الجن كل بناء منهم يبني له في البر و كل غواص يعمل له في البحر فيستخرج اللئالئ و غيرها. 

  • قوله تعالى: {وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفَادِ} الأصفاد جمع صفد و هو الغل من الحديد، و المعنى سخرنا له آخرين منهم مجموعين في الأغلال مشدودين بالسلاسل. 

  • قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي هذا الذي ذكر من الملك عطاؤنا لك بغير حساب و الظاهر أن المراد بكونه بغير حساب أنه لا ينفد بالعطاء و المن و لذا قيل: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} أي أنهما يستويان في عدم التأثير فيه. 

  • و قيل: المراد بغير حساب أنك لا تحاسب عليه يوم القيامة، و قيل: المراد أن إعطاءه تفضل لا مجازاة و قيل غير ذلك. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفى‌ وَ حُسْنَ مَآبٍ} تقدم معناه. 

تفسير الميزان ج۱۷

206
  • (بحث روائي) 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} (الآية) قيل: إن هذه الخيل كانت شغلته عن صلاة العصر حتى فات وقتها: عن علي (عليه السلام) و في رواية أصحابنا: أنه فاته أول الوقت. 

  • و فيه، قال ابن عباس: سألت عليا عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها يا ابن عباس؟ قلت: سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتى فاتته الصلاة فقال: ردوها علي يعني الأفراس و كانت أربعة عشر فأمر بضرب سوقها و أعناقها بالسيف فقتلها فسلبه الله ملكه أربعة عشر يوما لأنه ظلم الخيل بقتلها. 

  • فقال علي: كذب كعب لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم لأنه أراد جهاد العدو حتى توارت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس: ردوها علي فردت فصلى العصر في وقتها و إن أنبياء الله لا يظلمون و لا يأمرون بالظلم لأنهم معصومون مطهرون. 

  • أقول: و قول كعب الأحبار: فسلبه الله ملكه إشارة إلى حديث الخاتم الذي سنشير إليه. 

  • و في الفقيه، روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن سليمان بن داود عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل فاشتغل بالنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب فقال للملائكة: ردوا الشمس علي حتى أصلي صلاتي في وقتها فردوها فقام و مسح ساقيه و عنقه بمثل ذلك و كان ذلك وضوءهم للصلاة ثم قام فصلى فلما فرغ غابت الشمس و طلعت النجوم، و ذلك قول الله عز و جل: {وَ وَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ } - إلى قوله - {مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ}

  • أقول: و الرواية لا بأس بها لو ساعد لفظ الآية أعني قوله: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنَاقِ} على ما فيها من المعنى، و أما مسألة رد الشمس فلا إشكال فيه بعد ثبوت إعجاز الأنبياء، و قد ورد ردها لغيره (عليه السلام) كيوشع بن نون و علي بن أبي طالب (عليه السلام) في النقل المعتبر و لا يعبأ بما أورده الرازي في تفسيره الكبير،. 

  • و أما عقره (عليه السلام) الخيل و ضربه أعناقها بالسيف فقد روي في ذلك عدة روايات 

تفسير الميزان ج۱۷

207
  • من طرق أهل السنة و أورده القمي في تفسيره، و كأنها تنتهي إلى كعب كما مر في رواية ابن عباس المتقدمة و كيف كان فلا يعبأ بها كما تقدم. 

  • و قد بلغ من إغراقهم في القصة أن رووا أن الخيل كانت عشرين ألف فرس ذات أجنة و مثله ما روي في قوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} عن كعب أنه حجاب من ياقوتة خضراء محيط بالخلائق منه اخضرت السماء. 

  • و مثل هذه الروايات أعاجيب من القصص رووها في قوله تعالى: {وَ أَلْقَيْنَا عَلىَ كُرْسِيِّهِ جَسَداً} (الآية) كما روي: أنه ولد له ولد فأمر بإرضاعه و حفظه في السحاب إشفاقا عليه من مردة الجن و في بعضها خوفا عليه من ملك الموت فوقع يوما جسده على كرسيه ميتا. 

  • و ما روي أنه قال يوما: لأطوفن الليلة بمائة امرأة من نسائي تلد لي كل واحدة منهن لي فارسا يجاهد في سبيل الله و لم يستثن فلم تحمل منهن إلا واحدة بشق من ولد و كان يحبه فخبأه له بعض الجن من ملك الموت فأخذه من مخبئه و قبضه على كرسي سليمان. 

  • و ما روي في روايات كثيرة تنتهي عدة منها إلى ابن عباس و هو يصرح في بعضها أنه أخذه عن كعب: أن ملك سليمان كان في خاتمه فتخطفه شيطان منه فزال ملكه و تسلط الشيطان على ملكه أياما ثم أعاد الله الخاتم إليه فعاد إلى ما كان عليه من الملك‌، و قد أوردوا في القصة أمورا ينبغي أن تنزه ساحة الأنبياء (عليهم السلام) عن ذكرها فضلا عن نسبتها إليهم. قالوا: و جلوس الشيطان على كرسي سليمان هو المراد بقوله تعالى: {وَ أَلْقَيْنَا عَلىَ كُرْسِيِّهِ جَسَداً} (الآية). 

  • فهذه‌۱ كلها مما لا يعبأ بها على ما تقدمت الإشارة إليه و إنما هي مما لعبت بها أيدي الوضع.

  • [سورة ص (٣٨): الآیات ٤١ الی ٤٨ ]

  • {وَ اُذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادىَ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ 

    1. ليراجع في الحصول على عامة هذه الروايات الدر المنثور. 

تفسير الميزان ج۱۷

208
  • وَ عَذَابٍ ٤١ اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَ شَرَابٌ ٤٢ وَ وَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرىَ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ ٤٣ وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ٤٤ وَ اُذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصَارِ ٤٥ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدَّارِ ٤٦ وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيَارِ ٤٧ وَ اُذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيَارِ ٤٨} 

  • (بيان) 

  • القصة الثالثة مما أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يصبر و يذكرها و هي قصة أيوب النبي (عليه السلام) و ما ابتلي به من المحنة ثم أكرمه الله بالعافية و العطية. ثم الأمر بذكر إبراهيم و خمسة من ذريته من الأنبياء (عليهم السلام). 

  • قوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادى‌ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَ عَذَابٍ} دعاء منه (عليه السلام) و سؤال للعافية و أن يكشف عنه ربه ما أصابه من سوء الحال، و لم يصرح بما يريده و يسأله تواضعا و تذللا غير أن نداءه تعالى بلفظ ربي يشعر بأنه يناديه لحاجة. 

  • و النصب‌ التعب، و قوله: {إِذْ نَادىَ} إلخ بدل اشتمال من {عَبْدَنَا} أو {أَيُّوبَ} و قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ} إلخ حكاية ندائه. 

  • و الظاهر من الآيات التالية أن مراده من النصب و العذاب ما أصابه من سوء الحال في بدنه و أهله و هو الذي ذكره عنه (عليه السلام) في سورة الأنبياء من ندائه {أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ} بناء على شمول الضر مصيبته في نفسه و أهله و لم يشر في هذه السورة و لا في سورة الأنبياء إلى ذهاب ماله و إن وقع ذكر المال في الروايات. 

تفسير الميزان ج۱۷

209
  • و الظاهر أن المراد من مس الشيطان له بالنصب و العذاب استناد نصبه و عذابه من الشيطان بنحو من السببية و التأثير و هو الذي يظهر من الروايات، و لا ينافي استناد المرض و نحوه إلى الشيطان استناده أيضا إلى بعض الأسباب العادية الطبيعية لأن السببين ليسا عرضيين متدافعين بل أحدهما في طول الآخر و قد أوضحنا ذلك في تفسير قوله تعالى: ‌{وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‌ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ} الأعراف: ٩٦ في الجزء الثامن من الكتاب. 

  • و لا دليل يدل على امتناع وقوع هذا النوع من التأثير للشيطان في الإنسان و قد قال تعالى: ‌{إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} المائدة: ٩٠فنسبها أنفسها إليه، و قال حاكيا عن موسى (عليه السلام): {هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} القصص: ١٥ يشير إلى الاقتتال. 

  • و لو أغمض عن الروايات أمكن أن يحتمل أن يكون المراد بانتساب ذلك إلى الشيطان إغراؤه الناس بوسوسته أن يتجنبوا من الاقتراب منه و ابتعادهم و طعنهم فيه أن لو كان نبيا لم تحط به البلية من كل جانب و لم يصر إلى ما صار إليه من العاقبة السوأى و شماتتهم و استهزائهم به. 

  • و قد أنكر في الكشاف، ما تقدم من الوجه قائلا: لا يجوز أن يسلط الله الشيطان على أنبيائه (عليهم السلام) ليقضي من تعذيبهم و إتعابهم وطره و لو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا و قد نكبه و أهلكه، و قد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب. انتهى. 

  • و فيه أن الذي يخص الأنبياء و أهل العصمة أنهم لمكان عصمتهم في أمن من تأثير الشيطان في نفوسهم بالوسوسة، و أما تأثيره في أبدانهم و سائر ما ينسب إليهم بإيذاء أو إتعاب أو نحو ذلك من غير إضلال فلا دليل يدل على امتناعه، و قد حكى الله سبحانه عن فتى موسى و هو يوشع النبي (عليه السلام) {فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ وَ مَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} الكهف: ٦٣. 

  • و لا يلزم من تسلطه على نبي بالإيذاء و الإتعاب لمصلحة تقتضيه كظهور صبره في 

تفسير الميزان ج۱۷

210
  • الله سبحانه و أوبته إليه أن يقدر على ما يشاء فيمن يشاء من عباد الله تعالى إلا أن يشاء الله ذلك و هو ظاهر. 

  • قوله تعالى: {اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَ شَرَابٌ} وقوع الآية عقيب ندائه و مسألته يعطي أنه إيذان باستجابة دعائه و أن قوله تعالى: {اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ} إلخ حكاية لما أوحي إليه عند الكشف عن الاستجابة أو هو بإضمار القول و التقدير فاستجبنا له و قلنا: اركض «إلخ» و سياق الأمر مشعر بل كاشف عن أنه كان لا يقدر على القيام و المشي بقدميه و كان مصابا في سائر بدنه فأبرأ الله ما في رجليه من ضر و أظهر له عينا هناك و أمره أن يغتسل منها و يشرب حتى يبرأ ظاهر بدنه و باطنه و يتأيد بذلك ما سيأتي من الرواية. 

  • و في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير فركض برجله و اغتسل و شرب فبرأه الله من مرضه. 

  • قوله تعالى: {وَ وَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرىَ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ} ورد في الرواية أنه ابتلي فيما ابتلي بموت جميع أهله إلا امرأته و أن الله أحياهم له و وهبهم له و مثلهم معهم، و قيل: إنهم كانوا قد تفرقوا عنه أيام ابتلائه فجمعهم الله إليه بعد برئه و تناسلوا فكانوا مثلي ما كانوا عددا. 

  • و قوله: {رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرىَ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ} مفعول له أي فعلنا به ما فعلنا ليكون رحمة منا و ذكرى لأولي الألباب يتذكرون به. 

  • قوله تعالى: {وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} في المجمع:‌ الضغث‌ مل‌ء الكف من الشجرة و الحشيش و الشماريخ و نحو ذلك انتهى، و كان (عليه السلام) قد حلف لئن عوفي أن يجلد امرأته مائة جلدة لأمر أنكره عليها على ما سيأتي من الرواية فلما عافاه الله تعالى أمره أن يأخذ بيده ضغثا بعدد ما حلف عليه من الجلدات فيضربها به و لا يحنث. 

  • و في سياق الآية تلويح إلى ذلك و إنما طوي ذكر المرأة و سبب الحلف تأدبا و رعاية لجانبه. 

  • و قوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} أي فيما ابتليناه به من المرض و ذهاب الأهل و المال، 

تفسير الميزان ج۱۷

211
  • و الجملة تعليل لقوله: {وَ اُذْكُرْ} أو لقوله: {عَبْدَنَا} أي لتسميته عبدا و إضافته إليه تعالى، و الأول أولى. 

  • و قوله: {نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} مدح له (عليه السلام). 

  • قوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصَارِ} مدحهم بتوصيفهم بأن لهم الأيدي و الأبصار و يد الإنسان و بصره إنما يمدحان إذا كانا يد إنسان و بصر إنسان و استعملا فيما خلقا له و خدما الإنسان في إنسانيته فتكتسب اليد صالح العمل و يجري منها الخير على الخلق و يميز البصر طرق العافية و السلامة من موارد الهلكة و يصيب الحق و لا يلتبس عليه الباطل. 

  • فيكون كونهم أولي الأيد و الأبصار كناية عن قوتهم في الطاعة و إيصال الخير و تبصرهم في إصابة الحق في الاعتقاد و العمل و قد جمع المعنيين في قوله تعالى: ‌{وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} الأنبياء: ٧٣ فجعلهم أئمة و الأمر و الوحي لأبصارهم و فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة لأيديهم‌۱ و إليه يئول ما في الرواية من تفسير ذلك بأولي القوة في العبادة و البصر فيها. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدَّارِ} الخالصة وصف قائم مقام موصوفه، و الباء للسببية و التقدير بسبب خصلة خالصة، و {ذِكْرَى اَلدَّارِ} بيان للخصلة و الدار هي الدار الآخرة. 

  • و الآية أعني قوله: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ} إلخ لتعليل ما في الآية السابقة من قوله: {أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصَارِ} أو لقوله: {عِبَادَنَا} أو لقوله: {وَ اُذْكُرْ} و أوجه الوجوه أولها، و ذلك لأن استغراق الإنسان في ذكرى الدار الآخرة و جوار رب العالمين و ركوز همه فيها يلازم كمال معرفته في جنب الله تعالى و إصابة نظره في حق الاعتقاد و التبصر في سلوك سبيل العبودية و التخلص عن الجمود على ظاهر الحياة الدنيا و زينتها كما هو شأن أبنائها قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا

    1. رواها القمي في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر ع.

تفسير الميزان ج۱۷

212
  • ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ} النجم: ٣٠. 

  • و معنى الآية و إنما كانوا أولي الأيدي و الأبصار لأنا أخلصناهم بخصلة خالصة غير مشوبة عظيمة الشأن هي ذكرى الدار الآخرة. 

  • و قيل: المراد بالدار هي الدنيا و المراد بالآية بقاء ذكرهم الجميل في الألسن ما دامت الدنيا كما قال تعالى: ‌{وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ } إلى أن قال { وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} مريم: ٥٠و الوجه السابق أوجه. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيَارِ} تقدم أن الاصطفاء يلازم الإسلام التام لله سبحانه، و في الآية إشارة إلى قوله تعالى‌{إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفى‌ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى اَلْعَالَمِينَ} آل عمران: ٣٣. 

  • و الأخيار جمع خير مقابل الشر على ما قيل، و قيل: جمع خير بالتشديد أو التخفيف كأموات جمع ميت بالتشديد أو بالتخفيف. 

  • قوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيَارِ} معناه ظاهر. 

  • (كلام في قصة أيوب (عليه السلام) في فصول) 

  • ١ - قصته في القرآن

  • لم يذكر من قصته في القرآن إلا ابتلاؤه بالضر في نفسه و أولاده ثم تفريجه تعالى بمعافاته و إيتائه أهله و مثلهم معهم رحمة منه و ذكرى للعابدين «الأنبياء: ٨٣-٨٤. ص: ٤١-٤٤». 

  • ٢ - جميل ثنائه 

  • ذكره تعالى في زمرة الأنبياء من ذرية إبراهيم (عليه السلام) في سورة الأنعام و أثنى عليهم بكل ثناء جميل «الأنعام: ٨٤-٩٠» و ذكره في سورة ص، فعده صابرا و نعم العبد و أوابا «ص: ٤٤». 

  • ٣ - قصته في الروايات

  • في تفسير القمي حدثني أبي عن ابن فضال عن عبد الله بن بحر عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن بلية أيوب التي ابتلي بها في الدنيا لأي علة كانت؟ قال: لنعمة أنعم الله عز و جل عليه بها في الدنيا و أدى شكرها و كان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش فلما صعد و رأى 

تفسير الميزان ج۱۷

213
  • شكر نعمة أيوب حسده إبليس. 

  • فقال: يا رب إن أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا و لو حرمته دنياه ما أدى إليك شكر نعمة أبدا فسلطني على دنياه حتى تعلم أنه لم يؤد إليه شكر نعمة أبدا فقيل له: قد سلطتك على ماله و ولده. 

  • قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالا و لا ولدا إلا أعطبه فازداد أيوب لله شكرا و حمدا، و قال: فسلطني على زرعه يا رب. قال: قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيوب لله شكرا و حمدا فقال: يا رب سلطني على غنمه فأهلكها فازداد أيوب لله شكرا و حمدا. 

  • فقال: يا رب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله و عينيه فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله و يشكره حتى وقع في بدنه الدود فكانت تخرج من بدنه فيردها فيقول لها: ارجعي إلى موضعك الذي خلقك الله منه، و نتن حتى أخرجه أهل القرية من القرية و ألقوه في المزبلة خارج القرية. 

  • و كانت امرأته رحمة بنت أفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام) و عليها يتصدق من الناس و تأتيه بما تجده. 

  • قال: فلما طال عليه البلاء و رأى إبليس صبره أتى أصحابا لأيوب كانوا رهبانا في الجبال و قال لهم: مروا بنا إلى هذا العبد المبتلى فنسأله عن بليته فركبوا بغالا شهبا و جاءوا فلما دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه فنظر بعضهم إلى بعض ثم مشوا إليه و كان فيهم شاب حدث السن فقعدوا إليه فقالوا: يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك لعل الله يهلكنا إذا سألناه، و ما نرى ابتلاءك بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد إلا من أمر كنت تستره. 

  • فقال أيوب: و عزة ربي إنه ليعلم أني ما أكلت طعاما إلا و يتيم أو ضعيف يأكل معي، و ما عرض لي أمران كلاهما طاعة الله إلا أخذت بأشدهما على بدني. فقال الشاب: سوأة لكم عيرتم نبي الله حتى أظهر من عبادة ربه ما كان يسترها. 

  • فقال أيوب: يا رب لو جلست مجلس الحكم منك لأدليت بحجتي فبعث الله إليه 

تفسير الميزان ج۱۷

214
  • غمامة فقال: يا أيوب أدل بحجتك فقد أقعدتك مقعد الحكم و ها أنا ذا قريب و لم أزل. 

  • فقال: يا رب إنك لتعلم أنه لم يعرض لي أمران قط كلاهما لك طاعة إلا أخذت بأشدهما على نفسي. أ لم أحمدك؟ أ لم أشكرك؟ أ لم أسبحك؟. 

  • قال: فنودي من الغمامة بعشرة آلاف لسان: يا أيوب من صيرك تعبد الله و الناس عنه غافلون؟ و تحمده و تسبحه و تكبره و الناس عنه غافلون؟ أ تمن على الله بما لله فيه المنة عليك؟ قال: فأخذ التراب و وضعه في فيه ثم قال: لك العتبى يا رب أنت فعلت ذلك بي. 

  • فأنزل الله عليه ملكا فركض برجله فخرج الماء فغسله بذلك الماء فعاد أحسن ما كان و أطرأ، و أنبت الله عليه روضة خضراء، و رد عليه أهله و ماله و ولده و زرعه و قعد معه الملك يحدثه و يؤنسه. 

  • فأقبلت امرأته معها الكسرة ۱فلما انتهت إلى الموضع إذا الموضع متغير و إذا رجلان جالسان فبكت و صاحت و قالت: يا أيوب ما دهاك؟ فناداها أيوب فأقبلت فلما رأته و قد رد الله عليه بدنه و نعمه سجدت لله شكرا. فرأى ذؤابتها مقطوعة و ذلك أنها سألت قوما أن يعطوها ما تحمله إلى أيوب من الطعام و كانت حسنة الذوائب فقالوا لها: تبيعينا ذؤابتك هذه حتى نعطيك؟ فقطعتها و دفعتها إليهم و أخذت منهم طعاما لأيوب، فلما رآها مقطوعة الشعر غضب و حلف عليها أن يضربها مائة فأخبرته أنه كان سببه كيت و كيت. فاغتم أيوب من ذلك فأوحى الله عز و جل إليه: {خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لاَ تَحْنَثْ} فأخذ عذقا مشتملا على مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة فخرج من يمينه. 

  • أقول: و روي عن ابن عباس ما يقرب منه، و عن وهب أن امرأته كانت بنت ميشا بن يوسف، و الرواية كما ترى تذكر ابتلاءه بما تتنفر عنه الطباع و هناك من الروايات ما يؤيد ذلك لكن بعض الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ينفي ذلك و ينكره أشد الإنكار كما يأتي. 

  • و عن الخصال:‌ القطان عن السكري عن الجوهري عن ابن عمارة عن أبيه عن 

    1. الكسرة القطعة من الخبز.

تفسير الميزان ج۱۷

215
  • جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: إن أيوب (عليه السلام) ابتلي سبع سنين من غير ذنب و إن الأنبياء لا يذنبون لأنهم معصومون مطهرون لا يذنبون و لا يزيغون و لا يرتكبون ذنبا صغيرا و لا كبيرا. 

  • و قال: إن أيوب من جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة، و لا قبحت له صورة و لا خرجت منه مدة من دم و لا قيح، و لا استقذره أحد رآه، و لا استوحش منه أحد شاهده، و لا تدود شي‌ء من جسده و هكذا يصنع الله عز و جل بجميع من يبتليه من أنبيائه و أوليائه المكرمين عليه. 

  • و إنما اجتنبه الناس لفقره و ضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بما له عند ربه تعالى ذكره من التأييد و الفرج، و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أعظم الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. 

  • و إنما ابتلاه الله بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلا يدعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه، و ليستدلوا بذلك على أن الثواب من الله على ضربين: استحقاق و اختصاص، و لئلا يحتقروا ضعيفا لضعفه و لا فقيرا لفقره و لا مريضا لمرضه، و ليعلموا أنه يسقم من يشاء، و يشفي من يشاء متى شاء كيف شاء، بأي سبب شاء و يجعل ذلك عبرة لمن شاء، و شقاوة لمن شاء، و سعادة لمن شاء، و هو عز و جل في جميع ذلك عدل في قضائه و حكيم في أفعاله لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم و لا قوة لهم إلا به. 

  • و في تفسير القمي‌ في قوله تعالى‌: {وَ وَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} (الآية) - قال: فرد الله عليه أهله الذين ماتوا قبل البلاء، و رد عليه أهله الذين ماتوا بعد ما أصابهم البلاء كلهم أحياهم الله له فعاشوا معه. 

  • و سئل أيوب بعد ما عافاه الله: أي شي‌ء كان أشد عليك مما مر؟ فقال: شماتة الأعداء. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطَانُ} (الآية) قيل: إنه اشتد مرضه حتى تجنبه الناس فوسوس الشيطان إلى الناس أن يستقذروه و يخرجوه من بينهم و لا يتركوا امرأته التي تخدمه أن تدخل عليهم فكان أيوب يتأذى بذلك و يتألم به و لم يشك 

تفسير الميزان ج۱۷

216
  • الألم الذي كان من أمر الله سبحانه. قال قتادة: دام ذلك سبع سنين و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • (خبر اليسع و ذي الكفل (عليهما السلام)) 

  • ذكر سبحانه اسمهما في كلامه و عدهما من الأنبياء و أثنى عليهما و عدهما من الأخيار «ص: ٤٨» و عد ذا الكفل من الصابرين «الأنبياء: ٨٥» و لهما ذكر في الأخبار. 

  • ففي البحار، عن الإحتجاج و التوحيد و العيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد النوفلي عن الرضا (عليه السلام) فيما احتج به على جاثليق النصارى أن قال (عليه السلام): إن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى (عليه السلام) مشى على الماء و أحيا الموتى و أبرأ الأكمه و الأبرص فلم يتخذه أمته ربا.( الخبر).

  • و عن قصص الأنبياء‌ الصدوق عن الدقاق عن الأسدي عن سهل عن عبد العظيم الحسني قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني أسأله عن ذي الكفل ما اسمه؟ و هل كان من المرسلين؟ 

  • فكتب (عليه السلام) بعث الله جل ذكره مائة ألف نبي و أربعة و عشرين ألف نبي. مرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، و إن ذا الكفل منهم، و كان بعد سليمان بن داود، و كان يقضي بين الناس كما كان يقضي داود، و لم يغضب إلا لله عز و جل و كان اسمه عويديا و هو الذي ذكره الله جلت عظمته في كتابه حيث قال: {وَ اُذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيَارِ}.

  • أقول: و هناك روايات متفرقة أخر في قصصهما (عليهما السلام) تركنا إيرادها لضعفها و عدم الاعتماد عليها. 

  • [سورة ص (٣٨): الآیات ٤٩ الی ٦٤]

  • {هَذَا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ٤٩ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً

تفسير الميزان ج۱۷

217
  • لَهُمُ اَلْأَبْوَابُ ٥٠مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرَابٍ ٥١ وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ أَتْرَابٌ ٥٢ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ اَلْحِسَابِ ٥٣ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ٥٤ هَذَا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ٥٥ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ اَلْمِهَادُ ٥٦ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ ٥٧ وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ٥٨ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا اَلنَّارِ ٥٩ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ اَلْقَرَارُ ٦٠قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي اَلنَّارِ ٦١ وَ قَالُوا مَا لَنَا لاَ نَرى‌ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرَارِ ٦٢ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصَارُ ٦٣ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ اَلنَّارِ ٦٤} 

  • (بيان) 

  • فصل آخر من الكلام يبين فيه مآل أمر المتقين و الطاغين تبشيرا و إنذارا. 

  • قوله تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} الإشارة بهذا إلى ما ذكر من قصص الأوابين من الأنبياء الكرام (عليه السلام) ، و المراد بالذكر الشرف و الثناء الجميل أي هذا الذي ذكر شرف و ذكر جميل و ثناء حسن لهم يذكرون به في الدنيا أبدا و لهم حسن مآب من ثواب الآخرة. كذا قالوا. 

تفسير الميزان ج۱۷

218
  • و على هذا فالمراد بالمتقين هم المذكورون من الأنبياء بالخصوص أو عموم أهل التقوى و هم داخلون فيهم و يكون ذكر مآب الطاغين بعد من باب الاستطراد. 

  • و الظاهر أن الإشارة بهذا إلى القرآن و المراد بالذكر ما يشتمل عليه من الذكر و في الكلام عود إلى ما بدئ به في السورة من قوله: {وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ} فهو فصل من الكلام يذكر فيه الله سبحانه ما في الدار الآخرة من ثواب المتقين و عقاب الطاغين. 

  • و قوله: {وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} المآب‌ المرجع و التنكير للتفخيم، و المعنى ظاهر. 

  • قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ اَلْأَبْوَابُ} أي جنات استقرار و خلود و كون الأبواب مفتحة لهم كناية عن أنهم غير ممنوعين عن شي‌ء من النعم الموجودة فيها فهي مهيأة لهم مخلوقة لأجلهم، و قيل: المراد أن أبوابها مفتحة لهم لا تحتاج إلى الوقوف وراءها و دقها، و قيل: المراد أنها تفتح بغير مفتاح و تغلق بغير مغلاق. 

  • و الآية و ما بعدها بيان لحسن مآبهم. 

  • قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرَابٍ} أي حال كونهم جالسين فيها بنحو الاتكاء و الاستناد جلسة الأعزة و الأشراف. 

  • و قوله: {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ} إلخ أي يتحكمون فيها بدعوة الفاكهة و هي كثيرة و الشراب فإذا دعيت فاكهة أو دعي شراب أجابهم المدعو فأتاهم من غير حاجة إلى من يحمله و يناوله. 

  • قوله تعالى: {وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ أَتْرَابٌ} الضمير للمتقين و قاصرات الطرف صفة قائمة مقام الموصوف و التقدير و عندهم أزواج قاصرات الطرف و المراد قصور طرفهن على أزواجهن يرضين بهم و لا يرون غيرهم أو هو كناية عن كونهن ذوات غنج و دلال. 

  • و الأتراب‌ الأقران أي أنهن أمثال لا يختلفن سنا أو جمالا أو أنهن أمثال لأزواجهن فكلما زادوا نورا و بهاء زدن حسنا و جمالا. 

  • قوله تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ اَلْحِسَابِ} الإشارة إلى ما ذكر من الجنة و نعيمها، و الخطاب للمتقين ففي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب و النكتة فيه 

تفسير الميزان ج۱۷

219
  • إظهار القرب منهم و الإشراف عليهم ليكمل نعمهم الصورية بهذه النعمة المعنوية. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} النفاد الفناء و الانقطاع، و الآية من تمام الخطاب الذي في الآية السابقة على ما يعطيه السياق. 

  • قوله تعالى: {هَذَا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} الإشارة بهذا إلى ما ذكر من مقام المتقين أي هذا ما للمتقين من المآب، و يمكن أن يكون هذا اسم فعل أي خذ هذا. و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ اَلْمِهَادُ} الصلي‌ دخول النار و مقاساة حرارتها أو اتباعها و المهاد - على ما في المجمع - الفراش الموطأ يقال: مهدت له تمهيدا مثل وطأت له توطئة، و الآية و ما بعدها تفسير لمآب الطاغين. 

  • قوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ} الحميم‌ الحار الشديد الحرارة الغساق‌ - على ما في المجمع - قيح شديد النتن، و فسر بتفاسير أخر، و قوله: {حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ} بيان لهذا، و قوله: {فَلْيَذُوقُوهُ} دال على إكراههم و حملهم على ذوقه و تقديم المخبر عنه و جعله اسم إشارة يؤكد ذلك، و المعنى هذا حميم و غساق عليهم أن يذوقوه ليس إلا. 

  • قوله تعالى: {وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} شكل‌ الشي‌ء ما يشابهه و جنسه و الأزواج‌ الأنواع و الأقسام أي و هذا آخر من جنس الحميم و الغساق أنواع مختلفة ليذوقوها. 

  • قوله تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ } - إلى قوله - {فِي اَلنَّارِ} الآيات الثلاث - على ما يعطيه السياق - حكاية ما يجري بين التابعين و المتبوعين من الطاغين في النار من التخاصم و المجاراة. 

  • فقوله: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} خطاب يخاطب به المتبوعون يشار به إلى التابعين الذين يدخلون النار مع المتبوعين فوجا، و الاقتحام‌ الدخول في الشي‌ء بشدة و صعوبة. 

  • و قوله: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا اَلنَّارِ} جواب المتبوعين لمن يخاطبهم بقوله: {هَذَا فَوْجٌ} و مرحبا تحية للوارد معناه عرض رحب الدار و سعتها له فقولهم: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} معناه نفي الرحب و السعة عنهم. و قولهم: {إِنَّهُمْ صَالُوا اَلنَّارِ} أي داخلوها و مقاسو حرارتها أو متبعوها تعليل لتحيتهم بنفي التحية. 

تفسير الميزان ج۱۷

220
  • و قوله: {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ اَلْقَرَارُ} نقل كلام التابعين و هم القائلون يردون إلى متبوعيهم نفي التحية و يذمون القرار في النار. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي اَلنَّارِ} لم يذكر تعالى جواب المتبوعين لقولهم: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} إلخ و قد ذكره في سورة الصافات فيما حكى من تساؤلهم بقوله‌{قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ»} الخ الآية - ٣٠فقولهم: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي اَلنَّارِ} كلامهم بعد الانقطاع عن المخاصمة. 

  • و جملة {مَنْ قَدَّمَ} إلخ شرط و جزاء، و الضعف‌ المثل و {عَذَاباً ضِعْفاً} أي ذا ضعف و مثل أي ضعفين من العذاب. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا مَا لَنَا لاَ نَرىَ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرَارِ} القائلون على ما يعطيه السياق مطلق أهل النار، و مرادهم بالرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار المؤمنون و هم في الجنة فيطلبهم أهل النار فلا يجدونهم فيها. 

  • قوله تعالى: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصَارُ} أي اتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا و قد كانوا ناجين أم عدلت أبصارنا فلا نراهم و هم معنا في النار. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ اَلنَّارِ} إشارة إلى ما حكي من تخاصمهم و بيان أن تخاصم أهل النار ثابت واقع لا ريب فيه و هو ظهور ما استقر في نفوسهم في الدنيا من ملكة التنازع و التشاجر. 

  • [سورة ص (٣٨): الآیات ٦٥ الی ٨٨]

  • {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ ٦٥ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ ٦٦ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ٦٧ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ٦٨ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلى‌ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ٦٩ إِنْ يُوحى‌ إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا 

تفسير الميزان ج۱۷

221
  • نَذِيرٌ مُبِينٌ ٧٠إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ٧١ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ٧٢ فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ٧٣ إِلاَّ إِبْلِيسَ اِسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ ٧٤ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعَالِينَ ٧٥ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ٧٦ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ٧٧ وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى‌ يَوْمِ اَلدِّينِ ٧٨ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى‌ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ٧٩ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ ٨٠إِلى‌ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ ٨١ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٨٢ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ ٨٣ قَالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ ٨٤ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ٨٥ قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ ٨٦ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ٨٧ وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ٨٨} 

  • (بيان) 

  • الفصل الأخير من فصول السورة المشتمل على أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإبلاغ نذارته و دعوته إلى التوحيد. و أن الإعراض عن الحق و اتباع الشيطان ينتهي بالإنسان إلى 

تفسير الميزان ج۱۷

222
  • عذاب النار المقضي في حقه و حق أتباعه و عند ذلك تختتم السورة. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} - إلى قوله - {اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ} في الآيتين أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإبلاغ أنه منذر و أن الله تعالى واحد في الألوهية فقوله: {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} يفيد قصره في كونه منذرا و نفي سائر الأغراض التي ربما تتلبس به الدعوة بين الناس من طلب مال أو جاه كما يشير إليه ما في آخر الآيات من قوله: {قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ}

  • و قوله: {وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ} إلى آخر الآيتين إبلاغ لتوحيده تعالى بحجة يدل عليها ما أورد من صفاته المدلول عليها بأسمائه. 

  • فقوله: {وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ} نفي لكل إله و الإله هو المعبود بالحق غيره تعالى و أما ثبوت ألوهيته تعالى فهو مسلم بانتفاء ألوهية غيره إذ لا نزاع بين الإسلام و الشرك في أصل ثبوت الإله و إنما النزاع في أن الإله و هو المعبود بالحق هو الله تعالى أو غيره. على أن ما ذكر في الآيتين من الصفات متضمن لإثبات ألوهيته كما أنها حجة على انتفاء ألوهية غيره تعالى. 

  • و قوله: {اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} يدل على توحده تعالى في وجوده و قهره كل شي‌ء و ذلك أنه تعالى واحد لا يماثله شي‌ء في وجوده و لا تناهي كماله الذي هو عين وجوده الواجب فهو الغني بذاته و على الإطلاق و غيره من شي‌ء فقير يحتاج إليه من كل جهة ليس له من الوجود و آثار الوجود إلا ما أنعم و أفاض فهو سبحانه القاهر لكل شي‌ء على ما يريد و كل شي‌ء مطيع له فيما أراد خاضع له فيما شاء. 

  • و هذا الخضوع الذاتي هو حقيقة العبادة فلو جاز أن يعبد شي‌ء في الوجود عملا بأن يؤتى بعمل يمثل به العبودية و الخضوع فهي عبادته سبحانه إذ كل شي‌ء مفروض دونه فهو مقهور خاضع له لا يملك لنفسه و لا لغيره شي‌ء و لا يستقل من الوجود و آثار الوجود بشي‌ء فهو سبحانه الإله المعبود بالحق لا غير. 

  • و قوله: {رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا} يفيد حجة أخرى على توحده تعالى في الألوهية و ذلك أن نظام التدبير الجاري في العالم برمته نظام واحد متصل غير متبعض و لا متجز و هو آية وحدة المدبر، و قد تقدم كرارا أن الخلق و التدبير لا ينفكان 

تفسير الميزان ج۱۷

223
  • فالتدبير خلق بوجه كما أن الخلق تدبير بوجه و الخالق الموجد للسماوات و الأرض و ما بينهما هو الله سبحانه - حتى عند الخصم - فهو تعالى ربها المدبر لها جميعا فهو وحده الإله الذي يجب أن يقصد بالعبادة لأن العبادة تمثيل عبودية العابد و مملوكيته تجاه مولوية المعبود و مالكيته و تصرفه في العابد بإفاضة النعمة و دفع النقمة فهو سبحانه الإله في السماوات و الأرض و ما بينهما لا إله غيره. فافهم ذلك. 

  • و يمكن أن يكون قوله: {رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا} بيانا لقوله {اَلْقَهَّارُ} أو {اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ}

  • و قوله: {اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ} يفيد حجة أخرى على توحده تعالى في الألوهية و ذلك أنه تعالى عزيز لا يغلبه شي‌ء بإكراهه على ما لم يرد أو بمنعه عما أراد فهو العزيز على الإطلاق و غيره من شي‌ء ذليل عنده قانت له و العبادة إظهار للمذلة و لا يستقيم إلا قبال العزة و لا عزة لغيره تعالى إلا به. 

  • و أيضا غاية العبادة و هي تمثيل العبودية التقرب إلى المعبود و رفع وصمة البعد عن العبد العابد و هو مغفرة الذنب و الله سبحانه هو المستقل بالرحمة التي لا تنفد خزائنها و هو الذي يورد عباده العابدين له في الآخرة دار كرامته فهو الغفار الذي يجب أن يعبد طمعا في مغفرته. 

  • و يمكن أن يكون قوله: {اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ} تلويحا إلى وجه الدعوة إلى التوحيد أو وجوب الإيمان به المفهوم بحسب المقام من قوله: {وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} و المعنى أدعوكم إلى توحيده فآمنوا به لأنه العزيز الذي لا يشوبه ذلة الغفار للذنوب و هكذا يجب أن يكون الإله. 

  • قوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} مرجع الضمير ما ذكره من حديث الوحدانية في قوله: {وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ} إلخ. 

  • و قيل: الضمير للقرآن فهو النبأ العظيم الذي أعرضوا عنه، و هو أوفق لسياق الآيات السابقة المرتبطة بأمر القرآن، و أوفق أيضا لقوله الآتي: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلىَ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي حتى أخبرني به القرآن، و قيل: المراد به يوم القيامة و هو أبعد الوجوه. 

تفسير الميزان ج۱۷

224
  • قوله تعالى: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلىَ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} الملأ الأعلى‌ جماعة الملائكة و كأن المراد باختصامهم ما أشار تعالى إليه بقوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً} إلى آخر الآيات. 

  • و كأن المعنى إني ما كنت أعلم اختصام الملإ الأعلى حتى أوحى الله إلي ذلك في كتابه فإنما أنا منذر أتبع الوحي. 

  • قوله تعالى: {إِنْ يُوحىَ إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} تأكيد لقوله: {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} و بمنزلة التعليل لقوله: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلى‌} و المعنى لم أكن أعلم ذلك لأن علمي ليس من قبل نفسي و إنما هو بالوحي و ليس يوحى إلي إلا ما يتعلق بالإنذار. 

  • قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} الذي يعطيه السياق أن الآية و ما بعدها ليست تتمة لقول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} إلخ و الشاهد عليه قوله: {رَبُّكَ} فهو من كلامه تعالى يشير إلى زمان اختصام الملإ الأعلى و الظرف متعلق بما تعلق به قوله: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أو متعلق بمحذوف و التقدير «اذكر إذ قال ربك للملائكة» إلخ فإن قوله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً} و قوله لهم: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} متقارنان وقعا في ظرف واحد. 

  • و على هذا يؤول معنى قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} إلخ إلى نحو من قولنا: اذكر وقتئذ قال ربك كذا و كذا فهو وقت اختصامهم. 

  • و جعل بعضهم قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} إلخ مفسرا لقوله: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ثم أخذ الاختصام بعد تفسيره بالتقاول مجموع قوله تعالى للملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً} و قولهم: {أَ تَجْعَلُ} إلخ، و قوله لآدم و قول آدم لهم، و قوله تعالى لهم: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً} و قول إبليس و قوله تعالى له. 

  • و قال على تقدير كون الاختصام بمعنى المخاصمة و دلالة قوله: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} على كون المخاصمة بين الملائكة أنفسهم لا بينهم و بين الله سبحانه أن إخباره تعالى لهم بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً} {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً} كان بتوسط ملك من الملائكة و كذا قوله لآدم و لإبليس فيكون قولهم لربهم: {أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} إلخ و غيره قولا منهم للملك المتوسط و يقع الاختصام فيما بينهم أنفسهم. 

تفسير الميزان ج۱۷

225
  • و أنت خبير بأن شيئا مما ذكره لا يستفاد من سياق الآيات. 

  • و قوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} البشر الإنسان، قال الراغب: البشر ظاهر الجلد و الأدمة باطنه. كذا قال عامة الأدباء، قال: و عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الوبر، و استوى في لفظ البشر الواحد و الجمع و ثني فقال تعالى: {أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ} و خص في القرآن كل موضع اعتبر من الإنسان جثته و ظاهره بلفظ البشر. انتهى. 

  • و قد عد في الآية مبدأ خلق الإنسان الطين، و في سورة الروم التراب و في سورة الحجر صلصال من حمإ مسنون، و في سورة الرحمن صلصال كالفخار و لا ضير فإنها أحوال مختلفة لمادته الأصلية التي منها خلق و قد أشير في كل موضع إلى واحدة منها. 

  • قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} تسوية الإنسان تعديل أعضائه بتركيب بعضها على بعض و تتميمها صورة إنسان تام، و نفخ الروح فيه‌ جعله ذا نفس حية إنسانية و إضافة الروح إليه تعالى تشريفية و قوله: {فَقَعُوا} أمر من الوقوع و هو متفرع على التسوية و النفخ. 

  • قوله تعالى: {فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} ظاهر الدلالة على سجود الملائكة له من غير استثناء. 

  • قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ اِسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ} أي استكبر إبليس فلم يسجد له و كان قبل ذلك من الكافرين كما حكى سبحانه عنه في سورة الحجر قوله: ‌{لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} الحجر: ٣٣. 

  • قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعَالِينَ} نسبة خلقه إلى اليد للتشريف بالاختصاص كما قال: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} و تثنية اليد كناية عن الاهتمام التام بخلقه و صنعه فإن الإنسان إنما يستعمل اليدين فيما يهتم به من العمل فقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} كقوله: ‌{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} يس: ٧١. 

  • و قيل: المراد باليد القدرة و التثنية لمجرد التأكيد كقوله: ‌{ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} 

تفسير الميزان ج۱۷

226
  • الملك: ٣ و قد وردت به الرواية. 

  • و قيل: المراد باليدين نعم الدنيا و الآخرة، و يمكن أن يحتمل إرادة مبدأي الجسم و الروح أو الصورة و المعنى أو صفتي الجلال و الجمال من اليدين لكنها معان لا دليل على شي‌ء منها من اللفظ. 

  • و قوله: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعَالِينَ} استفهام توبيخ أي أ كان عدم سجودك لأنك استكبرت أم كنت من الذين يعلون أي يعلو قدرهم أن يؤمروا بالسجود، و لذا قال بعضهم بالاستفادة من الآية أن العالين قوم من خلقه تعالى مستغرقون في التوجه إلى ربهم لا يشعرون بغيره تعالى. 

  • و قيل: المراد بالعلو الاستكبار كما في قوله تعالى‌{وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي اَلْأَرْضِ}يونس: ٨٣ و المعنى استكبرت حين أمرت بالسجدة أم كنت من قبل من المستكبرين؟. 

  • و يدفعه أنه لا يلائم مقتضى المقام فإن مقتضاه تعلق الغرض باستعلام أصل استكباره لا تعيين كون استكباره قديما أو حديثا. 

  • و قيل: المراد بالعالين ملائكة السماء فإن المأمورين بالسجود هم ملائكة الأرض. 

  • و يدفعه ما في الآية من العموم. 

  • قوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} تعليل عدم سجوده بما يدعيه من شرافة ذاته و أنه لكون خلقه من نار خير من آدم المخلوق من طين، و فيه تلويح أن الأمر الإلهي إنما يطاع إذا كان حقا لا لذاته، و ليس أمره بالسجود له حقا، و يؤول إلى إنكار إطلاق ملكه تعالى و حكمته و هو الأصل الذي ينتهي إليه كل معصية فإن المعصية إنما تقع بالخروج عن حكم عبوديته تعالى و مملوكيته و بالإعراض عن كون تركها أولى من فعلها و اقترافها. 

  • قوله تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلىَ يَوْمِ اَلدِّينِ} الرجم‌ الطرد، و يوم الدين‌ يوم الجزاء. 

  • و قوله: {وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} و في سورة الحجر{وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ} (الآية) - ٣٥ قيل في وجهه: لو كانت اللام للعهد فلا فرق بين التعبيرين، و لو كانت للجنس فكذلك 

تفسير الميزان ج۱۷

227
  • أيضا لأن لعن غيره تعالى من الملائكة و الناس عليه إنما يكون طردا له حقيقة و إبعادا من الرحمة إذا كان بأمر الله و بإبعاده من رحمته. 

  • قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى‌ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} - إلى قوله - {إِلى‌ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ} ظاهر تغير الغاية في السؤال و الجواب حيث قال: {إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فأجيب بقوله: {إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ} أن ما أجيب إليه غير ما سأله فهو لا محالة آخر يوم يعصي فيه الناس ربهم و هو قبل يوم البعث، و الظاهر أن المراد باليوم الظرف فتفيد إضافته إلى الوقت التأكيد. 

  • قوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} الباء في {فَبِعِزَّتِكَ} للقسم أقسم بعزته ليغوينهم أجمعين و استثنى منهم المخلصين و هم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا نصيب فيهم لإبليس و لا لغيره. 

  • قوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} جوابه تعالى لإبليس و هو يتضمن القضاء عليه و على من تبعه بالنار. 

  • فقوله: {فَالْحَقُّ} مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدإ، و الفاء لترتيب ما بعده على ما قبله، و المراد بالحق ما يقابل الباطل على ما يؤيده إعادة الحق ثانيا باللام و المراد به ما يقابل الباطل قطعا و التقدير فالحق أقسم به لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم، أو فقولي الحق لأملأن «إلخ». 

  • و قوله: {وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ} جملة معترضة تشير إلى حتمية القضاء و ترد على إبليس ما يلوح إليه قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} إلخ من كون قوله تعالى و هو أمره بالسجود غير حق، و تقديم الحق في {وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ} و تحليته باللام لإفادة الحصر. 

  • و قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} متن القضاء الذي قضى به و كأن المراد بقوله: {مِنْكَ} جنس الشياطين حتى يشمل إبليس و ذريته و قبيله، و قوله: {وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي من الناس ذرية آدم. 

  • و قد أشبعنا الكلام في نظائر الآيات من سورة الحجر و في القصة من سور البقرة و الأعراف و الإسراء فعليك بالرجوع إليها. 

تفسير الميزان ج۱۷

228
  •  قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ} رجوع إلى ما تقدم في أول السورة و خلال آياتها أن القرآن ذكر و أن ليس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا منذرا لا غير و رد لما رموه بقولهم: {اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلى‌ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْ‌ءٌ يُرَادُ}

  • فقوله: {مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي أجرا دنيويا من مال أو جاه، و قوله: {وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ} أي من أهل التكلف و هو التصنع و التحلي بما ليس له. 

  • قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي القرآن ذكر عام للعالمين من جماعات الناس و مختلف الشعوب و الأمم و غيرهم لا يختص بقوم دون قوم حتى يؤخذ على تلاوته مال و على تعليمه أجر بل هو للجميع. 

  • قوله تعالى: {وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} أي لتعلمن ما أخبر به القرآن من الوعد و الوعيد و ظهوره على الأديان و غير ذلك بعد حين أي بعد مرور زمان. 

  • قيل: المراد بعد حين يوم القيامة، و قيل: يوم الموت، و قيل: يوم بدر، و لا يبعد أن يقال: إن نبأه مختلف لا يختص بيوم من هذه الأيام حتى يكون هو المراد بل المراد به المطلق فلكل من أقسام نبأه حينه. 

  • بحث روائي 

  • في تفسير القمي بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث يذكر فيه المعراج، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): قال تعالى: يا محمد. قلت: لبيك يا رب. قال: 

  • فيما اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني. قال: فوضع يده أي يد القدرة بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي قال: فلم يسألني عما مضى و لا عما بقي إلا علمته. فقال: يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الكفارات و الدرجات و الحسنات. (الحديث). 

  • و في المجمع، روى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: قال لي ربي: أ تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا. قال: اختصموا في الكفارات و الدرجات فأما الكفارات فإسباغ الوضوء في السبرات و نقل الأقدام إلى الجماعات و انتظار الصلاة بعد الصلاة، 

تفسير الميزان ج۱۷

229
  • و أما الدرجات فإفشاء السلام و إطعام الطعام و الصلاة بالليل و الناس نيام. 

  • أقول: و رواه في الخصال، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فجعل ما فسر به الكفارات تفسيرا للدرجات و بالعكس، و روي في الدر المنثور، حديث المجمع بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على اختلاف ما في الروايات. 

  • و كيفما كان فسياق الآية يأبى الانطباق على مضمون هذه الروايات و لا دليل يدل على كون الروايات في مقام تفسير الآية فلعل الاختصام المذكور فيها غير المذكور في الآية. 

  • و في نهج البلاغة:‌ الحمد لله الذي لبس العز و الكبرياء و اختارهما لنفسه دون خلقه، و جعلهما حمى و حرما على غيره، و اصطفاهما لجلاله، و جعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب و محجوبات الغيوب: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ } اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه و تعصب عليه بأصله. 

  • فعدو الله إمام المتعصبين و سلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية، و نازع الله رداء الجبرية، و أدرع لباس التعزز، و خلع قناع التذلل أ لا ترون كيف صغره الله بتكبره، و وضعه بترفعه فجعله في الدنيا مدحورا، و أعد له في الآخرة سعيرا. (الخطبة).

  • و في العيون، بإسناده إلى محمد بن عبيدة قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} قال: يعني بقدرتي و قوتي. 

  • أقول: و روي مثله في التوحيد، بإسناده عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام).

  • و في القصة روايات أخر أوردناها في ذيلها من سور البقرة و الأعراف و الحجر و الإسراء فراجع. 

  • و عن جوامع الجامع، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، و يتعاطى ما لا ينال، و يقول ما لا يعلم. 

  • أقول: و روي مثله في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) عن لقمان في وصيته لابنه، 

تفسير الميزان ج۱۷

230
  • و روي أيضا من طرق أهل السنة، و في بعض الروايات: ينازل من فوقه. 

  • (٣٩) سورة الزمر مكية و هي خمس و سبعون آية (٧٥) 

  • [سورة الزمر (٣٩): الآیات ١ الی ١٠]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ مِنَ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ ١ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ ٢ أَلاَ لِلَّهِ اَلدِّينُ اَلْخَالِصُ وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى‌ إِنَّ اَللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ٣ لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى‌ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ ٤ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اَللَّيْلَ عَلَى اَلنَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ اَلنَّهَارَ عَلَى اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلاَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ ٥ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٦ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لاَ يَرْضى‌ لِعِبَادِهِ اَلْكُفْرَ وَ إِنْ 

تفسير الميزان ج۱۷

231
  • تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‌ ثُمَّ إِلى‌ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ٧ وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اَلنَّارِ ٨ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اَللَّيْلِ سَاجِداً وَ قَائِماً يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ ٩ قُلْ يَا عِبَادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى اَلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ١٠} 

  • (بيان) 

  • يظهر من خلال آيات السورة أن المشركين من قومه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ سألوه أن ينصرف عما هو عليه من التوحيد و الدعوة إليه و التعرض لآلهتهم و خوفوه بآلهتهم فنزلت السورة - و هي قرينة سورة ص بوجه - و هي تؤكد الأمر بأن يخلص دينه لله سبحانه و لا يعبأ بآلهتهم و أن يعلمهم أنه مأمور بالتوحيد و إخلاص الدين الذي تواترت الآيات من طريق الوحي و العقل جميعا عليه. 

