1

تفسير الميزان ج1

تفسير الميزان ج1 54229
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة الطباطبائي

القسم القرآن والحديث والدعاء

المجموعة الميزان في تفسير القرآن


التوضيح

الجزء الأول من تفسير الميزان، وهو يحتوي على مقدمة الكتاب التي أوضح فيها المؤلف منهجه في التفسير، و تفسير سورة الفاتحة، و سورة البقرة إلى الآية 182 منها

/٤٤۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

تفسير الميزان ج۱

1

تفسير الميزان ج۱

2
  •  

  •  

  • الميزان في تفسير القرآن 

  • الجزء الأول‌

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تأليف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

  •  

  •  

تفسير الميزان ج۱

3
  •  

تفسير الميزان ج۱

4
  •  

  •  

  • المقدمة [في مسلك البحث التفسيري في الكتاب] 

  •  

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  •  

  • الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا و الصلاة على من جعله شاهدا و مبشرا و نذيرا و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا و على آله الذين أذهب عنهم الرجس أهل البيت و طهرهم تطهيرا.

  • مقدمة: نعرف فيها مسلك البحث عن معاني آيات القرآن الكريم في هذا الكتاب بطريق الاختصار.

  • التفسير (و هو بيان معاني الآيات القرآنية و الكشف عن مقاصدها و مداليلها) من أقدم الاشتغالات العلمية التي تعهد من المسلمين، فقد شرع تاريخ هذا النوع من البحث و التنقير المسمى بالتفسير من عصر نزول القرآن كما يظهر من قوله تعالى و تقدس: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ} (الآية) البقرة - ١٥١.

  • و قد كانت الطبقة الأولى من مفسري المسلمين جماعة من الصحابة و المراد بهم غير علي (علیه السلام)، فإن له و للأئمة من ولده نبأ آخر سنتعرض له كابن عباس و عبد الله بن عمر و أُبي و غيرهم اعتنوا بهذا الشأن، و كان البحث يومئذ لا يتجاوز عن بيان ما يرتبط، من الآيات بجهاتها الأدبية و شأن النزول و قليل من الاستدلال بآية على آية و كذلك قليل من التفسير بالروايات المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في القصص و معارف المبدأ و المعاد و غيرها.

  • و على هذا الوصف جرى الحال بين المفسرين من التابعين كمجاهد و قتادة و ابن أبي ليلى و الشعبي و السدي و غيرهم في القرنين الأولين من الهجرة، فإنهم لم يزيدوا على طريقة سلفهم من مفسري الصحابة شيئا غير أنهم زادوا من التفسير بالروايات، (و بينها روايات دسها اليهود أو غيرهم)، فأوردوها في القصص و المعارف الراجعة إلى 

تفسير الميزان ج۱

5
  •  

  • الخلقة كابتداء السماوات و تكوين الأرض و البحار و إرم شداد و عثرات الأنبياء و تحريف الكتاب و أشياء أخر من هذا النوع، و قد كان يوجد بعض ذلك في المأثور عن الصحابة من التفسير و البحث.

  • ثم استوجب شيوع البحث الكلامي بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في زمن الخلفاء باختلاط المسلمين بالفرق المختلفة من أمم البلاد المفتوحة بيد المسلمين و علماء الأديان و المذاهب المتفرقة من جهة.

  • و نقل فلسفة يونان إلى العربية في السلطنة الأموية أواخر القرن الأول من الهجرة، ثم في عهد العباسيين، و انتشار البحث العقلي الفلسفي بين الباحثين من المسلمين من جهة أخرى ثانية.

  • و ظهور التصوف مقارنا لانتشار البحث الفلسفي و تمايل الناس إلى نيل المعارف الدينية من طريق المجاهدة و الرياضة النفسانية دون البحث اللفظي و العقلي من جهة أخرى ثالثة.

  • و بقاء جمع من الناس و هم أهل الحديث على التعبد المحض بالظواهر الدينية من غير بحث إلا عن اللفظ بجهاتها الأدبية من جهة أخرى رابعة.

  • أن اختلف الباحثون في التفسير في مسالكهم بعد ما عمل فيهم الانشعاب في المذاهب ما عمل، و لم يبق بينهم جامع في الرأي و النظر إلا لفظ لا إله إلا الله و محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و اختلفوا في معنى الأسماء و الصفات و الأفعال و السماوات و ما فيها و الأرض و ما عليها و القضاء و القدر و الجبر و التفويض و الثواب و العقاب و في الموت و في البرزخ و البعث و الجنة و النار، و بالجملة في جميع ما تمسه الحقائق و المعارف الدينية و لو بعض المس، فتفرقوا في طريق البحث عن معاني الآيات، و كل يتحفظ على متن ما اتخذه من المذهب و الطريقة.

  • فأما المحدثون، فاقتصروا على التفسير بالرواية عن السلف من الصحابة و التابعين فساروا و جدوا في السير حيث ما يسير بهم المأثور و وقفوا فيما لم يؤثر فيه شي‌ء و لم يظهر المعنى ظهورا لا يحتاج إلى البحث أخذا بقوله تعالى: {وَ اَلرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (الآية) آل عمران - ٧ و قد أخطئوا في ذلك فإن الله سبحانه 

تفسير الميزان ج۱

6
  •  

  • لم يبطل حجة العقل في كتابه، و كيف يعقل ذلك و حجيته إنما تثبت به! و لم يجعل حجية في أقوال الصحابة و التابعين و أنظارهم على اختلافها الفاحش، و لم يدع إلى السفسطة بتسليم المتناقضات و المتنافيات من الأقوال، و لم يندب إلا إلى التدبر في آياته، فرفع به أي اختلاف يتراءى منها، و جعله هدى و نورا و تبيانا لكل شي‌ء، فما بال النور يستنير بنور غيره! و ما شأن الهدى يهتدي بهداية سواه! و كيف يتبين ما هو تبيان كل شي‌ء بشي‌ء دون نفسه!

  • و أما المتكلمون فقد دعاهم الأقوال المذهبية على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم بأخذ ما وافق و تأويل ما خالف على حسب ما يجوزه قول المذهب.

  • و اختيار المذاهب الخاصة و اتخاذ المسالك و الآراء المخصوصة و إن كان معلولا لاختلاف الأنظار العلمية أو لشي‌ء آخر كالتقاليد و العصبيات القومية، و ليس هاهنا محل الاشتغال بذلك، إلا أن هذا الطريق من البحث أحرى به أن يسمى تطبيقا لا تفسيرا.

  • ففرق بين أن يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ما ذا يقول القرآن؟ أو يقول: ما ذا يجب أن نحمل عليه الآية؟ فإن القول الأول يوجب أن ينسى كل أمر نظري عند البحث، و أن يتكي على ما ليس بنظري، و الثاني يوجب وضع النظريات في المسألة و تسليمها و بناء البحث عليها، و من المعلوم أن هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثا عن معناه في نفسه.

  • و أما الفلاسفة، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين من الوقوع في ورطة التطبيق و تأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعم أعني: الرياضيات و الطبيعيات و الإلهيات و الحكمة العملية، و خاصة المشائين، و قد تأولوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة و آيات الخلقة و حدوث السماوات و الأرض و آيات البرزخ و آيات المعاد، حتى أنهم ارتكبوا التأويل في الآيات التي لا تلائم الفرضيات و الأصول الموضوعة التي نجدها في العلم الطبيعي: من نظام الأفلاك الكلية و الجزئية و ترتيب العناصر و الأحكام الفلكية و العنصرية إلى غير ذلك، مع أنهم نصوا 

تفسير الميزان ج۱

7
  •  

  • على أن هذه الأنظار مبتنية على أصول موضوعة لا بينة و لا مبينة.

  • و أما المتصوفة، فإنهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة و اعتنائهم بشأن الآيات الأنفسية دون عالم الظاهر و آياته الآفاقية اقتصروا في بحثهم على التأويل، و رفضوا التنزيل، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل، و تلفيق جمل شعرية و الاستدلال من كل شي‌ء على كل شي‌ء، حتى آل الأمر إلى تفسير الآيات بحساب الجمل و رد الكلمات إلى الزبر و البينات و الحروف النورانية و الظلمانية إلى غير ذلك.

  • و من الواضح أن القرآن لم ينزل هدى للمتصوفة خاصة، و لا أن المخاطبين به هم أصحاب علم الأعداد و الأوفاق و الحروف، و لا أن معارفه مبنية على أساس حساب الجمل الذي وضعه أهل التنجيم بعد نقل النجوم من اليونانية و غيرها إلى العربية.

  • نعم قد وردت روايات‌ عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (علیهم السلام) كقولهم: إن للقرآن ظهرا و بطنا و لبطنه بطنا إلى سبعة أبطن أو إلى سبعين بطنا (الحديث).

  • لكنهم (علیهم السلام) اعتبروا الظهر كما اعتبروا البطن، و اعتنوا بأمر التنزيل كما اعتنوا بشأن التأويل، و سنبين في أوائل سورة آل عمران إن شاء الله: أن التأويل الذي يراد به المعنى المقصود الذي يخالف ظاهر الكلام من اللغات المستحدثة في لسان المسلمين بعد نزول القرآن و انتشار الإسلام، و أن الذي يريده القرآن من لفظ التأويل فيما ورد فيه من الآيات ليس من قبيل المعنى و المفهوم.

  • و قد نشأ في هذه الأعصار مسلك جديد في التفسير و ذلك أن قوما من منتحلي الإسلام في إثر توغلهم في العلوم الطبيعية و ما يشابهها المبتنية على الحس و التجربة، و الاجتماعية المبتنية على تجربة الإحصاء، مالوا إلى مذهب الحسيين من فلاسفة الأروبة سابقا، أو إلى مذهب أصالة العمل (لا قيمة للإدراكات إلا ترتب العمل عليها بمقدار يعينه الحاجة الحيوية بحكم الجبر).

  • فذكروا: أن المعارف الدينية لا يمكن أن تخالف الطريق الذي تصدقه العلوم و هو أن: (لا أصالة في الوجود إلا للمادة و خواصها المحسوسة) فما كان الدين يخبر عن وجوده مما يكذب العلوم ظاهره كالعرش و الكرسي و اللوح و القلم يجب أن يؤول تأويلا.

تفسير الميزان ج۱

8
  •  

  • و ما يخبر عن وجوده مما لا تتعرض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجه بالقوانين المادية.

  • و ما يتكي عليه التشريع من الوحي و الملك و الشيطان و النبوة و الرسالة و الإمامة و غير ذلك، إنما هي أمور روحية، و الروح مادية و نوع من الخواص المادية، و التشريع نبوغ خاص اجتماعي يبنى قوانينه على الأفكار الصالحة، لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي.

  • ذكروا: أن الروايات، لوجود الخليط فيها لا تصلح للاعتماد عليها، إلا ما وافق الكتاب، و أما الكتاب فلا يجوز أن يبنى في تفسيره على الآراء و المذاهب السابقة المبتنية على الاستدلال من طريق العقل الذي أبطله العلم بالبناء على الحسن و التجربة، بل الواجب أن يستقل بما يعطيه القرآن من التفسير إلا ما بينه العلم.

  • هذه جمل ما ذكروه أو يستلزمه ما ذكروه، من اتباع طريق الحس و التجربة، فساقهم ذلك إلى هذا الطريق من التفسير، و لا كلام لنا هاهنا في أصولهم العلمية و الفلسفية التي اتخذوها أصولا و بنوا عليها ما بنوا.

  • و إنما الكلام في أن ما أوردوه على مسالك السلف من المفسرين (أن ذلك تطبيق و ليس بتفسير) وارد بعينه على طريقتهم في التفسير، و إن صرحوا أنه حق التفسير الذي يفسر به القرآن بالقرآن.

  • و لو كانوا لم يحملوا على القرآن في تحصيل معاني آياته شيئا، فما بالهم يأخذون الأنظار العلمية مسلمة لا يجوز التعدي عنها؟ فهم لم يزيدوا على ما أفسده السلف إصلاحا.

  • و أنت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد: أن الجميع مشتركة في نقص و بئس النقص، و هو تحميل ما أنتجه الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات، فتبدل به التفسير تطبيقا و سمي به التطبيق تفسيرا، و صارت بذلك حقائق من القرآن مجازات، و تنزيل عدة من الآيات تأويلات.

  • و لازم ذلك (كما أومأنا إليه في أوائل الكلام) أن يكون القرآن الذي يعرف 

تفسير الميزان ج۱

9
  •  

  • نفسه {بأنه هدى للعالمين و نور مبين و تبيان لكل شي‌ء} مهديا إليه بغيره و مستنيرا بغيره و مبينا بغيره، فما هذا الغير! و ما شأنه! و بما ذا يهدي إليه! و ما هو المرجع و الملجأ إذا اختلف فيه! و قد اختلف و اشتد الخلاف.

  • و كيف كان فهذا الاختلاف لم يولده اختلاف النظر في مفهوم (مفهوم اللفظ المفرد أو الجملة بحسب اللغة و العرف العربي) الكلمات أو الآيات، فإنما هو كلام عربي مبين لا يتوقف في فهمه عربي و لا غيره ممن هو عارف باللغة و أساليب الكلام العربي.

  • و ليس بين آيات القرآن (و هي بضع آلاف آية) آية واحدة ذات إغلاق و تعقيد في مفهومها بحيث يتحير الذهن في فهم معناها، و كيف! و هو أفصح الكلام و من شرط الفصاحة خلو الكلام عن الإغلاق و التعقيد، حتى أن الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة و غيرها، في غاية الوضوح من جهة المفهوم، و إنما التشابه في المراد منها و هو ظاهر.

  • و إنما الاختلاف كل الاختلاف في المصداق الذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظية من مفردها و مركبها، و في المدلول التصوري و التصديقي.

  • توضيحه: أن الأنس و العادة (كما قيل) يوجبان لنا أن يسبق إلى أذهاننا عند استماع الألفاظ معانيها المادية أو ما يتعلق بالمادة فإن المادة هي التي يتقلب فيها أبداننا و قوانا المتعلقة بها ما دمنا في الحياة الدنيوية، فإذا سمعنا ألفاظ الحياة و العلم و القدرة و السمع و البصر و الكلام و الإرادة و الرضا و الغضب و الخلق و الأمر كان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات المادية لمفاهيمها.

  • و كذا إذا سمعنا ألفاظ السماء و الأرض و اللوح و القلم و العرش و الكرسي و الملك و أجنحته و الشيطان و قبيله و خيله و رجله إلى غير ذلك، كان المتبادر إلى أفهامنا مصاديقها الطبيعية.

  • و إذا سمعنا: أن الله خلق العالم و فعل كذا و علم كذا و أراد أو يريد أو شاء و أو يشاء كذا قيدنا الفعل بالزمان حملا على المعهود عندنا.

  • و إذا سمعنا نحو قوله: {وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ} (الآية) و قوله: {لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} (الآية) 

تفسير الميزان ج۱

10
  •  

  • و قوله: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ} (الآية) و قوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الآية) قيدنا معنى الحضور بالمكان.

  • و إذا سمعنا نحو قوله: {إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} (الآية) أو قوله: 

  • {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ}. (الآية) أو قوله: {يُرِيدُ اَللَّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ} (الآية) فهمنا: أن الجميع سنخ واحد من الإرادة، لما أن الأمر على ذلك فيما عندنا، و على هذا القياس.

  • و هذا شأننا في جميع الألفاظ المستعملة، و من حقنا ذلك، فإن الذي أوجب علينا وضع ألفاظ إنما هي الحاجة الاجتماعية إلى التفهيم و التفهم، و الاجتماع إنما تعلق به الإنسان ليستكمل به في الأفعال المتعلقة بالمادة و لواحقها، فوضعنا الألفاظ علائم لمسمياتها التي نريد منها غايات و أغراضا عائدة إلينا.

  • و كان ينبغي لنا أن نتنبه: أن المسميات المادية محكومة بالتغير و التبدل بحسب تبدل الحوائج في طريق التحول و التكامل كما أن السراج أول ما عمله الإنسان كان إناء فيه فتيلة و شي‌ء من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستضاءة به في الظلمة، ثم لم يزل يتكامل حتى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائي و لم يبق من أجزاء السراج المعمول أولا الموضوع بإزائه لفظ السراج شي‌ء و لا واحد.

  • و كذا الميزان المعمول أولا، و الميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة مثلا.

  • و السلاح المتخذ سلاحا أول يوم، و السلاح المعمول اليوم إلى غير ذلك.

  • فالمسميات بلغت في التغير إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتا و صفة و الاسم مع ذلك باق، و ليس إلا لأن المراد في التسمية إنما هو من الشي‌ء غايته، لا شكله و صورته، فما دام غرض التوزين أو الاستضاءة أو الدفاع باقيا كان اسم الميزان و السراج و السلاح و غيرها باقيا على حاله.

  • فكان ينبغي لنا أن نتنبه أن المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية و الغرض، لا جمود اللفظ على صورة واحدة، فذلك مما لا مطمع فيه البتة، و لكن العادة و الأنس منعانا ذلك، و هذا هو الذي دعا المقلدة من أصحاب الحديث من الحشوية و المجسمة أن يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير و ليس في الحقيقة جمودا على الظواهر بل هو جمود على العادة و الأنس في تشخيص المصاديق. ـ 

تفسير الميزان ج۱

11
  •  

  • لكن بين هذه الظواهر أنفسها أمور تبين: أن الاتكاء و الاعتماد على الأنس و العادة في فهم معاني الآيات يشوش المقاصد منها و يختل به أمر الفهم كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ} الآية . و قوله: {لاَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصَارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ}. و قوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.

  • و هذا هو الذي دعا الناس أن لا يقتصروا على الفهم العادي و المصداق المأنوس به الذهن في فهم معاني الآيات كما كان غرض الاجتناب عن الخطاء و الحصول على النتائج المجهولة هو الذي دعا الإنسان إلى أن يتمسك بذيل البحث العلمي، و أجاز ذلك للبحث أن يداخل في فهم حقائق القرآن و تشخيص مقاصده العالية، و ذلك على أحد وجهين، أحدهما: أن نبحث بحثا علميا أو فلسفيا أو غير ذلك عن مسألة من المسائل التي تتعرض له الآية حتى نقف على الحق في المسألة، ثم نأتي بالآية و نحملها عليه، و هذه طريقة يرتضيها البحث النظري، غير أن القرآن لا يرتضيها كما عرفت، و ثانيهما: أن نفسر القرآن بالقرآن و نستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبر المندوب إليه في نفس القرآن، و نشخص المصاديق و نتعرفها بالخواص التي تعطيها الآيات، كما قال تعالى: {وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ} الآية. و حاشا أن يكون القرآن تبيانا لكل شي‌ء و لا يكون تبيانا لنفسه، و قال تعالى: {هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ اَلْهُدى‌ وَ اَلْفُرْقَانِ} . الآية و قال تعالى: {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} الآية . و كيف يكون القرآن هدى و بينة و فرقانا و نورا مبينا للناس في جميع ما يحتاجون و لا يكفيهم في احتياجهم إليه و هو أشد الاحتياج! و قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} الآية و أي جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه! و أي سبيل أهدى إليه من القرآن!

  • و الآيات في هذا المعنى كثيرة سنستفرغ الوسع فيها في بحث المحكم و المتشابه في أوائل سورة آل عمران.

  • ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي علمه القرآن و جعله معلما لكتابه كما يقول تعالى: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى‌ قَلْبِكَ} (الآية). و يقول: {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (الآية) . و يقول: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ} (الآية) . و عترته و أهل بيته الذين أقامهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هذا المقام‌ في الحديث المتفق 

تفسير الميزان ج۱

12
  •  

  • عليه بين الفريقين: [إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله و عترتي أهل بيتي و إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض‌]. و صدقه الله تعالى في علمهم بالقرآن، حيث قال عز من قائل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} و قال {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ} (الآية) و قد كانت طريقتهم في التعليم و التفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل إلينا من أخبارهم في التفسير. و سنورد ما تيسر لنا مما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل بيته في ضمن أبحاث روائية في هذا الكتاب، و لا يعثر المتتبع الباحث فيها على مورد واحد يستعان فيه على تفسير الآية بحجة نظرية عقلية، و لا فرضية علمية.

  • و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): [فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع و ماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدل على خير سبيل، و هو كتاب تفصيل و بيان و تحصيل - و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن، فظاهره حكمة و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق، له نجوم و على نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه و لا تبلى غرائبه - فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة، و دليل على المعروف لمن عرف النصفة، فليرع رجل بصره، و ليبلغ الصفة نظره ينجو من عطب و يخلص من نشب، فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، يحسن التخلص و يقل التربص‌]. و قال علي (علیه السلام): (يصف القرآن على ما في النهج) [ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض] الخطبة.

  • هذا هو الطريق المستقيم و الصراط السوي الذي سلكه معلموا القرآن و هداته صلوات الله عليهم.

  • و سنضع ما تيسر لنا بعون الله سبحانه من الكلام على هذه الطريقة في البحث عن الآيات الشريفة في ضمن بيانات، قد اجتنبنا فيها عن أن نركن إلى حجة نظرية فلسفية أو إلى فرضية علمية، أو إلى مكاشفة عرفانية.

  • و احترزنا فيها عن أن نضع الأنكتة أدبية يحتاج إليها فهم الأسلوب العربي أو مقدمة بديهية أو عملية لا يختلف فيها الأفهام.

تفسير الميزان ج۱

13
  •  

  • و قد تحصل من هذه البيانات الموضوعة على هذه الطريقة من البحث استفراغ الكلام فيما نذكره.

  • (١) المعارف المتعلقة بأسماء الله سبحانه و صفاته من الحياة و العلم و القدرة و السمع و البصر و الوحدة و غيرها، و أما الذات فستطلع أن القرآن يراه غنيا عن البيان.

  • (٢) المعارف المتعلقة بأفعاله تعالى من الخلق و الأمر و الإرادة و المشية و الهداية و الإضلال و القضاء و القدر و الجبر و التفويض و الرضا و السخط، إلى غير ذلك من متفرقات الأفعال.

  • (٣) المعارف المتعلقة بالوسائط الواقعة بينه و بين الإنسان كالحجب و اللوح و القلم و العرش و الكرسي و البيت المعمور و السماء و الأرض و الملائكة و الشياطين و الجن و غير ذلك.

  • (٤) المعارف المتعلقة بالإنسان قبل الدنيا.

  • (٥) المعارف المتعلقة بالإنسان في الدنيا كمعرفة تاريخ نوعه و معرفة نفسه و معرفة أصول اجتماعه و معرفة النبوة و الرسالة و الوحي و الإلهام و الكتاب و الدين و الشريعة، و من هذا الباب مقامات الأنبياء المستفادة من قصصهم المحكية.

  • (٦) المعارف المتعلقة بالإنسان بعد الدنيا، و هو البرزخ و المعاد.

  • (٧) المعارف المتعلقة بالأخلاق الإنسانية، و من هذا الباب ما يتعلق بمقامات الأولياء في صراط العبودية من الإسلام و الإيمان و الإحسان و الإخبات و الإخلاص و غير ذلك.

  • و أما آيات الأحكام، فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك إلى الفقه.

  • و قد أفاد هذه الطريقة من البحث ارتفاع التأويل بمعنى الحمل على المعنى المخالف للظاهر من بين الآيات، و أما التأويل بالمعنى الذي يثبته القرآن في مواضع من الآيات، فسترى أنه ليس من قبيل المعاني.

  • ثم وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية نورد ما تيسر لنا إيراده من الروايات المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين من طرق العامة و الخاصة، و أما الروايات الواردة عن مفسري الصحابة و التابعين. فإنها 

تفسير الميزان ج۱

14
  •  

  • على ما فيها من الخط و التناقض لا حجة فيها على مسلم.

  • و سيطلع الباحث المتدبر في الروايات المنقولة عنهم (علیهم السلام)، أن هذه الطريقة الحديثة التي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب، أقدم الطرق المأثورة في التفسير التي سلكها معلموه سلام الله عليهم.

  • ثم وضعنا أبحاثا مختلفة، فلسفية و علمية و تاريخية و اجتماعية و أخلاقية، حسب ما تيسر لنا من البحث، و قد آثرنا في كل بحث قصر الكلام على المقدمات المسانخة له، من غير تعد عن طور البحث.

  • نسأل الله تعالى السداد و الرشاد فإنه خير معين و هاد 

  • الفقير إلى الله: محمد حسين الطباطبائي‌ 

تفسير الميزان ج۱

15
  •  

  • سورة الحمد و هي سبع آيات (٧) 

  •  

  • [سورة الفاتحة (١): الآیات ١ الی ٥]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ١ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٢ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ٣ مَالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ ٤ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ٥}

  • ( بيان) 

  • قوله تعالى{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} الناس ربما يعملون عملا أو يبتدئون في عمل و يقرنونه باسم عزيز من أعزتهم أو كبير من كبرائهم، ليكون عملهم ذاك مباركا بذلك متشرفا، أو ليكون ذكرى يذكرهم به، و مثل ذلك موجود أيضا في باب التسمية فربما يسمون المولود الجديد من الإنسان، أو شيئا مما صنعوه أو عملوه كدار بنوها أو مؤسسة أسسوها باسم من يحبونه أو يعظمونه، ليبقى الاسم ببقاء المسمى الجديد، و يبقى المسمى الأول نوع بقاء ببقاء الاسم كمن يسمي ولده باسم والده ليحيي بذلك ذكره فلا يزول و لا ينسى.

  • و قد جرى كلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الكلام باسمه عز اسمه؛ ليكون ما يتضمنه من المعنى معلما باسمه مرتبطا به، و ليكون أدبا يؤدب به العباد في الأعمال و الأفعال و الأقوال، فيبتدءوا باسمه و يعملوا به، فيكون ما يعملونه معلما باسمه منعوتا بنعته تعالى مقصودا لأجله سبحانه فلا يكون العمل هالكا باطلا مبترا، لأنه باسم الله الذي لا سبيل للهلاك و البطلان إليه.

  • و ذلك أن الله سبحانه يبين في مواضع من كلامه: أن ما ليس لوجهه الكريم هالك باطل، و أنه: سيقدم إلى كل عمل عملوه مما ليس لوجهه الكريم، فيجعله هباء منثورا، و يحبط ما صنعوا و يبطل ما كانوا يعملون، و أنه لا بقاء لشي‌ء إلا وجهه الكريم فما عمل لوجهه الكريم و صنع باسمه هو الذي يبقى و لا يفنى، و كل أمر من الأمور إنما نصيبه من البقاء بقدر ما لله فيه نصيب، و هذا هو الذي يفيده ما رواه الفريقان‌ عن 

تفسير الميزان ج۱

16
  •  

  • النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: [كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر] (الحديث)‌.

  • و الأبتر هو المنقطع الآخر، فالأنسب أن متعلق الباء في البسملة أبتدئ بالمعنى الذي ذكرناه فقد ابتدأ بها الكلام بما أنه فعل من الأفعال، فلا محالة له وحدة، و وحدة الكلام بوحدة مدلوله و معناه، فلا محالة له معنى ذا وحدة و هو المعنى المقصود إفهامه من إلقاء الكلام، و الغرض المحصل منه.

  • و قد ذكر الله سبحانه الغرض المحصل من كلامه الذي هو جملة القرآن إذ قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اَللَّهِ نُورٌ وَ كِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اَللَّهُ} (الآية) المائدة - ١٦ إلى غير ذلك من الآيات التي أفاد فيها: أن الغاية من كتابه و كلامه هداية العباد، فالهداية جملة هي المبتدئة {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ}، فهو الله الذي إليه مرجع العباد، و هو الرحمن يبين لعباده سبيل رحمته العامة للمؤمن و الكافر، مما فيه خيرهم في وجودهم و حياتهم، و هو الرحيم يبين لهم سبيل رحمته الخاصة بالمؤمنين و هو سعادة آخرتهم و لقاء ربهم و قد قال تعالى: {وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‌ءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}. الأعراف - ١٥٦. فهذا بالنسبة إلى جملة القرآن.

  • ثم إنه سبحانه كرر ذكر السورة في كلامه كثيرا كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} يونس - ٣٨. و قوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} هود - ١٣. و قوله تعالى: {إِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} التوبة - ٨٦. و قوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا} النور - ١. فبان لنا من ذلك: أن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه (التي فصلها قطعا قطعا، و سمي كل قطعة سورة) نوعا من وحدة التأليف و التمام، لا يوجد بين أبعاض من سورة و لا بين سورة و سورة، و من هنا نعلم: أن الأغراض و المقاصد المحصلة من السور مختلفة، و أن كل واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاص و لغرض محصل لا تتم السورة إلا بتمامه، و على هذا فالبسملة في مبتدإ كل سورة راجعة إلى الغرض الخاص من تلك السورة.

  • فالبسملة في سورة الحمد راجعة إلى غرض السورة و المعنى المحصل منه، و الغرض الذي يدل عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله بإظهار العبودية له سبحانه بالإفصاح 

تفسير الميزان ج۱

17
  •  

  • عن العبادة و الاستعانة و سؤال الهداية، فهو كلام يتكلم به الله سبحانه نيابة عن العبد، ليكون متأدبا في مقام إظهار العبودية بما أدبه الله به.

  • و إظهار العبودية من العبد هو العمل الذي يتلبس به العبد، و الأمر ذو البال الذي يقدم عليه، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحيم راجع إليه، فالمعنى باسمك أظهر لك العبودية.

  • فمتعلق الباء في بسملة الحمد الابتداء و يراد به تتميم الإخلاص في مقام العبودية بالتخاطب. و ربما يقال إنه الاستعانة و لا بأس به و لكن الابتداء أنسب لاشتمال السورة على الاستعانة صريحا في قوله تعالى: {وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

  • .و أما الاسم‌، فهو اللفظ الدال على المسمى مشتق من السمة بمعنى العلامة أو من السمو بمعنى الرفعة و كيف كان فالذي يعرفه منه اللغة و العرف هو اللفظ الدال و يستلزم ذلك أن يكون غير المسمى، و أما الإسلام بمعنى الذات مأخوذا بوصف من أوصافه فهو من الأعيان لا من الألفاظ و هو مسمى الاسم بالمعنى الأول كما أن لفظ العالم (من أسماء الله تعالى) اسم يدل على مسماه و هو الذات مأخوذة بوصف العلم و هو بعينه اسم بالنسبة إلى الذات الذي لا خبر عنه إلا بوصف من أوصافه و نعت من نعوته و السبب في ذلك أنهم وجدوا لفظ الاسم موضوعا للدال على المسمى من الألفاظ، ثم وجدوا أن الأوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات و تدل عليه حال اللفظ المسمى بالاسم في أنها تدل على ذوات خارجية، فسموا هذه الأوصاف الدالة على الذوات أيضا أسماء فأنتج ذلك أن الاسم كما يكون أمرا لفظيا كذلك يكون أمرا عينيا، ثم وجدوا أن الدال على الذات القريب منه هو الاسم بالمعنى الثاني المأخوذ بالتحليل، و أن الاسم بالمعنى الأول إنما يدل على الذات بواسطته، و لذلك سموا الذي بالمعنى الثاني اسما، و الذي بالمعنى الأول اسم الاسم، هذا و لكن هذا كله أمر أدى إليه التحليل النظري و لا ينبغي أن يحمل على اللغة، فالاسم بحسب اللغة ما ذكرناه.

  • و قد شاع النزاع بين المتكلمين في الصدر الأول من الإسلام في أن الاسم عين المسمى أو غيره و طالت المشاجرات فيه، و لكن هذا النوع من المسائل قد اتضحت اليوم اتضاحا يبلغ إلى حد الضرورة و لا يجوز الاشتغال بها بذكر ما قيل و ما يقال فيها 

تفسير الميزان ج۱

18
  •  

  • و العناية بإبطال ما هو الباطل و إحقاق ما هو الحق فيها، فالصفح عن ذلك أولى.

  • و أما لفظ الجلالة، فالله أصله الإله، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، و إله‌ من أله الرجل يأله بمعنى عبد، أو من أله الرجل أو وله الرجل أي تحير، فهو فعال بكسر الفاء بمعنى المفعول ككتاب بمعنى المكتوب سمي إلها لأنه معبود أو لأنه مما تحيرت في ذاته العقول، و الظاهر أنه علم بالغلبة، و قد كان مستعملا دائرا في الألسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهلي كما يشعر به قوله تعالى: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ} الزخرف - ٨٧. و قوله تعالى: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هَذَا لِشُرَكَائِنَا} الأنعام - ١٣٦.

  • و مما يدل على كونه علما أنه يوصف بجميع الأسماء الحسنى و سائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيقال: الله الرحمن الرحيم و يقال: رحم الله و علم الله، و رزق الله، و لا يقع لفظ الجلالة صفة لشي‌ء منها و لا يؤخذ منه ما يوصف به شي‌ء منها.

  • و لما كان وجوده سبحانه، و هو إله كل شي‌ء يهدي إلى اتصافه بجميع الصفات الكمالية كانت الجميع مدلولا عليها به بالالتزام، و صح ما قيل إن لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال و إلا فهو علم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدل عليه مادة أله.

  • و أما الوصفان: {اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ}، فهما من الرحمة، و هي وصف انفعالي و تأثر خاص يلم بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه و رفع حاجته، إلا أن هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء و الإفاضة لرفع الحاجة و بهذا المعنى يتصف سبحانه بالرحمة.

  • و الرحمن، فعلان صيغة مبالغة تدل على الكثرة، و الرحيم فعيل صفة مشبهة تدل على الثبات و البقاء و لذلك ناسب الرحمن أن يدل على الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن و الكافر و هو الرحمة العامة، و على هذا المعنى يستعمل كثيرا في القرآن، قال تعالى: 

  • {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى‌} طه - ٥. و قال: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمَنُ مَدًّا} مريم - ٧٥. إلى غير ذلك، و لذلك أيضا ناسب الرحيم أن يدل على النعمة الدائمة و الرحمة الثابتة الباقية التي تفاض على المؤمن كما قال تعالى: {وَ كَانَ 

تفسير الميزان ج۱

19
  •  

  • بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} الأحزاب - ٤٣. و قال تعالى: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} التوبة - ١١٧. إلى غير ذلك، و لذلك قيل: إن الرحمن عام للمؤمن و الكافر و الرحيم خاص بالمؤمن.

  • و قوله تعالى: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ}، الحمد على ما قيل هو الثناء على الجميل الاختياري و المدح أعم منه، يقال: حمدت فلانا أو مدحته لكرمه، و يقال: مدحت اللؤلؤ على صفائه و لا يقال: حمدته على صفائه، و اللام فيه للجنس أو الاستغراق و المال هاهنا واحد.

  • و ذلك أن الله سبحانه يقول: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} غافر - ٦٢.

  • فأفاد أن كل ما هو شي‌ء فهو مخلوق لله سبحانه، و قال: {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ} السجدة - ٧. فأثبت الحسن لكل شي‌ء مخلوق من جهة أنه مخلوق له منسوب إليه، فالحسن يدور مدار الخلق و بالعكس، فلا خلق إلا و هو حسن جميل بإحسانه و لا حسن إلا و هو مخلوق له منسوب إليه، و قد قال تعالى: {هُوَ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} الزمر - ٤. و قال: {وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ} طه - ١١١. فأنبأ أنه لم يخلق ما خلق بقهر قاهر و لا يفعل ما فعل بإجبار من مجبر بل خلقه عن علم و اختيار فما من شي‌ء إلا و هو فعل جميل اختياري له فهذا من جهة الفعل، و أما من جهة الاسم فقد قال تعالى: {اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى‌} طه - ٨. و قال تعالى {وَ لِلَّهِ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى‌ فَادْعُوهُ بِهَا وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الأعراف - ١٨٠. فهو تعالى جميل في أسمائه و جميل في أفعاله، و كل جميل منه.

  • فقد بان أنه تعالى محمود على جميل أسمائه و محمود على جميل أفعاله، و أنه ما من حمد يحمده حامد لأمر محمود إلا كان لله سبحانه حقيقة لأن الجميل الذي يتعلق به الحمد منه سبحانه، فلله سبحانه جنس الحمد و له سبحانه كل حمد.

  • ثم إن الظاهر من السياق و بقرينة الالتفات الذي في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الآية) أن السورة من كلام العبد، و أنه سبحانه في هذه السورة يلقن عبده حمد نفسه و ما ينبغي أن يتأدب به العبد عند نصب نفسه في مقام العبودية، و هو الذي يؤيده قوله: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ} .

تفسير الميزان ج۱

20
  •  

  • و ذلك أن الحمد توصيف، و قد نزه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده حيث قال: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} الصافات - ١٦٠.

  • و الكلام مطلق غير مقيد، و لم يرد في كلامه تعالى ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلا ما حكاه عن عدة من أنبيائه المخلصين، قال تعالى في خطابه لنوح (علیه السلام): {فَقُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي نَجَّانَا مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} المؤمنون - ٢٨. و قال تعالى حكاية عن إبراهيم (علیه السلام): {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ} إبراهيم - ٣٩. و قال تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) في بضعة مواضع من كلامه: {وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ} النمل - ٩٣. و قال تعالى حكاية عن داود و سليمان (علیه السلام) {وَ قَالاَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ} النمل - ١٥. و إلا ما حكاه عن أهل الجنة و هم المطهرون من غل الصدور و لغو القول و التأثيم كقوله‌{وَ آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} يونس - ١٠.

  • و أما غير هذه الموارد فهو تعالى و إن حكى الحمد عن كثير من خلقه بل عن جميعهم، كقوله تعالى: {وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} الشورى - ٥. و قوله {وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} الرعد - ١٣ و قوله {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} الإسراء - ٤٤.

  • إلا أنه سبحانه شفع الحمد في جميعها بالتسبيح بل جعل التسبيح هو الأصل في الحكاية و جعل الحمد معه، و ذلك أن غيره تعالى لا يحيط بجمال أفعاله و كمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته و أسمائه التي منها جمال الأفعال، قال تعالى: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} طه - ١١٠فما وصفوه به فقد أحاطوا به و صار محدودا بحدودهم مقدرا بقدر نيلهم منه، فلا يستقيم ما أثنوا به من ثناء إلا من بعد أن ينزهوه و يسبحوه عن ما حدوه و قدروه بأفهامهم، قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} النحل - ٧٤، و أما المخلصون من عباده تعالى فقد جعل حمدهم حمده و وصفهم وصفه حيث جعلهم مخلصين له، فقد بان أن الذي يقتضيه أدب العبودية أن يحمد العبد ربه بما حمد به نفسه و لا يتعدى عنه، كما- في الحديث الذي رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): [لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ‌] (الحديث) فقوله في أول هذه السورة: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ} تأديب بأدب عبودي ما كان للعبد 

تفسير الميزان ج۱

21
  •  

  • أن يقوله لو لا أن الله تعالى قاله نيابة و تعليما لما ينبغي الثناء به.

  • و قوله تعالى: {رَبِّ اَلْعَالَمِينَ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ} انتهى (و قرأ الأكثر ملك يوم الدين) 

  • فالرب‌ هو المالك الذي يدبر أمر مملوكه، ففيه معنى الملك، و معنى الملك‌ (الذي عندنا في ظرف الاجتماع) هو نوع خاص من الاختصاص و هو نوع قيام شي‌ء بشي‌ء يوجب صحة التصرفات فيه، فقولنا العين الفلانية ملكنا معناه: أن لها نوعا من القيام و الاختصاص بنا يصح معه تصرفاتنا فيها و لو لا ذلك لم تصح تلك التصرفات و هذا في الاجتماع معنى وضعي اعتباري غير حقيقي و هو مأخوذ من معنى آخر حقيقي نسميه أيضا ملكا، و هو نحو قيام أجزاء وجودنا و قوانا بنا فإن لنا بصرا و سمعا و يدا و رجلا، و معنى هذا الملك أنها في وجودها قائمة بوجودنا غير مستقلة دوننا بل مستقلة باستقلالنا و لنا أن نتصرف فيها كيف شئنا و هذا هو الملك الحقيقي.

  • و الذي يمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة هو حقيقة الملك دون الملك الاعتباري الذي يبطل ببطلان الاعتبار و الوضع، و من المعلوم أن الملك الحقيقي لا ينفك عن التدبير فإن الشي‌ء إذا افتقر في وجوده إلى شي‌ء فلم يستقل عنه في وجوده لم يستقل عنه في آثار وجوده، فهو تعالى رب لما سواه لأن الرب هو المالك المدبر و هو تعالى كذلك.