  • و لذلك نراه سبحانه يعطف الكلام عليه في خلال السورة مرة بعد مرة كقوله في مفتتح السورة: {فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ أَلاَ لِلَّهِ اَلدِّينُ اَلْخَالِصُ} ثم يرجع إليه و يقول: 

تفسير الميزان ج۱۷

232
  • {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ} - إلى قوله - {قُلِ اَللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}

  • ثم يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} إلخ ثم يقول: {أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} ثم يقول: {قُلْ يَا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى‌ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} ثم يقول: {قُلْ أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا اَلْجَاهِلُونَ} إلى غير ذلك من الإشارات. 

  • ثم عمم الاحتجاج على توحده تعالى في الربوبية و الألوهية من الوحي و من طريق البرهان و قايس بين المؤمنين و المشركين مقايسات لطيفة فوصف المؤمنين بأجمل أوصافهم و بشرهم بما سيثيبهم في الآخرة مرة بعد مرة و ذكر المشركين و أنذرهم بما سيلحقهم من الخسران و عذاب الآخرة مضافا إلى ما يصيبهم في الدنيا من وبال أمرهم كما أصاب الذين كذبوا من الأمم الدارجة من عذاب الخزي في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أكبر. 

  • و من ثم وصفت السورة يوم البعث و خاصة في مختتمها بأوضح الوصف و أتمه. 

  • و السورة مكية لشهادة سياق آياتها بذلك و كأنها نزلت دفعة واحدة لما بين آياتها من الاتصال. 

  • و الآيات العشر المنقولة تجمع الدعوة من طريق الوحي و الحجة العقلية بادئة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • قوله تعالى: {تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ مِنَ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ} {تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ} خبر لمبتدإ محذوف، و هو مصدر بمعنى المفعول فيكون إضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى موصوفها و {مِنَ اَللَّهِ} متعلق بتنزيل و المعنى هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم. 

  • و قيل: {تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ} مبتدأ و {مِنَ اَللَّهِ} خبره و لعل الأول أقرب إلى الذهن. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ} عبر بالإنزال دون التنزيل كما في الآية السابقة لأن القصد إلى بيان كونه بالحق و هو يناسب مجموع ما نزل إليه من ربه. 

  • و قوله: {بِالْحَقِّ} الباء فيه للملابسة أي أنزلناه إليك متلبسا بالحق فما فيه من الأمر بعبادة الله وحده حق، و على هذا المعنى فرع عليه قوله: {فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ 

تفسير الميزان ج۱۷

233
  • اَلدِّينَ} و المعنى فإذا كان بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين لأن فيه ذلك. 

  • و المراد بالدين - على ما يعطيه السياق - العبادة و يمكن أن يراد به سنة الحياة و هي الطريقة المسلوكة في الحياة في المجتمع الإنساني، و يراد بالعبادة تمثيل العبودية بسلوك الطريق التي شرعها الله سبحانه و المعنى فأظهر العبودية لله في جميع شئون حياتك باتباع ما شرعه لك فيها و الحال أنك مخلص له دينك لا تتبع غير ما شرعه لك. 

  • قوله تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ اَلدِّينُ اَلْخَالِصُ} إظهار و إعلان لما أضمر و أجمل في قوله: {بِالْحَقِّ} و تعميم لما خصص في قوله: {فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ} أي إن الذي أوحيناه إليك من إخلاص الدين لله واجب على كل من سمع هذا النداء، و لكون الجملة نداء مستقلا أظهر اسم الجلالة و كان مقتضى الظاهر أن يضمر و يقال: له الدين الخالص. 

  • و معنى كون الدين الخالص له أنه لا يقبل العبادة ممن لا يعبده وحده سواء عبده و غيره أو عبد غيره وحده. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى‌} إلى آخر الآية تقدم أن الوثنية يرون أن الله سبحانه أجل من أن يحيط به الإدراك الإنساني من عقل أو وهم أو حس فيتنزه تعالى عن أن يقع عليه توجه عبادي منا. 

  • فمن الواجب أن نتقرب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه و هم الذين فوض إليهم تدبير شئون العالم فنتخذهم أربابا من دون الله ثم آلهة نعبدهم و نتقرب إليهم ليشفعوا لنا عند الله و يقربونا إليه زلفى و هؤلاء هم الملائكة و الجن و قديسو البشر و هؤلاء هم الأرباب و الآلهة بالحقيقة. 

  • أما الأصنام المصنوعة المنصوبة في الهياكل و المعابد فإنما هي تماثيل للأرباب و الآلهة و ليست في نفسها أربابا و لا آلهة غير أن الجهلة من عامتهم ربما لم يفرقوا بين الأصنام و أرباب الأصنام فعبدوا الأصنام كما يعبد الأرباب و الآلهة و كذلك كانت عرب الجاهلية و كذلك الجهلة من عامة الصابئين ربما لم يفرقوا بين أصنام الكواكب و الكواكب التي هي أيضا أصنام لأرواحها الموكلة عليها و بين أرواحها التي هي الأرباب و الآلهة بالحقيقة عند خاصتهم. 

تفسير الميزان ج۱۷

234
  • و كيف كان فالأرباب و الآلهة هم المعبودون عندهم و هم موجودات ممكنة مخلوقة لله مقربة عنده مفوضة إليهم تدبير أمر العالم لكل بحسب منزلته و أما الله سبحانه فليس له إلا الخلق و الإيجاد و هو رب الأرباب و إله الآلهة. 

  • إذا تذكرت ما مر ظهر أن المراد بقوله: {وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} اتخاذهم أربابا يدبرون الأمر بأن يسندوا الربوبية و أمر التدبير إليهم لا إلى الله فهم المدبرون للأمر عندهم و يتفرع عليه أن يخضع لهم و يعبدوا لأن العبادة لجلب النفع أو لدفع الضرر أو شكر النعم و كل ذلك إليهم لتصديهم أمر التدبير دون الله سبحانه. 

  • فالمراد باتخاذهم أولياء اتخاذهم أربابا،۱ و لذا عقب اتخاذ الأولياء بذكر العبادة {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا} فقوله: {وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} مبتدأ خبره {إِنَّ اَللَّهَ يَحْكُمُ} إلخ و المراد بهم المشركون القائلون بربوبية الشركاء و ألوهيتهم دون الله إلا ما ذهب إليه جهلتهم من كونه تعالى شريكا لهم في المعبودية. 

  • و قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى‌} تفسير لمعنى اتخاذ الأولياء من دون الله و هو حكاية لقولهم أو بتقدير القول أي يقولون: ما نعبدهم هؤلاء إلا ليقربونا بسبب عبادتنا لهم إلى الله تقريبا فهم عادلون منه تعالى إلى غيره، و إنما سموا مشركين لأنهم يشركون به تعالى غيره حيث يقولون بكونهم أربابا و آلهة للعالم و كونه تعالى ربا و إلها لأولئك الأرباب و الآلهة، و أما الشركة في الخلق و الإيجاد فلم يقل به لا مشرك و لا موحد. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} قيل: ضمير الجمع للمشركين و أوليائهم أي إن الله يحكم بين المشركين و بين أوليائهم فيما هم فيه يختلفون، و قيل: الضميران راجعان إلى المشركين و خصمائهم من أهل الإخلاص في الدين المفهوم من السياق، و المعنى إن الله يحكم بينهم و بين المخلصين للدين. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الكفار كثير الكفران لنعم الله 

    1. فالولاية و الربوبية قريبا المعنى فالرب هو المالك المدبر و الولي هو مالك التدبير أو متصدي التدبير.

تفسير الميزان ج۱۷

235
  • أو كثير الستر للحق، و في الجملة إشعار بل دلالة على أن الحكم يوم القيامة على المشركين لا لهم و أنهم مسيرون إلى العذاب، و المراد بالهداية الإيصال إلى حسن العاقبة. 

  • قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى‌ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} احتجاج على نفي قولهم: إن الله اتخذ ولدا، و قول بعضهم: الملائكة بنات الله. و القول بالولد دائر بين عامة الوثنية على اختلاف مذاهبهم و قد قالت النصارى: المسيح ابن الله، و قالت اليهود على ما حكاه القرآن عنهم: عزير ابن الله و كأنها بنوة تشريفية. 

  • و البنوة كيفما كانت تقتضي شركة ما بين الابن و الأب و الولد و الوالد فإن كانت بنوة حقيقية و هي اشتقاق شي‌ء من شي‌ء و انفصاله منه اقتضت الشركة في حقيقة الذات و الخواص و الآثار المنبعثة من الذات كبنوة إنسان لإنسان المقتضية لشركة الابن لأبيه في الإنسانية و لوازمها، و إن كانت بنوة اعتبارية كالبنوة الاجتماعية و هو التبني اقتضت الاشتراك في الشئونات الخاصة بالأب كالسؤدد و الملك و الشرف و التقدم و الوراثة و بعض أحكام النسب، و الحجة المسوقة في الآية تدل على استحالة اتخاذ الولد عليه تعالى بكلا المعنيين. 

  • فقوله: {لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} شرط صدر بلو الدال على الامتناع للامتناع، و قوله: {لاَصْطَفى‌ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي لاختار لذلك مما يخلق ما يتعلق به مشيئته على ما يفيده السياق و كونه مما يخلق لكون ما عداه سبحانه خلقا له. 

  • و قوله: {سُبْحَانَهُ} تنزيه له سبحانه، و قوله: {هُوَ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} بيان لاستحالة الشرط و هو إرادة اتخاذ الولد ليترتب عليه استحالة الجزاء و هو اصطفاء ما يشاء مما يخلق و ذلك لأنه سبحانه واحد في ذاته المتعالية لا يشاركه فيها شي‌ء و لا يماثله فيها أحد لأدلة التوحيد، و واحد في صفاته الذاتية التي هي عين ذاته كالحياة و العلم و القدرة، و واحد في شئونه التي هي من لوازم ذاته كالخلق و الملك و العزة و الكبرياء لا يشاركه فيها أحد. 

  • و هو سبحانه قهار يقهر كل شي‌ء بذاته و صفاته فلا يستقل قبال ذاته و وجوده شي‌ء في ذاته و وجوده و لا يستغني عنه شي‌ء في صفاته و آثار وجوده فالكل أذلاء داخرون بالنسبة إليه مملوكون له فقراء إليه. 

تفسير الميزان ج۱۷

236
  • فمحصل حجة الآية قياس استثنائي ساذج يستثني فيه نقيض المقدم لينتج نقيض التالي و هو نحو من قولنا: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى لذلك بعض من يشاء من خلقه لكن إرادته اتخاذ الولد ممتنعة لكونه واحدا قهارا فاصطفاؤه لذلك بعض من يشاء من خلقه ممتنع. 

  • و قد أغرب بعضهم في تقريب حجة الآية فقال: حاصل المعنى لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض الممكنات على بعض. 

  • و أصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الألوهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ و أبلغ ثم حذف هذا الجواب و جي‌ء بدله لاصطفى تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول و أنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شي‌ء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه و تعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم و حق نفي اللازم و إثبات الملزوم دون صعوبة. انتهى. 

  • و كأنه مأخوذ من قول الزمخشري في الكشاف، في تفسير الآية حيث قال: يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع و لم يصح لكونه محالا و لم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه و يختصهم و يقربهم كما يختص الرجل ولده و يقربه و قد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به و غركم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم به و بحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام و الأعراض كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه و هم الملائكة لكنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا ثم تماديتم في جهلكم و سفهكم فجعلتموهم بنات فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء على الله و ملائكته غالين في الكفر انتهى. 

  • و أنت خبير أن سياق الآية لا يلائم هذا البيان. على أنه لا يدفع قول القائل بالتبني التشريفي كقول اليهود عزير ابن الله فإنهم لا يريدون بالتبني إلا اصطفاء من يشاء من خلقه. 

  • و هناك بعض تقريبات أخر منهم لا جدوى فيه تركنا إيراده. 

  • قوله تعالى: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ} لا يبعد أن يكون ما فيه من 

تفسير الميزان ج۱۷

237
  • الإشارة إلى الخلق و التدبير بيانا لقهاريته تعالى لكن اتصال الآيتين و ارتباطهما مضمونا و انتهاء الثانية إلى قوله: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ} إلخ كالصريح في أن ذلك استئناف بيان للاحتجاج على توحيد الربوبية. 

  • فالآية و التي تليها مسوقتان لتوحيد الربوبية و قد جمع فيهما بين الخلق و التدبير لما مر مرارا أن إثبات وحدة الخالق لا يستلزم عند الوثني نفي تعدد الأرباب و الآلهة لأنهم لا ينكرون انحصار الخلق و الإيجاد فيه تعالى لكنه سبحانه فيما يحتج على توحده في الربوبية و الألوهية في كلامه يجمع بين الخلق و التدبير إشارة إلى أن التدبير غير خارج من الخلق بل هو خلق بوجه كما أن الخلق تدبير بوجه و عند ذلك يتم الاحتجاج على رجوع التدبير إليه تعالى و انحصاره فيه برجوع الخلق إليه. 

  • و قوله: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ} إشارة إلى الخلقة، و في قوله: {بِالْحَقِّ} - و الباء للملابسة - إشارة إلى البعث فإن كون الخلقة حقا غير باطل يلازم كونها لغاية تقصدها و تنساق إليها و هي البعث قال تعالى: ‌{وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} ص: ٢٧. 

  • و قوله: {يُكَوِّرُ اَللَّيْلَ عَلَى اَلنَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ اَلنَّهَارَ عَلَى اَللَّيْلِ} قال في المجمع، التكوير طرح الشي‌ء بعضه على بعض. انتهى فالمراد طرح الليل على النهار و طرح النهار على الليل فيكون من الاستعارة بالكناية قريب المعنى من قوله‌{يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ} الأعراف: ٥٤ و المراد استمرار توالي الليل و النهار بظهور هذا على ذاك ثم ذاك على هذا و هكذا، و هو من التدبير. 

  • و قوله: {وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أي سخر الشمس و القمر فأجراهما للنظام الجاري في العالم الأرضي إلى أجل مسمى معين لا يتجاوزانه. 

  • و قوله: {أَلاَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفَّارُ} يمكن أن يكون في ذكر الاسمين إشارة إلى ما يحتج به على توحده تعالى في الربوبية و الألوهية فإن العزيز الذي لا يعتريه ذلة إن كان فهو الله و هو المتعين للعبادة لا غيره الذي تغشاه الذلة و تغمره الفاقة و كذا الغفار للذنوب إذا قيس إلى من ليس من شأنه ذلك. 

  • و يمكن أن يكون ذكرهما تحضيضا على التوحيد و الإيمان بالله الواحد و المعنى 

تفسير الميزان ج۱۷

238
  • أنبهكم أنه هو العزيز فآمنوا به و اعتزوا بعزته، الغفار فآمنوا به يغفر لكم. 

  • قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} إلخ الخطاب لعامة البشر، و المراد بالنفس الواحدة على ما تؤيده نظائره من الآيات آدم أبو البشر، و المراد بزوجها امرأته التي هي من نوعها و تماثلها في الإنسانية، و {ثُمَّ} للتراخي بحسب رتبة الكلام. 

  • و المراد أنه تعالى خلق هذا النوع و كثر أفراده من نفس واحدة و زوجها. 

  • و قوله: {وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الأنعام هي الإبل و البقر و الضأن و المعز، و كونها ثمانية أزواج باعتبار انقسامها إلى الذكر و الأنثى. 

  • و تسمية خلق الأنعام في الأرض إنزالا لها باعتبار أنه تعالى يسمي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا لها من خزائنه التي هي عنده و من الغيب إلى الشهادة قال تعالى: ‌{وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر: ٢١. 

  • و قوله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} بيان لكيفية خلق من تقدم ذكره من البشر و الأنعام، و في الخطاب تغليب أولي العقل على غيرهم، و الخلق من بعد الخلق التوالي و التوارد كخلق النطفة علقة و خلق العلقة مضغة و هكذا، و الظلمات الثلاث هي ظلمة البطن و الرحم و المشيمة - كما قيل - و رواه في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام). 

  • و قيل: المراد بها ظلمة الصلب و الرحم و المشيمة و هو خطأ فإن قوله: {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} صريح في أن المراد بالظلمات الثلاث ما في بطون النساء دون أصلاب الرجال. 

  • و قوله: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ} أي الذي وصف لكم في الآيتين بالخلق و التدبير هو ربكم دون غيره لأن الرب هو المالك الذي يدبر أمر ما ملكه و إذ كان خالقا لكم و لكل شي‌ء دونكم و للنظام الجاري فيكم فهو الذي يملككم و يدبر أمركم فهو ربكم لا غير. 

  • و قوله: {لَهُ اَلْمُلْكُ} أي على جميع المخلوقات في الدنيا و الآخرة فهو المليك على الإطلاق» و تقديم الظرف يفيد الحصر، و الجملة خبر بعد خبر لقوله: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ} كما أن قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }كذلك، و انحصار الألوهية فيه تعالى فرع انحصار الربوبية فيه 

تفسير الميزان ج۱۷

239
  • لأن الإله إنما يعبد لأنه رب مدبر فيعبد إما خوفا منه أو رجاء فيه أو شكرا له. 

  • و قوله: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره و هو ربكم الذي خلقكم و دبر أمركم و هو المليك عليكم. 

  • قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لاَ يَرْضى‌ لِعِبَادِهِ اَلْكُفْرَ} إلى آخر الآية. مسوق لبيان أن الدعوة إلى التوحيد و إخلاص الدين لله سبحانه ليست لحاجة منه تعالى إلى إقبالهم إليه بالانصراف عن عبادة غيره بل لعناية منه تعالى بهم فيدعوهم إلى سعادتهم اعتناء بها كما يعتني برزقهم فيفيض النعم عليهم و كما يعتني بحفظهم فيلهمهم أن يدفعوا الآفات عن أنفسهم. 

  • فقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} الخطاب لعامة المكلفين أي إن تكفروا بالله فلم توحدوه فإنه غني عنكم لذاته لا ينتفع بإيمانكم و طاعتكم و لا يتضرر بكفركم و معصيتكم فالنفع و الضرر إنما يتحققان في مجال الإمكان و الحاجة و أما الواجب الغني بذاته فلا يتصور في حقه انتفاع و لا تضرر. 

  • و قوله: {وَ لاَ يَرْضى‌ لِعِبَادِهِ اَلْكُفْرَ} دفع لما ربما يمكن أن يتوهم من قوله: {فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} إنه إذا لم يتضرر بكفر و لم ينتفع بإيمان فلا موجب له أن يريد منا الإيمان و الشكر فدفعه بأن تعلق العناية الإلهية بكم يقتضي أن لا يرضى بكفركم و أنتم عباده. 

  • و المراد بالكفر كفر النعمة الذي هو ترك الشكر بقرينة مقابلة قوله: {وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} و بذلك يظهر أن التعبير بقوله: {لِعِبَادِهِ} دون أن يقول: لكم للدلالة على علة الحكم أعني سبب عدم الرضا. 

  • و المحصل أنكم عباد مملوكون لله سبحانه منغمرون في نعمه و رابطة المولوية و العبودية و هي نسبة المالكية و المملوكية لا تلائمه أن يكفر العبد بنعمة سيده فينسى ولاية مولاه و يتخذ لنفسه أولياء من دونه و يعصي المولى و يطيع عدوه و هو عبد عليه طابع العبودية لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا. 

  • و قوله: {وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} الضمير للشكر نظير قوله تعالى‌{اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‌} المائدة: ٨ و المعنى و إن تشكروا الله بالجري على مقتضى العبودية 

تفسير الميزان ج۱۷

240
  • و إخلاص الدين له يرض الشكر لكم و أنتم عباده، و الشكر و الكفر المقابل له ينطبقان على الإيمان و الكفر المقابل له. 

  • و مما تقدم يظهر أن العباد في قوله: {وَ لاَ يَرْضى‌ لِعِبَادِهِ اَلْكُفْرَ} عام يشمل الجميع فقول بعضهم: إنه خاص أريد به من عناهم في قوله‌{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ} الحجر: ٤٢ و هم المخلصون - أو المعصومون على ما فسره الزمخشري - و لازمه أن الله سبحانه رضي الإيمان لمن آمن و رضي الكفر لمن كفر إلا المعصومين فإنه أراد منهم الإيمان، و صانهم عن الكفر سخيف جدا، و السياق يأباه كل الإباء، إذ الكلام مشعر حينئذ برضاه الكفر للكافر فيؤول معنى الكلام إلى نحو من قولنا: إن تكفروا فإن الله غني عنكم و لا يرضى للأنبياء مثلا الكفر لرضاه لهم الإيمان و إن تشكروا أنتم يرضه لكم و إن تكفروا يرضه لكم و هذا - كما ترى - معنى ردي‌ء ساقط و خاصة من حيث وقوعه في سياق الدعوة. 

  • على أن الأنبياء مثلا داخلون فيمن شكر و قد رضي لهم الشكر و الإيمان و لم يرض لهم الكفر فلا موجب لإفرادهم بالذكر و قد ذكر الرضا عمن شكر. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‌} أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى أي لا يؤاخذ بالذنب إلا من ارتكبه. 

  • و قوله: {ثُمَّ إِلى‌ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ} أي هذا في الدنيا من كفر أو شكر ثم يبعثكم الله فيظهر لكم حقيقة أعمالكم و يحاسبكم على ما في قلوبكم و قد تكرر الكلام في معاني هذه الجمل فيما تقدم. 

  • (كلام في معنى الرضا و السخط من الله) 

  • الرضا من المعاني التي يتصف بها أولو الشعور و الإرادة و يقابله السخط و كلاهما وصفان وجوديان. 

  • ثم الرضا يتعلق بالمعاني من الأوصاف و الأفعال دون الذوات يقال: رضي له كذا و رضي بكذا قال تعالى: ‌{وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ} التوبة: ٥٩ و قال: 

تفسير الميزان ج۱۷

241
  • {وَ رَضُوا بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} يونس: ٧ و ما ربما يتعلق بالذوات فإنما هو بعناية ما و يؤول بالآخرة إلى المعنى كقوله: ‌{وَ لَنْ تَرْضى‌ عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصَارى‌} البقرة: ١٢٠. 

  • و ليس الرضا هو الإرادة بعينها و إن كان كلما تعلقت به الإرادة فقد تعلق به الرضا بعد وقوعه بوجه. و ذلك لأن الإرادة - كما قيل - تتعلق بأمر غير واقع و الرضا إنما يتعلق بالأمر بعد وقوعه أو فرض وقوعه فإذن كون الإنسان راضيا بفعل كذا كونه بحيث يلائم ذلك الفعل و لا ينافره، و هو وصف قائم بالراضي دون المرضي. 

  • ثم الرضا لكونه متعلقا بالأمر بعد وقوعه كان متحققا بتحقق المرضي حادثا بحدوثه فيمتنع أن يكون صفة من الصفات القائمة بذاته لتنزهه تعالى عن أن يكون محلا للحوادث فما نسب إليه تعالى من الرضا صفة فعل قائم بفعله منتزع عنه كالرحمة و الغضب و الإرادة و الكراهة قال تعالى: ‌{رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ} البينة: ٨ و قال: ‌{وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} النمل: ١٩، و قال: ‌{وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً} المائدة: ٣. 

  • فرضاه تعالى عن أمر من الأمور ملائمة فعله تعالى له، و إذ كان فعله قسمين تكويني و تشريعي انقسم الرضا منه أيضا إلى تكويني و تشريعي فكل أمر تكويني و هو الذي أراد الله و أوجده فهو مرضي له رضا تكوينيا بمعنى كون فعله و هو إيجاده عن مشية ملائما لما أوجده، و كل أمر تشريعي و هو الذي تعلق به التكليف من اعتقاد أو عمل كالإيمان و العمل الصالح فهو مرضي له رضا تشريعيا بمعنى ملاءمة تشريعه للمأتي به. 

  • و أما ما يقابل هذه الأمور المأمور بها مما تعلق به نهي فلا يتعلق بها رضا البتة لعدم ملاءمة التشريع لها كالكفر و الفسوق كما قال تعالى: ‌{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لاَ يَرْضى‌ لِعِبَادِهِ اَلْكُفْرَ} الزمر: ٧، و قال: ‌{فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَرْضى‌ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفَاسِقِينَ} التوبة: ٩٦. 

  • [بيان] 

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} إلى آخر الآية الإنابة الرجوع، و التخويل‌ العطية العظيمة على وجه الهبة و هي المنحة. على ما في المجمع. 

  • لما مر في الآية السابقة ذكر من كفر النعمة و أن الله سبحانه على غناه من الناس 

تفسير الميزان ج۱۷

242
  • لا يرضى لهم ذلك نبه في هذه الآية على أن الإنسان كفور بالطبع مع أنه يعرف ربه بالفطرة و لا يلبث عند الاضطرار دون أن يرجع إليه فيسأله كشف ضره كما قال‌: {وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ كَفُوراً} الإسراء: ٦٧، و قال: ‌{إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إبراهيم: ٣٤. 

  • فقوله: {وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} أي إذا أصاب الإنسان ضر من شدة أو مرض أو قحط و نحوه دعا ربه - و هو الله يعترف عند ذلك بربوبيته - راجعا إليه معرضا عمن سواه يسأله كشف الضر عنه. 

  • و قوله: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أي و إذا أعطاه ربه سبحانه بعد كشف الضر نعمة منه اشتغل به مستغرقا و نسي الضر الذي كان يدعو إليه أي إلى كشفه من قبل إعطاء النعمة. 

  • فما في قوله: {مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ} موصولة و المراد به الضر و ضمير {إِلَيْهِ} له و قيل: مصدرية و الضمير للرب سبحانه و المعنى نسي دعاءه إلى ربه من قبل الإعطاء، و قيل: موصولة و المراد به الله سبحانه و هو أبعد الوجوه. 

  • و قوله: {وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنداد الأمثال و المراد بها - على ما قيل - الأصنام و أربابها، و اللام في {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} للعاقبة، و المعنى و اتخذ الله أمثالا يشاركونه في الربوبية و الألوهية على مزعمته لينتهي به ذلك إلى إضلال الناس عن سبيل الله لأن الناس مطبوعون على التقليد يتشبه بعضهم ببعض و في الفعل دعوة كالقول. 

  • و لا يبعد أن يراد بالأنداد مطلق الأسباب التي يعتمد عليها الإنسان و يطمئن إليها و من جملتها أرباب الأصنام عند الوثني و ذلك لأن الآية تصف الإنسان و هو أعم من المشرك نعم مورد الآية هو الكافر. 

  • و قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اَلنَّارِ} أي تمتع تمتعا قليلا لا يدوم لك لأنك من أصحاب النار مصيرك إليها، و هو أمر تهديدي في معنى الإخبار أي إنك إلى النار و لا يدفعها عنك تمتعك بالكفر أياما قلائل. 

  • قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اَللَّيْلِ سَاجِداً وَ قَائِماً يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} (الآية) لا تخلو عن مناسبة و اتصال بقوله السابق: {وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‌} 

تفسير الميزان ج۱۷

243
  • فإن فحواه أن الكافر و الشاكر لا يستويان و لا يختلطان فأوضح ذلك في هذه الآية بأن القانت الذي يخاف العذاب و يرجو رحمة لا يساوي غيره. 

  • فقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اَللَّيْلِ سَاجِداً وَ قَائِماً يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} أحد شقي الترديد محذوف و التقدير أ هذا الذي ذكرناه خير {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} إلخ؟ 

  • و القنوت - على ما ذكره الراغب - لزوم الطاعة مع الخضوع، و الآناء جمع أنى و هو الوقت، و {يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ} أي عذاب الله في الآخرة قال تعالى: ‌{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} الإسراء: ٥٧، و قوله: {يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} هو و ما قبله يجمعان خوف العذاب و رجاء الرحمة، و لم يقيد الرحمة بالآخرة فإن رحمة الآخرة ربما وسعت الدنيا. 

  • و المعنى أ هذا الكافر الذي هو من أصحاب النار خير أم من هو لازم للطاعة و الخضوع لربه في أوقات الليل إذا جن عليه ساجدا في صلاته تارة قائما فيها أخرى يحذر عذاب الآخرة و يرجو رحمة ربه؟ أي لا يستويان. 

  • و قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} العلم و عدمه مطلقان لكن المراد بهما بحسب ما ينطبق على مورد الآية العلم بالله و عدمه فإن ذلك هو الذي يكمل به الإنسان و ينتفع بحقيقة معنى الكلمة و يتضرر بعدمه، و غيره من العلم كالمال ينتفع به في الحياة الدنيا و يفنى بفنائها. 

  • و قوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ} أي ذوو العقول و هو في مقام التعليل لعدم تساوي الفريقين بأن أحد الفريقين يتذكر حقائق الأمور دون الفريق الآخر فلا يستويان بل يترجح الذين يعلمون على غيرهم. 

  • قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَنَةٌ} إلى آخر الآية، الجار و المجرور {فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا} متعلق بقوله: {أَحْسَنُوا} فالمراد بالجملة وعد الذين أحسنوا أي لزموا الأعمال الحسنة أن لهم حسنة لا يقدر وصفها بقدر. 

  • و قد أطلق الحسنة فلم يقيدها بدنيا أو آخرة و ظاهرها ما يعلم الدنيا فللمؤمنين المحسنين في هذه الدنيا طيب النفس و سلامة الروح و صون النفوس عما يتقلب فيه الكفار من تشوش البال و تقسم القلب و غل الصدر و الخضوع للأسباب الظاهرية و فقد من يرجى 

تفسير الميزان ج۱۷

244
  • في كل نائبة و ينصر عند طروق الطارقة و يطمأن إليه في كل نازلة و في الآخرة سعادة دائمة و نعيم مقيم. 

  • و قيل: {فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا} متعلق بحسنة. و ليس بذاك. 

  • و قوله: {وَ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةٌ} حث و ترغيب لهم في الهجرة من مكة إذ كان التوقف فيها صعبا على المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المشركون يزيدون كل يوم في التشديد عليهم و فتنتهم، و الآية بحسب لفظها عامة. 

  • و قيل: المراد بأرض الله الجنة أي إن الجنة واسعة لا تزاحم فيها فاكتسبوها بالطاعة و العبادة. و هو بعيد. 

  • و قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى اَلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} توفية الأجر إعطاؤه تاما كاملا، و السياق يفيد أن القصر في الكلام متوجه إلى قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} فالجار و المجرور متعلق بقوله: {يُوَفَّى} صفة لمصدر يدل عليه و المعنى لا يعطى الصابرون أجرهم إلا إعطاء بغير حساب، فالصابرون لا يحاسبون على أعمالهم و لا ينشر لهم ديوان و لا يقدر أجرهم بزنة عملهم. 

  • و قد أطلق الصابرون في الآية و لم يقيد بكون الصبر على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة و إن كان الذي ينطبق على مورد الآية هو الصبر على مصائب الدنيا و خاصة ما يصيب من جهة أهل الكفر و السوق من آمن بالله و أخلص له دينه و اتقاه. 

  • و قيل: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} حال من {أَجْرَهُمْ} و يفيد كثرة الأجر الذي يوفونه، و الوجه السابق أقرب. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي: أن رجلا قال: يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله لا يقبل إلا ممن أخلص له. ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية: {أَلاَ لِلَّهِ اَلدِّينُ اَلْخَالِصُ}

  • و فيه، أخرج ابن جرير من طريق جويبر عن ابن عباس: {وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ 

تفسير الميزان ج۱۷

245
  • أَوْلِيَاءَ} (الآية) قال: أنزلت في ثلاثة أحياء: عامر و كنانة و بني سلمة كانوا يعبدون الأوثان و يقولون: الملائكة بناته فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفىَ}

  • أقول: الآية مطلقة تشمل عامة الوثنيين، و قول: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفىَ} قول جميعهم، و كذا القول بالولد و لا تصريح في الآية بالقول بكون الملائكة بنات فالحق أن الخبر من التطبيق. 

  • و في الكافي، و العلل، بإسنادهما عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: {آنَاءَ اَللَّيْلِ سَاجِداً وَ قَائِماً} إلخ قال: يعني صلاة الليل.

  • و في الكافي، بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عز و جل: {هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ} قال نحن الذين يعلمون، و عدونا الذين لا يعلمون، و شيعتنا أولو الألباب.

  • أقول: و هذا المعنى مروي بطرق كثيرة عن الباقر و الصادق (عليه السلام) و هو جري و ليس من التفسير في شي‌ء. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد في طبقاته و ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اَللَّيْلِ سَاجِداً وَ قَائِماً} قال: نزلت في عمار بن ياسر. 

  • أقول: و روي مثله عن جويبر عن عكرمة، و روي عن جويبر عن ابن عباس أيضا: أنها نزلت في ابن مسعود و عمار و سالم مولى أبي حذيفة.و روي عن أبي نعيم و ابن عساكر عن ابن عمر أنه عثمان و قيل غير ذلك، و الجميع من التطبيق و ليس من النزول بالمعنى المصطلح عليه، و السورة نازلة دفعة. 

  • و في المجمع، روى العياشي بالإسناد عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا نشرت الدواوين و نصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان و لم ينشر لهم ديوان. ثم تلا هذه الآية: {إِنَّمَا يُوَفَّى اَلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

  • أقول: و روي ما في معناه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث. 

تفسير الميزان ج۱۷

246
  • [سورة الزمر (٣٩): الآیات ١١ الی ٢٠]

  • {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ ١١ وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ ١٢ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٣ قُلِ اَللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ١٤ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ اَلْخَاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ اَلْخُسْرَانُ اَلْمُبِينُ ١٥ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ اَلنَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اَللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ١٦ وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَ أَنَابُوا إِلَى اَللَّهِ لَهُمُ اَلْبُشْرى‌ فَبَشِّرْ عِبَادِ ١٧ اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَاهُمُ اَللَّهُ وَ أُولَئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ ١٨ أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اَلْعَذَابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي اَلنَّارِ ١٩ لَكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ وَعْدَ اَللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ اَلْمِيعَادَ ٢٠} 

  • (بيان) 

  • في الآيات نوع رجوع إلى أول الكلام و أمره (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ أن يبلغهم أن الذي يدعوهم إليه من التوحيد و إخلاص الدين لله هو مأمور به كأحدهم و يزيد أنه مأمور أن يكون 

تفسير الميزان ج۱۷

247
  • أول مسلم لما يدعو إليه أي يكون بحيث يدعو إلى ما قد أسلم له و آمن به قبل، سواء أجابوا إلى دعوته أو ردوها. 

  • فعليهم أن لا يطمعوا فيه أن يخالف فعله قوله و سيرته دعوته فإنه مجيب لربه مسلم له متصلب في دينه خائف منه أن يعصيه ثم تنذر الكافرين و تبشر المؤمنين بما أعد الله سبحانه لكل من الفريقين من عذاب أو نعمة. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ} - إلى قوله - {أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ} نحو رجوع إلى قوله تعالى في مفتتح السورة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ} بداعي أن يؤيسهم من نفسه، فلا يطمعوا فيه أن يترك دعوتهم و يوافقهم على الإشراك بالله كما يشير إليه أول سورة ص و آيات أخر. 

  • فكأنه يقول: قل لهم إن الذي تلوت عليكم من أمره تعالى بعبادته بإخلاص الدين و قد وجه به الخطاب إلي - ليس المراد به مجرد دعوتكم إلى ذلك بإقامتي في الخطاب مقام السامع فيكون من قبيل «إياك أعني و اسمعي يا جارة» بل أنا كأحدكم مأمور بعبادته مخلصا له الدين، و لا ذلك فحسب، بل مأمور بأن أكون أول المسلمين لما ينزل إلي من الوحي فأسلم له أولا ثم أبلغه لغيري فأنا أخاف ربي و أعبده بالإخلاص آمنتم به أو كفرتم فلا تطمعوا في. 

  • فقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ} إشارة إلى أنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ يشارك غيره في الأمر بدون الإخلاص. 

  • و قوله: {وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ} إشارة إلى أن في الأمر المتوجه إلي زيادة على ما توجه إليكم من التكليف و هو أني أمرت بما أمرت و قد توجه الخطاب إلي قبلكم و الغرض منه أن أكون أول من أسلم لهذا الأمر و آمن به. 

  • قيل: اللام في قوله: {لِأَنْ أَكُونَ} للتعليل و المعنى و أمرت بذلك لأجل أن أكون أول المسلمين، و قيل: اللام زائدة كما تركت اللام في قوله تعالى‌{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} الأنعام: ١٤. 

  • و مآل الوجهين واحد بحسب المعنى فإن كونه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ أول المسلمين يعطي عنوانا 

تفسير الميزان ج۱۷

248
  • لإسلامه و عنوان الفعل يصح أن يجعل غاية للأمر بالفعل و أن يجعل متعلقا للأمر فيؤمر به يقال: اضربه للتأديب، و يقال: أدبه بالضرب. 

  • قال في الكشاف:‌ و في معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني و من قومي لأنه أول من خالف دين آبائه و خلع الأصنام و حطمها، و أن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما، و أن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا غيره لأكون مقتدى بي في قولي و فعلي جميعا و لا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، و أن أفعل ما استحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب. انتهى. 

  • و أنت خبير بأن الأنسب لسياق الآيات هو الوجه الثالث و هو الذي قدمناه و يلزمه سائر الوجوه. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} المراد بمعصية ربه بشهادة السياق مخالفة أمره بعبادته مخلصا له الدين، و باليوم العظيم يوم القيامة و الآية كالتوطئة لمضمون الآية التالية. 

  • قوله تعالى: {قُلِ اَللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} تصريح بأنه ممتثل لأمر ربه مطيع له بعد التكنية عنه في الآية السابقة، و إياس لهم أن يطمعوا فيه أن يخالف أمر ربه. 

  • و تقديم المفعول في قوله: {قُلِ اَللَّهَ أَعْبُدُ} يفيد الحصر، و قوله: {مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} يؤكد معنى الحصر، و قوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أمر تهديدي بمعنى أنهم لا ينفعهم ذلك فإنهم مصيبهم وبال إعراضهم عن عبادة الله بالإخلاص كما يشير إليه ذيل الآية {قُلْ إِنَّ اَلْخَاسِرِينَ} إلخ. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اَلْخَاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} إلخ الخسر و الخسران‌ ذهاب رأس المال إما كلا أو بعضا و الخسران أبلغ من الخسر، و خسران النفس هو إيرادها مورد الهلكة و الشقاء بحيث يبطل منها استعداد الكمال فيفوتها السعادة بحيث لا يطمع فيها و كذا خسارة الأهل. 

  • و في الآية تعريض للمشركين المخاطبين بقوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} كأنه 

تفسير الميزان ج۱۷

249
  • يقول: فأيا ما عبدتم فإنكم تخسرون أنفسكم بإيرادها بالكفر مورد الهلكة و أهليكم و هم خاصتكم بحملهم على الكفر و الشرك و هي الخسران بالحقيقة. 

  • و قوله: {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ اَلْخُسْرَانُ اَلْمُبِينُ} و ذلك لأن الخسران المتعلق بالدنيا - و هو الخسران في مال أو جاه - سريع الزوال منقطع الآخر بخلاف خسران يوم القيامة الدائم الخالد فإنه لا زوال له و لا انقطاع. 

  • على أن المال أو الجاه إذا زال بالخسران أمكن أن يخلفه آخر مثله أو خير منه بخلاف النفس إذا خسرت. 

  • هذا على تقدير كون المراد بالأهل خاصة الإنسان في الدنيا، و قيل: المراد بالأهل من أعده الله في الجنة للإنسان لو آمن و اتقى من أزواج و خدم و غيرهم و هو أوجه و أنسب للمقام فإن النسب و كل رابطة من الروابط الدنيوية الاجتماعية مقطوعة يوم القيامة قال تعالى: ‌{فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} المؤمنون: ١٠١ و قال: ‌{يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} الانفطار: ١٩ إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و يؤيده أيضا قوله تعالى‌{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَ يَنْقَلِبُ إِلى‌ أَهْلِهِ مَسْرُوراً} الانشقاق: ٩. 

  • قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ اَلنَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} إلخ الظلل‌ جمع ظلة و هي - كما قيل - الستر العالي. 

  • و المراد بكونها من فوقهم و من تحتهم إحاطتها بهم فإن المعهود من النار الجهتان و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَ أَنَابُوا إِلَى اَللَّهِ لَهُمُ اَلْبُشْرى‌} قال الراغب: الطاغوت‌ عبارة عن كل متعد و كل معبود من دون الله، و يستعمل في الواحد و الجمع. انتهى، و الظاهر أن المراد بها في الآية الأوثان و كل معبود طاغ من دون الله. 

  • و لم يقتصر على مجرد اجتناب عبادة الطاغوت بل أضاف إليه قوله: {وَ أَنَابُوا إِلَى اَللَّهِ} إشارة إلى أن مجرد النفي لا يجدي شيئا بل الذي ينفع الإنسان مجموع النفي 

تفسير الميزان ج۱۷

250
  • و الإثبات، عبادة الله و ترك عبادة غيره و هو عبادته مخلصا له الدين. 

  • و قوله: {لَهُمُ اَلْبُشْرى‌} إنشاء بشرى و خبر لقوله: {وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا} إلخ. 

  • قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} إلى آخر الآية كان مقتضى الظاهر أن يقال: فبشرهم غير أنه قيل: فبشر عباد و أضيف إلى ضمير التكلم لتشريفهم به و لتوصيفهم بقوله: {اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ} إلخ. 

  • و المراد بالقول بقرينة ما ذكر من الاتباع ما له نوع ارتباط و مساس بالعمل فأحسن القول أرشده في إصابة الحق و أنصحه للإنسان، و الإنسان إذا كان ممن يحب الحسن و ينجذب إلى الجمال كان كلما زاد الحسن زاد انجذابا فإذا وجد قبيحا و حسنا مال إلى الحسن، و إذا وجد حسنا و أحسن قصد ما هو أحسن، و أما لو لم يمل إلى الأحسن و انجمد على الحسن كشف ذلك عن أنه لا ينجذب إليه من حيث حسنه و إلا زاد الانجذاب بزيادة الحسن. 

  • فتوصيفهم باتباع أحسن القول معناه أنهم مطبوعون على طلب الحق و إرادة الرشد و إصابة الواقع فكلما دار الأمر بين الحق و الباطل و الرشد و الغي اتبعوا الحق و الرشد و تركوا الباطل و الغي و كلما دار الأمر بين الحق و الأحق و الرشد و ما هو أكثر رشدا أخذوا بالأحق الأرشد. 

  • فالحق و الرشد هو مطلوبهم و لذلك يستمعون القول و لا يردون قولا بمجرد ما قرع سمعهم اتباعا لهوى أنفسهم من غير أن يتدبروا فيه و يفقهوه. 

  • فقوله: {اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} مفاده أنهم طالبو الحق و الرشد يستمعون القول رجاء أن يجدوا فيه حقا و خوفا أن يفوتهم شي‌ء منه. 

  • و قيل: المراد باستماع القول و اتباع أحسنه استماع القرآن و غيره و اتباع القرآن، و قيل: المراد استماع أوامر الله تعالى و اتباع أحسنها كالقصاص و العفو فيتبعون العفو و إبداء الصدقات و إخفائها فيتبعون الإخفاء، و القولان من قبيل التخصيص من غير مخصص. 

  • و قوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَاهُمُ اَللَّهُ} إشارة إلى أن هذه الصفة هي الهداية الإلهية و هذه الهداية أعني طلب الحق و التهيؤ التام لاتباع الحق أينما وجد هي الهداية الإجمالية 

تفسير الميزان ج۱۷

251
  • و إليها تنتهي كل هداية تفصيلية إلى المعارف الإلهية. 

  • و قوله: {وَ أُولَئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ} أي ذوو العقول و يستفاد منه أن العقل هو الذي به الاهتداء إلى الحق و آيته صفة اتباع الحق، و قد تقدم في تفسير قوله‌{وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} البقرة: ١٣٠أنه يستفاد منه أن العقل ما يتبع به دين الله. 

  • قوله تعالى: {أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اَلْعَذَابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي اَلنَّارِ} ثبوت كلمة العذاب وجوب دخول النار بالكفر بقوله عند إهباط آدم إلى الأرض‌{وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة: ٣٩ و ما في معناه من الآيات. 

  • و مقتضى السياق أن في الآية إضمارا يدل عليه قوله: {أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي اَلنَّارِ} و التقدير أ فمن حقت عليه كلمة العذاب ينجو منه و هو أولى من تقدير قولنا: خير أم من وجبت عليه الجنة. 

  • و قيل: المعنى أ فمن وجب عليه وعيده تعالى بالعقاب أ فأنت تخلصه من النار فاكتفى بذكر {مَنْ فِي اَلنَّارِ} عن ذكر الضمير العائد إلى المبتدإ و جي‌ء بالاستفهام مرتين للتأكيد تنبيها على المعنى. 

  • و قيل: التقدير أ فأنت تنقذ من في النار منهم فحذف الضمير و هو أردأ الوجوه. 

  • قوله تعالى: {لَكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ} الغرف‌ جمع غرفة و هي المنزل الرفيع. قيل: و هذا في مقابلة قوله في الكافرين: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ اَلنَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}

  • و قوله: {وَعْدَ اَللَّهِ} أي وعدهم الله ذلك وعدا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله و قوله: {لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ اَلْمِيعَادَ} إخبار عن سنته تعالى في مواعيده و فيه تطييب لنفوسهم. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {قُلْ 

تفسير الميزان ج۱۷

252
  • إِنَّ اَلْخَاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ} يقول: غبنوا أنفسهم و أهليهم.

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَ أَنَابُوا إِلَى اَللَّهِ لَهُمُ اَلْبُشْرىَ}:روى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: أنتم هم و من أطاع جبارا فقد عبده.

  • أقول: و هو من الجري. 

  • و في الكافي:‌ بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): يا هشام إن الله تبارك و تعالى بشر أهل العقل و الفهم في كتابه فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَاهُمُ اَللَّهُ وَ أُولَئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ}

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: في قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} قال: نزلت هاتان الآيتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، في زيد بن عمرو بن نفيل و أبي ذر الغفاري و سلمان الفارسي. 

  • أقول: و رواه في المجمع، عن عبد الله بن زيد، و روي في الدر المنثور، أيضا عن ابن مردويه عن ابن عمر: أنها نزلت في سعيد بن زيد و أبي ذر و سلمان، و روي أيضا عن جويبر عن جابر بن عبد الله: أنها نزلت في رجل من الأنصار أعتق سبعة مماليك لما نزل قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} (الآية)، و الظاهر أن الجميع من تطبيق القصة على الآية. 

  • [سورة الزمر (٣٩): الآیات ٢١ الی ٣٧]

  • {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي اَلْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى‌ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ ٢١ أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ 

تفسير الميزان ج۱۷

253
  • {لِلْإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلىَ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٢٢ اَللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى‌ ذِكْرِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ٢٣ أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ اَلْعَذَابِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ٢٤ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ اَلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ٢٥ فَأَذَاقَهُمُ اَللَّهُ اَلْخِزْيَ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٢٦ وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٧ قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ٢٨ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً اَلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٢٩ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ٣٠ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ٣١ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اَللَّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ ٣٢ وَ اَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ 

تفسير الميزان ج۱۷

254
  • وَ صَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ ٣٣ لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ اَلْمُحْسِنِينَ ٣٤ لِيُكَفِّرَ اَللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ٣٥ أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ٣٦ وَ مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقَامٍ ٣٧} 

  • (بيان) 

  • عود إلى بدء من الاحتجاج على ربوبيته تعالى و القول في اهتداء المهتدين و ضلال الضالين و المقايسة بين الفريقين و ما ينتهي إليه عاقبة أمر كل منهما، و فيها معنى هداية القرآن. 

  • قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآية، قال في المجمع:‌ الينابيع‌ جمع ينبوع و هو الذي ينبع منه الماء يقال نبع الماء من موضع كذا إذا فار منه، و الزرع‌ ما ينبت على غير ساق و الشجر ما له ساق و أغصان النبات يعم الجميع، و هاج‌ النبت يهيج هيجا إذا جف و بلغ نهايته في اليبوسة، و الحطام‌ فتات التبن و الحشيش. انتهى. 

  • و قوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي اَلْأَرْضِ} أي فأدخله في عيون و مجاري في الأرض هي كالعروق في الأبدان تنقل ما تحمله من جانب إلى جانب، و الباقي ظاهر و الآية كما ترى تحتج على توحده تعالى في الربوبية. 

  • قوله تعالى: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلىَ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللَّهِ} إلخ لما ذكر في الآية السابقة أن فيما ذكره من إنزال الماء و إنبات 

تفسير الميزان ج۱۷

255
  • النبات ذكرى لأولي الألباب و هم عباده المتقون و قد ذكر قبل أنهم الذين هداهم الله ذكر في هذه الآية أنهم ليسوا كغيرهم من الضالين و أوضح السبب في ذلك و هو أنهم على نور من ربهم يبصرون به الحق و في قلوبهم لين لا تعصي عن قبول ما يلقى إليهم من أحسن القول. 

  • فقوله: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ} خبره محذوف يدل عليه قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} إلخ أي كالقاسية قلوبهم و الاستفهام للإنكار أي لا يستويان. 

  • و شرح الصدر بسطه ليسع ما يلقى إليه من القول و إذ كان ذلك للإسلام و هو التسليم لله فيما أراد و ليس إلا الحق كان معناه كون الإنسان بحيث يقبل ما يلقى إليه من القول الحق و لا يرده، و ليس قبولا من غير دراية و كيفما كان بل عن بصيرة بالحق و عرفان بالرشد و لذا عقبه بقوله: {فَهُوَ عَلى‌ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} فجعله بحسب التمثيل راكب نور يسير عليه و يبصر ما يمر به في ساحة صدره الرحب الوسيع من الحق فيبصره و يميزه من الباطل بخلاف الضال الذي لا في صدره شرح فيسع الحق و لا هو راكب نور من ربه فيبصر الحق و يميزه. 

  • و قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللَّهِ} تفريع على الجملة السابقة بما يدل على أن القاسية القلوب - و قساوة القلب و صلابته لازمة عدم شرح الصدر و عدم النور - لا يتذكرون بآيات الله فلا يهتدون إلى ما تدل عليه من الحق، و لذا عقبه بقوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}

  • و في الآية تعريف الهداية بلازمها و هو شرح الصدر و جعله على نور من ربه، و تعريف الضلال بلازمه و هو قساوة القلب من ذكر الله. 

  • و قد تقدم في تفسير قوله‌{فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ} الخ الأنعام: ١٢٥ كلام في معنى الهداية فراجع. 

  • قوله تعالى: {اَللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} إلى آخر الآية كالإجمال بعد التفصيل بالنسبة إلى الآية السابقة بالنظر إلى ما يتحصل من الآية في معنى الهداية و إن كانت بيانا لهداية القرآن. 

تفسير الميزان ج۱۷

256
  • فقوله: {اَللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ} هو القرآن الكريم و الحديث هو القول كما في قوله تعالى: ‌{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} الطور: ٣٤، و قوله: ‌{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} المرسلات: ٥٠فهو أحسن القول لاشتماله على محض الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و هو كلامه المجيد. 

  • و قوله: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً} أي يشبه بعض أجزائه بعضا و هذا غير التشابه الذي في المتشابه المقابل للمحكم فإنه صفة بعض آيات الكتاب و هذا صفة الجميع. 