  • و أما {اَلْعَالَمِينَ} فهو جمع العالم‌ بفتح اللام بمعنى ما يعلم به كالقالب و الخاتم و الطابع بمعنى ما يقلب به و ما يختم به و ما يطبع به، يطلق على جميع الموجودات و على كل نوع مؤلف الأفراد و الأجزاء منها كعالم الجماد و عالم النبات و عالم الحيوان و عالم الإنسان و على كل صنف مجتمع الأفراد أيضا كعالم العرب و عالم العجم و هذا المعنى هو الأنسب لما يئول إليه عد هذه الأسماء الحسنى حتى ينتهي إلى قوله {مَالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ} على أن يكون الدين و هو الجزاء يوم القيامة مختصا بالإنسان أو الإنس و الجن فيكون المراد بالعالمين عوالم الإنس و الجن و جماعاتهم و يؤيده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى {وَ اِصْطَفَاكِ عَلى‌ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ} آل عمران - ٤٢. و قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} فرقان - ١، و قوله تعالى: {أَ تَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ 

تفسير الميزان ج۱

22
  •  

  • اَلْعَالَمِينَ} الأعراف - ٨٠.

  • و أما {مَالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ} فقد عرفت معنى المالك و هو المأخوذ من الملك بكسر الميم، و أما الملك‌ و هو مأخوذ من الملك بضم الميم، فهو الذي يملك النظام القومي و تدبيرهم دون العين، و بعبارة أخرى يملك الأمر و الحكم فيهم.

  • و قد ذكر لكل من القرائتين، ملك و مالك؛ وجوه من التأييد غير أن المعنيين من السلطنة ثابتان في حقه تعالى، و الذي تعرفه اللغة و العرف أن الملك بضم الميم هو المنسوب إلى الزمان يقال: ملك العصر الفلاني، و لا يقال مالك العصر الفلاني إلا بعناية بعيدة، و قد قال تعالى: ملك يوم الدين فنسبه إلى اليوم، و قال أيضا: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} غافر - ١٦.

  • (بحث روائي‌)

  • في العيون، و المعاني، عن الرضا (علیه السلام): في معنى قوله: {بِسْمِ اَللَّهِ} قال (علیه السلام): يعني أسم نفسي بسمة من سمات الله و هي العبادة، قيل له: ما السمة؟ قال العلامة. أقول و هذا المعنى كالمتولد من المعنى الذي أشرنا إليه في كون الباء للابتداء فإن العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك أن يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته.

  • و في التهذيب، عن الصادق (علیه السلام)، و في العيون، و تفسير العياشي، عن الرضا (علیه السلام): أنها أقرب إلى اسم الله الأعظم - من ناظر العين إلى بياضها. أقول: و سيجي‌ء معنى الرواية في الكلام على الاسم الأعظم.

  • و في العيون، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): أنها من الفاتحة و أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقرأها و يعدها آية منها، و يقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني‌ 

  • أقول: و روي من طرق أهل السنة و الجماعة نظير هذا المعنى‌ فعن الدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا قرأتم الحمد فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها أم القرآن و السبع المثاني، و بسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها.

  • و في الخصال، عن الصادق (علیه السلام) قال: ما لهم؟ قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها. 

تفسير الميزان ج۱

23
  •  

  • و عن الباقر (علیه السلام): سرقوا أكرم آية في كتاب الله‌ {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ}، و ينبغي الإتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.

  • أقول: و الروايات عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، و هي جميعا تدل على أن البسملة جزء من كل سورة إلا سورة البراءة، و في روايات أهل السنة و الجماعة ما يدل على ذلك.

  • ففي صحيح مسلم، عن أنس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنزل علي آنفا سورة فقرأ: {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ}. و عن أبي داود عن ابن عباس (و قد صححوا سندها) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان لا يعرف فصل السورة، (و في رواية انقضاء السورة) حتى ينزل عليه‌ {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ}.

  • أقول: و روي هذا المعنى من طرق الخاصة عن الباقر (علیه السلام).

  • و في الكافي، و التوحيد، و المعاني، و تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام) في حديث: و الله إله كل شي‌ء، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصة. و روي عن الصادق (علیه السلام): الرحمن اسم خاص بصفة عامة - و الرحيم اسم عام بصفة خاصة.

  • أقول: قد ظهر مما مر وجه عموم الرحمن للمؤمن و الكافر و اختصاص الرحيم بالمؤمن، و أما كون الرحمن اسما خاصا بصفة عامة و الرحيم اسما عاما بصفة خاصة فكأنه يريد به أن الرحمن خاص بالدنيا و يعم الكافر و المؤمن و الرحيم عام للدنيا و الآخرة و يخص المؤمنين، و بعبارة أخرى: الرحمن يختص بالإفاضة التكوينية التي يعم المؤمن و الكافر، و الرحيم يعم التكوين و التشريع الذي بابه باب الهداية و السعادة، و يختص بالمؤمنين لأن الثبات و البقاء يختص بالنعم التي تفاض عليهم و العاقبة للتقوى.

  • و في كشف الغمة، عن الصادق (علیه السلام) قال: فقد لأبي (علیه السلام) بغلة فقال لئن ردها الله علي لأحمدنه بمحامد يرضيها فما لبث أن أتي بها بسرجها و لجامها فلما استوى و ضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء و قال الحمد لله و لم يزد، ثم قال ما تركت و لا أبقيت 

تفسير الميزان ج۱

24
  •  

  • شيئا جعلت أنواع المحامد لله عز و جل، فما من حمد إلا و هو داخل فيها.

  •  قلت: و في العيون، عن علي (علیه السلام): أنه سئل عن تفسيرها فقال: هو أن الله عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال: قولوا الحمد لله على ما أنعم به علينا.

  •  أقول: يشير (علیه السلام) إلى ما مر من أن الحمد، من العبد و إنما ذكره الله بالنيابة تأديبا و تعليما.

  • (بحث فلسفي) [معني الحمد و انه لله سبحانه] 

  • البراهين العقلية ناهضة على أن استقلال المعلول و كل شأن من شئونه إنما هو بالعلة، و أن كل ما له من كمال فهو من أظلال وجود علته، فلو كان للحسن و الجمال حقيقة في الوجود فكماله و استقلاله للواجب تعالى لأنه العلة التي ينتهي إليه جميع العلل، و الثناء و الحمد هو إظهار موجود ما بوجوده كمال موجود آخر و هو لا محالة علته و إذا كان كل كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كل ثناء و حمد تعود و تنتهي إليه تعالى، فالحمد لله رب العالمين.

  • قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الآيه، العبد هو المملوك من الإنسان أو من كل ذي شعور بتجريد المعنى كما يعطيه قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاَّ آتِي اَلرَّحْمَنِ عَبْداً} مريم - ٩٣. و العبادة مأخوذة منه و ربما تفرقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد، و ما ذكره الجوهري في الصحاح أن أصل العبودية الخضوع فهو من باب الأخذ بلازم المعنى و إلا فالخضوع متعد باللام و العبادة متعدية بنفسها.

  • و بالجملة فكان العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربه و لذلك كانت العبادة منافية للاستكبار و غير منافية للاشتراك فمن الجائز أن يشترك أزيد من الواحد في ملك رقبة أو في عبادة عبد، قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} غافر - ٦٠. و قال تعالى: {وَ لاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} الكهف - ١١٠ 

تفسير الميزان ج۱

25
  •  

  • فعد الإشراك ممكنا و لذلك نهى عنه، و النهي لا يمكن إلا عن ممكن مقدور بخلاف الاستكبار عن العبادة فإنه لا يجامعها.

  • و العبودية إنما يستقيم بين العبيد و مواليهم فيما يملكه الموالي منهم، و أما ما لا يتعلق به الملك من شئون وجود العبد ككونه ابن فلان أو ذا طول في قامته فلا يتعلق به عبادة و لا عبودية، لكن الله سبحانه في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت فلا ملكه يشوبه ملك ممن سواه و لا أن العبد يتبعض في نسبته إليه تعالى فيكون شي‌ء منه مملوكا و شي‌ء، آخر غير مملوك، و لا تصرف من التصرفات فيه جائز و تصرف آخر غير جائز كما أن العبيد فيما بيننا شي‌ء منهم مملوك و هو أفعالهم الاختيارية و شي‌ء غير مملوك و هو الأوصاف الاضطرارية، و بعض التصرفات فيهم جائز كالاستفادة من فعلهم و بعضها غير جائز كقتلهم من غير جرم مثلا، فهو تعالى مالك على الإطلاق من غير شرط و لا قيد و غيره مملوك على الإطلاق من غير شرط و لا قيد فهناك حصر من جهتين، الرب مقصور في المالكية، و العبد مقصور في العبودية، و هذه هي التي يدل عليه قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. حيث قدم المفعول و أطلقت العبادة.

  • ثم إن الملك حيث كان متقوم الوجود بمالكه كما عرفت مما مر، فلا يكون حاجبا عن مالكه و لا يحجب عنه، فإنك إذا نظرت إلى دار زيد فإن نظرت إليها من جهة أنها دار أمكنك أن تغفل عن، زيد و إن نظرت إليها بما أنها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها و هو زيد.

  • و لكنك عرفت أن ما سواه تعالى ليس له إلا المملوكية فقط و هذه حقيقته فشي‌ء منه في الحقيقة لا يحجب عنه تعالى، و لا النظر إليه يجامع الغفلة عنه تعالى، فله تعالى الحضور المطلق، قال سبحانه: {أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ مُحِيطٌ} حم السجدة - ٥٤، و إذا كان كذلك فحق عبادته تعالى أن يكون عن حضور من الجانبين.

  • أما من جانب الرب عز و جل، فأن يعبد عبادة معبود حاضر و هو الموجب للالتفات المأخوذ في قوله تعالى{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} عن الغيبة إلى الحضور.

تفسير الميزان ج۱

26
  •  

  • و أما من جانب العبد، فأن يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى و جسدا من غير روح؛ أو يتبعض فيشتغل بربه و بغيره، إما ظاهرا و باطنا كالوثنيين في عبادتهم لله و لأصنامهم معا أو باطنا فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات و الأغراض؛ كان يعبد الله و همه في غيره، أو يعبد الله طمعا في جنة أو خوفا من نار فإن ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي، قال تعالى: {فَاعْبُدِ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ} الزمر - ٢ و قال تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ اَلدِّينُ اَلْخَالِصُ وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى‌ إِنَّ اَللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} الزمر - ٣.

  • فالعبادة إنما تكون عبادة حقيقة، إذا كان على خلوص من العبد و هو الحضور الذي ذكرناه، و قد ظهر أنه إنما يتم إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله فيكون قد أعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته و لم يتعلق. قلبه في عبادته رجاء أو خوفا هو الغاية في عبادته كجنة أو نار فيكون عبادته له لا لوجه الله، و لم يشتغل بنفسه فيكون منافيا لمقام العبودية التي لا تلائم الإنية و الاستكبار، و كان الإتيان بلفظ المتكلم مع الغير للإيماء إلى هذه النكتة فإن فيه هضما للنفس بإلغاء تعينها و شخوصها وحدها المستلزم لنحو من الإنية و الاستقلال بخلاف إدخالها في الجماعة و خلطها بسواد الناس فإن فيه إمحاء التعين و إعفاء الأثر فيؤمن به ذلك.

  • و قد ظهر من ذلك كله: أن إظهار العبودية بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ لا يشتمل على نقص من حيث المعنى و من حيث الإخلاص إلا ما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} من نسبة العبد العبادة إلى نفسه المشتمل بالاستلزام على دعوى الاستقلال في الوجود و القدرة و الإرادة مع أنه مملوك و المملوك لا يملك شيئا، فكأنه تدورك ذلك بقوله تعالى {وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، أي إنما ننسب العبادة إلى أنفسنا و ندعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلين بذلك مدعين ذلك دونك، فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ لإبداء معنى واحد و هو العبادة عن إخلاص، و يمكن أن يكون هذا هو الوجه في اتحاد الاستعانة و العبادة في السياق الخطابي حيث قيل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} من دون أن يقال: إياك نعبد أعنا و اهدنا الصراط المستقيم 

تفسير الميزان ج۱

27
  •  

  • و أما تغيير السياق في قوله: {اِهْدِنَا اَلصِّراطَ} (الآية). فسيجي‌ء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

  • فقد بان بما مر من البيان في قوله‌ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الآية)؛ الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور، و الوجه في الحصر الذي يفيده تقديم المفعول، و الوجه في إطلاق قوله: {نَعْبُدُ}، و الوجه في اختيار لفظ المتكلم مع الغير، و الوجه في تعقيب الجملة الأولى بالثانية، و الوجه في تشريك الجملتين في السياق، و قد ذكر المفسرون نكات أخرى في أطراف ذلك من أرادها فليراجع كتبهم و هو الله سبحانه غريم لا يقضى دينه. 

  •  

تفسير الميزان ج۱

28
  •  

  • [سورة الفاتحة (١): الآیات ٦ الی ٧] 

  • {اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضَّالِّينَ ٧} 

  • بيان [معنى الصراط و الهداية] 

  • قوله تعالى: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إلخ؛ أما الهداية فيظهر معناها في ذيل الكلام على الصراط و أما الصراط فهو و الطريق و السبيل قريب المعنى، و قد وصف تعالى الصراط بالاستقامة ثم بين أنه الصراط الذي يسلكه الذين أنعم الله تعالى عليهم، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سئل الهداية إليه و هو بمعنى الغاية للعبادة أي: إن العبد يسأل ربه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط.

  • بيان ذلك: أن الله سبحانه قرر في كلامه لنوع الإنسان بل لجميع من سواه سبيلا يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلْإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى‌ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} الإنشقاق - ٦ و قال تعالى: {وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ} التغابن - ٣، و قال: {أَلاَ إِلَى اَللَّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ} الشورى - ٥٣، إلى غير ذلك من الآيات و هي واضحة الدلالة على أن الجميع سالكوا سبيل، و أنهم سائرون إلى الله سبحانه.

  • ثم بين: أن السبيل ليس سبيلا واحدا ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هَذا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} يس - ٦١.

  • فهناك طريق مستقيم و طريق آخر وراءه، و قال تعالى {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة - ١٨٦، و قال تعالى: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} غافر - ٦٠، فبيًن تعالى: أنه قريب من عباده و أن الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته و دعائه، ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} السجدة - ٤٤ فبيًن: أن غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم و سبيلهم بعيدة.

  • فتبين: أن السبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب و هو سبيل المؤمنين و سبيل 

تفسير الميزان ج۱

29
  •  

  • بعيد و هو سبيل غيرهم فهذا نحو اختلاف في السبيل و هناك نحو آخر من الاختلاف، قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ} الأعراف - ٤٠. و لو لا طروق من متطرق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو، و قال تعالى: {وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى‌} طه - ٨١ و الهوي هو السقوط إلى أسفل، فهناك طريق آخر أخذ في السفالة و الانحدار، و قال تعالى: {وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ اَلْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ} البقرة - ١٠٨، فعرف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله: فقد ضل، و عند ذلك تقسم الناس في طرقهم ثلاثة أقسام: من طريقه إلى فوق و هم الذين يؤمنون بآيات الله و لا يستكبرون عن عبادته، و من طريقه إلى السفل و هم المغضوب عليهم، و من ضل الطريق و هو حيران فيه و هم الضالون، و ربما أشعر بهذا التقسيم قوله تعالى: {صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضَّالِّينَ} .

  • و الصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلاث أعني: طريق المغضوب عليهم و طريق الضالين فهو من الطريق الأول الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلا أن قوله تعالى: {يَرْفَعِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} المجادلة - ١١. يدل على أن نفس الطريق الأول أيضا يقع فيه انقسام.

  • و بيانه: أن كل ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى: {وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ اَلْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ} البقرة - ١٠٨. و في هذا المعنى قوله تعالى {أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هَذا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} يس - ٦٢. و القرآن يعد الشرك ظلما و بالعكس، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن الشيطان لما قضي الأمر: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ اَلظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} إبراهيم - ٢٢. كما يعد الظلم ضلالا في قوله تعالى {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} الأنعام - ٨٢ و هو ظاهر من ترتيب الاهتداء و الأمن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال، على ارتفاع الظلم و لبس الإيمان به، و بالجملة الضلال و الشرك و الظلم أمرها واحد و هي متلازمة مصداقا، و هذا هو المراد من قولنا: إن كل واحد منها معرف بالآخر أو 

تفسير الميزان ج۱

30
  •  

  • هو الآخر، فالمراد المصداق دون المفهوم.

  • إذا عرفت هذا علمت أن الصراط المستقيم الذي هو صراط غير الضالين صراط لا يقع فيه شرك و لا ظلم البتة كما لا يقع فيه ضلال البتة، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الله سبحانه، و لا في ظاهر الجوارح و الأركان من فعل معصية أو قصور في طاعة، و هذا هو حق التوحيد علما و عملا إذ لا ثالث لهما و ما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ و ينطبق على ذلك قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} الأنعام - ٨٢، و فيه تثبيت للأمن في الطريق و وعد بالاهتداء التام بناء على ما ذكروه: من كون اسم الفاعل حقيقة في الاستقبال فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم.

  • ثم إنه تعالى عرف هؤلاء المنعم عليهم الذين نسب صراط المستقيم إليهم بقوله تعالى: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} النساء - ٦٨. و قد وصف هذا الإيمان و الإطاعة قبل هذه الآية بقوله {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً} النساء - ٦٦. فوصفهم بالثبات التام قولا و فعلا و ظاهرا و باطنا على العبودية لا يشذ منهم شاذ من هذه الجهة و مع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعا لأولئك المنعم عليهم و في صف دون صفهم لمكان مع و لمكان قوله: {وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} و لم يقل: فأولئك من الذين.

  • و نظير هذه الآية قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ} الحديد - ١٩. و هذا هو إلحاق المؤمنين بالشهداء و الصديقين في الآخرة، لمكان قوله: {عند ربهم}، و قوله: {لهم أجرهم}.

  • فأولئك (و هم أصحاب الصراط المستقيم) أعلى قدرا و أرفع درجة و منزلة من هؤلاء و هم المؤمنون الذين أخلصوا قلوبهم و أعمالهم من الضلال و الشرك و الظلم، فالتدبر 

تفسير الميزان ج۱

31
  •  

  • في هذه الآيات يوجب القطع بأن هؤلاء المؤمنين (و شأنهم هذا الشأن) فيهم بقية بعد، لو تمت فيهم كانوا من الذين أنعم الله عليهم، و ارتقوا من منزلة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم و لعلهم نوع من العلم بالله، ذكره في قوله تعالى: {يَرْفَعِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} المجادلة - ١١. فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي أرفع النعم قدرا، يربو على نعمة الإيمان التام، و هذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.

  • ثم إنه تعالى على أنه كرر في كلامه ذكر الصراط و السبيل لم ينسب لنفسه أزيد من صراط مستقيم واحد، و عد لنفسه سبلا كثيرة فقال عز من قائل {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} العنكبوت - ٦٩. و كذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى أحد من خلقه إلا ما في هذه الآية {صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الآية)) و لكنه نسب السبيل) إلى غيره من خلقه، فقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‌ بَصِيرَةٍ} يوسف - ١٠٨. و قال تعالى {سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} لقمان - ١٥. و قال: {سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ} النساء - ١١٤، و يعلم منها: أن السبيل غير الصراط المستقيم فإنه يختلف و يتعدد و يتكثر باختلاف المتعبدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما يشير إليه قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اَللَّهِ نُورٌ وَ كِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اَللَّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ اَلسَّلاَمِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المائدة - ١٦، فعد السبل كثيرة و الصراط واحدا و هذا الصراط المستقيم إما هي السبل الكثيرة و إما أنها تؤدي إليه باتصال بعضها إلى بعض و اتحادها فيها.

  • و أيضا قال تعالى: {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} يوسف - ١٠٦ فبين أن من الشرك (و هو ضلال) ما يجتمع مع الإيمان و هو سبيل، و منه يعلم أن السبيل يجامع الشرك، لكن الصراط المستقيم لا يجامع الضلال كما قال: {وَ لاَ اَلضَّالِّينَ} .

  • و التدبر في هذه الآيات يعطي أن كل واحد من هذه السبل يجامع شيئا من النقص أو الامتياز، بخلاف الصراط المستقيم، و أن كلا منها هو الصراط المستقيم لكنه 

تفسير الميزان ج۱

32
  •  

  • غير الآخر و يفارقه لكن الصراط المستقيم يتحد مع كل منها في عين أنه يتحد مع ما يخالفه، كما يستفاد من بعض الآيات المذكورة و غيرها كقوله: {وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} يس - ٦١. و قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} الأنعام - ١٦١. فسمى العبادة صراطا مستقيما و سمى الدين صراطا مستقيما و هما مشتركان بين السبل جميعا، فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن، فكما أن للبدن أطوارا في حياته هو عند كل طور غيره عند طور آخر، كالصبا و الطفولية و الرهوق و الشباب و الكهولة و الشيب و الهرم لكن الروح هي الروح و هي متحدة بها و البدن يمكن أن تطرأ عليه أطوار تنافي ما تحبه و تقتضيه الروح لو خليت و نفسها بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها و البدن مع ذلك هو الروح أعني الإنسان، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو الصراط المستقيم إلا أن السبيل كسبيل المؤمنين و سبيل المنيبين و سبيل المتبعين للنبي(صلى الله عليه وآله و سلم) أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربما اتصلت به آفة من خارج أو نقص لكنهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت أن الإيمان و هو سبيل ربما يجامع الشرك و الضلال لكن لا يجتمع مع شي‌ء من ذلك الصراط المستقيم، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه و شوبه و قربه و بعده، و الجميع على الصراط المستقيم أو هي هو.

  • و قد بين الله سبحانه هذا المعنى، أعني: اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحق و الباطل في كلامه، فقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ} الرعد - ١٧. فبين: أن القلوب و الأفهام في تلقي المعارف و الكمال مختلفة، مع كون الجميع متكئة منتهية إلى رزق سماوي واحد، و سيجي‌ء تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد، و بالجملة فهذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.

  • و إذا تأملت ما تقدم من نعوت الصراط المستقيم تحصل لك أن الصراط المستقيم ـ

تفسير الميزان ج۱

33
  •  

  • مهيمن على جميع السبل إلى الله و الطرق الهادية إليه تعالى، بمعنى أن السبيل إلى الله إنما يكون سبيلا له موصلا إليه بمقدار يتضمنه من الصراط المستقيم حقيقة، مع كون الصراط المستقيم هاديا موصلا إليه مطلقا و من غير شرط و قيد، و لذلك سماه الله تعالى صراطا مستقيما، فإن الصراط هو الواضح من الطريق، مأخوذ من سرطت سرطا إذا بلعت بلعا، كأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه و لا يدفعهم عن بطنه، و المستقيم هو الذي يريد أن يقوم على ساق فيتسلط على نفسه و ما لنفسه كالقائم الذي هو مسلط على أمره، و يرجع المعنى إلى أنه الذي لا يتغير أمره و لا يختلف شأنه فالصراط المستقيم ما لا يتخلف حكمه في هدايته و إيصاله سالكيه إلى غايته و مقصدهم قال تعالى: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} النساء - ١٧٤. أي لا يتخلف أمر هذه الهداية، بل هي على حالها دائما، و قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اَللَّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَ هَذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} الأنعام - ١٢٦. أي هذه طريقته التي لا يختلف و لا يتخلف، و قال تعالى: {قَالَ هَذا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ} الحجر - ٤٢. أي هذه سنتي و طريقتي دائما من غير تغيير، فهو يجري مجرى قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَحْوِيلاً} الفاطر - ٤٢.

  • و قد تبين مما ذكرناه في معنى الصراط المستقيم أمور.

  • أحدها: أن الطرق إلى الله مختلفة كمالا و نقصا و غلاء و رخصا، في جهة قربها من منبع الحقيقة و الصراط المستقيم كالإسلام و الإيمان و العبادة و الإخلاص و الإخبات، كما أن مقابلاتها من الكفر و الشرك و الجحود و الطغيان و المعصية كذلك، قال سبحانه {وَ لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} الأحقاف - ١٩.

  • و هذا نظير المعارف الإلهية التي تتلقاها العقول من الله فإنها مختلفة باختلاف الاستعدادات و متلونة بألوان القابليات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى: 

تفسير الميزان ج۱

34
  •  

  • {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الآية).

  • و ثانيها: أنه كما أن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل، فكذلك أصحابه الذين مكنهم الله تعالى فيه و تولى أمرهم و ولاهم أمر هداية عباده حيث قال: {وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} النساء - ٧١. و قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُونَ} المائدة - ٥٥. و الآية نازلة في أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بالأخبار المتواترة و هو (علیه السلام) أول فاتح لهذا الباب من الأمة و سيجي‌ء تمام الكلام في الآية.

  • و ثالثها: أن الهداية إلى الصراط يتعين معناها بحسب تعين معناه، و توضيح ذلك أن الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح، و فيه أن تعديتها لمفعولين لغة أهل الحجاز، و غيرهم يعدونه إلى المفعول الثاني بإلى، و قوله هو الظاهر، و ما قيل: إن الهداية إذا تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها، فهي بمعنى الإيصال إلى المطلوب، و إذا تعدت بإلى فبمعنى إراءة الطريق، مستدلا بنحو قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} القصص - ٥٦. حيث إن هدايته بمعنى إراءة الطريق ثابتة فالمنفي غيرها و هو الإيصال إلى المطلوب قال تعالى: {وَ لَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} النساء - ٧٠. و قال تعالى: {وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}الشورى - ٥٢.

  • فالهداية بالإيصال إلى المطلوب تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها، و الهداية بإراءة الطريق بإلى، و فيه أن النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية التي هي قائمة بالله تعالى، لا نفي لها أصلا، و بعبارة أخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة، مضافا إلى أنه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} غافر - ٣٨. فالحق أنه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية، و من الممكن أن يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار و بالجملة فالهداية هي الدلالة و إراءة الغاية بإراءة الطريق و هي نحو إيصال إلى المطلوب، و إنما تكون من الله سبحانه، و سنته سنة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب و يتحقق به وصول العبد إلى غايته في سيره، و قد بينه الله سبحانه بقوله: {فَمَنْ 

تفسير الميزان ج۱

35
  •  

  • يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ} الأنعام - ١٢٥. و قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى‌ ذِكْرِ اَللَّهِ ذلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} الزمر - ٢٣. و تعدية قوله تلين بإلى لتضمين معنى مثل الميل و الاطمينان، فهو إيجاده تعالى وصفا في القلب به يقبل ذكر الله و يميل و يطمئن إليه، و كما أن سبله تعالى مختلفة، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليه فلكل سبيل هداية قبله تختص به.

  • و إلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ} العنكبوت - ٦٩. إذ فرق بين أن يجاهد العبد في سبيل الله، و بين أن يجاهد في الله، فالمجاهد في الأول يريد سلامة السبيل و دفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثاني فإنه إنما يريد وجه الله فيمده الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاص به، و كذا يمده الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتى يختصه بنفسه جلت عظمته.

  • و رابعها: أن الصراط المستقيم لما كان أمرا محفوظا في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها و درجاتها، صح أن يهدي الله الإنسان إليه و هو مهدي فيهديه من الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهديه إلى سبيل من سبله ثم يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة، كما أن قوله تعالى: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ} (و هو تعالى يحكيه عمن هداه بالعبادة) من هذا القبيل، و لا يرد عليه: أن سؤال الهداية ممن هو مهتد بالفعل سؤال لتحصيل الحاصل و هو محال، و كذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل و لا يتعلق به سؤال، و الجواب ظاهر.

  • و كذا الإيراد عليه: بأن شريعتنا أكمل و أوسع من جميع الجهات من شرائع الأمم السابقة، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم منهم؟ و ذلك أن كون شريعة أكمل من شريعة أمر، و كون المتمسك بشريعة أكمل من المتمسك بشريعة أمر آخر وراءه، فإن المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) (مع كون شريعته أكمل و أوسع) ليس بأكمل من نوح و إبراهيم (علیه السلام) مع كون شريعتهما أقدم و أسبق، و ليس ذلك إلا أن حكم الشرائع و العمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكن فيها و التخلق بها، فصاحب مقام التوحيد الخالص و إن كان من أهل الشرائع السابقة أكمل و أفضل ممن لم يتمكن من مقام التوحيد و لم تستقر 

تفسير الميزان ج۱

36
  •  

  • حياة المعرفة في روحه و لم يتمكن نور الهداية الإلهية من قلبه، و إن كان عاملا بالشريعة المحمدية(صلى الله عليه وآله و سلم) التي هي أكمل الشرائع و أوسعها، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة و يسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة التي هي دونها.

  • و من أعجب ما ذكر في هذا المقام، ما ذكره بعض المحققين من أهل التفسير جوابا عن هذه الشبهة: أن دين الله واحد و هو الإسلام، و المعارف الأصلية و هو التوحيد و النبوة و المعاد و ما يتفرع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع، و إنما مزية هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي أن الأحكام الفرعية فيها أوسع و أشمل لجميع شئون الحياة، فهي أكثر عناية بحفظ مصالح العباد، على أن أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة و الموعظة و الجدال الأحسن، ثم إن الدين و إن كان دينا واحدا و المعارف الكلية في الجميع على السواء غير أنهم سلكوا سبيل ربهم قبل سلوكنا، و تقدموا في ذلك علينا، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه و الاعتبار بما صاروا إليه هذا.

  • أقول: و هذا الكلام مبني على أصول في مسلك التفسير مخالفة للأصول التي يجب أن يبتني مسلك التفسير عليها، فإنه مبني على أن حقائق المعارف الأصلية واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب و الدرجات، و كذا سائر الكمالات الباطنية المعنوية، فأفضل الأنبياء المقربين مع أخس المؤمنين من حيث الوجود و كماله الخارجي التكويني على حد سواء، و إنما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعي من غير أن يتكي على تكوين، كما أن التفاضل بين الملك و الرعية إنما هو بحسب المقام الجعلي الوضعي من غير تفاوت من حيث الوجود الإنساني هذا.

  • و لهذا الأصل أصل آخر يبنى عليه، و هو القول بأصالة المادة و نفي الأصالة عما وراءها و التوقف فيه إلا في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل، و قد وقع في هذه الورطة من وقع، لأحد أمرين: إما القول بالاكتفاء بالحس اعتمادا على العلوم المادية و إما إلغاء التدبر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العامي.

  • و للكلام ذيل طويل سنورده في بعض الأبحاث العلمية الآتية إن شاء الله تعالى.

تفسير الميزان ج۱

37
  •  

  • و خامسها: أن مزية أصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، و كذا صراطهم على سبيل غيرهم، إنما هو بالعلم لا العمل، فلهم من العلم بمقام ربهم ما ليس لغيرهم، إذ قد تبين مما مر: أن العمل التام موجود في بعض السبل التي دون صراطهم، فلا يبقى لمزيتهم إلا العلم، و أما ما هذا العلم؟ و كيف هو؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الرعد - ١٧.

  • و يشعر بهذا المعنى قوله تعالى: {يَرْفَعِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} المجادلة - ١١، و كذا قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الملائكة - ١٠، فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيب و هو الاعتقاد و العلم، و أما العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيب و الأمداد دون الصعود إليه تعالى، و سيجي‌ء تمام البيان في البحث عن الآية.

  • بحث روایی [معنی جری القرآن]

  • في الكافي، عن الصادق (علیه السلام): في معنى العبادة قال: العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله خوفا، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا الله تبارك و تعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأجراء، و قوم عبدوا الله عز و جل حبا، فتلك عبادة الأحرار، و هي أفضل العبادة.

  •  و في نهج البلاغة: إن قوما عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، و إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.

  • و في العلل، و المجالس، و الخصال، عن الصادق (علیه السلام): إن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء و هو الطمع، و آخرون يعبدونه خوفا من النار فتلك عبادة العبيد، و هي رهبة، و لكني أعبده حبا له عز و جل فتلك عبادة الكرام، لقوله عز و جل: {وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}.

  • و لقوله عز و جل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللَّهُ}، فمن أحب الله عز و جل 

تفسير الميزان ج۱

38
  •  

  • أحبه، و من أحبه الله كان من الآمنين، و هذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون.

  • أقول: و قد تبين معنى الروايات مما مر من البيان، و توصيفهم (علیهم السلام) عبادة الأحرار تارة بالشكر و تارة بالحب، لكون مرجعهما واحدا، فإن الشكر وضع الشي‌ء المنعم به في محله، و العبادة شكرها أن تكون لله الذي يستحقها لذاته، فيعبد الله لأنه الله، أي لأنه مستجمع لجميع صفات الجمال و الجلال بذاته، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته، فليس الحب إلا الميل إلى الجمال و الانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى هو معبود لأنه هو، و هو معبود لأنه جميل محبوب، و هو معبود لأنه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد.

  • و روي بطريق عامي عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الآية)، يعني: لا نريد منك غيرك و لا نعبدك بالعوض و البدل: كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك.

  • أقول: و الرواية تشير إلى ما تقدم، من استلزام معنى العبادة للحضور و للإخلاص الذي ينافي قصد البدل.

  • و في تحف العقول، عن الصادق (علیه السلام) في حديث: و من زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، و من زعم أنه يعبد الصفة و الموصوف فقد أبطل التوحيد لأن الصفة غير الموصوف، و من زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، و ما قدروا الله حق قدره. (الحديث).

  • و في المعاني، عن الصادق (علیه السلام): في معنى قوله تعالى: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ} يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، و المبلغ إلى جنتك، و المانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك‌ 

  • و في المعاني، أيضا عن علي (علیه السلام): في الآية، يعني، أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.

  • أقول: و الروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شبهة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال الهداية للمهدي، فالرواية الأولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقا و الثانية إلى اتحادها مفهوما. 

تفسير الميزان ج۱

39
  •  

  • و في المعاني، أيضا عن علي (علیه السلام): الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو، و ارتفع عن التقصير و استقام، و في الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة.

  • و في المعاني، أيضا عن علي (علیه السلام): في معنى {صِرَاطَ اَلَّذِينَ} (الآية) أي: قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك و طاعتك، لا بالمال و الصحة، فإنهم قد يكونون كفارا أو فساقا، قال: و هم الذين قال الله: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}.

  • و في العيون، عن الرضا (علیه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: قال الله عز و جل: قسمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل، إذا قال العبد: {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} قال الله جل جلاله بدأ عبدي باسمي و حق علي أن أتمم له أموره، و أبارك له في أحواله، فإذا قال: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ}، قال الله جل جلاله: حمدني عبدي، و علم أن النعم التي له من عندي، و أن البلايا التي دفعت عنه بتطولي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة و أدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، و إذا قال {اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ}، قال الله جل جلاله: شهد لي عبدي أني الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفرن من رحمتي حظه و لأجزلن من عطائي نصيبه فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ} قال الله تعالى: أشهدكم، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين، لأسهلن يوم الحساب حسابه، و لأتقبلن حسناته و لأتجاوزن عن سيئاته، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، قال الله عز و جل: صدق عبدي، إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: {وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله تعالى: بي استعان عبدي و إلي التجأ، أشهدكم لأعيننه على أمره، و لأغيثنه في شدائده و لآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة، قال الله عز و جل: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل، و قد استجبت لعبدي و أعطيته ما أمل و آمنته مما منه وجل.

  • أقول: و روى قريبا منه الصدوق في العلل، عن الرضا (علیه السلام)، و الرواية كما ترى

تفسير الميزان ج۱

40
  •  

  • تفسر سورة الفاتحة في الصلاة فهي تؤيد ما مر مرارا أن السورة كلام له سبحانه بالنيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة و إظهار العبودية من الثناء لربه و إظهار عبادته، فهي سورة موضوعة للعبادة، و ليس في القرآن سورة تناظرها في شأنها و أعني بذلك: 

  • أولا: أن السورة بتمامها كلام تكلم به الله سبحانه في مقام النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبية و نصب نفسه في مقام العبودية.

  • و ثانيا: أنها مقسمة قسمين، فنصف منها لله و نصف منها للعبد.

  • و ثالثا: أنها مشتملة على جميع المعارف القرآنية على إيجازها و اختصارها فإن القرآن على سعته العجيبة في معارفه الأصلية و ما يتفرع عليها من الفروع من أخلاق و أحكام في العبادات و المعاملات و السياسات و الاجتماعيات و وعد و وعيد و قصص و عبر، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد و النبوة و المعاد و فروعاتها، و إلى هداية العباد إلى ما يصلح به أولاهم و عقباهم، و هذه السورة كما هو واضح تشتمل على جميعها في أوجز لفظ و أوضح معنى.

  • و عليك أن تقيس ما يتجلى لك من جمال هذه السورة التي وضعها الله سبحانه في صلاة المسلمين بما يضعه النصارى في صلاتهم من الكلام الموجود في إنجيل متى ": (٦-٩-١٣) و هو ما نذكره بلفظة العربي: "أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيتك كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم، و اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، و لا تدخلنا في تجربة و لكن نجنا من الشرير آمين‌." 

  • تأمل في المعاني التي تفيدها ألفاظ هذه الجمل بعنوان أنها معارف سماوية، و ما يشتمل عليه من الأدب العبودي، أنها تذكر أولا أن أباهم (و هو الله تقدس اسمه) في السماوات! ثم تدعو في حق الأب بتقدس اسمه و إتيان ملكوته و نفوذ مشيته في الأرض كما هي نافذة في السماء، و لكن من الذي يستجيب هذا الدعاء الذي هو بشعارات الأحزاب السياسية أشبه؟ ثم تسأل الله إعطاء خبز اليوم و مقابلة المغفرة بالمغفرة، و 

تفسير الميزان ج۱

41
  •  

  • جعل الإغماض عن الحق في مقابل الإغماض، و ما ذا هو حقهم لو لم يجعل الله لهم حقا؟ و تسأله أن لا يمتحنهم بل ينجيهم من الشرير، و من المحال ذلك، فالدار دار الامتحان و الاستكمال و ما معنى النجاة لو لا الابتلاء و الامتحان؟ ثم اقض العجب مما ذكره بعض المستشرقين۱ من علماء الغرب و تبعه بعض من المنتحلين: أن الإسلام لا يربو على غيره في المعارف، فإن جميع شرائع الله تدعو إلى التوحيد و تصفية النفوس بالخلق الفاضل و العمل الصالح، و إنما تتفاضل الأديان في عراقة ثمراتها الاجتماعية.!! .!! (

  • (بحث آخر روائي)

  • في الفقيه، و تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام) قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنين (علیه السلام).

  • و في المعاني، عن الصادق (علیه السلام) قال: هي الطريق إلى معرفة الله، و هما صراطان صراط في الدنيا و صراط في الآخرة، فأما الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه في الآخرة فتردى في نار جهنم.

  • و في المعاني، أيضا عن السجاد (علیه السلام) قال: ليس بين الله و بين حجته حجاب، و لا لله دون حجته ستر، نحن أبواب الله و نحن الصراط المستقيم و نحن عيبة علمه، و نحن تراجمة وحيه و نحن أركان توحيده و نحن موضع سره.

  • و عن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع بن الجراح عن الثوري عن السدي، عن أسباط و مجاهد، عن ابن عباس":في قوله تعالى: {اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ}، قال: قولوا معاشر العباد: أرشدنا إلى حب محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و أهل بيته (علیه السلام).

  • أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و هذه الأخبار من قبيل الجري، و عد المصداق للآية، و اعلم أن الجري (و كثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب) اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت (علیهم السلام).

  •  

    1. القسيس الفاضل كوستاولبون في تاريخ تمدن الإسلام 

تفسير الميزان ج۱

42
  •  

  • ففي تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن هذه الرواية؛ ما في القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن و ما فيها حرف إلا و له حد، و لكل حد مطلع؛ ما يعني بقوله: ظهر و بطن؟ قال؟ ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما مضى و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر، كلما جاء منه شي‌ء وقع‌. (الحديث).

  • و في هذا المعنى روايات أخر، و هذه سليقة أئمة أهل البيت فإنهم (علیهم السلام) يطبقون الآية من القرآن على ما يقبل أن ينطبق عليه من الموارد و إن كان خارجا عن مورد النزول، و الاعتبار يساعده، فإن القرآن نزل هدى للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد و واجب الخلق و واجب العمل، و ما بينه من المعارف النظرية حقائق لا تختص بحال دون حال و لا زمان، دون زمان و ما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعة من حكم عملي لا يتقيد بفرد دون فرد و لا عصر دون عصر لعموم التشريع.

  • و ما ورد من شأن النزول (و هو الأمر أو الحادثة التي تعقب نزول آية أو آيات في شخص أو واقعة) لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها و يموت بموتها لأن البيان عام و التعليل مطلق، فإن المدح النازل في حق أفراد من المؤمنين أو الذم النازل في حق آخرين معللا بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم و هكذا، و القرآن أيضا يدل عليه، قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اَللَّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} المائدة - ١٦ و قال: {وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَيَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ} حم سجدة - ٤٢. و قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر – ٩.

  • و الروايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم (علیهم السلام) أو على أعدائهم أعني: روايات الجري، كثيرة في الأبواب المختلفة، و ربما تبلغ المئين، و نحن بعد هذا التنبيه العام نترك إيراد أكثرها في الأبحاث الروائية لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلا ما تعلق بها غرض في البحث فليتذكر.

تفسير الميزان ج۱

43
  •  

  • (٢) سورة البقرة و هي مائتان و ست و ثمانون آية (٢٨٦) 

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ١ الی ٥] 

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ}{الم ١ ذلِكَ اَلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ٢ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ٣ وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ٤ أُولَئِكَ عَلى‌ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٥} 

  • (بيان)

  • لما كانت السورة نازلة نجوما لم يجمعها غرض واحد إلا أن معظمها تنبئ عن غاية واحدة محصلة و هو بيان أن من حق عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرقة بين وحي و وحي، و لا بين رسول و رسول و لا غير ذلك ثم تقريع الكافرين و المنافقين و ملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرقة في دين الله و التفريق بين رسله، ثم التخلص إلى بيان عدة من الأحكام كتحويل القبلة و أحكام الحج و الإرث و الصوم و غير ذلك.

  • قوله تعالى: {الم}، سيأتي بعض ما يتعلق من الكلام بالحروف المقطعة التي في أوائل السور، في أول سورة الشورى إن شاء الله، و كذلك الكلام في معنى هداية القرآن و معنى كونه كتابا.

  • و قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} إلخ، المتقون هم المؤمنون، و ليست التقوى من الأوصاف الخاصة لطبقة من طبقاتهم أعني: لمرتبة من مراتب الإيمان حتى تكون مقاما من مقاماته نظير الإحسان و الإخبات و الخلوص، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الإيمان إذا تلبس الإيمان بلباس التحقق، و الدليل على ذلك أنه تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم و درجاتهم و الذي أخذه تعالى من الأوصاف المعرفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة التي يبين فيها 

تفسير الميزان ج۱

44
  •  

  • حال المؤمنين و الكفار و المنافقين خمس صفات، و هي الإيمان بالغيب، و إقامة الصلاة، و الإنفاق مما رزق الله سبحانه، و الإيمان بما أنزله على أنبيائه، و الإيقان بالآخرة، و قد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدل ذلك على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم إنما صاروا متقين أولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثم وصف الكتاب بأنه هدى لهؤلاء المتقين بقوله تعالى: {ذلِكَ اَلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} فعلمنا بذلك: أن الهداية غير الهداية، و أن هؤلاء و هم متقون محفوفون بهدايتين، هداية أولى بها صاروا متقين، و هداية ثانية أكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى و بذلك صحت المقابلة بين المتقين و بين الكفار و المنافقين، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين و عماءين، ضلال أول هو الموجب لأوصافهم الخبيثة من الكفر و النفاق، و ضلال ثان يتأكد به ضلالهم الأول، و يتصفون به بعد تحقق الكفر و النفاق كما يقوله تعالى في حق الكفار: {خَتَمَ اَللَّهُ عَلى‌ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‌ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‌ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} البقرة - ٧، فنسب الختم إلى نفسه تعالى و الغشاوة إلى أنفسهم، و كما يقوله في حق المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اَللَّهُ مَرَضاً} البقرة - ١٠فنسب المرض الأول إليهم و المرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} البقرة - ٢٦، و قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ} الصف - ٥.

  • و بالجملة المتقون واقعون بين هدايتين، كما أن الكفار و المنافقين واقعون بين ضلالين.

  • ثم إن الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الأولى قبل القرآن و بسبب سلامة الفطرة، فإن الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تتنبه شاهدة لفقرها و حاجتها إلى أمر خارج عنها، و كذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى أمر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس منه يبدأ الجميع و إليه ينتهي و يعود، و إنه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال و الأخلاق، و هذا هو 

تفسير الميزان ج۱

45
  •  

  • الإذعان بالتوحيد و النبوة و المعاد و هي أصول الدين، و يلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيته، و استعمال ما في وسع الإنسان من مال و جاه و علم و فضيلة لإحياء هذا الأمر و نشره، و هذان هما الصلاة و الإنفاق.

  • و من هنا يعلم: أن الذي أخذه سبحانه من أوصافهم هو الذي يقضي به الفطرة إذا سلمت و أنه سبحانه وعدهم أنه سيفيض عليهم أمرا سماه هداية، فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة و هداية لاحقة، و بين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد و صلاح العمل، و من الدليل على أن هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الأولى، آيات كثيرة كقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ} إبراهيم - ٢٧. و قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} الحديد - ٢٨. و قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اَللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)٧- .

  • و قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} الصف - ٧. و قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ} الصف - ٥. إلى غير ذلك من الآيات.

  • و الأمر في ضلال الكفار و المنافقين كما في المتقين على ما سيأتي إن شاء الله.

  • و في الآيات إشارة إلى حياة أخرى للإنسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحياة الدنيوية، و هي الحياة التي بها يعيش الإنسان في هذه الدار و بعد الموت و حين البعث، قال تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} الأنعام - ١٢٣. و سيأتي الكلام فيه إن شاء الله.

  • و قوله سبحانه: {يُؤْمِنُونَ}، الإيمان‌ تمكن الاعتقاد في القلب مأخوذ من الأمن كأن المؤمن يعطي لما أمن به الأمن من الريب و الشك و هو آفة الاعتقاد، و الإيمان كما مر معنى ذو مراتب، إذ الإذعان ربما يتعلق بالشي‌ء نفسه فيترتب عليه أثره فقط، و ربما يشتد بعض الاشتداد فيتعلق ببعض لوازمه، و ربما يتعلق بجميع لوازمه فيستنتج منه أن للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الإيمان.

  • و قوله سبحانه: {بِالْغَيْبِ}، الغيب‌ خلاف الشهادة و ينطبق على ما لا يقع عليه الحس، و هو الله سبحانه و آياته الكبرى الغائبة عن حواسنا، و منها الوحي، و هو 

تفسير الميزان ج۱

46
  •  

  • الذي أشير إليه بقوله: {وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} فالمراد بالإيمان بالغيب في مقابل الإيمان بالوحي و الإيقان بالآخرة، هو الإيمان بالله تعالى ليتم بذلك الإيمان بالأصول الثلاثة للدين، و القرآن يؤكد القول على عدم القصر على الحس فقط و يحرص على اتباع سليم العقل و خالص اللب.

  • و قوله سبحانه: {وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}، العدول في خصوص الإذعان بالآخرة عن الإيمان إلى الإيقان، كأنه للإشارة إلى أن التقوى لا تتم إلا مع اليقين بالآخرة الذي لا يجامع نسيانها، دون الإيمان المجرد، فإن الإنسان ربما يؤمن بشي‌ء و يذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنه إذا كان على علم و ذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير و اليسير من أعماله لا يقتحم معه الموبقات و لا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتة قال تعالى: {وَ لاَ تَتَّبِعِ اَلْهَوى‌ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ} ص - ٢٦، فبين تعالى: أن الضلال عن سبيل الله إنما هو بنسيان يوم الحساب؛ فذكره و اليقين به ينتج التقوى.

  • و قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلى‌ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}، الهداية كلها من الله سبحانه، لا ينسب إلى غيره البتة إلا على نحو من المجاز كما سيأتي إن شاء الله، و لما وصفهم الله سبحانه بالهداية و قد قال في نعتها: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ} الأنعام - ١٢٥، و شرح الصدر سعته و هذا الشرح يدفع عنه كل ضيق و شح، و قد قال تعالى: 

  • {وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ} الحشر - ٩، عقب سبحانه هاهنا أيضا قوله: {أُولَئِكَ عَلى‌ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}؛ بقوله: {وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ} (الآية).

  • (بحث روائي)

  • في المعاني، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، قال: من آمن بقيام القائم (علیه السلام) أنه حق.

  • أقول: و هذا المعنى مروي في غير هذه الرواية و هو من الجري.

تفسير الميزان ج۱

47
  •  

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى: {وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال: و مما علمناهم يبثون.

  • و في المعاني، عنه (علیه السلام): في الآية: و مما علمناهم يبثون، و ما علمناهم من القرآن يتلون.

  • أقول: و الروايتان مبنيتان على حمل الإنفاق على الأعم من إنفاق المال كما ذكرناه.

  • (بحث فلسفي) [جواز التعويل على غير المحسوسات] 

  • هل يجوز التعويل على غير الإدراكات الحسية من المعاني العقلية؟ هذه المسألة من معارك الآراء بين المتأخرين من الغربيين؛ و إن كان المعظم من القدماء و حكماء الإسلام على جواز التعويل على الحس و العقل معا؛ بل ذكروا أن البرهان العلمي لا يشمل المحسوس من حيث إنه محسوس، لكن الغربيين مع ذلك اختلفوا في ذلك، و المعظم منهم و خاصة من علماء الطبيعة على عدم الاعتماد على غير الحس، و قد احتجوا على ذلك بأن العقليات المحضة يكثر وقوع الخطإ و الغلط فيها مع عدم وجود ما يميز به الصواب من الخطإ و هو الحس و التجربة المماسان للجزئيات بخلاف الإدراكات الحسية فإنا إذا أدركنا شيئا بواحد من الحواس أتبعنا ذلك بالتجربة بتكرار الأمثال، و لا نزال نكرر حتى نستثبت الخاصة المطلوبة في الخارج ثم لا يقع فيه شك بعد ذلك، و الحجة باطلة مدخولة.

  • أولا: بأن جميع المقدمات المأخوذة فيها عقلية غير حسية فهي حجة على بطلان الاعتماد على المقدمات العقلية بمقدمات عقلية فيلزم من صحة الحجة فسادها.

  • و ثانيا: بأن الغلط في الحواس لا يقصر عددا من الخطإ و الغلط في العقليات، كما يرشد إليه الأبحاث التي أوردوها في المبصرات و سائر المحسوسات، فلو كان مجرد وقوع الخطإ في باب موجبا لسده و سقوط الاعتماد عليه لكان سد باب الحس أوجب و ألزم.

تفسير الميزان ج۱

48
  •  

  • و ثالثا: أن التميز بين الخطإ و الصواب مما لا بد منه في جميع المدركات غير أن التجربة و هو تكرر الحس ليست آلة لذلك التميز بل القضية التجربية تصير إحدى المقدمات من قياس يحتج به على المطلوب، فإنا إذا أدركنا بالحس خاصة من الخواص ثم أتبعناه بالتجربة بتكرار الأمثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل: إن هذه الخاصة دائمي الوجود أو أكثري الوجود لهذا الموضوع، و لو كانت خاصة لغير هذا الموضوع لم يكن بدائمي أو أكثري، لكنه دائمي أو أكثري و هذا القياس كما ترى يشتمل على مقدمات عقلية غير حسية و لا تجريبية.

  • و رابعا: هب أن جميع العلوم الحسية مؤيدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح أن نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة أخرى و هكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحته من طريق غير طريق الحس، فالاعتماد على الحس و التجربة اعتماد على العلم العقلي اضطرارا.

  • و خامسا: أن الحس لا ينال غير الجزئي المتغير و العلوم لا تستنتج و لا تستعمل غير القضايا الكلية و هي غير محسوسة و لا مجربة، فإن التشريح مثلا إنما ينال من الإنسان مثلا أفرادا معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحس فيها مشاهدة أن لهذا الإنسان قلبا و كبدا مثلا، و يحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقل أو يكثر و ذلك غير الحكم الكلي في قولنا: كل إنسان فله قلب أو كبد، فلو اقتصرنا في الاعتماد و التعويل على ما يستفاد من الحس و التجربة فحسب من غير ركون على العقليات من رأس لم يتم لنا إدراك كلي و لا فكر نظري و لا بحث علمي، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحس في مورد يخص به كذلك التعويل فيما يخص بالقوة العقلية، و مرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكلية و المدرك لهذه الأحكام العامة، و لا ريب أن الإنسان معه شي‌ء شأنه هذا الشأن، و كيف يتصور أن يوجد و يحصل بالصنع و التكوين شي‌ء شأنه الخطأ في فعله رأسا؟ أو يمكن أن يخطئ في فعله الذي خصه به التكوين؟ و التكوين إنما يخص موجودا من الموجودات بفعل من الأفعال بعد تثبت الرابطة الخارجية بينهما، و كيف يثبت رابطة بين موجود و ما ليس بموجود أي خطأ و غلط؟ 

  • و أما وقوع الخطإ في العلوم أو الحواس فلبيان حقيقة الأمر فيه محل آخر ينبغي الرجوع إليه و الله الهادي. 

تفسير الميزان ج۱

49
  •  

  • (بحث آخر فلسفي) وجود العلم 

  • الإنسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحياة لا يرى من نفسه إلا أنه ينال من الأشياء أعيانها الخارجية من غير أن يتنبه أنه يوسط بينه و بينها وصف العلم، و لا يزال على هذا الحال حتى يصادف في بعض مواقفه الشك أو الظن، و عند ذلك يتنبه: أنه لا ينفك في سيره الحيوي و معاشه الدنيوي عن استعمال العلم لا سيما و هو ربما يخطئ و يغلط في تميزاته، و لا سبيل للخطإ و الغلط إلى خارج الأعيان، فيتيقن عند ذلك بوجود صفة العلم (و هو الإدراك المانع من النقيض) فيه.

  • ثم البحث البالغ يوصلنا أيضا إلى هذه النتيجة، فإن إدراكاتنا التصديقية تحلل إلى قضية أول الأوائل (و هي أن الإيجاب و السلب لا يجتمعان معا و لا يرتفعان معا) فما من قضية بديهية أو نظرية إلا و هي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضية البديهية الأولية، حتى إنا لو فرضنا من أنفسنا الشك فيها وجدنا الشك المفروض لا يجامع بطلان نفسه و هو مفروض، و إذا ثبتت هذه القضية على بداهتها ثبت جم غفير من التصديقات العلمية على حسب مساس الحاجة إلى إثباتها، و عليها معول الإنسان في أنظاره و أعماله.

  • فما من موقف علمي و لا واقعة عملية إلا و معول الإنسان فيه على العلم، حتى أنه إنما يشخص شكه بعلمه أنه شك، و كذا ظنه أو وهمه أو جهله بما يعلم أنه ظن أو وهم أو جهل هذا.

  • و لقد نشأ في عصر اليونانيين جماعة كانوا يسمون بالسوفسطائيين نفوا وجود العلم، و كانوا يبدون في كل شي‌ء الشك حتى في أنفسهم و في شكهم، و تبعهم آخرون يسمون بالشكاكين قريبو المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن أنفسهم و أفكارهم (إدراكاتهم) و ربما لفقوا لذلك وجوها من الاستدلال.

  • منها: أن أقوى العلوم و الإدراكات (و هي الحاصلة لنا من طرق الحواس) مملوءة 

تفسير الميزان ج۱

50
  •  

  • خطأ و غلطا فكيف بغيرها؟ و مع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شي‌ء من العلوم و التصديقات المتعلقة بالخارج منا؟ 

  • و منها: أنا كلما قصدنا نيل شي‌ء من الأشياء الخارجية لم ننل عند ذلك إلا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشي‌ء من الأشياء؟ إلى غير ذلك من الوجوه.

  • و الجواب عن الأول: أن هذا الاستدلال يبطل نفسه، فلو لم يجز الاعتماد على شي‌ء من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس الاستدلال، مضافا إلى أن الاعتراف بوجود الخطإ و كثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه، مضافا إلى أن القائل بوجود العلم لا يدعي صحة كل تصديق بل إنما يدعيه في الجملة، و بعبارة أخرى يدعي الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي و الحجة لا تفي بنفي ذلك.

  • و الجواب عن الثاني: أن محل النزاع و هو العلم حقيقته الكشف عن ما وراءه فإذا فرضنا أنا كلما قصدنا شيئا من الأشياء الخارجية وجدنا العلم بذلك اعترفنا بأنا كشفنا عنه حينئذ، و نحن إنما ندعي وجود هذا الكشف في الجملة، و لم يدع أحد في باب وجود العلم: أنا نجد نفس الواقع و ننال عين الخارج دون كشفه، و هؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريا في أفعال الحياة الاختيارية و غيرها، فإنهم يتحركون إلى الغذاء و الماء عند إحساس ألم الجوع و العطش، و كذا إلى كل مطلوب عند طلبه لا عند تصوره الخالي، و يهربون عن كل محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرد تصوره، و بالجملة كل حاجة نفسانية ألهمتها إليهم إحساساتهم أوجدوا حركة خارجية لرفعها و لكنهم عند تصور تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحركون نحو رفعها، و بين التصورين فرق لا محالة، و هو أن أحد العلمين يوجده الإنسان باختياره و من عند نفسه و الآخر إنما يوجد في الإنسان بإيجاد أمر خارج عنه مؤثر فيه، و هو الذي يكشف عنه العلم، فإذن العلم موجود و ذلك ما أردناه.

  • و اعلم: أن في وجود العلم شكا قويا من وجه آخر و هو الذي وضع عليه أساس العلوم المادية اليوم من نفي العلم الثابت (و كل علم ثابت)، بيانه: أن البحث العلمي 

تفسير الميزان ج۱

51
  •  

  • يثبت في عالم الطبيعة نظام التحول و التكامل، فكل جزء من أجزاء عالم الطبيعة واقع في مسير الحركة و متوجه إلى الكمال، فما من شي‌ء إلا و هو في الآن الثاني من وجوده غيره و هو في الآن الأول من وجوده، و لا شك أن الفكر و الإدراك من خواص الدماغ فهي خاصة مادية لمركب مادي، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحول و التكامل، فهذه الإدراكات (و منها الإدراك المسمى بالعلم) واقعة في التغير و التحول فلا معنى لوجود علم ثابت باق و إنما هو نسبي، فبعض التصديقات أدوم بقاء و أطول عمرا أو أخفى نقيضا و نقضا من بعض آخر و هو المسمى بالعلم فيما وجد.

  • و الجواب عنه: أن الحجة مبنية على كون العلم ماديا غير مجرد في وجوده و ليس ذلك بينا و لا مبينا بل الحق أن العلم ليس بمادي البتة، و ذلك لعدم انطباق صفات المادة و خواصها عليه.

  • (۱) فإن الماديات مشتركة في قبول الانقسام و ليس يقبل العلم بما أنه علم الانقسام البتة.

  • (٢ (و الماديات مكانية زمانية و العلم بما أنه علم لا يقبل مكانا و لا زمانا، و الدليل عليه إمكان تعقل الحادثة الجزئية الواقعة في مكان معين و زمان معين في كل مكان و كل زمان مع حفظ العينية.

  • (٣) و الماديات بأجمعها واقعة تحت سيطرة الحركة العمومية فالتغير خاصة عمومية فيها مع أن العلم بما أنه علم لا يتغير، فإن حيثية العلم بالذات تنافي حيثية التغير و التبدل و هو ظاهر عند المتأمل.

  • (٤) و لو كان العلم مما يتغير بحسب ذاته كالماديات لم يمكن تعقل شي‌ء واحد و لا حادثة واحدة في وقتين مختلفين معا و لا تذكر شي‌ء أو حادثة سابقة في زمان لاحق، فإن الشي‌ء المتغير و هو في الآن الثاني غيره في الآن الأول، فهذه الوجوه و نظائرها دالة على أن العلم بما أنه علم ليس بمادي البتة، و أما ما يحصل في العضو الحساس أو الدماغ من تحقق عمل طبيعي فليس بحثنا فيه أصلا و لا دليل على أنه هو العلم، و مجرد تحقق عمل عند تحقق أمر من الأمور لا يدل على كونهما أمرا واحدا، و الزائد على هذا المقدار من البحث ينبغي أن يطلب من محل آخر. 

تفسير الميزان ج۱

52
  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٦ الی ٧]

  •  {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٦ خَتَمَ اَللَّهُ عَلى‌ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‌ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‌ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ٧} 

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا}، هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر و تمكن الجحود من قلوبهم، و يدل عليه وصف حالهم بمساواة الإنذار و عدمه فيهم، و لا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الذين كفروا هم الكفار من صناديد قريش و كبراء مكة الذين عاندوا و لجوا في أمر الدين و لم يألوا جهدا في ذلك و لم يؤمنوا حتى أفناهم الله عن آخرهم في بدر و غيره، و يؤيده أن هذا التعبير و هو قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، لا يمكن استطراده في حق جميع الكفار و إلا انسد باب الهداية و القرآن ينادي على خلافه، و أيضا هذا التعبير إنما وقع في سورة يس (و هي مكية) و في هذه (السورة و هي سورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة) نزلت و لم تقع غزوة بدر بعد، فالأشبه أن يكون المراد من {اَلَّذِينَ كَفَرُوا}، هاهنا و في سائر الموارد من كلامه تعالى: كفار مكة في أول البعثة إلا أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي أن المراد من قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا}، فيما أطلق في القرآن من غير قرينة هم السابقون الأولون من المسلمين، خصوا بهذا الخطاب تشريفا.

  • و قوله تعالى: {خَتَمَ اَللَّهُ عَلى‌ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‌ سَمْعِهِمْ} إلخ يشعر تغيير السياق: (حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى و الغشاوة إليهم أنفسهم) بأن فيهم حجابا دون الحق في أنفسهم و حجابا من الله تعالى عقيب كفرهم و فسوقهم، فأعمالهم متوسطة بين حجابين: من ذاتهم و من الله تعالى، و سيأتي بعض ما يتعلق بالمقام في قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً}.

  • و اعلم أن الكفر كالإيمان وصف قابل للشدة و الضعف فله مراتب مختلفة الآثار كالإيمان.

تفسير الميزان ج۱

53
  •  

  • (بحث روائي) [وجوه الكفر]

  • في الكافي، عن الزبيري عن الصادق (علیه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عز و جل، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، و الجحود على وجهين، و الكفر بترك ما أمر الله، و كفر البراءة، و كفر النعم. فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية و هو قول من يقول: لا رب و لا جنة و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية و هم الذين يقولون و ما يهلكنا إلا الدهر و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم و لا تحقيق لشي‌ء مما يقولونقال عز و جل{إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ أن ذلك كما يقولون} و قال{إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، يعني بتوحيد الله، فهذا أحد وجوه الكفر.

  • و أما الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة، و هو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنه حق قد استقر عنده، و قد قال الله عز و جل: {وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا}، و قال الله عز و جل: {وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلْكَافِرِينَ}، فهذا تفسير وجهي الجحود، و الوجه الثالث من الكفر كفر النعم و ذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان: {هَذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}، و قال: 

  • {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ}، و قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لاَ تَكْفُرُونِ}.

  • و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز و جل به، و هو قول عز و جل: {وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ لاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارى‌ تُفَادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتَابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، فكفرهم بترك ما أمر الله عز و جل به و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده فقال: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ 

تفسير الميزان ج۱

54
  •  

  • }ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلى‌ أَشَدِّ اَلْعَذابِ وَ مَا اَللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

  • و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة و ذلك قول الله عز و جل يحكي قول إبراهيم: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةُ وَ اَلْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، يعني تبرأنا منكم، و قال: (يذكر إبليس و تبريه من أوليائه من الإنس يوم القيامة) إني كفرت بما أشركتمون من قبل، و قال: {إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}، يعني يتبرأ بعضكم من بعض.

  • أقول: و هي في بيان قبول الكفر الشدة و الضعف كما مر.

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٨ الی ٢٠]

  •  {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ٨ يُخَادِعُونَ اَللَّهَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ مَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ ٩ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اَللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لاَتُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ١١ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ وَ لَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ ١٢ وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ اَلنَّاسُ قَالُوا أَ نُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ اَلسُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ اَلسُّفَهَاءُ وَ لَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ ١٣ وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى‌ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ١٤ اَللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ١٥ أُولَئِكَ}

تفسير الميزان ج۱

55
  •  

  • {اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلاَلَةَ بِالْهُدى‌ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ١٦ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اَللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ ١٧ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ١٨ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ اَلصَّوَاعِقِ حَذَرَ اَلْمَوْتِ وَ اَللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ١٩ يَكَادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصَارِهِمْ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ٢٠}

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ} إلى آخر الآيات، الخدعة نوع من المكر، و الشيطان‌ هو الشرير و لذلك سمي إبليس شيطانا

  • و في الآيات بيان حال المنافقين، و سيجي‌ء إن شاء الله تفصيل القول فيهم في سورة المنافقين و غيرها.

  • و قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نَاراً} إلخ مثل يمثل به حالهم، أنهم كالذي وقع في ظلمة عمياء لا يتميز فيها خير من شر و لا نافع من ضار فتسبب لرفعها بسبب من أسباب الاستضاءة كنار يوقدها فيبصر بها ما حولها فلما توقدت و أضاءت ما حولها أخمدها الله بسبب من الأسباب كريح أو مطر أو نحوهما فبقي فيما كان عليه 

تفسير الميزان ج۱

56
  •  

  • من الظلمة و تورط بين ظلمتين: ظلمة كان فيها و ظلمة الحيرة و بطلان السبب.

  • و هذه حال المنافق، يظهر الإيمان فيستفيد بعض فوائد الدين باشتراكه مع المؤمنين في مواريثهم و مناكحهم و غيرهما حتى إذا حان حين الموت و هو الحين الذي فيه تمام الاستفادة من الإيمان ذهب الله بنوره و أبطل ما عمله و تركه في ظلمة لا يدرك فيها شيئا و يقع بين الظلمة الأصلية و ما أوجده من الظلمة بفعاله.

  • و قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ} إلخ، الصيب‌ هو المطر الغزير، و البرق معروف، و الرعد هو الصوت الحادث من السحاب عند الإبراق، و الصاعقة هي النازلة من البروق.

  • و هذا مثل ثان يمثل به حال المنافقين في إظهارهم الإيمان، أنهم كالذي أخذه صيب السماء و معه ظلمة تسلب عنه الأبصار و التمييز، فالصيب يضطره إلى الفرار و التخلص، و الظلمة تمنعه ذلك، و المهولات من الرعد و الصاعقة محيطة به فلا يجد مناصا من أن يستفيد بالبرق و ضوئه و هو غير دائم و لا باق متصل كلما أضاء له مشى و إذا أظلم عليه قام.

  • و هذه حال المنافق فهو لا يحب الإيمان و لا يجد بدا من إظهاره، و لعدم المواطاة بين قلبه و لسانه لا يستضي‌ء له طريقه تمام الاستضاءة، فلا يزال يخبط خبطا بعد خبط و يعثر عثرة بعد عثرة فيمشي قليلا و يقف قليلا و يفضحه الله بذلك و لو شاء الله لذهب بسمعه و بصره فيفتضح من أول يوم‌ .

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٢١ الی ٢٥]

  •  {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٢١ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِرَاشاً وَ اَلسَّمَاءَ بِنَاءً وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٢٢ وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا}

تفسير الميزان ج۱

57
  •  

  • {عَلى‌ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٢٣ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا اَلنَّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ٢٤ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا اَلَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَ لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٢٥

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا} إلخ، لما بين سبحانه: حال الفرق الثلاث: المتقين و الكافرين، و المنافقين، و أن المتقين على هدى من ربهم و القرآن هدى لهم، و أن الكافرين مختوم على قلوبهم؛ و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة، و أن المنافقين مرضى و زادهم الله مرضا و هم صم بكم عمي (و ذلك في تمام تسع عشرة آية) فرع تعالى على ذلك أن دعا الناس إلى عبادته و أن يلتحقوا بالمتقين دون الكافرين و المنافقين بهذه الآيات الخمس إلى قوله: {خَالِدُونَ}. و هذا السياق يعطي كون قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} متعلقا بقوله: {اُعْبُدُوا}، دون قوله {خَلَقَكُمْ} و إن كان المعنى صحيحا على كلا التقديرين.

  • و قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، الأنداد جمع ند كمثل، وزنا و معنى و عدم تقييد قوله تعالى: {وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بقيد خاص و جعله حالا من قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا} يفيد التأكيد البالغ في النهي بأن الإنسان و له علم ما كيفما كان لا يجوز له أن يتخذ لله سبحانه أندادا و الحال أنه سبحانه هو الذي خلقهم و الذين من قبلهم ثم نظم النظام الكوني لرزقهم و بقائهم.

  • و قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} أمر تعجيزي لإبانة إعجاز القرآن، و أنه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه، إعجازا باقيا بمر الدهور و توالي القرون 

تفسير الميزان ج۱

58
  •  

  • و قد تكرر في كلامه تعالى: هذا التعجيز كقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى‌ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} الإسراء - ٨٨، و قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هود - ١٣. و على هذا فالضمير في مثله عائد إلى قوله تعالى: {مِمَّا نَزَّلْنَا}، و يكون تعجيزا بالقرآن نفسه و بداعة أسلوبه و بيانه.

  • و يمكن أن يكون الضمير راجعا إلى قوله: {عَبْدِنَا}، فيكون تعجيزا بالقرآن من حيث إن الذي جاء به رجل أمي لم يتعلم من معلم و لم يتلق شيئا من هذه المعارف الغالية العالية و البيانات البديعة المتقنة من أحد من الناس فيكون الآية في مساق قوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ}يونس - ١٦، و قد ورد التفسيران معا في بعض الأخبار.

  • و اعلم: أن هذه الآية كنظائرها تعطي إعجاز أقصر سورة من القرآن كسورة الكوثر و سورة العصر مثلا، و ما ربما يحتمل من رجوع ضمير مثله إلى نفس السورة كسورة البقرة أو سورة يونس مثلا يأباه الفهم المستأنس بأساليب الكلام إذ من يرمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى إنما يرميه جميعا و لا يخصص قوله ذاك بسورة دون سورة، فلا معنى لرده بالتحدي بسورة البقرة أو بسورة يونس لرجوع المعنى حينئذ إلى مثل قولنا: و إن كنتم في ريب من سورة الكوثر أو الإخلاص مثلا فأتوا بسورة مثل سورة يونس و هو بين الاستهجان هذا.

  • (الإعجاز و ماهيته) [الكلام في الإعجاز و إعجاز القرآن]

  • اعلم: أن دعوى القرآن أنها آية معجزة بهذا التحدي الذي أبدتها هذه الآية تنحل بحسب الحقيقة إلى دعويين، و هما دعوى ثبوت أصل الإعجاز و خرق العادة الجارية و دعوى أن القرآن مصداق من مصاديق الإعجاز و معلوم أن الدعوى الثانية تثبت بثبوتها الدعوى الأولى، و القرآن أيضا يكتفي بهذا النمط من البيان و يتحدى بنفسه فيستنتج به كلتا النتيجتين غير أنه يبقى الكلام على كيفية تحقق الإعجاز مع 

تفسير الميزان ج۱

59
  •  

  • اشتماله على ما لا تصدقه العادة الجارية في الطبيعة من استناد المسببات إلى أسبابها المعهودة المشخصة من غير استثناء في حكم السببية أو تخلف و اختلاف في قانون العلية، و القرآن يبين حقيقة الأمر و يزيل الشبهة فيه.

  • فالقرآن يشدق في بيان الأمر من جهتين.

  • الأولى: أن الإعجاز ثابت و من مصاديقه القرآن المثبت لأصل الإعجاز و لكونه منه بالتحدي.

  • الثانية: أنه ما هو حقيقة الإعجاز و كيف يقع في الطبيعة أمر يخرق عادتها و ينقض كليتها.

  • (إعجاز القرآن)

  • لا ريب في أن القرآن يتحدى بالإعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكية و مدنية تدل جميعها على أن القرآن آية معجزة خارقة حتى أن الآية السابقة أعني قوله تعالى: {وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلى‌ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (الآية)، أي من مثل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) استدلال على كون القرآن معجزة بالتحدي على إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، لا أنه استدلال على النبوة مستقيما و بلا واسطة، و الدليل عليه قوله تعالى في أولها: {وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلى‌ عَبْدِنَا} و لم يقل و إن كنتم في ريب من رسالة عبدنا، فجميع التحديات الواقعة في القرآن نحو استدلال على كون القرآن معجزة خارقة من عند الله، و الآيات المشتملة على التحدي مختلفة في العموم و الخصوص و من أعمها تحديا قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى‌ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} الإسراء - ٨٨، و الآية مكية و فيها من عموم التحدي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة.

  • فلو كان التحدي ببلاغة بيان القرآن و جزالة أسلوبه فقط لم يتعد التحدي قوما خاصا و هم العرب العرباء من الجاهليين و المخضرمين قبل اختلاط اللسان و فساده، و قد قرع بالآية أسماع الإنس و الجن.

  • و كذا غير البلاغة و الجزالة من كل صفة خاصة اشتمل عليها القرآن كالمعارف 

تفسير الميزان ج۱

60
  •  

  • الحقيقية و الأخلاق الفاضلة و الأحكام التشريعية و الأخبار المغيبة و معارف أخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك، كل واحد منها مما يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم، فإطلاق التحدي على الثقلين ليس إلا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات.

  • فالقرآن آية للبليغ في بلاغته و فصاحته، و للحكيم في حكمته، و للعالم في علمه و للاجتماعي في اجتماعه، و للمقننين في تقنينهم و للسياسيين في سياستهم، و للحكام في حكومتهم، و لجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعا كالغيب و الاختلاف في الحكم و العلم، و البيان.

  • و من هنا يظهر أن القرآن يدعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كونه إعجازا لكل فرد من الإنس و الجن من عامة أو خاصة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لب يشعر بالقول، فإن الإنسان مفطور على الشعور بالفضيلة و إدراك الزيادة و النقيصة فيها، فلكل إنسان أن يتأمل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثم يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحق و النصفة، فهل يتأتى القوة البشرية أن يختلق معارف إلهية مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن و تماثله في الحقيقة؟ و هل يمكنها أن تأتي بأخلاق مبنية على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء و الفضيلة؟ و هل يمكنها أن يشرع أحكاما تامة فقهية تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدي إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد و كلمة التقوى في كل حكم و نتيجته، و سريان الطهارة في أصله و فرعه؟ و هل يمكن أن يصدر هذا الإحصاء العجيب و الإتقان الغريب من رجل أمي لم يترب إلا في حجر قوم حظهم من الإنسانية على مزاياها التي لا تحصى و كمالاتها التي لا تغيا أن يرتزقوا بالغارات و الغزوات و نهب الأموال و أن يئدوا البنات و يقتلوا الأولاد خشية إملاق و يفتخروا بالآباء و ينكحوا الأمهات و يتباهوا بالفجور و يذموا العلم و يتظاهروا بالجهل و هم على أنفتهم و حميتهم الكاذبة أذلاء لكل مستذل و خطفة لكل خاطف فيوما لليمن و يوما للحبشة و يوما للروم و يوما للفرس؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهلية.

تفسير الميزان ج۱

61
  •  

  • و هل يجتري عاقل على أن يأتي بكتاب يدعيه هدى للعالمين ثم يودعه أخبارا في الغيب مما مضى و يستقبل و فيمن خلت من الأمم و فيمن سيقدم منهم لا بالواحد و الاثنين في أبواب مختلفة من القصص و الملاحم و المغيبات المستقبلة ثم لا يتخلف شي‌ء منها عن صراط الصدق؟.

  • و هل يتمكن إنسان و هو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادية؛ و الدار دار التحول و التكامل؛ أن يداخل في كل شأن من شئون العالم الإنساني و يلقي إلى الدنيا معارف و علوما و قوانين و حكما و مواعظ و أمثالا و قصصا في كل ما دق و جل ثم لا يختلف حاله في شي‌ء منها في الكمال و النقص و هي متدرجة الوجود متفرقة الإلقاء و فيها ما ظهر ثم تكرر و فيها فروع متفرعة على أصولها؟ هذا مع ما نراه أن كل إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل و نقصه على حال واحدة.

  • فالإنسان اللبيب القادر على تعقل هذه المعاني لا يشك في أن هذه المزايا الكلية و غيرها مما يشتمل عليه القرآن الشريف كلها فوق القوة البشرية و وراء الوسائل الطبيعية المادية و إن لم يقدر على ذلك فلم يضل في إنسانيته و لم ينس ما يحكم به وجدانه الفطري أن يراجع فيما لا يحسن اختباره و يجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به.

  • فإن قلت: ما الفائدة في توسعة التحدي إلى العامة و التعدي عن حومة الخاصة فإن العامة سريعة الانفعال للدعوة و الإجابة لكل صنيعة و قد خضعوا لأمثال الباب و البهاء و القادياني و المسيلمة على أن ما أتوا به و استدلوا عليه أشبه بالهجر و الهذيان منه بالكلام.

  • قلت: هذا هو السبيل في عموم الإعجاز و الطريق الممكن في تمييز الكمال و التقدم في أمر يقع فيه التفاضل و السباق، فإن أفهام الناس مختلفة اختلافا ضروريا و الكمالات كذلك، و النتيجة الضرورية لهاتين المقدمتين أن يدرك صاحب الفهم العالي و النظر الصائب و يرجع من هو دون ذلك فهما و نظرا إلى صاحبه، و الفطرة حاكمة و الغريزة قاضية.

  • و لا يقبل شي‌ء مما يناله الإنسان بقواه المدركة و يبلغه فهمه العموم و الشمول لكل فرد في كل زمان و مكان بالوصول و البلوغ و البقاء إلا ما هو من سنخ العلم و المعرفة 

تفسير الميزان ج۱

62
  •  

  • على الطريقة المذكورة، فإن كل ما فرض آية معجزة غير العلم و المعرفة فإنما هو موجود طبيعي أو حادث حسي محكوم بقوانين المادة محدود بالزمان و المكان فليس بمشهود إلا لبعض أفراد الإنسان دون بعض و لو فرض محالا أو كالمحال عمومه لكل فرد منه فإنما يمكن في مكان دون جميع الأمكنة، و لو فرض اتساعه لكل مكان لم يمكن اتساعه لجميع الأزمنة و الأوقات.

  • فهذا ما تحدى به القرآن تحديا عاما لكل فرد في كل مكان في كل زمان.

  • (تحديه بالعلم) 

  • و قد تحدى بالعلم و المعرفة خاصة بقوله تعالى: {وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ} النحل - ٨٩، و قوله: {وَ لاَ رَطْبٍ وَ لاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الأنعام - ٥٩، إلى غير ذلك من الآيات، فإن الإسلام كما يعلمه و يعرفه كل من سار في متن تعليماته من كلياته التي أعطاها القرآن و جزئياته التي أرجعها إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بنحو قوله: {مَا آتَاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر - ٧، و قوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ} النساء - ١٠٤، و غير ذلك متعرض للجليل و الدقيق من المعارف الإلهية الفلسفية و الأخلاق الفاضلة و القوانين الدينية الفرعية من عبادات و معاملات و سياسات و اجتماعيات و كل ما يمسه فعل الإنسان و عمله، كل ذلك على أساس الفطرة و أصل التوحيد بحيث ترجع التفاصيل إلى أصل التوحيد بالتحليل، و يرجع الأصل إلى التفاصيل بالتركيب.

  • و قد بين بقاؤها جميعا و انطباقها على صلاح الإنسان بمرور الدهور و كرورها بقوله تعالى: {وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} حم سجدة - ٤٢. و قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر - ٩، فهو كتاب لا يحكم عليه حاكم النسخ و لا يقضي عليه قانون التحول و التكامل.

  • فإن قلت: قد استقرت أنظار الباحثين عن الاجتماع و علماء التقنين اليوم على 

تفسير الميزان ج۱

63
  •  

  • وجوب تحول القوانين الوضعية الاجتماعية بتحول الاجتماع و اختلافها باختلاف الأزمنة و الأوقات و تقدم المدنية و الحضارة.

  • قلت: سيجي‌ء البحث عن هذا الشأن و الجواب عن الشبهة في تفسير قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الآية) البقرة - ٢١٣.

  • و جملة القول و ملخصه أن القرآن يبني أساس التشريع على التوحيد الفطري و الأخلاق الفاضلة الغريزية و يدعي أن التشريع يجب أن ينمو من بذر التكوين و الوجود.

  • و هؤلاء الباحثون يبنون نظرهم على تحول الاجتماع مع إلغاء المعنويات من معارف التوحيد و فضائل الأخلاق، فكلمتهم جامدة على سير التكامل الاجتماعي المادي العادم لفضيلة الروح، و كلمة الله هي العليا.

  • (التحدي بمن أنزل عليه القرآن) 

  • و قد تحدى بالنبي الأمي الذي جاء بالقرآن المعجز في لفظه و معناه، و لم يتعلم عند معلم و لم يترب عند مرب بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} يونس - ١٦، فقد كان (صلى الله عليه وآله و سلم) بينهم و هو أحدهم لا يتسامى في فضل و لا ينطق بعلم حتى لم يأت بشي‌ء من شعر أو نثر نحوا من أربعين سنة و هو ثلثا عمره لا يحوز تقدما و لا يرد عظيمة من عظائم المعالي ثم أتى بما أتى به دفعة فأتى بما عجزت عنه فحولهم و كلت دونه ألسنة بلغائهم، ثم بثه في أقطار الأرض فلم يجترئ على معارضته معارض من عالم أو فاضل أو ذي لب و فطانة.