  • و قوله: {مَثَانِيَ} جمع مثنية بمعنى المعطوف لانعطاف بعض آياته على بعض و رجوعه إليه بتبين بعضها ببعض و تفسير بعضها لبعض من غير اختلاف فيها بحيث يدفع بعضه بعضا و يناقضه كما قال تعالى: ‌{أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً} النساء: ٨٢. 

  • و قوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} صفة الكتاب و ليس استئنافا، و الاقشعرار تقبض الجلد تقبضا شديدا لخشية عارضة عن استماع أمر هائل أو رؤيته، و ليس ذلك إلا لأنهم على تبصر من موقف نفوسهم قبال عظمة ربهم فإذا سمعوا كلامه توجهوا إلى ساحة العظمة و الكبرياء فغشيت قلوبهم الخشية و أخذت جلودهم في الاقشعرار. 

  • و قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى‌ ذِكْرِ اَللَّهِ} {تَلِينُ} مضمنة معنى السكون و الطمأنينة و لذا عدي بإلى و المعنى ثم تسكن و تطمئن جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله لينة تقبله أو تلين له ساكنة إليه. 

  • و لم يذكر القلوب في الجملة السابقة عند ذكر الاقشعرار لأن المراد بالقلوب النفوس و لا اقشعرار لها و إنما لها الخشية. 

  • و قوله: {ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي ما يأخذهم من اقشعرار الجلود من القرآن ثم سكون جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله هو هدى الله و هذا تعريف آخر للهداية بلازمها. 

  • و قوله: {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يهدي بهداه من يشاء من عباده و هو الذي لن يبطل استعداده للاهتداء و لم يشغل بالموانع عنه كالفسق و الظلم و في السياق 

تفسير الميزان ج۱۷

257
  • إشعار بأن الهداية من فضله و ليس بموجب فيها مضطر إليها. 

  • و قيل: المشار إليه بقوله: {ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ} القرآن و هو كما ترى، و قد استدل بالآيات على أن الهداية من صنع الله لا يشاركه فيها غيره، و الحق أنها خالية عن الدلالة على ذلك و إن كان الحق هو ذلك بمعنى كونها لله سبحانه أصالة و لمن اختاره من عباده لذلك تبعا كما يستفاد من مثل قوله‌{قُلْ إِنَّ هُدَى اَللَّهِ هُوَ اَلْهُدى‌} البقرة: ١٢٠و قوله‌{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدى‌} الليل: ١٢، و قوله‌{وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }الأنبياء: ٧٣، و قوله‌{وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الشورى: ٥٢. 

  • فالهداية كلها لله إما بلا واسطة أو بواسطة الهداة المهديين من خلقه و على هذا فمن أضله من خلقه بأن لم يهده بالواسطة و لا بلا واسطة فلا هادي له و ذلك قوله في ذيل الآية: {وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} و سيأتي الجملة بعد عدة آيات و هي متكررة في كلامه تعالى. 

  • قوله تعالى: {أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ اَلْعَذَابِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} مقايسة بين أهل العذاب يوم القيامة و الآمنين منه و الفريقان هما أهل الضلال و أهل الهدى و لذا عقب الآية السابقة بهذه الآية. 

  • و الاستفهام للإنكار و خبر {مَنْ} محذوف و التقدير كمن هو في أمن منه، و يوم القيامة متعلق بيتقي، و المعنى أ فمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده التي بها كان يتقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن من العذاب لا يصيبه مكروه. كذا قيل. 

  • و قيل: الاتقاء بوجهه بالمعنى المذكور لا وجه له لأن الوجه ليس مما يتقى به بل المراد الاتقاء بكليته أو بخصوص وجهه سوء عذاب يوم القيامة و يوم القيامة قيد للعذاب و المراد عكس الوجه السابق، و المعنى أ فمن يتقي سوء العذاب الذي يوم القيامة في الدنيا بتقوى الله كالمصر على كفره، و لا يخلو من التكلف. 

  • و قوله: {وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} القول لملائكة النار، و الظاهر أن الجملة بتقدير قد أو بدونه و الأصل و قيل لهم ذوقوا «إلخ» لكن وضع الظاهر موضع 

تفسير الميزان ج۱۷

258
  • الضمير للدلالة على علة الحكم و هي الظلم. 

  • قوله تعالى: {كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ اَلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي من الجهة التي لا يحتسبون ففوجئوا و أخذوا على غفلة و هو أشد الأخذ، و في الآية و ما بعدها بيان لما أصاب بعض الكفار من عذاب الخزي ليكون عبرة لغيرهم. 

  • قوله تعالى: {فَأَذَاقَهُمُ اَللَّهُ اَلْخِزْيَ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} الخزي‌ هو الذل و الصغار، و قد أذاقهم الله ذلك في ألوان من العذاب أنزلنا عليهم كالغرق و الخسف و الصيحة و الرجفة و المسخ و القتل. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي ضربنا لهم من كل نوع من الأمثال شيئا لعلهم يتنبهون و يعتبرون و يتعظون بتذكر ما تتضمنه. 

  • قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} العوج‌ الانحراف و الانعطاف، {قُرْآناً عَرَبِيًّا} منصوب على المدح بتقدير أمدح أو أخص و نحوه أو حال معتمد على الوصف. 

  • قوله تعالى: {ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ} إلخ، قال الراغب: الشكس - بالفتح فالكسر - سيئ الخلق، و قوله: {شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} أي متشاجرون لشكاسة خلقهم. انتهى و فسروا السلم بالخالص الذي لا يشترك فيه كثيرون. 

  • مثل ضربه الله للمشرك الذي يعبد أربابا و آلهة مختلفين فيشتركون فيه و هم متنازعون فيأمره هذا بما ينهاه عنه الآخر و كل يريد أن يتفرد فيه و يخصه بخدمة نفسه، و للموحد الذي هو خالص لمخدوم واحد لا يشاركه فيه غيره فيخدمه فيما يريد منه من غير تنازع يؤدي إلى الحيرة فالمشرك هو الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون و الموحد هو الرجل الذي هو سلم لرجل. لا يستويان بل الذي هو سلم لرجل أحسن حالا من صاحبه. 

  • و هذا مثل ساذج ممكن الفهم لعامة الناس لكنه عند المداقة يرجع إلى قوله 

تفسير الميزان ج۱۷

259
  • تعالى: ‌{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللَّهُ لَفَسَدَتَا} الأنبياء: ٢٢ و عاد برهانا على نفي تعدد الأرباب و الآلهة. 

  • و قوله: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ} ثناء لله بما أن عبوديته خير من عبودية من سواه. 

  • و قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} مزية عبادته على عبادة غيره على ما له من الظهور التام لمن له أدنى بصيرة. 

  • قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الآية) الأولى تمهيد لما يذكر في الثانية من اختصامهم يوم القيامة عند ربهم و الخطاب في {إِنَّكُمْ} للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمته أو المشركين منهم خاصة و الاختصام كما في المجمع، رد كل واحد من الاثنين ما أتى به الآخر على وجه الإنكار عليه. 

  • و المعنى: إن عاقبتك و عاقبتهم الموت ثم إنكم جميعا يوم القيامة بعد ما حضرتم عند ربكم تختصمون و قد حكى مما يلقيه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) {وَ قَالَ اَلرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هَذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً} الفرقان: ٣٠. 

  • و الآيتان عامتان بحسب لفظهما لكن الآيات الأربع التالية تؤيد أن المراد بالاختصام ما يقع بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين الكافرين من أمته يوم القيامة. 

  • قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اَللَّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} في الآية و ما بعدها مبادرة إلى ذكر ما ينتهي إليه أمر اختصامهم يوم القيامة و تلويح إلى ما هو نتيجة القضاء بينهم كأنه قيل: و نتيجة ما يقضى به بينكم معلومة اليوم و أنه من هو الناجي منكم، و من هو الهالك؟ فإن القضاء يومئذ يدور مدار الظلم و الإحسان و لا أظلم من الكافر و المؤمن متق محسن و الظلم إلى النار و الإحسان إلى الجنة. هذا ما يعطيه السياق. 

  • فقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اَللَّهِ} أي افترى عليه بأن ادعى أن له شركاء و الظلم يعظم بعظم من تعلق به و إذا كان هو الله سبحانه كان أعظم من كل ظلم و مرتكبه أظلم من كل ظالم. 

  • و قوله: {وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} المراد بالصدق الصادق من النبإ و هو الدين 

تفسير الميزان ج۱۷

260
  • الإلهي الذي جاء به الرسول بقرينة قوله: {إِذْ جَاءَهُ}

  • و قوله: {أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} المثوى‌ اسم مكان بمعنى المنزل و المقام، و الاستفهام للتقرير أي إن في جهنم مقام هؤلاء الظالمين لتكبرهم على الحق الموجب لافترائهم على الله و تكذيبهم بصادق النبإ الذي جاء به الرسول. 

  • و الآية خاصة بمشركي عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو بمشركي أمته بحسب السياق و عامة لكل من ابتدع بدعة و ترك سنة من سنن الدين. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ} المراد بالمجي‌ء بالصدق الإتيان بالدين الحق و المراد بالتصديق به الإيمان به و الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و قوله: {أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ} لعل الإشارة إلى الذي جاء به بصيغة الجمع لكونه جمعا بحسب المعنى و هو كل نبي جاء بالدين الحق و آمن بما جاء به بل و كل مؤمن آمن بالدين الحق و دعي إليه فإن الدعوة إلى الحق قولا و فعلا من شئون اتباع النبي، قال تعالى: ‌{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‌ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي} يوسف: ١٠٨. 

  • قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ اَلْمُحْسِنِينَ} هذا جزاؤهم عند ربهم و هو أن لهم ما تتعلق به مشيتهم فالمشية هناك هي السبب التام لحصول ما يشاؤه الإنسان أيا ما كان بخلاف ما عليه الأمر في الدنيا فإن حصول شي‌ء من مقاصد الحياة فيها يتوقف مضافا إلى المشية على عوامل و أسباب كثيرة منها السعي و العمل المستمد من الاجتماع و التعاون. 

  • فالآية تدل أولا على إقامتهم في دار القرب و جوار رب العالمين، و ثانيا أن لهم ما يشاءون فهذان جزاء المتقين و هم المحسنون فإحسانهم هو السبب في إيتائهم الأجر المذكور و هذه هي النكتة في إقامة الظاهر مقام الضمير في قوله: {ذَلِكَ جَزَاءُ اَلْمُحْسِنِينَ} و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و ذلك جزاؤهم. 

  • و توصيفهم بالإحسان و ظاهره العمل الصالح أو الاعتقاد الحق و العمل الحسن جميعا يشهد أن المراد بالتصديق المذكور هو التصديق قولا و فعلا. على أن القرآن لا يسمي تارك بعض ما أنزله الله من حكم مصدقا به. 

تفسير الميزان ج۱۷

261
  •  قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اَللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي عَمِلُوا} إلى آخر الآية و من المعلوم أنه إذا كفر أسوأ أعمالهم كفر ما دون ذلك، و المراد بأسوإ الذي عملوا ما هو كالشرك و الكبائر. 

  • قال في مجمع البيان في الآية: أي أسقط الله عنهم عقاب الشرك و المعاصي التي فعلوها قبل ذلك بإيمانهم و إحسانهم و رجوعهم إلى الله تعالى انتهى؛ و هو حسن من جهة تعميم الأعمال السيئة، و من جهة تقييد التكفير بكونه قبل ذلك بالإيمان و الإحسان و التوبة فإن الآية تبين أثر تصديق الصدق الذي أتاهم و هو تكفير السيئات بالتصديق و الجزاء الحسن في الآخرة. 

  • و قوله: {وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}

  • قيل: المراد أنه ينظر إلى أعمالهم فيجازيهم في أحسنها جزاءه اللائق به و في غير الأحسن يجازيهم جزاء الأحسن فالباء للمقابلة نحو بعت هذا بهذا. 

  • و يمكن أن يقال: إن المراد أنه ينظر إلى أرفع أعمالهم درجة فيترفع درجتهم بحسبه فلا يضيع شي‌ء مما هو آخر ما بلغه عملهم من الكمال لكن في جريان نظير الكلام في تكفير الأسوء خفاء. 

  • و قيل: صيغة التفضيل في الآية {أَسْوَأَ} و {بِأَحْسَنِ} مستعملة في الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه فإن معصية الله كلها أسوأ و طاعته كلها أحسن. 

  • قوله تعالى: {أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} المراد بالذين من دونه آلهتهم من دون الله على ما يستفاد من السياق، و المراد بالعبد من مدحه الله تعالى في الآيات السابقة و يشمل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) شمولا أوليا. 

  • و الاستفهام للتقرير و المعنى هو يكفيهم، و فيه تأمين للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبال تخويفهم إياه بآلهتهم و كناية عن وعده بالكفاية كما صرح به في قوله‌{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللَّهُ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} البقرة: ١٣٧. 

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَ مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} إلخ جملتان كالمتعاكستين مرسلتان إرسال الضوابط الكلية و لذا جي‌ء فيهما باسم الجلالة 

تفسير الميزان ج۱۷

262
  • و كان من قبيل وضع الظاهر موضع الضمير. 

  • و في تعقيب قوله: {أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِكَافٍ} إلخ بقوله: {وَ مَنْ يُضْلِلِ} إلخ إشارة إلى أن هؤلاء المخوفين لا يهتدون بالإيمان أبدا و لن ينجح مسعاهم و أنهم لن ينالوا بغيتهم و لا أمنيتهم من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإن الله لن يضله و قد هداه. 

  • و قوله: {أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقَامٍ} استفهام للتقرير أي هو كذلك، و هو تعليل ظاهر لقوله: {وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ} إلخ فإن عزته و كونه ذا انتقام يقتضيان أن ينتقم ممن جحد الحق و أصر على كفره فيضله و لا هادي يهديه لأنه تعالى عزيز لا يغلبه فيما يريد غالب، و كذا إذا هدى عبدا من عباده لتقواه و إحسانه لم يقدر على إضلاله مضل. 

  • و في التعليل دلالة على أن الإضلال المنسوب إلى الله تعالى هو ما كان على نحو المجازاة و الانتقام دون الضلال الابتدائي و قد مر مرارا. 

  • (بحث روائي) 

  • عن روضة الواعظين روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ {أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلى‌ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} فقال: إن النور إذا وقع في القلب انفسح له و انشرح. قالوا: يا رسول الله فهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: التجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الاستعداد للموت قبل نزول الموت. 

  • أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود و عن الحكيم الترمذي عن ابن عمر، و عن ابن جرير و غيره عن قتادة. و في تفسير القمي‌ في قوله تعالى‌: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ} (الآية) قال: نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام). 

  • أقول: و نزول السورة دفعة لا يلائمه كما مر في نظيره. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: قالوا: يا رسول الله لو حدثتنا فنزل: {اَللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ}

  • أقول: و هو من التطبيق. 

تفسير الميزان ج۱۷

263
  • و في المجمع في قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ} (الآية) روي عن العباس بن عبد المطلب أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت‌۱ عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها.

  • و في الدر المنثور في قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}: أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} قال: غير مخلوق. 

  • أقول: الآية تأبى عن الانطباق على الرواية و قد تقدم كلام في معنى الكلام في ذيل قوله تعالى: ‌{تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ} البقرة: ٢٥٣ في الجزء الثاني من الكتاب. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن علي أنه قال: أنا ذلك الرجل السلم لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • أقول: و رواه أيضا عن العياشي بإسناده عن أبي خالد عن أبي جعفر (عليه السلام) و هو من الجري و المثل عام. 

  • و فيه في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قال ابن عمر: كنا نرى أن هذه فينا و في أهل الكتابين و قلنا: كيف نختصم نحن و نبينا واحد و كتابنا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعلمت أنها فينا نزلت. 

  • و قال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: إن ربنا واحد و نبينا واحد و ديننا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين و شد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا. 

  • أقول: و روي في الدر المنثور، الحديث الأول بطرق مختلفة عن ابن عمر و في ألفاظها اختلاف و المعنى واحد، و رواه أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن إبراهيم النخعي، و روي ما يقرب منه بطريقين عن الزبير بن العوام، و روي الحديث الثاني عن سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري. 

    1. أي تناثرت.

تفسير الميزان ج۱۷

264
  • و الأحاديث تعارض ما روي أن الصحابة مجتهدون مأجورون إن أصابوا و إن أخطئوا. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ اَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ} قيل: الذي جاء بالصدق محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و صدق به علي بن أبي طالب (عليه السلام) و هو المروي عن أئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن أبي هريرة، و الظاهر أنه من الجري نظرا إلى قوله في ذيل الآية: {أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ}

  • و روي من طرقهم أن الذي صدق به أبو بكر و هو أيضا من تطبيق الراوي، روي: أن الذي جاء به جبرئيل و الذي صدق به محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو أيضا تطبيق غير أن السياق يدفعه فإن الآيات مسوقة لوصف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين و جبرئيل أجنبي عنه لا تعلق للكلام به. 

  • [سورة الزمر (٣٩): الآیات ٣٨ الی ٥٢]

  • {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اَللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ اَلْمُتَوَكِّلُونَ ٣٨ قُلْ يَا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى‌ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ٣٩ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ٤٠إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اِهْتَدى‌ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ 

تفسير الميزان ج۱۷

265
  • بِوَكِيلٍ ٤١ اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضىَ عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرى‌ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٤٢ أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَعْقِلُونَ ٤٣ قُلْ لِلَّهِ اَلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٤٤ وَ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ وَحْدَهُ اِشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذَا ذُكِرَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ٤٥ قُلِ اَللَّهُمَّ فَاطِرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ عَالِمَ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٤٦ وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ اَلْعَذَابِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ٤٧ وَ بَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٤٨ فَإِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‌ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٤٩ قَدْ قَالَهَا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنى‌ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٥٠ 

تفسير الميزان ج۱۷

266
  • فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥١ أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥٢} 

  • (بيان) 

  • في الآيات كرة أخرى على المشركين بالاحتجاج على توحده تعالى في الربوبية و أنه لا يصلح لها شركاؤهم و أن الشفاعة التي يدعونها لشركائهم لا يملكها إلا الله سبحانه و فيها أمور أخر متعلقة بالدعوة من موعظة و إنذار و تبشير. 

  • قوله تعالى: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ} إلى آخر الآية شروع في إقامة الحجة و قد قدم لها مقدمة تبتني الحجة عليها و هي مسلمة عند الخصم و هي أن خالق العالم هو الله سبحانه فإن الخصم لا نزاع له في أن الخالق هو الله وحده لا شريك له و إنما يدعي لشركائه التدبير دون الخلق. 

  • و إذا كان الخلق إليه تعالى فما في السماوات و الأرض من عين و لا أثر إلا و ينتهي وجوده إليه تعالى فما يصيب كل شي‌ء من خير أو شر كان وجوده منه تعالى و ليس لأحد أن يمسك خيرا يريده تعالى له أو يكشف شرا يريده تعالى له لأنه من الخلق و الإيجاد و لا شريك له تعالى في الخلق و الإيجاد حتى يزاحمه في خلق شي‌ء أو يمنعه من خلق شي‌ء أو يسبقه إلى خلق شي‌ء و التدبير نظم الأمور و ترتيب بعضها على بعض خلق و إيجاد فالله الخالق لكل شي‌ء كاف في تدبير أمر العالم لأنه الخالق لكل شي‌ء و ليس وراء الخلق شي‌ء حتى يتوهم استناده إلى غيره فهو الله رب كل شي‌ء و إلهه لا رب سواه و لا إله غيره. 

  • فقوله: {قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} أي أقم الحجة عليهم بانيا لها على هذه المقدمة المسلمة عندهم أن الله خالق كل شي‌ء و قل مفرعا عليه أخبروني عما تدعون من دون الله، و التعبير عن آلهتهم بلفظة «ما» دون «من» و نحوه يفيد تعميم البيان للأصنام و أربابها جميعا فإن الخواص منهم و إن قصروا العبادة على الأرباب من الملائكة 

تفسير الميزان ج۱۷

267
  • و غيرهم و اتخذوا الأصنام قبلة و ذريعة إلى التوجه إلى أربابها لكن عامتهم ربما أخذوا الأصنام نفسها أربابا و آلهة يعبدونها و نتيجة الحجة عامة تشمل الجميع. 

  • و قوله: {إِنْ أَرَادَنِيَ اَللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} الضر كالمرض و الشدة و نحوهما و ظاهر مقابلته الرحمة عمومه لكل مصيبة، و إضافة الضر و الرحمة إلى ضميره تعالى في {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} و {مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} لحفظ النسبة لأن المانع من كشف الضر و إمساك الرحمة هو نسبتهما إليه تعالى. 

  • و تخصيص الضر و الرحمة به (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ من عموم الحجة له و لغيره لكونه المخاصم الأصيل لهم و قد خوفوه بآلهتهم من دون الله. 

  • و إرجاع ضمير الجمع المؤنث إلى ما يدعونه من دون الله لتغليب جانب غير أولي العقل من الأصنام و هو يؤيد ما قدمناه في قوله: {أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} أن التعبير بما لتعميم الحجة للأصنام و أربابها. 

  • و قوله: {قُلْ حَسْبِيَ اَللَّهُ} أمر بالتوكل عليه تعالى كما يدل عليه قوله بعده: {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ اَلْمُتَوَكِّلُونَ} و هو موضوع موضع نتيجة الحجة كأنه قيل: قل لهم: إني اتخذت الله وكيلا لأن أمر تدبيري إليه كما أن أمر خلقي إليه فهو في معنى قولنا: فقد دلت الحجة على ربوبيته و صدقت ذلك عملا باتخاذه وكيلا في أموري. 

  • و قوله: {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ اَلْمُتَوَكِّلُونَ} تقديم الظرف على متعلقه للدلالة على الحصر أي عليه يتوكلون لا على غيره، و إسناد الفعل إلى الوصف من مادته للدلالة على كون المراد المتوكلين بحقيقة معنى التوكل ففي الجملة ثناء عليه تعالى بأنه الأهل للتوكل عليه يتوكل أهل البصيرة في التوكل فلا لوم علي أن توكلت عليه و قلت: حسبي الله. 

  • قوله تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى‌ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} - إلى قوله - {عَذَابٌ مُقِيمٌ} المكانة هي المنزلة و القدر و هي في المعقولات كالمكان في المحسوسات فأمرهم بأن يعملوا على مكانتهم معناه أمرهم أن يستمروا على الحالة التي هم عليها من الكفر و العناد و الصد عن سبيل الله. 

  • و قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} الظاهر أن {مَنْ} استفهامية 

تفسير الميزان ج۱۷

268
  • لا موصولة لظهور العلم فيما يتعلق بالجملة لا بالمفرد. 

  • و قوله: {وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم و هو المناسب للحلول، و تفكيك أمر العذابين يشهد أن المراد بالأول عذاب الدنيا و بالثاني عذاب الآخرة، و في الكلام أشد التهديد. 

  • و المعنى قل مخاطبا للمشركين من قومك: يا قوم اعملوا - مستمرين - على حالتكم التي أنتم عليها من الكفر و العناد إني عامل - كما أومر غير منصرف عنه - فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يذله؟ و هو عذاب الدنيا كما في يوم بدر و يحل عليه و لا يفارقه عذاب دائم و هو عذاب الآخرة. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} إلى آخر الآية. في مقام التعليل للأمر الذي في الآية السابقة، و اللام في قوله: {لِلنَّاسِ} للتعليل أي لأجل الناس أن تتلوه عليهم و تبلغهم ما فيه، و الباء في قوله: {بِالْحَقِّ} للملابسة أي ملابسا للحق لا يشوبه باطل. 

  • و قوله: {فَمَنِ اِهْتَدى‌ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي يتفرع على هذا الإنزال أن من اهتدى فإنما يعود نفعه من سعادة الحياة و ثواب الدار الآخرة إلى نفسه، و من ضل و لم يهتد به فإنما يعود شقاؤه و وباله من عقاب الدار الآخرة إلى نفسه فالله سبحانه أجل من أن ينتفع بهداهم أو يتضرر بضلالهم. 

  • و قوله: {وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي مفوضا إليه أمرهم قائما بتدبير شئونهم حتى توصل ما فيه من الهدى إلى قلوبهم. 

  • و المعنى إنما أمرناك أن تهددهم بما قلنا لأنا نزلنا عليك الكتاب بالحق لأجل أن تقرأه على الناس لا غير فمن اهتدى منهم فإنما يعود نفعه إلى نفسه و من ضل و لم يهتد به فإنما يعود ضرره إلى نفسه و ما أنت وكيلا من قبلنا عليهم تدبر شئونهم فتوصل الهدى إلى قلوبهم فليس لك من الأمر شي‌ء. 

  • قوله تعالى: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} إلى آخر الآية، قال في المجمع:‌ التوفي‌ قبض الشي‌ء على الإيفاء و الإتمام يقال: توفيت حقي من فلان و استوفيته بمعنى. 

تفسير الميزان ج۱۷

269
  • انتهى. تقديم المسند إليه في الآية يفيد الحصر أي هو تعالى المتوفي لها لا غير و إذا انضمت الآية إلى مثل قوله تعالى‌{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} السجدة: ١١، و قوله‌{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} الأنعام: ٦١ أفادت معنى الأصالة و التبعية أي إنه تعالى هو المتوفي بالحقيقة و ملك الموت و الملائكة الذين هم أعوانه أسباب متوسطة يعملون بأمره. 

  • و قوله: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} المراد بالأنفس الأرواح المتعلقة بالأبدان لا مجموع الأرواح و الأبدان لأن المجموع غير مقبوض عند الموت و إنما المقبوض هو الروح يقبض من البدن بمعنى قطع تعلقه بالبدن تعلق التصرف و التدبير و المراد بموتها موت أبدانها إما بتقدير المضاف أو بنحو المجاز العقلي، و كذا المراد بمنامها. 

  • و قوله: {وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} معطوف على الأنفس في الجملة السابقة، و الظاهر أن المنام اسم زمان و في منامها متعلق بيتوفى و التقدير و يتوفى الأنفس التي لم تمت في وقت نومها. 

  • ثم فصل تعالى في القول في الأنفس المتوفاة في وقت النوم فقال: {فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضى‌ عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرى‌ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى} أي فيحفظ النفس التي قضى عليها الموت كما يحفظ النفس التي توفاها حين موتها و لا يردها إلى بدنها، و يرسل النفس الأخرى التي لم يقض عليها الموت إلى بدنها إلى أجل مسمى تنتهي إليه الحياة. 

  • و جعل الأجل المسمى غاية للإرسال دليل على أن المراد بالإرسال جنسه بمعنى أنه يرسل بعض الأنفس إرسالا واحدا و بعضها إرسالا بعد إرسال حتى ينتهي إلى الأجل المسمى. 

  • و يستفاد من الآية أولا: أن النفس موجود مغاير للبدن بحيث تفارقه و تستقل عنه و تبقى بحيالها. 

  • و ثانيا: أن الموت و النوم كلاهما توف و إن افترقا في أن الموت توف لا إرسال بعده و النوم توف ربما كان بعده إرسال. 

  • ثم تمم الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيتذكرون أن الله 

تفسير الميزان ج۱۷

270
  • سبحانه هو المدبر لأمرهم و أنهم إليه راجعون سيحاسبهم على ما عملوا. 

  • قوله تعالى: {أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ شُفَعَاءَ} إلخ {أَم} منقطعة أي بل اتخذ المشركون من دون الله شفعاء و هم آلهتهم الذين يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله سبحانه كما قال في أول السورة: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى‌} و قال: ‌{يَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اَللَّهِ} يونس: ١٨. 

  • و قوله: {قُلْ أَ وَ لَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَعْقِلُونَ} أمر بأن يرده عليهم بالمناقشة في إطلاق كلامهم فإن من البديهي أن الشفاعة تتوقف على علم في الشفيع يعلم به ما يريد؟ و ممن يريد؟ و لمن يريد؟ فلا معنى لشفاعة الجهاد الذي لا شعور له و كذا تتوقف على أن يملك الشفيع الشفاعة و يكون له حق أن يشفع و لا ملك لغير الله إلا أن يملكه الله شيئا و يأذن له في التصرف فيه فقولهم بشفاعة أوليائهم مطلقا الشامل لما لا يملكونه و لا علم لهم بإذنه تعالى لهم فيها تخرص. 

  • فالاستفهام في {أَ وَ لَوْ كَانُوا} إلخ للإنكار و المعنى قل لهم هل تتخذونهم شفعاء لكم و لو كانوا لا يملكون من عند أنفسهم شيئا كالملائكة و لا يعقلون شيئا كالأصنام؟ فإنه سفه. 

  • قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ اَلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلخ توضيح و تأكيد لما مر من قوله: {قُلْ أَ وَ لَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً} و اللام في {لِلَّهِ} للملك، و قوله: {لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} في مقام التعليل للجملة السابقة، و المعنى كل شفاعة فإنها مملوكة لله فإنه المالك لكل شي‌ء إلا أن يأذن لأحد في شي‌ء منها فيملكه إياها، و أما استغلال بعض عباده كالملائكة يملك الشفاعة مطلقا كما يقولون فمما لا يكون قال تعالى: ‌{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} يونس: ٣. 

  • و للآية معنى آخر أدق إذا انضمت إلى مثل قوله تعالى: ‌{لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاَ شَفِيعٌ} الأنعام: ٥١ و هو أن الشفيع بالحقيقة هو الله سبحانه و غيره من الشفعاء لهم الشفاعة بإذن منه فقد تقدم في بحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب أن الشفاعة ينتهي إلى توسط بعض صفاته تعالى بينه و بين المشفوع له لإصلاح حاله كتوسط الرحمة و المغفرة بينه و بين عبده المذنب لإنجائه من وبال الذنب و تخليصه من العذاب. 

  • و الفرق بين هذا الملك و ما في الوجه السابق أن المالك لا يتصف بمملوكه في الوجه ـ 

تفسير الميزان ج۱۷

271
  • السابق كما في ملك زيد للدار بخلاف الملك في هذا الوجه فإن المالك فيه يتصف بمملوكه كملك زيد الشجاع لشجاعته. 

  • و قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تعليل آخر لكونه يملك الشفاعة جميعا الدال على الحصر و ذلك أن الشفاعة إنما يملكها الذي ينتهي إليه أمر المشفوع له إن شاء قبلها و أصلح حال المشفوع له و أما غيره فإنما يملكها إذا رضي بها و أذن فيها و الله سبحانه هو الذي يرجع إليه العباد دون الذين يدعون من دون الله فالله هو المالك للشفاعة جميعا فقولهم بكون أوليائهم شفعاء لهم مطلقا ثم عبادتهم لهم كذلك بناء بلا مبني يعتمد عليه. 

  • و قيل: قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تهديد لهم كأنه قيل: ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم و يخيب سعيكم في عبادتهم. 

  • و قيل: يحتمل أن يكون تنصيصا على مالكية الآخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة و إيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه تعالى، و الوجه ما قدمناه. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ وَحْدَهُ اِشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} إلخ المراد من ذكره تعالى وحده جعله مفردا بالذكر من غير ذكر آلهتهم و من مصاديقه قول لا إله إلا الله، و الاشمئزاز الانقباض و النفور عن الشي‌ء. 

  • و إنما ذكر من وصفهم عدم إيمانهم بالآخرة لأن ذلك هو الأصل في اشمئزازهم و لو كانوا مؤمنين بالآخرة و أنهم يرجعون إلى الله فيجازيهم بأعمالهم عبدوه دون أوليائهم و لم يرغبوا عن ذكره وحده. 

  • و قوله: {وَ إِذَا ذُكِرَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} المراد بالذين من دونه آلهتهم، و الاستبشار سرور القلب بحيث يظهر أثره في الوجه. 

  • قوله تعالى: {قُلِ اَللَّهُمَّ فَاطِرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ عَالِمَ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ} إلخ لما بلغ الكلام مبلغا لا يرجى معه فيهم خير لنسيانهم أمر الآخرة و إنكارهم الرجوع إليه تعالى حتى كانوا يشمئزون من ذكره تعالى وحده أمره (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ أن يذكره تعالى وحده و يذكرهم حكمه بين عباده فيما اختلفوا فيه في صورة الالتجاء إليه تعالى على ما فيه من الإقرار بالبعث و قد وصف الله تعالى بأنه فاطر السماوات و الأرض أي مخرجها من 

تفسير الميزان ج۱۷

272
  • كتم العدم إلى ساحة الوجود، و عالم الغيب و الشهادة فلا يخفى عليه شي‌ء، و لازمه أن يحكم بالحق و ينفذ حكمه. 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ اَلْعَذَابِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} إلخ المراد بالذين ظلموا هم الذين ظلموا في الدنيا فالفعل يفيد مفاد الوصف، و الظالمون هم المنكرون للمعاد كما قال‌: {أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} الأعراف: ٤٥. 

  • و المعنى: و لو أن للظالمين المنكرين للمعاد ضعفي ما في الأرض من أموال و ذخائر و كنوز لجعلوه فدية من سوء العذاب. 

  • و قوله: {وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} البداء و البدو بمعنى الظهور و الحساب و الحسبان‌ العد، و الاحتساب‌ الاعتداد بالشي‌ء بمعنى البناء على عده شيئا و كثيرا ما يستعمل الحسبان و الاحتساب بمعنى الظن كما قيل و منه قوله: {مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} أي ما لم يكونوا يظنون لكن فرق الراغب بين الحسبان و الظن حيث قال: و الحسبان أن يحكم لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله و يكون بعرض أن يعتريه فيه شك، و يقارب ذلك الظن لكن الظن أن يخطر النقيضين بباله فيغلب أحدهما على الآخر. انتهى. 

  • و مقتضى سياق الآية أن المراد بيان أنهم سيواجهون يوم القيامة أمورا على صفة هي فوق ما تصوروه و أعظم و أهول مما خطر ببالهم لا أنهم يشاهدون أمورا ما كانوا يعتقدونها و يذعنون بها و بالجملة كانوا يسمعون أن لله حسابا و وزنا للأعمال و قضاء و نارا و ألوانا من العذاب فيقيسون ما سمعوه على إنكار منهم له على ما عهدوه من هذه الأمور في الدنيا فلما شاهدوها إذ ظهرت لهم وجدوها أعظم مما كان يخطر ببالهم من صفتها فهذه الآية في وصف عذابه نظير قوله في وصف نعيم أهل الجنة{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} السجدة: ١٧. 

  • و أيضا مقتضى السياق أن البدو المذكور من قبيل الظهور بعد الخفاء و الانكشاف بعد الاستتار كما يشير إليه قوله تعالى‌{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق: ٢٢. 

  • قوله تعالى: {وَ بَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} إلى آخر الآية أي ظهر لهم سيئات 

تفسير الميزان ج۱۷

273
  • أعمالهم بعد ما كانت خفية عليهم فهو كقوله: ‌{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} آل عمران: ٣٠. 

  • و قوله: {وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} أي و نزل عليهم و أصابهم ما كانوا يستهزءون به في الدنيا إذا سمعوه من أولياء الدين من شدائد يوم القيامة و أهواله و أنواع عذابه. 

  • قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‌ عِلْمٍ} إلخ الآية في مقام التعليل البياني لما تقدم من وصف الظالمين و لذا صدرت بالفاء لتتفرع على ما تقدم تفرع البيان على المبين. 

  • فهو تعالى لما ذكر من حالهم أنهم أعرضوا عن كل آية دالة على الحق و لم يصغوا إلى الحجج المقامة عليهم و لم يسمعوا موعظة و لم يعتدوا بعبرة فجحدوا ربوبيته تعالى و أنكروا البعث و الحساب و بلغ بهم ذلك أن اشمأزت قلوبهم إذا ذكر الله وحده. 

  • بين أن ذلك مما يستدعيه طبع الإنسان المائل إلى اتباع هوى نفسه و الاغترار بما زين له من نعم الدنيا و الأسباب الظاهرية الحافة بها فالإنسان حليف النسيان إذا مسه الضر أقبل إلى ربه و أخلص له و دعاه ثم إذا خوله ربه نعمة نسبه إلى علم نفسه و خبرته و نسي ربه و جهل أنها فتنة فتن بها. 

  • فقوله: {فَإِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ} أي مرض أو شدة {دَعَانَا} أي خصنا بالدعاء و انقطع عن غيرنا. 

  • و قوله: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‌ عِلْمٍ} التخويل‌ الإعطاء على نحو الهبة، و تقييد النعمة بقوله: {مِنَّا} للدلالة على كون وصف النعمة محفوظا لها و المعنى خولناه نعمة ظاهرا كونها نعمة. 

  • و ضمير {أُوتِيتُهُ} للنعمة بما أنه شي‌ء أو مال و العناية في ذلك بالإشارة إلى أنه لا يعترف بكونها نعمة منا بل يقطعها عنا فيسميها شيئا أو مالا و نحوه و لا يسميها نعمة حتى يضطره ذلك إلى الاعتراف بمنعم و الإشارة إليه كما قال: {أُوتِيتُهُ} فصفح عن 

تفسير الميزان ج۱۷

274
  • الفاعل لذلك و التعبيران أعني {نِعْمَةً مِنَّا} {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} من لطيف تعبير القرآن، و قد وجهوا تذكير الضمير في {أُوتِيتُهُ} بوجوه أخر غير موجهة من أرادها فليرجع إلى المفصلات. 

  • و الملائم لسياق الآية أن يكون معنى {عَلى‌ عِلْمٍ} على علم مني أي أوتيت هذا الذي أوتيت على علم مني و خبرة بطرق كسب المعاش و اقتناء الثروة و جمع المال. 

  • و قيل: المراد إنما أوتيته على علم من الله بخير عندي أستحق به أن يؤتيني النعمة، و قيل: المراد على علم مني برضا الله عني، و أنت خبير بأن ما تقدم من معنى قوله: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} لا يلائم شيئا من القولين. 

  • و قوله: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي بل النعمة التي خولناه منا فتنة أي ابتلاء و امتحان نمتحنه بذلك و لكن أكثرهم لا يعلمون بذلك. 

  • و قيل: معناه بل تلك النعمة عذاب لهم، و قيل: المعنى بل هذه المقالة فتنة لهم يعاقبون عليها و الوجهان بعيدان سيما الأخير. 

  • قوله تعالى: {قَدْ قَالَهَا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنى‌ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} ضمير {قَدْ قَالَهَا} راجع إلى القول السابق باعتبار أنه مقالة أو كلمة. 

  • و الآية رد لقولهم و إثبات لكونها فتنة يمتحنون بها بأنهم لو أوتوها على علم منهم و اكتسبوها بحولهم و قوتهم لأغنى عنهم كسبهم و لم يصبهم سيئات ما كسبوا و حفظوها لأنفسهم و تنعموا بها و لم يهلكوا دونها و ليس كذلك فهؤلاء الذين قبلهم قالوا هذه المقالة فما أغنى عنهم كسبهم و أصابهم سيئات ما كسبوا. 

  • و الظاهر أن الآية تشير بقوله: {قَدْ قَالَهَا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قارون و أمثاله و قد حكي عنه قول {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‌ عِلْمٍ عِنْدِي} في قصته من سورة القصص. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} الإشارة بهؤلاء إلى قومه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ و المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا من قومك سبيلهم سبيل من قبلهم سيصيبهم سيئات كسبهم و وبالات عملهم و ما هم بمعجزين لله. 

  • قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ} إلخ جواب آخر 

تفسير الميزان ج۱۷

275
  • عن قول القائل منهم: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‌ عِلْمٍ} و قد كان الجواب الأول {قَدْ قَالَهَا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلخ جوابا من طريق النقض و هذا جواب من طريق المعارضة بالإشارة إلى دلالة الدليل على أن الله سبحانه هو الذي يبسط الرزق و يقدر. 

  • بيان ذلك: أن سعي الإنسان عن علم و إرادة لتحصيل الرزق ليس سببا تاما موجبا لحصول الرزق و إلا لم يتخلف و من البين خلافه فكم من طالب رجع آيسا و ساع خاب سعيه. 

  • فهناك علل و شرائط زمانية و مكانية و موانع مختلفة باختلاف الظروف خارجة عن حد الإحصاء إذا اجتمعت و توافقت أنتج ذلك حصول الرزق. 

  • و ليس اجتماع هذه العلل و الشرائط على ما فيها من الاختلاف و التشتت و التفرق من مادة و زمان و مكان و مقتضيات أخر مرتبطة بها مقارنة أو متقدمة و علل العلل و مقدماتها الذاهبة إلى ما لا يحصى، اجتماعا و توافقا على سبيل الاتفاق فإن الاتفاق لا يكون دائميا و لا أكثريا و قانون ارتزاق المرتزقين الشامل للموجودات الحية بل المنبسط على أقطار العالم المشهود و أرجائه ثابت محفوظ في نظام جار على ما فيه من السعة و الانبساط و لو انقطع لهلكت الأشياء لأول لحظة و من فورها. 

  • و هذا النظام الجاري بوحدته و تناسب أجزائه و تلاؤمها يكشف عن وحدانية ناظمه و فردانية مدبره و مديره الخارج عن أجزاء العالم المحفوظة بنفس النظام الباقية به و هو الله عز اسمه. 

  • على أن النظام من التدبير و التدبير من الخلق كما مر مرارا فخالق العالم مدبره و مدبره رازقه و هو الله تعالى شأنه. 

  • و يشير إلى هذا البرهان في الآية قوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} فإنه إذا كان بسط الرزق و قدره بمشيئته تعالى لم يكن بمشيئة الإنسان الذي يتبجح بعلمه و سعيه و لا بمشيئة شي‌ء من العلل و الأسباب و إيجابه كما هو ظاهر و ليس من قبيل الاتفاق بل هو على نظام جار فهو بمشيئة جاعل النظام و مجريه و هو الله سبحانه. 

  • و قد تقدم كلام في معنى الرزق في ذيل قوله تعالى: ‌{وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} آل عمران: ٢٧ و سيأتي كلام فيه في تفسير قوله: ‌{فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} الذاريات: ٢٣ إن شاء الله تعالى. 

تفسير الميزان ج۱۷

276
  • (بحث روائي) 

  • في التوحيد عن علي (عليه السلام) في حديث و قد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات قال: و أما قوله: {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} و قوله: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} و قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَ هُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} و قوله: {اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} و قوله: {اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} فإن الله تبارك و تعالى يدبر الأمر كيف يشاء و يوكل من خلقه من يشاء بما يشاء أما ملك الموت فإن الله يوكله بخاصته ممن يشاء من خلقه و يوكل رسله من الملائكة خاصة بمن يشاء من خلقه. 

  • و ليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس لأن فيهم القوي و الضعيف، و لأن منه ما يطاق حمله و منه ما لا يطاق حمله إلا أن يسهل الله له حمله و أعانه عليه من خاصة أوليائه. 

  • و إنما يكفيك أن تعلم أن الله المحيي المميت، و أنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته و غيرهم. 

  • و في الخصال، عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: لا ينام المسلم و هو جنب لا ينام إلا على طهور فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد فإن روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها و يبارك عليها فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته و إن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته فيردونها في جسده.

  • و في المجمع:‌ روى العياشي بالإسناد عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن ثابت عن أبي المقدام عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء و بقيت روحه في بدنه و صار بينهما سبب كشعاع الشمس فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس و إن أذن الله في رد الروح أجابت النفس الروح و هو قوله سبحانه: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الآية). 

  • فمهما رأت في ملكوت السموات فهو مما له تأويل و ما رأت فيما بين السماء و الأرض فهو مما يخيله الشيطان و لا تأويل له. 

تفسير الميزان ج۱۷

277
  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال: العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشي‌ء لم يخطر له على بال فيكون رؤياه كأخذ باليد و يرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئا. 

  • فقال علي بن أبي طالب: أ فلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين يقول الله تعالى: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضىَ عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرىَ إِلىَ أَجَلٍ مُسَمًّى} فالله يتوفى الأنفس كلها فما رأت و هي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، و ما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقيها الشياطين في الهواء فكذبتها و أخبرتها بالأباطيل فعجب عمر من قوله.

  • أقول: تقدم تفصيل الكلام في الرؤيا في سورة يوسف و الرجوع إليه يعين في فهم معنى الروايتين، و قد أطلق فيهما السماء على ما اصطلح عليه بعالم المثال الأعظم و ما بين السماء و الأرض على ما اصطلح عليه بعالم المثال الأصغر فتبصر.

  • [ سورة الزمر (٣٩): الآیات ٥٣ الی ٦١]

  • {قُلْ يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىَ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ٥٣ وَ أَنِيبُوا إِلى‌ رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ ٥٤ وَ اِتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذَابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ٥٥ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى‌ عَلى‌ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اَللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ اَلسَّاخِرِينَ ٥٦ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اَللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ ٥٧ 

تفسير الميزان ج۱۷

278
  • أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى اَلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ ٥٨ بَلى‌ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَ اِسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ ٥٩ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ تَرَى اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اَللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ٦٠وَ يُنَجِّي اَللَّهُ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ اَلسُّوءُ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦١} 

  • (بيان) 

  • في الآيات أمره (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ أن يدعوهم إلى الإسلام و اتباع ما أنزل الله و يحذرهم عما يستعقبه إسرافهم على أنفسهم من الحسرة و الندامة يوم لا ينفعهم ذلك مع استكبارهم في الدنيا على الحق و الفوز و النجاة يومئذ للمتقين و النار و الخسران للكافرين، و في لسان الآيات من الرأفة و الرحمة ما لا يخفى. 

  • قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىَ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ} إلخ أمره (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ أن يدعوهم من قبله و يناديهم بلفظة يا عبادي و فيه تذكير بحجة الله سبحانه على دعوتهم إلى عبادتهم و ترغيب لهم إلى استجابة الدعوة أما التذكير بالحجة فلأنه يشير إلى أنهم عباده و هو مولاهم و من حق المولى على عبده أن يطيعه و يعبده فله أن يدعوه إلى طاعته و عبادته، و أما ترغيبهم إلى استجابة الدعوة فلما فيه من الإضافة إليه تعالى الباعث لهم إلى التمسك بذيل رحمته و مغفرته. 

  • و قوله: {اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىَ أَنْفُسِهِمْ} الإسراف - على ما ذكره الراغب - تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان و إن كان ذلك في الإنفاق أشهر، و كان الفعل مضمن معنى الجناية أو ما يقرب منها و لذا عدي بعلى و الإسراف على النفس هو التعدي عليها باقتراف الذنب أعم من الشرك و سائر الذنوب الكبيرة و الصغيرة على ما يعطيه السياق. 

  • و قال جمع: إن المراد بالعباد المؤمنون و قد غلب استعماله فيهم مضافا إليه تعالى 

تفسير الميزان ج۱۷

279
  • في القرآن فمعنى {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ} أيها المؤمنون المذنبون. 

  • و يدفعه أن قوله: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا} إلى تمام سبع آيات ذو سياق واحد متصل يفصح عن دعوتهم و قوله في ذيل الآيات: {بَلى‌ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَ اِسْتَكْبَرْتَ} إلخ كالصريح أو هو صريح في شمول العباد للمشركين. 

  • و ما ورد في كلامه تعالى من لفظ {عِبَادِيَ} و المراد به المؤمنون بضعة عشر موردا جميعها محفوفة بالقرينة و ليس بحيث ينصرف عند الإطلاق إلى المؤمنين كما أن الموارد التي أطلق فيها و أريد به الأعم من المشرك و المؤمن في كلامه كذلك. 

  • و بالجملة شمول {عِبَادِيَ} في الآية للمشركين لا ينبغي أن يرتاب فيه، و القول بأن المراد به المشركون خاصة نظرا إلى سياق الآيات كما نقل عن ابن عباس أقرب إلى القبول من تخصيصه بالمؤمنين. 

  • و قوله: {لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ} القنوط اليأس، و المراد بالرحمة بقرينة خطاب المذنبين و دعوتهم هو الرحمة المتعلقة بالآخرة دون ما هي أعم الشاملة للدنيا و الآخرة و من المعلوم أن الذي يفتقر إليه المذنبون من شئون رحمة الآخرة بلا واسطة هو المغفرة فالمراد بالرحمة المغفرة و لذا علل النهي عن القنوط من الرحمة بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً}

  • و في الآية التفات من التكلم إلى الغيبة حيث قيل: {إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ} و لم يقل: إني أغفر و ذلك للإشارة إلى أنه الله الذي له الأسماء الحسنى و منها أنه غفور رحيم كأنه يقول لا تقنطوا من رحمتي فإني أنا الله أغفر الذنوب جميعا لأن الله هو الغفور الرحيم. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً} تعليل للنهي عن القنوط و إعلام بأن جميع الذنوب قابلة للمغفرة فالمغفرة عامة لكنها تحتاج إلى سبب مخصص و لا تكون جزافا، و الذي عده القرآن سببا للمغفرة أمران: الشفاعة۱ و التوبة لكن ليس المراد في قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً} المغفرة الحاصلة بالشفاعة لأن الشفاعة لا تنال 

    1. و قد مر الكلام فيها في مباحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.

تفسير الميزان ج۱۷

280
  • الشرك بنص القرآن في آيات كثيرة و قد مر أيضا أن قوله‌{إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: ٤٨ ناظر إلى الشفاعة و الآية أعني قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً} موردها الشرك و سائر الذنوب. 

  • فلا يبقى إلا أن يكون المراد المغفرة الحاصلة بالتوبة و كلامه تعالى صريح في مغفرة الذنوب جميعا حتى الشرك بالتوبة. 

  • على أن الآيات السبع كما عرفت كلام واحد ذو سياق واحد متصل ينهى عن القنوط - و هو تمهيد لما يتلوه - و يأمر بالتوبة و الإسلام و العمل الصالح و ليست الآية الأولى كلاما مستقلا منقطعا عما يتلوه حتى يحتمل عدم تقييد عموم المغفرة فيها بالتوبة و أي سبب آخر مفروض للمغفرة. 

  • و الآية أعني قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً} من معارك الآراء بينهم فقد ذهب قوم إلى تقييد عموم المغفرة فيها بالشرك و سائر الكبائر التي وعد الله عليها النار مع عدم تقييد العموم بالتوبة فالمغفرة لا تنال إلا الصغائر من الذنوب. 

  • و ذهب آخرون إلى إطلاق المغفرة و عدم تقيدها بالتوبة و لا بسبب آخر من أسباب المغفرة غير أنهم قيدوها بالشرك لصراحة قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (الآية) فاستنتجوا عموم المغفرة و إن لم يكن هناك سبب مخصص يرجح المذنب المغفور له على غيره في مغفرته كالتوبة و الشفاعة و هي المغفرة الجزافية و قد استدلوا على‌۱ ذلك بوجوه غير سديدة. 

  • و أنت خبير بأن مورد الآية هو الشرك و سائر الذنوب، و من المعلوم من كلامه تعالى أن الشرك لا يغفر إلا بالتوبة فتقيد إطلاق المغفرة في الآية بالتوبة مما لا مفر منه. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنِيبُوا إِلى‌ رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} عطف على قوله: {لاَ تَقْنَطُوا}، و الإنابة إلى الله الرجوع إليه و هو التوبة، و قوله: 

    1. و قد استدل الآلوسي في روح المعاني على عدم تقيد إطلاق المغفرة في الآية بالتوبة بسبعة عشر وجها لا تغني طائلا، و ناقش في كون المغفرة لا عن سبب مرجح من التوبة و غيرها منافيا للحكمة ثم قيد الآية بتقدير «لمن يشاء» لوقوعه في بعض القراءات غير المشهورة فراجعه إن شئت. 

تفسير الميزان ج۱۷

281
  • {إِلى‌ رَبِّكُمْ} من وضع الظاهر موضع المضمر و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و أنيبوا إليه و الوجه فيه الإشارة إلى التعليل فإن الملاك في عبادة الله سبحانه صفة ربوبية. 