  • و غاية ما أخذوه عليه: أنه سافر إلى الشام للتجارة فتعلم هذه القصص ممن هناك من الرهبان و لم يكن أسفاره إلى الشام إلا مع عمه أبي طالب قبل بلوغه و إلا مع ميسرة مولى خديجة و سنه يومئذ خمسة و عشرون و هو مع من يلازمه في ليله و نهاره، و لو فرض محالا ذلك فما هذه المعارف و العلوم؟ و من أين هذه الحكم و الحقائق؟ و ممن هذه البلاغة في البيان الذي خضعت له الرقاب و كلت دونه الألسن الفصاح؟.

  • و ما أخذوه عليه أنه كان يقف على قين بمكة من أهل الروم كان يعمل السيوف 

تفسير الميزان ج۱

64
  •  

  • و يبيعها فأنزل الله سبحانه: {وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هَذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} النحل - ١٠٣.

  • و ما قالوا عليه أنه يتعلم بعض ما يتعلم من سلمان الفارسي و هو من علماء الفرس عالم بالمذاهب و الأديان مع أن سلمان إنما آمن به في المدينة، و قد نزل أكثر القرآن بمكة و فيها من جميع المعارف الكلية و القصص ما نزلت منها بمدينة بل أزيد، فما الذي زاده إيمان سلمان و صحابته؟.

  • على أن من قرأ العهدين و تأمل ما فيهما ثم رجع إلى ما قصه القرآن من تواريخ الأنبياء السالفين و أممهم رأى أن التاريخ غير التاريخ و القصة غير القصة، ففيهما عثرات و خطايا لأنبياء الله الصالحين تنبو الفطرة و تتنفر من أن تنسبها إلى المتعارف من صلحاء الناس و عقلائهم، و القرآن يبرئهم منها، و فيها أمور أخرى لا يتعلق بها معرفة حقيقية و لا فضيلة خلقية و لم يذكر القرآن منها إلا ما ينفع الناس في معارفهم و أخلاقهم و ترك الباقي و هو الأكثر.

  • (تحدي القرآن بالإخبار عن الغيب) 

  • و قد تحدى بالإخبار عن الغيب بآيات كثيرة، منها إخباره بقصص الأنبياء السالفين و أممهم كقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَ لاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذا} (الآية) هود - ٤٩، و قوله تعالى بعد قصة يوسف: {ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ}يوسف - ١٠٢ و قوله تعالى في قصة مريم: {ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} آل عمران - ٤٤ و قوله تعالى: {ذلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} مريم - ٣٤ إلى غير ذلك من الآيات.

  • و منها الإخبار عن الحوادث المستقبلة كقوله تعالى: {غُلِبَتِ اَلرُّومُ فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} الروم - ٢، ٣، و قوله تعالى في رجوع النبي إلى مكة بعد الهجرة: {إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلى‌ مَعَادٍ} القصص - 

تفسير الميزان ج۱

65
  •  

  • ٨٥، و قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ} (الآية) الفتح - ٢٧، و قوله تعالى: {سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى‌ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} الفتح - ١٥، و قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ} المائدة - ٧٠، و قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر - ٩، و آيات أخر كثيرة في وعد المؤمنين و وعيد كفار مكة و مشركيها.

  • و من هذا الباب آيات أخر في الملاحم نظير قوله تعالى: {وَ حَرَامٌ عَلى‌ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} الأنبياء - ٩٥، ٩٧، و قوله تعالى: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ} النور - ٥٥، و قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلى‌ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} الأنعام - ٦٥، و من هذا الباب قوله تعالى: {وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} الحجر - ٢٢، و قوله تعالى {وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ مَوْزُونٍ}الحجر - ١٩، و قوله تعالى: {وَ اَلْجِبَالَ أَوْتَاداً} النبأ - ٧، مما يبتني حقيقة القول فيها على حقائق علمية مجهولة عند النزول حتى اكتشف الغطاء عن وجهها بالأبحاث العلمية التي وفق الإنسان لها في هذه الأعصار.

  • و من هذا الباب (و هو من مختصات هذا التفسير الباحث عن آيات القرآن باستنطاق بعضها ببعض و استشهاد بعضها على بعض) ما في سورة المائدة من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ} (الآية) المائدة - ٥٤ و ما في سورة يونس من قوله تعالى: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} إلى آخر الآيات - يونس - ٤٧، و ما في سورة الروم من قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} (الآية) الروم - ٣٠، إلى غير ذلك من الآيات التي تنبئ عن الحوادث العظيمة التي تستقبل الأمة الإسلامية أو الدنيا عامة بعد عهد نزول القرآن، و سنورد إن شاء الله تعالى طرفا منها في البحث عن سورة الإسراء. 

تفسير الميزان ج۱

66
  •  

  • (تحدى القرآن بعدم الاختلاف فيه) 

  • و قد تحدى أيضا بعدم وجود الاختلاف فيه، قال تعالى: {أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً} النساء - ٨٢، فإن من الضروري أن النشأة نشأة المادة و القانون الحاكم فيها قانون التحول و التكامل فما من موجود من الموجودات التي هي أجزاء هذا العالم إلا و هو متدرج الوجود متوجه من الضعف إلى القوة و من النقص إلى الكمال في ذاته و جميع توابع ذاته و لواحقه من الأفعال و الآثار و من جملتها الإنسان الذي لا يزال يتحول و يتكامل في وجوده و أفعاله و آثاره التي منها آثاره التي يتوسل إليها بالفكر و الإدراك، فما من واحد منا إلا و هو يرى نفسه كل يوم أكمل من أمس و لا يزال يعثر في الحين الثاني على سقطات في أفعاله و عثرات في أقواله الصادرة منه في الحين الأول، هذا أمر لا ينكره من نفسه إنسان ذو شعور.

  • و هذا الكتاب جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نجوما و قرأه على الناس قطعا قطعا في مدة ثلاث و عشرين سنة في أحوال مختلفة و شرائط متفاوتة في مكة و المدينة في الليل و النهار و الحضر و السفر و الحرب و السلم في يوم العسرة و في يوم الغلبة و يوم الأمن و يوم الخوف، و لإلقاء المعارف الإلهية و تعليم الأخلاق الفاضلة و تقنين الأحكام الدينية في جميع أبواب الحاجة، و لا يوجد فيه أدنى اختلاف في النظم المتشابه؛ كتابا متشابها مثاني، و لم يقع في المعارف التي ألقاها و الأصول التي أعطاها اختلاف يتناقض بعضها مع بعض و تنافي شي‌ء منها مع آخر، فالآية تفسر الآية و البعض يبين البعض، و الجملة تصدق الجملة كما- قال علي (علیه السلام): (ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض) نهج البلاغة. و لو كان من عند غير الله لاختلف النظم في الحسن و البهاء و القول في الشداقة و البلاغة و المعنى من حيث الفساد و الصحة و من حيث الإتقان و المتانة.

  • فإن قلت: هذه مجرد دعوى لا تتكي على دليل و قد أخذ على القرآن مناقضات و إشكالات جمة ربما ألف فيه التأليفات، و هي إشكالات لفظية ترجع إلى قصوره في جهات البلاغة و مناقضات معنوية تعود إلى خطئه في آرائه و أنظاره و تعليماته، و قد 

تفسير الميزان ج۱

67
  •  

  • أجاب عنها المسلمون بما لا يرجع في الحقيقة إلا إلى التأويلات التي يحترزها الكلام الجاري على سنن الاستقامة و ارتضاء الفطرة السليمة.

  • قلت: ما أشير إليه من المناقضات و الإشكالات موجودة في كتب التفسير و غيرها مع أجوبتها و منها هذا الكتاب، فالإشكال أقرب إلى الدعوى الخالية عن البيان.

  • و لا تكاد تجد في هذه المؤلفات التي ذكرها المستشكل شبهة أوردوها أو مناقضة أخذوها إلا و هي مذكورة في مسفورات المفسرين مع أجوبتها فأخذوا الإشكالات و جمعوها و رتبوها و تركوا الأجوبة و أهملوها، و نعم ما قيل: لو كانت عين الحب متهمة فعين البغض أولى بالتهمة.

  • فإن قلت: فما تقول: في النسخ الواقع في القرآن و قد نص عليه القرآن نفسه في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} البقرة - ١٠٦ و قوله: {وَ إِذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} النحل - ١٠١، و هل النسخ إلا اختلاف في النظر لو سلمنا أنه ليس من قبيل المناقضة في القول؟.

  • قلت: النسخ كما أنه ليس من المناقضة في القول و هو ظاهر كذلك ليس من قبيل الاختلاف في النظر و الحكم و إنما هو ناش من الاختلاف في المصداق من حيث قبوله انطباق الحكم يوما لوجود مصلحته فيه و عدم قبوله الانطباق يوما آخر لتبدل المصلحة من مصلحة أخرى توجب حكما آخر، و من أوضع الشهود على هذا أن الآيات المنسوخة الأحكام في القرآن مقترنة بقرائن لفظية تومئ إلى أن الحكم المذكور في الآية سينسخ كقوله تعالى: {وَ اَللاَّتِي يَأْتِينَ اَلْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} النساء - ١٤، (انظر إلى التلويح الذي تعطيه الجملة الأخيرة)، و كقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً} إلى أن قال: {فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ} البقرة - ١٠٩ حيث تمم الكلام بما يشعر بأن الحكم مؤجل.

تفسير الميزان ج۱

68
  •  

  • التحدي بالبلاغة 

  • و قد تحدى القرآن بالبلاغة كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ وَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} هود، ١٣، ١٤. و الآية مكية، و قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} يونس - ٣٨، ٣٩. و الآية أيضا مكية و فيها التحدي بالنظم و البلاغة فإن ذلك هو الشأن الظاهر من شئون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ، فالتاريخ لا يرتاب أن العرب العرباء بلغت من البلاغة في الكلام مبلغا لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم المتقدمة عليهم و المتأخرة عنهم و وطئوا موطئا لم تطأه أقدام غيرهم في كمال البيان و جزالة النظم و وفاء اللفظ و رعاية المقام و سهولة المنطق. و قد تحدى عليهم القرآن بكل تحد ممكن مما يثير الحمية و يوقد نار الأنفة و العصبية. و حالهم في الغرور ببضاعتهم و الاستكبار عن الخضوع للغير في صناعتهم مما لا يرتاب فيه، و قد طالت مدة التحدي و تمادى زمان الاستنهاض فلم يجيبوه إلا بالتجافي و لم يزدهم إلا العجز و لم يكن منهم إلا الاستخفاء و الفرار، كما قال تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ} هود - ٥.

  • و قد مضى من القرون و الأحقاب ما يبلغ أربعة عشر قرنا و لم يأت بما يناظره آت و لم يعارضه أحد بشي‌ء إلا أخزى نفسه و افتضح في أمره.

  • و قد ضبط النقل بعض هذه المعارضات و المناقشات، فهذا مسيلمة عارض سورة الفيل بقوله: الفيل ما الفيل و ما أدريك ما الفيل له ذنب وبيل و خرطوم طويل و في كلام له في الوحي يخاطب السجاح النبية فنولجه فيكن إيلاجا، و نخرجه منكن إخراجا فانظر إلى هذه الهذيانات و اعتبر، و هذه سورة عارض بها الفاتحة بعض النصارى الحمد للرحمن. رب الأكوان الملك الديان. لك العبادة و بك المستعان اهدنا صراط الإيمان إلى غير ذلك من التقولات.

تفسير الميزان ج۱

69
  •  

  • فإن قلت: ما معنى كون التأليف الكلامي بالغا إلى مرتبة معجزة للإنسان و وضع الكلام مما سمحت به قريحة الإنسان؟ فكيف يمكن أن يترشح من القريحة ما لا تحيط به و الفاعل أقوى من فعله و منشأ الأثر محيط بأثره؟ و بتقريب آخر الإنسان هو الذي جعل اللفظ علامة دالة على المعنى لضرورة الحاجة الاجتماعية إلى تفهيم الإنسان ما في ضميره لغيره فخاصة الكشف عن المعنى في اللفظ خاصة وضعية اعتبارية مجعولة للإنسان، و من المحال أن يتجاوز هذه الخاصة المترشحة عن قريحة الإنسان حد قريحته فتبلغ مبلغا لا تسعه طاقة القريحة، فمن المحال حينئذ أن يتحقق في اللفظ نوع من الكشف لا تحيط به القريحة و إلا كانت غير الدلالة الوضعية الاعتبارية، مضافا إلى أن التراكيب الكلامية لو فرض أن بينها تركيبا بالغا حد الإعجاز كان معناه أن كل معنى من المعاني المقصودة ذو تراكيب كلامية مختلفة في النقص و الكمال و البلاغة و غيرها، و بين تلك التراكيب تركيب هو أرقاها و أبلغها لا تسعها طاقة البشر، و هو التركيب المعجز، و لازمه أن يكون في كل معنى مطلوب تركيب واحد إعجازي، مع أن القرآن كثيرا ما يورد في المعنى الواحد بيانات مختلفة و تراكيب متفرقة، و هو في القصص واضح لا ينكر، و لو كانت تراكيبه معجزة لم يوجد منها في كل معنى مقصود إلا واحد لا غير.

  • قلت: هاتان الشبهتان و ما شاكلهما هي الموجبة لجمع من الباحثين في إعجاز القرآن في بلاغته أن يقولوا بالصرف، و معنى الصرف أن الإتيان بمثل القرآن أو سور أو سورة واحدة منه محال على البشر لمكان آيات التحدي و ظهور العجز من أعداء القرآن منذ قرون، و لكن لا لكون التأليفات الكلامية التي فيها في نفسها خارجة عن طاقة الإنسان و فائقة على القوة البشرية، مع كون التأليفات جميعا أمثالا لنوع النظم الممكن للإنسان، بل لأن الله سبحانه يصرف الإنسان عن معارضتها و الإتيان بمثلها بالإرادة الإلهية الحاكمة على إرادة الإنسان حفظا لآية النبوة و وقاية لحمى الرسالة.

  • و هذا قول فاسد لا ينطبق على ما يدل عليه آيات التحدي بظاهرها كقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ} (الآية) هود - ١٣ و ١٤، فإن الجملة الأخيرة ظاهرة في أن الاستدلال بالتحدي إنما هو على كون القرآن نازلا لا كلاما تقوله رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أن نزوله إنما هو بعلم الله لا بإنزال الشياطين 

تفسير الميزان ج۱

70
  •  

  • كما قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} الطور - ٣٤، و قوله تعالى: {وَ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّيَاطِينُ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَ مَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ اَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} الشعراء - ٢١٢، و الصرف الذي يقولون به إنما يدل على صدق الرسالة بوجود آية هي الصرف، لا على كون القرآن كلاما لله نازلا من عنده، و نظير هذه الآية الآية الأخرى، و هي قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} (الآية) يونس - ٣٩، فإنها ظاهرة في أن الذي يوجب استحالة إتيان البشر بمثل القرآن و ضعف قواهم و قوى كل من يعينهم على ذلك من تحمل هذا الشأن هو أن للقرآن تأويلا لم يحيطوا بعلمه فكذبوه، و لا يحيط به علما إلا الله فهو الذي يمنع المعارض عن أن يعارضه، لا أن الله سبحانه يصرفهم عن ذلك مع تمكنهم منه لو لا الصرف بإرادة من الله تعالى.

  • و كذا قوله تعالى: {أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً} (الآية) النساء - ٨٢، فإنه ظاهر في أن الذي يعجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن إنما هو كونه في نفسه على صفة عدم الاختلاف لفظا و معنى و لا يسع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الاختلاف، لا أن الله صرفهم عن مناقضته بإظهار الاختلاف الذي فيه هذا، فما ذكروه من أن إعجاز القرآن بالصرف كلام لا ينبغي الركون إليه.

  • و أما الإشكال باستلزام الإعجاز من حيث البلاغة المحال، بتقريب أن البلاغة من صفات الكلام الموضوع و وضع الكلام من آثار القريحة الإنسانية فلا يمكن أن يبلغ من الكمال حدا لا تسعه طاقة القريحة و هو مع ذلك معلول لها لا لغيرها، فالجواب عنه أن الذي يستند من الكلام إلى قريحة الإنسان إنما هو كشف اللفظ المفرد عن معناه، و أما سرد الكلام و نضد الجمل بحيث يحاكي جمال المعنى المؤلف و هيئته على ما هو عليه في الذهن بطبعه حكاية تامة أو ناقصة و إراءة واضحة أو خفية، و كذا تنظيم الصورة العلمية في الذهن بحيث يوافق الواقع في جميع روابطه و مقدماته و مقارناته و لواحقه أو في كثير منها أو في بعضها دون بعض فإنما هو أمر لا يرجع إلى وضع الألفاظ بل إلى نوع مهارة في صناعة البيان و فن البلاغة تسمح به القريحة في سرد الألفاظ و نظم 

تفسير الميزان ج۱

71
  •  

  • الأدوات اللفظية و نوع لطف في الذهن يحيط به القوة الذاهنة على الواقعة المحكية بأطرافها و لوازمها و متعلقاتها.

  • فهاهنا جهات ثلاث يمكن أن تجتمع في الوجود أو تفترق فربما أحاط إنسان بلغة من اللغات فلا يشذ عن علمه لفظ لكنه لا يقدر على التهجي و التكلم، و ربما تمهر الإنسان في البيان و سرد الكلام لكن لا علم له بالمعارف و المطالب فيعجز عن التكلم فيها بكلام حافظ لجهات المعنى حاك لجمال صورته التي هو عليها في نفسه، و ربما تبحر الإنسان في سلسلة من المعارف و المعلومات و لطفت قريحته و رقت فطرته لكن لا يقدر على الإفصاح عن ما في ضميره، و عي عن حكاية ما يشاهده من جمال المعنى و منظره البهيج.

  • فهذه أمور ثلاثة: أولها راجع إلى وضع الإنسان بقريحته الاجتماعية، و الثاني و الثالث راجعان إلى نوع من لطف القوة المدركة، و من البين أن إدراك القوى المدركة منا محدودة مقدرة لا نقدر على الإحاطة بتفاصيل الحوادث الخارجية و الأمور الواقعية بجميع روابطها، فلسنا على أمن من الخطإ قط في وقت من الأوقات، و مع ذلك فالاستكمال التدريجي الذي في وجودنا أيضا يوجب الاختلاف التدريجي في معلوماتنا أخذا من النقص إلى الكمال، فأي خطيب أشدق و أي شاعر مفلق فرضته لم يكن ما يأتيه في أول أمره موازنا لما تسمح به قريحته في أواخر أمره؟ فلو فرضنا كلاما إنسانيا أي كلام فرضناه لم يكن في مأمن من الخطإ لفرض عدم اطلاع متكلمه بجميع أجزاء الواقع و شرائطه (أولا) و لم يكن على حد كلامه السابق و لا على زنة كلامه اللاحق بل و لا أوله يساوي آخره و إن لم نشعر بذلك لدقة الأمر، لكن حكم التحول و التكامل عام (ثانيا)، و على هذا فلو عثرنا على كلام فصل لا هزل فيه (و جد الهزل هو القول بغير علم محيط) و لا اختلاف يعتريه لم يكن كلاما بشريا، و هو الذي يفيده القرآن بقوله: {أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً} الآية النساء - ٨٢، و قوله تعالى: {وَ اَلسَّمَاءِ ذاتِ اَلرَّجْعِ وَ اَلْأَرْضِ ذاتِ اَلصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ مَا هُوَ بِالْهَزْلِ} الطارق - ١٤. انظر إلى موضع القسم بالسماء و الأرض المتغيرتين و المعنى المقسم به في عدم تغيره و اتكائه على حقيقة ثابتة هي تأويله (و سيأتي ما يراد في القرآن من لفظ التأويل)، و قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ 

تفسير الميزان ج۱

72
  •  

  • مَحْفُوظٍ} البروج - ٢٢، و قوله تعالى: {وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} الزخرف - ٤. و قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ اَلنُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ}الواقعة - ٧٩، فهذه الآيات و نظائرها تحكي عن اتكاء القرآن في معانيه على حقائق ثابتة غير متغيرة و لا متغير ما يتكي عليها.

  • إذا عرفت ما مر علمت أن استناد وضع اللغة إلى الإنسان لا يقتضي أن لا يوجد تأليف كلامي فوق ما يقدر عليه الإنسان الواضع به، و ليس ذلك إلا كالقول بأن القين الصانع للسيوف يجب أن يكون أشجع من يستعملها و واضع النرد و الشطرنج يجب أن يكون أمهر من يلعب بهما و مخترع العود يجب أن يكون أقوى من يضرب بها.

  • فقد تبين من ذلك كله أن البلاغة التامة معتمدة على نوع من العلم المطابق للواقع من جهة مطابقة اللفظ للمعنى و من جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الذي يحكيه الصورة الذهنية.

  • أما اللفظ فأن يكون الترتيب الذي بين أجزاء اللفظ بحسب الوضع مطابقا للترتيب الذي بين أجزاء المعنى المعبر عنه باللفظ بحسب الطبع فيطابق الوضع الطبع كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز.

  • و أما المعنى فأن يكون في صحته و صدقه معتمدا على الخارج الواقع بحيث لا يزول عما هو عليه من الحقيقة، و هذه المرتبة هي التي يتكي عليها المرتبة السابقة، فكم من هزل بليغ في هزليته لكنه لا يقاوم الجد، و كم من كلام بليغ مبني على الجهالة لكنه لا يعارض و لا يسعه أن يعارض الحكمة، و الكلام الجامع بين عذوبة اللفظ و جزالة الأسلوب و بلاغة المعنى و حقيقة الواقع هو أرقى الكلام.

  • و إذا كان الكلام قائما على أساس الحقيقة و منطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذب الحقائق الآخر و لم تكذبه فإن الحق مؤتلف الأجزاء و متحد الأركان، لا يبطل حق حقا، و لا يكذب صدق صدقا، و الباطل هو الذي ينافي الباطل و ينافي الحق، انظر إلى مغزى قوله سبحانه و تعالى: {فَمَا ذَا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاَلُ} يونس - ٣٢، فقد جعل الحق واحدا لا تفرق فيه و لا تشتت. و انظر إلى قوله تعالى: {وَ لاَ

تفسير الميزان ج۱

73
  •  

  • تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} الأنعام - ١٥٣. فقد جعل الباطل متشتتا و مشتتا و متفرقا و مفرقا.

  • و إذا كان الأمر كذلك فلا يقع بين أجزاء الحق اختلاف بل نهاية الايتلاف، يجر بعضه إلى بعض، و ينتج بعضه البعض كما يشهد بعضه على بعض و يحكي بعضه البعض.

  • و هذا من عجيب أمر القرآن فإن الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة و لا تعقم عن الإنتاج، كلما ضمت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق ثم الآية الثالثة تصدقها و تشهد بها، هذا شأنه و خاصته، و سترى في خلال البيانات في هذا الكتاب نبذا من ذلك، على أن الطريق متروك غير مسلوك و لو أن المفسرين ساروا هذا المسير لظهر لنا إلى اليوم ينابيع من بحاره العذبة و خزائن من أثقاله النفيسة.

  • فقد اتضح بطلان الإشكال من الجهتين جميعا فإن أمر البلاغة المعجزة لا يدور مدار اللفظ حتى يقال إن الإنسان هو الواضع للكلام فكيف لا يقدر على أبلغ الكلام و أفصحه و هو واضح أو يقال إن أبلغ التركيبات المتصورة تركيب واحد من بينها فكيف يمكن التعبير عن معنى واحد بتركيبات متعددة مختلفة السياق و الجميع فائقة قدرة البشر بالغة حد الإعجاز بل المدار هو المعنى المحافظ لجميع جهات الذهن و الخارج.

  • (معنى الآية المعجزة في القرآن و ما يفسر به حقيقتها)

  • و لا شبهة في دلالة القرآن على ثبوت الآية المعجزة و تحققها بمعنى الأمر الخارق للعادة الدال على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة و نشأة المادة لا بمعنى الأمر المبطل لضرورة العقل.

  • و ما تمحله بعض المنتسبين إلى العلم من تأويل الآيات الدالة على ذلك توفيقا بينها و بين ما يتراءى من ظواهر الأبحاث الطبيعية العلمية اليوم تكلف مردود إليه.

  • و الذي يفيده القرآن الشريف في معنى خارق العادة و إعطاء حقيقته نذكره في 

تفسير الميزان ج۱

74
  •  

  • فصول من الكلام.

  • ١ - تصديق القرآن لقانون العلية العامة 

  • إن القرآن يثبت للحوادث الطبيعية أسبابا و يصدق قانون العلية العامة كما يثبته ضرورة العقل و تعتمد عليه الأبحاث العلمية و الأنظار الاستدلالية، فإن الإنسان مفطور على أن يعتقد لكل حادث مادي علة موجبة من غير تردد و ارتياب. و كذلك العلوم الطبيعية و سائر الأبحاث العلمية تعلل الحوادث و الأمور المربوطة بما تجده من أمور أخرى صالحة للتعليل، و لا نعني بالعلة إلا أن يكون هناك أمر واحد أو مجموع أمور إذا تحققت في الطبيعة مثلا تحقق عندها أمر آخر نسميه المعلول بحكم التجارب كدلالة التجربة على أنه كلما تحقق احتراق لزم أن يتحقق هناك قبله علة موجبة له من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك، و من هنا كانت الكلية و عدم التخلف من أحكام العلية و المعلولية و لوازمهما.

  • و تصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن فيما جرى عليه و تكلم فيه من موت و حياة و رزق و حوادث أخرى علوية سماوية أو سفلية أرضية على أظهر وجه، و إن كان يسندها جميعا بالآخرة إلى الله سبحانه لفرض التوحيد.

  • فالقرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة بمعنى أن سببا من الأسباب إذا تحقق مع ما يلزمه و يكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتبا عليه بإذن الله سبحانه و إذا وجد المسبب كشف ذلك عن تحقق سببه لا محالة.

  • ٢ - إثبات القرآن ما يخرق العادة 

  • ثم إن القرآن يقتص و يخبر عن جملة من الحوادث و الوقائع لا يساعد عليه جريان العادة المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلة و المعلول الموجود، و هذه الحوادث الخارقة للعادة هي الآيات المعجزة التي ينسبها إلى عدة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و داود و سليمان و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنها أمور خارقة للعادة المستمرة في نظام الطبيعة.

تفسير الميزان ج۱

75
  •  

  • لكن يجب أن يعلم أن هذه الأمور و الحوادث و إن أنكرتها العادة و استبعدتها إلا أنها ليست أمورا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يبطل قولنا الإيجاب و السلب يجتمعان معا و يرتفعان معا من كل جهة و قولنا الشي‌ء يمكن أن يسلب عن نفسه و قولنا: الواحد ليس نصف الاثنين و أمثال ذلك من الأمور الممتنعة بالذات كيف؟ و عقول جم غفير من المليين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك و ترتضيه من غير إنكار و رد و لو كانت المعجزات ممتنعة بالذات لم يقبلها عقل عاقل و لم يستدل بها على شي‌ء و لم ينسبها أحد إلى أحد.

  • على أن أصل هذه الأمور أعني المعجزات ليس مما تنكره عادة الطبيعة بل هي مما يتعاوره نظام المادة كل حين بتبديل الحي إلى ميت و الميت إلى الحي و تحويل صورة إلى صورة و حادثة إلى حادثة و رخاء إلى بلاء و بلاء إلى رخاء، و إنما الفرق بين صنع العادة و بين المعجزة الخارقة هو أن الأسباب المادية المشهودة التي بين أيدينا إنما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة و شرائط زمانية و مكانية خاصة تقضي بالتدريج في التأثير، مثلا العصا و إن أمكن أن تصير حية تسعى و الجسد البالي و إن أمكن أن يصير إنسانا حيا لكن ذلك إنما يتحقق في العادة بعلل خاصة و شرائط زمانية و مكانية مخصوصة تنتقل بها المادة من حال إلى حال و تكتسي صورة بعد صورة حتى تستقر و تحل بها الصورة الأخيرة المفروضة على ما تصدقه المشاهدة و التجربة لا مع أي شرط اتفق أو من غير علة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات و الخوارق التي يقصها القرآن.

  • و كما أن الحس و التجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة كذلك النظر العلمي الطبيعي، لكونه معتمدا على السطح المشهود من نظام العلة و المعلول الطبيعيين، أعني به السطح الذي يستقر عليه التجارب العلمي اليوم و الفرضيات المعللة للحوادث المادية.

  • إلا أن حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالا ليس في وسع العلم إنكاره و الستر عليه، فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة و أهل الارتياض كل يوم تمتلئ به العيون و تنشره النشريات و يضبطه الصحف و المسفورات بحيث لا يبقى لذي لب في وقوعها شك و لا في تحققها ريب.

تفسير الميزان ج۱

76
  •  

  • و هذا هو الذي ألجأ الباحثين في الآثار الروحية من علماء العصر أن يعللوه بجريان أمواج مجهولة إلكتريسية مغناطيسية فافترضوا أن الارتياضات الشاقة تعطي للإنسان سلطة على تصريف أمواج مرموزة قوية تملكه أو تصاحبه إرادة و شعور و بذلك يقدر على ما يأتي به من حركات و تحريكات و تصرفات عجيبة في المادة خارقة للعادة بطريق القبض و البسط و نحو ذلك.

  • و هذه الفرضية لو تمت و أطردت من غير انتقاض لأدت إلى تحقق فرضية جديدة وسيعة تعلل جميع الحوادث المتفرقة التي كانت تعللها جميعا أو تعلل بعضها الفرضيات القديمة على محور الحركة و القوة و لساقت جميع الحوادث المادية إلى التعلل و الارتباط بعلة واحدة طبيعية.

  • فهذا قولهم و الحق معهم في الجملة إذ لا معنى لمعلول طبيعي لا علة طبيعية له مع فرض كون الرابطة طبيعية محفوظة، و بعبارة أخرى إنا لا نعني بالعلة الطبيعية إلا أن تجتمع عدة موجودات طبيعية مع نسب و روابط خاصة فيتكون منها عند ذلك موجود طبيعي جديد حادث متأخر عنها مربوط بها بحيث لو انتقض النظام السابق عليه لم يحدث و لم يتحقق وجوده.

  • و أما القرآن الكريم فإنه و إن لم يشخص هذه العلة الطبيعية الأخيرة التي تعلل جميع الحوادث المادية العادية و الخارقة للعادة (على ما نحسبه) بتشخيص اسمه و كيفية تأثيره لخروجه عن غرضه العام إلا أنه مع ذلك يثبت لكل حادث مادي سببا ماديا بإذن الله تعالى، و بعبارة أخرى يثبت لكل حادث مادي مستند في وجوده إلى الله سبحانه (و الكل مستند) مجرى ماديا و طريقا طبيعيا به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه.

  • قال تعالى: {وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدْراً} الطلاق - ٣، فإن صدر الآية يحكم بالإطلاق من غير تقييد أن كل من اتقى الله و توكل عليه و إن كانت الأسباب العادية المحسوبة عندنا أسبابا تقضي بخلافه و تحكم بعدمه فإن الله سبحانه حسبه فيه و هو كائن لا محالة، كما يدل عليه أيضا إطلاق قوله تعالى: {وَ إِذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعَانِ} البقرة - ١٨٦، و قوله تعالى: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} المؤمن - ٦٠، و قوله تعالى: {أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} الزمر - ٣٦.

تفسير الميزان ج۱

77
  •  

  • ثم الجملة التالية و هي قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} الطلاق - ٣، يعلل إطلاق الصدر، و في هذا المعنى قوله: {وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى‌ أَمْرِهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} يوسف - ٢١، و هذه جملة مطلقة غير مقيدة بشي‌ء البتة؛ فلله سبحانه سبيل إلى كل حادث تعلقت به مشيته و إرادته و إن كانت السبل العادية و الطرق المألوفة مقطوعة منتفية هناك.

  • و هذا يحتمل وجهين: أحدهما أن يتوسل تعالى إليه من غير سبب مادي و علة طبيعية بل بمجرد الإرادة وحدها، و ثانيهما أن يكون هناك سبب طبيعي مستور عن علمنا يحيط به الله سبحانه و يبلغ ما يريده من طريقه إلا أن الجملة التالية من الآية المعللة لما قبلها أعني قوله تعالى، {قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدْراً}؛ تدل على ثاني الوجهين فإنها تدل على أن كل شي‌ء من المسببات أعم مما تقتضيه الأسباب العادية أو لا تقتضيه فإن له قدرا قدره الله سبحانه عليه، و ارتباطات مع غيره من الموجودات، و اتصالات وجودية مع ما سواه، لله سبحانه أن يتوسل منها إليه و إن كانت الأسباب العادية مقطوعة عنه غير مرتبطة به إلا أن هذه الاتصالات و الارتباطات ليست مملوكة للأشياء أنفسها حتى تطيع في حال و تعصي في أخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له.

  • فالآية تدل على أنه تعالى جعل بين الأشياء جميعها ارتباطات و اتصالات له أن يبلغ إلى كل ما يريد من أي وجه شاء و ليس هذا نفيا للعلية و السببية بين الأشياء بل إثبات أنها بيد الله سبحانه يحولها كيف شاء و أراد، ففي الوجود عليه و ارتباط حقيقي بين كل موجود و ما تقدمه من الموجودات المنتظمة غير أنها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة (و لذلك نجد الفرضيات العلمية الموجودة قاصرة عن تعليل جميع الحوادث الوجودية) بل على ما يعلمه الله تعالى و ينظمه.

  • و هذه الحقيقة هي التي تدل عليها آيات القدر كقوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر - ٢١، و قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القمر - ٤٩، و قوله تعالى: {وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} الفرقان - ٢ و قوله تعالى: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‌} الأعلى - ٣. و كذا قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ 

تفسير الميزان ج۱

78
  •  

  • نَبْرَأَهَا} الحديد - ٢٢، و قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ} التغابن - ١١. فإن الآية الأولى و كذا بقية الآيات تدل على أن الأشياء تنزل من ساحة الإطلاق إلى مرحلة التعين و التشخص بتقدير منه تعالى و تحديد يتقدم على الشي‌ء و يصاحبه، و لا معنى لكون الشي‌ء محدودا مقدرا في وجوده إلا أن يتحدد و يتعين بجميع روابطه التي مع سائر الموجودات و الموجود المادي مرتبط بمجموعة من الموجودات المادية الأخرى التي هي كالقالب الذي يقلب به الشي‌ء و يعين وجوده و يحدده و يقدره فما من موجود مادي إلا و هو متقدر مرتبط بجميع الموجودات المادية التي تتقدمه و تصاحبه فهو معلول لآخر مثله لا محالة.

  • و يمكن أن يستدل أيضا على ما مر بقوله تعالى: {ذلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} المؤمن - ٦٢، و قوله تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هود - ٥٦. فإن الآيتين بانضمام ما مرت الإشارة إليه من أن الآيات القرآنية تصدق قانون العلية العام تنتج المطلوب.

  • و ذلك أن الآية الأولى تعمم الخلقة لكل شي‌ء فما من شي‌ء إلا و هو مخلوق لله عز شأنه، و الآية الثانية تنطق بكون الخلقة و الإيجاد على وتيرة واحدة و نسق منتظم من غير اختلاف يؤدي إلى الهرج و الجزاف.

  • و القرآن كما عرفت يصدق قانون العلية العام في ما بين الموجودات المادية، ينتج أن نظام الوجود في الموجودات المادية سواء كانت على جري العادة أو خارقة لها على صراط مستقيم غير متخلف و وتيرة واحدة في استناد كل حادث فيه إلى العلة المتقدمة عليه الموجبة له.

  • و من هنا يستنتج أن الأسباب العادية التي ربما يقع التخلف بينها و بين مسبباتها ليست بأسباب حقيقية بل هناك أسباب حقيقية مطردة غير متخلفة الأحكام و الخواص كما ربما يؤيده التجارب العلمي في جراثيم الحياة و في خوارق العادة كما مر.

  • ٣ - القرآن يسند ما أسند إلى العلة المادية إلى الله تعالى‌ 

  • ثم إن القرآن كما يثبت بين الأشياء العلية و المعلولية و يصدق سببية البعض للبعض كذلك 

تفسير الميزان ج۱

79
  •  

  • يسند الأمر في الكل إلى الله سبحانه فيستنتج منه أن الأسباب الوجودية غير مستقلة في التأثير و المؤثر الحقيقي بتمام معنى الكلمة ليس إلا الله عز سلطانه. قال تعالى: {أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ} الأعراف - ٥٣، و قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} البقرة - ٢٨٤، و قال تعالى: {لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} الحديد - ٥، و قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ} النساء - ٧٧. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أن كل شي‌ء مملوك محض لله لا يشاركه فيه أحد، و له أن يتصرف فيها كيف شاء و أراد و ليس لأحد أن يتصرف في شي‌ء منها إلا من بعد أن يأذن الله لمن شاء و يملكه التصرف من غير استقلال في هذا التمليك أيضا، بل مجرد إذن لا يستقل به المأذون له دون أن يعتمد على إذن الإذن، قال تعالى: {قُلِ اَللَّهُمَّ مَالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} آل عمران - ٢٦، و قال تعالى: {اَلَّذِي أَعْطى‌ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‌} طه - ٥٠، إلى غير ذلك من الآيات، و قال تعالى أيضا: {لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} البقرة - ٢٥٥، و قال تعالى: {ثُمَّ اِسْتَوى‌ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} يونس - ٣.

  • فالأسباب تملكت السببية بتمليكه تعالى، و هي غير مستقلة في عين أنها مالكة.و هذا المعنى هو الذي يعبر سبحانه عنه بالشفاعة و الإذن، فمن المعلوم أن الإذن إنما يستقيم معناه إذا كان هناك مانع من تصرف المأذون فيه، و المانع أيضا إنما يتصور فيما كان هناك مقتض موجود يمنع المانع عن تأثيره و يحول بينه و بين تصرفه.

  • فقد بان أن في كل السبب مبدأ مؤثرا مقتضيا للتأثير به يؤثر في مسببه، و الأمر مع ذلك لله سبحانه.

  • ٤ - القرآن يثبت تأثيرا في نفوس الأنبياء في الخوارق‌ 

  • ثم إنه تعالى قال: {وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ فَإِذا جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ} المؤمن - ٧٨.

  • فأفاد إناطة إتيان أية آية من أي رسول بإذن الله سبحانه فبين أن إتيان الآيات 

تفسير الميزان ج۱

80
  •  

  • المعجزة من الأنبياء و صدورها عنهم إنما هو لمبدإ مؤثر موجود في نفوسهم الشريفة متوقف في تأثيره على الإذن كما مر في الفصل السابق.

  • و قال تعالى: {وَ اِتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا اَلشَّيَاطِينُ عَلى‌ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَ مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَ لَكِنَّ اَلشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ اَلنَّاسَ اَلسِّحْرَ وَ مَا أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هرُوتَ وَ مَارُوتَ وَ مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ} البقرة - ١٠٢.

  • و الآية كما أنها تصدق صحة السحر في الجملة كذلك تدل على أن السحر أيضا كالمعجزة في كونه عن مبدإ نفساني في الساحر لمكان الإذن.

  • و بالجملة جميع الأمور الخارقة للعادة سواء سميت معجزة أو سحرا أو غير ذلك ككرامات الأولياء و سائر الخصال المكتسبة بالارتياضات و المجاهدات جميعها مستندة إلى مباد نفسانية و مقتضيات إرادية على ما يشير إليه كلامه سبحانه إلا أن كلامه ينص على أن المبدأ الموجود عند الأنبياء و الرسل و المؤمنين هو الفائق الغالب على كل سبب و في كل حال، قال تعالى: {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ} الصافات - ١٧٣، و قال تعالى: {كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي} المجادلة - ٢١، و قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ} المؤمن - ٥١. و الآيات مطلقة غير مقيدة.

  • و من هنا يمكن أن يستنتج أن هذا المبدأ الموجود المنصور أمر وراء الطبيعة و فوق المادة. فإن الأمور المادية مقدرة محدودة مغلوبة لما هو فوقها قدرا و حدا عند التزاحم و المغالبة، و الأمور المجردة أيضا و إن كانت كذلك إلا أنها لا تزاحم بينها و لا تمانع إلا أن تتعلق بالمادة. بعض التعلق و هذا المبدأ النفساني المجرد المنصور بإرادة الله سبحانه إذا قابل مانعا ماديا أفاض إمدادا على السبب بما لا يقاومه سبب مادي يمنعه فافهم.

  • ٥ - القرآن كما يسند الخوارق إلى تأثير النفوس يسندها إلى أمر الله تعالى‌ 

  • ثم إن الجملة الأخيرة من الآية السابقة في الفصل السابق أعني قوله تعالى: {فَإِذا 

تفسير الميزان ج۱

81
  •  

  • جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} (الآية)، تدل على أن تأثير هذا المقتضي يتوقف على أمر من الله تعالى يصاحب الإذن الذي كان يتوقف عليه أيضا فتأثير هذا المقتضي يتوقف على مصادفته الأمر أو اتحاده معه. و قد فسر الأمر في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس - ٨٢، بكلمة الإيجاد و قول: كن و قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى‌ رَبِّهِ سَبِيلاً وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ} الدهر - ٢٩، ٣٠و قال: {إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ}التكوير - ٢٧، ٢٨، ٢٩، دلت الآيات على أن الأمر الذي للإنسان إن يريده و بيده زمام اختياره لا يتحقق موجودا إلا أن يشاء الله ذلك بأن يشاء أن يشاء الإنسان و يريد إرادة الإنسان فإن الآيات الشريفة في مقام أن أفعال الإنسان الإرادية و إن كانت بيد الإنسان بإرادته لكن الإرادة و المشية ليست بيد الإنسان بل هي مستندة إلى مشية الله سبحانه، و ليست في مقام بيان أن كل ما يريده الإنسان فقد أراده الله فإنه خطأ فاحش و لازمه أن يتخلف الفعل عن إرادة الله سبحانه عند تخلفه عن إرادة الإنسان، تعالى الله عن ذلك. مع أنه خلاف ظواهر الآيات الكثيرة الواردة في هذا المورد كقوله تعالى: {وَ لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُداهَا} السجدة - ١٣. و قوله تعالى: {وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} يونس - ٩٩، إلى غير ذلك فإرادتنا و مشيئتنا إذا تحققت فينا فهي مرادة بإرادة الله و مشيته لها و كذا أفعالنا مرادة له تعالى من طريق إرادتنا و مشيتنا بالواسطة. و هما أعني الإرادة و الفعل جميعا متوقفان على أمر الله سبحانه و كلمة كن.

  • فالأمور جميعا سواء كانت عادية أو خارقة للعادة و سواء كان خارق العادة في جانب الخير و السعادة كالمعجزة و الكرامة، أو في جانب الشر كالسحر و الكهانة مستندة في تحققها إلى أسباب طبيعية، و هي مع ذلك متوقفة على إرادة الله، لا توجد إلا بأمر الله سبحانه أي بأن يصادف السبب أو يتحد مع أمر الله سبحانه.

  • و جميع الأشياء و إن كانت من حيث استناد وجودها إلى الأمر الإلهي على حد سواء بحيث إذا تحقق الإذن و الأمر تحققت عن أسبابها، و إذا لم يتحقق الإذن و الأمر لم تتحقق، أي لم تتم السببية إلا أن قسما منها و هو المعجزة من الأنبياء أو ما سأله عبد 

تفسير الميزان ج۱

82
  •  

  • ربه بالدعاء لا يخلو عن إرادة موجبة منه تعالى و أمر عزيمة كما يدل عليه قوله: {كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي} (الآية) المجادلة - ٢١. و قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعَانِ} (الآية) البقرة - ١٨٦، و غير ذلك من الآيات المذكورة في الفصل السابق.

  • ٦ - القرآن يسند المعجزة إلى سبب غير مغلوب‌ 

  • فقد تبين من الفصول السابقة من البحث أن المعجزة كسائر الأمور الخارقة للعادة لا تفارق الأسباب العادية في الاحتياج إلى سبب طبيعي و أن مع الجميع أسبابا باطنية و أن الفرق بينها أن الأمور العادية ملازمة لأسباب ظاهرية تصاحبها الأسباب الحقيقية الطبيعية غالبا أو مع الأغلب و مع تلك الأسباب الحقيقية إرادة الله و أمره، و الأمور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر و الكهانة مستندة إلى أسباب طبيعية مفارقة للعادة مقارنة للسبب الحقيقي بالإذن و الإرادة كاستجابة الدعاء و نحو ذلك من غير تحد يبتني عليه ظهور حق الدعوة و أن المعجزة مستندة إلى سبب طبيعي حقيقي بإذن الله و أمره إذا كان هناك تحد يبتني عليه صحة النبوة و الرسالة و الدعوة إلى الله تعالى و أن القسمين الآخرين يفارقان سائر الأقسام في أن سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قط بخلاف سائر المسببات.

  • فإن قلت: فعلى هذا لو فرضنا الإحاطة و البلوغ إلى السبب الطبيعي الذي للمعجزة كانت المعجزة ميسورة ممكنة الإتيان لغير النبي أيضا و لم يبق فرق بين المعجزة و غيرها إلا بحسب النسبة و الإضافة فقط فيكون حينئذ أمر ما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة بالنسبة إلى آخرين، و هم المطلعون على سببها الطبيعي الحقيقي، و في عصر دون عصر، و هو عصر العلم، فلو ظفر البحث العلمي على الأسباب الحقيقية الطبيعية القصوى لم يبق مورد للمعجزة و لم تكشف المعجزة عن الحق. و نتيجة هذا البحث أن المعجزة لا حجية فيها إلا على الجاهل بالسبب فليست حجة في نفسها.

  • قلت: كلا فليست المعجزة معجزة من حيث إنها مستندة إلى سبب طبيعي مجهول حتى تنسلخ عن اسمها عند ارتفاع الجهل و تسقط عن الحجية، و لا أنها معجزة من حيث استنادها إلى سبب مفارق للعادة، بل هي معجزة من حيث إنها مستندة 

تفسير الميزان ج۱

83
  •  

  • إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهرة العلة البتة، و ذلك كما أن الأمر الحادث من جهة استجابة الدعاء كرامة من حيث استنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع أنه يمكن أن يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير أنه حينئذ أمر عادي يمكن أن يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب آخر أقوى منه.

  • ٧ - القرآن يعد المعجزة برهانا على صحة الرسالة لا دليلا عاميا 

  • و هاهنا سؤال و هو أنه ما هي الرابطة بين المعجزة و بين حقية دعوى الرسالة مع أن العقل لا يرى تلازما بين صدق الرسول في دعوته إلى الله سبحانه و بين صدور أمر خارق للعادة عن الرسول على أن الظاهر من القرآن الشريف، تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدة من الأنبياء كهود و صالح و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنهم على ما يقصه القرآن حينما بثوا دعوتهم سئلوا عن آية تدل على حقية دعوتهم فأجابوهم فيما سئلوا و جاءوا بالآيات.

  • و ربما أعطوا المعجزة في أول البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئا من ذلك كما قال تعالى في موسى (علیه السلام) و هارون: {اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي وَ لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي}طه - ٤٢، و قال تعالى في عيسى (علیه السلام): {وَ رَسُولاً إِلى‌ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ اَلْمَوْتى‌ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} آل عمران - ٤٩، و كذا إعطاء القرآن معجزة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم). و بالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقية ما أتى به الأنبياء و الرسل من معارف المبدإ و المعاد و بين صدور أمر يخرق العادة عنهم.

  • مضافا إلى أن قيام البراهين الساطعة على هذه الأصول الحقة يغني العالم البصير بها عن النظر في أمر الإعجاز، و لذا قيل إن المعجزات لإقناع نفوس العامة لقصور عقولهم عن إدراك الحقائق العقلية و أما الخاصة فإنهم في غنى عن ذلك.

  • و الجواب عن هذا السؤال أن الأنبياء و الرسل (علیه السلام) لم يأتوا بالآيات المعجزة لإثبات شي‌ء من معارف المبدإ و المعاد مما يناله العقل كالتوحيد و البعث و أمثالها 

تفسير الميزان ج۱

84
  •  

  • و إنما اكتفوا في ذلك بحجة للعقل و المخاطبة من طريق النظر و الاستدلال كقوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إبراهيم - ١٠في الإحتجاج على التوحيد قوله تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ص - ٢٨ في الإحتجاج على البعث. و إنما سئل الرسل المعجزة و أتوا بها لإثبات رسالتهم و تحقيق دعواها.

  • و ذلك أنهم ادعوا الرسالة من الله بالوحي و أنه بتكليم إلهي أو نزول ملك و نحو ذلك و هذا شي‌ء خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الإدراكات الظاهرة و الباطنة التي يعرفها عامة الناس و يجدونها من أنفسهم، بل إدراك مستور عن عامة النفوس لو صح وجوده لكان تصرفا خاصا من ما وراء الطبيعة في نفوس الأنبياء فقط، مع أن الأنبياء كغيرهم من أفراد الناس في البشرية و قواها، و لذلك صادفوا إنكارا شديدا من الناس و مقاومة عنيفة في رده على أحد وجهين: 

  • فتارة حاول الناس إبطال دعواهم بالحجة كقوله تعالى: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} إبراهيم - ١٠، استدلوا فيها على بطلان دعواهم الرسالة بأنهم مثل سائر الناس و الناس لا يجدون شيئا مما يدعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة، و لو كان لكان في الجميع أو جاز للجميع هذا، و لهذا أجاب الرسل عن حجتهم بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَمُنُّ عَلى‌ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} إبراهيم - ١٣، فردوا عليهم بتسليم المماثلة و أن الرسالة من منن الله الخاصة، و الاختصاص ببعض النعم الخاصة لا ينافي المماثلة، فللناس اختصاصات، نعم لو شاء أن يمتن على من يشاء منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوة مختصة بالبعض و إن جاز على الكل.

  • و نظير هذا الاحتجاج قولهم في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما حكاه الله تعالى: {أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} ص - ٨، و قولهم كما حكاه الله: {لَوْ لاَ نُزِّلَ هَذَا اَلْقُرْآنُ عَلى‌ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} الزخرف - ٣١.

  • و نظير هذا الاحتجاج أو قريب منه ما في قوله تعالى: {وَ قَالُوا مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ 

تفسير الميزان ج۱

85
  •  

  • يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوَاقِ لَوْ لاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى‌ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} الفرقان - ٨، و وجه الاستدلال أن دعوى الرسالة توجب أن لا يكون بشرا مثلنا لكونه ذا أحوال من الوحي و غيره ليس فينا فلم يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لاكتساب المعيشة؟ بل يجب أن ينزل معه ملك يشاركه في الإنذار أو يلقى إليه كنز فلا يحتاج إلى مشي الأسواق للكسب أو تكون له جنة فيأكل منها لا مما نأكل منه من طعام، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} إلى أن قال {وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْوَاقِ وَ جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} الفرقان - ٢٠، و رد تعالى في موضع آخر مطالبتهم مباشرة الملك للإنذار بقوله: {وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} الأنعام - ٩.

  • و قريب من ذلك الاحتجاج أيضا ما في قوله تعالى: {وَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‌ رَبَّنا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} الفرقان - ٢١، فأبطلوا بزعمهم دعوى الرسالة بالوحي بمطالبة أن يشهدوا نزول الملك أو رؤية الرب سبحانه لمكان المماثلة مع النبي، فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرى‌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} الفرقان - ٢٢، فذكر أنهم و الحال حالهم لا يرون الملائكة إلا مع حال الموت كما ذكره في في موضع آخر بقوله تعالى: {وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} الحجر - ٨، و يشتمل هذه الآيات الأخيرة على زيادة في وجه الاستدلال، و هو تسليم صدق النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في دعواه إلا أنه مجنون و ما يحكيه و يخبر به أمر يسوله له الجنون غير مطابق للواقع كما في موضع آخر من قوله: {وَ قَالُوا مَجْنُونٌ وَ اُزْدُجِرَ} القمر - ٩.

  • و بالجملة فأمثال هذه الآيات مسوقة لبيان إقامتهم الحجة على إبطال دعوى النبوة من طريق المماثلة.

  • و تارة أخرى أقاموا أنفسهم مقام الإنكار و سؤال الحجة و البينة على صدق ـ 

تفسير الميزان ج۱

86
  •  

  • كلام في معنى الرسالة و ما يلحق بها

  • الدعوة لاشتمالها على ما تنكره النفوس و لا تعرفه العقول (على طريقة المنع مع السند باصطلاح فن المناظرة) و هذه البينة هي المعجزة، بيان ذلك أن دعوى النبوة و الرسالة من كل نبي و رسول على ما يقصه القرآن إنما كانت بدعوى الوحي و التكليم الإلهي بلا واسطة أو بواسطة نزول الملك، و هذا أمر لا يساعد عليه الحس و لا تؤيده التجربة فيتوجه عليه الإشكال من جهتين: إحداهما من جهة عدم الدليل عليه، و الثانية من جهة الدليل على عدمه، فإن الوحي و التكليم الإلهي و ما يتلوه من التشريع و التربية الدينية مما لا يشاهده البشر من أنفسهم، و العادة الجارية في الأسباب و المسببات تنكره فهو أمر خارق للعادة، و قانون العلية العامة لا يجوزه، فلو كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)ادقا في دعواه النبوة و الوحي كان لازمه أنه متصل بما وراء الطبيعة، مؤيد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة و أن الله سبحانه يريد بنبوته و الوحي إليه خرق العادة، فلو كان هذا حقا و لا فرق بين خارق و خارق كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع و أن يخرق الله العادة بأمر آخر يصدق النبوة و الوحي من غير مانع عنه فإن حكم الأمثال واحد فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة و هو طريق النبوة و الوحي فليؤيدها و ليصدقها بخارق آخر و هو المعجزة.

  • و هذا هو الذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة كلما جاءهم رسول من أنفسهم بعثا بالفطرة و الغريزة و كان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة و تصديقها لا للدلالة على صدق المعارف الحقة التي كان الأنبياء يدعون إليها مما يمكن أن يناله البرهان كالتوحيد و المعاد، و نظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل سيدهم الحاكم عليهم و معه أوامر و نواه يدعيها للسيد فإن بيانه لهذه الأحكام و إقامته البرهان على أن هذه الأحكام مشتملة على مصلحة القوم و هم يعلمون أن سيدهم لا يريد إلا صلاح شأنهم، إنما يكفي في كون الأحكام التي جاء بها حقة صالحة للعمل، و لا تكفي البراهين و الأدلة المذكورة في صدق رسالته و أن سيدهم أراد منهم بإرساله إليهم ما جاء به من الأحكام بل يطالبونه ببينة أو علامة تدل على صدقه في دعواه ككتاب بخطه و خاتمه يقرءونه، أو علامة يعرفونها، كما قال المشركون للنبي: {حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ} إسراء - ٩٣.

  • فقد تبين بما ذكرناه أولا: التلازم بين صدق دعوى الرسالة و بين المعجزة و أنها 

تفسير الميزان ج۱

87
  •  

  • الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصة و العامة في دلالتها و إثباتها، و ثانيا أن ما يجده الرسول و النبي من الوحي و يدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسنا و عقولنا النظرية الفكرية، فالوحي غير الفكر الصائب؛ و هذا المعنى في كتاب الله تعالى من الوضوح و السطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم و أقل إنصاف.

  • و قد انحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الإلهية و الحقائق الدينية على ما وصفه العلوم الطبيعية من أصالة المادة المتحولة المتكاملة فقد رأوا أن الإدراكات الإنسانية خواص مادية مترشحة من الدماغ و أن الغايات الوجودية و جميع الكمالات الحقيقية استكمالات فردية أو اجتماعية مادية.

  • فذكروا أن النبوة نوع نبوغ فكري و صفاء ذهني يستحضر به الإنسان المسمى نبيا كمال قومه الاجتماعي و يريد به أن يخلصهم من ورطة الوحشية و البربرية إلى ساحة الحضارة و المدنية فيستحضر ما ورثه من العقائد و الآراء و يطبقها على مقتضيات عصره و محيط حياته، فيقنن لهم أصولا اجتماعية و كليات عملية يستصلح بها أفعالهم الحيوية ثم يتمم ذلك بأحكام و أمور عبادية ليستحفظ بها خواصهم الروحية لافتقار الجامعة الصالحة و المدنية الفاضلة إلى ذلك و يتفرع على هذا الافتراض: 

  • أولا: أن النبي إنسان متفكر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعي.

  • و ثانيا: أن الوحي هو انتقاش الأفكار الفاضلة في ذهنه.

  • و ثالثا: أن الكتاب السماوي مجموع هذه الأفكار الفاضلة المنزهة عن التهوسات النفسانية و الأغراض النفسانية الشخصية.

  • و رابعا: أن الملائكة التي أخبر بها النبي قوى طبيعية تدبر أمور الطبيعة أو قوى نفسانية تفيض كمالات النفوس عليها، و أن روح القدس مرتبة من الروح الطبيعية المادية تترشح منها هذه الأفكار المقدسة، و أن الشيطان مرتبة من الروح تترشح منها الأفكار الردية و تدعو إلى الأعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع، و على هذا الأسلوب فسروا الحقائق التي أخبر بها الأنبياء كاللوح و القلم و العرش و الكرسي و الكتاب و الحساب و الجنة و النار بما يلائم الأصول المذكورة.

تفسير الميزان ج۱

88
  •  

  • و خامسا: أن الأديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحول بتحولها.

  • و سادسا: أن المعجزات المنقولة عن الأنبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرفة لنفع الدين و حفظ عقائد العامة عن التبدل بتحول الأعصار أو لحفظ مواقع أئمة الدين و رؤساء المذهب عن السقوط و الاضمحلال إلى غير ذلك مما أبدعه قوم و تبعهم آخرون.

  • هذه جمل ما ذكروه و النبوة بهذا المعنى لأن تسمى لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوة إلهية، و الكلام التفصيلي في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا المقام.

  • و الذي يمكن أن يقال فيه هاهنا أن الكتب السماوية و البيانات النبوية المأثورة على ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير و لا تناسبه أدنى مناسبة، و إنما دعاهم إلى هذا النوع من التفسير إخلادهم إلى الأرض و ركونهم إلى مباحث المادة فاستلزموا إنكار ما وراء الطبيعة و تفسير الحقائق المتعالية عن المادة بما يسلخها عن شأنها و تعيدها إلى المادة الجامدة.

  • و ما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادة غير أنهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن الحس كالعرش و الكرسي و اللوح و القلم و الملائكة و نحوها من غير مساعدة الحس و التجربة على شي‌ء من ذلك، ثم لما اتسع نطاق العلوم الطبيعية و جرى البحث على أساس الحس و التجربة لزم الباحثين على ذلك الأسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها المادية الخارجة عن الحس أو البعيدة عنه و أن يفسروها بما تعيدها إلى الوجود المادي المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم و يستحفظ بذلك عن السقوط.

  • فهاتان الطائفتان بين باغ و عاد، أما القدماء من المتكلمين فقد فهموا من البيانات الدينية مقاصدها حق الفهم من غير مجاز غير أنهم رأوا أن مصاديقها جميعا أمور مادية محضة لكنها غائبة عن الحس غير محكومة بحكم المادة أصلا و الواقع خلافه، و أما المتأخرون من باحثي هذا العصر ففسروا البيانات الدينية بما أخرجوها به عن مقاصدها البينة الواضحة، و طبقوها على حقائق مادية ينالها الحس و تصدقها التجربة مع أنها 

تفسير الميزان ج۱

89
  •  

  • ليست بمقصوده، و لا البيانات اللفظية تنطبق على شي‌ء منها.

  • و البحث الصحيح يوجب أن تفسر هذه البيانات اللفظية على ما يعطيها اللفظ في العرف و اللغة ثم يعتمد في أمر المصداق على ما يفسر به بعض الكلام بعضا ثم ينظر، هل الأنظار العلمية تنافيها أو تبطلها؟ فلو ثبت فيها في خلال ذلك شي‌ء خارج عن المادة و حكمها فإنما الطريق إليه إثباتا أو نفيا طور آخر من البحث غير البحث الطبيعي الذي تتكفله العلوم الطبيعية، فما للعلم الباحث عن الطبيعة و للأمر الخارج عنها؟ فإن العلم الباحث عن المادة و خواصها ليس من وظيفته أن يتعرض لغير المادة و خواصها لا إثباتا و لا نفيا.

  • و لو فعل شيئا منه باحث من بحاثه كان ذلك منه شططا من القول، نظير ما لو أراد الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفيا أو إثباتا، و لنرجع إلى بقية الآيات.

  • و قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اَلنَّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجَارَةُ}. سوق الآيات من أول السورة و إن كانت لبيان حال المتقين و الكافرين و المنافقين (الطوائف الثلاث) جميعا لكنه سبحانه حيث جمعهم طرا في قوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، و دعاهم إلى عبادته تقسموا لا محالة إلى مؤمن و غيره فإن هذه الدعوة لا تحتمل من حيث إجابتها و عدمها غير القسمين: المؤمن و الكافر و أما المنافق‌ فإنما يتحقق بضم الظاهر إلى الباطن، و اللسان إلى القلب فكان هناك من جمع بين اللسان و القلب إيمانا أو كفرا و من اختلف لسانه و قلبه و هو المنافق، فلما ذكرنا (لعله) أسقط المنافقون من الذكر، و خص بالمؤمنين و الكافرين و وضع الإيمان مكان التقوى.

  • ثم إن الوقود ما توقد به النار و قد نصت الآية على أنه نفس الإنسان، فالإنسان وقود و موقود عليه، كما في قوله تعالى أيضا: {ثُمَّ فِي اَلنَّارِ يُسْجَرُونَ} المؤمن - ٧٢ و قوله تعالى: {نَارُ اَللَّهِ اَلْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ} اللمزة - ٧، فالإنسان معذب بنار توقده نفسه، و هذه الجملة نظيره قوله تعالى: {كُلَّما رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا اَلَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} البقرة - ٢٥، ظاهرة في أنه ليس للإنسان هناك إلا ما هيأه من هاهنا، كما- عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): كما تعيشون تموتون و كما 

تفسير الميزان ج۱

90
  •  

  • تموتون تبعثون‌ (الحديث). و إن كان بين الفريقين فرق من حيث إن لأهل الجنة مزيدا عند ربهم. قال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ} ق - ٣٥.

  • و المراد بالحجارة في قوله: {وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجَارَةُ} الأصنام‌ التي كانوا يعبدونها، و يشهد به قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الآية) الأنبياء - ٩٨، و الحصب‌ هو الوقود.

  • و قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قرينة الأزواج تدل على أن المراد بالطهارة هي الطهارة من أنواع الأقذار و المكاره التي تمنع من تمام الالتيام و الألفة و الأنس من الأقذار و المكاره الخلقية و الخلقية.

  • (بحث روائي) 

  • روى الصدوق، قال: سئل الصادق (علیه السلام) عن (الآية) فقال: الأزواج المطهرة اللاتي لا يحضن و لا يحدثن. أقول: و في بعض الروايات تعميم الطهارة للبراءة عن جميع العيوب و المكاره 

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٢٦ الی ٢٧] 

  • {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَا ذا أَرَادَ اَللَّهُ بِهَذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ ٢٦ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ ٢٧} 

تفسير الميزان ج۱

91
  •  

  • (بيان) [المجازاة و تجسم الأعمال]

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ} البعوضة الحيوان المعروف و هو من أصغر الحيوانات المحسوسة و هذه الآية و التي بعدها نظيرة ما في سورة الرعد {أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‌ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ. اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللَّهِ وَ لاَ يَنْقُضُونَ اَلْمِيثَاقَ وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} الرعد - ١٩، ٢٠، ٢١. و كيف كان فالآية تشهد على أن من الضلال و العمى ما يلحق الإنسان عقيب أعماله السيئة غير الضلال و العمى الذي له في نفسه و من نفسه حيث يقول تعالى: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} فقد جعل إضلاله في تلو الفسق لا متقدما عليه هذا.

  • ثم إن الهداية و الإضلال كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة و الخذلان التي ترد منه تعالى على عباده السعداء و الأشقياء، فإن الله تعالى وصف في كلامه حال السعداء من عباده بأنه يحييهم حياة طيبة، و يؤيدهم بروح الإيمان، و يخرجهم من الظلمات إلى النور و يجعل لهم نورا يمشون به، و هو وليهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و هو معهم يستجيب لهم إذا دعوه و يذكرهم إذا ذكروه، و الملائكة تنزل عليهم بالبشرى و السلام إلى غير ذلك.

  • و وصف حال الأشقياء من عباده بأنه يضلهم و يخرجهم من النور إلى الظلمات و يختم على قلوبهم، و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة، و يطمس وجوههم على أدبارهم و يجعل في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، و يجعل من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا فيغشيهم فهم لا يبصرون، و يقيض لهم شياطين قرناء يضلونهم عن السبيل و يحسبون أنهم مهتدون، و يزينون لهم أعمالهم، و هم أولياؤهم، و يستدرجهم الله من حيث لا يشعرون، و يملي لهم إن كيده متين، و يمكر بهم و يمدهم في طغيانهم يعمهون.

  • فهذه نبذة مما ذكره سبحانه من حال الفريقين و ظاهرها أن للإنسان في الدنيا وراء الحياة التي يعيش بها فيها حياة أخرى سعيدة أو شقية ذات أصول و أعراق يعيش بها فيها، و سيطلع و يقف عليها عند انقطاع الأسباب و ارتفاع الحجاب، و يظهر 

تفسير الميزان ج۱

92
  •  

  • من كلامه تعالى أيضا أن للإنسان حياة أخرى سابقة على حياته الدنيا يحذوها فيها كما يحذو حذو حياته الدنيا فيما يتلوها. و بعبارة أخرى إن للإنسان حياة قبل هذه الحياة الدنيا و حياة بعدها، و الحياة الثالثة تتبع حكم الثانية و الثانية حكم الأولى، فالإنسان و هو في الدنيا واقع بين حياتين: سابقة و لاحقة، فهذا هو الذي يقضي به ظاهر القرآن.

  • لكن الجمهور من المفسرين حملوا القسم الأول من الآيات و هي الواصفة للحياة السابقة على ضرب من لسان الحال و اقتضاء الاستعداد، و القسم الثاني منها و هي الواصفة للحياة اللاحقة على ضروب المجاز و الاستعارة هذا، إلا أن ظواهر كثير من الآيات يدفع ذلك. أما القسم الأول و هي آيات الذر و الميثاق فستأتي في مواردها، و أما القسم الثاني فكثير من الآيات دالة على أن الجزاء يوم الجزاء بنفس الأعمال و عينها كقوله تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} التحريم - ٧، و قوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} (الآية) البقرة - ٢٨١، و قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اَلنَّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجَارَةُ} البقرة - ٢٤، و قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ اَلزَّبَانِيَةَ} العلق - ١٨، و قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} آل عمران - ٣٠، و قوله تعالى: {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنَّارَ} البقرة - ١٧٤، و قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} النساء - ١٠، إلى غير ذلك من الآيات.

  • و لعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى إلا قوله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق - ٢٢، لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلا عن معلوم حاضر، و كشف الغطاء لا يستقيم إلا عن مغطى موجود فلو لم يكن ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجودا حاضرا من قبل لما كان يصح أن يقال للإنسان إن هذه أمور كانت مغفولة لك، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء، مزالة منها الغفلة.

  • و لعمري إنك لو سألت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز لما أجابتك إلا بنفس هذه البيانات و الأوصاف التي نزل بها القرآن الكريم.

  • و محصل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين: 

تفسير الميزان ج۱

93
  •  

  • أحدهما: وجه المجازاة بالثواب و العقاب، و عليه عدد جم من الآيات، تفيد: أن ما سيستقبل الإنسان من خير أو شر كجنة أو نار إنما هو جزاء لما عمله في الدنيا من العمل.

  • و ثانيهما: وجه تجسم الأعمال و عليه عدة أخرى من الآيات، و هي تدل على أن الأعمال تهيئ بأنفسها أو باستلزامها و تأثيرها أمورا مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيرا أو شرا هي التي سيطلع عليه الإنسان يوم يكشف عن ساق. و إياك أن تتوهم أن الوجهين متنافيان فإن الحقائق إنما تقرب إلى الأفهام بالأمثال المضروبة، كما ينص على ذلك القرآن.

  • و قوله تعالى: {إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} الفسق‌ كما قيل من الألفاظ التي أبدع القرآن استعمالها في معناها المعروف، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها و جلدها و لذلك فسر بعده بقوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (الآية)، و النقض إنما يكون عن إبرام، و لذلك أيضا وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين و الإنسان إنما يخسر فيما ملكه بوجه، قال تعالى: {إِنَّ اَلْخَاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} الشورى - ٤٥، و إياك أن تتلقى هذه الصفات التي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الأشقياء مثل المقربين و المخلصين و المخبتين و الصالحين و المطهرين و غيرهم، و مثل الظالمين و الفاسقين و الخاسرين و الغاوين و الضالين و أمثالها أوصافا مبتذلة أو مأخوذة لمجرد تزيين اللفظ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه تعالى فتعطف الجميع على واد واحد، و تأخذها هجاء عاميا و حديثا ساذجا سوقيا بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحية و مقامات معنوية في صراطي السعادة و الشقاوة، كل واحد منها في نفسه مبدأ لآثار خاصة و منشأ لأحكام مخصوصة معينة، كما أن مراتب السن و خصوصيات القوى و أوضاع الخلقة في الإنسان كل منها منشأ لأحكام و آثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدا منها من غير منشئه و محتده، و لئن تدبرت في مواردها من كلامه تعالى و أمعنت فيها وجدت صدق ما ادعيناه.

  • بحث الجبر و التفويض الجبر و التفويض و الأمر بين الأمرين

  • و اعلم: أن بيانه تعالى أن الإضلال إنما يتعلق بالفاسقين يشرح كيفية تأثيره 

تفسير الميزان ج۱

94
  •  

  • تعالى في أعمال العباد و نتائجها (و هو الذي يراد حله في بحث الجبر و التفويض).

  • بيان ذلك: أنه تعالى قال: {لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ}، البقرة - ٢٨٤، و قال: {لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} الحديد - ٥، و قال: {لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ} التغابن - ١، فأثبت فيها و في نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنه تعالى مالك على الإطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه و لا يملك على بعض الوجوه، كما أن الفرد من الإنسان يملك عبدا أو شيئا آخر فيما يوافق تصرفاته أنظار العقلاء، و أما التصرفات السفهية فلا يملكها، و كذا العالم مملوك لله تعالى مملوكية على الإطلاق، لا مثل مملوكية بعض أجزاء العالم لنا حيث إن ملكنا ناقص إنما يصحح بعض التصرفات لا جميعها، فإن الإنسان المالك لحمار مثلا إنما يملك منه أن يتصرف فيه بالحمل و الركوب مثلا و أما أن يقتله عطشا أو جوعا أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب فالعقلاء لا يرون له ذلك، أي كل مالكية في هذا الاجتماع الإنساني مالكية ضعيفة إنما تصحح بعض التصرفات المتصورة في العين المملوكة لا كل تصرف ممكن، و هذا بخلاف ملكه تعالى للأشياء فإنها ليس لها من دون الله تعالى من رب يملكها و هي لا تملك لنفسها نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا فكل تصرف متصور فيها فهو له تعالى، فأي تصرف تصرف به في عباده و خلقه فله ذلك من غير أن يستتبع قبحا و لا ذما و لا لوما في ذلك، إذ التصرف من بين التصرفات إنما يستقبح و يذم عليه فيما لا يملك المتصرف ذلك لأن العقلاء لا يرون له ذلك، فملك هذا المتصرف محدود مصروف إلى التصرفات الجائزة عند العقل، و أما هو تعالى فكل تصرف تصرف به فهو تصرف من مالك و تصرف في مملوك فلا قبح و لا ذم و لا غير ذلك، و قد أيد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أي تصرف في ملكه إلا ما يشاؤه أو يأذن فيه و هو السائل المحاسب دون المسئول المأخوذ، فقال تعالى: {مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} البقرة - ٢٥٥، و قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} يونس - ٣، و قال تعالى: {لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ لَهَدَى اَلنَّاسَ جَمِيعاً} الرعد - ٣٣، و قال: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} النحل - ٩٣، و قال تعالى: {وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ} الدهر - ٣٠، و قال تعالى: {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ} الأنبياء - ٢٣، فالله هو المتصرف 

تفسير الميزان ج۱

95
  •  

  • الفاعل في ملكه و ليس لشي‌ء غيره شي‌ء من ذلك إلا بإذنه و مشيته، فهذا ما يقتضيه ربوبيته.

  • ثم إنا نرى أنه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع و جرى في ذلك على ما يجري عليه العقلاء في المجتمع الإنساني، من استحسان الحسن و المدح و الشكر عليه و استقباح القبيح و الذم عليه كما قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} البقرة - ٢٧١، و قال: {بِئْسَ اَلاِسْمُ اَلْفُسُوقُ} الحجرات - ١١، و ذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الإنسان و مفاسده مرعي فيها أصلح ما يعالج به نقص الإنسان فقال تعالى: {إِذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الأنفال - ٢٤، و قال تعالى: {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الصف - ١١، و قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ }(إلى أن قال) {وَ يَنْهى‌ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ} النحل - ٩٠، و قال تعالى‌{إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الأعراف - ٢٨، و الآيات في ذلك كثيرة، و في ذلك إمضاء لطريقة العقلاء في المجتمع، بمعنى أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن و قبح و مصلحة و مفسدة و أمر و نهي و ثواب و عقاب أو مدح و ذم و غير ذلك و الأحكام المتعلقة بها كقولهم: الخير يجب أن يؤثر و الحسن يجب أن يفعل، و القبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك، كما أنها هي الأساس للأحكام العامة العقلائية كذلك الأحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى لعباده مرعي فيها ذلك، فمن طريقة العقلاء أن أفعالهم يلزم أن تكون معللة بأغراض و مصالح عقلائية، و من جملة أفعالهم تشريعاتهم و جعلهم للأحكام و القوانين، و منها جعل الجزاء و مجازاة الإحسان بالإحسان و الإساءة بالإساءة إن شاءوا فهذه كلها معللة بالمصالح و الأغراض الصالحة، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الأوامر العقلائية ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله، و كل المجازاة إنما تكون بالمسانخة بين الجزاء و أصل العمل في الخيرية و الشرية و بمقدار يناسب و كيف يناسب، و من أحكامهم أن الأمر و النهي و كل حكم تشريعي لا يتوجه إلا إلى المختار دون المضطر و المجبر على الفعل و أيضا إن الجزاء الحسن أو السيئ أعني الثواب و العقاب لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري اللهم إلا فيما كان الخروج عن الاختيار و الوقوع في الاضطرار مستندا إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار المخالفة فإن العقلاء لا يرون عقابه قبيحا، و لا يبالون بقصة اضطراره. 

تفسير الميزان ج۱

96
  •  

  • فلو أنه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزاء المطيع بالجنة و العاصي بالنار إلا جزافا في مورد المطيع، و ظلما في مورد العاصي، و الجزاف و الظلم قبيحان عند العقلاء و لزم الترجيح من غير مرجح و هو قبيح عندهم أيضا و لا حجة في قبيح و قد قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ} النساء - ١٦٥، و قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‌ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} الأنفال - ٤٤، فقد اتضح بالبيان السابق أمور: 

  • أحدها: أن التشريع ليس مبنيا على أساس الإجبار في الأفعال، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم و معادهم أولا، و هي متوجهة إلى العباد من حيث إنهم مختارون في الفعل و الترك ثانيا، و المكلفون إنما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختيارا.

  • ثانيها: أن ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الإضلال و الخدعة و المكر و الإمداد في الطغيان و تسليط الشيطان و توليته على الإنسان و تقييض القرين و نظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه و نزاهته تعالى عن ألواث النقص و القبح و المنكر، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الإضلال و شعبه و أنواعه، و ليس كل إضلال حتى الإضلال البدوي و على سبيل الإغفال بمنسوب إليه و لا لائق بجنابه، بل الثابت له الإضلال مجازاة و خذلانا لمن يستقبل بسوء اختياره ذلك كما قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} (الآية) البقرة - ٢٦ و قال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ} الصف - ٥، و قال تعالى: {كَذلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} المؤمن - ٣٤.

  • ثالثها: أن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث إنها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعلي دون الانتساب الوجودي، و سيجي‌ء لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي و في الكلام على القضاء و القدر إن شاء الله تعالى.

  • رابعها: أن التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض، إذ لا معنى للأمر و النهي المولويين فيما لا يملك المولى منه شيئا، مضافا إلى أن التفويض لا يتم إلا مع سلب إطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه. 

تفسير الميزان ج۱

97
  •  

  • (بحث روائي) الجبر و التفويض و الأمر بين الأمرين

  • استفاضت الروايات‌ عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) أنهم قالوا: (لا جبر و لا تفويض بل أمر بين أمرين‌) (الحديث).

  • و في العيون، بعدة طرق: لما انصرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) من صفين قام إليه شيخ ممن شهد الواقعة معه فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا أ بقضاء من الله و قدر، فقال له أمير المؤمنين: (أجل يا شيخ فوالله ما علوتم تلعة و لا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله و قدر)، فقال الشيخ عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال: (مهلا يا شيخ لعلك تظن قضاء حتما و قدرا لازما، لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب و الأمر و النهي و الزجر، و لسقط معنى الوعد و الوعيد، و لم تكن على مسي‌ء لائمة و لا لمحسن محمدة، و لكان المحسن أولى باللائمة من المذنب و المذنب أولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان و خصماء الرحمن و قدرية هذه الأمة و مجوسها. يا شيخ إن الله كلف تخييرا و نهى تحذيرا، و أعطى على القليل كثيرا و لم يعص مغلوبا، و لم يطع مكروها و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (الحديث) 

  • أقول: قوله: بقضاء من الله و قدر إلى قوله: عند الله أحتسب عنائي. ليعلم أن من أقدم المباحث التي وقعت في الإسلام موردا للنقض و الإبرام، و تشاغبت فيه الأنظار مسألة الكلام و مسألة القضاء و القدر و إذ صوروا معنى القضاء و القدر و استنتجوا نتيجته فإذا هي أن الإرادة الإلهية الأزلية تعلقت بكل شي‌ء من العالم فلا شي‌ء من العالم موجودا على وصف الإمكان، بل إن كان موجودا فبالضرورة، لتعلق الإرادة بها و استحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته، و إن كان معدوما فبالامتناع لعدم تعلق الإرادة بها و إلا لكانت موجودة، و إذا أطردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الإشكال في الأفعال الاختيارية الصادرة منا فإنا نرى في بادي النظر أن نسبة هذه الأفعال وجودا و عدما إلينا متساوية، و إنما يتعين واحد من الجانبين بتعلق الإرادة به 

تفسير الميزان ج۱

98
  •  

  • بعد اختيار ذلك الجانب فأفعالنا اختيارية، و الإرادة مؤثرة في تحققه سبب في إيجاده، و لكن، فرض تعلق الإرادة الإلهية الأزلية المستحيلة التخلف بالفعل يبطل اختيارية الفعل أولا، و تأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانيا و حينئذ لم يكن معنى للقدرة قبل الفعل على الفعل، و لا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل و خاصة في صورة الخلاف و التمرد فيكون تكليفا بما لا يطاق، و لا معنى لإثابة المطيع بالجبر لأنه جزاف قبيح، و لا معنى لعقاب العاصي بالجبر لأنه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللوازم، و قد التزم الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا القدرة غير موجودة قبل الفعل، و الحسن و القبح أمران غير واقعيين لا يلزم تقيد أفعاله تعالى بهما بل كل ما يفعله فهو حسن و لا يتصف فعله تعالى بالقبح، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجح، و لا من الإرادة الجزافية، و لا من التكليف بما لا يطاق، و لا من عقاب العاصي و إن لم يكن النقصان من قبله إلى غير ذلك من التوالي تعالى عن ذلك.

  • و بالجملة كان القول بالقضاء و القدر في الصدر الأول مساوقا لارتفاع الحسن و القبح و الجزاء بالاستحقاق و لذلك لما سمع الشيخ منه (علیه السلام) كون المسير بقضاء و قدر قال و هو في مقام التأثر و اليأس: عند الله أحتسب عنائي أي إن مسيري و إرادتي فاقدة الجدوى من حيث تعلق الإرادة الإلهية بها فلم يبق لي إلا العناء و التعب من الفعل فأحتسبه عند ربي فهو الذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الإمام (علیه السلام) بقوله: لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب إلخ، و هو أخذ بالأصول العقلائية التي أساس التشريع مبني عليها و استدل في آخر كلامه (علیه السلام) بقوله: و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا إلخ، و ذلك لأن صحة الإرادة الجزافية التي هي من لوازم ارتفاع الاختيار يوجب إمكان تحقق الفعل من غير غاية و غرض و هو يوجب إمكان ارتفاع الغاية عن الخلقة و الإيجاد، و هذا الإمكان يساوق الوجوب، فلا غاية على هذا التقدير للخلقة و الإيجاد، و ذلك خلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا، و فيه بطلان المعاد و فيه كل محذور، و قوله و لم يعص مغلوبا و لم يطع مكروها كان المراد لم يعص و الحال أن عاصية مغلوب بالجبر و لم يطع و الحال أن طوعه مكروه للمطيع.