  • و المراد بالإسلام التسليم لله و الانقياد له فيما يريد، و إنما قال: {وَ أَسْلِمُوا لَهُ} و لم يقل: و آمنوا به لأن المذكور قبل الآية و بعدها استكبارهم على الحق و المقابل له الإسلام. 

  • و قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} متعلق بقوله: {أَنِيبُوا} و {أَسْلِمُوا} و المراد بالعذاب عذاب الآخرة بقرينة الآيات التالية، و يمكن على بعد أن يراد مطلق العذاب الذي لا تقبل معه التوبة و منه عذاب الاستئصال قال تعالى: ‌{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اَللَّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} المؤمن: ٨٥. 

  • و المراد بقوله: {ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} أن المغفرة لا تدرككم بوجه لعدم تحقق سببها فالتوبة مفروضة العدم و الشفاعة لا تشمل الشرك. 

  • قوله تعالى: {وَ اِتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذَابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} الخطاب عام للمؤمن و الكافر كالخطابات السابقة و القرآن قد أنزل إلى الفريقين جميعا. 

  • و في الآية أمر باتباع أحسن ما أنزل من الله قيل: المراد به اتباع الأحكام من الحلال و الحرام دون القصص، و قيل: اتباع ما أمر به و نهي عنه كإتيان الواجب و المستحب و اجتناب الحرام و المكروه دون المباح، و قيل: الاتباع في العزائم و هي الواجبات و المحرمات، و قيل: اتباع الناسخ دون المنسوخ، و قيل: ما أنزل هو جنس الكتب السماوية و أحسنها القرآن فاتباع أحسن ما أنزل و هو اتباع القرآن. 

  • و الإنصاف أن قوله في الآية السابقة: {وَ أَسْلِمُوا لَهُ} يشمل مضمون كل من هذه الأقوال فحمل قوله: {وَ اِتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} على شي‌ء منها لا يخلو عن تكرار من غير موجب. 

  • و لعل المراد من أحسن ما أنزل الخطابات التي تشير إلى طريق استعمال حق العبودية في امتثال الخطابات الإلهية الاعتقادية و العملية و ذلك كالخطابات الداعية إلى ذكر الله تعالى بالاستغراق و إلى حبه و إلى تقواه حق تقاته و إلى إخلاص الدين له فإن 

تفسير الميزان ج۱۷

282
  • اتباع هذه الخطابات يحيي الإنسان حياة طيبة و ينفخ فيه روح الإيمان و يصلح أعماله و يدخله في ولاية الله تعالى و هي الكرامة ليست فوقها كرامة. 

  • و قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذَابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أنسب لهذا المعنى فإن الدعوة إلى عمل بالتخويف من مفاجأة الحرمان و مباغتة المانع إنما تكون غالبا فيما يساهل المدعو في أمره و يطيب نفسه بسوف و لعل، و هذا المعنى أمس بإصلاح الباطن منه بإصلاح الظاهر و الإتيان بأجساد الأعمال، و يقرب منه قوله تعالى: ‌{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ }الأنفال: ٢٤. 

  • قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى‌ عَلى‌ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اَللَّهِ} إلخ قال في المجمع:‌ التفريط إهمال ما يجب أن يتقدم فيه حتى يفوت وقته، و قال: التحسر الاغتمام مما فات وقته لانحساره عنه بما لا يمكن استدراكه. انتهى. و قال الراغب: الجنب‌ الجارحة. قال: ثم يستعار في الناحية التي تليها لعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين و الشمال. انتهى. فجنب الله جانبه و ناحيته و هي ما يرجع إليه تعالى مما يجب على العبد أن يعامله و مصداق ذلك أن يعبده وحده و لا يعصيه و التفريط في جنب الله التقصير في ذلك. 

  • و قوله: {وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ اَلسَّاخِرِينَ} { إِنْ} مخففة من الثقيلة، و الساخرين‌ اسم فاعل من سخر بمعنى استهزأ. 

  • و معنى الآية إنما نخاطبكم بهذا الخطاب حذر أن تقول أو لئلا تقول نفس منكم يا حسرتا على ما قصرت في جانب الله و إني كنت من المستهزءين، و موطن القول يوم القيامة. 

  • قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اَللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ} ضمير تقول للنفس، و المراد بالهداية الإرشاد و إراءة الطريق، و المعنى ظاهر و هو قطع للعذر. 

  • قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى اَلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ} لو للتمني و الكرة الرجعة، و المعنى أو تقول نفس متمنية حين ترى العذاب يوم القيامة: ليت لي رجعة إلى الدنيا فأكون من المحسنين. 

تفسير الميزان ج۱۷

283
  • قوله تعالى: {بَلى‌ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَ اِسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ} رد لها و جواب لخصوص قولها ثانيا: {لَوْ أَنَّ اَللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ} و مواطن الجواب يوم القيامة كما أن موطن القول ذلك و لسياق الجواب شهادة عليه. 

  • و قد فصل بين قولها و جوابه بقوله: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى} إلخ و لم يجب إلا عن قولها: {لَوْ أَنَّ اَللَّهَ هَدَانِي} إلخ. 

  • و الوجه في الفصل أن الأقوال الثلاثة المنقولة عنها مرتبة على ترتيب صدورها عن المجرمين يوم القيامة فإذا قامت القيامة و رأى المجرمون أن اليوم يوم الجزاء بالأعمال و قد فرطوا فيها و فاتهم وقتها تحسروا على ما فرطوا و نادوا بالحسرة على تفريطهم {يَا حَسْرَتى‌ عَلى‌ مَا فَرَّطْتُ} قال تعالى: ‌{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ اَلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلى‌ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} الأنعام: ٣١. 

  • ثم إذا حوسبوا و أمر المتقون بدخول الجنة و قيل‌{وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ }يس: ٥٩ تعللوا بقولهم: {لَوْ أَنَّ اَللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ}

  • ثم إذا أمروا بدخول النار فأوقفوا عليها ثم أدخلوا فيها تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليحسنوا فيها فيسعدوا {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى اَلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} قال تعالى: ‌{وَ لَوْ تَرى‌ إِذْ وُقِفُوا عَلَى اَلنَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَ لاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ }الأنعام: ٢٧، و قال حاكيا عنهم: ‌{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ }المؤمنون: ١٠٧. 

  • ثم لما نقل الأقوال على ما بينها من الترتيب أخذ في الجواب و لو أخر القول المجاب عنه حتى يتصل بالجواب أو قدم الجواب حتى يتصل به اختل النظم۱ 

  • و قد خص قولهم الثاني: {لَوْ أَنَّ اَللَّهَ هَدَانِي} إلخ بالجواب و أمسك عن جواب قولهم الأول و الثالث لأن في الأول حديث استهزائهم بالحق و أهله و في الثالث تمنيهم للرجوع إلى الدنيا و الله سبحانه يزجر هؤلاء يوم القيامة و يمنعهم أن يكلموه و لا يجيب عن كلامهم كما يشير إلى ذلك قوله‌{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَ كُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا 

    1. و أصل الوجه مأخوذ من تفسير أبي السعود بإصلاح منا. 

تفسير الميزان ج۱۷

284
  • أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اِخْسَؤُا فِيهَا وَ لاَ تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفَائِزُونَ }المؤمنون: ١١١. 

  • قوله تعالى: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ تَرَى اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اَللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} الكذب على الله هو القول بأن له شريكا و أن له ولدا و منه البدعة في الدين. 

  • و سواد الوجه آية الذلة و هي جزاء تكبرهم و لذا قال: {أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ}

  • قوله تعالى: {وَ يُنَجِّي اَللَّهُ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ اَلسُّوءُ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} الظاهر أن مفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز و هو الظفر بالمراد، و الباء في {بِمَفَازَتِهِمْ} للملابسة أو السببية فالفوز الذي يقضيه الله لهم اليوم سبب تنجيتهم. 

  • و قوله: {لاَ يَمَسُّهُمُ} إلخ بيان لتنجيتهم كأنه قيل: ينجيهم لا يمسهم السوء من خارج و لا هم يحزنون في أنفسهم. 

  • و للآية نظر إلى قوله تعالى في ذيل آيات سورة المؤمنون المنقولة آنفا: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفَائِزُونَ} فتدبر و لا تغفل. 

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: ما في القرآن آية أوسع من: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ} (الآية).

  • أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير عن ابن سيرين عنه (عليه السلام) ، و ستأتي إن شاء الله في تفسير سورة الليل الرواية عنه (عليه السلام) أن قوله تعالى: {وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىَ} أرجى من هذه الآية. 

  • و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي 

تفسير الميزان ج۱۷

285
  • في شعب الإيمان عن ثوبان قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: ما أحب أن لي الدنيا و ما فيها بهذه الآية: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىَ أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية، فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم قال: إلا من أشرك. 

  • أقول: في الرواية شي‌ء فقد تقدم أن مورد الآية هو الشرك و أن الآية مقيدة بالتوبة. 

  • و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و مسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: لو لا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم. 

  • أقول: ما في الحديث من المغفرة لا يأبى التقيد بأسباب المغفرة كالتوبة و الشفاعة. 

  • و في المجمع‌ قيل: هذه الآية يعني قوله: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا} إلخ نزلت في وحشي قاتل حمزة حين أراد أن يسلم و خاف أن لا تقبل توبته فلما نزلت الآية أسلم فقيل: يا رسول الله هذه له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال (صلى الله عليه وآله و سلم)‌: بل للمسلمين عامة. 

  • و عن كتاب سعد السعود، لابن طاووس نقلا عن تفسير الكلبي: بعث وحشي و جماعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه ما يمنعنا من دينك إلا أننا سمعناك تقرأ في كتابك أن من يدعو مع الله إلها آخر و يقتل النفس و يزني يلق أثاما و يخلد في العذاب و نحن قد فعلنا ذلك كله فبعث إليهم بقوله تعالى:‌ {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً} فقالوا: نخاف أن لا نعمل صالحا. 

  • فبعث إليهم: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فقالوا نخاف أن لا ندخل في المشية. فبعث إليهم {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً} فجاءوا و أسلموا. 

  • فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لوحشي قاتل حمزة: غيب وجهك عني فإني لا أستطيع النظر إليك. قال: فلحق بالشام فمات في الخمر.

  •  أقول: و روي ما يقرب منه في الدر المنثور، بعدة طرق و في بعضها أن قوله: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا} إلخ نزل فيه كما في خبر المجمع، السابق، و يضعفه أن السورة مكية و قد أسلم وحشي بعد الهجرة. على أن ظاهر الخبر عدم تقيد إطلاق المغفرة في 

تفسير الميزان ج۱۷

286
  • الآية بالتوبة و قد عرفت أن السياق يأباه. 

  • و قوله: فمات في الخمر لعله بفتح الخاء و تشديد الميم موضع من أعراض المدينة و لعله من غلط الناس و الصحيح الحمص، و لعل المراد به موته عن شرب الخمر فإنه كان مدمن الخمر و قد جلد في ذلك غير مرة ثم ترك. 

  • و اعلم أن هناك روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في تطبيق هذه الآيات على شيعتهم و تطبيق جنب الله عليهم و هي جميعا من الجري دون التفسير و لذا تركنا إيرادها هاهنا. 

  • [سورة الزمر (٣٩): الآیات ٦٢ الی ٧٥]

  • {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَكِيلٌ ٦٢ لَهُ مَقَالِيدُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ ٦٣ قُلْ أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا اَلْجَاهِلُونَ ٦٤ وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ٦٥ بَلِ اَللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ ٦٦ وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى‌ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٦٧ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‌ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ٦٨ وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَ وُضِعَ اَلْكِتَابُ وَ جِي‌ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ قُضِيَ 

تفسير الميزان ج۱۷

287
  • بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٦٩ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ٧٠وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‌ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلى‌ وَ لَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ اَلْعَذَابِ عَلَى اَلْكَافِرِينَ ٧١ قِيلَ اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ ٧٢ وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُهَا وَ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ٧٣ وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ ٧٤ وَ تَرَى اَلْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٧٥} 

  • (بيان) 

  • فصل من الآيات به تختم السورة يذكر فيه خلاصة ما تنتجه الحجج المذكورة فيها قبل ذلك ثم يؤمر (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ أن يخاطب المشركين أن ما اقترحوا به عليه أن يعبد آلهتهم ليس إلا جهلا بمقامه تعالى و يذكر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ما أوحي إليه و إلى الذين من قبله: لئن أشرك ليحبطن عمله. 

تفسير الميزان ج۱۷

288
  • ثم يذكر سبحانه أن المشركين ما عرفوه واجب معرفته و إلا لم يرتابوا في ربوبيته لهم و لا عبدوا غيره ثم يذكر تعالى نظام الرجوع إليه و هو تدبير جانب المعاد من الخلقة ببيان جامع كاف لا مزيد عليه و يختم السورة بالحمد. 

  • قوله تعالى: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} هذا هو الذي ذكر اعتراف المشركين به من قبل في قوله‌{وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ} الآية ٣٨ من السورة و بنى عليه استناد الأشياء في تدبيرها إليه. 

  • و الجملة في المقام تمهيد لما يذكر بعدها من كون التدبير مستندا إليه لما تقدم مرارا أن الخلق لا ينفك عن التدبير فانتقل في المقام من استناد الخلق إليه إلى اختصاص الملك به و هو قوله: {لَهُ مَقَالِيدُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} و من اختصاص الملك به إلى كونه هو الوكيل على كل شي‌ء القائم مقامه في تدبير أمره. 

  • و قد تقدم في ذيل قوله‌{ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} الأنعام: ١٠٢ في الجزء السابع من الكتاب كلام في معنى عموم الخلقة لكل شي‌ء. 

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَكِيلٌ} و ذلك لأن انتهاء خلق كل شي‌ء وجوده إليه يقتضي أن يكون تعالى هو المالك لكل شي‌ء فلا يملك شي‌ء من الأشياء لا نفسه و لا شيئا مما يترشح من نفسه إلا بتمليك الله تعالى، فهو لفقره مطلقا لا يملك تدبيرا و الله المالك لتدبيره. 

  • و أما تمليكه تعالى له نفسه و عمله فهو أيضا نوع من تدبيره تعالى مؤكد لملكه غير ناف و لا مناف من شئون وكالته تعالى عليهم لا تفويض للأمر و إبطال للوكالة فافهم ذلك. 

  • و بالجملة إذ كان كل شي‌ء من الأشياء لا يملك لنفسه شيئا كان سبحانه هو الوكيل عليه القائم مقامه المدبر لأمره و الأسباب و المسببات في ذلك سواء فالله سبحانه هو ربها وحده. 

  • فقد تبين أن الجملة مسوقة للإشارة إلى توحده في الربوبية و هو المقصود بيانه فقول بعضهم إن ذكر ذلك بعد قوله: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} للدلالة على أنه هو الغني المطلق و أن المنافع و المضار راجعة إلى العباد، أو أن المراد أنه تعالى حفيظ على كل شي‌ء 

تفسير الميزان ج۱۷

289
  • فيكون إشارة إلى أن الأشياء محتاجة إليه في بقائها كما أنها محتاجة إليه في حدوثها، أجنبي عن معنى الآية بالمرة. 

  • قوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلخ المقاليد كما قيل بمعنى المفاتيح و لا مفرد له من لفظه. 

  • و مفاتيح السماوات و الأرض مفاتيح خزائنها قال تعالى: ‌ {وَ لِلَّهِ خَزَائِنُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} المنافقون: ٧ و خزائنها غيبها الذي يظهر منه الأشياء و النظام الجاري فيها فتخرج إلى الشهادة قال تعالى: ‌{وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر: ٢١. 

  • و ملك مقاليد السماوات و الأرض كناية عن ملك خزائنها التي منها وجودات الأشياء و أرزاقها و أعمارها و آجالها و سائر ما يواجهها في مسيرها من حين تبتدئ منه تعالى إلى حين ترجع إليه. 

  • و هو أعني قوله: {لَهُ مَقَالِيدُ} إلخ في مقام التعليل لقوله: {وَ هُوَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَكِيلٌ} و لذا جي‌ء به مفصولا من غير عطف. 

  • و قوله: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ} قد تقدم أن قوله: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} - إلى قوله - {وَ اَلْأَرْضِ} ذكر خلاصة ما تفيده الحجج المذكورة في خلال الآيات السابقة، و عليه فقوله: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ} إلخ معطوف على قوله: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} و المعنى الذي تدل عليه الآيات و الحجج المتقدمة أن الله سبحانه خالق فمالك فوكيل على كل شي‌ء أي متوحد في الربوبية و الألوهية و الذين كفروا بآيات ربهم فلم يوحدوه و لم يعبدوه أولئك هم الخاسرون. 

  • و قد اختلفوا فيما عطف عليه قوله: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ فذكروا فيه وجوها مختلفة كثيرة لا جدوى فيها من أرادها فليرجع إلى المطولات. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا اَلْجَاهِلُونَ} لما أورد سبحانه خلاصة ما تنطق به الحجج المذكورة في السورة من توحده تعالى بالخلق و الملك و التدبير 

تفسير الميزان ج۱۷

290
  • و لازم ذلك توحده تعالى في الربوبية و الألوهية أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يخاطب المشركين المقترحين عليه أن يعبد آلهتهم أنه لا يبقى مع هذه الحجج الباهرة الظاهرة محل لعبادته غير الله و إجابة اقتراحهم و هل هي إلا الجهل. 

  • فقوله: {أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} الفاء لتفريع مضمون الجملة على قوله: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} إلى آخر الآيتين، و الاستفهام إنكاري، و {فَغَيْرَ اَللَّهِ} مفعول {أَعْبُدُ} قدم عليه لتعلق العناية به، و {تَأْمُرُونِّي} معترض بين الفعل و مفعوله و أصله تأمرونني أدغمت فيه إحدى النونين في الأخرى. 

  • و قوله: {أَيُّهَا اَلْجَاهِلُونَ} خطابهم بصفة الجهل للإشارة إلى أن أمرهم إياه بعبادة غير الله و اقتراحهم بذلك مع ظهور آيات وحدته في الربوبية و الألوهية ليس إلا جهلا منهم. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} إلخ فيه تأييد لمدلول الحجج العقلية المذكورة بالوحي كأنه قيل: لا تعبد غير الله فإنه جهل و كيف يسوغ لك أن تعبده و قد دل الوحي على النهي عنه كما دل العقل على ذلك. 

  • فقوله: {وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ} اللام للقسم، و قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} بيان لما أوحي إليه، و تقدير الكلام و أقسم لقد أوحي إليك لئن أشركت «إلخ» و إلى الذين من قبلك من الأنبياء و الرسل لئن أشركتم ليحبطن عملكم و لتكونن من الخاسرين. 

  • و خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و سائر الأنبياء (عليهم السلام) بالنهي عن الشرك و إنذارهم بحبط العمل و الدخول في زمرة الخاسرين خطاب و إنذار على حقيقة معناهما كيف؟ و غرض السورة - كما تقدمت الإشارة إليه - بيان أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مأمور بالإيمان بما يدعو المشركين إلى الإيمان به مكلف بما يكلفهم و لا يسعه أن يجيبهم إلى ما يقترحون به عليه من عبادة آلهتهم. 

  • و أما كون الأنبياء معصومين بعصمة إلهية يمتنع معها صدور المعصية عنهم فلا يوجب ذلك سقوط التكليف عنهم و عدم صحة توجهه إليهم و لو كان كذلك لم تتصور في حقهم معصية كسائر من لا تكليف عليه فلم يكن معنى لعصمتهم. 

تفسير الميزان ج۱۷

291
  • على أن العصمة - و هي قوة يمتنع معها صدور المعصية - من شئون مقام العلم - كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى‌{وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‌ءٍ} النساء: ١١٣ - لا تنافي ثبوت الاختيار الذي هو من شئون مقام العمل و صحة صدور الفعل و الترك عن الجوارح. 

  • فمنع العلم القطعي بمفسدة شي‌ء منعا قطعيا عن صدوره عن العالم به كمنع العلم بأثر السم عن شربه لا ينافي كون العالم بذلك مختارا في الفعل لصحة صدوره و لا صدوره عن جوارحه فالعصمة لا تنافي بوجه التكليف. 

  • و مما تقدم يظهر ضعف ما يستفاد من بعضهم أن نهيه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ عن الشرك و نحوه نهي صوري و المراد به نهي أمته فهو من قبيل «إياك أعني و اسمعي يا جارة». 

  • و وجه الضعف ظاهر مما تقدم، و أما قولنا كما ورد في بعض الروايات أن هذه الخطابات القرآنية من قبيل «إياك أعني و اسمعي يا جارة» فمعناه أن التكليف لما كان من ظاهر أمره أن يتعلق بمن يجوز عليه الطاعة و المعصية فلو تعلق بمن ليس منه إلا الطاعة مع مشاركة غيره له كان ذلك تكليفا على وجه أبلغ كالكناية التي هي أبلغ من التصريح. 

  • و قوله: {وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} ظهر معناه مما تقدم و يمكن أن يكون اللام في الخاسرين مفيدا للعهد، و المعنى و لتكونن من الخاسرين الذين كفروا بآيات الله و أعرضوا عن الحجج الدالة على وحدانيته. 

  • قوله تعالى: {بَلِ اَللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ} إضراب عن النهي المفهوم من سابق الكلام كأنه قيل فلا تعبد غير الله بل الله فاعبد، و تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر. 

  • و الفاء في {فَاعْبُدْ} زائدة للتأكيد على ما قيل، و قيل: هي فاء الجزاء و قد حذف شرطه و التقدير بل إن كنت عابدا أو عاقلا فاعبد الله. 

  • و قوله: {وَ كُنْ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ} أي و كن بعبادتك له من الذين يشكرونه على نعمه الدالة على توحده في الربوبية و الألوهية، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ‌{وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ} آل عمران: ١٤٤ و قوله: ‌{وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} الأعراف: ١٧ 

تفسير الميزان ج۱۷

292
  • أن مصداق الشاكرين بحقيقة معنى الكلمة هم المخلصون بفتح اللام فراجع. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى آخر الآية قدر الشي‌ء هو مقداره و كميته من حجم أو عدد أو وزن و ما أشبه ذلك ثم أستعير للمعنويات من المكانة و المنزلة. 

  • فقوله: {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} تمثيل أريد به عدم معرفتهم به تعالى واجب المعرفة إذ لم يعرفوه من حيث المعاد و رجوع الأشياء إليه كما يدل عليه تعقيب الجملة بقوله: {وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} إلى آخر السورة حيث ذكر فيه انقطاع كل سبب دونه يوم القيامة، و قبضه الأرض و طيه السماوات و نفخ الصور لإماتة الكل ثم لإحيائهم و إشراق الأرض بنور ربها و وضع الكتاب و المجي‌ء بالنبيين و الشهداء و القضاء و توفية كل نفس ما عملت و سوق المجرمين إلى النار و المتقين إلى الجنة فمن كان شأنه في الملك و التصرف هذا الشأن و عرف بذلك أوجبت هذه المعرفة الإقبال إليه بعبادته وحده و الإعراض عن غيره بالكلية. 

  • لكن المشركين لما لم يؤمنوا بالمعاد و لم يقدروه حق قدره و لم يعرفوه واجب معرفته أعرضوا عن عبادته إلى عبادة من سواه. 

  • و قوله: {وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} أي الأرض بما فيها من الأجزاء و الأسباب الفعالة بعضها في بعض، و القبضة مصدر بمعنى المقبوضة، و القبض على الشي‌ء و كونه في القبضة كناية عن التسلط التام عليه أو انحصار التسلط عليه في القابض و المراد هاهنا المعنى الثاني كما يدل عليه قوله تعالى‌{وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} الانفطار: ١٩ و غيره من الآيات. 

  • و قد مر مرارا أن معنى انحصار الملك و الأمر و الحكم و السلطان و غير ذلك يوم القيامة فيه تعالى ظهور ذلك لأهل الجمع يومئذ و إلا فهي له تعالى دائما فمعنى كون الأرض جميعا قبضته يوم القيامة ظهور ذلك يومئذ للناس لا أصله. 

  • و قوله: {وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} يمين‌ الشي‌ء يده اليمنى و جانبه القوي و يكنى بها عن القدرة، و يستفاد من السياق أن محصل الجملتين أعني قوله: {وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} تقطع الأسباب الأرضية و السماوية و سقوطها و ظهور أن لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه. 

تفسير الميزان ج۱۷

293
  • و قوله: {سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى‌ عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيه له تعالى عما أشركوا غيره في ربوبيته و ألوهيته فنسبوا تدبير العالم إلى آلهتهم و عبدوها. 

  • قوله تعالى: {وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ} إلخ ظاهر ما ورد في كلامه تعالى في معنى نفخ الصور أن النفخ نفختان نفخة للإماتة و نفخة للإحياء، و هو الذي تدل عليه روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و بعض ما ورد من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إن كان بعض آخر من رواياتهم لا يخلو عن إبهام و لذا اختار بعضهم أنها ثلاث نفخات نفخة للإماتة و نفخة للإحياء و البعث و نفخة للفزع و الصعق و قال بعضهم: إنها أربع نفخات و لكن دون إثبات ذلك من ظواهر الآيات خرط القتاد. 

  • و لعل انحصار النفخ في نفختي الإماتة و الإحياء هو الموجب لتفسيرهم الصعق في النفخة الأولى بالموت مع أن المعروف من معنى الصعق الغشية، قال في الصحاح:‌ يقال: صعق‌ الرجل صعقا و تصاعقا أي غشي عليه و أصعقه غيره، ثم قال: و قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ} أي مات. انتهى. 

  • و قوله: {إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ} استثناء من أهل السماوات و الأرض و اختلف في من هم؟ فقيل: هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل سادة الملائكة فإنهم إنما يموتون بعد ذلك، و قيل: هم هؤلاء الأربعة و حملة العرش، و قيل: هم رضوان و الحور و مالك و الزبانية، و قيل: و هو أسخف الأقوال: إن المراد بمن شاء الله هو الله سبحانه. و أنت خبير بأن شيئا من هذه الأقاويل لا يستند إلى دليل من لفظة الآيات يصح الاستناد إليه. 

  • نعم لو تصور لله سبحانه خلق وراء السماوات و الأرض جاز استثناؤهم من أهلهما استثناء منقطعا أو قيل: إن الموت إنما يلحق الأجساد بانقطاع تعلق الأرواح بها و أما الأرواح فإنها لا تموت فالأرواح هم المستثنون استثناء متصلا و يؤيد هذا الوجه بعض‌۱ الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام). 

    1. و هو ما ورد في قوله تعالى: «لمن الملك اليوم» المؤمن: ١٦ أن الجواب بقوله: «لله الواحد القهار» من أرواح الأنبياء و غير ذلك من الروايات. 

تفسير الميزان ج۱۷

294
  • و قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‌ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} ضمير {فِيهِ} للصور، و {أُخْرى‌} صفة محذوف موصوفها أي نفخة أخرى، و قيام جمع قائم و {يَنْظُرُونَ} أي ينتظرون أو من النظر بمعناه المعروف. 

  • و المعنى: و نفخ في الصور نفخة أخرى فإذا هم قائمون من قبورهم ينتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ما ذا يفعل بهم أو فإذا هم قائمون ينظرون نظر المبهوت المتحير. 

  • و لا ينافي ما في هذه الآية من كونهم بعد النفخ قياما ينظرون ما في قوله‌{وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ إِلى‌ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} يس: ٥١ أي يسرعون، و قوله‌{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} النبأ: ١٨، و قوله‌{وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ} النمل: ٨٧ فإن فزعهم بالنفخ و إسراعهم في المشي إلى عرصة المحشر و إتيانهم إليها أفواجا كقيامهم ينظرون حوادث متقارنة لا يدفع بعضها بعضا. 

  • قوله تعالى: {وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} إلى آخر الآية إشراق‌ الأرض إضاءتها، و النور معروف المعنى و قد استعمل النور في كلامه تعالى في النور الحسي كثيرا و أطلق أيضا على الإيمان و على القرآن بعناية أن كلا منهما يظهر للمتلبس به ما خفي عليه لولاه قال تعالى: ‌{اَللَّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ} البقرة: ٢٥٧، و قال: ‌{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنَا} التغابن: ٨. 

  • و قد اختلفوا في معنى إشراق الأرض بنور ربها فقيل: إنها تضي‌ء بنور يخلقه الله بلا واسطة أجسام مضيئة كالشمس و القمر و إضافته إليه تعالى من قبيل روحي و {نَاقَةُ اَللَّهِ}

  • و فيه أنه لا يستند إلى دليل يعتمد عليه. 

  • و قيل: المراد به تجلي الرب تعالى لفصل القضاء كما ورد في بعض الأخبار من طرق أهل السنة. 

  • و فيه أنه على تقدير صحة الرواية لا يدل على المدعى. 

  • و قيل: المراد به إضاءة الأرض بعدل ربها يوم القيامة لأن نور الأرض بالعدل كما أن نور العلم بالعمل. 

تفسير الميزان ج۱۷

295
  • و فيه أن صحة استعارة النور للعدل في نفسه لا تستلزم كون المراد بالنور في الآية هو العدل إلا بدليل يدل عليه و لم يأت به. 

  • و في الكشاف، قد استعار الله عز و جل النور للحق و البرهان في مواضع من التنزيل و هذا من ذاك، و المعنى و أشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق و العدل و يبسطه من القسط في الحساب و وزن الحسنات و السيئات. 

  • و ينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه لأنه هو الحق العدل، و إضافة اسمه إلى الأرض لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله و ينصب فيها موازين قسطه و يحكم بالحق بين أهلها، و لا ترى أزين للبقاع من العدل و لا أعمر لها منه، و في هذه الإضافة أن ربها و خالقها هو الذي يعدل فيها و إنما يجور فيها غير ربها، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب و المجي‌ء بالنبيين و الشهداء و القضاء بالحق و هو النور المذكور، و ترى الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك و أضاءت الدنيا بقسطك كما تقول أظلمت البلاد بجور فلان‌. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): الظلم ظلمات يوم القيامة و كما فتح الآية بإثبات العدل ختمها بنفي الظلم. انتهى. 

  • و فيه أولا: أن قوله إن النور مستعار في مواضع كثيرة من القرآن للحق و القرآن و البرهان فاستعارته للحق و البرهان غير ظاهر في شي‌ء من الآيات. 

  • و ثانيا: أن الحق و العدل مفهومان متغايران و إن كانا ربما يتصادقان و كون النور في الآية مستعارا للحق لا يستلزم كون العدل مرادا به، و لذا لما أراد بيان إرادة العدل من النور ذكر الحق مع العدل ثم استنتج للعدل دون الحق. 

  • و لا يبعد أن يراد - و الله أعلم - من إشراق الأرض بنور ربها ما هو خاصة يوم القيامة من انكشاف الغطاء و ظهور الأشياء بحقائقها و بدو الأعمال من خير أو شر أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين، و إشراق الشي‌ء هو ظهوره بالنور و لا ريب أن مظهرها يومئذ هو الله سبحانه إذ الأسباب ساقطة دونه فالأشياء مشرقة بنور مكتسب منه تعالى. 

  • و هذا الإشراق و إن كان عاما لكل شي‌ء يسعه النور لكن لما كان الغرض بيان ما للأرض و أهله يومئذ من الشأن خصها بالبيان فقال: {وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} 

تفسير الميزان ج۱۷

296
  • و ذكره تعالى بعنوان ربوبية الأرض تعريضا للمشركين المنكرين لربوبيته تعالى للأرض و ما فيها. 

  • و المراد بالأرض مع ذلك الأرض و ما فيها و ما يتعلق بها كما تقدم أن المراد بالأرض في قوله: {وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} ذلك. 

  • و يستفاد ما قدمناه من مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى: ‌{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق: ٢٢ و قوله: ‌{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} آل عمران: ٣٠، و قوله: ‌{ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‌ لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ اَلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزال: ٨ و آيات أخرى كثيرة تدل على ظهور الأعمال و تجسمها و شهادة الأعضاء و غير ذلك. 

  • و قوله: {وَ وُضِعَ اَلْكِتَابُ} قيل: المراد به الحساب و هو كما ترى و قيل: المراد به صحائف الأعمال التي يحاسب عليها و يقضى بها، و قيل: المراد به اللوح المحفوظ و يؤيده قوله تعالى‌{هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الجاثية: ٢٩. 

  • و قوله: {وَ جِي‌ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ} أما النبيون فليسألوا عن أداء رسالتهم كما يشعر به السياق قال تعالى: ‌{فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ} الأعراف: ٦، و أما الشهداء و هم شهداء الأعمال فليؤدوا ما تحملوه من الشهادة قال تعالى: ‌{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنَا بِكَ عَلى‌ هَؤُلاَءِ شَهِيداً} النساء: ٤١. 

  • و قوله: {وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} ضميرا الجمع للناس المعلوم من السياق، و القضاء بينهم هو القضاء فيما اختلفوا فيه الوارد كرارا في كلامه تعالى قال‌: { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يونس: ٩٣. 

  • قوله تعالى: {وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} التوفية الإعطاء بالتمام و قد علقت بنفس ما عملت دون جزائه و يقطع ذلك الريب في كونه قسطا و عدلا من أصله و الآية بمنزلة البيان لقوله: {وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}

تفسير الميزان ج۱۷

297
  • و قوله: {وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي ليس حكمه بهذا النمط من وضع الكتاب و المجي‌ء بالنبيين و الشهداء عن جهل منه و حاجة بل لأن يجري حكمه على القسط و العدل فهو أعلم بما يفعلون. 

  • و الآية السابقة تتضمن القضاء و الحكم و هذه الآية إجراؤه و الآيات اللاحقة تفصيل إجرائه. 

  • قوله تعالى: {وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‌ جَهَنَّمَ} إلى آخر الآية السوق‌ بالفتح فالسكون - على ما في المجمع - الحث على السير، و الزمر جمع زمرة و هي - كما في الصحاح - الجماعة من الناس. 

  • و المعنى {وَ سِيقَ} و حث على السير {اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‌ جَهَنَّمَ زُمَراً} جماعة بعد جماعة {حَتَّى إِذَا جَاؤُهَا} بلغوها {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} لأجل دخولهم و هي سبعة قال تعالى: ‌{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} الحجر: ٤٤ {وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} و هم الملائكة الموكلون عليها يقولون لهم تهجينا و إنكارا عليهم {أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} من نوعكم من البشر {يَتْلُونَ} و يقرءون {عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} من الحجج الدالة على وحدانيته و وجوب عبادته {قَالُوا} بلى قد جاءوا و تلوا {وَ لَكِنْ} كفرنا و كذبنا و {حَقَّتْ كَلِمَةُ اَلْعَذَابِ عَلَى اَلْكَافِرِينَ} و كلمة العذاب هي قوله تعالى حين أمر آدم بالهبوط{ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة: ٣٩. 

  • قوله تعالى: {قِيلَ اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ} القائل - على ما يفيده السياق - خزنة جهنم، و في قوله: {فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ} دلالة على أن هؤلاء الذين كفروا هم المكذبون بآيات الله المعاندون للحق. 

  • قوله تعالى: {وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُهَا وَ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} لم يذكر في الآية جواب إذا إشارة إلى أنه أمر فوق ما يوصف و وراء ما يقدر بقدر، و قوله: {وَ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} حال أي جاءوها و قد فتحت أبوابها، و قوله: {خَزَنَتُهَا} هم الملائكة الموكلون عليها. 

  • و المعنى {وَ سِيقَ} و حث على السير {اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً} جماعة بعد جماعة {حَتَّى إِذَا جَاؤُهَا وَ} قد {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} الموكلون عليها 

تفسير الميزان ج۱۷

298
  • مستقبلين لهم {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} أنتم في سلام مطلق لا يلقاكم إلا ما ترضون {طِبْتُمْ} و لعله تعليل لإطلاق السلام {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فيها. و هو أثر طيبهم. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ} إلى آخر الآية. القائلون هم المتقون و المراد بالوعد ما تكرر في كلامه تعالى و فيما أوحي إلى سائر الأنبياء من وعد المتقين بالجنة قال‌: {لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} آل عمران: ١٥ و قال: ‌{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ} القلم: ٣٤، كذا قيل، و قيل: المراد بالوعد الوعد بالبعث و الثواب. 

  • و لا يبعد أن يراد بالوعد الوعد بإيراث الجنة كما في قوله‌{أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} المؤمنون: ١١ و يكون قوله: {وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ} عطف تفسير لقوله {صَدَقَنَا وَعْدَهُ}

  • و قوله: {وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ} المراد بالأرض على ما قالوا أرض الجنة و هي التي عليها الاستقرار فيها و قد تقدم في أول سورة المؤمنون أن المراد بوراثتهم الجنة بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركها غيرهم أو يملكها دونهم لكنهم زالوا عنها فانتقلت إليهم. 

  • و قوله: {نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} بيان لإيراثهم الأرض، و تبديل ضمير الأرض بالجنة للإشارة إلى أنها المراد بالأرض. 

  • و قيل: المراد بالأرض هي أرض الدنيا و هو سخيف إلا أن يوجه بأن الجنة هي عقبى هذه الدار قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ} الرعد: ٢٢. 

  • و المعنى و قال المتقون بعد دخول الجنة: الحمد لله الذي صدقنا وعده أن سيدخلنا أو أن سيورثنا الجنة نسكن منها حيث نشاء و نختار فلهم ما يشاءون فيها. 

  • و قوله: {فَنِعْمَ أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ} أي فنعم الأجر أجر العاملين لله تعالى، و هو على ما يعطيه السياق قول أهل الجنة، و احتمل أن يكون من قوله تعالى. 

  • قوله تعالى: {وَ تَرَى اَلْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} إلى آخر الآية الحف‌ الإحداق و الإحاطة بالشي‌ء، و العرش‌ هو المقام الذي يصدر منه 

تفسير الميزان ج۱۷

299
  • الفرامين و الأوامر الإلهية التي يدبر بها العالم، و الملائكة هم المجرون لمشيته العاملون بأمره، و رؤية الملائكة على تلك الحال كناية عن ظهور ذلك و قد طويت السماوات. 

  • و المعنى: و ترى يومئذ الملائكة و الحال أنهم محدقون بالعرش مطيفون به لإجراء الأمر الصادر منه و هم يسبحون بحمد ربهم. 

  • و قوله: {وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ} احتمل رجوع الضمير إلى الملائكة، و رجوعه إلى الناس و الملائكة جميعا، و رجوعه إلى جميع الخلائق، و رجوعه إلى الناس فالقضاء بين أهل الجنة و أهل النار منهم أو بين الأنبياء و أممهم. 

  • و يضعف الاحتمال الأخير أن القضاء بين الناس قد ذكر قبلا في قوله: {وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فذكر القضاء بينهم ثانيا تكرار من غير موجب. 

  • لكن ظاهر القضاء بين جماعة هو الحكم لبعضهم على بعض لوجود اختلاف ما بينهم و لا تحقق للاختلاف بين الملائكة، و هذا يؤيد أن يكون الضمير لغيرهم و القضاء بين الناس غير أن القضاء كما يطلق على نفس حكم الحاكم يصح إطلاقه على مجموع الحكم و مقدماته و تبعاته من حضور المتخاصمين و طرح الدعوى و شهادة الشهود و حكم الحاكم و إيفاء المحق حقه فمن الممكن أن يكون المراد بالقضاء المذكور أولا نفس الحكم الإلهي و بهذا القضاء المذكور ثانيا هو مجموع ما يجري عليهم من حين يبعثون إلى حين دخول أهل النار النار و أهل الجنة الجنة و استقرارهم فيهما و بذلك يندفع إشكال التكرار من غير موجب. 

  • و قوله: {وَ قِيلَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} كلمة خاتمة للبدء و العود و ثناء عام له تعالى أنه لم يفعل و لا يفعل إلا الجميل. 

  • قيل: قائله المتقون و كان حمدهم الأول على دخولهم الجنة و الثاني للقضاء بينهم و بين غيرهم بالحق، و قيل: قائله الملائكة و لم ينسب إليهم صريحا لتعظيم أمرهم، و قيل: القائل جميع الخلائق. 

  • و يؤيد الأول قوله تعالى في صفة أهل الجنة{ وَ آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} يونس: ١٠و هو حمد عام خاتم للخلقة كما سمعت. 

تفسير الميزان ج۱۷

300
  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي:‌ في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} فهذه مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى لأمته، و هو ما قاله الصادق (عليه السلام): إن الله عز و جل بعث نبيه بإياك أعني و اسمعي يا جارة. 

  • و عن كتاب التوحيد، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عز و جل لا يوصف. 

  • قال: و قال زرارة: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن الله لا يوصف و كيف يوصف و قد قال في كتابه: {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}؟ فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك. 

  • و فيه، بإسناده عن سليمان بن مهران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} قال: ملكه لا يملكها معه أحد. 

  • و القبض عن الله تعالى في موضع آخر المنع و البسط منه الإعطاء و التوسع كما قال عز و جل: {وَ اَللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يعني يعطي و يوسع و يضيق، و القبض منه عز و جل في وجه آخر الأخذ و الأخذ في وجه القبول منه كما قال: {وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقَاتِ} أي يقبلها من أهلها و يثيب عليها. 

  • قلت: فقوله عز و جل: {وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}؟ قال: اليمين اليد و اليد القدرة و القوة يقول عز و جل: {وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أي بقدرته و قوته سبحانه و تعالى عما يشركون. 

  • أقول: و روي في الدر المنثور، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ} أنهم الشهداء مقلدون بأسيافهم حول عرشه‌ (الخبر) و ظاهره أن النفخة غير نفخة الإماتة و قد تقدم أن الآية ظاهرة في خلافه. 

  • و روي عن أنس عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌:أنهم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت و حملة العرش و أنهم يموتون بعدها (الخبر) و الآية ظاهرة في خلافه. 

  • و روي عن جابر: استثني موسى لأنه كان صعق قبل، (الخبر). و فيه أن الصعق 

تفسير الميزان ج۱۷

301
  • سواء أخذ بمعنى الموت أو بمعنى الغشية لا يختص الصعق قبل ذلك بموسى (عليه السلام). 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} فيه قولان أحدهما ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن جهنم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض و وضع إحدى يديه على الأخرى فقال: هكذا و أن الله وضع الجنان على الأرض، و وضع النيران بعضها فوق بعض فأسفلها جهنم، و فوقها لظى، و فوقها الحطمة، و فوقها سقر، و فوقها الجحيم، و فوقها السعير، و فوقها الهاوية و في رواية الكلبي أسفلها الهاوية و أعلاها جهنم. 

  • و في الخصال، عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال: إن للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيون و الصديقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبونا

  • فلا أزال واقفا على الصراط أدعو و أقول: رب سلم شيعتي و محبي و أنصاري و من تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش قد أجيبت دعوتك و شفعت في شيعتك و يشفع كل رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه و أقربائه. 

  • و باب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله و لم يكن في قلبه مثقال من بغضنا أهل البيت. 

  • (٤٠) سورة المؤمن مكية و هي خمس و ثمانون آية (٨٥) 

  • [سورة غافر (٤٠): الآیات ١ الی ٦]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ حم ١ تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ مِنَ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ ٢ غَافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قَابِلِ اَلتَّوْبِ شَدِيدِ اَلْعِقَابِ ذِي اَلطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ ٣ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاَدِ ٤ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ 

تفسير الميزان ج۱۷

302
  • قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ٥ وَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ اَلنَّارِ ٦} 

  • (بيان) 

  • تتكلم السورة في استكبار الكافرين و مجادلتهم بالباطل ليدحضوا به الحق الذي يدعون إليه و لذلك نراها تذكر جدالهم و تعود إليه عودة بعد عودة {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاَدِ} {اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً} {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ}

  • فتكسر سورة استكبارهم و جدالهم بذكر ما عاقب الله به الماضين من الأمم المكذبين و ما أعد الله لهم من العذاب المهين بذكر طرف مما يجري عليهم في الآخرة. 

  • و تدحض باطل أقاويلهم بوجوه من الحجج الناطقة بتوحده في الربوبية و الألوهية و تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و تعده و المؤمنين به بالنصر، و تأمرهم أن يؤذنهم أنه مسلم لربه غير تارك لعبادته فلييأسوا منه. 

  • و السورة مكية كلها لاتصال آياتها و شهادة مضامينها بذلك، و ما قيل فيه من الآيات إنه نزل بالمدينة لا يعبأ به و سيجي‌ء الإشارة إليها إن شاء الله. 

  • قوله تعالى: {حم تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ مِنَ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ} التنزيل مصدر بمعنى المفعول فقوله: {تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ} من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها و التقدير هذا كتاب منزل من الله. 

  • و تخصيص الوصفين: {اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ} بالذكر قيل: للإشارة إلى ما في القرآن من الإعجاز و أنواع العلوم التي يضيق عنها نطاق الأفهام، و قيل: هو من باب التفنن. 

  • و الوجه أن يقال: إن السورة لما كانت تتكلم حول جحد الجاحدين و مجادلتهم في 

تفسير الميزان ج۱۷

303
  • آيات الله بالباطل جهلا و هم يحسبونه علما و يعتزون به كما حكى ذلك عنهم في خاتمة السورة بقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ} و كما حكى عن فرعون قوله لقومه في موسى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي اَلْأَرْضِ اَلْفَسَادَ} و قوله لهم: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرىَ وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ}

  • افتتح الكلام في السورة بما فيه إشارة إلى أن هذا الكتاب النازل عليهم تنزيل ممن هو عزيز على الإطلاق لا يغلبه غالب حتى يخاف على ما نزله من استعلائهم و استكبارهم بحسب أوهامهم، عليم على الإطلاق لا يدخل علمه جهل و ضلال فلا يقاوم جدالهم بالباطل ما نزله من الحق و بينه بحججه الباهرة. 

  • و يؤيد هذا الوجه ما في الآية التالية من قوله: {غَافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قَابِلِ اَلتَّوْبِ} إلخ على ما سنبين. 

  • قوله تعالى: {غَافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قَابِلِ اَلتَّوْبِ شَدِيدِ اَلْعِقَابِ ذِي اَلطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ} الإتيان بصيغة اسم الفاعل في {غَافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قَابِلِ اَلتَّوْبِ} لعله للدلالة على الاستمرار التجددي فإن المغفرة و قبول التوب من صفاته الفعلية و لا يزال تعالى يغفر الذنب ثم يغفر و يقبل التوب ثم يقبل. 

  • و إنما عطف قابل التوب على ما قبله دون {شَدِيدِ اَلْعِقَابِ ذِي اَلطَّوْلِ} لأن غافر الذنب و قابل التوب مجموعهما كصفة واحدة متعلقة بالعباد المذنبين يغفر لهم تارة بتوبة و تارة بغيرها كالشفاعة. 

  • و العقاب و المعاقبة المؤاخذة التي تكون في عاقبة الذنب قال الراغب: و العقب و العقبى‌ يختصان بالثواب نحو {خَيْرٌ ثَوَاباً وَ خَيْرٌ عُقْباً}، و قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ}، و العاقبة إطلاقها يختص بالثواب نحو {وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، و بالإضافة قد تستعمل في العقوبة نحو {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا}، و قوله: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي اَلنَّارِ} يصح أن يكون ذلك استعارة من ضده، و العقوبة و المعاقبة و العقاب تختص بالعذاب. انتهى. 

  • فشديد العقاب كذي انتقام من أسماء الله الحسنى تحكي صفته تعالى في جانب العذاب كما يحكي الغفور و الرحيم صفته تعالى في جانب الرحمة. 

تفسير الميزان ج۱۷

304
  • و الطول - على ما في المجمع - الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه، فذو الطول من أسمائه الحسنى في معنى المنعم لكنه أخص من المنعم لعدم شموله النعم القصار. 

  • و ذكر هذه الأسماء الأربعة: غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب ذي الطول بعد اسم العليم للإشارة إلى أن تنزيل هذا الكتاب المشتمل على دعوته الحقة المبني على العلم مبني على أساس ما تقتضيه مضامين هذه الأسماء الأربعة. 

  • و ذلك أن العالم الإنساني كما يتحد قبيلا واحدا في نيل الطول الإلهي و التنعم بنعمه المستمرة المتوالية مدى الحياة الدنيا ينقسم من حيث حياته الآخرة قسمين و ينشعب إلى شعبتين: سعيد و شقي و الله سبحانه عالم بتفاصيل خلقه و كيف لا يعلم و هو خالقها و فاعلها، و مقتضى كونه غافرا للذنب قابلا للتوب أن يغفر لمن استعد للمغفرة و أن يقبل توبة التائب إليه، و مقتضى كونه شديد العقاب أن يعاقب من استحق ذلك. 

  • و مقتضى ذلك أن يهدي الناس إلى صراط السعادة كما قال‌: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدىَ وَ إِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَ اَلْأُولىَ} الليل: ١٣، و قال: ‌{وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ} النحل: ٩، لينقسم الناس بذلك قسمين و يتميز عنده السعيد من الشقي و المهتدي من الضال فيرحم هذا و يعذب ذلك. 

  • فتنزيل الكتاب من الله العزيز العليم مبني على علمه المحيط بخلقه أنهم في حاجة إلى دعوة يهتدي بها قوم و يضل بردها آخرون ليغفر لقوم و يعذب آخرين، و في حاجة إليها لينتظم بها نظام معاشهم في الدنيا فينعموا بطوله و نعمته في الدنيا ثم في دار القرار. 

  • فهذا شأن كتابه المنزل بعلمه الذي لا يشوبه جهل و المبني على الحق الذي لا يداخله باطل، و أين هو من تكذيب الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة و جدالهم بالباطل ليدحضوا به الحق. 

  • و على هذا الذي ذكرنا من العناية بالعلم يشهد ما سيذكره تعالى من دعاء الملائكة للمؤمنين بالمغفرة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} فتدبر فيه. 

  • و قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ} ذكر كلمة التوحيد للإشارة إلى وجوب ـ 

تفسير الميزان ج۱۷

305
  • عبادته وحده فلا تلغو الدعوة الدينية بتنزيل الكتاب، و ذكر كون مصير الكل و رجوعهم إليه و هو البعث للإشارة إلى أنه هو السبب العمدة الداعي إلى الإيمان بالكتاب و اتباعه فيما يدعو إليه لأن الاعتقاد بيوم الحساب هو الذي يستتبع الخوف و الرجاء خوف العقاب و رجاء الثواب الداعيين إلى عبادة الله سبحانه. 

  • قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاَدِ} لما ذكر تنزيل الكتاب و أشار إلى الحجة الباهرة على حقيته، المستفادة من صفاته الكريمة المعدودة في الآيتين، الدالة على أنه منزل بعلمه الذي لا يشوبه جهل و بالحق الذي لا يدحضه باطل تعرض لحال الذين قابلوا حججه الحقة بباطل جدالهم فلوح إلى أن هؤلاء أهل العقاب و ليسوا بفائتين و لا مغفولا عنهم فإنهم كما نزل الكتاب ليغفر الذنب و يقبل التوب كذلك نزله ليعاقب أهل العقاب فلا يسوأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) جدالهم و لا يغرنه ما يشاهده من حالهم. 

  • فقوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اَللَّهِ} لم يقل: ما يجادل فيه أي في القرآن ليدل على أن الجدال في الحق الذي تدل عليه الآيات بما هي آيات. على أن طرف جدالهم هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو داع إلى الحق الذي تدل عليه الآيات فجدالهم لدفع الحق لا للدفاع عن الحق. على أن الجدال في الآية التالية مقيدة بالباطل لإدحاض الحق. 

  • فالمراد بالمجادلة في آيات الله هي المجادلة لإدحاضها و دفعها و هي المذمومة و لا تشمل الجدال لإثبات الحق و الدفاع عنه كيف؟ و هو سبحانه يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بذلك إذا كان جدالا بالتي هي أحسن قال تعالى: ‌{وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل: ١٢٥. 