  • و في التوحيد، و العيون، عن الرضا (علیه السلام) قال: ذكر عنده الجبر و التفويض - فقال: 

تفسير الميزان ج۱

99
  •  

  • أ لا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه - و لا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه؟ قلنا إن رأيت ذلك، فقال إن الله عز و جل لم يطع بإكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملكهم، و القادر على ما أقدرهم عليه فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادا، و لا منها مانعا و إن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و إن لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال (علیه السلام) من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.

  • أقول: قد عرفت أن الذي ألزم المجبرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء و القدر و استنتاج الحتم و اللزوم فيهما و هذا البحث صحيح و كذلك النتيجة أيضا نتيجة صحيحة غير أنهم أخطئوا في تطبيقها، و اشتبه عليهم أمر الحقائق و الاعتباريات، و اختلط عليهم الوجوب و الإمكان، توضيح ذلك أن القضاء و القدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أن الأشياء في نظام الإيجاد و الخلقة على صفة الوجوب و اللزوم فكل موجود من الموجودات و كل حال من أحوال الموجود مقدرة محدودة عند الله سبحانه، معين له جميع ما هو معه من الوجود و أطواره و أحواله لا يتخلف عنه و لا يختلف، و من الواضح أن الضرورة و الوجوب من شئون العلة فإن العلة التامة هي التي إذا قيس إليها الشي‌ء صار متصفا بصفة الوجوب و إذا قيس إلى غيرها أي شي‌ء كان لم يصر إلا متصفا بالإمكان، فانبساط القدر و القضاء في العالم هو سريان العلية التامة و المعلولية في العالم بتمامه و جميعه، و ذلك لا ينافي سريان حكم القوة و الإمكان في العام من جهة أخرى و بنظر آخر، فالفعل الاختياري الصادر عن الإنسان بإرادته إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم و إرادة و أدوات صحيحة و مادة يتعلق بها الفعل و سائر الشرائط الزمانية و المكانية كان ضروري الوجود، و هو الذي تعلقت به الإرادة الإلهية الأزلية لكن كون الفعل ضروريا بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة و من جهتها لا يوجب كونه ضروريا إذا قيس إلى بعض أجزاء علته التامة، كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقية أجزاء علته التامة فإنه لا يتجاوز حد الإمكان، و لا يبلغ البتة حد الوجوب فلا معنى لما زعموه أن عموم القضاء و تعلق الإرادة الإلهية بالفعل يوجب زوال القدرة و ارتفاع الاختيار، بل الإرادة الإلهية إنما تعلقت بالفعل بجميع شئونه و خصوصياته الوجودية و منها ارتباطاته بعلله و شرائط وجوده، و بعبارة أخرى تعلقت الإرادة 

تفسير الميزان ج۱

100
  •  

  • الإلهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقا بل من حيث إنه فعل اختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا و مكان كذا فإذن تأثير الإرادة الإلهية في الفعل يوجب كون الفعل اختياريا و إلا تخلف متعلق الإرادة الإلهية عنها فإذن تأثير الإرادة الإلهية في صيرورة الفعل ضروريا يوجب كون الفعل اختياريا أي كون الفعل ضروريا بالنسبة إلى الإرادة الإلهية ممكنا اختياريا بالنسبة إلى الإرادة الإنسانية الفاعلية، فالإرادة في طول الإرادة و ليست في عرضها حتى تتزاحما، و يلزم من تأثير الإرادة الإلهية بطلان تأثير الإرادة الإنسانية فظهر أن ملاك خطإ المجبرة فيما أخطئوا فيه عدم تمييزهم كيفية تعلق الإرادة الإلهية بالفعل، و عدم فرقهم بين الإرادتين الطوليتين و بين الإرادتين العرضيتين و حكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلق إرادة الله تعالى به.

  • و المعتزلة و إن خالفت المجبرة في اختيارية أفعال العبد و سائر اللوازم إلا أنهم سلكوا في إثباته مسلكا لا يقصر من قول المجبرة فسادا، و هو أنهم سلموا للمجبرة أن تعلق إرادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار، و من جهة أخرى أصروا على اختيارية الأفعال الاختيارية فنفوا بالآخرة تعلق الإرادة الإلهية بالأفعال فلزمهم إثبات خالق آخر للأفعال و هو الإنسان، كما أن خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنوية، ثم وقعوا في محاذير أخرى أشد مما وقعت فيه المجبرة كما قال (علیه السلام): مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته و سلطانه‌ (الحديث).

  • فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفية يختار عبدا من عبيده و يزوجه إحدى فتياته ثم يقطع له قطيعة و يخصه بدار و أثاث و غير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود و أجل مسمى، فإن قلنا إن المولى و إن أعطى لعبده ما أعطى و ملكه ما ملك فإنه لا يملك و أين العبد من الملك كان ذلك قول المجبرة، و إن قلنا إن للمولى بإعطائه المال لعبده و تمليكه جعله مالكا و انعزل هو عن المالكية و كان المالك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة، و لو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين و قلنا: إن المولى مقامه في المولوية و للعبد مقامه في الرقية و إن العبد إنما يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت (علیهم السلام)، و قام عليه البرهان هذا.

تفسير الميزان ج۱

101
  •  

  • و في الإحتجاج: فيما سأله عباية بن ربعي الأسدي - عن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) في معنى الاستطاعة، فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية بن ربعي فقال له قل يا عباية، قال: و ما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن ملككها كان ذلك من عطائه و إن سلبكها كان ذلك من بلائه و هو المالك لما ملكك و القادر على ما عليه أقدرك‌ (الحديث).

  • أقول: و معنى الرواية واضح مما بيناه آنفا.

  • و في شرح العقائد، للمفيد قال: و قد روي عن أبي الحسن الثالث (علیه السلام) أنه سئل عن أفعال العباد أ هي مخلوقة لله تعالى؟ فقال (علیه السلام): لو كان خالقا لها لما تبرأ منها و قد قال سبحانه: {أَنَّ اَللَّهَ بَرِي‌ءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} و لم يرد البراءة من خلق ذواتهم و إنما تبرأ من شركهم و قبائحهم.

  •  أقول للأفعال جهتان: جهة ثبوت و وجود، و جهة الانتساب إلى الفاعل، و هذه الجهة الثانية هي التي تتصف بها الأفعال بأنها طاعة أو معصية أو حسنة أو سيئة، فإن النكاح و الزنا لا فرق بينهما من جهة الثبوت و التحقق، و إنما الفرق الفارق هو أن النكاح موافق لأمر الله تعالى، و الزنا فاقد للموافقة المذكورة، و كذا قتل النفس بالنفس و قتل النفس بغير نفس، و ضرب اليتيم تأديبا و ضربه ظلما، فالمعاصي فاقدة لجهة من جهات الصلاح أو لموافقة الأمر أو الغاية الاجتماعية بخلاف غيرها، و قد قال تعالى: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} الزمر - ٦٢، و الفعل شي‌ء بثبوته و وجوده، و قد قال (علیه السلام): كل ما وقع عليه اسم شي‌ء فهو مخلوق ما خلا الله‌ الحديث ثم قال تعالى: {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ} السجدة ٧، فتبين أن كل شي‌ء كما أنه مخلوق فهو في أنه مخلوق، حسن فالخلقة و الحسن متلازمان متصاحبان لا ينفك أحدهما عن الآخر أصلا، ثم إنه تعالى سمى بعض الأفعال سيئة فقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزى‌ إِلاَّ مِثْلَهَا} الأنعام - ١٦٠، و هي المعاصي التي يفعلها الإنسان بدليل المجازاة، و علمنا بذلك أنها من حيث إنها معاص عدمية غير مخلوقة و إلا كانت حسنة، و قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} الحديد - ٢٢، و قال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ 

تفسير الميزان ج۱

102
  •  

  • إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} التغابن - ١١، و قال: {مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} الشورى - ٣٠، و قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ وَ مَا أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} النساء - ٧٩، و قال: {وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} النساء - ٧٨، علمنا بذلك أن هذه المصائب إنما هي سيئات نسبية بمعنى أن الإنسان المنعم بنعمة من نعم الله كالأمن و السلامة و الصحة و الغنى يعد واجدا فإذا فقدها لنزول نازلة و إصابة مصيبة كانت النازلة بالنسبة إليه سيئة لأنها مقارنة لفقد ما و عدم ما، فكل نازلة فهي من الله و ليست من هذه الجهة سيئة و إنما هي سيئة نسبية بالنسبة إلى الإنسان و هو واجد، فكل سيئة فهي أمر عدمي غير منسوب من هذه الجهة إلى الله سبحانه البتة و إن كانت من جهة أخرى منسوبة إليه تعالى بالإذن فيه و نحو ذلك.

  • و في قرب الإسناد عن البزنطي، قال: قلت: للرضا (علیه السلام) إن أصحابنا بعضهم يقول: بالجبر، و بعضهم بالاستطاعة فقال لي: (اكتب، قال الله تبارك و تعالى يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء و بقوتي أديت إلي فرائضي و بنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، و ما أصابك من سيئة فمن نفسك، و ذلك أني أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني، و ذلك أني لا أسأل عما أفعل و هم يسألون، فقد نظمت لك كل شي‌ء تريد) (الحديث) و هو أو ما يقربه مروي بطرق عامية و خاصية أخرى و بالجملة فالذي لا تنسب إلى الله سبحانه من الأفعال هي المعاصي من جهة أنها معاص خاصة، و بذلك يعلم معنى قوله (علیه السلام) في الرواية السابقة: لو كان خالقا لها لما تبرأ منها إلى قوله و إنما تبرأ من شركهم و قبائحهم (الحديث).

  • و في التوحيد عن أبي جعفر و أبي عبد الله (علیه السلام) قالا: إن الله عز و جل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، و الله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون قال: فسئلا (علیه السلام) هل بين الجبر و القدر منزلة ثالثة؟ قالا نعم أوسع مما بين السماء و الأرض.

تفسير الميزان ج۱

103
  •  

  • و في التوحيد عن محمد بن عجلان، قال قلت: لأبي عبد الله (علیه السلام) فوض الله الأمر إلى العباد؟ قال: الله أكرم من أن يفوض إليهم قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم فقال: الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه‌.

  • و في التوحيد أيضا عن مهزم، قال قال أبو عبد الله (علیه السلام): أخبرني عما اختلف فيه من خلفك من موالينا، قال: قلت: في الجبر و التفويض؟ قال: فاسألني قلت: أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: الله أقهر لهم من ذلك قلت: ففوض إليهم؟ قال: الله أقدر عليهم من ذلك، قال قلت فأي شي‌ء هذا، أصلحك الله؟ قال: فقلب يده مرتين أو ثلاثا ثم قال: لو أجبتك فيه لكفرت‌.

  • أقول: قوله (علیه السلام): الله أقهر لهم من ذلك، معناه أن الجبر إنما هو لقهر من المجبر يبطل به مقاومة القوة الفاعلة، و أقهر منه و أقوى أن يريد المريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من مجرى اختياره فيأتي به من غير أن يبطل إرادته و اختياره أو ينازع إرادة الفاعل إرادة الآمر.

  • و في التوحيد، أيضا عن الصادق (علیه السلام) قال: قال: رسول الله: من زعم أن الله يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على الله و من زعم أن الخير و الشر بغير مشية الله فقد أخرج الله من سلطانه‌.

  • و في الطرائف: روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري و إلى عمرو بن عبيد و إلى واصل بن عطاء و إلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم و ما وصل إليهم في القضاء و القدر، فكتب إليه الحسن البصري إن أحسن ما انتهى إلي ما سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، أنه قال:« أ تظن أن الذي نهاك دهاك؟ و إنما دهاك أسفلك و أعلاك، و الله بري‌ء من ذاك» و كتب إليه عمرو بن عبيد أحسن ما سمعت في القضاء و القدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) لو كان الزور في الأصل محتوما لكان المزور في القصاص مظلوما» و كتب إليه واصل بن عطاء أحسن ما سمعت في القضاء و القدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) «أ يدلك على الطريق و يأخذ عليك المضيق؟» و كتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء و القدر 

تفسير الميزان ج۱

104
  •  

  • قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) «كلما استغفرت الله منه فهو منك، و كلما حمدت الله عليه فهو منه» فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج و وقف عليها قال لقد أخذوها من عين صافية.

  • و في الطرائف، أيضا روي: أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) عن القضاء و القدر فقال: «ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، و ما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله» يقول الله للعبد: لم عصيت، لم فسقت، لم شربت الخمر، لم زنيت؟ فهذا فعل العبد، و لا يقول له لم مرضت، لم قصرت، لم ابيضضت، لم اسوددت؟ لأنه من فعل الله تعالى. 

  • و في النهج: سئل (علیه السلام) عن التوحيد و العدل فقال: التوحيد أن لا تتوهمه، و العدل أن لا تتهمه‌.

  • أقول: و الأخبار فيما مر متكاثرة جدا غير أن الذي نقلناه حاو لمعاني ما تركناه و لئن تدبرت فيما تقدم من الأخبار وجدتها مشتملة على طرق خاصة عديدة من الاستدلال.

  • منها: الاستدلال بنفس الأمر و النهي و العقاب و الثواب و أمثالها على تحقق الاختيار من غير جبر و لا تفويض، كما في الخبر المنقول عن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) فيما أجاب به الشيخ، و هو قريب المأخذ مما استفدناه من كلامه تعالى.

  • و منها: الاستدلال بوقوع أمور في القرآن لا تصدق لو صدق جبر أو تفويض، كقوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}، و قوله: {وَ مَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}، و قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (الآية)، و يمكن أن يناقش فيه بأن الفعل إنما هو فاحشة أو ظلم بالنسبة إلينا و أما إذا نسب إليه تعالى فلا يسمى فاحشة و لا ظلما فلا يقع منه تعالى فاحشة و لا ظلم، و لكن صدر الآية بمدلولها الخاص يدفعها فإنه تعالى يقول: {وَ إِذا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الآية، فالإشارة بقوله بهذا يوجب أن يكون النفي اللاحق متوجها إليه سواء سمي فحشاء أو لم يسم.

تفسير الميزان ج۱

105
  •  

  • و منها: الاستدلال من جهة الصفات و هو أن الله تسمى بأسماء حسني و اتصف بصفات عليا لا تصدق و لا تصح ثبوتها على تقدير جبر أو تفويض فإنه تعالى قهار قادر كريم رحيم، و هذه صفات لا تستقر معانيها إلا عند ما يكون وجود كل شي‌ء منه تعالى و نقص كل شي‌ء و فساده غير راجع إلى ساحة قدسه كما في الروايات التي نقلناها عن التوحيد.

  • و منها: الاستدلال بمثل الاستغفار و عروض اللوم فإن الذنب لو لم يكن من العبد لم يكن معنى لاستغفاره و لو كان الفعل كله من الله لم يكن فرق بين فعل و فعل في عروض اللوم على بعضها و عدم عروضه على بعض آخر.

  • و هاهنا روايات أخر مروية فيما ينسب إليه سبحانه من معنى الإضلال و الطبع و الإغواء و غير ذلك.

  • ففي العيون، عن الرضا (علیه السلام): في قوله تعالى: {وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ} قال (علیه السلام) «إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر و الضلال منعهم المعاونة و اللطف و خلى بينهم و بين اختيارهم‌.»

  • و في العيون، أيضا عنه (علیه السلام): في قوله تعالى: {خَتَمَ اَللَّهُ عَلى‌ قُلُوبِهِمْ}، قال: الختم‌ هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما قال الله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اَللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} 

  • و في المجمع، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي} (الآية)، هذا القول من الله رد على من زعم أن الله تبارك و تعالى يضل العباد ثم يعذبهم على ضلالتهم‌ (الحديث)،

  •  أقول: قد مر بيان معناها.

  • (بحث فلسفي) الجبر و التفويض و الأمر بين الأمرين

  • لا ريب أن الأمور التي نسميها أنواعا في الخارج هي التي تفعل الأفاعيل النوعية، و هي موضوعاتها، فإنا إنما أثبتنا وجود هذه الأنواع و نوعيتها الممتازة عن غيرها 

تفسير الميزان ج۱

106
  •  

  • من طريق الآثار و الأفاعيل، بأن شاهدنا من طرق الحواس أفاعيل متنوعة و آثارا مختلفة من غير أن تنال الحواس في إحساسها أمرا وراء الآثار العرضية، ثم أثبتنا من طريق القياس و البرهان علة فاعلة لها و موضوعا يقومها ثم حكمنا باختلاف هذه الموضوعات أعني الأنواع لاختلاف الآثار و الأفاعيل المشهودة لنا، فالاختلاف المشهود في آثار الإنسان و سائر الأنواع الحيوانية مثلا هو الموجب للحكم بأن هناك أنواعا مختلفة تسمى بكذا و كذا و لها آثار و أفاعيل كذا و كذا، و كذا الاختلافات بين الأعراض و الأفاعيل إنما نثبتها و نحكم بها من ناحية موضوعاتها أو خواصها.

  • و كيف كان فالأفاعيل بالنسبة إلى موضوعاتها تنقسم بانقسام أولي إلى قسمين:

  • الأول: الفعل الصادر عن الطبيعة من غير دخل للعلم في صدوره كأفعال النشوء و النمو و التغذي للنبات و الحركات للأجسام، و من هذا القبيل الصحة و المرض و أمثال ذلك فإنها و إن كانت معلومة لنا و قائمة بنا إلا أن تعلق العلم بها لا يؤثر في وجودها و صدورها شيئا و إنما هي مستندة تمام الاستناد إلى فاعلها الطبيعي، و الثاني: الفعل الصادر عن الفاعل من حيث إنه معلوم تعلق به العلم كما في الأفعال الإرادية للإنسان و سائر ذوات الشعور من الحيوان، فهذا القسم من الفعل إنما يفعله فاعله من حيث تعلق العلم به و تشخيصه و تمييزه، فالعلم فيه إنما يفيد تعيينه و تمييزه من غيره و هذا التمييز و التعيين إنما يتحقق من جهة انطباق مفهوم يكون كمالا للفاعل انطباقا بواسطة العلم، فإن الفاعل أي فاعل كان إنما يفعل من الفعل ما يكون مقتضى كماله و تمام وجوده فالفعل الصادر عن العلم إنما يحتاج إلى العلم من جهة أن يتميز عند الفاعل ما هو كمال له عن ما ليس بكمال له.

  • و من هنا ما نرى أن الأفعال الصادرة عن الملكات كصدور أصوات الحروف منظمة عن الإنسان المتكلم، و كذا الأفعال الصادرة عنها مع اقتضاء ما و مداخلة من الطبيعة كصدور التنفس عن الإنسان، و كذا الأفعال الصادرة عن الإنسان بغلبة الحزن أو الخوف أو غير ذلك كل ذلك لا يحتاج إلى ترو من الفاعل، إذ ليس هناك إلا صورة علمية واحدة منطبقة على الفعل و الفاعل لا حالة منتظرة لفعله، فيفعل البتة، و أما الأفعال التي لها صور علمية متعددة تكون هي من جهة بعضها مصداق 

تفسير الميزان ج۱

107
  •  

  • كمال الإنسان حقيقة أو تخيلا، و من جهة بعضها غير مصداق لكماله الحقيقي أو التخيلي كما أن الخبز بالنسبة إلى زيد الجائع كذلك فإنه مشبع رافع لجوعه و يمكن أن يكون مال الغير و يمكن أن يكون مسموما و يمكن أن يكون قذرا يتنفر عنه الطبع، و هكذا و الإنسان إنما يتروى فيما يتروى لترجيح أحد هذه العناوين في انطباقه على الخبز مثلا، فإذا تعين أحد العناوين و سقطت بقيتها و صار مصداقا لكمال الفاعل لم يلبث الفاعل في فعله أصلا، و القسم الأول: نسميه فعلا اضطراريا كالتأثيرات الطبيعية. و القسم الثاني: نسميه فعلا إراديا كالمشي و التكلم.

  • و الفعل الإرادي: الصادر عن علم و إرادة ينقسم ثانيا إلى قسمين: فإن ترجيح أحد جانبي الفعل و الترك إما مستند إلى نفس الفاعل من غير أن يتأثر عن آخر كالجائع الذي يتروى في أكل خبز موجود عنده حتى رجح أن يبقيه و لا يأكله لأنه كان مال الغير من غير إذن منه في التصرف فانتخب الحفظ و اختاره أو رجح الأكل فأكله اختيارا، و إما أن يكون الترجيح و التعيين مستندا إلى تأثير الغير كمن يجبره جبار على فعل بتهديده بقتل أو نحوه ففعله إجبارا من غير أن يكون متعينا بانتخابه و اختياره و القسم الأول يسمى فعلا اختياريا، و الثاني فعلا إجباريا هذا، و أنت تجد بجودة التأمل أن الفعل الإجباري و إن أسندناه إلى إجبار المجبر و أنه هو الذي يجعل أحد الطرفين محالا و ممتنعا بواسطة الإجبار فلا يبقى للفاعل إلا طرف واحد، لكن الفعل الإجباري أيضا كالاختياري لا يقع إلا بعد ترجيح الفاعل المجبور جانب الفعل على الترك و إن كان الذي يجبره هو المتسبب إلى الفعل بوجه، لكن الفعل ما لم يترجح بنظر الفاعل و إن كان نظره مستندا بوجه إلى إجبار المجبر و تهديده لم يقع، و الوجدان الصحيح شاهد على ذلك، و من هنا يظهر أن تقسيم الأفعال الإرادية إلى اختيارية و جبرية ليس تقسيما حقيقيا ينوع المقسم إلى نوعين مختلفين بحسب الذات و الآثار، فإن الفعل الإرادي إنما يحتاج إلى تعيين و ترجيح علمي يعين للفاعل مجرى فعله، و هو في الفعل الاختياري و الجبري على حد سواء، و أما أن ترجيح الفاعل في أحدهما مستند إلى رسله و في آخر إلى آخر فلا يوجب اختلافا نوعيا يؤدي إلى اختلاف الآثار. أ لا ترى أن المستظل تحت حائط إذا شاهد أن الحائط يريد أن ينقض، فخرج خائفا عد فعله هذا اختياريا؟ و أما إذا هدده جبار بأنه لو لم يقم لهدم الحائط عليه، فخرج خائفا عد فعله هذا إجباريا من غير فرق 

تفسير الميزان ج۱

108
  •  

  • بين الفعلين و الترجيحين أصلا غير أن أحد الترجيحين مستند إلى إرادة الجبار.

  • فإن قلت: كفى فرقا بين الفعلين أن الفعل الاختياري يوافق في صدوره مصلحة عند الفاعل و هو فعل يترتب عليه المدح و الذم و يتبعه الثواب و العقاب إلى غير ذلك من الآثار، و هذا بخلاف الفعل الإجباري فإنه لا يترتب عليه شي‌ء من ذلك.

  • قلت: الأمر على ما ذكر، غير أن هذه الآثار إنما هي بحسب اعتبار العقلاء على ما يوافق الكمال الأخير الاجتماعي، فهي آثار اعتبارية غير حقيقية، فليس البحث عن الجبر و الاختيار بحثا فلسفيا لأن البحث الفلسفي إنما ينال الموجودات الخارجية و آثارها العينية، و أما الأمور المنتهية إلى أنحاء الاعتبارات العقلائية، فلا ينالها بحث فلسفي و لا يشملها برهان البتة، و إن كانت معتبرة في بابها، مؤثرة أثرها، فالواجب أن نرد البحث المزبور من طريق آخر، فنقول: لا شك أن كل ممكن حادث مفتقر إلى علة، و الحكم ثابت من طريق البرهان، و لا شك أيضا أن الشي‌ء ما لم يجب لم يوجد إذ الشي‌ء ما لم يتعين طرف وجوده بمعين كان نسبته إلى الوجود و العدم بالسوية، و لو وجد الشي‌ء و هو كذلك لم يكن مفتقرا إلى علة و هذا خلف، فإذا فرض وجود الشي‌ء كان متصفا بالضرورة ما دام موجودا، و هذه الضرورة إنما اكتسبها من ناحية العلة، فإذا أخذنا دار الوجود بأجمعها كانت كسلسلة مؤلفة من حلقات مترتبة متوالية كلها واجبة الوجود، و لا موقع لأمر ممكن الوجود في هذه السلسلة.

  • ثم نقول: هذه النسبة الوجوبية إنما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علتها التامة البسيطة أو المركبة من أمور كثيرة كالعلل الأربع و الشرائط و المعدات و أما إذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلة أو إلى شي‌ء آخر لو فرض كانت النسبة نسبة الإمكان بالضرورة، بداهة أنه لو كانت بالضرورة كانت العلة التامة وجودها مستغنى عنه و هي علة تامة هذا خلف، ففي عالمنا الطبيعي نظامان: نظام الضرورة و نظام الإمكان، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامة و معلولاتها و لا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكاني البتة لا ذات و لا فعل ذات، و نظام الإمكان منبسط على المادة و الصور التي في قوة المادة التلبس بها و الآثار التي يمكنها أن تقبلها، فإذا فرضت فعلا من أفعال الإنسان الاختيارية و نسبتها إلى تمام علتها، و هي الإنسان و العلم و الإرادة 

تفسير الميزان ج۱

109
  •  

  • و وجود المادة القابلة و تحقق الشرائط المكانية و الزمانية و ارتفاع الموانع، و بالجملة كل ما يحتاج إليه الفعل في وجوده كان الفعل واجبا ضروريا، و إذا نسب إلى الإنسان فقط، و من المعلوم أنه جزء من أجزاء العلة التامة كانت النسبة بالإمكان.

  • ثم نقول: سبب الاحتياج و الفقر إلى العلة كما بين في محلة كون الوجود (و هو مناط الجعل) وجودا إمكانيا، أي رابطا بحسب الحقيقة غير مستقل بنفسه، فما لم ينته سلسلة الربط إلى مستقل بالذات لم ينقطع سلسلة الفقر و الفاقة.

  • و من هنا يستنتج أولا: أن المعلول لا ينقطع بواسطة استناده إلى علته عن الاحتياج إلى العلة الواجبة التي إليها تنتهي سلسلة الإمكان.

  • و ثانيا: أن هذا الاحتياج حيث كان من حيث الوجود كان الاحتياج في الوجود مع حفظ جميع خصوصياته الوجودية و ارتباطاته بعلله و شرائطه الزمانية و المكانية إلى غير ذلك.

  • فقد تبين بهذا أمران: الأول: أن الإنسان كما أنه مستند الوجود إلى الإرادة الإلهية على حد سائر الذوات الطبيعية و أفعالها الطبيعية فكذلك أفعال الإنسان مستندة الوجود إلى الإرادة الإلهية، فما ذكره المعتزلة من كون الأفعال الإنسانية غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه و إنكار القدر ساقط من أصله، و هذا الاستناد حيث إنه استناد وجودي فالخصوصيات الوجودية الموجودة في المعلول دخيلة فيه، فكل معلول مستند إلى علته بحده الوجودي الذي له، فكما أن الفرد من الإنسان إنما يستند إلى العلة الأولى بجميع حدوده الوجودية من أب و أم و زمان و مكان و شكل و كم و كيف و عوامل أخر مادية، فكذلك فعل الإنسان إنما يستند إلى العلة الأولى مأخوذا بجميع خصوصياته الوجودية، فهذا الفعل إذا انتسب إلى العلة الأولى و الإرادة الواجبة مثلا لا يخرجه ذلك عما هو عليه و لا يوجب بطلان الإرادة الإنسانية مثلا في التأثير، فإن الإرادة الواجبية إنما تعلقت بالفعل الصادر من الإنسان عن إرادة و اختيار، فلو كان هذا الفعل حين التحقق غير إرادي و غير اختياري لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده و هو محال، فما ذهب إليه المجبرة من الأشاعرة من أن تعلق الإرادة الإلهية بالأفعال الإرادية يوجب بطلان تأثير الإرادة و الاختيار فاسد جدا، فالحق الحقيق بالتصديق 

تفسير الميزان ج۱

110
  •  

  • أن الأفعال الإنسانية لها نسبة إلى الفاعل و نسبة إلى الواجب و إحدى النسبتين لا توجب بطلان الأخرى لكونهما طوليتين لا عرضيتين.

  • الثاني: أن الأفعال كما أن لها استنادا إلى عللها التامة (و قد عرفت أن هذه النسبة ضرورية وجوبية كسائر الموجودات المنسوبة إلى عللها التامة بالوجوب) كذلك لها استنادا إلى بعض أجزاء عللها التامة كالإنسان مثلا، و قد عرفت أن هذه النسبة بالإمكان فكون فعل من الأفعال ضروري الوجود بملاحظة علته التامة الضرورية لا يوجب عدم كون هذا الفعل ممكنا بنظر آخر، إذ النسبتان ثابتتان و هما غير متنافيتين كما مر فما ذكره جمع من الماديين من فلاسفة العصر الحاضر من شمول الجبر لنظام الطبيعة و إنكار الاختيار باطل جدا بل الحق أن الحوادث بالنسبة إلى عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادها و أجزاء عللها ممكنة الوجود، و هذا هو الملاك في أعمال الإنسان و أفعاله فبناؤه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء و التربية و التعليم و نحو ذلك، و لا معنى لابتناء الواجبات و الضروريات على التربية و التعليم، و لا الركون إلى الرجاء فيها و هو ظاهر

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٢٨ الی ٢٩] 

  • {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٢٨ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوى‌ إِلَى اَلسَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ ٢٩}

  •  بيان

  • رجوع ثان إلى ما في بدء الكلام فإنه تعالى بعد ما بين في أول السورة ما بين أوضحه بنحو التلخيص بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ} إلى بضع آيات، ثم رجع 

تفسير الميزان ج۱

111
  •  

  • إليه ثانيا و أوضحه بنحو البسط و التفصيل بقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} إلى اثنتي عشرة آية، ببيان حقيقة الإنسان و ما أودعه الله تعالى فيه من ذخائر الكمال و ما تسعه دائرة وجوده و ما يقطعه هذا الموجود في مسير وجوده من منازل موت و حياة ثم موت ثم حياة ثم رجوع إلى الله سبحانه و إن إلى ربك المنتهى و فيه ذكر جمل ما خص الله تعالى به الإنسان من مواهب التكوين و التشريع، أنه كان ميتا فأحياه، ثم لا يزال يميته و يحييه حتى يرجعه إليه، و قد خلق له ما في الأرض و سخر له السماوات و جعله خليفته في الأرض و أسجد له ملائكته و أسكن أباه الجنة و فتح له باب التوبة و أكرمه بعبادته و هدايته، و هذا هو المناسب لسياق قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} إلخ، فإن السياق سياق العتبى و الامتنان.

  • قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً}. (الآية) قريبة السياق من قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلى‌ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} المؤمن - ١١، و هذه من الآيات التي يستدل بها على وجود البرزخ بين الدنيا و الآخرة، فإنها تشتمل على إماتتين، فلو كان إحداهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بد في تصوير الإماتة الثانية من فرض حياة بين الموتين و هو البرزخ، و هو استدلال تام اعتنى به في بعض الروايات أيضا، و ربما ذكر بعض المنكرين للبرزخ أن الآيتين أعني قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} (الآية)، و قوله: {قَالُوا رَبَّنَا} (الآية)، متحدتا السياق، و قد اشتملتا على موتين و حياتين، فمدلولهما واحد، و الآية الأولى ظاهرة في أن الموت الأول هو حال الإنسان قبل ولوج الروح في الحياة الدنيا، فالموت و الحياة الأوليان هما الموت قبل الحياة الدنيا و الحياة الدنيا، و الموت و الحياة الثانيتان هما الموت عن الدنيا و الحياة يوم البعث، و المراد بالمراتب في الآية الثانية هو ما في الآية الأولى، فلا معنى لدلالتها على البرزخ، و هو خطأ فإن الآيتين مختلفتان سياقا إذ المأخوذ في الآية الأولى موت واحد و إماتة واحدة و إحيائان، و في الآية الثانية إماتتان و إحيائان، و من المعلوم أن الإماتة لا يتحقق لها مصداق من دون سابقة حياة بخلاف الموت، فالموت الأول في الآية الأولى غير الإماتة الأولى في الآية الثانية، فلا محالة في قوله تعالى {أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ}، الإماتة الأولى هي التي بعد الدنيا و الإحياء الأول بعدها للبرزخ و الإماتة و الإحياء الثانيتان للآخرة يوم البعث، و في قوله تعالى. {وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}

تفسير الميزان ج۱

112
  •  

  • إنما يريد الموت قبل الحياة و هو موت و ليس بإماتة و الحياة هي الحياة الدنيا، و في قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} حيث فصل بين الإحياء و الرجوع بلفظ ثم تأييد لما ذكرنا هذا.

  • قوله تعالى{وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً} بيان حقيقة الإنسان من حيث وجوده فهو وجود متحول متكامل يسير في مسير وجوده المتبدل المتغير تدريجا و يقطعه مرحلة مرحلة، فقد كان الإنسان قبل نشأته في الحياة الدنيا ميتا ثم حيي بإحياء الله ثم يتحول بإماتة و إحياء و هكذا و قد قال سبحانه: {وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} السجدة - ٩، و قال تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اَللَّهُ أَحْسَنُ اَلْخَالِقِينَ} المؤمنون - ١٤، و قال تعالى: {وَ قَالُوا أَ إِذا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} السجدة - ١١، و قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى‌} طه - ٥٥. و الآيات كما ترى (و سنزيدها توضيحا في محالها) تدل على أن الإنسان جزء من الأرض غير مفارقها و لا مباين معها، انفصل منها ثم شرع في التطور بأطواره حتى بلغ مرحلة أنشئ فيها خلقا آخر، فهو المتحول خلقا آخر و المتكامل بهذا الكمال الجديد الحديث، ثم يأخذ ملك الموت هذا الإنسان من البدن نوع أخذ يستوفيه ثم يرجع إلى الله سبحانه، فهذا صراط وجود الإنسان.

  • ثم إن الإنسان صاغه التقدير صوغا يرتبط به مع سائر الموجودات الأرضية و السماوية من بسائط العناصر و قواها المنبجسة منها و مركباتها من حيوان و نبات و معدن و غير ذلك من ماء أو هواء و ما يشاكلها، و كل موجود من الموجودات الطبيعية كذلك، أي إنه مفطور على الارتباط مع غيره ليفعل و ينفعل و يستبقي به موهبة وجوده غير أن نطاق عمل الإنسان و مجال سعيه أوسع؛ كيف؟ و هذا الموجود الأعزل على أنه يخالط الموجودات الآخر الطبيعية بالقرب و البعد و الاجتماع و الافتراق بالتصرفات البسيطة لغاية مقاصده البسيطة في حياته، فهو من جهة تجهيزه بالإدراك و الفكر يختص بتصرفات خارجة عن طوق سائر الموجودات بالتفصيل و التركيب و الإفساد و الإصلاح، فما من موجود إلا و هو في تصرف الإنسان، فزمانا يحاكي 

تفسير الميزان ج۱

113
  •  

  • الطبيعة بالصناعة فيما لا يناله من الطبيعة و زمانا يقاوم الطبيعة بالطبيعة، و بالجملة فهو مستفيد لكل غرض من كل شي‌ء، و لا يزال مرور الدهور على هذا النوع العجيب يؤيده في تكثير تصرفاته و تعميق أنظاره ليحق الله الحق بكلماته، و ليصدق قوله: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} الجاثية - ١٣، و قوله: {ثُمَّ اِسْتَوى‌ إِلَى اَلسَّمَاءِ} البقرة -٢٩. و كون الكلام واقعا موقع بيان النعم لتمام الامتنان يعطي أن يكون الاستواء إلى السماء لأجل الإنسان فيكون تسويتها سبعا أيضا لأجله، و عليك بزيادة التدبر فيه.

  • فذاك الذي ذكرناه من صراط الإنسان في مسير وجوده، و هذا الذي ذكرناه من شعاع عمله في تصرفاته في عالم الكون هو الذي يذكره سبحانه من العالم الإنساني و من أين يبتدي و إلى أين ينتهي.

  • غير أن القرآن كما يعد مبدأ حياته الدنيوية آخذة في الشروع من الطبيعة الكونية و مرتبطة بها (أحيانا) كذلك يربطها بالرب تعالى و تقدس، فقال تعالى: {وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً} مريم - ٨، و قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ} البروج - ١٣، فالإنسان‌ و هو مخلوق مربى في مهد التكوين مرتضع من ثدي الصنع و الإيجاد متطور بأطوار الوجود يرتبط سلوكه بالطبيعة الميتة، كما أنه من جهة الفطر و الإبداع مرتبط متعلق بأمر الله و ملكوته، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس - ٨٢، و قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ‌ءٍ إِذا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} النحل - ٤٠، فهذا من جهة البدء و أما من جهة العود و الرجوع فيعد صراط الإنسان متشعبا إلى طريقين طريق السعادة و طريق الشقاوة، فأما طريق السعادة فهو أقرب الطرق يأخذ في الانتهاء إلى الرفيع الأعلى و لا يزال يصعد الإنسان و يرفعه حتى ينتهي به إلى ربه، و أما طريق الشقاوة فهو طريق بعيد يأخذ في الانتهاء إلى أسفل السافلين حتى ينتهي إلى رب العالمين، و الله من ورائهم محيط، و قد مر بيان ذلك في ذيل قوله تعالى: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ} من سورة الفاتحة.

  • فهذا إجمال القول في صراط الإنسان، و أما تفصيل القول في حياته قبل الدنيا 

تفسير الميزان ج۱

114
  •  

  • و فيها و بعد الدنيا فسيأتي كل في محله، غير أن كلامه تعالى إنما يتعرض لذلك من جهة ارتباطه بالهداية و الضلال و السعادة و الشقاء، و يطوي البحث عما دون ذلك إلا بمقدار يماس غرض القرآن المذكور.

  • و قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}، سيأتي الكلام في السماء في سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.

  •  

  • ‌ [سورة البقرة (٢): الآیات ٣٠الی ٣٣]

  • {وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٣٠وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٣١ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ ٣٢ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ٣٣}

  • (بيان) 

  • الآيات تنبئ عن غرض إنزال الإنسان إلى الدنيا و حقيقة جعل الخلافة في الأرض و ما هو آثارها و خواصها، و هي على خلاف سائر قصصه لم يقع في القرآن إلا في محل واحد و هو هذا المحل.

تفسير الميزان ج۱

115
  •  

  • قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ} إلخ، سيأتي الكلام في معنى القول منه تعالى و كذا القول من الملائكة و الشيطان إن شاء الله.

  • قوله تعالى: {قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ} إلى قوله‌{وَ نُقَدِّسُ لَكَ} مشعر بأنهم إنما فهموا وقوع الإفساد و سفك الدماء من قوله سبحانه‌: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً} حيث إن الموجود الأرضي بما أنه مادي مركب من القوى الغضبية و الشهوية، و الدار دار التزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مركباتها في معرض الانحلال، و انتظاماتها و إصلاحاتها في مظنة الفساد و مصب البطلان، لا تتم الحياة فيها إلا بالحياة النوعية، و لا يكمل البقاء فيها إلا بالاجتماع و التعاون، فلا تخلو من الفساد و سفك الدماء، ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة لا تقع في الأرض إلا بكثرة من الأفراد و نظام اجتماعي بينهم يفضي بالآخرة إلى الفساد و السفك، و - الخلافة - و هي قيام شي‌ء مقام آخر لا تتم إلا بكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شئونه الوجودية و آثاره و أحكامه و تدابيره بما هو مستخلف، و الله سبحانه في وجوده مسمى بالأسماء الحسنى متصف بالصفات العليا، من أوصاف الجمال و الجلال، منزه في نفسه عن النقص و مقدس في فعله عن الشر و الفساد جلت عظمته، و الخليفة الأرضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف و لا يحكي بوجوده المشوب بكل نقص و شين الوجود الإلهي المقدس المنزه عن جميع النقائص و كل الأعدام، فأين التراب و رب الأرباب، و هذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما جهلوه و استيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، و ليس من الاعتراض و الخصومة في شي‌ء، و الدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: {إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ} حيث صدر الجملة بإن التعليلية المشعرة بتسلم مدخولها فافهم، فملخص قولهم يعود إلى أن جعل الخلافة إنما هو لأجل أن يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده و تقديسه له بوجوده، و الأرضية لا تدعه يفعل ذلك بل تجره إلى الفساد و الشر، و الغاية من هذا الجعل و هي التسبيح و التقديس بالمعنى الذي مر من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك و تقديسنا لك، فنحن خلفاؤك أو فاجعلنا خلفاء لك، فما فائدة جعل هذه الخلافة الأرضية لك؟ فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}.

  • معنى جعل الخلافة و تعليم الأسماء لآدم

  • و هذا السياق: يشعر أولا: بأن الخلافة المذكورة إنما كانت خلافة الله تعالى، 

تفسير الميزان ج۱

116
  •  

  • لا خلافة نوع من الموجود الأرضي كانوا في الأرض قبل الإنسان و انقرضوا ثم أراد الله تعالى أن يخلفهم بالإنسان كما احتمله بعض المفسرين، و ذلك لأن الجواب الذي أجاب سبحانه به عنهم و هو تعليم آدم الأسماء لا يناسب ذلك، و على هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدم (علیه السلام) بل بنوه يشاركونه فيها من غير اختصاص، و يكون معنى تعليم الأسماء إيداع هذا العلم في الإنسان بحيث يظهر منه آثاره تدريجا دائما و لو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل، و يؤيد عموم الخلافة قوله تعالى {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} الأعراف - ٦٩، و و قوله تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ} يونس - ١٤، و قوله تعالى {وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ اَلْأَرْضِ} النمل - ٦٢.

  • و ثانيا: إنه سبحانه لم ينف عن خليفة الأرض الفساد و سفك الدماء، و لا كذب الملائكة في دعواهم التسبيح و التقديس، و قررهم على ما ادعوا، بل إنما أبدى شيئا آخر و هو أن هناك أمرا لا يقدر الملائكة على حمله و لا تتحمله و يتحمله هذا الخليفة الأرضي فإنه يحكي عن الله سبحانه أمرا و يتحمل منه سرا ليس في وسع الملائكة، و لا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد و سفك الدماء، و قد بدل سبحانه قوله: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ثانيا بقوله: {أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} و المراد بهذا الغيب هو الأسماء لا علم آدم بها فإن الملائكة ما كانت تعلم أن هناك أسماء لا يعلمونها، لا أنهم كانوا يعلمون وجود أسماء كذلك و يجهلون من آدم أنه يعلمها، و إلا لما كان لسؤاله تعالى إياهم عن الأسماء وجه و هو ظاهر بل كان حق المقام أن يقتصر بقوله: قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم حتى يتبين لهم أن آدم يعلمها لا أن يسأل الملائكة عن ذلك، فإن هذا السياق يعطي أنهم ادعوا الخلافة و أذعنوا انتفاءها عن آدم و كان اللازم أن يعلم الخليفة بالأسماء فسألهم عن الأسماء فجهلوها و علمها آدم، فثبت بذلك لياقته لها و انتفاؤها عنهم، و قد ذيل سبحانه السؤال بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} و هو مشعر بأنهم كانوا ادعوا شيئا كان لازمه العلم بالأسماء.

  • و قوله تعالى: {وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ}، مشعر بأن هذه الأسماء أو أن مسمياتها كانوا موجودات أحياء عقلاء، محجوبين تحت حجاب الغيب و أن العلم بأسمائهم كان غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء، و إلا كانت الملائكة بإنباء آدم إياهم بها 

تفسير الميزان ج۱

117
  •  

  • عالمين و صائرين مثل آدم مساوين معه، و لم يكن في ذلك إكرام لآدم و لا كرامة حيث علمه الله سبحانه أسماء و لم يعلمهم، و لو علمهم إياها كانوا مثل آدم أو أشرف منه، و لم يكن في ذلك ما يقنعهم أو يبطل حجتهم، و أي حجة تتم في أن يعلم الله تعالى رجلا علم اللغة ثم يباهي به و يتم الحجة على ملائكة مكرمين لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون بأن هذا خليفتي و قابل لكرامتي دونكم؟ و يقول تعالى أنبئوني باللغات التي سوف يضعها الآدميون بينهم للإفهام و التفهيم إن كنتم صادقين في دعويكم أو مسألتكم خلافتي، على أن كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب و الملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم، و إنما تتلقى المقاصد من غير واسطة، فلهم كمال فوق كمال التكلم، و بالجملة فما حصل للملائكة من العلم بواسطة إنباء آدم لهم بالأسماء هو غير ما حصل لآدم من حقيقة العلم بالأسماء بتعليم الله تعالى فأحد الأمرين كان ممكنا في حق الملائكة و في مقدرتهم دون الآخر، و آدم إنما استحق الخلافة الإلهية بالعلم بالأسماء دون إنبائها إذ الملائكة إنما قالوا في مقام الجواب: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} فنفوا العلم.

  • فقد ظهر مما مر أن العلم بأسماء هؤلاء المسميات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم و أعيان وجوداتهم، دون مجرد ما يتكفله الوضع اللغوي من إعطاء المفهوم فهؤلاء المسميات المعلومة حقائق خارجية، و وجودات عينيه و هي مع ذلك مستورة تحت ستر الغيب غيب السماوات و الأرض، و العلم بها على ما هي عليها كان أولا ميسورا ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي و ثانيا دخيلا في الخلافة الإلهية.

  • و {اَلْأَسْمَاءَ} في قوله تعالى: {وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، جمع محلى باللام و هو يفيد العموم على ما صرحوا به، مضافا إلى أنه مؤكد بقوله: {كُلَّهَا}، فالمراد بها كل اسم يقع لمسمى و لا تقييد و لا عهد، ثم قوله: {عَرَضَهُمْ} دال على كون كل اسم أي مسماه ذا حياة و علم و هو مع ذلك تحت حجاب الغيب، {غَيْبَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} و إضافة الغيب إلى السماوات و الأرض و إن أمكن أن يكون في بعض الموارد إضافة من، فيفيد التبعيض لكن المورد و هو مقام إظهار تمام قدرته تعالى و إحاطته و عجز الملائكة و نقصهم يوجب كون إضافة الغيب إلى السماوات و الأرض إضافة اللام، فيفيد أن الأسماء أمور غائبة عن العالم السماوي و الأرضي، خارج محيط الكون، و إذا تأملت هذه الجهات 

تفسير الميزان ج۱

118
  •  

  • أعني عموم الأسماء و كون مسمياتها أولي حياة و علم و كونها غيب السماوات و الأرض قضيت بانطباقها بالضرورة على ما أشير إليه في قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}، الحجر - ٢١، حيث أخبر سبحانه بأنه كل ما، يقع عليه اسم شي‌ء فله عنده تعالى خزائن مخزونة باقية عنده غير نافدة، و لا مقدرة بقدر، و لا محدودة بحد، و أن القدر و الحد في مرتبة الإنزال و الخلق، و أن الكثرة التي في هذه الخزائن ليست من جنس الكثرة العددية الملازمة للتقدير و التحديد بل تعدد المراتب و الدرجات، و سيجي‌ء بعض الكلام فيها في سورة الحجر إن شاء الله تعالى.

  • فتحصل أن هؤلاء الذين عرضهم الله تعالى على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند الله تعالى، محجوبة بحجب الغيب، أنزل الله سبحانه كل اسم في العالم بخيرها و بركتها و اشتق كل ما في السماوات و الأرض من نورها و بهائها، و أنهم على كثرتهم و تعددهم لا يتعددون تعدد الأفراد، و لا يتفاوتون تفاوت الأشخاص، و إنما يدور الأمر هناك مدار المراتب و الدرجات و نزول الاسم من عند هؤلاء إنما هو بهذا القسم من النزول.

  • و قوله تعالى: {وَ أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} و كان هذان القسمان من الغيب النسبي الذي هو بعض السماوات و الأرض، و لذلك قوبل به قوله: {أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} ليشمل قسمي الغيب أعني الخارج عن العالم الأرضي و السماوي و غير الخارج عنه.

  • و قوله تعالى: {كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} تقييد الكتمان بقوله: {كُنْتُمْ} مشعر بأن هناك أمرا مكتوما في خصوص آدم و جعل خلافته، و يمكن أن يستظهر ذلك من قوله تعالى في الآية التالية: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى‌ وَ اِسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ}

  • فيظهر أن إبليس كان كافرا قبل ذلك الحين، و أن إباءه عن السجدة كان مرتبطا بذلك فقد كان أضمره هذا.

  • و يظهر بذلك أن سجدة الملائكة و إباء إبليس عنها كانت واقعة بين قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} و بين قوله: {أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ، و يظهر السر أيضا في تبديل قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، ثانيا بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}.

تفسير الميزان ج۱

119
  •  

  • (بحث روائي)

  • في تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام)، قال: ما علم الملائكة بقولهم: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء، لو لا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها و يسفك الدماء.

  • أقول: يمكن أن يشير بها إلى دورة في الأرض سابقة على دورة بني آدم هذه كما وردت فيه الأخبار و لا ينافي ذلك ما مر أن الملائكة فهمت ذلك من قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً}، بل لا يتم الخبر بدون ذلك، و إلا كان هذا القول قياسا من الملائكة مذموما كقياس إبليس.

  • و في تفسير العياشي، أيضا عنه (علیه السلام) قال زرارة: دخلت على أبي جعفر (علیه السلام) فقال: أي شي‌ء عندك من أحاديث الشيعة فقلت: إن عندي منها شيئا كثيرا فقد هممت أن أوقد لها نارا فأحرقها - فقال (علیه السلام): وارها تنس ما أنكرت منها - فخطر على بالي الآدميون فقال: ما كان علم الملائكة حيث قالوا: {أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ} قال و كان يقول أبو عبد الله (علیه السلام): إذا حدث بهذا الحديث هو كسر على القدرية، ثم قال أبو عبد الله (علیه السلام): إن آدم (علیه السلام) كان له في السماء خليل من الملائكة، فلما هبط آدم من السماء إلى الأرض استوحش الملك و شكى إلى الله تعالى و سأله أن يأذن له، فأذن له فهبط عليه فوجده قاعدا في قفرة من الأرض، فلما رآه آدم وضع يده على رأسه و صاح صيحة، قال أبو عبد الله (علیه السلام): يروون أنه أسمع عامة الخلق فقال له الملك: يا آدم ما أراك إلا و قد عصيت ربك- و حملت على نفسك ما لا تطيق، أ تدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه؟ قال: لا، قال: قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً}، قلنا {أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ} فهو خلقك أن تكون في الأرض أ يستقيم أن تكون في السماء؟ قال أبو عبد الله (علیه السلام) و الله عزى بها آدم ثلاثا.

  • أقول: و يستفاد من الرواية أن جنة آدم كانت في السماء و سيجي‌ء فيه روايات أخر أيضا.

  • و في تفسير العياشي، أيضا عن أبي العباس عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سألته 

تفسير الميزان ج۱

120
  •  

  • عن قول الله: {وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، ما ذا علمه؟ قال الأرضين و الجبال و الشعاب و الأودية، ثم نظر إلى بساط تحته، فقال: و هذا البساط مما علمه.

  • و في التفسير، أيضا عن الفضيل بن العباس عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال * سألته عن قول الله: {وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ما هي؟ قال: أسماء الأودية و النبات و الشجر و الجبال من الأرض.

  • و في التفسير، أيضا عن داود بن سرحان العطار، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فدعا بالخوان فتغذينا ثم دعا بالطست و الدست سنانه - فقلت: جعلت فداك، قوله: {وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} الطست و الدست سنانه منه فقال(علیه السلام): الفجاج و الأودية و أهوى بيده كذا و كذا.

  • و في المعاني، عن الصادق (علیه السلام): إن الله عز و جل علم آدم أسماء حججه كلها - ثم عرضهم و هم أرواح على الملائكة فقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم و تقديسكم من آدم فقالو: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ}- قال الله تبارك و تعالى{يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فلما أنبئهم بأسمائهم} وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه - و حججه على بريته، ثم غيبهم عن أبصارهم و استعبدهم بولايتهم و محبتهم، و قال لهم: {أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ - وَ أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.

  • أقول: و بالرجوع إلى ما مر من البيان تعرف معنى هذه الروايات و أن لا منافاة بين هذه و ما تقدمها، إذ قد تقدم أن قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} تعطي أنه ما من شي‌ء إلا و له في خزائن الغيب وجود، و إن هذه الأشياء التي قبلنا إنما وجدت بالنزول من هناك، و كل اسم وضع بحيال مسمى من هذه المسميات فهي اسم لما في خزائن الغيب، فسواء قيل: إن الله علم آدم ما في خزائن غيبه من الأشياء و هي غيب السماوات و الأرض، أو قيل: إنه علم آدم أسماء كل شي‌ء و هي غيب السماوات و الأرض كان المؤدى و النتيجة واحدا و هو ظاهر.

تفسير الميزان ج۱

121
  •  

  • و يناسب المقام عدة من أخبار الطينة كما- رواه في البحار، عن جابر بن عبد الله قال: قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أول شي‌ء خلق الله ما هو؟ فقال نور نبيك يا جابر خلقه الله - ثم خلق منه كل خير، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله، ثم جعله أقساما، فخلق العرش من قسم، و الكرسي من قسم، و حملة العرش و سكنة الكرسي من قسم، و أقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله، ثم جعله أقساما، فخلق القلم من قسم، و اللوح من قسم، و الجنة من قسم، و أقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله، ثم جعله أجزاء فخلق الملائكة من جزء، و الشمس من جزء و القمر من جزء، و أقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله، ثم جعله أجزاء، فخلق العقل من جزء و العلم و الحلم من جزء، و العصمة و التوفيق من جزء، و أقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور - و قطرت منه مائة ألف و أربعة و عشرون ألف قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبي و رسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء - فخلق الله من أنفاسها أرواح الأولياء و الشهداء و الصالحين.

  • أقول: و الأخبار في هذه المعاني كثيرة، متظافرة، و أنت إذا أجلت نظرة التأمل و الإمعان فيها وجدتها شواهد على ما قدمناه، و سيجي‌ء شطر من الكلام في بعضها. و إياك أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم و منابع الحكمة بأنها من اختلاقات المتصوفة و أوهامهم فللخلقة أسرار، و هو ذا العلماء من طبقات أقوام الإنسان لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة، منذ أخذ البشر في الانتشار، و كلما لاح لهم معلوم واحد بأن لهم مجاهيل كثيرة، و هي عالم الطبيعة أضيق العوالم و أخسها فما ظنك بما وراءها، و هي عوالم النور و السعة

  • [سورة البقرة (٢): آیة ٣٤] 

  • {وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى‌ وَ اِسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ ٣٤}

تفسير الميزان ج۱

122
  •  

  • (بيان) 

  • قد عرفت أن قوله تعالى: {وَ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوما، و لا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله: {أَبى‌ وَ اِسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ} حيث لم يعبر أبى و استكبر و كفر، و عرفت أيضا أن قصة السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، و قوله: {وَ أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، فقوله تعالى: {وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ}، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلص بها إلى قصة الجنة، فإن هذه الآيات كما عرفت إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الإنسان و موقعه و كيفية نزوله إلى الدنيا و ما يئول إليه أمره من سعادة و شقاء، فلا يهم من قصة السجدة هاهنا إلا إجمالها المؤدي إلى قصة الجنة و هبوط آدم هذا، فهذا هو الوجه في الإضراب عن الإطناب إلى الإيجاز، و لعل هذا هو السر أيضا في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله تعالى: {وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا}، بعد قوله: {وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ}. و على ما مر فنسبة الكتمان إلى الملائكة و هو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلامي من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم و لم يتميز منهم، و يمكن أن يكون له وجه آخر، و هو أن يكون ظاهر قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً}، إطلاق الخلافة حتى على الملائكة كما يؤيده أيضا أمرهم ثانيا بالسجود، و يوجب ذلك خطورا في قلوب الملائكة، حيث إنها ما كانت تظن أن موجودا أرضيا يمكن أن يسود على كل شي‌ء حتى عليهم، و يدل على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي.

  • و قوله تعالى: {اُسْجُدُوا لِآدَمَ}، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحية و تكرمة للغير و فيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره، و نظيره قوله تعالى في قصة يوسف (علیه السلام): {وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ: يَا أَبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} يوسف - ١٠٠، و ملخص القول في ذلك أنك قد عرفت في سورة الفاتحة أن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية و إتيان ما يثبت و يستثبت به ذلك فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى أو، عبدية العبد كالسجود و الركوع و القيام أمامه حينما يقعد، و المشي خلفه حينما يمشي 

تفسير الميزان ج۱

123
  •  

  • و غير ذلك، و كلما زادت الصلاحية المزبورة ازدادت العبادة تعينا للعبودية، و أوضح الأفعال في الدلالة على عز المولوية و ذل العبودية السجدة، لما فيها من الخرور على الأرض، و وضع الجبهة عليها، و أما ما ربما ظنه بعض: من أن السجدة عبادة ذاتية، فليس بشي‌ء، فإن الذاتي لا يختلف. و لا يتخلف و هذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم و العبادة كالسخرية و الاستهزاء فلا يكون عبادة مع اشتماله على جميع ما يشتمل عليه و هو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها، و إذا لم يكن عبادة ذاتية لم يكن لذاته مختصا بالله سبحانه، بناء على أن المعبود منحصر فيه تعالى، فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعي أو العقلي و الممنوع شرعا أو عقلا ليس إلا إعطاء الربوبية لغيره تعالى، و أما تحية الغير أو تكرمته من غير إعطاء الربوبية، بل لمجرد التعارف و التحية فحسب، فلا دليل على المنع من ذلك، لكن الذوق الديني المتخذ من الاستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، و المنع عن استعماله في غير مورده تعالى، و إن لم يقصد به إلا التحية و التكرمة فقط، و أما المنع عن كل ما فيه إظهار الإخلاص لله، بإبراز المحبة لصالحي عباده أو لقبور أوليائه أو آثارهم فمما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي أصلا، و سنعود إلى البحث عن هذا الموضوع في محل يناسبه إن شاء الله تعالى.

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له - فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا - فنحن جيرانه و نحن أقرب الخلق إليه. فقال الله{أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، فيما أبدوا من أمر بني الجان و كتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش.

  • و في التفسير، أيضا عن علي بن الحسين (علیه السلام): ما في معناه و فيه: فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، و أنها كانت عصابة من الملائكة - و هم الذين كانوا حول العرش، لم يكن جميع الملائكة إلى أن قال: فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة.

تفسير الميزان ج۱

124
  •  

  • أقول: يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة: {وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ} إلى قوله: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ}.

  • و سيجي‌ء أن العرش هو العلم، و بذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) فافهم ذلك، و على هذا كان المراد من قوله تعالى: {وَ كَانَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ} قوم إبليس من الجان المخلوقين قبل الإنسان. قال تعالى: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ اَلسَّمُومِ} الحجر - ٢٧، و على هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة، بل هي على حقيقته، فإن المعنى المكتوم خطر على قلوب جميع الملائكة، و لا منافاة بين هذه الرواية و ما تفيد أن المكتوم هو ما كان يكتمه إبليس من الإباء عن الخضوع لآدم، و الاستكبار لو دعي إلى السجود، لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك.

  • و في قصص الأنبياء، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): سجدت الملائكة و وضعوا أجباههم على الأرض؟ قال: نعم تكرمة من الله تعالى.

  • و في تحف العقول قال: إن السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة لله و محبة منهم لآدم.

  • و في الاحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه: أن يهوديا سأل أمير المؤمنين (علیه السلام) - عن معجزات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في مقابلة معجزات الأنبياء، فقال: هذا آدم أسجد الله له ملائكته، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال علي: لقد كان ذلك، و لكن أسجد الله لآدم ملائكته، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة - أنهم عبدوا آدم من دون الله عز و جل، و لكن اعترافا لآدم بالفضيلة و رحمة من الله له و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله جل و علا صلى عليه في جبروته و الملائكة بأجمعها، و تعبد المؤمنون بالصلاة عليه فهذه زيادة له يا يهودي.

  • و في تفسير القمي: خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصورا، و كان يمر به إبليس اللعين فيقول: لأمر ما خلقت؟ فقال: العالم فقال إبليس: لئن أمرني الله 

تفسير الميزان ج۱

125
  •  

  • بالسجود لهذا لعصيته إلى أن قال: ثم قال الله تعالى للملائكة: {اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد.

  • و في البحار، عن قصص الأنبياء، عن الصادق (علیه السلام) قال: أمر إبليس بالسجود لآدم - فقال: يا رب و عزتك إن أعفيتني من السجود لآدم - لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها، قال الله جل جلاله: إني أحب أن أطاع من حيث أريد - و قال: إن إبليس رن أربع رنات: أولهن يوم لعن، و يوم أهبط إلى الأرض، و يوم بعث محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) على فترة من الرسل، و حين أنزلت أم الكتاب، و نخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، و حين أهبط من الجنة، و قال في قوله تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} و كانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة، و قال الشجرة التي نهي عنها آدم هي السنبلة.

  • أقول: و في الروايات - و هي كثيرة - تأييد ما ذكرناه في السجدة.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٣٥ الی ٣٩]

  • {وَ قُلْنَا يَا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَ لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ اَلظَّالِمِينَ ٣٥ فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‌ حِينٍ ٣٦ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ ٣٧ قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٣٨ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٣٩}

تفسير الميزان ج۱

126
  •  

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {قُلْنَا يَا آدَمُ اُسْكُنْ}، على أن قصة سجود الملائكة لآدم تكررت في عدة مواضع من القرآن الكريم. لم يقع قصة الجنة إلا في ثلاث مواضع: 

  • أحدها: هاهنا من سورة البقرة.

  • الثاني: في سورة الأعراف. قال الله تعالى: {وَ يَا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَ لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ اَلظّالِمِينَ. فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَ قَالَ: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ. وَ قَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ اَلنَّاصِحِينَ. فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمّا ذاقَا اَلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ نَاداهُمَا رَبُّهُمَا أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُمَا إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ. قَالاَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ. قَالَ: اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‌ حِينٍ. قَالَ: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ} الآيات ١٩ - ٢٥.

  • و الثالث: في سورة طه. قال الله تعالى: {وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلى‌ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً. وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى‌. فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ اَلْجَنَّةِ فَتَشْقى‌. إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَ لاَ تَعْرى‌ وَ أَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَ لاَ تَضْحى‌. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ اَلشَّيْطَانُ قَالَ: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‌ شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لاَ يَبْلى‌. فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ عَصى‌ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‌. ثُمَّ اِجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَ هَدى‌. قَالَ: اِهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدايَ فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقى‌. وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى‌.قَالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى‌ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قَالَ: كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَ كَذلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى‌}. الآيات. و سياق الآيات و خاصة قوله تعالى في صدر القصة: 

  • جنة آدم عليه السلام

  • {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً} يعطي أن آدم (علیه السلام) إنما خلق ليحيا في الأرض و يموت 

تفسير الميزان ج۱

127
  •  

  • فيها و إنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما و لتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الأرض، و كذا سياق قوله تعالى في سورة طه: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ}، و في سورة الأعراف: {وَ يَا آدَمُ اُسْكُنْ} حيث سبك قصة الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة، و بالجملة فهو (علیه السلام) كان مخلوقا ليسكن الأرض، و كان الطريق إلى الاستقرار في الأرض هذا الطريق، و هو تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثم إسكان الجنة. و النهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الأرض، فآخر العوامل للاستقرار في الأرض، و انتخاب الحياة الدنيوية ظهور السوأة، و هي العورة بقرينة قوله تعالى: {وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ} فهو التمايل الحيواني و يستلزم التغذي و النمو أيضا فما كان لإبليس هم إلا إبداء سوآتهما، و آدم و زوجته و إن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية، و لم يمهلا كثيرا، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما و لا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا و احتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة، و أنه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما و لما ينفصلا و لما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح و الملائكة، و الدليل على ذلك قوله تعالى: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا} و لم يقل ما كان ووري عنهما، و هو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا استدامة و إنما تمشت دفعة ما و استعقب ذلك إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضيا محتوما في الحياة الأرضية و مع أكل الشجرة، و لذلك قال تعالى: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ اَلْجَنَّةِ فَتَشْقى‌}، و قال تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} و أيضا هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا و لم يرجعهما إلى الجنة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها و لو لم تكن الحياة الأرضية مع أكل الشجرة و ظهور السوآة حتما مقضيا، و الرجوع إلى الجنة مع ذلك محالا، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنة و هبوطهما هو الأكل من الشجرة و ظهور السوآة، و كان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين، و قد قال تعالى في سورة طه في صدر القصة: {وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلى‌ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}. ثم ساق تعالى القصة. فهل هذا العهد هو قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ اَلظَّالِمِينَ} أو أنه قوله تعالى: {إِنَّ هَذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ} أو أنه العهد بمعنى الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الإنسان، و من الأنبياء خاصة بوجه آكد و أغلظ.

تفسير الميزان ج۱

128
  •  

  • و الاحتمال الأول غير صحيح لقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَ قَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ. وَ قَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ اَلنَّاصِحِينَ}الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة و اقتراب الشجرة على ذكر من النهي، و قد قال تعالى: {فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}فالعهد المذكور ليس هو النهي عن قرب الشجرة و أما الاحتمال الثاني (و هو أن يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع إبليس) فهو و إن لم يكن بالبعيد، كل البعيد، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم (علیه السلام) كما هو ظاهر الآية.

  • مع أن التحذير عن إبليس كان لهما معا، و أيضا ذيل الآيات و هو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي، لا العهد بمعنى التحذير عن إبليس، قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدايَ فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقى‌ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى‌} الآيات فبحسب التطبيق ينطبق قوله تعالى: {وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} على نسيان العهد و هو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية و العبودية أنسب منه مع التحذير من إبليس، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الإعراض عن الذكر و اتباع إبليس، و أما الميثاق على الربوبية فهو له أنسب، فإن الميثاق على الربوبية هو أن لا ينسى الإنسان كونه تعالى ربا له أي مالكا مدبرا أي لا ينسى الإنسان أبدا و لا في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئا لا نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا، أي لا ذاتا و لا وصفا و لا فعلا.

  • و الخطيئة التي تقابله هو إعراض الإنسان عن ذكر مقام ربه و الغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود و يرجع إلى نفسه من زخارف الحياة الدنيا الفانية البالية هذا.

  • لكنك إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على اختلاف جهاتها و تشتت أطرافها و أنحائها و وحدتها و اشتراكها بين المؤمن و الكافر وجدتها بحسب الحقيقة و الباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى و الجهل به فالعارف بمقام ربه إذا نظر إلى نفسه و كذلك إلى الحياة الدنيا الجامعة لأقسام الكدورات و أنواع الآلام و ضروب المكاره من موت و حياة، و صحة و سقم، و سعة و إقتار، و راحة و تعب، و وجدان و فقدان.

تفسير الميزان ج۱

129
  •  

  • على أن الجميع (أعم مما في نفس الإنسان أو في غيره) مملوكة لربه، لا استقلال لشي‌ء منها و فيها، بل الكل ممن ليس عنده إلا الحسن و البهاء و الجمال و الخير على ما يليق بعزته و جلاله، و لا يترشح من لدنه إلا الجميل و الخير، فإذا نظر إليها و هي هكذا لم ير مكروها يكرهه و لا مخوفا يخافه، و لا مهيبا يهابه، و لا محذورا يحذره، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا إلا ما يأمره ربه أن يكرهه و يبغضه، و هو مع ذلك يكرهه لأمره، و يحب ما يحب و يلتذ و يبتهج بأمره، لا شغل له إلا بربه، كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب و لا حظ لشي‌ء غيره في شي‌ء منها، فما له و لمالك الأمر و ما يتصرف به في ملكه؟ من إحياء و إماتة، و نفع و ضر و غيرها، فهذه هي الحياة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة و هي نور لا ظلمة معه، و سرور لا غم معه، و وجدان لا فقد معه، و غنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه، و في مقابل هذه الحياة حياة الجاهل بمقام ربه، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه و غيره إلا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو شرا فهو يتقلب في حياته بين الخوف عما يخاف فوته، و الحذر عما يحذر وقوعه، و الحزن لما يفوته، و الحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو أعوان و سائر ما يحبه و يتكل و يعتمد عليه و يؤثره.

  • كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه و السكون إلى مرارة بدل جلدا غيره، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق، و حشى ذائب محترق، و صدر ضيق حرج، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.

  • إذا عرفت هذا علمت: أن مرجع الأمرين أعني نسيان الميثاق و شقاء الحياة الدنيا واحد، و أن الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق.

  • و هذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لأهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدايَ فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقى‌. وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى‌}.

  • و بدل ذلك في هذه السورة من قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .

تفسير الميزان ج۱

130
  •  

  • و من هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحياة الدنيا و شقاؤها، و هو أن يعيش الإنسان في الدنيا ناسيا لربه، غافلا عن مقامه، و أن آدم (علیه السلام) كأنه أراد أن يجمع بينها و بين الميثاق المأخوذ عليه، فلم يتمكن فنسي الميثاق و وقع في تعب الحياة الدنيا، ثم تدورك له ذلك بالتوبة.

  • قوله تعالى: {وَ كُلاَ مِنْهَا رَغَداً}الرغد الهناء و طيب العيش و أرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت، و قوم رغد، و نساء رغد، أي ذوو عيش رغيد.

  • و قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ}و كأن النهي إنما كان عن أكل الثمرة و إنما تعلق بالقرب من الشجرة إيذانا بشدة النهي و مبالغة في التأكيد و يشهد بذلك قوله تعالى {فَلَمَّا ذاقَا اَلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} الأعراف - ٢٢.

  • و قوله تعالى: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} طه - ١٢١، فكانت المخالفة بالأكل فهو المنهي عنه بقوله: {وَ لاَ تَقْرَبَا}

  • قوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ اَلظَّالِمِينَ}، من الظلم لا من الظلمة على ما احتمله بعضهم و قد اعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا}.

  • إلا أنه تعالى بدل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله: {فَتَكُونَا مِنَ اَلظَّالِمِينَ} من قوله {فَتَشْقى‌} و الشقاء هو التعب ثم فسر التعب و فصله، فقال: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَ لاَ تَعْرى‌ وَ أَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَ لاَ تَضْحى‌} الآيات.

  • و من هنا يظهر أن وبال هذا الظلم إنما كان هو الوقوع في تعب حياة هذه الدنيا من جوع و عطش و عراء و عناء و على هذا فالظلم منهما إنما هو ظلمهما لأنفسهما، لا بمعنى المعصية المصطلحة و الظلم على الله سبحانه. و من هنا يظهر أيضا أن هذا النهي أعني قوله: {وَ لاَ تَقْرَبَا}، إنما كان نهيا تنزيهيا إرشاديا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف و صلاحه في مقام النصح لا نهيا مولويا.

  • فهما إنما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على أن جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي 

تفسير الميزان ج۱

131
  •  

  • يتبدل بالتوبة إذا قبلت و لم يتبدل في موردهما، فإنهما تابا و قبلت توبتهما و لم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة و لو لا أن التكليف إرشادي ليس له إلا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب و سيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي إن شاء الله.

  • قوله سبحانه: {فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطَانُ}، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها و إن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا (بني آدم) على نحو إلقاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص.

  • لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ}يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان و عرفهما إياه بالشخص و العين دون الوصف و كذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان: {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‌ شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ} (الآية) حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب، و يدل ذلك على متكلم مشعور به.

  • و كذا قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَ قَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ اَلنَّاصِحِينَ} و القسم إنما يكون من مقاسم مشعور به.

  • و كذا قوله تعالى: {وَ نَاداهُمَا رَبُّهُمَا أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُمَا إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}كل ذلك يدل على أنه كان يتراءى لهما و كانا يشاهدانه. و لو كان حالهما (علیه السلام) مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا: ربنا إننا لم نشعر و خلنا أن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره، و لا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته.

  • و بالجملة فهما كانا يشاهدانه و يعرفانه، و الأنبياء و هم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه و يشاهدونه حين تعرضه بهم لو تعرض على ما وردت به الروايات في نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و يحيى و أيوب و إسماعيل و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) هذا.

  • و كذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ} 

تفسير الميزان ج۱

132
  •  

  • حيث ينبئ عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة، فقد كان دخل الجنة، و صاحبهما و غرهما بوسوسته، و لا محذور فيه إذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا يدخلها الشيطان، و الدليل على ذلك خروجهم جميعا من هذه الجنة.

  • و أما قوله تعالى خطابا لإبليس: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ} الأعراف - ١٣، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب و تشريف.

  • قوله تعالى: {وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} (الآية) ظاهر السياق أنه خطاب لآدم و زوجته و إبليس و قد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الأعراف حيث قال: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}(الآية) فقوله تعالى: {اِهْبِطُوا} كالجمع بين الخطابين و حكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله و بين آدم و زوجته و ذريتهما، و كذلك قضى به حياتهم في الأرض و موتهم فيها و بعثهم منها.

  • و ذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ} (الآية) و كما سيأتي في قوله تعالى: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ}(الآية) من سورة الأعراف.

  • إن إسجاد الملائكة لآدم (علیه السلام) إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي، فكان المسجود له آدم و حكم السجدة لجميع البشر، فكان أقامه آدم (علیه السلام) مقام المسجود له معنونا بعنوان الأنموذج و النائب.

  • و بالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصها الله تعالى من إسكان آدم و زوجته الجنة، ثم إهباطهما لأكل الشجرة كالمثل يمثل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة و الكرامة بسكونه حظيرة القدس، و منزل الرفعة و القرب، و دار نعمة و سرور، و أنس و نور، و رفقاء طاهرين، و أخلاء روحانيين، و جوار رب العالمين.

  • ثم إنه يختار مكانه كل تعب و عناء و مكروه و ألم بالميل إلى حياة فانية، و جيفة 

تفسير الميزان ج۱

133
  •  

  • منتنة دانية، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لأعاده إلى دار كرامته و سعادته و لو لم يرجع إليه و أخلد إلى الأرض و اتبع هواه فقد بدل نعمة الله كفرا و أحل بنفسه دار البوار، جهنم يصلاها و بئس القرار.

  • قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}، التلقي‌ هو التلقن، و هو أخذ الكلام مع فهم و فقه و هذا التلقي كان هو الطريق المسهل لآدم (علیه السلام) توبته.

  • و من ذلك يظهر أن التوبة توبتان: توبة من الله تعالى و هي الرجوع إلى العبد بالرحمة، و توبة من العبد و هي الرجوع إلى الله بالاستغفار و الانقلاع من المعصية.

  • و توبة العبد، محفوفة بتوبتين من الله تعالى، فإن العبد لا يستغني عن ربه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى و إعانته و رحمته حتى يتحقق منه التوبة، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى و عنايته و رحمته، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} التوبة - ١١٩.

  • و قراءة نصب آدم و رفع كلمات تناسب هذه النكتة، و إن كانت القراءة الأخرى (و هي قراءة رفع آدم و نصب كلمات) لا تنافيه أيضا.

  • و أما أن هذه الكلمات ما هي؟ فربما يحتمل أنها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الأعراف بقوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} الأعراف - ٢٣، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا}(الآية) قبل قوله: {قُلْنَا اِهْبِطُوا}في سورة الأعراف و وقوع قوله {فَتَلَقَّى آدَمُ}(الآية) بعد قوله: {قُلْنَا اِهْبِطُوا}، في هذه السورة لا يساعد عليه.

  • لكن هاهنا شي‌ء: و هو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً}، قالت الملائكة: {أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ} (الآية) و هو تعالى لم يرد عليهم دعواهم على الخليفة الأرضي بما رموه به و لم يجب عنه بشي‌ء إلا أنه علم آدم الأسماء كلها.

  • و لو لا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الأسماء ما يسد باب اعتراضهم ذلك لم 

تفسير الميزان ج۱

134
  •  

  • ينقطع كلامهم و لا تمت الحجة عليهم قطعا. ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الأسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى و المذنب إذا أذنب، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقا بشي‌ء من تلك الأسماء فافهم ذلك.

  • و اعلم أن آدم (علیه السلام) و إن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف الهلكة و منشعب طريقي السعادة و الشقاوة أعني الدنيا، فلو وقف في مهبطه فقد هلك، و لو رجع إلى سعادته الأولى فقد أتعب نفسه و ظلمها، فهو (علیه السلام) ظالم لنفسه على كل تقدير، إلا أنه (علیه السلام) هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة و منزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل و كذلك ما كان ينالها لو نزل من غير خطيئة.

  • فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر و المذلة و المسكنة و الحاجة و القصور و له في كل ما يصيبه من التعب و العناء و الكد روح و راحة في حظيرة القدس و جوار رب العالمين، فلله تعالى صفات من عفو و مغفرة و توبة و ستر و فضل و رأفة و رحمة لا ينالها إلا المذنبون، و له في أيام الدهر نفحات لا يرتاح بها إلا المتعرضون.

  • فهذه التوبة هي التي استدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه و تنظيف المنزل الذي يرجى سكونه، فوراءها تشريع الدين و تقويم الملة.

  • و يدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الإيمان.قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ} هود - ١١٢، و قال: {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ} طه - ٨٢، إلى غير ذلك من الآيات.

  • قوله تعالى: {قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} و هذا أول ما شرع من الدين لآدم (علیه السلام) و ذريته، أوجز الدين كله في جملتين لا يزاد عليه شي‌ء إلى يوم القيامة.

  • و أنت إذا تدبرت هذه القصة (قصة الجنة) و خاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضاءين منه تعالى في آدم و ذريته، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى و قضاءه بالهبوط و الاستقرار في الأرض و الحياة 

تفسير الميزان ج۱

135
  •  

  • فيها تلك الحياة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن اقتراب الشجرة هذا.

  • و أن التوبة ثانيا: تعقب قضاء و حكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم و ذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحياة الأرضية، ثم بالتوبة طيب الله تلك الحياة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية، فتألفت الحياة من حياة أرضية، و حياة سماوية.

  • و هذا هو المستفاد من تكرار الأمر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى: {وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‌ حِينٍ} (الآية) و قال تعالى: {قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} (الآية).

  • و توسيط التوبة بين الأمرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت و لما ينفصلا من الجنة و إن لم يكونا أيضا فيها كاستقرارهما فيها قبل ذلك.

  • يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: {وَ نَاداهُمَا رَبُّهُمَا أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ} (الآية) بعد ما قال لهما: لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما و هي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه و هي إشارة إلى القريب و عبر بلفظة نادى و هي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال و هي للقريب فافهم.

  • و اعلم أن ظاهر قوله تعالى: {وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‌ حِينٍ} (الآية) و قوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ} (الآية) أن نحوة هذه الحياة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط، و أن هذه حياة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الأرض ذات عناء و شقاء يلزمها أن يتكون الإنسان في الأرض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها.

  • فالحياة الأرضية تغاير حياة الجنة فحياتها حياة سماوية غير أرضية.

  • و من هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء، و إن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها.

  • نعم: يبقى الكلام في معنى السماء و لعلنا سنوفق لاستيفاء البحث منه، إن شاء الله تعالى.

  • بقي هنا شي‌ء و هو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر 

تفسير الميزان ج۱

136
  •  

  • و إن كان تحقق المعصية و الخطيئة منه (علیه السلام) كما قال تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ اَلظَّالِمِينَ}، و قال تعالى: {وَ عَصى‌ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‌} (الآية)، و كما اعترف به فيما حكاه الله عنهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} (الآية).

  • لكن التدبر في آيات القصة و الدقة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأن النهي المذكور لم يكن نهيا مولويا و إنما هو نهي إرشادي يراد به الإرشاد و الهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح و الخير لا البعث و الإرادة المولوية.

  • و يدل على ذلك أولا: أنه تعالى فرع على النهي في هذه السورة و في سورة الأعراف أنه ظلم حيث قال: {لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ اَلظَّالِمِينَ}ثم بدله في سورة طه من قوله: {فَتَشْقى‌} مفرعا إياه على ترك الجنة. و معنى الشقاء التعب ثم ذكر بعده كالتفسير له: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَ لاَ تَعْرى‌ وَ أَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَ لاَ تَضْحى‌}الآيات.

  • فأوضح أن المراد بالشقاء هو التعب الدنيوي، الذي تستتبعه هذه الحياة الأرضية من جوع و عطش و عراء و غير ذلك.

  • فالتوقي من هذه الأمور هو الموجب للنهي الكذائي لا جهة أخرى مولوية فالنهي إرشادي، و مخالفة النهي الإرشادي لا توجب معصية مولوية، و تعديا عن طور العبودية و على هذا فالمراد بالظلم أيضا في ما ورد من الآيات ظلمهما على أنفسهما في إلقائها في التعب و التهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبية و العبودية و هو ظاهر.

  • و ثانيا: أن التوبة، و هي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب، و المعصية كأنها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد، و في مورد فعله معاملة الامتثال و الانقياد.