  • قوله: {إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} ظاهر السياق أنهم الذين رسخ الكفر في قلوبهم فلا يرجى زواله، و قد قيل: {مَا يُجَادِلُ} و لم يقل: لا يجادل، و كذا ظاهر قوله: {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاَدِ} أن المراد بهم الكفار المعاصرون للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إن لم يكونوا من أهل مكة. 

  • و تقلبهم في البلاد انتقالهم من طور من أطوار الحياة إلى طور آخر و من نعمة إلى 

تفسير الميزان ج۱۷

306
  • نعمة في سلامة و صحة و عافية، و توجيه النهي عن الغرور إلى تقلبهم في البلاد كناية عن نهي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الاغترار بما يشاهده منهم أن يحسب أنهم أعجزوه سبحانه. 

  • قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} إلخ في مقام الجواب عما يسبق إلى الوهم أنهم استكبروا و جادلوا في آيات الله فلم يكن بهم بأس و سبقوا في ذلك. 

  • و محصل الجواب: أن الأمم الماضين كقوم نوح و الأحزاب من بعدهم كعاد و ثمود و قوم لوط و غيرهم سبقوا هؤلاء إلى مثل صنيعهم من التكذيب و الجدال بالباطل و هموا برسولهم ليأخذوه فحل بهم العقاب و كذلك قضي في حق الكفار العذاب فتوهم أن هؤلاء سبقوا الله إلى ما يريد توهم باطل. 

  • فقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} دفع للدخل السابق و لذا جي‌ء بالفصل، و قوله: {وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} يقال: هم به‌ أي قصده و يغلب فيه القصد بالسوء أي قصدوا رسولهم ليأخذوه بالقتل أو الإخراج أو غيرهما كما قصه الله تعالى في قصصهم. 

  • و قوله: {وَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ} الإدحاض‌ الإزالة و الإبطال و قوله: {فَأَخَذْتُهُمْ} أي عذبتهم، و فيه التفات من الغيبة إلى التكلم وحده و النكتة فيه الإشارة إلى أن أمرهم في هذا الطغيان و الاستكبار إلى الله وحده لا يدخل بينه و بينهم أحد بنصرة أو شفاعة كما قال‌: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} الفجر: ١٤. 

  • و قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} توجيه لذهن المخاطب إلى ما يعلمه من كيفية إهلاكهم و قطع دابرهم ليحضر شدة ما نزل بهم و قد قصه الله فيما قص من قصصهم. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ اَلنَّارِ} ظاهر السياق أن المشبه به هو ما في الآية السابقة من أخذهم و عقابهم، و المراد بالذين كفروا مطلق الكفار من الماضين، و المعنى كما أخذ الله المكذبين من الماضين بعذاب الدنيا كذلك حقت كلمته على مطلق الكافرين بعذاب الآخرة، و الذين كفروا من قومك منهم. 

تفسير الميزان ج۱۷

307
  • و قيل: المراد بالذين كفروا كفار مكة، و لا يساعد عليه السياق و التشبيه لا يخلو عليه من اختلال. 

  • و في قوله: {كَلِمَةُ رَبِّكَ} و لم يقل: كلمتي تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تأييد له بالإشارة إلى أن الركن الذي يركن إليه هو الشديد القوي. 

  • [سورة غافر (٤٠): الآیات ٧ الی ١٢]

  • {اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذَابَ اَلْجَحِيمِ ٧ رَبَّنَا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٨ وَ قِهِمُ اَلسَّيِّئَاتِ وَ مَنْ تَقِ اَلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ٩ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اَللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى اَلْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ١٠قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلى‌ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ١١ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اَللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ اَلْعَلِيِّ اَلْكَبِيرِ ١٢} 

تفسير الميزان ج۱۷

308
  • (بيان) 

  • لما ذكر سبحانه تكذيب الذين كفروا و جدالهم في آيات الله بالباطل و لوح إلى أنهم غير معجزين و لا مغفول عنهم بل معنيون في هذه الدعوة و العناية فيهم أن يتميزوا فيحق عليهم كلمة العذاب فيعاقبوا عاد إلى بدء الكلام الذي أشار فيه إلى أن تنزيل الكتاب و إقامة الدعوة لمغفرة جمع و قبول توبتهم و عقاب آخرين فذكر أن الناس قبال هذه الدعوة قبيلان: قبيل تستغفر لهم حملة العرش و الحافون به من الملائكة و هم التائبون إلى الله المتبعون سبيله و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم، و قبيل ممقوتون معذبون و هم الكافرون بالتوحيد. 

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} إلى آخر الآية. لم يعرف سبحانه هؤلاء الحاملين للعرش من هم؟ و لا في كلامه تصريح بأنهم من الملائكة لكن يشعر عطف قوله: {وَ مَنْ حَوْلَهُ} عليهم و قد قال فيهم‌{ وَ تَرَى اَلْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ} الزمر: ٧٥ أن حملة العرش أيضا من الملائكة. 

  • و قد تقدم تفصيل الكلام في معنى العرش في الجزء الثامن من الكتاب. 

  • فقوله: {اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ} أي الملائكة الذين يحملون العرش الذي منه تظهر الأوامر و تصدر الأحكام الإلهية التي بها يدبر العالم، و الذين حول العرش من الملائكة و هم المقربون منهم. 

  • و قوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي ينزهون الله سبحانه و الحال أن تنزيههم له يصاحب ثناؤهم لربهم فهم ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه و من ذلك وجود الشريك في ملكه و يثنون عليه على فعله و تدبيره. 

  • و قوله: {وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} إيمانهم به - و الحال هذه الحال عرش الملك و التدبير لله و هم حاملوه أو مطيفون حوله لتلقي الأوامر و ينزهونه عن كل نقص و يحمدونه على أفعاله - معناه الإيمان بوحدانيته في ربوبيته و ألوهيته ففي ذكر العرش و نسبة التنزيه و التحميد و الإيمان إلى الملائكة رد للمشركين حيث يعدون الملائكة المقربين شركاء لله في ربوبيته و ألوهيته و يتخذونهم أربابا آلهة يعبدونهم. 

تفسير الميزان ج۱۷

309
  • و قوله: {وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي يسألون الله سبحانه أن يغفر للذين آمنوا. 

  • و قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً} إلخ حكاية متن استغفارهم و قد بدءوا فيه بالثناء عليه تعالى بسعة الرحمة و العلم، و إنما ذكروا الرحمة و شفعوها بالعلم لأنه برحمته ينعم على كل محتاج فالرحمة مبدأ إفاضة كل نعمة و بعلمه يعلم حاجة كل محتاج مستعد للرحمة. 

  • و قوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذَابَ اَلْجَحِيمِ} تفريع على ما أثنوا به من سعة الرحمة و العلم، و المراد بالسبيل التي اتبعوها هو ما شرع لهم من الدين و هو الإسلام و اتباعهم له هو تطبيق عملهم عليه فالمراد بتوبتهم رجوعهم إليه تعالى بالإيمان و المعنى فاغفر للذين رجعوا إليك بالإيمان بوحدانيتك و سلوك سبيلك الذي هو الإسلام و قهم عذاب الجحيم و هو غاية المغفرة و غرضها. 

  • قوله تعالى: {رَبَّنَا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ} إلى آخر الآية تكرار النداء بلفظة ربنا لمزيد الاستعطاف و المراد بالوعد وعده تعالى لهم بلسان رسله و في كتبه. 

  • و قوله: {وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ} عطف على موضع الضمير في قوله: {وَ أَدْخِلْهُمْ} و المراد بالصلوح صلاحية دخول الجنة، و المعنى و أدخل من صلح لدخول الجنة من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم جنات عدن. 

  • ثم من المعلوم من سياق الآيات أن استغفارهم لعامة المؤمنين، و من المعلوم أيضا أنهم قسموهم قسمين اثنين قسموهم إلى الذين تابوا و اتبعوا سبيل الله و قد وعدهم الله جنات عدن، و إلى من صلح و قد جعلوا الطائفة الأولى متبوعين و الثانية تابعين. 

  • و يظهر منه أن الطائفة الأولى هم الكاملون في الإيمان و العمل على ما هو مقتضى حقيقة معنى قولهم: {لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} فذكروهم و سألوه أن يغفر لهم و ينجز لهم ما وعدهم من جنات عدن، و الطائفة الثانية دون هؤلاء في المنزلة ممن لم يستكمل الإيمان و العمل من ناقص الإيمان و مستضعف و سيئ العمل من منسوبي الطائفة الأولى فذكروهم و سألوه تعالى أن يلحقهم بالطائفة الأولى الكاملين في جناتهم و يقيهم السيئات. 

  • فالآية في معنى قوله تعالى: ‌{وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} الطور: ٢١ غير أن الآية التي نحن فيها أوسع 

تفسير الميزان ج۱۷

310
  • و أشمل لشمولها الآباء و الأزواج بخلاف آية سورة الطور، و المأخوذ فيها الصلوح و هو أعم من الإيمان المأخوذ في آية الطور. 

  • و قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} تعليل لقولهم: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} إلى آخر مسألتهم، و كان الذي يقتضيه الظاهر أن يقال: إنك أنت الغفور الرحيم لكنه عدل إلى ذكر الوصفين: العزيز الحكيم لأنه وقع في مفتتح مسألتهم الثناء عليه تعالى بقولهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً}. و لازم سعة الرحمة و هي عموم الإعطاء أن له أن يعطي ما يشاء لمن يشاء و يمنع ما يشاء ممن يشاء و هذا معنى العزة التي هي القدرة على الإعطاء و المنع، و لازم سعة العلم لكل شي‌ء أن ينفذ العلم في جميع أقطار الفعل فلا يداخل الجهل شيئا منها و لازمه إتقان الفعل و هو الحكمة. 

  • فقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} في معنى الاستشفاع بسعة رحمته و سعة علمه تعالى المذكورتين في مفتتح المسألة تمهيدا و توطئة لذكر الحاجة و هي المغفرة و الجنة. 

  • قوله تعالى: {وَ قِهِمُ اَلسَّيِّئَاتِ وَ مَنْ تَقِ اَلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} إلخ ظاهر السياق أن الضمير في {قِهِمُ} للذين تابوا و من صلح جميعا. 

  • و المراد بالسيئات - على ما قيل - تبعات المعاصي و هي جزاؤها و سميت التبعات سيئات لأن جزاء السيئ سيئ قال تعالى: ‌{وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الشورى: ٤٠. 

  • و قيل: المراد بالسيئات المعاصي و الذنوب نفسها و الكلام على تقدير مضاف و التقدير و قهم جزاء السيئات أو عذاب السيئات. 

  • و الظاهر أن الآية من الآيات الدالة على أن الجزاء بنفس الأعمال خيرها و شرها، و قد تكرر في كلامه تعالى أمثال قوله‌{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} التحريم: ٧. 

  • و كيف كان فالمراد بالسيئات التي سألوا وقايتهم عنها هي الأهوال و الشدائد التي تواجههم يوم القيامة غير عذاب الجحيم فلا تكرار في قوليهم: {وَ قِهِمْ عَذَابَ اَلْجَحِيمِ} {وَ قِهِمُ اَلسَّيِّئَاتِ}

  • و قيل: المراد بالسيئات نفس المعاصي التي في الدنيا، و قولهم: {يَوْمَئِذٍ} إشارة إلى الدنيا، و المعنى و احفظهم من اقتراف المعاصي و ارتكابها في الدنيا بتوفيقك. 

تفسير الميزان ج۱۷

311
  • و فيه أن السياق يؤيد كون المراد بيومئذ يوم القيامة كما يشهد به قولهم: {وَ قِهِمْ عَذَابَ اَلْجَحِيمِ} و قولهم: {وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} إلخ فالحق أن المراد بالسيئات ما يظهر للناس يوم القيامة من الأهوال و الشدائد. 

  • و يظهر من هذه الآيات المشتملة على دعاء الملائكة و مسألتهم: 

  • أولا: أن من الأدب في الدعاء أن يبدأ بحمده و الثناء عليه تعالى ثم يذكر الحاجة ثم يستشفع بأسمائه الحسنى المناسبة له. 

  • و ثانيا: أن سؤال المغفرة قبل سؤال الجنة و قد كثر ذكر المغفرة قبل الجنة في كلامه تعالى إذا ذكرا معا، و هو الموافق للاعتبار فإن حصول استعداد أي نعمة كانت بزوال المانع قبل حصول نفس النعمة. 

  • و ذكر بعضهم أن في قوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} (الآية) دلالة على أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل من الله تعالى إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج فيه إلى مسألتهم بل كان يفعله الله سبحانه لا محالة. 

  • و فيه أن وجوب صدور الفعل عنه تعالى لا ينافي صحة مسألته و طلبه منه تعالى كما يشهد به قولهم بعد الاستغفار: {رَبَّنَا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ} فقد سألوا لهم الجنة مع اعترافهم بأن الله وعدهم إياها و وعده تعالى واجب الإنجاز فإنه لا يخلف الميعاد، و أصرح من هذه الآية قوله يحكي عن المؤمنين: ‌{رَبَّنَا وَ آتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلىَ رُسُلِكَ وَ لاَ تُخْزِنَا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ} آل عمران: ١٩٤. 

  • و قبول التوبة مما أوجبه الله تعالى على نفسه و جعله حقا للتائبين عليه قال تعالى: ‌{ إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} النساء: ١٧ فطلب كل حق أوجبه الله تعالى على نفسه منه كسؤال المغفرة للتائب هو في الحقيقة رجوع إليه لاستنجاز ما وعده و إظهار اشتياق للفوز بكرامته. 

  • و كذا لا يستلزم التفضل منه تعالى كون الفعل جائز الصدور غير واجبة فكل عطية من عطاياه تفضل سواء كانت واجبة الصدور أم لم تكن إذ لو كان فعل من أفعاله واجب الصدور عنه لم يكن إيجابه عليه بتأثير من غيره فيه و قهره عليه إذ هو المؤثر في كل شي‌ء لا يؤثر فيه غيره بل كان ذلك بإيجاب منه تعالى على نفسه و يؤول معناه إلى 

تفسير الميزان ج۱۷

312
  • قضائه تعالى فعل شي‌ء من الأفعال و إفاضة عطية من العطايا قضاء حتم فيكون سبحانه إنما يفعله بمشية من نفسه منزها عن إلزام الغير إياه عليه متفضلا به فالفعل تفضل منه و إن كان واجب الصدور، و أما لو لم يكن الفعل واجب الصدور فكونه تفضلا أوضح. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اَللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى اَلْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} المقت‌ أشد البغض. لما ذكر المؤمنين ببعض ما لهم من جهة إيمانهم رجع إلى ذكر الكافرين ببعض ما عليهم من جهة كفرهم. 

  • و ظاهر الآية و الآية التالية أن هذا النداء المذكور فيها إنما ينادون به في الآخرة بعد دخول النار حين يذوقون العذاب لكفرهم فيظهر لهم أن كفرهم في الدنيا إذ كانوا يدعون من قبل الأنبياء إلى الإيمان كان مقتا و شدة بغض منهم لأنفسهم حيث أوردوها بذلك مورد الهلاك الدائم. 

  • و ينادون من جانب الله سبحانه فيقال لهم: أقسم لمقت الله و شدة بغضه لكم أكبر من مقتكم أنفسكم و شدة بغضكم لها إذ تدعون حكاية حال ماضية إلى الإيمان من قبل الأنبياء فتكفرون. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلىَ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} سياق الآية و ما قبلها يشعر بأنهم يقولون هذا القول بعد استماع النداء السابق، و إنما يقولونه و هم في النار بدليل قولهم: {فَهَلْ إِلى‌ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}

  • و تقديم هذا الاعتراف منهم نوع تسبيب و توسل إلى التخلص من العذاب و لات حين مناص، و ذلك أنهم كانوا - و هم في الدنيا - في ريب من البعث و الرجوع إلى الله فأنكروه و نسوا يوم الحساب و كان نسيان ذلك سبب استرسالهم في الذنوب و ذهابهم لوجوههم في المعاصي و نسيان يوم الحساب مفتاح كل معصية و ضلال قال تعالى: ‌{إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ} ص: ٢٦. 

  • ثم لما أماتهم الله إماتة بعد إماتة و أحياهم إحياءة بعد إحياءة زال ارتيابهم في أمر البعث و الرجوع إلى الله بما عاينوا من البقاء بعد الموت و الحياة بعد الحياة و قد كانوا يرون أن الموت فناء، و يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين. 

  • و بالجملة زال عنهم الارتياب بحصول اليقين و بقيت الذنوب و المعاصي و لذلك 

تفسير الميزان ج۱۷

313
  • توسلوا إلى التخلص من العذاب بالاعتراف فتارة اعترفوا بحصول اليقين كما حكاه الله عنهم في قوله‌{وَ لَوْ تَرىَ إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} الم السجدة: ١٢، و تارة اعترفوا بذنوبهم كما في الآية المبحوث عنها و قد كانوا يرون أنهم أحرار مستقلون في إرادتهم و أفعالهم لهم أن يشاءوا ما شاءوا و أن يفعلوا ما فعلوا و لا حساب و لا ذنب. 

  • و من ذلك يظهر وجه ترتب قولهم: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} على قولهم: {أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ} فالاعتراف في الحقيقة مترتب على حصول اليقين بالمعاد الموجب لحصول العلم بكون انحرافاتهم عن سبيل الله ضلالات و ذنوبا. 

  • و المراد بقولهم: {أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ} كما قيل الإماتة عن الحياة الدنيا و الإحياء للبرزخ ثم الإماتة عن البرزخ و الإحياء للحساب يوم القيامة فالآية تشير إلى الإماتة بعد الحياة الدنيا و الإماتة بعد الحياة البرزخية و إلى الإحياء في البرزخ و الإحياء ليوم القيامة و لو لا الحياة البرزخية لم تتحقق الإماتة الثانية لأن كلا من الإماتة و الإحياء يتوقف تحققه على سبق خلافه. 

  • و لم يتعرضوا للحياة الدنيا و لم يقولوا: و أحييتنا ثلاثا و إن كانت إحياء لكونها واقعة بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح لأن مرادهم ذكر الإحياء الذي هو سبب الإيقان بالمعاد و هو الإحياء في البرزخ ثم في القيامة و أما الحياة الدنيوية فإنها و إن كانت إحياء لكنها لا توجب بنفسها يقينا بالمعاد فقد كانوا مرتابين في المعاد و هم أحياء في الدنيا. 

  • و بما تقدم من البيان يظهر فساد ما اعترض عليه بأنه لو كان المراد بالإحياءتين ما كان في البرزخ و في الآخرة لكان من الواجب أن يقال: «أمتنا اثنتين و أحييتنا ثلاثا» إذ ليس المراد إلا ذكر ما مر عليهم من الإماتة و الإحياءة و ذلك إماتتان اثنتان و إحياءات ثلاث. 

  • و الجواب أنه ليس المراد هو مجرد ذكر الإماتة و الإحياء اللتين مرتا عليهم كيفما كانتا بل ذكر ما كان منهما مورثا لليقين بالمعاد، و ليس الإحياء الدنيوي على هذه الصفة. 

  • و قيل: المراد بالإماتة الأولى حال النطفة قبل ولوج الروح، و بالإحياءة الأولى ما هو حال الإنسان بعد ولوجها، و بالإماتة الثانية إماتته في الدنيا، و بالإحياءة الثانية 

تفسير الميزان ج۱۷

314
  • إحياءته بالبعث للحساب يوم القيامة، و الآية منطبقة على ما في قوله تعالى‌{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} البقرة: ٢٨. 

  • و لما أحسوا بعدم صدق الإماتة على حال الإنسان قبل ولوج الروح في جسده لتوقفها على سبق الحياة تمحلوا في تصحيحه تمحلات عجيبة من أراد الوقوف عليها فليراجع الكشاف، و شروحه. 

  • على أنك قد عرفت أن ذكرهم ما مر عليهم من الإماتة و الإحياءة إشارة إلى أسباب حصول يقينهم بالمعاد و الحياة الدنيا و الموت الذي قبلها لا أثر لهما في ذلك. 

  • و قيل: إن الحياة الأولى في الدنيا و الثانية في القبر، و الموتة الأولى في الدنيا و الثانية في القبر و لا تعرض في الآية لحياة يوم البعث، و يرد عليه ما تقدم أن الحياة الدنيا لا تعلق لها بالغرض فلا موجب للتعرض لها، و الحياة يوم القيامة بالخلاف من ذلك. 

  • و قيل: المراد بالإحياءتين إحياء البعث و الإحياء الذي قبله و إحياء البعث قسمان إحياء في القبر و إحياء عند البعث و لم يتعرض لهذا التقسيم في الآية فتشمل الآية الإحياءات الثلاث و الإماتتين جميعا. 

  • و يرد عليه ما يرد على الوجهين السابقين عليه مضافا إلى ما أورد عليه أن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ و المراد التعدد الشخصي لا النوعي. 

  • و قيل: المراد إحياء النفوس في عالم الذر ثم الإماتة ثم الإحياء في الدنيا ثم الإماتة ثم الإحياء للبعث، و يرد عليه ما يرد على سوابقه. 

  • و قيل: المراد بالتثنية التكرار كما في قوله تعالى{ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ }الملك: ٤، و المعنى أمتنا إماتة و أحييتنا إحياءة بعد إحياءة. 

  • و أورد عليه أنه إنما يتم لو كان القول: أمتنا إماتتين و أحييتنا إحياءتين أو كرتين مثلا لكن المقول نفس العدد و هو لا يحتمل ذلك كما قيل في قوله‌{إِلَهَيْنِ اِثْنَيْنِ} النحل: ٥١. 

  • و قولهم: {فَهَلْ إِلىَ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} دعاء و مسألة في صورة الاستفهام، و في تنكير الخروج و السبيل إشارة إلى رضاهم بأي نوع من الخروج كان من أي سبيل كانت ـ 

تفسير الميزان ج۱۷

315
  • فقد بلغ بهم الجهد و اليوم يوم تقطعت بهم الأسباب فلا سبب يرجى أثره في تخلصهم من العذاب. 

  • قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اَللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} إلخ خطاب تشديد للكفار موطنه يوم القيامة، و يحتمل أن يكون موطنه الدنيا خوطبوا بداعي زجرهم عن الشرك. 

  • و الإشارة بقوله: {ذَلِكُمْ} إلى ما هم فيه من الشدة، و في قوله: {وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ} دلالة على الاستمرار، و الكلام مسوق لبيان معاندتهم للحق و معاداتهم لتوحيده تعالى فهم يكفرون بكل ما يلوح فيه أثر التوحيد و يؤمنون بكل ما فيه سمة الشرك فهم لا يراعون لله حقا و لا يحترمون له جانبا فالله سبحانه يحرم عليهم رحمته و لا يراعي في حكمه لهم جانبا. 

  • و بهذا المعنى يتصل قوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ اَلْعَلِيِّ اَلْكَبِيرِ} بأول الآية و يتفرع عليه كأنه قيل: فإذا قطعتم عن الله بالمرة و كفرتم بكل ما يريده و آمنتم بكل ما يكرهه فهو يقطع عنكم و يحكم فيكم بما يحكم من غير أي رعاية لحالكم. 

  • فالآية في معنى قوله‌{نَسُوا اَللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} التوبة: ٦٧، و الجملة أعني قوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ اَلْعَلِيِّ اَلْكَبِيرِ} خاصة بحسب السياق و إن كانت عامة في نفسها، و فيها تهديد و يتأكد التهديد باختتامها بالاسمين العلي الكبير.

  • [سورة غافر (٤٠): الآیات ١٣ الی ٢٠]

  • {هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ رِزْقاً وَ مَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ ١٣ فَادْعُوا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ ١٤ رَفِيعُ اَلدَّرَجَاتِ ذُو اَلْعَرْشِ يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‌ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاَقِ ١٥ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفى‌ عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‌ءٌ لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ 

تفسير الميزان ج۱۷

316
  • اَلْقَهَّارِ ١٦ اَلْيَوْمَ تُجْزى‌ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اَلْيَوْمَ إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ ١٧ وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْآزِفَةِ إِذِ اَلْقُلُوبُ لَدَى اَلْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ١٨ يَعْلَمُ خَائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ مَا تُخْفِي اَلصُّدُورُ ١٩ وَ اَللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْ‌ءٍ إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ ٢٠} 

  • (بيان) 

  • احتجاج على التوحيد و إنذار بعد تقسيم الناس إلى راجع إلى الله متبع سبيله و مكذب بالآيات مجادل بالباطل. 

  • قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} إلى آخر الآية المراد بالآيات هي العلائم و الحجج الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية و الألوهية بدليل ما سيجي‌ء من تفريع قوله: {فَادْعُوا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ} عليه، و الآيات مطلقة شاملة للآيات الكونية المشهودة في العالم لكل إنسان صحيح الإدراك و الآيات التي تجري على أيدي الرسل و الحجج القائمة من طريق الوحي. 

  • و الجملة مشتملة على حجة فإنه لو كان هناك إله تجب عبادته على الإنسان و كانت عبادته كمالا للإنسان و سعادة له كان من الواجب في تمام التدبير و كامل العناية أن يهدي الإنسان إليه، و الذي تدل الآيات الكونية على ربوبيته و ألوهيته و يؤيد دلالتها الرسل و الأنبياء بالدعوة و الإتيان بالآيات هو الله سبحانه، و أما آلهتهم الذين يدعونهم من دون الله فلا آية من قبلهم تدل على شي‌ء فالله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له، و إلى هذه الحجة يشير علي (عليه السلام) بقوله‌ فيما روي عنه: «لو كان لربك شريك لأتتك رسله‌». 

تفسير الميزان ج۱۷

317
  • و قوله: {وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ رِزْقاً} حجة أخرى على وحدانيته تعالى من جهة الرزق فإن رزق العباد من شئون الربوبية و الألوهية و الرزق من الله دون شركائهم فهو الرب الإله دونهم. 

  • و قد فسروا الرزق بالمطر و السماء بجهة العلو، و لا يبعد أن يراد بالرزق نفس الأشياء التي يرتزق بها و بنزولها من السماء بروزها من الغيب إلى الشهادة على ما يفيده قوله‌‌{ وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر: ٢١. 

  • و قوله: {وَ مَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ} معترضة تبين أن حصول التذكر بهذه الحجج إنما هو شأن إحدى الطائفتين المذكورتين من قبل و هم المنيبون الراجعون إلى ربهم دون المجادلين الكافرين فإن الكفر و الجحود يبطل استعداد التذكر بالحجة و الاتباع للحق. 

  • قوله تعالى: {فَادْعُوا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ} الأنسب للسياق أن يكون الخطاب عاما للمؤمنين و غيرهم متفرعا على الحجة السابقة غير أنه لا يشمل الكافرين المذكورين في آخر الآية و هم المكذبون المجادلون بالباطل. 

  • كأنه قيل: إذا كانت الآيات تدل على وحدانيته تعالى و هو الرازق فعلى غير الكافرين الذين كذبوا و جادلوا أن يدعوا الله مخلصين له الدين، و أما الكافرون الكارهون للتوحيد فلا مطمع فيهم و لا آية تفيدهم و لا حجة تقنعهم فاعبدوه بالإخلاص و دعوا الكافرين يكرهون ذلك. 

  • قوله تعالى: {رَفِيعُ اَلدَّرَجَاتِ ذُو اَلْعَرْشِ يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‌ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} إلخ صفات ثلاث له تعالى و كل منها خبر بعد خبر للضمير في قوله: {هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} و الآية و ما بعدها مسوقة للإنذار. 

  • و قد أورد لقوله: {رَفِيعُ اَلدَّرَجَاتِ} تفاسير شتى فقيل: معناه رافع درجات الأنبياء و الأولياء في الجنة، و قيل: رافع السماوات السبع التي منها تصعد الملائكة إلى عرشه، و قيل: رفيع مصاعد عرشه، و قيل: كناية عن رفعة شأنه و سلطانه. 

  • و الذي يعطيه التدبر أن الآية و ما بعدها يصفان ملكه تعالى على خلقه أن له عرشا تجتمع فيه أزمة أمور الخلق و يتنزل منه الأمر متعاليا بدرجات رفيعة هي 

تفسير الميزان ج۱۷

318
  • مراتب خلقه و لعلها السماوات التي وصفها في كلامه بأنها مساكن ملائكته و أن أمره يتنزل بينهن و هي التي تحجب عرشه عن الناس. 

  • ثم إن له يوما هو يوم التلاق يرفع فيه الحجاب ما بينه و بين الناس بكشف الغطاء عن بصائرهم و طي السماوات بيمينه و إظهار عرشه لهم فينكشف لهم أنه هو المليك على كل شي‌ء لا ملك إلا ملكه فيحكم بينهم. 

  • فالمراد بالدرجات الدرجات التي يرتقى منها إلى عرشه و يعود قوله: {رَفِيعُ اَلدَّرَجَاتِ ذُو اَلْعَرْشِ} كناية استعارية عن تعالي عرش ملكه عن مستوى الخلق و غيبته و احتجابه عنهم قبل يوم القيامة بدرجات رفيعة و مراحل بعيدة. 

  • و قوله: {يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‌ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} إشارة إلى أمر الرسالة التي من شأنها الإنذار، و تقييد الروح بقوله: {مِنْ أَمْرِهِ} دليل على أن المراد بها الروح التي ذكرها في قوله‌{قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الإسراء: ٨٥، و هي التي تصاحب ملائكة الوحي كما يشير إليه قوله‌{يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‌ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا} النحل: ٢. 

  • فالمراد بإلقاء الروح على من يشاء تنزيلها مع ملائكة الوحي عليه، و المراد بقوله: {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الرسل الذين اصطفاهم الله لرسالته، و في معنى الروح الملقاة على النبي أقوال أخر لا يعبأ بها. 

  • و قوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاَقِ} و هو يوم القيامة سمي به لالتقاء الخلائق فيه أو لالتقاء الخالق و المخلوق أو لالتقاء أهل السماء و الأرض أو لالتقاء الظالم و المظلوم أو لالتقاء المرء و عمله و لكل من هذه الوجوه قائل. 

  • و يمكن أن يتأيد القول الثاني بما تكرر في كلامه تعالى من حديث اللقاء كقوله: ‌{ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} الروم: ٨، و قوله‌{إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ} هود: ٢٩، و قوله‌‌{ يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى‌ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} الانشقاق: ٦ و معنى اللقاء تقطع الأسباب الشاغلة و ظهور أن الله هو الحق المبين و بروزهم لله. 

  • قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفى‌ عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‌ءٌ} إلخ تفسير ليوم التلاق، و معنى بروزهم لله ظهور ذلك لهم و ارتفاع الأسباب الوهمية التي كانت تجذبهم 

تفسير الميزان ج۱۷

319
  • إلى نفسها و تحجبهم عن ربهم و تغفلهم عن إحاطة ملكه و تفرده في الحكم و توحده في الربوبية و الألوهية. 

  • فقوله: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} إشارة إلى ارتفاع كل سبب حاجب، و قوله: {لاَ يَخْفى‌ عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‌ءٌ} تفسير لمعنى بروزهم لله و توضيح فقلوبهم و أعمالهم بعين الله و ظاهرهم و باطنهم و ما ذكروه و ما نسوه مكشوفة غير مستورة. 

  • و قوله: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} سؤال و جواب من ناحيته سبحانه تبين بهما حقيقة اليوم و هي ظهور ملكه و سلطانه تعالى على الخلق على الإطلاق. 

  • و في توصيفه تعالى بالواحد القهار تعليل لانحصار الملك فيه لأنه إذ قهر كل شي‌ء ملكه و تسلط عليه بسلب الاستقلال عنه و هو واحد فله الملك وحده. 

  • قوله تعالى: {اَلْيَوْمَ تُجْزى‌ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اَلْيَوْمَ إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ} الباء في {بِمَا كَسَبَتْ} للصلة و المراد بيان خصيصة اليوم و هي أن كل نفس تجزى عين ما كسبت فجزاؤها عملها، قال تعالى: ‌{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} التحريم: ٧. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ} تعليل لنفي الظلم في قوله: {لاَ ظُلْمَ اَلْيَوْمَ} أي إنه تعالى سريع في المحاسبة لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى حتى يخطئ فيجزي نفسا غير جزائها فيظلمها. 

  • و هذا التعليل ناظر إلى نفي الظلم الناشئ عن الخطإ و أما الظلم عن عمد و علم فانتفاؤه مفروغ عنه لأن الجزاء لما كان بنفس العمل لم يتصور معه ظلم. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْآزِفَةِ إِذِ اَلْقُلُوبُ لَدَى اَلْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} إلى آخر الآية. الآزفة من أوصاف القيامة و معناها القريبة الدانية قال تعالى: ‌{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَرَاهُ قَرِيباً} المعارج: ٧. 

  • و قوله: {إِذِ اَلْقُلُوبُ لَدَى اَلْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} الحناجر جمع حنجرة و هي رأس الغلصمة من خارج و كون القلوب لدى الحناجر كناية عن غاية الخوف كأنها تزول عن مقرها و تبلغ الحناجر من شدة الخوف، و كاظمين‌ من الكظم و هو شدة الاغتمام. 

تفسير الميزان ج۱۷

320
  • و قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} الحميم‌ القريب أي ليس لهم قريب يقوم بنصرهم بحمية القرابة قال تعالى: ‌{فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} المؤمنون: ١٠١، و لا شفيع يطاع في شفاعته. 

  • قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ مَا تُخْفِي اَلصُّدُورُ} قيل: الخائنة مصدر كالخيانة نظيرة الكاذبة و اللاغية بمعنى الكذب و اللغو، و ليس المراد بخائنة الأعين كل معصية من معاصيها بل المعاصي التي لا تظهر للغير كسارقة النظر بدليل ذكرها مع ما تخفي الصدور. 

  • و قيل: {خَائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ} من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، و لازمه كون العلم بمعنى المعرفة و المعنى يعرف الأعين الخائنة، و الوجه هو الأول. 

  • و قوله: {وَ مَا تُخْفِي اَلصُّدُورُ} و هو ما تسره النفس و تستره من وجوه الكفر و النفاق و هيئات المعاصي. 

  • قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْ‌ءٍ} إلخ هذه حجة أخرى على توحده تعالى بالألوهية أقامها بعد ما ذكر حديث انحصار الملك فيه يوم القيامة و علمه بخائنة الأعين و ما تخفي الصدور تمهيدا و توطئة. 

  • و محصلها أن من اللازم الضروري في الألوهية أن يقضي الإله في عباده و بينهم و الله سبحانه هو يقضي بين الخلق و فيهم يوم القيامة و الذين يدعون من دونه لا يقضون بشي‌ء لأنهم عباد مملوكون لا يملكون شيئا. 

  • و من قضائه تعالى تدبيره جزئيات أمور عباده بالخلق بعد الخلق فإنه مصداق القضاء و الحكم قال تعالى: ‌{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس: ٨٢، و قال: ‌{إِذَا قَضى‌ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} آل عمران: ٤٧، و لا نصيب لغيره تعالى في الخلق فلا نصيب له في القضاء. 

  • و من قضائه تعالى تشريع الدين و ارتضاؤه سبيلا لنفسه قال تعالى: ‌{وَ قَضى‌ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (الآية) الإسراء: ٢٣. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ} أي له حقيقة العلم بالمسموعات و المبصرات لذاته، و ليس لغيره من ذلك إلا ما ملكه الله و أذن فيه لا لذاته. 

تفسير الميزان ج۱۷

321
  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي:‌ في قوله تعالى: {يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‌ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} قال: روح القدس و هو خاص برسول الله و الأئمة (صلى الله عليه وآله و سلم)‌. 

  • و في المعاني، بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء و أهل الأرض. 

  • أقول: و رواه القمي في تفسيره، مضمرا مرسلا. 

  • و في التوحيد، بإسناده عن ابن فضال عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) في حديث قال: و يقول الله عز و جل: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ} ثم ينطق أرواح أنبيائه و رسله و حججه فيقولون {لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} ثم يقول الله جل جلاله: {اَلْيَوْمَ تُجْزىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الآية) 

  • و في نهج البلاغة:‌ و أنه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شي‌ء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت و لا زمان و لا حين و لا مكان، عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات، و زالت السنون و الساعات، فلا شي‌ء إلا الله الواحد القهار الذي إليه مصير جميع الأمور، بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، و بغير امتناع منها كان فناؤها، و لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها 

  • و في تفسير القمي‌ بإسناده عن ثوير بن أبي فاختة عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: سئل عن النفختين كم بينهما؟ قال: ما شاء. 

  • ثم ذكر (عليه السلام) كيفية النفخ و موت أهل الأرض و السماء إلى أن قال: فيمكثون في ذلك ما شاء الله ثم يأمر السماء فتمور و يأمر الجبال فتسير و هو قوله: {يَوْمَ تَمُورُ اَلسَّمَاءُ مَوْراً وَ تَسِيرُ اَلْجِبَالُ سَيْراً} يعني يبسط و {تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ} يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال و لا نبات كما دحاها أول مرة، و يعيد عرشه على الماء كما كان أول مرة مستقلا بعظمته و قدرته. 

تفسير الميزان ج۱۷

322
  • قال: فعند ذلك ينادي الجبار جل جلاله بصوت من قبله جهوري يسمع أقطار السماوات و الأرضين {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ} فلم يجبه مجيب فعند ذلك يقول الجبار عز و جل مجيبا لنفسه {لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} (الحديث). 

  • أقول: التدبر في الروايات الثلاث الأخيرة يهدي إلى أن الذي يفنى من الخلق استقلال وجودها و النسب و روابط التأثير التي بينها كما تفيده الآيات القرآنية و أن الأرواح لا تموت، و أن لا وقت بين النفختين فلا تغفل، و في الروايات لطائف من الإشارات تظهر للمتدبر، و فيها ما يخالف بظاهره ما تقدم. 

  • و في روضة الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث قال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا أساءه ذلك و ندم عليه و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) «كفى بالندم توبة» و قال: «من سرته حسنته و ساءته سيئته فهو مؤمن» فإن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن و لم تجب له شفاعة و كان ظالما و الله تعالى يقول: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}

  • و في المعاني، بإسناده إلى عبد الرحمن بن سلمة الحريري قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ} فقال: أ لم تر إلى الرجل ينظر إلى الشي‌ء و كأنه لا ينظر فذلك خائنة الأعين. 

  • و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و النسائي و ابن مردويه عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الناس إلا أربعة نفر و امرأتين، و قال: اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان. 

  • فلما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الناس إلى البيعة جاء به فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى أن يبايعه ثم بايعه ثم أقبل على أصحابه فقال: أ ما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا إلى حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك. قال: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين. 

تفسير الميزان ج۱۷

323
  • [سورة غافر (٤٠): الآیات ٢١ الی ٥٤]

  • {أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثَاراً فِي اَلْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اَللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَاقٍ ٢١ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اَللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ ٢٢ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسى‌ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ ٢٣ إِلى‌ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ قَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ٢٤ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اُقْتُلُوا أَبْنَاءَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اِسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَ مَا كَيْدُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ٢٥ وَ قَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى‌ وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي اَلْأَرْضِ اَلْفَسَادَ ٢٦ وَ قَالَ مُوسى‌ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسَابِ ٢٧ وَ قَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللَّهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ٢٨ يَا قَوْمِ لَكُمُ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ 

تفسير الميزان ج۱۷

324
  • فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اَللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى‌ وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ ٢٩ وَ قَالَ اَلَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ اَلْأَحْزَابِ ٣٠مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اَللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ ٣١ وَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ اَلتَّنَادِ ٣٢ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ٣٣ وَ لَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اَللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ٣٤ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللَّهِ وَ عِنْدَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلى‌ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ٣٥ وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبَابَ ٣٦ أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلى‌ إِلَهِ مُوسى‌ وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ٣٧ وَ قَالَ 

تفسير الميزان ج۱۷

325
  • اَلَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ ٣٨ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا مَتَاعٌ وَ إِنَّ اَلْآخِرَةَ هِيَ دَارُ اَلْقَرَارِ ٣٩ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزى‌ إِلاَّ مِثْلَهَا وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‌ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ٤٠وَ يَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلنَّجَاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى اَلنَّارِ ٤١ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلْعَزِيزِ اَلْغَفَّارِ ٤٢ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي اَلدُّنْيَا وَ لاَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اَللَّهِ وَ أَنَّ اَلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ اَلنَّارِ ٤٣ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ٤٤ فَوَقَاهُ اَللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَ حَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذَابِ ٤٥ اَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذَابِ ٤٦ وَ إِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي اَلنَّارِ فَيَقُولُ اَلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ اَلنَّارِ ٤٧ قَالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اَللَّهَ قَدْ حَكَمَ 

تفسير الميزان ج۱۷

326
  • بَيْنَ اَلْعِبَادِ ٤٨ وَ قَالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ اَلْعَذَابِ ٤٩ قَالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلى‌ قَالُوا فَادْعُوا وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ٥٠إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ ٥١ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ اَلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ ٥٢ وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْهُدى‌ وَ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ ٥٣ هُدىً وَ ذِكْرى‌ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ ٥٤} 

  • (بيان) 

  • في الآيات موعظتهم بالإرجاع إلى آثار الأمم الماضين و قصصهم للنظر و الاعتبار فلينظروا فيها و ليعتبروا بها و يعلموا أن الله سبحانه لا تعجزه قوة الأقوياء و استكبار المستكبرين و مكر الماكرين و تذكر منها من باب الأنموذج طرفا من قصص موسى و فرعون و فيها قصة مؤمن آل فرعون. 

  • قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} إلى آخر الآية الاستفهام إنكاري، و الواقي‌ اسم فاعل من الوقاية بمعنى حفظ الشي‌ء مما يؤذيه و يضره. 

  • و المعنى: أ و لم يسيروا هؤلاء الذين أرسلناك إليهم {فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} نظر تفكر و اعتبار {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم الدارجة المكذبين لرسلهم {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي قدرة و تمكنا و سلطة {وَ آثَاراً} كالمدائن الحصينة و القلاع المنيعة و القصور العالية المشيدة {فِي اَلْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اَللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} و أهلكهم بأعمالهم {وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَاقٍ} يقيهم و حافظ يحفظهم. 

تفسير الميزان ج۱۷

327
  •  قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} إلخ الإشارة بذلك إلى الأخذ الإلهي، و المراد بالبينات الآيات الواضحات، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسىَ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ} لعل المراد بالآيات الخوارق المعجزة التي أرسل بها كالعصا و اليد و غيرهما و بالسلطان المبين السلطة الإلهية القاهرة التي أيد بها فمنعت فرعون أن يقتله و يطفئ نوره، و قيل: المراد بالآيات الحجج و الدلالات و بالسلطان معجزاته من العصا و اليد و غيرهما، و قيل: غير ذلك. 

  • قوله تعالى: {إِلى‌ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ قَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} فرعون جبار القبط و مليكهم، و هامان وزيره و قارون من طغاة بني إسرائيل ذو الخزائن المليئة؟ و إنما اختص الثلاثة من بين الأمتين بالذكر لكونهم أصولا ينتهي إليهم كل فساد و فتنة فيهما. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اُقْتُلُوا أَبْنَاءَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} إلخ مقايسة بين ما جاءهم به موسى و دعاهم إليه و بين ما قابلوه به من كيدهم فقد جاءهم بالحق و كان من الواجب أن يقبلوه لأنه حق و كان ما جاء به من عند الله و كان من الواجب أن يقبلوه و لا يردوه فقابلوه بالكيد و قالوا ما قالوا لئلا يؤمن به أحد لكن الله أضل كيدهم فلم يصب المؤمنين معه. 

  • و يشعر السياق أن من القائلين بهذا القول قارون و هو من بني إسرائيل و لا ضير فيه لأن الحكم بقتل الأبناء و استحياء النساء كان قبل الدعوة صادرا في حق بني إسرائيل عامة و هذا الحكم في حق المؤمنين منهم خاصة فلعل قارون وافقهم عليه لعداوته و بغضه موسى و المؤمنين من قومه. 

  • و في قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} و لم يقل: آمنوا به إشارة إلى مظاهرتهم موسى في دعوته. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسىَ وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ} إلخ {ذَرُونِي} أي اتركوني، خطاب يخاطب به ملأه، و فيه دلالة على أنه كان هناك قوم يشيرون عليه أن لا يقتل موسى و يكف عنه كما يشير إليه قوله تعالى: ‌{قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ} الشعراء: ٣٦. 

  • و قوله: {وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ} كلمة قالها كبرا و عتوا يقول: اتركوني أقتله و ليدع ربه 

تفسير الميزان ج۱۷

328
  • فلينجه من يدي و ليخلصه من القتل إن قدر. 

  • و قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي اَلْأَرْضِ اَلْفَسَادَ} تعليل لما عزم عليه من القتل و قد ذكر أنه يخافه عليهم من جهة دينهم و من جهة دنياهم، أما من جهة دينهم و هو عبادة الأصنام فأن يبدله و يضع موضعه عبادة الله وحده، و أما من جهة دنياهم فكأن يعظم أمره و يتقوى جانبه و يكثر متبعوه فيتظاهروا بالتمرد و المخالفة فيئول الأمر إلى المشاجرة و القتال و انسلاب الأمن. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ مُوسىَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسَابِ} مقابلة منه (عليه السلام) لتهديد فرعون إياه بالقتل و استعاذة منه بربه، و قوله: {عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ} فيه مقابلة منه أيضا لفرعون في قوله: {وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ} حيث خص ربوبيته تعالى بموسى فأشار موسى بقوله: {عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ} إلى أنه تعالى ربهم كما هو ربه نافذ حكمه فيهم كما هو نافذ فيه فله أن يقي عائذه من شرهم و قد وقى. 

  • و من هنا يظهر أن الخطاب في قوله: {وَ رَبِّكُمْ} لفرعون و من معه دون قومه من بني إسرائيل. 

  • و قوله: {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسَابِ} يشير به إلى فرعون و كل من يشاركه في صفتي التكبر و عدم الإيمان بيوم الحساب و لا يؤمن ممن اجتمعت فيه الصفتان شر أصلا. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} إلى آخر الآية. ظاهر السياق أن {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} صفة رجل و {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} صفة أخرى فكان الرجل من القبط من خاصة فرعون و هم لا يعلمون بإيمانه لكتمانه إياهم ذلك تقية. 

  • و قيل: قوله: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} مفعول ثان لقوله: {يَكْتُمُ} قدم عليه، و الغالب فيه و إن كان التعدي إلى المفعول الثاني بنفسه كما في قوله‌{وَ لاَ يَكْتُمُونَ اَللَّهَ حَدِيثاً} النساء: ٤٢ لكنه قد يتعدى إليه بمن كما صرح به في المصباح،. 

  • و فيه أن السياق يأباه فلا نكتة ظاهرة تقتضي تقدم المفعول الثاني على الفعل من حصر و نحوه. على أن الرجل يكرر نداء فرعون و قومه بلفظة {يَا قَوْمِ} و لو لم يكن منهم لم يكن له ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۷

329
  • و قوله: {أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللَّهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} إنكار لعزمهم على قتله، و في قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} دليل على أن في البينات التي جاء بها دلالة على أن الله ربهم أيضا كما اتخذه ربا فقتله قتل رجل جاء بالحق من ربهم. 

  • و قوله: {وَ إِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} قيل: إن ذكره هذا التقدير تلطف منه لا أنه كان شاكا في صدقه. 

  • و قوله: {وَ إِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ} فيه تنزل في المخاصمة بالاكتفاء على أيسر التقادير و أقلها كأنه يقول: و إن يك صادقا يصبكم ما وعدكم من أنواع العذاب و لا أقل من إصابة بعض ما يعدكم مع أن لازم صدقه إصابة جميع ما وعد. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} تعليل للتقدير الثاني فقط و المعنى إن يك كاذبا كفاه كذبه و إن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم لأنكم حينئذ مسرفون متعدون طوركم كذابون في نفي ربوبية ربكم و اتخاذ أرباب من دونه و الله لا يهدي من هو مسرف كذاب، و أما على تقدير كذبه فلا ربوبية لمن اتخذه ربا حتى يهديه أو لا يهديه. 

  • و من هنا يظهر أن ما ذكره بعضهم من كون الجملة تعليلا للتقديرين جميعا متعلقة بكلتا الجملتين غير مستقيم. 

  • قوله تعالى: {يَا قَوْمِ لَكُمُ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اَللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} ظهورهم‌ غلبتهم و علوهم في الأرض، و الأرض أرض مصر، و بأس الله أخذه و عذابه و الاستفهام للإنكار. 

  • و المعنى: يا قوم لكم الملك حال كونهم غالبين عالين في أرض مصر على من دونكم من بني إسرائيل فمن ينصرنا من أخذ الله و عذابه كما يعدنا به موسى إن جاءنا؟ و قد أدخل نفسه فيهم على تقدير مجي‌ء البأس ليكون أبلغ في النصح و أوقع في قلوبهم أنه يريد لهم من العافية ما يريده لنفسه. 

  • قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى‌ وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} أي طريق الصواب المطابقة للواقع يريد أنه على يقين مما يهدي إليه قومه من الطريق 

تفسير الميزان ج۱۷

330
  • و هي مع كونها معلومة له مطابقة للواقع، و هذا كان تمويها منه و تجلدا. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ اَلْأَحْزَابِ} - إلى قوله - {لِلْعِبَادِ} المراد بالذي آمن هو مؤمن آل فرعون، و لا يعبأ بما قيل: إنه موسى لقوة كلامه، و المراد بالأحزاب الأمم المذكورون في الآية التالية قوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم، و قوله: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} بيان للمثل السابق و الدأب‌ هو العادة. 

  • و المعنى: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأقوام الماضين مثل العادة الجارية من العذاب عليهم واحدا بعد واحد لكفرهم و تكذيبهم الرسل، أو مثل جزاء عادتهم الدائمة من الكفر و التكذيب و ما الله يريد ظلما للعباد. 

  • قوله تعالى: {وَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ اَلتَّنَادِ} - إلى قوله - {مِنْ هَادٍ} يوم التناد يوم القيامة، و لعل تسميته بذلك لكون الظالمين فيه ينادي بعضهم بعضا و ينادون بالويل و الثبور على ما اعتادوا به في الدنيا. 

  • و قيل: المراد بالتنادي المناداة التي تقع بين أصحاب الجنة و أصحاب النار على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف، و هناك وجوه أخر ذكروها لا جدوى فيها. 

  • و قوله: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} المراد به يوم القيامة و لعل المراد أنهم يفرون في النار من شدة عذابها ليتخلصوا منها فردوا إليها كما قال تعالى: ‌{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ }الحج: ٢٢. 

  • و قوله: {وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} بمنزلة التعليل لقوله: {مَا لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي تفرون مدبرين ما لكم من عاصم و لو كان لكان من جانب الله و ليس و ذلك لأن الله أضلهم و من يضلل الله فما له من هاد. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} إلى آخر الآية. لما ذكر أن الله أضلهم و لا هادي لهم استشهد له بما عاملوا به يوسف (عليه السلام) في رسالته إليهم حيث شكوا في نبوته ما دام حيا ثم إذا مات قالوا: لا نبي بعده. 

  • فالمعنى: و أقسم لقد جاءكم يوسف من قبل بالآيات البينات التي لا تدع ريبا في 

تفسير الميزان ج۱۷

331
  • رسالته من الله فما زلتم في شك مما جاءكم به ما دام حيا حتى إذا هلك و مات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا فناقضتم أنفسكم و لم تبالوا. 

  • ثم أكده - و هو في معنى التعليل - بقوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} إلخ وصف لكل مسرف مرتاب فإن من تعدى طوره بالإعراض عن الحق و اتباع الهوى و استقر في نفسه الارتياب فكان لا يستقر على علم و لا يطمئن إلى حجة تهديه إلى الحق جادل في آيات الله بغير برهان إذا خالفت مقتضى هواه. 

  • و قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلى‌ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} يفيد أن قلوبهم مطبوع عليها فلا يفقهون حجة و لا يركنون إلى برهان. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً} - إلى قوله - {فِي تَبَابٍ} أمر منه لوزيره هامان أن يبني له بناء يتوصل به إلى الاطلاع إلى إله موسى و لعله أصدر هذا الأمر أثناء محاجة الذي آمن و بعد الانصراف عن قتل موسى و لذلك وقع ذكره بين مواعظ الذي آمن و احتجاجاته. 

  • و الصرح - على ما في المجمع - البناء الظاهر الذي لا يخفى على عين الناظر و إن بعد، و الأسباب‌ جمع سبب و هو ما تتوصل به إلى ما يبتعد عنك. 

  • و قوله: {لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبَابَ} في معنى التعليل لأمره ببناء الصرح، و المعنى آمرك ببنائه لأني أرجو أن أبلغ بالصعود عليه الأسباب ثم فسر الأسباب بقوله: {أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ} و فرع عليه قوله: {فَأَطَّلِعَ إِلى‌ إِلَهِ مُوسى‌} كأنه يقول: إن الإله الذي يدعوه و يدعو إليه موسى ليس في الأرض إذ لا إله فيها غيري فلعله في السماء فابن لي صرحا لعلي أبلغ بالصعود عليه الأسباب السماوية الكاشفة عن خبايا السماء فأطلع من جهتها إلى إله موسى و إني لأظنه كاذبا. 

  • و قيل: إن مراده أن يبني له رصدا يرصد فيه الأوضاع السماوية لعله يعثر فيها على ما يستدل به على وجود إله موسى بعد اليأس عن الظفر عليه بالوسائل الأرضية 

تفسير الميزان ج۱۷

332
  • و هو حسن، و على أي حال لا يستقيم ما ذكره على شي‌ء من مذاهب الوثنية فلعله كان منه تمويها على الناس أو جهلا منه و ما هو من الظالمين ببعيد. 

  • و قوله: {وَ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ اَلسَّبِيلِ} مفاد السياق أنه في معنى إعطاء الضابط لما واجه به فرعون الحق الذي كان يدعوه إليه موسى فقد زين الشيطان له قبيح عمله فرآه حسنا و صده عن سبيل الرشاد فرأى انصداده عنها ركوبا عليها فجادل في آيات الله بالباطل و أتى بمثل هذه الأعمال القبيحة و المكائد السفيهة لإدحاض الحق. 

  • و لذلك ختمت الآية بقوله: {وَ مَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} أي هلاك و انقطاع. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} يدعوهم إلى اتباعه ليهديهم، و اتباعه اتباع موسى، و سبيل الرشاد السبيل التي في سلوكها إصابة الحق و الظفر بالسعادة، و الهداية بمعنى إراءة الطريق، و في قوله: {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} تعريض لفرعون حيث قال: {وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا مَتَاعٌ وَ إِنَّ اَلْآخِرَةَ هِيَ دَارُ اَلْقَرَارِ} هذا هو السناد الذي يستند إليه سلوك سبيل الرشاد و التدين بدين الحق لا غنى عنه بحال و هو الاعتقاد بأن للإنسان حياة خالدة مؤبدة هي الحياة الآخرة و أن هذه الحياة الدنيا متاع في الآخرة و مقدمة مقصودة لأجلها، و لذلك بدأ به في بيان سبيل الرشاد ثم ذكر السيئة و العمل الصالح. 

  • قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزى‌ إِلاَّ مِثْلَهَا} إلى آخر الآية. أي إن الذي يصيبه و يعيش به في الآخرة يشاكل ما أتى به في هذه الحياة الدنيا التي هي متاع فيها فإنما الدنيا دار عمل و الآخرة دار جزاء. 

  • من عمل في الدنيا سيئة ذات صفة المساءة فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها مما يسوؤه و من عمل صالحا من ذكر أو أنثى من غير فرق بينهما في ذلك و الحال أنه مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب. 

  • و فيه إشارة إلى المساواة بين الذكر و الأنثى في قبول العمل و تقييد العمل الصالح 

تفسير الميزان ج۱۷

333
  • في تأثيره بالإيمان لكون العمل حبطا بدون الإيمان قال تعالى: ‌{وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} المائدة: ٥ إلى غيرها من الآيات. 

  • و قد جمع الدين الحق و هو سبيل الرشاد في أوجز بيان و هو أن للإنسان دار قرار يجزى فيها بما عمل في الدنيا من عمل سيئ أو صالح فليعمل صالحا و لا يعمل سيئا، و زاد بيانا إذ أفاد أنه إن عمل صالحا يرزق بغير حساب. 

  • قوله تعالى: {وَ يَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلنَّجَاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى اَلنَّارِ} - إلى قوله - {اَلْعَزِيزِ اَلْغَفَّارِ} كأنه لما دعاهم إلى التوحيد قابلوه بدعوته إلى عبادة آلهتهم أو قدرها لهم لما شاهد جدالهم بالباطل و إصرارهم على الشرك فنسب إليهم الدعوة بشهادة حالهم فأظهر العجب من مقابلتهم دعوته الحقة بدعوتهم الباطلة. 

  • فقال: و يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة أي النجاة من النار و تدعونني إلى النار و قد كان يدعوهم إلى سبب النجاة و يدعونه إلى سبب دخول النار فجعل الدعوة إلى السببين دعوة إلى المسببين أو لأن الجزاء هو العمل بوجه. 

  • ثم فسر ما دعوه إليه و ما دعاهم إليه فقال: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ} أي إلى أن أكفر {بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أي أشرك به شيئا لا حجة لي على كونه شريكا فأفتري على الله بغير علم، {وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلْعَزِيزِ}، الذي يغلب و لا يغلب {اَلْغَفَّارِ} لمن تاب إليه و آمن به أي أدعوكم إلى الإيمان به و الإسلام له. 

  • قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي اَلدُّنْيَا وَ لاَ فِي اَلْآخِرَةِ} إلخ لا جرم بمعنى حقا أو بمعنى لا بد، و مفاد الآية إقامة الحجة على عدم كون ما يدعون إليه إلها من طريق عدم الدعوة إليه و في ذلك تأييد لقوله في الآية السابقة {مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}

  • و المعنى: ثبت ثبوتا أن ما تدعونني إليه مما تسمونه شريكا له سبحانه ليس له دعوة في الدنيا إذ لم يعهد نبي أرسل إلى الناس من ناحيته ليدعوهم إلى عبادته، و لا في الآخرة إذ لا رجوع إليه فيها من أحد، و أما الذي أدعوكم إليه و هو الله سبحانه فإن له دعوة في الدنيا و هي التي تصداها أنبياؤه و رسله المبعوثون من عنده المؤيدون بالحجج و البينات، 

تفسير الميزان ج۱۷

334
  • و في الآخرة و هي التي يتبعها رجوع الخلق إليه لفصل القضاء بينهم، قال تعالى: ‌{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} إسراء: ٥٢. 

  • و من المعلوم كما قررناه في ذيل قوله تعالى‌‌{هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ»} الآية ١٣ من السورة أن الربوبية لا تتم بدون دعوة في الدنيا و نظيرتها الدعوة في الآخرة، و إذ كان الذي يدعوهم إليه ذا دعوة في الدنيا و الآخرة دون ما يدعونه إليه فهو الإله دون ما يدعون إليه. 

  • و قوله: {وَ أَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اَللَّهِ وَ أَنَّ اَلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ اَلنَّارِ} معطوف على قوله: {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي} أي لا جرم أن مردنا إلى الله فيجب الإسلام له و اتباع سبيله و رعاية حدود العبودية، و لا جرم أن المسرفين و هم المتعدون طور العبودية - و هم أنتم - أصحاب النار فالذي أدعوكم إليه فيه النجاة دون ما تدعونني إليه. 

  • قوله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} صدر الآية موعظة و تخويف لهم و هو تفريع على قوله: {وَ أَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اَللَّهِ} إلخ أي إذ كان لا بد من الرجوع إلى الله و حلول العذاب بالمسرفين و أنتم منهم و لم تسمعوا اليوم ما أقول لكم فستذكرون ما أقول لكم حين عاينتم العذاب و تعلمون عند ذاك أني كنت ناصحا لكم. 

  • و قوله: {وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللَّهِ} التفويض‌ على ما فسره الراغب هو الرد فتفويض الأمر إلى الله رده إليه فيقرب من معنى التوكل و التسليم و الاعتبار مختلف: فالتفويض من العبد رده ما نسب إليه من الأمر إلى الله سبحانه و حال العبد حينئذ حال من هو أعزل لا أمر راجعا إليه، و التوكل من العبد جعله ربه وكيلا يتصرف فيما له من الأمر، و التسليم من العبد مطاوعته المحضة لما يريده الله سبحانه فيه و منه من غير نظر إلى انتساب أمر إليه فهي مقامات ثلاث من مقامات العبودية: التوكل ثم التفويض و هو أدق من التوكل ثم التسليم و هو أدق منهما. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} تعليل لتفويضه أمره إلى الله، و في وضع اسم الجلالة موضع ضميره و كان مقتضى الظاهر الإضمار إشارة إلى علة بصيرته بالعباد كأنه قيل: إنه بصير بالعباد لأنه الله عز اسمه. 

تفسير الميزان ج۱۷

335
  • قوله تعالى: {فَوَقَاهُ اَللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} تفريع على تفويضه الأمر إلى الله فكفاه الله شرهم و وقاه سيئات مكرهم، و فيه إشارة إلى أنهم قصدوه بالسوء لكن الله دفعهم عنه. 

  • قوله تعالى: {وَ حَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذَابِ} - إلى قوله - {أَشَدَّ اَلْعَذَابِ} أي نزل بهم و أصابهم العذاب السيئ فسوء العذاب من إضافة الصفة إلى موصوفها و في التوصيف بالمصدر مبالغة، و آل فرعون أشياعه و أتباعه، و ربما يقال آل فلان و يشمل نفسه. 

  • و قوله: {اَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذَابِ} ظاهر السياق أنه بيان لسوء العذاب و ليس من الاستئناف في شي‌ء. 

  • و الآية صريحة أولا في أن هناك عرضا على النار ثم إدخالا فيها و الإدخال أشد من العرض، و ثانيا: في أن العرض على النار قبل قيام الساعة التي فيها الإدخال و هو عذاب البرزخ عالم متوسط بين الموت و البعث و ثالثا: أن التعذيب في البرزخ و يوم تقوم الساعة بشي‌ء واحد و هو نار الآخرة لكن البرزخيين يعذبون بها من بعيد و أهل الآخرة بدخولها. 

  • و في قوله: {غُدُوًّا وَ عَشِيًّا} إشارة إلى التوالي من غير انقطاع، و لعل لأهل البرزخ لعدم انقطاعهم عن الدنيا بالكلية نسبة ما إلى الغداة و العشي. 

  • و في قوله: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا} إيجاز بالحذف و التقدير يقال: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي اَلنَّارِ فَيَقُولُ اَلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا} - إلى قوله - {بَيْنَ اَلْعِبَادِ} يفيد السياق أن الضمير في {يَتَحَاجُّونَ} لآل فرعون و من الدليل على ذلك تغيير السياق في قوله بعد: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنَّارِ} و المعنى و حاق بآل فرعون سوء العذاب إذ يتحاجون في النار أو و اذكر من سوء عذابهم إذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء منهم للذين استكبروا إنا كنا في الدنيا لكم تبعا و كان لازم ذلك أن تكفونا في الحوائج و تنصرونا في الشدائد و لا شدة أشد مما نحن فيه فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار و إن لم يكن جميع عذابها فقد قنعنا بالبعض. 

تفسير الميزان ج۱۷

336
  • و هذا ظهور مما رسخ في نفوسهم في الدنيا من الالتجاء بكبريائهم و متبوعيهم من دون الله يظهر منهم ذلك يوم القيامة و هم يعلمون أنهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئا و الأمر يومئذ لله و له نظائر محكية عنهم في كلامه تعالى من كذبهم يومئذ و خلفهم و إنكارهم أعمالهم و تكذيب بعضهم لبعض و غير ذلك. 

  • و قوله: {قَالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اَللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ اَلْعِبَادِ} جواب من مستكبريهم عن قولهم و محصله أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فالأسباب ساقطة عن التأثير و قد طاحت منا ما كنا نتوهمه لأنفسنا في الدنيا من القوة و القدرة فحالنا و حالكم - و نحن جميعا في النار - واحدة. 

  • فقولهم: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اَللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ اَلْعِبَادِ} مفاده أن ظهور الحكم الإلهي قد أبطل أحكام سائر الأسباب و تأثيراتها و أثبتنا على ما نحن فيه من الحال في حد سواء فلسنا نختص دونكم بقوة حتى نغني عنكم شيئا من العذاب. 

  • و مما قيل في الآية أن الضمير في قوله {يَتَحَاجُّونَ} لمطلق الكفار من أهل النار و هو بعيد كما عرفت، و قيل: الضمير لقريش و هو أبعد. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ اَلْعَذَابِ} مكالمة بين أهل النار و منهم آل فرعون و بين خزنة جهنم أوردها سبحانه تلو قصة آل فرعون، و هم إنما سألوا الخزنة أن يدعوا لهم ليأسهم من أن يستجاب منهم أنفسهم. 

  • و المراد باليوم من العذاب ما يناسب من معنى اليوم لعالمهم الذي هم فيه، و يؤول معناه إلى قطعة من العذاب. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلى‌ قَالُوا فَادْعُوا وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} أجابوهم بالاستخبار عن إتيان رسلهم إياهم بالبينات فاعترفوا بذلك و هو اعتراف منهم بأنهم كفروا بهم مع العلم بكونهم على الحق و هو الكفر بالنبوة فلم يجبهم الخزنة فيما سألوهم من الدعاء إثباتا و لا نفيا بل ردوهم إلى أنفسهم مشيرين إلى أنهم لا يستجاب لهم دعاء. 

تفسير الميزان ج۱۷

337
  • و قوله: {وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} أي إن دعاءهم قد أحاط به الضلال فلا يهتدي إلى هدف الإجابة و هو تتمة كلام الخزنة على ما يعطيه السياق، و يحتمل أن يكون من كلامه تعالى، على بعد. 

  • و الجملة على أي حال تفيد معنى التعليل و المحصل: ادعوا فلا يستجاب لكم فإنكم كافرون، و الكافرون لا يستجاب لهم دعاء. 

  • و تعليق حكم عدم الاستجابة بوصف الكفر مشعر بعليته و ذلك أن الله سبحانه و إن وعد عباده وعدا قطعيا أن يجيب دعوة من دعاه منهم فقال‌: {أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} البقرة - ١٨٦، و الدعاء إذا كان واقعا على حقيقته لا يرد البتة لكن الذي يتضمنه متن هذا الوعد هو أن يكون هناك دعاء و طلب حقيقة و أن يتعلق ذلك بالله حقيقة أي يدعو الداعي و يطلب جدا و ينقطع في ذلك إلى الله عن سائر الأسباب التي يسميها أسبابا. 

  • و الكافر بعذاب الآخرة و هو الذي ينكرها و يستر حقيقتها لا يتمشى منه طلب جدي لرفعه أما في الدنيا فظاهر، و أما في الآخرة فلأنه و إن أيقن به بالمعاينة و انقطع إلى الله سبحانه لما هو فيه من الشدة و قد انقطعت عنه الأسباب لكن صفة الإنكار لزمته وبالا و قد جوزي بها فلا تدعه يطلب ما كان ينكره طلبا جديا. 

  • على أن الكلام في انقطاعه إلى الله أيضا كالكلام في طلبه الجدي للتخلص و أنى له الانقطاع إلى الله هناك و لم يتلبس به في الدنيا فافهمه. 

  • و بذلك يظهر ضعف الاستدلال بالآية على أن دعاء الكافر لا يستجاب مطلقا فإنك عرفت أن مدلول الآية عدم استجابة دعائه في ما يكفر به و ينكره لا مطلقا كيف؟ و هناك آيات كثيرة تذكر استجابة دعائه في موارد الاضطرار. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ} الأشهاد جمع شهيد بمعنى شاهد، و الآية وعد نوعي لا وعد شخصي لكل واحد شخصي منهم في كل واقعة شخصية، و قد تقدم كلام في معنى النصر الإلهي في تفسير قوله تعالى 

تفسير الميزان ج۱۷

338
  • {إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ} الصافات: ١٧٢. 

  • قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ اَلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ} تفسير ليوم يقوم الأشهاد، و ظاهر إضافة المصدر إلى فاعله في قوله{مَعْذِرَتُهُمْ} و لم يقل: إن يعتذروا، تحقق معذرة ما منهم يومئذ، و أما قوله‌{هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} المرسلات: ٣٦ فمحمول على بعض مراحل يوم القيامة و عقباته لدلالة آيات أخرى على وقوع تكلم ما منهم يومئذ. 

  • و قوله: {وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ} أي البعد من رحمة الله، و قوله : {لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ} أي الدار السيئة و هي جهنم. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْهُدى‌ وَ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ} - إلى قوله - {اَلْأَلْبَابِ} خاتمة لما تقدم من إرسال موسى بالآيات و السلطان المبين و مجادلة آل فرعون في الآيات بالباطل و محاجة مؤمن آل فرعون، يشير بها و قد صدرت بلام القسم إلى حقية ما أرسل به و ظلمهم في ما قابلوه به. 

  • و المراد بالهدى الدين الذي أوتيه موسى، و بإيراث بني إسرائيل الكتاب» إبقاء التوراة بينهم يعملون بها و يهتدون. 

  • و قوله: {هُدىً وَ ذِكْرى‌ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ} أي حال كون الكتاب هدى يهتدي به عامتهم و ذكرى يتذكر به خاصتهم من أولي الألباب. 

  • (بحث روائي) 

  • في العلل، بإسناده عن إسماعيل بن منصور أبي زياد عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسىَ} ما كان يمنعه؟ قال: منعته رشدته، و لا يقتل الأنبياء و لا أولاد الأنبياء إلا أولاد الزنا.

  • و في المجمع، قال أبو عبد الله: التقية ديني و دين آبائي، و لا دين لمن لا تقية له، و التقية ترس الله في الأرض لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل.

  •  أقول: و الروايات من طرق الشيعة فيها كثيرة و الآيات تؤيدها كقوله: ‌{إِلاَّ أَنْ 

تفسير الميزان ج۱۷

339
  • تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} آل عمران: ٢٨ و قوله‌{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ }النحل: ١٠٦. 

  • و في المحاسن، بإسناده عن أيوب بن الحر عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: {فَوَقَاهُ اَللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} قال: أما لقد سطوا عليه و قتلوه و لكن أ تدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه.

  • أقول: و في معناه بعض روايات أخر و في بعض ما ورد من طرق أهل السنة أن الله نجاه من القتل. 

  • و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) قال: عجبت لمن يفزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع؟ - إلى أن قال - و عجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: {وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} فإني سمعت الله تعالى يقول بعقبها: {فَوَقَاهُ اَللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}.

  •  أقول: و هو مروي في غير هذا الكتاب. 

  • و في تفسير القمي:‌ قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في قول الله عز و جل: {اَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا} فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يقول الناس؟ فقال: يقولون: إنها في نار الخلد و هم لا يعذبون فيما بين ذلك فقال: فهم من السعداء. فقيل له: جعلت فداك فكيف هذا؟ فقال: إنما هذا في الدنيا فأما في دار الخلد فهو قوله: {يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذَابِ}

  • أقول: مراده (عليه السلام) بالدنيا البرزخ و هو كثير الورود في رواياتهم. 

  • و في المجمع، عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشي فإن كان من أهل الجنة فمن الجنة، و إن كان من أهل النار فمن النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة. أورده البخاري و مسلم في الصحيح،. 

  • أقول: و رواه السيوطي في الدر المنثور، عنهما و عن ابن أبي شيبة و ابن مردويه. و هذا المعنى كثير الورود في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، و قد مر كثير منها في البحث عن البرزخ في الجزء الأول من الكتاب و غيره من المواضع. 

تفسير الميزان ج۱۷

340
  • [سورة غافر (٤٠): الآیات ٥٥ الی ٦٠]

  • {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكَارِ ٥٥ إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ ٥٦ لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٧ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‌ وَ اَلْبَصِيرُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ لاَ اَلْمُسِي‌ءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ ٥٨ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ٥٩ وَ قَالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠} 

  • (بيان) 

  • لما قص قصة موسى و إرساله بالحق إلى فرعون و قومه، و مجادلتهم في آيات الله بالباطل و مكرهم فيها و نصره تعالى لنبيه و إبطاله كيدهم و ما آل إليه أمرهم من خيبة السعي و سوء المنقلب فرع على ذلك أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر منبها له أن وعد الله بالنصر حق و أن كيد قومه و جدالهم بالباطل و استكبارهم عن قبول دعوته سيبطل و يعود وبالا على أنفسهم فليسوا بمعجزي الله و ستقوم الساعة الموعودة و يدخلون جهنم داخرين. 

  • قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ} إلى آخر الآية. تفريع على ما تقدم 

تفسير الميزان ج۱۷

341
  • من الأمر بالاعتبار في قوله: {أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} و ما أورد بعده من قصة موسى و مآل أمر المستكبرين المجادلين بالباطل و نصره تعالى للحق و أهله. 

  • و المعنى: إذا كان الأمر على ذلك فاصبر على إيذاء المشركين و مجادلتهم بالباطل إن وعد الله حق و سيفي لك بما وعد، و المراد بالوعد ما في قوله قبيل هذا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} (الآية) من وعد النصر. 

  • و قوله: {وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} أمر له بالاستغفار لما يعد بالنسبة إليه ذنبا و إن لم يكن ذنبا بمعنى المخالفة للأمر المولوي لمكان عصمته (صلى الله عليه وآله و سلم)‌، و قد تقدم كلام في معنى الذنب و المغفرة في أواخر الجزء السادس من الكتاب. 

  • و للذنب المنسوب إليه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ معنى آخر سنشير إليه في تفسير أول سورة الفتح إن شاء الله تعالى، و قيل: المراد بذنبه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ ذنب أمته أعطي الشفاعة فيه. 

  • و قوله: {وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكَارِ} أي نزهه سبحانه مصاحبا لحمده على جميل آلائه مستمرا متواليا بتوالي الأيام أو في كل صباح و مساء، و كونه بالعشي و الإبكار على المعنى الأول من قبيل الكناية. 

  • و قيل: المراد به صلاتا الصبح و العصر، و الآية مدنية. 

  • و فيه أن المسلم من الروايات و منها أخبار المعراج أن الصلوات الخمس فرضت جميعا بمكة قبل الهجرة فلو كان المراد به الفريضتين كان ذلك بمكة قبل فرض بقية الصلوات الخمس. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} إلخ تأكيد لما تقدم في الآية السابقة من أمره (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ بالصبر و تطييب نفسه بتأييد وعد النصر، و محصله أن هؤلاء المجادلين لا ينالون بغيتهم و لن ينالوا فلا يحزنك جدالهم و طب نفسا من ناحيتهم. 

  • فقوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} حصر للسبب الموجب لمجادلتهم في الكبر أي ليس عاملهم في ذلك طلب الحق أو الارتياب في آياتنا و الشك فيها حتى يريدوا بها 

تفسير الميزان ج۱۷

342
  • ظهور الحق و لا حجة و لا سلطان عندهم حتى يريدوا إظهارها بل الذي في صدورهم و هو الداعي لهم إلى الجدال، الكبر، يريدون به إدحاض الحق الصريح. 

  • و قوله: {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} الضمير لكبر باعتبار مسببه فإن الكبر سبب للجدال و الجدال يراد به إبطال الحق و محق الدعوة الحقة، و المعنى ما هم ببالغي مرادهم و بغيتهم من الجدال الذي يأتون به لكبرهم. 

  • و قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي فاستعذ بالله منهم بما لهم من الكبر كما استعاذ موسى من كل متكبر مجادل كما قال: {وَ قَالَ مُوسى‌ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسَابِ}

  • و قوله: {إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ} أي السميع لدعاء عباده البصير بحوائجهم و الذي يبصر ما هم فيه من شدة أو رخاء. 

  • قوله تعالى: {لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} اللام للقسم، و المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم، و معنى الآية حسب ما يعطيه المقام أنهم ليسوا ببالغي بغيتهم و ليسوا بمعجزين فإن الله الذي قدر على خلق مجموع العالم و لم يعجزه ذلك على ما فيه من العظمة ليس يعجزه جزء يسير منه و هو الناس المخلوقون الذين هم أهون عليه و لكن أكثر الناس جاهلون يظنون بجهلهم أنهم يعجزون الله بجدال يجادلونه أو أي كيد يكيدونه. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‌ وَ اَلْبَصِيرُ} إلخ لما ذكر أن أكثر الناس لا يعلمون أكده بأنهم ليسوا على وتيرة واحدة فإن منهم الأعمى و البصير و لا يستويان و عطف عليهما الذين آمنوا و عملوا الصالحات و المسي‌ء فالطائفة الأولى أولو بصيرة يتذكرون بها و الثانية أعمى الله قلوبهم فلا يتذكرون. 

  • و قوله: {قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} خطاب للناس بداعي التوبيخ و هو الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} ذكرهم تعالى في هذه الآية بإتيان الساعة و في الآية التالية بدعوة ربهم إياهم إلى دعائه 

تفسير الميزان ج۱۷

343
  • و عبادته كما نبه الذي آمن من آل فرعون في القصة السابقة بإتيان الساعة و بأن لله الدعوة و ليس لآلهتهم دعوة في الدنيا و لا في الآخرة. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} دعوة منه تعالى لعباده إلى دعائه و وعد بالاستجابة، و قد أطلق الدعوة و الدعاء و الاستجابة إطلاقا، و قد أشبعنا الكلام في معنى الدعاء و الإجابة في ذيل قوله تعالى‌{أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }البقرة: ١٨٦ في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} الدخور الذلة، و قد بدل الدعاء عبادة فدل على أن الدعاء عبادة. 

  • (بحث روائي) 

  • في الصحيفة السجادية:‌ و قلت: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} فسميت دعاءك عبادة و تركه استكبارا و توعدت على تركه دخول جهنم داخرين. 

  • و في الكافي، بإسناده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ادع و لا تقل: قد فرغ من الأمر فإن الدعاء هو العبادة إن الله عز و جل يقول: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} و قال: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.

  • أقول: قوله (عليه السلام): فإن الدعاء - إلى قوله - {دَاخِرِينَ} احتجاج على ما ندب إليه أولا بقوله: ادع، و قوله: و قال: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} احتجاج على ما قاله ثانيا: و لا تقل: قد فرغ من الأمر و لذا قدم (عليه السلام) في بيانه ذيل الآية على صدرها. 

  • و في الخصال، عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا معاوية من أعطي ثلاثة لم يحرم ثلاثة: من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، و من أعطي الشكر أعطي الزيادة و من أعطي التوكل أعطي الكفاية فإن الله عز و جل يقول في كتابه: {وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} و قال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، و قال: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}

  • و في التوحيد، بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: قال قوم للصادق (عليه السلام): 

تفسير الميزان ج۱۷

344
  • ندعوه فلا يستجاب لنا. قال: لأنكم تدعون من لا تعرفونه. 

  • أقول: و قد أوردنا جملة من روايات الدعاء في ذيل قوله‌‌{أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} البقرة: ١٨٦ في الجزء الأول من الكتاب. 

  • [سورة غافر (٤٠): الآیات ٦١ الی ٦٨]

  • {اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اَللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ٦١ ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٦٢ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ اَلَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ ٦٣ اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ قَرَاراً وَ اَلسَّمَاءَ بِنَاءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ٦٤ هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٦٥ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي اَلْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٦٦ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٦٧ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذَا قَضى‌ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٦٨} 

تفسير الميزان ج۱۷

345
  • (بيان) 

  • رجع سبحانه ثانيا إلى الإشارة إلى آيات التوحيد توحيد الربوبية و الألوهية بعد ما بدأ بها في السورة أولا بقوله: {هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ}

  • قوله تعالى: {اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهَارَ مُبْصِراً} (الآية) أي جعل لأجلكم الليل مظلما لتسكنوا فيه من التعب الذي عرض لكم وجه النهار من جهة السعي في طلب الرزق، و النهار مبصرا لتبتغوا من فضل ربكم و تكسبوا الرزق، و هذا من أركان تدبير الحياة الإنسانية. 

  • و قد ظهر بذلك أن نسبة الإبصار إلى النهار من المجاز العقلي لكن ليس من المبالغة في شي‌ء كما ادعاه بعضهم. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} امتنان عليهم بالفضل و تقريع لهم بعدم شكرهم له قبال هذا الفضل العظيم و لو شكروه لعبدوه و وضع الناس الثاني موضع الضمير للإشارة إلى أن من طبع الناس بما هم ناس كفران النعم كما قال‌: {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إبراهيم: ٣٤. 

  • قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي ذلكم الذي يدبر أمر حياتكم و رزقكم بسكون الليل و سعي النهار هو الله تعالى و هو ربكم لأن تدبير أمركم إليه. 

  • و قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} أي و رب كل شي‌ء لأنه خالق كل شي‌ء و الخلق لا ينفك عن التدبير و لازم ذلك أن لا يكون في الوجود رب غيره لا لكم و لا لغيركم و لذلك عقبه بقوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي فإذن لا معبود بالحق غيره إذ لو كان هناك معبود آخر كان رب آخر فإن الألوهية من شئون الربوبية. 

  • و قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره. 

  • قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ اَلَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي كمثل هذا الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله فإن الآيات ظاهرة غير خفية فالانصراف عن مدلولها لا سبب له إلا الجحد. 

تفسير الميزان ج۱۷

346
  •  قوله تعالى: {اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ قَرَاراً وَ اَلسَّمَاءَ بِنَاءً} إلى آخر الآية القرار المستقر الذي يستقر عليه، و البناء - على ما قيل - القبة و منه أبنية العرب للقباب المضروبة عليهم. يذكر تعالى نعمة استقرار الإنسان على الأرض و تحت السماء. 

  • و قوله: {وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} الفاء للتفسير و المعنى أحسن خلق صوركم و ذلك أن الإنسان جهز من دقائق التجهيز في صورته بما يقوى به من الأعمال المتنوعة العجيبة على ما لا يقوى عليه شي‌ء من سائر الموجودات الحية، و يلتذ من مزايا الحياة بما لا يتيسر لغيره أبدا. 

  • و قوله: {وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} هي الأرزاق المتنوعة التي تلائم بطبائعها طبيعة الإنسان من الحبوب و الفواكه و اللحوم و غيرها، و ليس في الحيوان متنوع في الرزق كالإنسان. 

  • و قوله: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ} أي المدبر لأمركم، و قوله: {فَتَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ} ثناء عليه عز و جل بربوبيته لجميع العالمين، و قد فرعه على ربوبيته و تدبيره للإنسان إشارة إلى أن الربوبية واحدة و تدبيره لأمر الإنسان عين تدبيره لأمر العالمين جميعا فإن النظام الجاري نظام واحد روعي في انطباقه على كل، انطباقه على الكل فهو سبحانه متبارك منشأ للخير الكثير فتبارك الله رب العالمين. 

  • قوله تعالى: {هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ} إلخ في جملة {هُوَ اَلْحَيُّ} إطلاق لا مقيد لا عقلا و لا نقلا مضافا إلى إفادة الحصر فمفادها أن له تعالى وحده حياة لا يداخلها موت و لا يزيلها فناء فهو تعالى حي بذاته و غيره كائنا ما كان حي بإحياء غيره. 

  • و إذا فرض هناك حي بذاته و حي بغيره لم يستحق العبادة بذاته إلا من كان حيا بذاته، و لذلك عقب قوله: {هُوَ اَلْحَيُّ} بقوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}

  • و قد سيقت الجملتان توطئة للأمر بدعائه و لا مطلق دعائه بل دعائه بالتوحيد و إخلاص الدين له وحده لأنه الحي بذاته دون غيره و لأنه المعبود بالاستحقاق الذاتي دون غيره، و لذلك فرع على قوله: {هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} قوله: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ}

تفسير الميزان ج۱۷

347
  • و قوله: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} ثناء عليه بربوبيته للعالمين. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي اَلْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} معنى الآية ظاهر، و فيه إياس للمشركين من موافقته لهم في عبادة آلهتهم» و قد تكرر هذا المعنى في سورة الزمر و يمكن أن يستأنس منه أن هذه السورة نزلت بعد سورة الزمر. 

  • قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} إلخ المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن خلق غيره ينتهي إليه فخلقه من تراب هو خلقهم منه أو المراد بخلقهم من تراب تكوين النطفة من البسائط الأرضية. 

  • و قوله: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} إلخ أي ثم خلقناكم من نطفة حقيرة معلومة الحال {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} كذلك {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ} من بطون أمهاتكم {طِفْلاً} أي أطفالا، و الطفل كما قيل يطلق على الواحد و الجمع قال تعالى: ‌{أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلىَ عَوْرَاتِ اَلنِّسَاءِ} النور: ٣١. 

  • {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} اللام للغاية و كان متعلقها محذوف و التقدير ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم و هو من العمر زمان اشتداد القوى {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} معطوف على {لِتَبْلُغُوا} {وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} فلا يبلغ أحد هذه المراحل من العمر كالشيخوخة و بلوغ الأشد و غيرهما. 

  • {وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى} و هو النهاية من الأمد المضروب الذي لا سبيل للتغير إليه أصلا، و هو غاية عامة لجميع الناس كيفما عمروا قال تعالى: ‌{وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ }الأنعام: ٢. و لذلك لم تعطف الجملة بثم حتى تتميز من الغايتين المذكورتين سابقا. 

  • و قوله: {وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تدركون الحق بالتعقل المغروز فيكم، و هذا غاية خلقة الإنسان بحسب حياته المعنوية كما أن بلوغ الأجل المسمى غاية حياته الدنيا الصورية. 

  • قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ} إلخ أي هو الذي يفعل الإحياء و الإماتة و فيهما نقل الأحياء من عالم إلى عالم و كل منهما مبدأ لتصرفاته بالنعم التي يتفضل بها على من يدبر أمره. 

  • و قوله: {فَإِذَا قَضىَ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} تقدم تفسيره كرارا. 

تفسير الميزان ج۱۷

348
  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم بسند صحيح عن «أبي العالية» قال: إن اليهود أتوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا إن الدجال يكون منا في آخر الزمان و يكون من أمره فعظموا أمره و قالوا يصنع كذا فأنزل الله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} قال: لا يبلغ الذي يقول: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتعوذ من فتنة الدجال {لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ} الدجال. 

  • و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار: في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} قال: هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال. 

  • و فيه، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله: {لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ} قال: زعموا أن اليهود قالوا: يكون منا ملك في آخر الزمان البحر إلى ركبتيه، و السحاب دون رأسه، يأخذ الطير بين السماء و الأرض، معه جبل خبز و نهر فنزلت: {لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ}

  • أقول: قد عرفت فيما تقدم أن غرض السورة - كما يستفاد من سياق آياتها - التكلم حول استكبارهم و مجادلتهم في آيات الله بغير الحق فمنها ابتداء الكلام و إليها يعود عودة بعد عودة كقوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} و قوله: {وَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ}، و قوله: {اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً}، و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ}، و قوله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ}

  • فسياق آيات السورة يأبى أن يكون بعضها يختص بسبب في نزولها لا يشاركها فيه غيرها كما هو مؤدى هذه الروايات الثلاث. 

  • على أن ما في الروايات من قصة إخبار اليهود بالدجال لا ينطبق على الآيتين انطباقا ظاهرا بعد التأمل في مضمون الآيتين نفسهما أعني قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ} - إلى قوله - {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}

  • و من هذا يظهر أن القول بكون الآيتين مدنيتين استنادا إلى هذه الروايات كما ترى. 

تفسير الميزان ج۱۷

349
  • [سورة غافر (٤٠): الآیات ٦٩ الی ٧٨]

  • {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ٦٩ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَ بِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٧٠إِذِ اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَ اَلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ ٧١ فِي اَلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي اَلنَّارِ يُسْجَرُونَ ٧٢ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ٧٣ مِنْ دُونِ اَللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلْكَافِرِينَ ٧٤ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ٧٥ اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ ٧٦ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ٧٧ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ ٧٨} 

  • (بيان) 

  • رجوع بعد رجوع إلى حديث المجادلين في آيات الله و قد تعرض لبيان مآل أمرهم بذكر ما آل إليه أمر أشباههم من الأمم الخالية و نصره تعالى لدينه في أول السورة 

تفسير الميزان ج۱۷

350
  • إجمالا ثم بذكر الحال في دعوة موسى (عليه السلام) بالخصوص فيما قصه من قصته و نصره له بالخصوص ثم في ضمن أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و وعده بالنصر. 

  • و هذا آخر كرة عليهم يذكر فيها مآل أمرهم و ما يصرفون إليه و هو العذاب المخلد ثم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و بعده بالنصر و يطيب نفسه بأن وعد الله حق. 

  • قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} {أَ لَمْ تَرَ} مفيد للتعجيب و {أَنَّى} بمعنى كيف، و المعنى ألا تعجب أو ألم تعجب من أمر هؤلاء المجادلين في آيات الله كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل و عن الهدى إلى الضلال. 

  • و التعرض لحال المجادلين هاهنا من حيث الإشارة إلى كونهم مصروفين عن الحق و الهدى و مآل ذلك، و فيما تقدم من قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} من حيث إن الداعي لهم إلى ذلك الكبر و أنهم لا يبلغون ما يريدون فلا تكرار. 

  • و منه يظهر ما في قول بعضهم: إن تكرير ذكر المجادلة محمول على تعدد المجادل بأن يكون المجادلون المذكورون في الآية السابقة غير المذكورين في هذه الآية أو على اختلاف ما فيه المجادلة كأن يكون المجادلة هناك في أمر البعث و هاهنا في أمر التوحيد على أن فيه غفلة عن غرض السورة كما عرفت. 

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَ بِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} الذي يعطيه سياق الآيات التالية أن المراد بهؤلاء المجادلين هم المجادلون من قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و عليه فالأنسب أن يكون المراد بالكتاب هو القرآن الكريم، و بقوله: {بِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} ما جاءت به الرسل (عليه السلام) من عند الله من كتاب و دين فالوثنية منكرون للنبوة. 

  • و قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تفريع على مجادلتهم و تكذيبهم و تهديد لهم أي سوف يعلمون حقيقة مجادلتهم في آيات الله و تكذيبهم بالكتاب و بالرسل. 

  • قوله تعالى: {إِذِ اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَ اَلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي اَلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي اَلنَّارِ يُسْجَرُونَ} في المجمع:‌ الأغلال‌ جمع غل و هو طوق يدخل في العنق للذل و الألم و أصله الدخول، و قال: السلاسل‌ جمع سلسلة و هي الحلق منتظمة في جهة الطول مستمرة 

تفسير الميزان ج۱۷

351
  • و قال: السحب‌ جر الشي‌ء على الأرض. هذا أصله، و قال: السجر أصله إلقاء الحطب في معظم النار كالتنور الذي يسجر بالوقود. انتهى. 

  • و قوله: {إِذِ اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَ اَلسَّلاَسِلُ} ظرف لقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} قيل: الإتيان بإذ و هو للماضي للدلالة على تحقق الوقوع و إن كان موقعه المستقبل فلا تنافي، في الجمع بين سوف و إذ. 

  • و {اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} مبتدأ و خبر، و {اَلسَّلاَسِلُ} معطوف على الأغلال، و {يُسْحَبُونَ فِي اَلْحَمِيمِ} خبر بعد خبر، و {فِي اَلنَّارِ يُسْجَرُونَ} معطوف على {يُسْحَبُونَ}

  • و المعنى: سوف يعلمون حقيقة عملهم حين تكون الأغلال و السلاسل في أعناقهم يجرون في الماء الحار الشديد الحرارة ثم يقذفون في النار. 

  • و قيل: معنى قوله: {ثُمَّ فِي اَلنَّارِ يُسْجَرُونَ} ثم يصيرون وقود النار، و يؤيده قوله تعالى في صفة جهنم: ‌{وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجَارَةُ} البقرة: ٢٤، و قوله: ‌{إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الأنبياء: ٩٨. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} إلى آخر الآية. أي قيل لهم و هم يتقلبون بين السحب و السجر: أين ما كنتم تشركون من شركائكم من دون الله حتى ينصروكم بالإنجاء من هذا العذاب أو يشفعوا لكم كما كنتم تزعمون أنهم سيشفعون لكم قبال عبادتكم لهم؟. 

  • و قوله: {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي غابوا عنا من قولهم: ضلت الدابة إذا غابت فلم يعرف مكانها، و هذا جوابهم عما قيل لهم: أين ما كنتم تشركون من دون الله. 

  • و قوله: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} إضراب منهم عن الجواب الأول لما يظهر لهم أن الآلهة الذين كانوا يزعمونهم شركاء لم يكونوا إلا أسماء لا مسميات لها و مفاهيم لا يطابقها شي‌ء و لم يكن عبادتهم لها إلا سدى، و لذلك نفوا أن يكونوا يعبدون شيئا قال تعالى: ‌{فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} يونس: ٢٨ و قال: ‌{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} الأنعام: ٩٤. 

  • و قيل: هذا من كذبهم يوم القيامة على حد قوله: ‌{وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} 

تفسير الميزان ج۱۷

352
  • الأنعام: ٢٣. 

  • و قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلْكَافِرِينَ} أي إضلاله تعالى للكافرين و هم الساترون للحق يشبه هذا الضلال و هو أنهم يرون الباطل حقا فيقصدونه ثم يتبين لهم بعد ضلال سعيهم أنه لم يكن إلا باطلا في صورة حق و سرابا في سيماء الحقيقة. 

  • و المعنى: على الوجه الثاني أعني كون قولهم: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} كذبا منهم: كمثل هذا الإضلال يضل الله الكافرين فيئول أمرهم إلى الكذب حيث لا ينفع مع علمهم بأنه لا ينفع. 

  • و قد فسرت الجملة بتفاسير أخرى متقاربة و قريبة مما ذكرناه. 

  • قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} الفرح‌ مطلق السرور، و المرح‌ الإفراط فيه و هو مذموم، و قال الراغب: الفرح انشراح الصدر بلذة عاجلة و أكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية، و قال: المرح شدة الفرح و التوسع فيه. انتهى. 

  • و قوله: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ} الإشارة إلى ما هم فيه من العذاب و الباء في {بِمَا كُنْتُمْ} للسببية أو المقابلة. 

  • و المعنى: ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بسبب كونكم تفرحون في الأرض بغير الحق من اللذات العاجلة و بسبب كونكم تفرطون في الفرح و ذلك لتعلق قلوبهم بعرض الدنيا و زينتها و معاداتهم لكل حق يخالف باطلهم فيفرحون و يمرحون بإحياء باطلهم و إماتة الحق و اضطهاده. 

  • قال في المجمع:‌ قيد الفرح و أطلق المرح لأن الفرح قد يكون بحق فيحمد عليه و قد يكون بالباطل فيذم عليه، و المرح لا يكون إلا باطلا. انتهى. 

  • قوله تعالى: {اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ} أي ادخلوا أبوابها المقسومة لكم خالدين فيها فبئس مقام الذين يتكبرون عن الحق جهنم، و قد تقدم أن أبواب جهنم دركاتها. 

  • قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ} لما بين مآل أمر المجادلين في آيات الله 

تفسير الميزان ج۱۷

353
  • و هي النار و أن الله يضلهم بكفرهم فرع عليه أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر معللا ذلك بأن وعد الله حق. 

  • و قوله: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ} هو عذاب الدنيا {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} بالموت فلم نرك ذلك {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} و لا يفوتوننا فننجز فيهم ما وعدناه. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} إلخ بيان لكيفية النصر المذكور في الآية السابقة أن آية النصر التي جرت سنة الله على إنزالها للقضاء بين كل رسول و أمته و إظهار الحق على الباطل كما يشير إليه قوله‌{وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }يونس: ٤٧ لم يفوض أمرها إلى رسول من الرسل من قبلك بل كان يأتي بها من يأتي منهم بإذن الله، و حالك حالهم، فمن الممكن أن نأذن لك في الإتيان بها فنريك بعض ما نعدهم، و من الممكن أن نتوفاك فلا نريك غير أن أمر الله إذا جاء قضي بينهم بالحق و خسر هنالك المبطلون. هذا ما يفيده السياق. 

  • فقوله: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} مسوق للإشارة إلى كون ما سيذكره سنة جارية منه تعالى. 

  • و قوله: {وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ} (الآية) و إن كانت أعم من الآية المعجزة التي يؤتاها الرسول لتأييد رسالته، و الآية التي تنصر الحق و تقضي بين الرسول و بين أمته و الكل بإذن الله لكن مورد الكلام كما استفدناه من السياق القسم الثاني و هي القاضية بين الرسول و أمته. 

  • و قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ} أي فإذا جاء أمر الله بالعذاب قضي بالحق فأظهر الحق و أزهق الباطل و خسر عند ذلك المتمسكون بالباطل في دنياهم بالهلاك و في آخرتهم بالعذاب الدائم. 

  • و استدل بالآية على أن من الرسل من لم تذكر قصته في القرآن، و فيه أن الآية مكية لا تدل على أزيد من عدم ذكر قصة بعض الرسل إلى حين نزولها بمكة، و قد ورد 

تفسير الميزان ج۱۷

354
  • في سورة النساء{وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ }النساء: ١٦٤ و لم يذكر في السور النازلة بعد سورة النساء اسم أحد من الرسل المذكورين بأسمائهم في القرآن. 

  • و في المجمع، و روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته‌، و روي في الدر المنثور عن الطبراني في الأوسط و ابن مردويه عنه ما في معناه. 

  • [سورة غافر (٤٠): الآیات ٧٩ الی ٨٥]

  • {اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ٧٩ وَ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ٨٠وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اَللَّهِ تُنْكِرُونَ ٨١ أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثَاراً فِي اَلْأَرْضِ فَمَا أَغْنى‌ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٨٢ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٨٣ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ٨٤ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اَللَّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْكَافِرُونَ ٨٥} 

تفسير الميزان ج۱۷

355
  • (بيان) 

  • رجوع بعد رجوع إلى ذكر بعض آيات التوحيد و إرجاع لهم إلى الاعتبار بحال الأمم الدارجة الهالكة و سنة الله الجارية فيهم بإرسال رسله إليهم ثم القضاء بين رسلهم و بينهم المؤدي إلى خسران الكافرين منهم، و عند ذلك تختتم السورة. 

  • قوله تعالى: {اَللَّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} ذكر سبحانه مما ينتفع به الإنسان في حياته و يدبر به أمره الأنعام و المراد بها الإبل و البقر و الغنم، و قيل: المراد بها هاهنا الإبل خاصة. 

  • فقوله: {جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} الجعل هنا الخلق أو التسخير، و اللام في {لِتَرْكَبُوا} للغرض و «من» للتبعيض، و المعنى خلق لأجلكم أو سخر لكم الأنعام و الغرض من هذا الجعل أن تركبوا بعضها كبعض الإبل و بعضها كبعض الإبل و البقر و الغنم تأكلون. 

  • قوله تعالى: {وَ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} إلخ كانتفاعكم بألبانها و أصوافها و أوبارها و أشعارها و جلودها و غير ذلك، و قوله: {وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي و من الغرض من جعلها أن تبلغوا، حال كونكم عليها بالركوب، حاجة في صدوركم و هي الانتقال من مكان إلى مكان لأغراض مختلفة. 

  • و قوله: {وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} كناية عن قطع البر و البحر بالأنعام و الفلك. 

  • قوله تعالى: {وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اَللَّهِ تُنْكِرُونَ} تقدم معنى إراءته تعالى آياته في تفسير أوائل السورة، و كأن الجملة أعني قوله: {وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} غير مقصودة لنفسها حتى يلزم التكرار و إنما هي تمهيد و توطئة للتوبيخ الذي في قوله: {فَأَيَّ آيَاتِ اَللَّهِ تُنْكِرُونَ} أي أي هذه الآيات التي يريكم الله إياها عيانا و بيانا، تنكرون إنكارا يمهد لكم الإعراض عن توحيده. 

  • قوله تعالى: {أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} إلى آخر الآية توبيخ لهم و عطف لأنظارهم إلى ما جرى من سنة القضاء و الحكم في الأمم السالفة، و قد تقدمت نظيرة الآية في أوائل السورة و كان الغرض هناك أن يتبين لهم أن الله أخذ كلا منهم بذنوبهم 

تفسير الميزان ج۱۷

356
  • لما كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فيكفرون بهم و لذا ذيل الآية بقوله: {فَأَخَذَهُمُ اَللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ}، و الغرض هاهنا أن يتبين لهم أنهم لم يغنهم ما كسبوا و لم ينفعهم في دفع عذاب الله ما فرحوا به من العلم الذي عندهم و لا توبتهم و ندامتهم مما عملوا. 

  • و قد صدرت الآية بفاء التفريع فقيل: {أَ فَلَمْ يَسِيرُوا} إلخ مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، و كأن الكلام تفريع على قوله: {فَأَيَّ آيَاتِ اَللَّهِ تُنْكِرُونَ} فكأنه لما ذمهم و أنكر إنكارهم لآياته رجع و انصرف عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مشيرا إلى سقوطه من منزلة الخطاب و قال: إذا كانت آياته تعالى ظاهرة بينة لا تقبل الإنكار و من جملتها ما في آثار الماضين من الآيات الناطقة و هم قد ساروا في الأرض و شاهدوها فلم لم ينظروا فيها فيتبين لهم أن الماضين مع كونهم أقوى من هؤلاء كما و كيفا لم ينفعهم ما فرحوا به من علم و قوة. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ} إلخ ضمائر الجمع في الآية و هي سبع للذين من قبلهم، و المراد بما عندهم من العلم ما وقع في قلوبهم و شغل نفوسهم من زينة الحياة الدنيا و فنون التدبير للظفر بها و بلوغ لذائذها و قد عد الله سبحانه ذلك علما لهم و قصر علمهم فيه، قال تعالى: ‌{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} الروم: ٧، و قال: ‌{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ} النجم: ٣٠. 

  • و المراد بفرحهم بما عندهم من العلم شدة إعجابهم بما كسبوه من الخبرة و العلم الظاهري و انجذابهم إليه الموجب لإعراضهم عن المعارف الحقيقية التي جاءت بها رسلهم، و استهانتهم بها و سخريتهم لها، و لذا عقب فرحهم بما عندهم من العلم بقوله: {وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}

  • و في معنى قوله: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ} أقوال أخر: 

  • منها: أن المراد بما عندهم من العلم عقائدهم الفاسدة و آراؤهم الباطلة و تسميتها علما للتهكم فهم كانوا يفرحون بها و يستحقرون لذلك علم الرسل، و أنت خبير بأنه تصوير من غير دليل. 

  • و منها: أن المراد بالعلم هو علوم الفلاسفة من اليونان و الدهريين فكانوا إذا سمعوا بالوحي و معارف النبوة صغروا علم الأنبياء و تبجحوا بما عندهم، و هو كسابقه على أنه 

تفسير الميزان ج۱۷

357
  • لا ينطبق على أحد من الأمم التي قص القرآن قصتهم كقوم نوح و عاد و ثمود و قوم إبراهيم و قوم لوط و قوم شعيب و غيرهم. 

  • و منها: أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضع موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم بدل الجهل علما تهكما فقيل: فرحوا بما عندهم من العلم، و هذا الوجه - على ما فيه من التكلف و البعد من الفهم - يرد عليه ما يرد على الأول. 

  • و منها: أن ضمير {فَرِحُوا} للكفار و ضمير {عِنْدَهُمْ} للرسل، و المعنى فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك و استهزاء و فيه أن لازمه اختلاف الضمائر المتسقة مضافا إلى أن الضحك و الاستهزاء لا يسمى فرحا و لا قرينة. 

  • و منها: أن ضميري {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ} للرسل، و المعنى أن الرسل لما جاءوهم و شاهدوا ما هم فيه من الجهل و التمادي على الكفر و الجحود و علموا عاقبة أمرهم فرحوا بما عندهم من العلم الحق و شكروا الله على ذلك. 

  • و فيه أن سياق الآيات أصدق شاهد على أنها سيقت لبيان حال الكفار بعد إتيان رسلهم بالبينات و كيف آلت إلى نزول العذاب و لم ينفعهم الإيمان بعد مشاهدة البأس؟ و أي ارتباط له بفرح الرسل بعلومهم الحقة؟ على أن لازمه أيضا اختلاف الضمائر. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} البأس‌ شدة العذاب، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} إلخ و ذلك لعدم استناد الإيمان حينئذ إلى الاختيار، و قوله: {سُنَّتَ اَللَّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أي سنها الله سنة ماضية في عباده أن لا تقبل توبة بعد رؤية البأس {وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْكَافِرُونَ}.

  • (٤١) (سورة حم السجدة مكية و هي أربع و خمسون آية) (٥٤) 

  • [سورة فصلت (٤١): الآیات ١ الی ١٢]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ حم ١ تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ٢ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٣ بَشِيراً وَ نَذِيراً 

تفسير الميزان ج۱۷

358
  • فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ٤ وَ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَ فِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ٥ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‌ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ٦ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ٧ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ٨ قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ٩ وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَ بَارَكَ فِيهَا وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ١٠ثُمَّ اِسْتَوى‌ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ١١ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى‌ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ ١٢} 

  • (بيان) 

  • تتكلم السورة حول إعراضهم عن الكتاب المنزل عليهم و هو القرآن الكريم فهو الغرض الأصلي و لذلك ترى طائف الكلام يطوف حوله و يبتدئ به ثم يعود إليه فصلا 

تفسير الميزان ج۱۷

359
  • بعد فصل فقد افتتح بقوله: {تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} إلخ ثم قيل: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا اَلْقُرْآنِ} إلخ، و قيل: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} إلخ، و قيل: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} إلخ، و قيل - و هو في خاتمة الكلام -: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} إلخ. 

  • و لازم إعراضهم عن كتاب الله إنكار الأصول الثلاثة التي هي أساس دعوته الحقة و هي الوحدانية و النبوة و المعاد فبسطت الكلام فيها و ضمنته التبشير و الإنذار. 

  • و السورة مكية لشهادة مضامين آياتها على ذلك و هي من السور النازلة في أوائل البعثة على ما يستفاد من الروايات. 

  • قوله تعالى: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} خبر مبتدإ محذوف، و المصدر بمعنى المفعول، و التقدير هذا منزل من الرحمن الرحيم، و التعرض للصفتين الكريمتين: الرحمن الدال على الرحمة العامة للمؤمن و الكافر، و الرحيم الدالة على الرحمة الخاصة بالمؤمنين للإشارة إلى أن هذا التنزيل يصلح للناس دنياهم كما يصلح لهم آخرتهم. 

  • قوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} خبر بعد خبر، و التفصيل يقابل الإحكام و الإجمال، و المراد بتفصيل آيات القرآن تمييز أبعاضه بعضها من بعض بإنزاله إلى مرتبة البيان بحيث يتمكن السامع العارف بأساليب البيان من فهم معانيه و تعقل مقاصده و إلى هذا يشير قوله تعالى‌{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هود: ١، و قوله‌{وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} الزخرف: ٤. 

  • و قوله: {قُرْآناً عَرَبِيًّا} حال من الكتاب أو من آياته، و قوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} اللام للتعليل أو للاختصاص، و مفعول {يَعْلَمُونَ} إما محذوف و التقدير لقوم يعلمون معانيه لكونهم عارفين باللسان الذي نزل به و هم العرب و إما متروك و المعنى لقوم لهم علم. 

  • و لازم المعنى الأول أن يكون هناك عناية خاصة بالعرب في نزول القرآن عربيا و هو الذي يشعر به أيضا قوله الآتي: {وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْ لاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ} (الآية) و قريب منه قوله‌{وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلىَ بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ 

تفسير الميزان ج۱۷

360
  •  عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} الشعراء: ١٩٩. 

  • و لا ينافي ذلك عموم دعوته (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ لعامة البشر لأن دعوته (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ كانت مرتبة على مراحل فأول ما دعا دعا الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم ثم كان يدعو بعد ذلك سرا مدة ثم أمر بدعوة عشيرته الأقربين كما يشير إليه قوله تعالى: ‌{وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ} الشعراء: ٢١٤ ثم أمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله: ‌{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ} الحجر: ٩٤ ثم أمر بدعوة الناس عامة كما يشير إليه قوله{قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} الأعراف: ١٥٨، و قوله: ‌{ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ} الأنعام: ١٩. 

  • على أن من المسلم تاريخا أنه كان من المؤمنين به سلمان و كان فارسيا، و بلال و كان حبشيا، و صهيب و كان روميا، و دعوته لليهود و وقائعه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ معهم، و كذا كتابه إلى ملك إيران و مصر و الحبشة و الروم في دعوتهم إلى الإسلام كل ذلك دليل على عموم الدعوة. 

  • قوله تعالى: {بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} {بَشِيراً وَ نَذِيراً} حالان من الكتاب في الآية السابقة، و المراد بالسمع المنفي سمع القبول كما يدل عليه قرينة الإعراض. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} إلى آخر الآية. قال الراغب: الكن‌ ما يحفظ فيه الشي‌ء قال: الكنان‌ الغطاء الذي يكن فيه الشي‌ء و الجمع أكنة نحو غطاء و أغطية قال تعالى: {وَ جَعَلْنَا عَلىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}. انتهى. 

  • فقوله: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} كناية عن كون قلوبهم بحيث لا تفقه ما يدعو (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ إليه من التوحيد كأنها مغطاة بأغطية لا يتطرق إليها شي‌ء من خارج. 

  • و قوله: {وَ فِي آذَانِنَا وَقْرٌ} أي ثقل من الصمم فلا تسمع شيئا من هذه الدعوة، و قوله: {وَ مِنْ بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ} أي حاجز يحجزنا منك فلا نجتمع معك على شي‌ء مما تريد فقد أيأسوه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ من قبول دعوته بما أخبروه أولا بكون قلوبهم في أكنة فلا تقع فيها دعوته حتى يفقهوها، و ثانيا بكون طرق ورودها إلى القلوب و هي الآذان مسدودة فلا تلجها دعوة و لا ينفذ منها إنذار و تبشير، و ثالثا بأن بينهم و بينه (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ 

تفسير الميزان ج۱۷

361
  • حجابا مضروبا لا يجمعهم معه جامع و فيه تمام الإياس. 

  • و قوله: {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} تفريع على ما سبق، و لا يخلو من شوب تهديد، و عليه فالمعنى إذا كان لا سبيل إلى التفاهم بيننا فاعمل بما يمكنك العمل به في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك. 

  • و قيل: المعنى فاعمل على دينك فإننا عاملون على ديننا، و قيل: المعنى فاعمل في هلاكنا فإننا عاملون في هلاكك، و لا يخلوان من بعد. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىَ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ} في مقام الجواب عن قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} على ما يعطيه السياق فمحصله قل لهم: إنما أنا بشر مثلكم أعاشركم كما يعاشر بعضكم بعضا و أكلمكم كما يكلم أحدكم صاحبه فلست من جنس يباينكم كالملك حتى يكون بيني و بينكم حجاب مضروب أو لا ينفذ كلامي في آذانكم أو لا يرد قولي في قلوبكم غير أن الذي أقول لكم و أدعوكم إليه وحي يوحى إلي و هو إنما إلهكم الذي يستحق أن تعبدوه إله واحد لا آلهة متفرقون. 

  • و قوله: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ} أي فإذا لم يكن إلا إلها واحدا لا شريك له فاستووا إليه بتوحيده و نفي الشركاء عنه و استغفروه فيما صدر عنكم من الشرك و الذنوب. 

  • قوله تعالى: {وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} تهديد للمشركين الذين يثبتون لله شركاء و لا يوحدونه، و قد وصفهم من أخص صفاتهم بصفتين هما عدم إيتائهم الزكاة و كفرهم بالآخرة. 

  • و المراد بإيتاء الزكاة مطلق إنفاق المال للفقراء و المساكين لوجه الله فإن الزكاة بمعنى الصدقة الواجبة في الإسلام لم تكن شرعت بعد عند نزول السورة و هي من أقدم السور المكية. 

  • و قيل: المراد بإيتاء الزكاة تزكية النفس و تطهيرها من أوساخ الذنوب و قذارتها و إنماؤها نماء طيبا بعبادة الله سبحانه، و هو حسن لو حسن إطلاق إيتاء الزكاة على ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۷

362
  • و قوله: {وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وصف آخر للمشركين هو من لوازم مذهبهم و هو إنكار المعاد، و لذلك أتى بضمير الفصل ليفيد أنهم معروفون بالكفر بالآخرة. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع بل متصل دائم كما فسره بعضهم، و فسره آخرون بغير معدود كما قال تعالى: ‌{ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} المؤمن: ٤٠. 

  • و جوز أن يكون المراد أنه لا أذى فيه من المن الذي يكدر الصنيعة، و يمكن أن يوجه هذا الوجه بأن في تسمية ما يؤتونه بالأجر دلالة على ذلك لإشعاره بالاستحقاق و إن كان هذا الاستحقاق بجعل من الله تعالى لا لهم من عند أنفسهم قال تعالى: ‌{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} الدهر: ٢٢. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً} (الآية). أمره ثانيا أن يستفهم عن كفرهم بالله بمعنى شركهم مع ظهور آيات وحدانية في خلق السماوات و الأرض و تدبير أمرهما بعد ما أمره أولا بدفع قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} إلخ. 

  • و الاستفهام للتعجيب و لذا أكد المستفهم عنه بأن و اللام كأن المستفهم لا يكاد يذعن بكفرهم بالله و قولهم بالأنداد مع ظهور المحجة و استقامة الحجة. 

  • و قوله: {وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً} تفسير لقوله: {لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ} إلخ، و الأنداد جمع ند و هو المثل، و المراد بجعل الأنداد له اتخاذ شركاء له يماثلونه في الربوبية و الألوهية. 

  • و قوله: {ذَلِكَ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ} في الإشارة بلفظ البعيد رفع لساحته تعالى و تنزيهه عن أمثال هذه الأوهام فهو رب العالمين المدبر لأمر الخلق أجمعين فلا مسوغ لأن يتوهم ربا آخر سواه و إلها آخر غيره. 

  • و المراد باليوم في قوله: {خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} برهة من الزمان دون مصداق اليوم الذي نعهده و نحن على بسيط أرضنا هذه و هو مقدار حركة الكرة الأرضية حول نفسها مرة واحدة فإنه ظاهر الفساد، و إطلاق اليوم على قطعة من الزمان تحوي حادثة من الحوادث كثير الورود شائع الاستعمال، و من ذلك قوله تعالى‌{وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ 

تفسير الميزان ج۱۷

363
  • نُدَاوِلُهَا بَيْنَ اَلنَّاسِ} آل عمران: ١٤٠، و قوله‌{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} يونس: ١٠٢، و غير ذلك. 

  • فاليومان اللذان خلق الله فيهما الأرض قطعتان من الزمان تم فيهما تكون الأرض أرضا تامة، و في عدهما يومين لا يوما واحدا دليل على أن الأرض لاقت زمان تكونها الأولي مرحلتين متغايرتين كمرحلة الني‌ء و النضج أو الذوبان و الانعقاد أو نحو ذلك. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} إلى آخر الآية. معطوف على قوله: {خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} و لا ضير في تخلل الجملتين: {وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ} بين المعطوف و المعطوف عليه لأن الأولى تفسير لقوله: {لَتَكْفُرُونَ} و الثانية تقرير للتعجيب الذي يفيده الاستفهام. 

  • و الرواسي صفة لموصوف محذوف و التقدير جبالا رواسي أي ثابتات على الأرض و ضمائر التأنيث الخمس في الآية للأرض. 

  • و قوله: {وَ بَارَكَ فِيهَا} أي جعل فيها الخير الكثير الذي ينتفع به ما على الأرض من نبات و حيوان و إنسان في حياته أنواع الانتفاعات. 

  • و قوله: {وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} قيل: الظرف أعني قوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} بتقدير مضاف و هو متعلق بقدر، و التقدير قدر الأقوات في تتمة أربعة أيام من حين بدء الخلق فيومان لخلق الأرض و يومان - و هما تتمة أربعة أيام - لتقدير الأقوات. 

  • و قيل: متعلق بحصول الأقوات و تقدير المضاف على حاله، و التقدير قدر حصول أقواتها في تتمة أربعة أيام - فيها خلق الأرض و أقواتها جميعا -. 

  • و قيل: متعلق بحصول جميع الأمور المذكورة من جعل الرواسي من فوقها و المباركة فيها و تقدير أقواتها و التقدير و حصول ذلك كله في تتمة أربعة أيام و فيه حذف و تقدير كثير. 

  • و جعل الزمخشري في الكشاف، الظرف متعلقا بخبر مبتدإ محذوفين من غير تقدير مضاف و التقدير كل ذلك كائن في أربعة أيام فيكون قوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} من قبيل الفذلكة كأنه قيل: خلق الأرض في يومين و أقواتها و غير ذلك في يومين فكل ذلك في أربعة أيام. 

تفسير الميزان ج۱۷

364
  • قالوا: و إنما لم يجز حمل الآية على أن جعل الرواسي و ما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأن لازمه كون خلق الأرض و ما فيها في ستة أيام و قد ذكر بعده أن السماوات خلقت في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام و قد تكرر في كلامه تعالى أنه خلق السماوات و الأرض في ستة أيام فهذا هو الوجه في حمل الآية على أحد الوجوه السابقة على ما فيها من ارتكاب الحذف و التقدير. 

  • و الإنصاف أن الآية أعني قوله: {وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} ظاهرة في غير ما ذكروه و القرائن الحافة بها تؤيد كون المراد بها تقدير أقواتها في الفصول الأربعة التي يكونها ميل الشمس الشمالي و الجنوبي بحسب ظاهر الحس فالأيام الأربعة هي الفصول الأربعة. 

  • و الذي ذكر في هذه الآيات من أيام خلق السماوات و الأرض أربعة أيام يومان لخلق الأرض و يومان لتسوية السماوات سبعا بعد كونها دخانا و أما أيام الأقوات فقد ذكرت أياما لتقديرها لا لخلقها، و ما تكرر في كلامه تعالى هو خلق السماوات و الأرض في ستة أيام لا مجموع خلقها و تقدير أمرها فالحق أن الظرف قيد للجملة الأخيرة فقط و لا حذف و لا تقدير في الآية و المراد بيان تقدير أقوات الأرض و أرزاقها في الفصول الأربعة من السنة. 

  • و قوله: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} مفعول مطلق لفعل مقدر أي استوت الأقوات المقدرة استواء للسائلين أو حال من الأقوات أي قدرها حال كونها مستوية للسائلين يقتاتون بها جميعا و تكفيهم من دون زيادة أو نقيصة. 

  • و السائلون هم أنواع النبات و الحيوان و الإنسان فإنهم محتاجون في بقائهم إلى الأرزاق و الأقوات فهم سائلون ربهم‌۱ قال تعالى: ‌{يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ }الرحمن: ٢٩، و قال: ‌{وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} إبراهيم: ٣٤. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ اِسْتَوى‌ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ 

    1. ظاهر الآيتين و إن كان اختصاصهما بذوي العقول لكنهما و خاصة الثانية تفيدان أن المراد بالسؤال هو الحاجة و الاستعداد و عليه فالآية تعم النبات و الإتيان بضمير أولي العقل للتغليب. 

تفسير الميزان ج۱۷

365
  • كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} الاستواء على ما ذكره الراغب إذا عدي بعلى أفاد معنى الاستيلاء نحو {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى‌}، و إذا عدي بإلى أفاد معنى الانتهاء إليه. 

  • و أيضا في المفردات: أن الكره‌ بفتح الكاف المشتقة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، و الكره‌ بضم الكاف ما تناله من ذاته و هو يعافه. 

  • فقوله: {ثُمَّ اِسْتَوى‌ إِلَى اَلسَّمَاءِ} أي توجه إليها و قصدها بالخلق دون القصد المكاني الذي لا يتم إلا بانتقال القاصد من مكان إلى مكان و من جهة إلى جهة لتنزهه تعالى على ذلك. 

  • و ظاهر العطف بثم تأخر خلق السماوات عن الأرض لكن قيل: إن {ثُمَّ} لإفادة التراخي بحسب الخبر لا بحسب الوجود و التحقق و يؤيده قوله تعالى‌{أَمِ اَلسَّمَاءُ بَنَاهَا } - إلى أن قال - {وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَ مَرْعَاهَا وَ اَلْجِبَالَ أَرْسَاهَا} النازعات: ٣٢ فإنه يفيد تأخر الأرض عن السماء خلقا. 

  • و الاعتراض عليه بأن مفاده تأخر دحو الأرض عن بناء السماء و دحوها غير خلقها مدفوع بأن الأرض كروية فليس دحوها و بسطها غير تسويتها كرة و هو خلقها على أنه تعالى أشار بعد ذكر دحو الأرض إلى إخراج مائها و مرعاها و إرساء جبالها و هذه بعينها جعل الرواسي من فوقها و المباركة فيها و تقدير أقواتها التي ذكرها في الآيات التي نحن فيها مع خلق الأرض و عطف عليها خلق السماء بثم فلا مناص عن حمل ثم على غير التراخي الزماني فإن قوله في آية النازعات: {بَعْدَ ذَلِكَ} أظهر في التراخي الزماني من لفظة {ثُمَّ} فيه في آية حم السجدة و الله أعلم. 

  • و قوله: {وَ هِيَ دُخَانٌ} حال من السماء أي استوى إلى السماء بالخلق حال كونها شيئا سماه الله دخانا و هو مادتها التي ألبسها الصورة و قضاها سبع سماوات بعد ما لم تكن معدودة متميزا بعضها من بعض، و لذا أفرد السماء فقال: {اِسْتَوى‌ إِلَى اَلسَّمَاءِ}

  • و قوله: {فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} تفريع على استوائه إلى السماء و المورد مورد التكوين بلا شك فقوله لها و للأرض: {اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} كلمة إيجاد و أمر تكويني كقوله لشي‌ء أراد وجوده: كن، قال تعالى: ‌{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} يس: ٨٣. 

تفسير الميزان ج۱۷

366
  • و مجموع قوله لهما: {اِئْتِيَا} إلخ و قولهما له: {أَتَيْنَا} إلخ تمثيل لصفة الإيجاد و التكوين على الفهم الساذج العرفي و حقيقة تحليلية بناء على ما يستفاد من كلامه تعالى من سراية العلم في الموجودات و كون تكليم كل شي‌ء بحسب ما يناسب حاله، و قد أوردنا بعض الكلام فيه فيما تقدم من المباحث، و سيجي‌ء شطر من الكلام فيه في تفسير قوله‌{قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ} الآية ٢١ من السورة إن شاء الله. 

  • و قول بعضهم: إن المراد بقوله: {اِئْتِيَا} إلخ أمرهما بإظهار ما فيهما من الآثار و المنافع دون الأمر بأن توجدا و تكونا مدفوع بأن تكون السماء مذكور فيما بعد و لا معنى لتقديم الأمر بإظهار الآثار و المنافع قبل ذكر التكون. 

  • و في قوله: {اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} إيجاب الإتيان عليهما و تخييرهما بين أن تفعلا ذلك بطوع أو كره، و لعل المراد بالطوع و الكره - و هما بوجه قبول الفعل و نوع ملاءمة و عدمه هو الاستعداد السابق للكون و عدمه فيكون قوله: {اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} كناية عن وجوب إتيانهما بلا مناص و أنه أمر لا يتخلف البتة أرادتا أو كرهتا سألتاه أو لم تسألا فأجابتا أنهما يمتثلان الأمر عن استعداد سابق و قبول ذاتي و سؤال فطري إذ قالتا: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ}

  • و قول بعضهم: إن قوله: {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما و استحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع و الكره لهما. مدفوع بقوله بعد: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} إذ لو كان الترديد المذكور تمثيلا فقط من غير إثبات كما ذكره لم يكن لإثبات الطوع في الجواب وجه. 

  • و قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} جواب السماء و الأرض لخطابه تعالى باختيار الطوع، و التعبير باللفظ الخاص بأولي العقل - طائعين - لمكان المخاطبة و الجواب و هما من خواص أولي العقل، و التعبير بلفظ الجمع دون أن تقولا: أتينا طائعتين لعله تواضع منهما بعد أنفسهما غير متميزة من سائر مخلوقاته تعالى المطيعة لأمره فأجابتا عن لسان الجميع، نظير ما قيل في قوله تعالى: ‌{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الحمد: ٥. 

  • ثم إن تشريك الأرض مع السماء في خطاب {اِئْتِيَا} إلخ مع ذكر خلقها و تدبير أمرها قبلا لا يخلو من إشعار بأن بينهما نوع ارتباط في الوجود و اتصال في النظام الجاري 

تفسير الميزان ج۱۷

367
  • فيهما و هو كذلك فإن الفعل و الانفعال و التأثير و التأثر دائر بين أجزاء العالم المشهود. 

  • و في قوله: {فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ} تلويح على أي حال إلى كون {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ اِسْتَوى‌} للتراخي بحسب رتبة الكلام. 

  • قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى‌ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} الأصل في معنى القضاء فصل الأمر، و ضمير {فَقَضَاهُنَّ} للسماء على المعنى، و {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} حال من الضمير و {فِي يَوْمَيْنِ} متعلق بقضاهن فتفيد الجملة أن السماء لما استوى سبحانه إليها و هي دخان كان أمرها مبهما غير مشخص من حيث فعلية الوجود ففصل تعالى أمرها بجعلها سبع سماوات في يومين. 

  • و قيل: إن القضاء في الآية مضمن معنى التصيير و {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} مفعوله الثاني، و قيل فيها وجوه أخر لا يهمنا إيرادها. 

  • و الآية و ما قبلها ناظرة إلى تفصيل ما أجمل في قوله‌{أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} الأنبياء: ٣٠. 

  • و قوله: {وَ أَوْحى‌ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} قيل: المراد بأمر السماء ما تستعد له أو تقتضيه الحكمة فيها من وجود ملك أو كوكب و ما أشبه ذلك، و الوحي هو الخلق و الإيجاد، و الجملة معطوفة على قوله: {فَقَضَاهُنَّ} مقيدة بالوقت المذكور للمعطوف عليه، و المعنى و خلق في كل سماء ما فيها من الملائكة و الكواكب و غيرها. 

  • و أنت خبير بأن إرادة الخلق من الوحي و أمثال الملك و الكوكب من الأمر تحتاج إلى عناية زائدة لا تثبت إلا بدليل بين، و كذا تقيد الجملة المعطوفة بالوقت المذكور في المعطوف عليها. 

  • و قيل: المراد بالأمر التكليف الإلهي المتوجه إلى أهل كل سماء من الملائكة و الوحي بمعناه المعروف و المعنى و أوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة. 

  • و فيه أن ظاهر الآية و قد قال تعالى: {فِي كُلِّ سَمَاءٍ} و لم يقل: إلى كل سماء لا يوافقه تلك الموافقة. 

  • و قيل: المراد بأمرها ما أراده الله منها، و هذا الوجه في الحقيقة راجع إلى أحد 

تفسير الميزان ج۱۷

368
  • الوجهين السابقين فإن أريد بالوحي الخلق و الإيجاد رجع إلى أول الوجهين و إن أريد به معناه المعروف رجع إلى ثانيهما. 

  • و الذي وقع في كلامه تعالى من الأمر المتعلق بوجه بالسماء يلوح إلى معنى أدق مما ذكروه فقد قال تعالى: ‌{يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} الم السجدة: ٥، و قال: ‌{اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} الطلاق: ١٢، و قال: ‌{وَ لَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَ مَا كُنَّا عَنِ اَلْخَلْقِ غَافِلِينَ} المؤمنون: ١٧. 

  • دلت الآية الأولى على أن السماء مبدأ لأمره تعالى النازل إلى الأرض بوجه و الثانية على أن الأمر يتنزل بين السماوات من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى الأرض، و الثالثة على أن السماوات طرائق لسلوك الأمر من عند ذي العرش أو لسلوك الملائكة الحاملين للأمر إلى الأرض كما يشير إليه قوله{تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} القدر: ٤، و قوله: ‌{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} الدخان: ٤. 

  • و لو كان المراد بالأمر أمره تعالى التكويني و هو كلمة الإيجاد كما يستفاد من قوله: ‌{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} يس: ٨٢، أفادت الآيات بانضمام بعضها إلى بعض أن الأمر الإلهي الذي مضيه في العالم الأرضي هو خلق الأشياء و حدوث الحوادث تحمله الملائكة من عند ذي العرش تعالى و تسلك في تنزيله طرق السماوات فتنزله من سماء إلى سماء حتى تنتهي به إلى الأرض. 

  • و إنما تحمله ملائكة كل سماء إلى من دونهم كما يستفاد من قوله: ‌{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ} سبأ: ٢٣ و قد تقدم الكلام فيه و السماوات مساكن الملائكة كما يستفاد من قوله: ‌{وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ} النجم: ٢٦، و قوله: ‌{لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلى‌ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} الصافات: ٨. 

  • فللأمر نسبة إلى كل سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها، و نسبة إلى كل قبيل من الملائكة الحاملين له باعتبار تحميله لهم و هو وحيه إليهم فإن الله سبحانه سماه قولا كما قال‌: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ‌ءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ} النحل: ٤٠. 

  • فتحصل بما مر أن معنى قوله: {وَ أَوْحى‌ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أوحى في كل 

تفسير الميزان ج۱۷

369
  • سماء إلى أهلها من الملائكة الأمر الإلهي. المنسوب إلى تلك السماء المتعلق بها، و أما كون اليومين المذكورين في الآية ظرفا لهذا الوحي كما هما ظرف لخلق السماوات سبعا فلا دليل عليه من لفظ الآية. 

  • قوله تعالى: {وَ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ} توصيف هذه السماء بالدنيا للدلالة على أنها أقرب السماوات من الأرض و هي طباق بعضها فوق بعض كما قال‌: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} الملك: ٣. 

  • و الظاهر من معنى تزيينها بمصابيح و هي الكواكب كما قال‌: {إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِزِينَةٍ اَلْكَوَاكِبِ} الصافات: ٦ أن الكواكب في السماء الدنيا أو دونها كالقناديل المعلقة و لو كانت متفرقة في جميع السماوات من غير حجب بعضها بعضا لكون السماوات شفافة كما قيل كانت زينة لجميعها و لم تختص الزينة ببعضها كما يفيده السياق فلا وجه لقول القائل: إنها في الجميع لكن لكونها ترى متلألئة على السماء الدنيا عدت زينة لها. 

  • و أما قوله‌{أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اَللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَ جَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ اَلشَّمْسَ سِرَاجاً} نوح: ١٦ فهو بالنسبة إلينا معاشر المستضيئين بالليل و النهار كقوله: ‌{وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} النبأ: ١٣. 

  • و قوله: {وَ حِفْظاً} أي و حفظناها من الشياطين حفظا كما قال‌: {وَ حَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} الحجر: ١٨. 

  • و قوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ} إشارة إلى ما تقدم من النظم و الترتيب. 

  • (كلام فيه تتميم) [في معنى السماء] 

  • قد تحصل مما تقدم: 

  • أولا: أن المستفاد من ظاهر الآيات الكريمة و ليست بنص أن السماء الدنيا من هذه السبع هي عالم النجوم و الكواكب فوقنا. 

  • و ثانيا: أن هذه السماوات السبع المذكورة جميعا من الخلق الجسماني فكأنها طبقات 

تفسير الميزان ج۱۷

370
  • سبع متطابقة من عالم الأجسام أقربها منا عالم النجوم و الكواكب، و لم يصف القرآن شيئا من السماوات الست الباقية دون أن ذكر أنها طباق. 

  • و ثالثا: أن ليس المراد بالسماوات السبع الأجرام العلوية أو خصوص بعضها كالشمس و القمر أو غيرهما. 

  • و رابعا: أن ما ورد من كون السماوات مساكن للملائكة و أنهم ينزلون منها بأمر الله حاملين له و يعرجون إليها بكتب الأعمال، و أن للسماء أبوابا لا تفتح للكفار و أن الأشياء و الأرزاق تنزل منها و غير ذلك مما تشير إليه متفرقات الآيات و الروايات يكشف عن أن لهذه الأمور نوع تعلق بهذه السماوات لا كتعلق ما نراه من الأجسام بمحالها و أماكنها الجسمانية الموجبة لحكومة النظام المادي فيها و تسرب التغير و التبدل و الدثور و الفتور إليها. 

  • و ذلك أن من الضروري اليوم أن لهذه الأجرام العلوية كائنة ما كانت كينونة عنصرية جسمانية تجري فيها نظائر الأحكام و الآثار الجارية في عالمنا الأرضي العنصري و النظام الذي يثبت للسماء و أهلها و الأمور الجارية فيها مما أشرنا إليه يباين هذا النظام العنصري المشهود. أضف إلى ذلك ما ورد أن الملائكة خلقوا من نور، و أن غذاءهم التسبيح، و ما ورد من توصيف خلقهم، و ما ورد في توصيف خلق السماوات و ما خلق فيها إلى غير ذلك. 

  • فللملائكة عوالم ملكوتية سبعة مترتبة سميت سماوات سبعا و نسبت ما لها من الخواص و الآثار إلى ظاهر هذه السماوات بلحاظ ما لها من العلو و الإحاطة بالنسبة إلى الأرض تسهيلا للفهم الساذج. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أبو يعلى و الحاكم و صححه و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي كلاهما في الدلائل و ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: اجتمع قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر و الكهانة و الشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، و شتت أمرنا و عاب ديننا فليكلمه و لينظر ما ذا يرد 

تفسير الميزان ج۱۷

371
  • عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة قالوا: أنت يا أبا الوليد. 

  • فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت و إن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع منك. 

  • أما و الله ما رأينا سلحة قط أشأم على قومك منك فرقت جماعتنا، و شتت أمرنا و عبت ديننا، و فضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، و أن في قريش كاهنا و الله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف. يا أيها الرجل إن كان نما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا و إن كان نما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا. 

  • فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فرغت؟ قال: نعم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ}

  • فقال عتبة: حسبك. ما عندك غير هذا؟ قال: لا فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته قالوا: فهل أجابك؟ قال: و الذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه قال: {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ} قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية و ما تدري ما قال؟ قال: لا و الله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة. 

  • أقول: و رواه عن عدة من الكتب قريبا منه، و في بعض الطرق: قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: و الله إني قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، و الله ما هو بالشعر و لا بالسحر و لا بالكهانة، و الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، و في بعضها غير ذلك. 

  • و في تلاوته (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ آيات أول السورة على الوليد بن المغيرة رواية أخرى ستوافيك إن شاء الله في تفسير سورة المدثر في ذيل قوله تعالى: {ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} (الآيات). 

  • و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي بكر قال: جاء اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة؟ فقال: خلق الله 

تفسير الميزان ج۱۷

372
  • الأرض يوم الأحد و الإثنين، و خلق الجبال يوم الثلاثاء، و خلق المدائن و الأقوات و الأنهار و عمرانها و خرابها يوم الأربعاء، و خلق السماوات و الملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة، و خلق في أول ساعة الآجال و في الثانية الآفة و في الثالثة آدم. قالوا: صدقت إن تممت فعرف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ما يريدون فغضب فأنزل الله {وَ مَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى‌ مَا يَقُولُونَ}

  • أقول: و روي ما يقرب منه عن ابن عباس و عبد الله بن سلام و عن عكرمة و غيره و قد ورد في بعض أخبار الشيعة، و قوله: قالوا: صدقت إن تممت أي تممت كلامك في الخلق بأن تقول: إنه تعالى فرغ من الخلق يوم السبت و استراح فيه. 

  • و الروايات لا تخلو من شي‌ء: 

  • أما أولا: فمن جهة اشتمالها على تصديق اليهود ما ذكر فيها من ترتيب الخلق و هو مخالف لما ورد في أول سفر التكوين من التوراة مخالفة صريحة ففيها أنه خلق النور و الظلمة النهار و الليل يوم الأحد، و خلق السماء يوم الإثنين، و خلق الأرض و البحار و النبات يوم الثلاثاء و خلق الشمس و القمر و النجوم يوم الأربعاء و خلق دواب البحر و الطير يوم الخميس، و خلق حيوان البر و الإنسان يوم الجمعة و فرغ من الخلق يوم السبت و استراح فيه، و القول بأن التوراة الحاضرة غير ما كان في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما ترى. 

  • و أما ثانيا: فلأن اليوم من الأسبوع و هو نهار مع ليلته يتوقف في كينونته على حركة الأرض الوضعية دورة واحدة قبال الشمس فما معنى خلق الأرض في يومين و لم يخلق السماء و السماويات بعد و لا تمت الأرض كرة متحركة؟ و نظير الإشكال جار في خلق السماء و السماويات و منها الشمس و لا يوم حيث لا شمس بعد. 

  • و أما ثالثا: فلأنه عد فيها يوم لخلق الجبال و قد جزم الفحص العلمي بأنها تخلق تدريجا، و نظير الإشكال جار في خلق المدائن و الأنهار و الأقوات. 

  • و في روضة الكافي، بإسناده عن محمد بن عطية عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: و خلق الشي‌ء الذي جميع الأشياء منه و هو الماء الذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كل شي‌ء إلى الماء و لم يجعل للماء نسبا يضاف إليه، و خلق الريح من الماء. 

  • ثم سلط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر 

تفسير الميزان ج۱۷

373
  • ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع و لا ثقب و لا صعود و لا هبوط و لا شجرة ثم طواها فوضعها فوق الماء. 

  • ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ليس فيها صدع و لا ثقب و ذلك قوله: {اَلسَّمَاءُ بَنَاهَا}

  • أقول: و في هذه المعنى بعض روايات أخر، و يمكن تطبيق ما في الرواية و كذا مضامين الآيات على ما تسلمته الأبحاث العلمية اليوم في خلق العالم و هيئته غير أنا تركنا ذلك احترازا من تحديد الحقائق القرآنية بالأحداس و الفرضيات العلمية ما دامت فرضية غير مقطوع بها من طريق البرهان العلمي. 

  • و في نهج البلاغة:‌ فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطدات بلا عمد قائمات بلا سند، دعاهن فأجبن طائعات مذعنات غير متلكئات و لا مبطئات، و لو لا إقرارهن له بالربوبية، و إذعانهن له بالطواعية لما جعلهن موضعا لعرشه، و لا مسكنا لملائكته و لا مصعدا للكلم الطيب و العمل الصالح من خلقه. 

  • و في كمال الدين، بإسناده إلى فضيل الرسان قال: كتب محمد بن إبراهيم إلى أبي عبد الله (عليه السلام): أخبرنا ما فضلكم أهل البيت؟ فكتب إليه أبو عبد الله (عليه السلام): إن الكواكب جعلت أمانا لأهل السماء فإذا ذهبت نجوم السماء جاء أهل السماء ما كانوا يوعدون، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): جعل أهل بيتي أمانا لأمتي فإذا ذهب أهل بيتي جاء أمتي ما كانوا يوعدون.

  •  أقول: و ورد هذا المعنى في غير واحد من الروايات. 

  • و في البحار، عن كتاب الغارات بإسناده عن ابن نباتة قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) كم بين السماء و الأرض؟ قال: مد البصر و دعوة المظلوم. 

  • أقول: و هو من لطائف كلامه (عليه السلام) يشير به إلى ظاهر السماء و باطنها كما تقدم. 

  • [سورة فصلت (٤١): الآیات ١٣ الی ٢٥]

  • {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ ١٣ 

تفسير الميزان ج۱۷

374
  • إِذْ جَاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ١٤ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ١٥ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَخْزى‌ وَ هُمْ لاَ يُنْصَرُونَ ١٦ وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمى‌ عَلَى اَلْهُدى‌ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ اَلْعَذَابِ اَلْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ١٧ وَ نَجَّيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ ١٨ وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اَللَّهِ إِلَى اَلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ١٩ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٢٠وَ قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٢١ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لاَ أَبْصَارُكُمْ وَ لاَ جُلُودُكُمْ وَ لَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ٢٢ وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ 

تفسير الميزان ج۱۷

375
  • أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ٢٣ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ اَلْمُعْتَبِينَ ٢٤ وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ٢٥} 

  • (بيان) 

  • الآيات تتضمن الإنذار بالعذاب الدنيوي الذي ابتليت به عاد و ثمود بكفرهم بالرسل و جحدهم لآيات الله، و بالعذاب الأخروي الذي سيبتلى به أعداء الله من أهل الجحود الذين حقت عليهم كلمة العذاب، و فيها إشارة إلى كيفية إضلالهم في الدنيا و إلى استنطاق أعضائهم في الآخرة. 

  • قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ} قال في المجمع:‌ الصاعقة المهلكة من كل شي‌ء انتهى، و قال الراغب: قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ} و قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّاعِقَةُ} و العذاب كقوله: {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ} و النار كقوله: {وَ يُرْسِلُ اَلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} و ما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو ثم يكون نار فقط أو عذاب أو موت و هي في ذاتها شي‌ء واحد، و هذه الأشياء تأثيرات منها. انتهى. 

  • و على ما مر تنطبق الصاعقة على عذابي عاد و ثمود و هما الريح و الصيحة، و التعبير بالماضي في قوله: {أَنْذَرْتُكُمْ} للدلالة على التحقق و الوقوع. 

  • قوله تعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ} إلخ ظرف للصاعقة الثانية فإن الإنذار بالصاعقة بالحقيقة إنذار بوقوعها و حلولها فالمعنى مثل حلول صاعقة عاد و ثمود إذ جاءتهم إلخ. 

  • و نسبة المجي‌ء إلى الرسل و هو جمع - مع أن الذي ذكر في قصتهم رسولان هما هود و صالح - باعتبار أن الرسل دعوتهم واحدة و المبعوث منهم إلى قوم مبعوث لآخرين 

تفسير الميزان ج۱۷

376
  • و كذا القوم المكذبون لأحدهم مكذبون لآخرين قال تعالى: ‌{كَذَّبَتْ عَادٌ اَلْمُرْسَلِينَ }الشعراء: ١٢٣ و قال: ‌{كَذَّبَتْ ثَمُودُ اَلْمُرْسَلِينَ} الشعراء: ١٤١، و قال: ‌{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ اَلْمُرْسَلِينَ} الشعراء: ١٦٠إلى غير ذلك. 

  • و قول بعضهم: إن إطلاق الرسل و هو جمع على هود و صالح (عليه السلام) و هما اثنان من إطلاق الجمع على ما دون الثلاثة و هو شائع، و من هذا القبيل إرجاع ضمير الجمع في قوله: {إِذْ جَاءَتْهُمُ} إلى عاد و ثمود. 

  • ممنوع بما تقدم، و أما إرجاع ضمير الجمع إلى عاد و ثمود فإنما هو لكون مجموع الجمعين جمعا مثلهما. 

  • و قوله: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ} أي من جميع الجهات فاستعمال هاتين الجهتين في جميع الجهات شائع، و جوز أن يكون المراد به الماضي و المستقبل فقوله: {جَاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ} كناية عن دعوتهم لهم من جميع الطرق الممكنة خلوة و جلوة و فرادى و مجتمعين بالتبشير و الإنذار و لذلك فسر مجيئهم كذلك بعد بقوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ} و هو التوحيد. 

  • و قوله: {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً} رد منهم لرسالتهم بأن الله لو شاء إرسال رسول إلينا لأرسل من الملائكة، و قد تقدم كرارا معنى قولهم هذا و أنه مبني على إنكارهم نبوة البشر. 

  • و قوله: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} تفريع على النفي المفهوم من الجملة السابقة أي فإذا لم يشأ و لم يرسل فإنا بما أرسلتم به و هو التوحيد كافرون. 

  • قوله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ} إلخ رجوع إلى تفصيل حال من كل الفريقين على حدته، من كفرهم و وبال ذلك، و قوله: {بِغَيْرِ اَلْحَقِّ} قيد توضيحي للاستكبار في الأرض فإنه بغير الحق دائما، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} إلخ فسر الصرصر بالريح الشديدة السموم، و بالريح الشديدة البرد، و بالريح الشديدة الصوت و تلازم شدة الهبوب، و النحسات‌ بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس ينحس نحسا خلاف سعد فالأيام النحسات الأيام المشئومات. 

تفسير الميزان ج۱۷

377
  • و قيل: أيام نحسات أي ذوات الغبار و التراب لا يرى فيها بعضهم بعضا، و يؤيده قوله في سورة الأحقاف‌{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} الأحقاف: ٢٤. 

  • و قوله: {وَ هُمْ لاَ يُنْصَرُونَ} أي لا منج ينجيهم و لا شفيع يشفع لهم، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى: {وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمىَ عَلَى اَلْهُدىَ} إلخ المراد بهدايتهم إراءتهم الطريق و دلالتهم على الحق ببيان حق الاعتقاد و العمل لهم، و المراد بالاستحباب الإيثار و الاختيار، و لعله بالتضمين و لذا عدي إلى المفعول الثاني بعلى و المراد بالعمى الضلال استعارة، و في مقابله الهدى له إيماء إلى أن الهدى بصر كما أن الضلالة عمى، و الهون‌ مصدر بمعنى الذل و توصيف العذاب به للمبالغة أو بحذف ذي و التقدير صاعقة العذاب ذي الهون. 

  • و المعنى: و أما قوم ثمود فدللناهم على طريق الحق و عرفناهم الهدى بتمييزه من الضلال فاختاروا الضلال الذي هو عمى على الهدى الذي هو بصر فأخذتهم صيحة العذاب ذي المذلة أو أخذهم العذاب بناء على كون الصاعقة بمعنى العذاب و الإضافة بيانية بما كانوا يكسبون. 

  • قوله تعالى: {وَ نَجَّيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} ضم التقوى إلى الإيمان معبرا عن التقوى بقوله: {وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} الدال على الاستمرار للدلالة على جمعهم بين الإيمان و العمل الصالح و ذلك هو السبب لنجاتهم من عذاب الاستئصال على ما وعده الله بقوله‌{وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ} الروم: ٤٧. 

  • و الظاهر أن الآية متعلقة بالقصتين جميعا متممة لهما و إن كان ظاهر المفسرين تعلقها بالقصة الثانية. 

  • قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اَللَّهِ إِلَى اَلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها. كذا قال الراغب، و {يُوزَعُونَ} من الوزع‌ و هو حبس أول القوم ليلحق بهم آخرهم فيجتمعوا. 

  • قيل: المراد بحشرهم إلى النار إخراجهم إلى المحشر للسؤال و الحساب، و جعل 

تفسير الميزان ج۱۷

378
  • النار غاية لحشرهم لأن عاقبتهم إليها، و الدليل عليه ما ذكره من أمر شهادة الأعضاء فإنها في الموقف قبل الأمر بهم إلى النار. 

  • و قيل: المراد حشرهم إلى النار نفسها و من الممكن أن يستشهد عليهم مرتين مرة في الموقف و مرة على شفير جهنم و هو كما ترى. 

  • و المراد بأعداء الله - على ما قيل - المكذبون بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من مشركي قومه لا مطلق الكفار و الدليل عليه قوله الآتي: {وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} (الآية). 

  • قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {مَا} في {إِذَا مَا جَاؤُهَا} زائد للتأكيد و الضمير للنار. 

  • و شهادة الأعضاء أو القوى يوم القيامة ذكرها و إخبارها ما تحملته في الدنيا من معصية صاحبها فهي شهادة أداء لما تحملته، و لو لا التحمل في الدنيا حين العمل كما لو جعل الله لها شعورا و نطقا يوم القيامة فعلمت ثم أخبرت بما عملته أو أوجد الله عندها صوتا يفيد معنى الإخبار من غير شعور منها به لم يصدق عليه الشهادة، و لا تمت بذلك على العبد المنكر حجة و هو ظاهر. 

  • و بذلك يظهر فساد قول بعضهم: إن الله يخلق يوم القيامة للأعضاء علما و قدرة على الكلام فتخبر بمعاصي صاحبيها و هو شهادتها و قول بعضهم: إنه يخلق عندها أصواتا في صورة كلام مدلوله الشهادة، و كذا قول بعضهم: إن معنى الشهادة دلالة الحال على صدور معصية كذائية منهم. 

  • و ظاهر الآية أن شهادة السمع و البصر أداؤهما ما تحملاه و إن لم يكن معصية مأتيا بها بواسطتهما كشهادة السمع أنه سمع آيات الله تتلى عليه فأعرض عنها صاحبه أو أنه سمع صاحبه يتكلم بكلمة الكفر، و شهادة البصر أنه رأى الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى فأعرض عنها صاحبه أو أنه رأى صاحبه يستمع إلى الغيبة أو سائر ما يحرم الإصغاء إليه فتكون الآية على حد قوله تعالى‌{إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} إسراء: ٣٦. 

تفسير الميزان ج۱۷

379
  • و على هذا يختلف السمع و الأبصار و الجلود فيما شهدت عليه فالسمع و الأبصار تشهد على معصية العبد و إن لم تكن بسببهما و الجلود تشهد على المعصية التي كانت هي آلات لها بالمباشرة، و هذا الفرق هو السبب لتخصيصهم الجلود بالخطاب في قولهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} على ما سيجي‌ء. 

  • و المراد بالجلود على ظاهر إطلاق الآية مطلق الجلود و شهادتها على أنواع المعاصي التي تتم بالجلود من التمتعات المحرمة كالزنا و نحوه، و يمكن حينئذ أن تعمم الجلود بحيث تشمل شهادتها ما شهدت الأيدي و الأرجل المذكورة في قوله‌{اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‌ أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} يس: ٦٥ على بعد. 

  • و قيل: المراد بالجلود الفروج و قد كني بها عنها تأدبا. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} اعتراض و عتاب منهم لجلودهم في شهادتها عليهم، و قيل: الاستفهام للتعجب فهو سؤال عن السبب لرفع التعجب و إنما خصوها بالسؤال دون سمعهم و أبصارهم مع اشتراكها في الشهادة لأن الجلود شهدت على ما كانت هي بنفسها أسبابا و آلات مباشرة له بخلاف السمع و الأبصار فإنها كسائر الشهداء تشهد بما ارتكبه غيرها. 

  • و قيل: تخصيص الجلود بالذكر تقريع لهم و زيادة تشنيع و فضاحة و خاصة لو كان المراد بالجلود الفروج و قيل غير ذلك. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ} إلخ إرجاع ضمير أولي العقل إلى الجوارح لمكان نسبة الشهادة و النطق إليها و ذلك من شئون أولي العقل. 

  • و المتيقن من معنى النطق إذا استعمل على الحقيقة من غير تجوز هو إظهار ما في الضمير من طريق التكلم فيتوقف على علم و كشفه لغيره، قال الراغب: و لا يكاد يستعمل النطق في غير الإنسان إلا تبعا و بنوع من التشبيه و ظاهر سياق الآيات و ما فيها من ألفاظ القول و التكلم و الشهادة و النطق أن المراد بالنطق ما هو حقيقة معناه. 

  • فشهادة الأعضاء على المجرمين كانت نطقا و تكلما حقيقة عن علم تحملته سابقا بدليل قولها: {أَنْطَقَنَا اَللَّهُ}. ثم إن قولها: {أَنْطَقَنَا اَللَّهُ} جوابا عن قول المجرمين: 

تفسير الميزان ج۱۷

380
  • {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا}؟ إراءة منها للسبب الذي أوجب نطقها و كشف عن العلم المدخر عندها المكنون في ضميرها فهي ملجؤه إلى التكلم و النطق، و لا يضر ذلك نفوذ شهادتها و تمام الحجة بذلك فإنها إنما ألجئت إلى الكشف عما في ضميرها لا على الستر عليه و الإخبار بخلافه كذبا و زورا حتى ينافي جواز الشهادة و تمام الحجة. 

  • و قوله: {اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ} توصيف لله سبحانه و إشارة إلى أن النطق ليس مختصا بالأعضاء حتى تختص هي بالسؤال بل هو عام شامل لكل شي‌ء و السبب الموجب له هو الله سبحانه. 

  • و قوله: {وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} من تتمة الكلام السابق أو هو من كلامه، و هو احتجاج على علمه بأعمالهم و قد أنطق الجوارح بما علم. 

  • يقول: إن وجودكم يبتدئ منه تعالى و ينتهي إليه تعالى فعند ما تظهرون من كتم العدم و هو خلقكم أول مرة يعطيكم الوجود و يملككم الصفات و الأفعال فتنسب إليكم ثم ترجعون و تنتهون إليه فيرجع ما عندكم من ظاهر الملك الموهوب إليه فلا يبقى ملك إلا و هو لله سبحانه. 

  • فهو سبحانه المالك لجميع ما عندكم أولا و آخرا فما عندكم من شي‌ء في أول وجودكم هو الذي أعطاكموه و ملكه لكم و هو أعلم بما أعطى و أودع، و ما عندكم من شي‌ء حينما ترجعون إليه هو الذي يقبضه منكم إليه و يملكه فكيف لا يعلمه، و انكشافه له سبحانه حينما يرجع إليه إنطاقه لكم و شهادتكم على أنفسكم عنده. 

  • و بما مر من البيان يظهر وجه تقييد قوله: {وَ هُوَ خَلَقَكُمْ} بقوله: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} فالمراد به أول وجودهم. 

  • و لهم في قوله: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ} في معنى الإنطاق نظائر ما تقدم في قوله: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ} من الأقوال فمن قائل: إن الله يخلق لهم يومئذ العلم و القدرة على النطق فينطقون، و من قائل: إنه يخلق عند الأعضاء أصواتا شبيهة بنطق الناطقين و هو المراد بنطقهم، و من قائل: إن المراد بالنطق دلالة ظاهر الحال على ذلك. 

  • و كذا في عموم قوله: {أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ} فقيل: هو مخصص بكل حي نطق إذ 

تفسير الميزان ج۱۷

381
  • ليس كل شي‌ء و لا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي و مثل هذا التخصيص شائع و منه قوله تعالى في الريح المرسلة إلى عاد{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ‌ءٍ} الأحقاف: ٢٥. 

  • و قيل: النطق في {أَنْطَقَنَا} بمعناه الحقيقي و في قوله: {أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ} بمعنى الدلالة فيبقى الإطلاق على حاله. 

  • و يرد عليهما أن تخصيص الآية أو حملها على المعنى المجازي مبني على تسلم كون غير ما نعده من الأشياء حيا ناطقا كالإنسان و الحيوان و الملك و الجن فاقدا للعلم و النطق على ما نراه من حالها. 

  • لكن لا دليل على فقدان الأشياء غير ما استثنيناه للشعور و الإرادة سوى أنا في حجاب من بطون ذواتها لا طريق لنا إلى الاطلاع على حقيقة حالها، و الآيات القرآنية و خاصة الآيات المتعرضة لشئون يوم القيامة ظاهرة في عموم العلم. 

  • (بحث إجمالي قرآني) [في سراية العلم] 

  • كررنا الإشارة في الأبحاث المتقدمة إلى أن الظاهر من كلامه تعالى أن العلم صار في الموجودات عامة كما تقدم في تفسير قوله تعالى‌{وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} إسراء: ٤٤ فإن قوله: {وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ} نعم الدليل على كون التسبيح منهم عن علم و إرادة لا بلسان الحال. 

  • و من هذا القبيل قوله: {فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} و قد تقدم تفسيره في السورة. 

  • و من هذا القبيل قوله‌{وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَ إِذَا حُشِرَ اَلنَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَ كَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} الأحقاف: ٦ فالمراد بمن لا يستجيب الأصنام فقط أو هي و غيرها، و قوله‌{ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىَ لَهَا} الزلزال: ٥. 

  • و من هذا القبيل الآيات الدالة على شهادة الأعضاء و نطقها و تكليمها لله و السؤال 

تفسير الميزان ج۱۷

382
  • منها و خاصة ما ورد في ذيل الآيات الماضية آنفا من قوله: {أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ} (الآية). 

  • لا يقال: لو كان غير الإنسان و الحيوان كالجماد و النبات ذا شعور و إرادة لبانت آثاره و ظهر منها ما يظهر من الإنسان و الحيوان من الأعمال العلمية و الأفعال و الانفعالات الشعورية. 

  • لأنه يقال: لا دليل على كون العلم ذا سنخ واحد حتى تتشابه الآثار المترشحة منه فمن الممكن أن يكون ذا مراتب مختلفة تختلف باختلافها آثارها. 

  • على أن الآثار و الأعمال العجيبة المتقنة المشهودة من النبات و سائر الأنواع الطبيعية في عالمنا هذا لا تقصر في إتقانها و نظمها و ترتيبها عن آثار الأحياء كالإنسان و الحيوان. 

  • (بحث إجمالي فلسفي) [في سراية العلم] 

  • حقق في مباحث العلم من الفلسفة أن العلم و هو حضور شي‌ء لشي‌ء يساوق الوجود المجرد لكونه ما له من فعلية الكمال حاضرا عنده من غير قوة فكل وجود مجرد يمكنه أن يوجد حاضرا لمجرد غيره أو يوجد له مجرد غيره و ما أمكن لمجرد بالإمكان العام فهو له بالضرورة. 

  • فكل عالم فهو مجرد و كذا كل معلوم و ينعكسان بعكس النقيض إلى أن المادة و ما تألف منها ليس بعالم و لا معلوم. 

  • فالعلم يساوق الوجود المجرد، و الوجودات المادية لا يتعلق بها علم و لا لها علم بشي‌ء لكن لها، على كونها مادية متغيرة متحركة لا تستقر على حال، ثبوتا من غير تغير و لا تحول لا ينقلب عما وقع عليه. 

  • فلها من هذه الجهة تجرد و العلم سار فيها كما هو سار في المجردات المحضة العقلية و المثالية فافهم ذلك. 

  • [بيان] 

  • قوله تعالى: {وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لاَ أَبْصَارُكُمْ وَ لاَ جُلُودُكُمْ} 

تفسير الميزان ج۱۷

383
  • إلخ لا شك أن الله سبحانه خالق كل شي‌ء لا موجد غيره فلا يحول بين خلقه و بينه شي‌ء و لا يحجب خلقه من حاجب فهو تعالى مع كل شي‌ء أينما كان و كيفما كان قال تعالى: ‌{إِنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ} الحج: ١٧ و قال: ‌{وَ كَانَ اَللَّهُ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ رَقِيباً} الأحزاب: ٥٢. 

  • فالإنسان أينما كان كان الله معه، و أي عمل عمله كان الله مع عمله، و أي عضو من أعضائه استعمله و أي سبب أو أداة أو طريق اتخذه لعمله كان مع ذلك العضو و السبب و الأداة و الطريق قال تعالى: ‌{وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} الحديد: ٤، و قال: ‌{أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى‌ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الرعد: ٣٣، و قال: ‌{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} الفجر: ١٤. 

  • و من هنا يستنتج أن الإنسان - و هو جار في عمله - واقع بين مراصد كثيرة يرصده من كل منها ربه و يرقبه و يشهده فمرتكب المعصية و هو متوغل في سيئته غافل عنه تعالى في جهل عظيم بمقام ربه و استهانة به سبحانه و هو يرصده و يرقبه. 

  • و هذه الحقيقة هي التي تشير إليه الآية أعني قوله: {وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} إلخ على ما يعطيه السياق. 

  • فقوله: {وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} نفي لاستتارهم و هم في المعاصي قبلا و هم في الدنيا و قوله: {أَنْ يَشْهَدَ} إلخ منصوب بنزع الخافض و التقدير من أن يشهد إلخ. 

  • و قوله: {وَ لَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَعْلَمُ} استدراك في معنى الإضراب عن محذوف يدل عليه صدر الآية، و التقدير و لم تظنوا أنها لا تعلم أعمالكم و لكن ظننتم إلخ و الآية تقريع و توبيخ للمشركين أو لمطلق المجرمين يوجه إليهم يوم القيامة من قبله تعالى. 

  • و محصل المعنى و ما كنتم تستخفون في الدنيا عند المعاصي من شهادة أعضائكم التي تستعملونها في معصية الله و لم يكن ذلك لظنكم أنها لا إدراك فيها لعملكم بل لظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أي لم تستهينوا عند المعصية بشهادة أعضائكم و إنما استهنتم بشهادتنا. 

  • فالاستدراك و معنى الإضراب في الآية نظير ما في قوله تعالى: ‌{وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمى‌} الأنفال: ١٧، و قوله‌{وَ مَا ظَلَمُونَا وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ 

تفسير الميزان ج۱۷

384
  •  يَظْلِمُونَ} البقرة: ٥٧. 

  • و قوله: {كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} و لم يقل: لا يعلم ما تعملون و لعل ذلك لكونهم معتقدين بالله و بصفاته العليا التي منها العلم فهم يعتقدون فيه العلم في الجملة لكن حالهم في المعاصي حال من لا يرى علمه بكثير من أعماله. 

  • و يستفاد من الآية أن شهادة الشهود شهادته تعالى بوجه قال تعالى: ‌{وَ لاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} يونس: ٦١. 

  • و لهم في توجيه معنى الآية أقوال أخر لا يساعد عليها السياق و لا تخلو من تكلف أضربنا عن التعرض لها. 

  • قوله تعالى: {وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} الإرداء من الردى بمعنى الهلاك، و {ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ} مبتدأ و خبر و {أَرْدَاكُمْ} خبر بعد خبر، و يمكن أن يكون {ظَنُّكُمُ} بدلا من {ذَلِكُمْ}

  • و معنى الآية على الأول و ذلكم الظن الذي ذكر ظن ظننتموه لا يغني من الحق شيئا و العلم و الشهادة على حالها أهلككم ذلك الظن فأصبحتم من الخاسرين. 

  • و على الثاني و ظنكم الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون أهلككم إذ هون عليكم أمر المعاصي و أدى بكم إلى الكفر فأصبحتم من الخاسرين. 

  • قوله تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ اَلْمُعْتَبِينَ} في المفردات:‌ الثواء الإقامة مع الاستقرار. انتهى، و في المجمع، الاستعتاب‌ طلب العتبى و هي الرضا و هو الاسترضاء، و الإعتاب‌ الإرضاء، و أصل الإعتاب عند العرب استصلاح الجلد بإعادته في الدباغ ثم أستعير فيما يستعطف به البعض بعضا لإعادته ما كان من الألفة. انتهى. 

  • و معنى الآية فإن يصبروا فالنار مأواهم و مستقرهم و إن يطلبوا الرضا و يعتذروا لينجوا من العذاب فليسوا ممن يرضى عنهم و يقبل أعتابهم و معذرتهم فالآية في معنى قوله‌{اِصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} الطور: ١٦. 

  • قوله تعالى: {وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ} إلى آخر 

تفسير الميزان ج۱۷

385
  • الآية. أصل التقييض - كما في المجمع - التبديل، و القرناء جمع قرين و هو معروف. 

  • فقوله: {وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} إشارة إلى أنهم لو آمنوا و اتقوا لأيدهم الله بمن يسددهم و يهديهم كما قال‌: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} المجادلة: ٢٢ لكنهم كفروا و فسقوا فبدل الله لهم قرناء من الشياطين يقارنونهم و يلازمونهم، و إنما يفعل ذلك بهم مجازاة لكفرهم و فسوقهم. 

  • و قيل: المعنى بدلناهم قرناء سوء من الجن و الإنس مكان قرناء الصدق الذين أمروا بمقارنتهم فلم يفعلوا، و لعل ما قدمناه أحسن. 

  • و قوله: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ} لعل المراد التمتعات المادية التي هم مكبون عليها في الحال و ما تعلقت به آمالهم و أمانيهم في المستقبل. 

  • و قيل: ما بين أيديهم ما قدموه من أعمالهم السيئة حتى ارتكبوها، و ما خلفهم ما سنوه لغيرهم ممن يأتي بعدهم، و يمكن إدراج هذا الوجه في سابقه. 

  • و قيل: ما بين أيديهم هو ما يحضرهم من أمر الدنيا فيؤثرونه و يقبلون إليه و يعملون له، و ما خلفهم هو أمر الآخرة حيث يدعوهم قرناؤهم إلى أنه لا بعث و لا نشور و لا حساب و لا جنة و لا نار، و هو وجه بعيد إذ لا يقال لمن ينكر الآخرة أنها زينت له. 

  • و قوله: {وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ} أي ثبت و وجب عليهم كلمة العذاب حال كونهم في أمم مماثلين لهم ماضين قبلهم من الجن و الإنس و كلمة العذاب قوله تعالى: ‌{وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة: ٣٩ كقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} ص: ٨٥. و قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} تعليل لوجوب كلمة العذاب عليهم أو لجميع ما تقدم. 

  • و يظهر من الآية أن حكم الموت جار في الجن مثل الإنس. 

تفسير الميزان ج۱۷

386
  • (بحث روائي) 

  • في الفقيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابن الحنفية: قال الله تعالى: {وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لاَ أَبْصَارُكُمْ وَ لاَ جُلُودُكُمْ} يعني بالجلود الفروج. 

  • و في تفسير القمي‌ بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية: يعني بالجلود الفروج و الأفخاذ. 

  • و في المجمع، قال الصادق (عليه السلام): ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنه يشرف على النار، و يرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة إن الله تعالى يقول: {وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} (الآية)، ثم قال: إن الله عند ظن عبده إن خيرا فخير و إن شرا فشر. 

  • و في تفسير القمي‌ بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ليس من عبد يظن بالله عز و جل خيرا إلا كان عند ظنه به و ذلك قوله عز و جل: {وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} (الآية). 

  • و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني و عبد بن حميد و مسلم و أبو داود و ابن ماجة و ابن حبان و ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا يموتن أحدكم إلا و هو يحسن الظن بالله فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله عز و جل قال الله: {وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ}

  • أقول: و قد روي في سبب نزول بعض الآيات السابقة ما لا يلائم سياقها تلك الملاءمة و لذلك أغمضنا عن إيراده. 

  • [سورة فصلت (٤١): الآیات ٢٦ الی ٣٩]

  • {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ٢٦ فَلَنُذِيقَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ٢٧ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اَللَّهِ اَلنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ 

تفسير الميزان ج۱۷

387
  • اَلْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ٢٨ وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ ٢٩ إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ٣٠نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ٣١ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ٣٢ وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اَللَّهِ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ قَالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ٣٣ وَ لاَ تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ٣٤ وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ٣٥ وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٣٦ وَ مِنْ آيَاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لاَ لِلْقَمَرِ وَ اُسْجُدُوا لِلَّهِ اَلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ٣٧ فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ هُمْ لاَ يَسْأَمُونَ ٣٨ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى اَلْأَرْضَ 

تفسير الميزان ج۱۷

388
  • خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا اَلْمَاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ اَلَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ اَلْمَوْتى‌ إِنَّهُ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ٣٩} 

  • (بيان) 

  • رجوع إلى حديث كفرهم بالقرآن المذكور في أول السورة و ذكر كيدهم لإبطال حجته، و في الآيات ذكر الكفار و بعض ما في عقبى ضلالتهم و أهل الاستقامة من المؤمنين و بعض ما لهم في الآخرة و متفرقات أخر. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} اللغو من الأمر ما لا أصل له و من الكلام ما لا معنى له يقال: لغا يلغى و يلغو لغوا أي أتى باللغو، و الإشارة إلى القرآن مع ذكر اسمه دليل على كمال عنايتهم بالقرآن لإعفاء أثره. 

  • و الآية تدل على نهاية عجزهم عن مخاصمة القرآن بإتيان كلام يعادله و يماثله أو إقامة حجة تعارضه حتى أمر بعضهم بعضا أن لا ينصتوا له و يأتوا بلغو الكلام عند قراءة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) القرآن ليختل به قراءته و لا تقرع أسماع الناس آياته فيلغو أثره و هو الغلبة. 

  • قوله تعالى: {فَلَنُذِيقَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً} إلخ اللام للقسم، و المراد بالذين كفروا بحسب مورد الآية هم الذين قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن و إن كانت الآية مطلقة بحسب اللفظ. 

  • و قوله: {وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} قيل: المراد العمل السيئ الذي كانوا يعملون بتجريد أفعل عن معنى التفضيل، و قيل: المراد بيان جزاء ما هو أسوأ أعمالهم و سكت عن الباقي مبالغة في الزجر. 

  • قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اَللَّهِ اَلنَّارُ} إلخ {ذَلِكَ جَزَاءُ} مبتدأ و خبر و {اَلنَّارُ} بدل أو عطف بيان من {ذَلِكَ} أو خبر مبتدإ محذوف و التقدير هي النار أو مبتدأ خبره {لَهُمْ فِيهَا دَارُ اَلْخُلْدِ}

  • و قوله: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ اَلْخُلْدِ} أي النار محيطة بهم جميعا و لكل منهم فيها دار 

تفسير الميزان ج۱۷

389
  • تخصه خالدا فيها. 

  • و قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} مفعول مطلق لفعل مقدر، و التقدير يجزون جزاء أو للمصدر المتقدم أعني قوله: {ذَلِكَ جَزَاءُ} نظير قوله: ‌{فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} إسراء: ٦٣. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ} محكي قول يقولونه و هم في النار، يسألون الله أن يريهم متبوعيهم من الجن و الإنس ليجعلوهما تحت أقدامهم إذلالا لهما و تشديدا لعذابهما كما يشعر به قولهم ذيلا: {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ}. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ} إلخ قال الراغب: الاستقامة تقال في الطريق الذي يكون على خط مستو، و به شبه طريق الحق نحو {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ}. قال: و استقامة الإنسان لزومه المنهج المستقيم نحو قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا}. انتهى. و في الصحاح:‌ الاستقامة الاعتدال يقال: استقام له الأمر. انتهى. 

  • فالمراد بقوله: {ثُمَّ اِسْتَقَامُوا} لزوم وسط الطريق من غير ميل و انحراف و الثبات على القول الذي قالوه، قال تعالى: ‌{فَمَا اِسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} التوبة: ٧ و قال: ‌{وَ اِسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} الشورى: ١٥ و ما ورد فيها من مختلف التفاسير يرجع إلى ما ذكر. 

  • و الآية و ما يتلوها بيان حسن حال المؤمنين كما كانت الآيات قبلها بيان سوء حال الكافرين. 

  • و قوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} إخبار عما سيستقبلهم به الملائكة من تقوية قلوبهم و تطييب نفوسهم و البشرى بالكرامة. 

  • فالملائكة يؤمنونهم من الخوف و الحزن، و الخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونه و الحرمان من الجنة الذي يخشونه، و الحزن إنما يكون من 

تفسير الميزان ج۱۷

390
  • مكروه واقع و شر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها و الخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم فيطيب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئا أو يحزنوا لشي‌ء فالذنوب مغفورة لهم و العذاب مصروف عنهم. 

  • ثم يبشرونهم بالجنة الموعودة بقولهم: {وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} و في قولهم: {كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} دلالة على أن تنزلهم بهذه البشرى عليهم إنما هو بعد الحياة الدنيا. 

  • قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ} إلخ من تتمة البشارة، و على هذا فذكر ولايتهم لهم في الحياة الدنيا مع انقضاء وقتها كما تقدم من باب التوطئة و التمهيد إلى ذكر الآخرة للإشارة إلى أن ولاية الآخرة مترتبة على ولاية الدنيا فكأنه قيل نحن أولياؤكم في الآخرة كما كنا لما كنا أولياءكم في الحياة الدنيا و سنتولى أمركم بعد هذا كما توليناه قبل. 

  • و كون الملائكة أولياء لهم لا ينافي كونه تعالى هو الولي لأنهم وسائط الرحمة و الكرامة ليس لهم من الأمر شي‌ء، و لعل ذكر ولايتهم لهم في الآية دون ولايته تعالى للمقابلة و المقايسة بين أوليائه تعالى و أعدائه إذ قال في حق أعدائه: {وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} إلخ و قال في حق أوليائه عن لسان ملائكته: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ}

  • و بالمقابلة يستفاد أن المراد ولايتهم لهم بالتسديد و التأييد فإن الملائكة المسددين هم المخصوصون بأهل ولاية الله و أما الملائكة الحرس و موكلو الأرزاق و الآجال و غيرهم فمشتركون بين المؤمن و الكافر. 

  • و قيل: الآية من كلام الله دون الملائكة. 

  • و قوله: {وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ضمير {فِيهَا} في الموضعين للآخرة، و أصل الشهوة نزوع النفس بقوة من قواها إلى ما تريده تلك القوة و تلتذ به كشهوة الطعام و الشراب و النكاح، و أصل الادعاء و هو افتعال من الدعاء هو الطلب فالجملة الثانية أعني قوله: {وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أوسع نطاقا من الأولى أعني قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} فإن الشهوة طلب خاص و مطلق الطلب أعم منها. 

تفسير الميزان ج۱۷

391
  • فالآية تبشرهم بأن لهم في الآخرة ما يمكن أن تتعلق به شهواتهم من أكل و شرب و نكاح و غير ذلك بل ما هو أوسع من ذلك و أعلى كعبا و هو أن لهم ما يشاءون فيها كما قال تعالى: ‌{لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا}: ق - ٣٥. 

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اَللَّهِ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ قَالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ} (الآية) اتصال بقوله السابق: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ} (الآية) فإنهم كانوا يخاصمون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما ينازعون القرآن، و قد ذكر في أول السورة قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} (الآية) فأيد سبحانه في هذه الآية نبيه بأن قوله و هو دعوته أحسن القول. 

  • فقوله: {وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اَللَّهِ} المراد به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إن كان لفظ الآية يعم كل من دعا إلى الله و لما أمكن أن يدعو الداعي إلى الله لغرض فاسد و ليست الدعوة التي هذا شأنها من القول الأحسن قيده بقوله: {وَ عَمِلَ صَالِحاً} فإن العمل الصالح يكشف عن نية صالحة غير أن العمل الصالح لا يكشف عن الاعتقاد الحق و الالتزام به، و لا حسن في قول لا يقول به صاحبه و لذا قيده بقوله: {وَ قَالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ} و المراد بالقول الرأي و الاعتقاد على ما يعطيه السياق. 

  • فإذا تم الإسلام لله و العمل الصالح للإنسان ثم دعا إلى الله كان قوله أحسن القول لأن أحسن القول أحقه و أنفعه و لا قول أحق من كلمة التوحيد و لا أنفع منها و هي الهادية للإنسان إلى حاق سعادته. 

  • قوله تعالى: {لاَ تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ} (الآية) لما ذكر أحسن القول و أنه الدعوة إلى الله و القائم به حقا هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) التفت إليه ببيان أحسن الطريق إلى الدعوة و أقربها من الغاية المطلوبة منها و هي التأثير في النفوس فخاطبه بقوله: {لاَ تَسْتَوِي} إلخ. 

  • فقوله: {لاَ تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ} أي الخصلة الحسنة و السيئة من حيث حسن التأثير في النفوس، و {لاَ} في {لاَ اَلسَّيِّئَةُ} زائدة لتأكيد النفي. 

  • و قوله: {اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} استئناف في معنى دفع الدخل كأن المخاطب لما سمع قوله: {لاَ تَسْتَوِي} إلخ قال: فما ذا أصنع؟ فقيل: {اِدْفَعْ} إلخ و المعنى 

تفسير الميزان ج۱۷

392
  • ادفع بالخصلة التي هي أحسن الخصلة السيئة التي تقابلها و تضادها فادفع بالحق الذي عندك باطلهم لا بباطل آخر و بحلمك جهلهم و بعفوك إساءتهم و هكذا. 

  • و قوله: {فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} بيان لأثر الدفع بالأحسن و نتيجته و المراد أنك إن دفعت بالتي هي أحسن فاجأك أن عدوك صار كأنه ولي شفيق. قيل: {اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ} أبلغ من «عدوك» و لذا اختاره عليه مع اختصاره. 

  • ثم عظم الله سبحانه الدفع بالتي هي أحسن و مدحه أحسن التعظيم و أبلغ المدح بقوله: {وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي ذو نصيب وافر من كمال الإنسانية و خصال الخير. 

  • و في الآية مع ذلك دلالة ظاهرة على أن الحظ العظيم إنما يوجد لأهل الصبر خاصة. 

  • قوله تعالى: {وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} النزغ‌ النخس و هو غرز جنب الدابة أو مؤخرها بقضيب و نحوه ليهيج، و {إِمَّا} في {إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} زائدة و الأصل و إن ينزغنك فاستعذ. 

  • و النازغ هو الشيطان أو تسويله و وسوسته، و الأول هو الأنسب لمقام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنه لا سبيل للشيطان إليه بالوسوسة غير أنه يمكن أن يقلب له الأمور بالوسوسة على المدعوين من أهل الكفر و الجحود فيبالغوا في جحودهم و مشاقتهم و إيذائهم له فلا يؤثر فيهم الدفع بالأحسن و يؤول هذا إلى نزغ من الشيطان بتشديد العداوة في البين كما في قوله: ‌{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ اَلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي} يوسف: ١٠٠، قال تعالى: ‌{وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى اَلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ»} (الآية) الحج: ٥٢. 

  • و لو حمل على الوجه الثاني فالمتعين حمله على مطلق الدستور تتميما للأمر، و هو بوجه من باب «إياك أعني و اسمعي يا جارة». 

  • و قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} العوذ و العياذ بكسر العين و المعاذ و الاستعاذة بمعنى و هو الالتجاء و المعنى فالتجئ بالله من نزغه إنه هو السميع لمسألتك العليم بحالك أو السميع لأقوالكم العليم بأفعالكم. 

  • قوله تعالى: {وَ مِنْ آيَاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ} إلخ لما ذكر سبحانه 

تفسير الميزان ج۱۷

393
  • كون دعوته (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ أحسن القول و وصاه أن يدفع بأحسن الخصال عاد إلى أصل الدعوة فاحتج على الوحدانية و المعاد في هذه الآيات الثلاث. 

  • فقوله: {وَ مِنْ آيَاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ} إلخ احتجاج بوحدة التدبير و اتصاله على وحدة الرب المدبر، و بوحدة الرب على وجوب عبادته وحده، و لذلك عقبه بقوله: {لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لاَ لِلْقَمَرِ} إلخ. 

  • فالكلام في معنى دفع الدخل كأنه لما قيل: {وَ مِنْ آيَاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ} إلخ فأثبت وحدته في ربوبيته قيل: فما ذا نصنع؟ فقيل {لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لاَ لِلْقَمَرِ} هما مخلوقان مدبران من خلقه بل خصوه بالسجدة و اعبدوه وحده، و عامة الوثنيين كانوا يعظمون الشمس و القمر و إن لم يعبدهما غير الصابئين على ما قيل، و ضمير {خَلَقَهُنَّ} لليل و النهار و الشمس و القمر. 

  • و قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن عبادته لا تجامع عبادة غيره. 

  • قوله تعالى: {فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ هُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} السأمة الملال، و المراد بـ {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} الملائكة و المخلصون من عباد الله و قد تقدم كلام في ذلك في تفسير قوله‌{إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ} الأعراف: ٢٠٦. 

  • و قوله: {يُسَبِّحُونَ لَهُ} و لم يقل: يسبحونه للدلالة على الحصر و الاختصاص أي يسبحونه خاصة، و قوله: {بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ} أي دائما لا ينقطع فإن الملائكة ليس عندهم ليل و لا نهار. 

  • و المعنى: فإن استكبر هؤلاء الكفار عن السجدة لله وحده فعبادته تعالى لا ترتفع من الوجود فهناك من يسبحه تسبيحا دائما لا ينقطع من غير سأمة و هم الذين عند ربك. 

  • قوله تعالى: {وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى اَلْأَرْضَ خَاشِعَةً} إلخ الخشوع‌ التذلل، و الاهتزاز التحرك الشديد، و الربو النشوء و النماء و العلو، و اهتزاز الأرض و ربوها تحركها بنباتها و ارتفاعه. 

تفسير الميزان ج۱۷

394
  • و في الآية استعارة تمثيلية شبهت فيها الأرض في جدبها و خلوها عن النبات ثم اخضرارها و نمو نباتها و علوه بشخص كان وضيع الحال رث الثياب متذللا خاشعا ثم أصاب ما لا يقيم أوده فلبس أفخر الثياب و انتصب ناشطا متبخترا يعرف في وجهه نضرة النعيم. 

  • و الآية مسوقة للاحتجاج على المعاد، و قد تكرر البحث عن مضمونها في السور المتقدمة. 

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع في قوله تعالى: {أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا} يعنون إبليس الأبالسة و قابيل بن آدم أول من أبدع المعصية روي ذلك عن علي (عليه السلام).

  •  أقول: و لعله من نوع الجري فالآية عامة. 

  • و فيه في قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا}: روي عن أنس قال: قرأ علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية ثم قال: قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها. 

  • و فيه‌ في قوله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ} يعني عند الموت عن مجاهد و السدي و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام).

  • و في تفسير القمي‌ في قوله تعالى‌: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} قال: كنا نحرسكم من الشياطين {وَ فِي اَلْآخِرَةِ} أي عند الموت. 

  • و في المجمع في الآية قيل: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} أي نحرسكم في الدنيا و عند الموت في الآخرة. 

  • و في تفسير القمي‌ في قوله تعالى‌: {اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال: ادفع سيئة من أساء إليك بحسنتك حتى يكون الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم.

  • [سورة فصلت (٤١): الآیات ٤٠الی ٥٤ ]

  • {إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَ فَمَنْ يُلْقىَ فِي اَلنَّارِ 

تفسير الميزان ج۱۷

395
  • {خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٤٠إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ٤١ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ٤٢ مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ٤٣ وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْ لاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفَاءٌ وَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ٤٤ وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ٤٥ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَ مَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ٤٦ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ مَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى‌ وَ لاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ٤٧ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ٤٨ لاَ يَسْأَمُ اَلْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ اَلْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ ٤٩ 

تفسير الميزان ج۱۷

396
  • وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‌ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى‌ فَلَنُنَبِّئَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ٥٠وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأى‌ بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ٥١ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ٥٢ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اَلْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ ٥٣ أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ مُحِيطٌ ٥٤} 

  • (بيان) 

  • عودة أخرى إلى حديث القرآن و كفرهم به على ظهور آيته و رفعة درجته و ما فرطوا في جنبه و رميهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و جحدهم الحق و كفرهم بالآيات و ما يتبع ذلك، و تختتم السورة. 

  • و الآية الأولى أعني قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} (الآية) كالبرزخ الرابط بين هذا الفصل و الفصل السابق من الآيات لما وقعت بين قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} (الآية) و بين قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا اَلْقُرْآنِ} (الآية) و قوله: {وَ مِنْ آيَاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ} إلخ. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} إلخ سياق تهديد 

تفسير الميزان ج۱۷

397
  • لملحدي هذه الأمة كما يؤيده الآية التالية، و الإلحاد الميل. 

  • و إطلاق قوله: {يُلْحِدُونَ} و قوله: {آيَاتِنَا} يشمل كل إلحاد في كل آية فيشمل الإلحاد في الآيات التكوينية كالشمس و القمر و غيرهما فيعدونها آيات لله سبحانه ثم يعودون فيعبدونها، و يشمل آيات الوحي و النبوة فيعدون القرآن افتراء على الله و تقولا من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو يلغون فيه لتختل تلاوته فلا يسمعه سامع أو يفسرونه من عند أنفسهم أو يؤولونه ابتغاء الفتنة فكل ذلك إلحاد في آيات الله بوضعها في غير موضعها و الميل بها إلى غير مستقرها. 

  • و قوله: {أَ فَمَنْ يُلْقى‌ فِي اَلنَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} إيذان بالجزاء و هو الإلقاء في النار يوم القيامة قسرا من غير أي مؤمن متوقع كشفيع أو ناصر أو عذر مسموع فليس لهم إلا النار يلقون فيها، و الظاهر أن قوله {أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} لإبانة أنهما قبيلان لا ثالث لهما فمستقيم في الإيمان بالآيات و ملحد فيها و يظهر به أن أهل الاستقامة في أمن يوم القيامة. 

  • و قوله: {اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تشديد في التهديد. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} - إلى قوله - {مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} المراد بالذكر القرآن لما فيه من ذكر الله، و تقييد الجملة بقوله: {لَمَّا جَاءَهُمْ} يدل على أن المراد بالذين كفروا هم مشركو العرب المعاصرين للقرآن من قريش و غيرهم. 

  • و قد اختلفوا في خبر {إِنَّ} و يمكن أن يستظهر من السياق أنه محذوف يدل عليه قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} إلخ فإن الكفر بالقرآن من مصاديق الإلحاد في آيات الله فالتقدير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يلقون في النار يوم القيامة، و إنما حذف ليذهب فيه وهم السامع أي مذهب ممكن و الكلام مسوق للوعيد. 

  • و إلى هذا المعنى يرجع قول الزمخشري في الكشاف:‌ إن قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ بدل من قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا}

  • و قيل: خبر إن قوله الآتي: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}، و قيل: الخبر قوله: {لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ} بحذف ضمير عائد إلى اسم إن 

تفسير الميزان ج۱۷

398
  • و التقدير لا يأتيه منهم أي لا يأتيه من قبلهم ما يبطله و لا يقدرون على ذلك أو بجعل أل في الباطل عوضا من الضمير و المعنى لا يأتيه باطلهم. 

  • و قيل: إن قوله: {وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} إلخ قائم مقام الخبر، و التقدير إن الذين كفروا بالذكر كفروا به و إنه لكتاب عزيز. 

  • و قيل: الخبر قوله: {مَا يُقَالُ لَكَ} إلخ بحذف الضمير و هو «فيهم» و المعنى ما يقال لك في الذين كفروا بالذكر إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن لهم عذاب الاستئصال في الدنيا و عذاب النار في الآخرة، و وجوه التكلف في هذه الوجوه غير خفية على المتأمل البصير. 

  • و قوله: {وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} الضمير للذكر و هو القرآن، و العزيز عديم النظير أو المنيع الممتنع من أن يغلب، و المعنى الثاني أنسب لما يتعقبه من قوله: {لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ}

  • و قوله: {لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ} إتيان الباطل إليه وروده فيه و صيرورة بعض أجزائه أو جميعها باطلا بأن يصير ما فيه من المعارف الحقة أو بعضها غير حقة أو ما فيه من الأحكام و الشرائع و ما يلحقها من الأخلاق أو بعضها لغا لا ينبغي العمل به. 

  • و عليه فالمراد بقوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ} زمانا الحال و الاستقبال أي زمان النزول و ما بعده إلى يوم القيامة، و قيل: المراد بما بين يديه و من خلفه جميع الجهات كالصباح و المساء كناية عن الزمان كله فهو مصون من البطلان من جميع الجهات و هذا العموم على الوجه الأول مستفاد من إطلاق النفي في قوله: {لاَ يَأْتِيهِ}

  • و المدلول على أي حال أنه لا تناقض في بياناته، و لا كذب في إخباره، و لا بطلان يتطرق إلى معارفه و حكمه و شرائعه، و لا يعارض و لا يغير بإدخال ما ليس منه فيه أو بتحريف آية من وجه إلى وجه. 

  • فالآية تجري مجرى قوله‌{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر: ٩. 

  • و قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} بمنزلة التعليل لكونه كتابا عزيزا لا يأتيه ـ 

تفسير الميزان ج۱۷

399
  • الباطل «إلخ» أي كيف لا يكون كذلك و هو منزل من حكيم متقن في فعله لا يشوب فعله وهن، محمود على الإطلاق. 

  • قوله تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} إلخ {مَا} في {مَا يُقَالُ لَكَ} نافية، و القائلون هم الذين كفروا حيث قالوا: إنه ساحر أو مجنون أو شاعر لاغ في كلامه أو يريد أن يتأمر علينا، و القائلون لما قد قيل للرسل أممهم. 

  • و المعنى: ما يقال لك من قبل كفار قومك حيث أرسلت إليهم فدعوتهم فرموك بما رموك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي مثل ما قد قيل لهم. 

  • و قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} في موضع التهديد و الوعيد أي إن ربك ذو هاتين الصفتين أي فانظر أو فلينظروا ما ذا يصيبهم من ربهم و هم يقولون ما يقولونه لرسوله؟ أ هو مغفرة أم عقاب؟ فالآية في معنى قوله: {اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي ما عملتم من حسنة أو سيئة أصابكم جزاؤه بعينه. 

  • و قيل: المعنى ما يوحى إليك في أمر هؤلاء الذين كفروا بالذكر إلا ما قد أوحي للرسل من قبلك و هو أن ربك لذو مغفرة و ذو عقاب أليم فالمراد بالقول الوحي، و {إِنَّ رَبَّكَ} إلخ بيان لما قد قيل. 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْ لاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ} قال الراغب:‌ العجمة خلاف الإبانة. قال: و العجم‌ خلاف العرب و العجمي‌ منسوب إليهم، و الأعجم‌ من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم. انتهى. فالأعجمي غير العربي البليغ سواء كان من غير أهل اللغة العربية أو كان منهم و هو غير مفصح للكنة في لسانه، و إطلاق الأعجمي على الكلام كإطلاق العربي من المجاز. 

  • فالمعنى: و لو جعلنا القرآن أعجميا غير مبين لمقاصده غير بليغ في نظمه لقال الذين كفروا من قومك: هلا فصلت و بينت آياته و أجزاؤه فانفصلت و بانت بعضها من بعض بالعربية و البلاغة أ كتاب مرسل أعجمي و مرسل إليه عربي؟ أي يتنافيان و لا يتناسبان. 

تفسير الميزان ج۱۷

400
  • و إنما قال: {عَرَبِيٌّ} و لم يقل: عربيون أو عربية مع كون من أرسل إليه جمعا و هم جماعة العرب، إذ القصد إلى مجرد العربية من دون خصوصية للكثرة بل المراد بيان التنافي بين الكلام و بين المخاطب به لا بيان كون المخاطب واحدا أو كثيرا. 

  • قال في الكشاف:‌ فإن قلت: كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم و هم أمة العرب؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابا عجميا كتب إلى قوم من العرب يقول: كتاب أعجمي و مكتوب إليه عربي و ذلك لأن مبني الإنكار على تنافر حالتي الكتاب و المكتوب إليه لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة فوجب أن يجرد لما سيق إليه من الغرض و لا يوصل به ما يخل غرضا آخر أ لا تراك تقول و قد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة: اللباس طويل و اللابس قصير و لو قلت و اللابس قصيرة جئت بما هو لكنة و فضول قول لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس و أنوثته إنما وقع في غرض وراءهما. 

  • و قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفَاءٌ} بيان أن أثر القرآن و خاصته لا يدور مدار لغته بل الناس تجاهه صنفان و هم الذين آمنوا و الذين لا يؤمنون، و هو هدى و شفاء للذين آمنوا يهديهم إلى الحق و يشفي ما في قلوبهم من مرض الشك و الريب. و هو عمى على الذين لا يؤمنون - و هم الذين في آذانهم وقر - يعميهم فلا يبصرون الحق و سبيل الرشاد. 

  • و في توصيف الذين لا يؤمنون بأن في آذانهم وقرا إيماء إلى اعترافهم بذلك المنقول عنهم في أول السورة: {وَ فِي آذَانِنَا وَقْرٌ}

  • و قوله: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي فلا يسمعون الصوت و لا يرون الشخص و هو تمثيل لحالهم حيث لا يقبلون العظة و لا يعقلون الحجة. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} إلخ تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن جحود قومه و كفرهم بكتابه. 

  • و قوله: {وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} الكلمة هي قوله{وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‌ حِينٍ} الأعراف: ٢٤. 

  • و قوله: {وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي في شك مريب من كتاب موسى (عليه السلام). بيان حال قومه ليتسلى به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما يرى من قومه. 

تفسير الميزان ج۱۷

401
  •  قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} إلخ أي إن العمل قائم بصاحبه ناعت له فلو كان صالحا نافعا انتفعت به نفسه و إن كان سيئا ضارا تضررت به نفسه فليس في إيصاله تعالى نفع العمل الصالح إلى صاحبه و هو الثواب و لا في إيصال ضرر العمل السيئ إلى صاحبه و هو العقاب ظلم و وضع للشي‌ء في غير موضعه. 

  • و لو كان ذلك ظلما كان تعالى في إثابته و تعذيبه من لا يحصى من العباد في ما لا يحصى من الأعمال ظلاما للعبيد لكنه ليس بظلم و لا أنه تعالى ظلام لعبيده و بذلك يظهر وجه التعبير باسم المبالغة في قوله: {وَ مَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} و لم يقل: و ما ربك بظالم. 

  • قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ} - إلى قوله - {إِلاَّ بِعِلْمِهِ} ارتداد علم الساعة إليه اختصاصه به فلا يعلمها إلا هو، و قد تكرر ذلك في كلامه تعالى. 

  • و قوله: {وَ مَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} {ثَمَرَاتٍ} فاعل {تَخْرُجُ} و {مِنْ} زائدة للتأكيد كقوله: ‌{وَ كَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً} النساء: ٧٩، و أكمام‌ جمع كم و هو وعاء الثمرة و {مَا} مبتدأ خبره {إِلاَّ بِعِلْمِهِ} و المعنى و ليس تخرج ثمرات من أوعيتها و لا تحمل أنثى و لا تضع حملها إلا مصاحبا لعلمه أي هو تعالى يعلم جزئيات حالات كل شي‌ء. 

  • فهو تعالى على كونه خالقا للأشياء محولا لأحوالها عالم بها و بجزئيات حالاتها مراقب لها، و هذا هو أحسن التدبير فهو الرب وحده، ففي الآية إشارة إلى توحده تعالى في الربوبية و الألوهية، و لذا ذيل هذا الصدر بقوله: {وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} إلخ. 

  • قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} - إلى قوله - {مِنْ مَحِيصٍ} الظرف متعلق بقوله: {قَالُوا} و قيل: ظرف لمضمر مؤخر قد ترك إيذانا بقصور البيان عنه كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ}، و قيل: متعلق بمحذوف نحو اذكر، و لعل الوجه الأول أنسب لصدر الآية بالمعنى الذي ذكرناه فتكون الآية مسوقة لنفي الشركاء ببيان قيام التدبير به تعالى و اعتراف المشركين بذلك يوم القيامة. 

  • و الإيذان‌ الاعلام، و المراد بالشهادة الشهادة القولية أو الشهادة بمعنى الرؤية الحضورية و على الثاني فقوله: {وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} عطف تفسير يبين به سبب انتفاء الشهادة. 

تفسير الميزان ج۱۷

402
  • و قوله: {وَ ظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} الظن - على ما قيل - بمعنى اليقين، و المحيص‌ المهرب و المفر، و المعنى: و يوم ينادي الله المشركين: أين شركائي؟ - على زعمكم - قالوا: أعلمناك ما منا من يشهد عليك بالشركاء أو ما منا من يشاهد الشركاء و غاب عنهم ما كانوا يدعون من دون الله في الدنيا، و أيقنوا أن ليس لهم مهرب من العذاب. 

  • قوله تعالى: {لاَ يَسْأَمُ اَلْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ اَلْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ} السأمة الملال، و اليأس و القنوط بمعنى و هو انقطاع الرجاء، و الدعاء الطلب. 

  • شروع في ختم الكلام في السورة ببيان ما هو السبب في جحودهم و دفعهم الحق الصريح، و هو أن الإنسان مغتر بنفسه فإذا مسه شر يعجز عن دفعه يئس من الخير و تعلق بذيل الدعاء و المسألة و توجه إلى ربه، و إذا مسه خير اشتغل به و أعجب بنفسه و أنساه ذلك كل حق و حقيقة. 

  • و المعنى: لا يمل الإنسان من طلب الخير و هو ما يراه نافعا لحياته و معيشته و إن مسه الشر فكثير اليأس و القنوط لما يرى من سقوط الأسباب التي كان يستند إليها، و هذا لا ينافي تعلق رجائه إذ ذاك بالله سبحانه كما سيأتي. 

  • قوله تعالى: {وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} إلخ الأصل بالنظر إلى مضمون الآية السابقة أن يقال: و إن ذاق خيرا قال: هذا لي لكن بدل ذاق من {أَذَقْنَاهُ} و خيرا» من قوله: {رَحْمَةً مِنَّا} ليدل على أن الخير الذي ذاقه هو رحمة من الله أذاقه إياها و ليس بمصيبة برأسه و لا هو يملكه و لو كان يملكه لم ينفك عنه و لم يمسسه الضراء، و لذا قيد قوله: {وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ} إلخ بقوله: {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ}

  • و قوله: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أي أنا أملكه فلي أن أفعل فيه ما أشاء و أتصرف فيه كيف أريد، فليس لأحد أن يمنعني من شي‌ء منه أو يحاسبني على فعل، و لهذا المعنى عقبه بقوله: {وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً} فإن الساعة هي يوم الحساب. 

  • و قوله: {وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلىَ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنىَ} أي للمثوبة الحسنى أو للعاقبة الحسنى، و هذا مبني على ما يراه لنفسه من الكرامة و استحقاق الخير كأنه يقول: ما ملكته من الخير لو كان من الله فإنما هو لكرامة نفسي عليه و على هذا فإن قامت الساعة و رجعت إلى ربي كانت لي عنده العاقبة الحسنى. 

تفسير الميزان ج۱۷

403
  • فالمعنى: و أقسم لئن أذقنا الإنسان رحمة هي منا و لا يستحقها و لا يملكها فأذقناها من بعد ضراء مسته و ذلك يدله على أنه لا يملك ما أذيقه نسي ما كان من قبل و قال: هذا لي يشير إلى شخص النعمة و لا يسميها رحمة و ليس لأحد أن يمنعني عما أفعل فيه و يحاسبني عليه و ما أظن الساعة - و هي يوم الحساب - قائمة، و أقسم لئن رجعت إلى ربي و قامت ساعة كانت لي عنده العاقبة الحسنى لكرامتي عليه كما أنعم علي من النعمة. 

  • و الآية نظيرة قوله في قصة صاحب الجنة{مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى‌ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} الكهف: ٣٦. و قد تقدم بعض الكلام فيه. 

  • و قوله: {فَلَنُنَبِّئَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} تهديد و وعيد. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأى‌ بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} النأي‌ الابتعاد، و المراد بالجانب الجارحة و هي الجنب أو المراد الجهة و المكان فقوله: {نَأى‌ بِجَانِبِهِ} كناية عن الابتعاد بنفسه و هو كناية عن التكبر و الخيلاء، و المراد بالعريض الوسيع، و الدعاء العريض كالدعاء الطويل كناية عما استمر و أصر عليه الداعي، و الآية في مقام ذم الإنسان و توبيخه أنه إذا أنعم الله عليه أعرض عنه و تكبر و إذا سلب النعمة ذكر الله و أقبل عليه بالدعاء مستمرا مصرا. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} {أَ رَأَيْتُمْ} أي أخبروني، و الشقاق و المشاقة الخلاف، و الشقاق البعيد الخلاف الذي لا يقارب الوفاق و هو شديدة، و قوله: {مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} كناية عن المشركين و لم يقل: منكم بل أتى بالموصول و الصلة و ذلك في معنى الصفة ليدل على علة الحكم و هو الشقاق البعيد من الحق. 

  • و المعنى: قل للمشركين أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله ثم كفرتم به من أضل منكم؟ أي لا أضل منكم لأنكم في خلاف بعيد من حق ما فوقه حق. 

  • فمفاد الآية أن القرآن يدعوكم إلى الله ناطقا بأنه من عند الله فلا أقل من احتمال صدقه في دعواه و هذا يكفي في وجوب النظر في أمره دفعا للضرر المحتمل و أي ضرر أقوى من الهلاك الأبدي فلا معنى لإعراضكم عنه بالكلية. ـ 

تفسير الميزان ج۱۷

404
  • قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اَلْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ} إلخ، الآفاق‌ جمع أفق و هو الناحية، و الشهيد بمعنى الشاهد أو بمعنى المشهود و هو المناسب لسياق الآية. 

  • و ضمير {أَنَّهُ} للقرآن على ما يعطيه سياق الآية و يؤيده الآية السابقة التي تذكر كفرهم بالقرآن، و على هذا فالآية تعد إراءة آيات في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين بها كون القرآن حقا، و الآيات التي شأنها إثبات حقية القرآن هي الحوادث و المواعيد التي أخبر القرآن أنها ستقع كإخباره بأن الله سينصر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين و يمكن لهم في الأرض و يظهر دينهم على الدين كله و ينتقم من مشركي قريش إلى غير ذلك. 

  • فأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالهجرة إلى المدينة و قد اشتد الأمر عليه و على من آمن به غايتها فلا سماء تظلهم و لا أرض تقلهم ثم قتل صناديد قريش في بدر و لم يزل يرفع ذكره و يفتح على يديه حتى فتح مكة و دانت له جزيرة العرب ثم فتح بعد رحلته للمسلمين معظم المعمورة فأرى سبحانه المشركين آياته في الآفاق و هي النواحي التي فتحها للمسلمين و نشر فيها دينهم، و في أنفسهم و هو قتلهم الذريع في بدر. 

  • و ليست هذه آيات في أنفسها فكم من فتح و غلبة يذكره التاريخ و مقاتل ذريعة يقصها لكنها آيات بما أن الله سبحانه وعد بها و القرآن الكريم أخبر بها قبل وقوعها ثم وقعت على ما أخبر بها. 

  • و يمكن أن يكون المراد بإراءة الآيات و تبين الحق بذلك ما يستفاد من آيات أخرى أن الله سيظهر دينه بتمام معنى الظهور على الدين كله فلا يعبد على الأرض إلا الله وحده و تظل السعادة على النوع الإنساني و هي الغاية لخلقتهم، و قد تقدم استفادة ذلك من قوله تعالى: ‌{وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ} (الآية) النور: ٥٥ و غيره و أيدناه بالدليل العقلي. 

  • و الفرق بين الوجهين أن وجه الكلام على الأول إلى مشركي مكة و من يتبعهم خاصة و على الثاني إلى مشركي الأمة عامة و الخطاب على أي حال اجتماعي، و يمكن الجمع بين الوجهين. 

  • و يمكن أن يكون المراد ما يشاهده الإنسان في آخر لحظة من لحظات حياته الدنيا حيث تطير عنه الأوهام و تضل عنه الدعاوي و تبطل الأسباب و لا يبقى إلا الله عز اسمه 

تفسير الميزان ج۱۷

405
  • و يؤيده ذيل الآية و الآية التالية، و ضمير {أَنَّهُ اَلْحَقُّ} على هذا لله سبحانه. 

  • و لهم في الآية أقوال أخرى أغمضنا عن إيرادها. 

  • و قوله: {أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ} فاعل {لَمْ يَكْفِ} هو {بِرَبِّكَ} و الباء زائدة، و {أَنَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ} بدل من الفاعل، و الاستفهام للإنكار، و المعنى أ و لم يكف في تبين الحق كون ربك مشهودا على كل شي‌ء إذ ما من شي‌ء إلا و هو فقير من جميع جهاته إليه متعلق به و هو تعالى قائم به قاهر فوقه فهو تعالى معلوم لكل شي‌ء و إن لم يعرفه بعض الأشياء. 

  • و اتصال الجملة أعني قوله: {أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} إلخ بقوله: {سَنُرِيهِمْ} إلخ على الوجه الأخير من الوجوه الثلاثة الماضية ظاهر، و أما على الوجهين الأولين فلعل الوجه فيه أن المشركين إنما كفروا بالقرآن لدعوته إلى التوحيد فانتقل من الدلالة على حقية القرآن للدلالة على حقية ما يدعو إليه إلى الدلالة على حقية ما يدعو إليه مستقيما من غير واسطة كأنه قيل: سنريهم آياتنا ليتبين لهم أن القرآن الذي يخبرهم بها حق فيتبين أن ربك واحد لا شريك له ثم قيل: و هذا طريق بعيد هناك ما هو أقرب منه أ و لم يكفهم أن ربك مشهود على كل شي‌ء؟ 

  • قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} إلخ الذي يفيده السياق أن في الآية تنبيها على أنهم لا ينتفعون بالاحتجاج على وحدانيته تعالى بكونه شهيدا على كل شي‌ء و هو أقوى براهين التوحيد و أوضحها لمن تعقل لأنهم في مرية و شك من لقاء ربهم و هو كونه تعالى غير محجوب بصفاته و أفعاله عن شي‌ء من خلقه. 

  • ثم نبه بقوله: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ مُحِيطٌ} على ما ترتفع به هذه المرية و تنبت من أصلها و هو إحاطته تعالى بكل شي‌ء على ما يليق بساحة قدسه و كبريائه فلا يخلو عنه مكان و ليس في مكان و لا يفقده شي‌ء و ليس في شي‌ء. 

  • و للمفسرين في الآية أقوال لو راجعتها لرأيت عجبا. 

  • (بحث روائي)

  • في الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن عكرمة في قوله: {أَ فَمَنْ يُلْقىَ فِي اَلنَّارِ 

تفسير الميزان ج۱۷

406
  • خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} نزلت في عمار بن ياسر و في أبي جهل. 

  • أقول: و رواه أيضا عن عدة من الكتب عن بشر بن تميم، و روي أيضا عن ابن مردويه عن ابن عباس: {أَ فَمَنْ يُلْقىَ فِي اَلنَّارِ} قال: أبو جهل بن هشام، و {أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} قال: أبو بكر الصديق، و الروايات من التطبيق. 

  • و في تفسير القمي‌ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} يعني القرآن {لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} قال: لا يأتيه الباطل من قبل التوراة و لا من قبل الإنجيل و الزبور {وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ} قال: لا يأتيه من بعده كتاب يبطله.

  • و في المجمع، في الآية قيل فيه أقوال إلى أن قال و ثالثها معناه:أنه ليس في إخباره عما مضى باطل و لا في إخباره عما يكون في المستقبل باطل بل أخباره كلها موافقة لمخبراتها:‌ و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام).

  • و في تفسير القمي‌ في قوله تعالى‌: {أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ} قال: لو كان هذا القرآن أعجميا لقالوا: كيف نتعلمه و لساننا عربي و أتيتنا بقرآن أعجمي فأحب الله أن ينزله بلسانهم و قد قال الله عز و جل: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}

  • و في روضة الكافي، بإسناده عن الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اَلْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ} قال خسف و مسخ و قذف. قال: قلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} قال: دع ذا ذاك قيام القائم.

  • و في إرشاد المفيد، عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في الآية قال: الفتن في آفاق الأرض و المسخ في أعداء الحق. و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال: يريهم في أنفسهم المسخ، و يريهم في الآفاق انتقاض الآفاق عليهم فيرون قدرة الله عز و جل في أنفسهم و في الآفاق. قلت له: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ}؟ قال: خروج القائم هو الحق عند الله عز و جل يراه الخلق.

  • تم و الحمد لله. 

تفسير الميزان ج۱۷

407
  • فهرس بعض المواضيع المبحوث عنها في هذا الجزء