  • و لو كان النهي عن أكل الشجرة مولويا و كانت التوبة توبة عن ذنب عبودي و رجوعا عن مخالفة نهي مولوي كان اللازم رجوعهما إلى الجنة مع أنهما لم يرجعا.

  • و من هنا يعلم أن استتباع الأكل المنهي للخروج من الجنة كان استتباعا 

تفسير الميزان ج۱

137
  •  

  • ضروريا تكوينيا، نظير استتباع السم للقتل و النار للإحراق، كما في موارد التكاليف الإرشادية لا استتباعا من قبيل المجازاة المولوية في التكاليف المولوية، كدخول النار لتارك الصلاة، و استحقاق الذم و استيجاب البعد في المخالفات العمومية الاجتماعية المولوية.

  • و ثالثا: أن قوله تعالى: {قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَوَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، الآيات.

  • و هو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيلية التي أنزلها الله تعالى في هذه الدنيا من طرق ملائكته و كتبه و رسله، يحكي عن أول تشريع شرع للإنسان في هذه الدنيا التي هي دنيا آدم و ذريته، و قد وقع على ما يحكي الله تعالى بعد الأمر الثاني بالهبوط و من الواضح أن الأمر بالهبوط أمر تكويني متأخر عن الكون في الجنة و اقتراف الخطيئة، فلم يكن حين مخالفة النهي و اقتراب الشجرة لا دين مشروع و لا تكليف مولوي فلم يتحقق عند ذلك ذنب عبودي، و لا معصية مولوية.

  • و لا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة و لإبليس و هو قبل خطاب لا تقربا، خطابا مولويا لأن المكلف غير المكلف.

  • فإن قلت: إذا كان النهي نهيا إرشاديا لا نهيا مولويا فما معنى عده تعالى فعلهما ظلما و عصيانا و غواية؟.

  • قلت: أما الظلم فقد مر أن المراد به ظلمهما لأنفسهما في جنب الله تعالى، و أما العصيان‌ فهو لغة عدم الانفعال أو الانفعال بصعوبة كما يقال: كسرته فانكسر و كسرته فعصى، و العصيان و هو عدم الانفعال عن الأمر أو النهي كما يتحقق في مورد التكاليف المولوية كذلك يتحقق في مورد الخطابات الإرشادية.

  • و أما تعين معنى المعصية في هذه الأزمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل صل، أم صم، أو حج، أو لا تشرب الخمر، أو لا تزن و نحو ذلك فهو تعين بنحو الحقيقة الشرعية أو المتشرعة لا يضر بعموم المعنى بحسب اللغة و العرف العام هذا.

تفسير الميزان ج۱

138
  •  

  • و أما الغواية فهو عدم اقتدار الإنسان مثلا على حفظ المقصد و تدبير نفسه في معيشته بحيث يناسب المقصد و يلائمه.

  • و واضح أنه يختلف باختلاف الموارد من إرشاد و مولوية.

  • فإن قلت: فما معنى التوبة حينئذ و قولهما: {وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ}؟

  • قلت: التوبة كما مر هي الرجوع و الرجوع، يختلف بحسب اختلاف موارده.

  • فكما يجوز للعبد المتمرد عن أمر سيده و إرادته أن يتوب إليه، فيرد إليه مقامه الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الذي نهاه الطبيب نهيا إرشاديا عن أكل شي‌ء معين من الفواكه و المأكولات، و إنما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته و عافيته فلم ينته المريض عن نهيه فاقترفه فتضرر فأشرف على الهلاك.

  • يجوز أن يتوب إلى الطبيب ليشير إليه بدواء يعيده إلى سابق حاله و عافيته، فيذكر له أن ذلك محتاج إلى تحمل التعب و المشقة و العناء و الرياضة خلال مدة حتى يعود إلى سلامة المزاج الأولية بل إلى أشرف منها و أحسن، هذا.

  • و أما المغفرة و الرحمة و الخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائرها في اختلافها بحسب اختلاف مواردها، هذا.

  • بحث روائي جنة آدم عليه السلام

  • في تفسير القمي، عن أبيه رفعه قال: سئل الصادق (علیه السلام) عن جنة آدم - أ من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال (علیه السلام): كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا، قال (علیه السلام): فلما أسكنه الله الجنة و أباحها له إلا الشجرة، لأنه خلق خلقة لا يبقى إلا بالأمر و النهي و الغذاء و اللباس و الاكتنان و النكاح، و لا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوفيق، فجاءه إبليس فقال له: إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة - التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، و بقيتما في الجنة أبدا، و إن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، و حلف 

تفسير الميزان ج۱

139
  •  

  • لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عز و جل حكاية عنه: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ وَ قَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ اَلنَّاصِحِينَ} فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة فكانا كما حكى الله، فبدت لهما سوآتهما، و سقط عنهما ما ألبسهما الله من الجنة و أقبلا يستتران من ورق الجنة، {وَ نَاداهُمَا رَبُّهُمَا: أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُمَا إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}، فقالا كما حكى الله عنهما {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} فقال الله لهما: {اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‌ حِينٍ}، قال: أي يوم القيامة، قال: فهبط آدم على الصفا، و إنما سميت الصفا لأن صفي الله أنزل عليها، و نزلت حواء على المروة - و إنما سميت المروة لأن المرأة أنزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة، فنزل عليه جبرئيل، فقال أ ليس خلقك الله بيده - و نفخ فيك من روحه و أسجد لك ملائكته؟ قال: بلى، و أمرك أن لا تأكل من الشجرة فعصيته؟ قال آدم: إن إبليس حلف لي بالله كاذبا.

  • أقول: و في كون جنة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت و إن اتحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم.

  • و المراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخية في مقابل جنان الخلد، كما يشير إليه بعض فقرات الرواية كقوله: فهبط آدم على الصفا، و كقوله: و نزلت حواء على المروة، و كقوله: إن المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت مكثا في الأرض طبقا لما في آيات البعث من القرآن من عد المكث البرزخي مكثا في الأرض كما يشير إليه قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} المؤمنون - ١١٤، و قوله تعالى: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى‌ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} الروم - ٥٦، على أن عدة من الروايات المنقولة عن أهل البيت تدل على أن الجنة كانت في السماء، و أنهما نزلا من السماء، على أن المستأنس بلسان الروايات لا يستوحش من كون الجنة المذكورة في السماء 

تفسير الميزان ج۱

140
  •  

  • و الهبوط منها إلى الأرض مع كونهما خلقا في الأرض و عاشا فيها كما ورد في كون الجنة في السماء و وقوع سؤال القبر فيه و كونه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار و غير ذلك و أرجو أن يرتفع هذا الإشكال و ما يشاكله من الإشكالات فيما سيأتي من البحث في السماء إن شاء الله العزيز.

  • و أما كيفية مجي‌ء إبليس إليهما، و ما اتخذه فيه من الوسيلة فالصحاح و المعتبرة من الروايات خالية عن بيانها.

  • و في بعض الأخبار ذكر الحية و الطاووس عونين لإبليس في إغوائه إياهما لكنها غير معتبرة، أضربنا عن ذكرها و كأنها من الأخبار الدخيلة، و القصة مأخوذة من التوراة و هاك لفظ التوراة في القصة بعينه: 

  • قال في الفصل الثاني من السفر الأول و هو سفر الخليقة ":و إن الله خلق آدم ترابا من الأرض، و نفخ في أنفه الحياة، فصار آدم نفسا ناطقا، و غرس الله جنانا في عدن شرقيا، و صير هناك آدم الذي خلقه، و أنبت الله من الأرض كل شجرة، حسن منظرها و طيب مأكلها، و شجرة الحياة في وسط الجنان، و شجرة معرفة الخير و الشر، و جعل نهرا يخرج من عدن ليسقي الجنان، و من ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس، اسم أحدها النيل، و هو المحيط بجميع بلد ذويلة الذي فيه الذهب، و ذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلؤ و حجارة البلور، و اسم النهر الثاني جيحون، و هو المحيط بجميع بلد الحبشة، و اسم النهر الثالث دجلة، و هو يسير في شرقي الموصل، و اسم النهر الرابع هو الفرات، فأخذ الله آدم و أنزله في جنان عدن ليفلحه و ليحفظه - و أمر الله آدم قائلا: من جميع شجر الجنان جائز لك أن تأكل، و من شجرة معرفة الخير و الشر لا تأكل، فإنك في يوم أكلك منها تستحق أن تموت، و قال الله لا خير في بقاء آدم وحده، اصنع له عونا حذاه، فحشر الله من الأرض جميع وحش الصحراء و طير السماء - و أتى بها إلى آدم ليريه ما يسميها، فكل ما سمى آدم من نفس حية باسم هو اسمه إلى الآن.

  • فأسمى آدم أسماء لجميع البهائم و طير السماء و جميع وحش الصحراء و لم يجد آدم 

تفسير الميزان ج۱

141
  •  

  • عونا حذاه، فأوقع سباتا على آدم لئلا يحس فنام، فاستل إحدى أضلاعه و سد مكانها اللحم، و بنى الله الضلع التي أخذ امرأة، فأتى بها إلى آدم، و قال آدم هذه المرة شاهدت عظما من عظامي، و لحما من لحمي، و ينبغي أن تسمى امرأة لأنها من أمري أخذت، و لذلك يترك الرجل أباه و أمه و يلزم زوجته، فيصيران كجسد واحد.

  • و كانا جميعا عريانين آدم و زوجته و لا يحتشمان من ذلك.

  • الفصل الثالث: و الثعبان صار حكيما - من جميع حيوان الصحراء الذي خلقه الله - فقال للمرأة أ يقينا - قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنان؟ قالت المرأة للثعبان من ثمر شجر الجنان نأكل، لكن من ثمر الشجرة التي في وسطه قال الله لا تأكلا منه، و لا تدنوا به كيلا تموتا، قال لهما لستما تموتان، إن الله عالم أنكما في يوم أكلكما منه - تنفتح عيونكما و تصيران كالملائكة - عارفي الخير و الشر بزيادة، فلما رأت المرأة أن الشجرة طيبة المأكل - شهية المنظر، مني للعقل، أخذت من ثمرها فأكلت، و أعطت بعلها فأكل معها، فانفتحت عيونهما فعلما أنهما عريانان - فخيطا من ورق التين ما صنعا منه مآزر، فسمعا صوت الله مارا في الجنان برفق في حركة النهار، فاستخبأ آدم و زوجته من قبل صوت الله خباء فيما بين شجر الجنان، فنادى الله آدم، و قال له مقررا: أين أنت؟ قال: إني سمعت صوتك في الجنان - فاتقيت إذ أنا عريان فاستخبأت، قال: من أخبرك أنك عريان؟ أ من الشجرة التي نهيتك عن الأكل منها أكلت؟ قال آدم المرأة التي جعلتها معي - أعطتني من الشجرة فأكلت، قال الله للمرأة: ما ذا صنعت؟ قالت: الثعبان أغراني فأكلت - قال الله للثعبان: إذ صنعت هذا بعلم - فأنت ملعون من جميع البهائم و جميع وحش الصحراء - و على صدرك تسلك و ترابا تأكل طول أيام حياتك، و أجعل عداوة بينك و بين المرأة، و بين نسلك و نسلها، و هو يشدخ منك الرأس و أنت تلذعه في العقب، و قال للمرأة: لأكثرن مشقتك و حملك، و بمشقة تلدين الأولاد، و إلى بعلك يكون قيادك، و هو يتسلط عليك.

  • و قال لآدم: إذ قبلت قول زوجتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلا لا تأكل منها - ملعونة الأرض بسببك بمشقة تأكل منها طول حياتك، و شوكا و دردرا تنبت لك، و تأكل عشب الصحراء، بعرق وجهك تأكل الطعام إلى حين رجوعك 

تفسير الميزان ج۱

142
  •  

  • إلى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب و إلى التراب ترجع، و سمى آدم زوجته حواء لأنها كانت أم كل حي ناطق، و صنع الله لآدم و زوجته ثياب بدن و ألبسهما، ثم قال الله، هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف معرفة الخير و الشر، و الآن فيجب أن يخرج من الجنان لئلا يمد يده - فيأخذ من شجرة الحياة أيضا و يأكل فيحيا إلى الدهر، فطرده الله من جنان عدن ليفلح الأرض التي أخذ منها، و لما طرد آدم أسكن من شرقي جنان عدن الملائكة، و لمع سيف متقلب ليحفظوا طريق شجرة الحياة.

  • انتهى الفصل من (التوراة العربية المطبوعة سنة ١٨١١ ميلادية)، و أنت بتطبيق القصة من الطريقين أعني طريقي القرآن و التوراة ثم التأمل في الروايات الواردة من طريقي العامة و الخاصة تعثر بحقائق من الحال غير أنا أضربنا عن الغور في بيانها و البحث عنها لأن الكتاب غير موضوع لذلك.

  • و أما دخول إبليس الجنة و إغواؤه فيها و هي (أولا) مقام القرب و النزاهة و الطهارة و قد قال تعالى: {لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَ لاَ تَأْثِيمٌ} الطور - ٢٣، و هي (ثانيا) في السماء و قد قال تعالى خطابا لإبليس حين إبائه عن السجدة لآدم: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} الحجر - ٣٤، و قال تعالى: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} الأعراف - ١٢.

  • فالجواب عن الأول كما ربما يقال إن القرآن إنما نفى ما نفى من وقوع اللغو و التأثيم في الجنة عن جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة و جنة البرزخ التي يدخلونها بعد الموت و الارتحال عن دار التكليف، و أما الجنة التي أدخل فيها آدم و زوجته و ذلك قبل استقرار الإنسان في دار التكليف و توجه الأمر و النهي فالقرآن لم ينطق فيه بشي‌ء من ذلك، بل الأمر بالعكس و ناهيك في ذلك ما ذكر من وقوع عصيان آدم فيه على أن اللغو و التأثيم من الأمور النسبية التي لا تتحقق إلا بعد حلول الإنسان الدنيا و توجه الأمر و النهي إليه و تلبسه بالتكليف.

  • و الجواب عن الثاني أولا: أن رجوع الضمير في قوله: {فَاخْرُجْ مِنْهَا}، و قوله: {فَاهْبِطْ مِنْهَا} إلى السماء غير ظاهر من الآية لعدم ذكر السماء في الكلام سابقا و عدم العهد بها، فمن الجائز أن يكون المراد الخروج من الملائكة و الهبوط منها ببعض العنايات،

تفسير الميزان ج۱

143
  •  

  • و الخروج و الهبوط من المنزلة و الكرامة.

  • و ثانيا: أنه يجوز أن يكون الأمر بالهبوط و الخروج كناية عن النهي عن المقام هناك بين الملائكة، لا عن أصل الكون فيها بالعروج و المرور من غير مقام و استقرار كالملائكة، و يلوح إليه بل يشهد به ما ربما يظهر من الآيات من استراق السمع، و قد روي: أن الشياطين كانوا يعرجون قبل عيسى إلى السماء السابعة - فلما ولد عيسى منعوا من السماء الرابعة فما فوقها، ثم لما ولد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) منعوا من جميع السماوات - و خطفوا بالخطفة.

  • و ثالثا: أن كلامه تعالى خال عن دخول إبليس الجنة فلا مورد للاستشكال، و إنما ورد ما ورد من حديث الدخول في الروايات و هي آحاد غير متواترة مع احتمال النقل بالمعنى من الراوي.

  • و أقصى ما يدل من كلامه تعالى على دخوله الجنة قوله تعالى حكاية عن إبليس {وَ قَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ} الأعراف - ١٩ حيث أتي بلفظة هذه و هي للإشارة من قريب، لكنها لو دلت هاهنا على القرب المكاني لدل في قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ اَلظَّالِمِينَ} الأعراف - ١٨، على مثله فيه تعالى.

  • و في العيون، عن عبد السلام الهروي قال: قلت للرضا (علیه السلام): يا بن رسول الله - أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم و حواء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها - فمنهم من يروي أنها الحنطة، و منهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال كل ذلك حق، قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال: يا بن الصلت إن شجرة الجنة تحمل أنواعا، و كانت شجرة الحنطة و فيها عنب و ليست كشجرة الدنيا، و إن آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له، و بإدخاله الجنة، قال: هل خلق الله بشرا أفضل مني؟ فعلم الله عز و جل ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم و انظر إلى ساق العرش، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين و زوجته فاطمة سيدة نساء العالمين و الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ فقال عز و جل يا آدم هؤلاء ذريتك.

تفسير الميزان ج۱

144
  •  

  • و هم خير منك و من جميع خلقي، و لو لا هم ما خلقتك و لا الجنة و لا النار و لا السماء و لا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد و تمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، و تسلط على حواء فنظرت إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم - فأخرجهما الله تعالى من جنته و أهبطهما من جواره إلى الأرض.

  • أقول: و قد ورد هذا المعنى في عدة روايات بعضها أبسط من هذه الرواية و أطنب و بعضها أجمل و أوجز.

  • و هذه الرواية كما ترى سلم عليه السلام فيها أن الشجرة كانت شجرة الحنطة و شجرة الحسد و أنهما أكلا من شجرة الحنطة ثمرتها و حسدا و تمنيا منزلة محمد و آله، (صلى الله عليه وآله و سلم)، و مقتضى المعنى الأول أن الشجرة كانت أخفض شأنا من أن يميل إليها و يشتهيها أهل الجنة، و مقتضى الثاني أنها كانت أرفع شأنا من أن ينالها آدم و زوجته كما في رواية أخرى أنها كانت شجرة علم محمد و آله.

  • و بالجملة لهما معنيان مختلفان، لكنك بالرجوع إلى ما مر من أمر الميثاق تعرف أن المعنى واحد و أن آدم (علیه السلام) أراد أن يجمع بين التمتع بالجنة و هو مقام القرب من الله و فيها الميثاق أن لا يتوجه إلى غيره تعالى و بين الشجرة المنهية التي فيها تعب التعلق بالدنيا فلم يتيسر له الجمع بينهما فهبط إلى الأرض و نسي الميثاق فلم يجتمع له الأمران و هو منزلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، ثم هداه الله بالاجتباء و نزعه بالتوبة من الدنيا، و ألحقه بما كان نسيه من الميثاق فافهم.

  • و قوله (علیه السلام): فنظر إليهم بعين الحسد و تمنى منزلتهم فيه بيان أن المراد بالحسد تمني منزلتهم دون الحسد الذي هو أحد الأخلاق الرذيلة.

  • و بالبيان السابق يرتفع التنافي الذي يتراءى بين و ما رواه في كمال الدين، عن الثمالي عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: إن الله عز و جل عهد إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها و ذلك قول الله عز و جل: {وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلى‌ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}، (الحديث).

تفسير الميزان ج۱

145
  •  

  • و بين ما رواه العياشي، في تفسيره عن أحدهما: و قد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنه لم ينس و كيف ينسى و هو يذكر و يقول له إبليس: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين‌ (الحديث). و الوجه فيه واضح.

  • و في أمالي الصدوق، عن أبي الصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (علیه السلام): أهل المقالات من أهل الإسلام و الديانات من اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين و سائر أهل المقالات فلم يقم أحد حتى ألزم حجته كأنه ألقم حجرا فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا بن رسول الله أ تقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى، قال: فما تعمل بقول الله عز و جل: {وَ عَصى‌ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‌}؟ إلى أن قال: فقال مولانا الرضا (علیه السلام): ويحك يا علي اتق الله و لا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش و لا تتأول كتاب الله عز و جل برأيك فإن الله عز و جل يقول: {وَ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللَّهُ وَ اَلرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ}. أما قوله عز و جل في آدم: {وَ عَصى‌ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‌}فإن الله عز و جل خلق آدم حجة في أرضه و خليفة في بلاده لم يخلقه للجنة، و كانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز و جل فلما أهبط إلى الأرض و جعل حجة و خليفة عصم بقوله عز و جل: {إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفى‌ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى اَلْعَالَمِينَ} (الحديث).

  • أقول: قوله: و كانت المعصية في الجنة إلخ إشارة إلى ما قدمناه أن التكليف الديني المولوي لم يكن مجعولا في الجنة بعد، و إنما موطنه الحياة الأرضية المقدرة لآدم (علیه السلام) بعد الهبوط إلى الأرض، فالمعصية إنما كانت معصية لأمر إرشادي غير مولوي فلا وجه لتعسف التأويل في الحديث على ما ارتكبه بعض.

  • و في العيون، عن علي بن محمد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون و عنده علي بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ فقال بلى، قال فما معنى قول الله تعالى: {وَ عَصى‌ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‌}؟ قال: إن الله تعالى قال لآدم: {اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَ لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ 

تفسير الميزان ج۱

146
  •  

  • اَلشَّجَرَةَ} و أشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين، و لم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة و لا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة و لم يأكلا منها و إنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما و قال: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة و إنما نهاكما أن تقربا غيرها و لم ينهكما أن تأكلا منها إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين و لم يكن آدم و حواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله، و كان ذلك من آدم قبل النبوة و لم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار، و إنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم، فلما اجتباه الله و جعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة، قال الله عز و جل: {وَ عَصى‌ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اِجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَ هَدى‌}، و قال عز و جل: {إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفى‌ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى اَلْعَالَمِينَ} (الحديث).

  • أقول: قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث على طوله: و الحديث عجيب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه و بغضه و عداوته لأهل البيت (علیهم السلام) انتهى.

  • و ما أعجبه منه إلا ما شاهده من اشتماله على تنزيه الأنبياء من غير أن يمعن النظر في الأصول المأخوذة فيه، فما نقله من جوابه (علیه السلام) في آدم لا يوافق مذهب أئمة أهل البيت المستفيض عنهم من عصمة الأنبياء من الصغائر و الكبائر قبل النبوة و بعدها.

  • على أن الجواب مشتمل على تقدير في قوله تعالى: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا}، إلى مثل قولنا: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة و إنما نهاكما عن غيرها و ما نهاكما عن غيرها إلا أن تكونا إلخ. على أن قوله تعالى {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ}، و قوله تعالى {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‌ شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لاَ يَبْلى‌} (الآية)، يدل على أن إبليس إنما كان يحرضهما على الأكل من شخص الشجرة المنهية تطميعا في الخلود و الملك الذي حجب عنه بالنهي، على أن الرجل أعني علي بن محمد بن الجهم قد أخذ الجواب الصحيح التام بنفسه في مجلس المأمون كما رويناه في الحديث السابق، فالرواية لا تخلو عن شي‌ء و إن كان بعض 

تفسير الميزان ج۱

147
  •  

  • هذه الوجوه ممكن الاندفاع هذا.

  • و روى الصدوق، عن الباقر (علیه السلام) عن آبائه عن علي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، قال: إنما كان لبث آدم و حواء في الجنة حتى أخرجا منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتى أهبطهما الله في يومهما.

  • و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان، قال: سئل أبو عبد الله (علیه السلام) و أنا حاضر: كم لبث آدم و زوجته في الجنة حتى أخرجهما منها خطيئة؟ فقال: إن الله تبارك و تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته و أسكنه جنته من يومه ذلك، فوالله ما استقر فيها إلا ست ساعات من يومه ذلك، حتى عصى الله تعالى، فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس و صيرا بفناء الجنة حتى أصبحا فبدت لهما سوآتهما و ناداهما ربهما: {أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ} فاستحيا آدم فخضع و قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} و اعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا، قال الله لهما اهبطا من سماواتي إلى الأرض، فإنه لا يجاورني في جنتي عاص و لا في سماواتي.

  • أقول: و يمكن أن يستفاد ما يشتمل عليه الرواية من كيفية خروجهما و أنه كان أولا من الجنة إلى فنائها و من فنائها إلى الأرض من تكرر الأمر بالهبوط في الآية مع كونه أمرا تكوينيا غير قابل التخلف، و كذا من تغيير السياق في قوله تعالى: {وَ قُلْنَا يَا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ} إلى أن قال: {وَ لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ} (الآية)، و قوله تعالى: {وَ نَاداهُمَا رَبُّهُمَا أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ} (الآية)، حيث عبر في الأول بالقول و بالإشارة القريبة و في الثاني بالنداء و الإشارة البعيدة، غير أن الرواية مشتملة على خلق حواء من أسفل أضلاع آدم كما اشتملت عليه التوراة، و الروايات عن أئمة أهل البيت تكذبه كما سيجي‌ء في البحث عن خلقة آدم، و إن أمكن أن يحمل خلقها من فاضل طينة آدم مما يلي أضلاعه هذا، و أما ساعات مكثه في الجنة، و أنها ستة أو سبعة فالأمر فيها هين فإنما هو تقريب.

  • و في الكافي: عن أحدهما (علیه السلام): في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} قال: لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم و بحمدك، عملت سوءا و ظلمت نفسي فاغفر لي 

تفسير الميزان ج۱

148
  •  

  • و أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم و بحمدك، عملت سوءا و ظلمت نفسي فارحمني و أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي فارحمني و أنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي فاغفر لي و تب علي إنك أنت التواب الرحيم.

  • أقول: و روى هذا المعنى الصدوق و العياشي و القمي و غيرهم، و عن طرق أهل السنة و الجماعة أيضا ما يقرب من ذلك، و ربما استفيد ذلك من ظاهر آيات القصة.

  • و قال الكليني في الكافي: و في رواية أخرى: في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}قال: سأله بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين.

  • أقول: و روى هذا المعنى أيضا الصدوق و العياشي و القمي و غيرهم، و روي ما يقرب من ذلك من طرق أهل السنة و الجماعة أيضا كما.

  • رواه في الدر المنثور، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، قال: لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي فأوحى الله إليه، و من محمد؟ قال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس أحد عندك أعظم قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك و لولاه ما خلقتك.

  • أقول: و هذا المعنى و إن كان بعيدا عن ظاهر الآيات في بادي النظر لكن إشباع النظر و التدبر فيها ربما قرب ذلك تقريبا، إذ قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ}، يشتمل على معنى الأخذ مع الاستقبال، ففيه دلالة على أخذ آدم هذه الكلمات من ربه، ففيه علم سابق على التوبة، و قد كان (علیه السلام) تعلم من ربه الأسماء كلها إذ قال تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كل ظلم و معصية لا محالة و دواء كل داء و إلا لم يتم الجواب عما أورده الملائكة و لا قامت الحجة عليهم لأنه سبحانه لم يذكر قبال قولهم: يفسد فيها و يسفك الدماء شيئا و لم يقابلهم بشي‌ء دون أن علم آدم الأسماء كلها ففيه إصلاح كل فاسد، و قد عرفت ما حقيقة هذه الأسماء، و أنها موجودات عالية مغيبة في غيب 

تفسير الميزان ج۱

149
  •  

  • السماوات و الأرض، و وسائط فيوضاته تعالى لما دونها، لا يتم كمال لمستكمل إلا ببركاتها و قد ورد في بعض الأخبار أنه رأى أشباح أهل البيت و أنوارهم حين علم الأسماء، و ورد أنه رآها حين أخرج الله ذريته من ظهره، و ورد أيضا أنه رآها و هو في الجنة فراجع و الله الهادي. و قد أبهم الله أمر هذه الكلمات في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (الآية) حيث نكرها، و ورد في القرآن إطلاق الكلمة على الموجود العيني صريحا في قوله: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ} آل عمران - ٤٠.

  • و أما ما ذكره بعض المفسرين: أن الكلمات التي حكاها الله عنهما في سورة الأعراف بقوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} (الآية)، ففيه: أن التوبة كما يدل عليه الآيات في هذه السورة أعني سورة البقرة وقعت بعد الهبوط إلى الأرض، قال تعالى: {وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} إلى أن قال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} الآيات و هذه الكلمات تكلم بها آدم و زوجته قبل الهبوط و هما في الجنة كما في سورة الأعراف، قال تعالى: {وَ نَاداهُمَا رَبُّهُمَا أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ} إلى أن قال: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} إلى أن قال: {قَالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الآيات، بل الظاهر أن قولهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}، تذلل منهما و خضوع قبال ندائه تعالى و إيذان بأن الأمر إلى الله سبحانه كيف يشاء بعد الاعتراف بأن له الربوبية و أنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران.

  • و في تفسير القمي، عن الصادق (علیه السلام) قال: إن موسى سأل ربه أن يجمع بينه و بين آدم، فجمع فقال له موسى: يا أبت أ لم يخلقك الله بيده و نفخ فيك من روحه و أسجد لك الملائكة و أمرك أن لا تأكل من الشجرة؟ فلم عصيته؟ قال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التورية؟ قال: بثلاثين ألف سنة؛ قال: فقال: هو ذاك، قال الصادق (علیه السلام) فحجج آدم موسى.

  • أقول: و روى ما يقرب من هذا المعنى العلامة السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • و في العلل، عن الباقر (علیه السلام): و الله لقد خلق الله آدم للدنيا، و أسكنه الجنة 

تفسير الميزان ج۱

150
  •  

  • ليعصيه فيرده إلى ما خلقه له.

  • أقول: و قد مر رواية العياشي عن الصادق (علیه السلام): في خليل كان لآدم من الملائكة الحديث في هذا المعنى.

  • و في الاحتجاج: في احتجاج علي مع الشامي حين سأله: عن أكرم واد على وجه الأرض، فقال (علیه السلام): واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء.

  • أقول: و تقابلها روايات مستفيضة تدل على سقوطه في أرض مكة و قد مر بعضها و يمكن التوفيق بينها بإمكان نزوله أولا بسرانديب ثم هبوطه إلى أرض مكة و ليس بنزولين عرضيين هذا.

  • و في الدر المنثور، عن الطبراني و أبي الشيخ في العظمة و ابن مردويه عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أ رأيت آدم أ نبيا كان؟ قال: نعم كان نبيا رسولا، كلمه الله قبلا، قال له: يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة.

  • أقول: و روى أهل السنة و الجماعة قريبا من هذا المعنى بعدة طرق.‌

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٤٠الی ٤٤]

  • {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ ٤٠وَ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَ لاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَ لاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ ٤١ وَ لاَ تَلْبِسُوا اَلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ تَكْتُمُوا اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٤٢ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ اِرْكَعُوا مَعَ اَلرَّاكِعِينَ ٤٣ أَ تَأْمُرُونَ اَلنَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتَابَ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ٤٤} 

تفسير الميزان ج۱

151
  •  

  • (بيان)

  • أخذ سبحانه في معاتبة اليهود و ذلك في طي نيف و مائة آية يذكر فيها نعمة التي أفاضها عليهم، و كراماته التي حباهم بها، و ما قابلوها من الكفر و العصيان و نقض الميثاق و التمرد و الجحود، يذكرهم بالإشارة إلى اثنتي عشرة قصة من قصصهم، كنجاتهم من آل فرعون بفرق البحر، و غرق فرعون و جنوده، و مواعدة الطور، و اتخاذهم العجل من بعده و أمر موسى إياهم بقتل أنفسهم، و اقتراحهم من موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثم بعثهم الله تعالى، إلى آخر ما أشير إليه من قصصهم التي كلها مشحونة بألطاف إلهية و عنايات ربانية، و يذكرهم أيضا المواثيق التي أخذ منهم ثم نقضوها و نبذوها وراء ظهورهم، و يذكرهم أيضا معاصي ارتكبوها و جرائم اكتسبوها و آثاما كسبتها قلوبهم على نهي من كتابهم، و ردع صريح من عقولهم، لقساوة قلوبهم، و شقاوة نفوسهم، و ضلال سعيهم.

  • قوله تعالى: {وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي}، أصل العهد الحفاظ، و منه اشتقت معانيه كالعهد بمعنى الميثاق و اليمين و الوصية و اللقاء و المنزل و نحو ذلك.

  • قوله تعالى: {فَارْهَبُونِ}، الرهبة الخوف، و تقابل الرغبة.

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}، أي من بين أهل الكتاب، أو من بين قومكم ممن مضى و سيأتي، فإن كفار مكة كانوا قد سبقوهم إلى الكفر به. 

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٤٥ الی ٤٦]

  • {وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ وَ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى اَلْخَاشِعِينَ ٤٥ اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ٤٦ 

تفسير الميزان ج۱

152
  •  

  • (بيان) 

  • قوله تعالى: {وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ}، الاستعانة و هي طلب العون إنما يتم فيما لا يقوى الإنسان عليه وحده من المهمات و النوازل، و إذ لا معين في الحقيقة إلا الله سبحانه فالعون على المهمات مقاومة الإنسان لها بالثبات و الاستقامة و الاتصال به تعالى بالانصراف إليه، و الإقبال عليه بنفسه، و هذا هو الصبر و الصلاة، و هما أحسن سبب على ذلك، فالصبر يصغر كل عظيمة نازلة، و بالإقبال على الله و الالتجاء إليه تستيقظ روح الإيمان، و تتنبه: أن الإنسان متك على ركن لا ينهدم، و سبب لا ينفصم.

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى اَلْخَاشِعِينَ}، الضمير راجع إلى الصلاة، و أما إرجاعه إلى الاستعانة لتضمن قوله: {اِسْتَعِينُوا} ذلك فينافيه ظاهرا قوله: {إِلاَّ عَلَى اَلْخَاشِعِينَ}، فإن الخشوع لا يلائم الصبر كثير ملائمة، و الفرق بين الخشوع و الخضوع مع أن في كليهما معنى التذلل و الانكسار أن الخضوع مختص بالجوارح و الخشوع بالقلب.

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ}. هذا المورد، أعني مورد الاعتقاد بالآخرة على أنه مورد اليقين لا يفيد فيه الظن و الحسبان الذي لا يمنع النقيض، قال تعالى: {وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} البقرة - ٤، و يمكن أن يكون الوجه فيه الأخذ بتحقق الخشوع فإن العلوم التدريجية الحصول من أسباب تدريجية تتدرج فيها النفس المدركة من تنبه و شك ثم ترجح أحد طرفي النقيض ثم انعدام الاحتمالات المخالفة شيئا فشيئا حتى يتم الإدراك الجازم و هو العلم، و هذا النوع من العلم إذا تعلق بأمر هائل موجب لاضطراب النفس و قلقها و خشوعها إنما تبتدي الخشوع الذي معه من حين شروع الرجحان قبل حصول الإدراك العلمي و تمامه، ففي وضع الظن موضع العلم إشارة إلى أن الإنسان لا يتوقف على زيادة مئونة على العلم إن تنبه بأن له ربا يمكن أن يلاقيه و يرجع إليه و ذلك كقول الشاعر: 

  • فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج***سراتهم في الفارسي المسرد 

تفسير الميزان ج۱

153
  •  

  • و إنما يخوف العدو باليقين لا بالشك و لكنه أمرهم بالظن لأن الظن يكفيهم في الانقلاع عن المخالفة، بلا حاجة إلى اليقين حتى يتكلف المهدد إلى إيجاد اليقين فيهم بالتفهيم من غير اعتناء منه بشأنهم، و على هذا فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} الكهف - ١١٠، و هذا كله لو كان المراد باللقاء في قوله تعالى: {مُلاَقُوا رَبِّهِمْ}، يوم البعث و لو كان المراد به ما سيأتي تصويره في سورة الأعراف إن شاء الله فلا محذور فيه أصلا .

  • بحث روائي‌ 

  • في الكافي: عن الصادق (علیه السلام) قال: كان علي إذا أهاله أمر فزع قام إلى الصلاة ثم تلا هذه الآية: {وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ}.

  • و في الكافي، أيضا: عنه (علیه السلام): في الآية، قال: الصبر الصيام، و قال: إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم. إن الله عز و جل يقول: {وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} يعني الصيام.

  • أقول: و روى مضمون الحديثين العياشي في تفسيره. و تفسير الصبر بالصيام من باب المصداق و الجري.

  • و في تفسير العياشي: عن أبي الحسن (علیه السلام): في الآية قال: الصبر الصوم، إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم، إن الله يقول: {وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ وَ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى اَلْخَاشِعِينَ}. و الخاشع‌ الذليل في صلاته المقبل عليها، يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمير المؤمنين (علیه السلام).

  • أقول: قد استفاد (علیه السلام) استحباب الصوم و الصلاة عند نزول الملمات و الشدائد، و كذا التوسل بالنبي و الولي عندها، و هو تأويل الصوم و الصلاة برسول الله و أمير المؤمنين.

  • و في تفسير العياشي، أيضا: عن علي (علیه السلام): في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ} (الآية) يقول: يوقنون أنهم مبعوثون، و الظن منهم يقين.

تفسير الميزان ج۱

154
  •  

  • أقول: و رواه الصدوق أيضا.

  • و روى ابن شهر آشوب عن الباقر (علیه السلام): أن الآية نازلة في علي و عثمان بن مظعون و عمار بن ياسر و أصحاب لهم.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٤٧ الی ٤٨]

  •  {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ ٤٧ وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ٤٨}

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {وَ اِتَّقوا يَوْماً لاَ تَجْزِي}. الملك و السلطان الدنيوي بأنواعه و أقسامه و بجميع شئونه، و قواه المقننة الحاكمة و المجرية مبتنية على حوائج الحياة، و غايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية و المكانية، فربما بدل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلي يضبط الحكم و يجري ذلك في باب المجازاة أيضا فإن الجرم و الجناية عندهم يستتبع العقاب، و ربما بدل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كأن يلح المحكوم الذي يرجى عقابه على القاضي و يسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحق، أو يبعث المجرم شفيعا يتوسط بينه و بين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلا و بدلا إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد و أكثر من الحاجة إلى عقاب ذلك المجرم، أو يستنصر قومه فينصروه فيتخلص بذلك عن تبعة العقاب و نحو ذلك. تلك سنة جارية و عادة دائرة بينهم، و كانت الملل القديمة من الوثنيين و غيرهم تعتقد أن الحياة الآخرة نوع حياة دنيوية يطرد فيها قانون الأسباب و يحكم فيها ناموس التأثير و التأثر المادي 

تفسير الميزان ج۱

155
  •  

  • الطبيعي، فيقدمون إلى آلهتهم أنواع القرابين و الهدايا للصفح عن جرائمهم أو الإمداد في حوائجهم، أو يستشفعون بها، أو يفدون بشي‌ء عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتى إنهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف و الزينة، ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم، و من أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم، و ربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها، و من الأبطال من يستنصر به الميت، و توجد اليوم في المتاحف بين الآثار الأرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل، و يوجد عقائد متنوعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الإسلامية على اختلاف ألسنتهم و ألوانهم، بقيت بينهم بالتوارث، ربما تلونت لونا بعد لون، جيلا بعد جيل، و قد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية، و الأقاويل الكاذبة، فقد قال عز من قائل: {وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} الانفطار - ١٩، و قال: ‌{وَ رَأَوُا اَلْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ} البقرة - ١٦٦، و قال: {وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادى‌ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَ مَا نَرى‌ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} الأنعام - ٩٤ و قال: {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} يونس - ٣٠، إلى غير ذلك من الآيات التي بين فيها: أن الموطن خال عن الأسباب الدنيوية، و بمعزل عن الارتباطات الطبيعية، و هذا أصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الأقاويل و الأوهام على طريق الإجمال، ثم فصل القول في نفي واحد واحد منها و إبطاله فقال: {وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} البقرة - ٤٨، و قال: {يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاَ خُلَّةٌ وَ لاَ شَفَاعَةٌ} البقرة - ٢٥٤، و قال: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً} الدخان - ٤١، و قال: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} المؤمن - ٣٣، و قال: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} الصافات - ٢٦، و قال: {وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اَللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى‌ عَمَّا يُشْرِكُونَ} يونس - ١٨، و قال: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} المؤمن - ١٨، و قال: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَ لاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} الشعراء - ١٠١، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة و تأثير الوسائط 

تفسير الميزان ج۱

156
  •  

  • و الأسباب يوم القيامة هذا.

  • ثم إن القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها، بل يثبتها بعض الإثبات، قال تعالى: {اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى‌ عَلَى اَلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ شَفِيعٍ أَ فَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} السجدة - ٣، و قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاَ شَفِيعٌ} الأنعام - ٥١، و قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ اَلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} الزمر - ٤٤، و قال تعالى: {لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ} البقرة - ٢٥٥، و قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى‌ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} يونس - ٣، و قال تعالى: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‌ وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} الأنبياء - ٢٨، و قال: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ} الزخرف - ٨٦، و قال: {لاَ يَمْلِكُونَ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً} مريم - ٨٧، و قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} طه - ١١٠، و قال تعالى: {وَ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} السبا - ٢٣، و قال تعالى: {وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَرْضى‌} النجم - ٢٦، فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عز اسمه كالآيات الثلاثة الأولى و بين ما يعممها لغيره تعالى بإذنه و ارتضائه و نحو ذلك، و كيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب، غير أن بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، و بعضها تثبتها لغيره بإذنه و ارتضائه، و قد عرفت أن هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره، و إثباته له تعالى بالاختصاص و لغيره بارتضائه، قال تعالى: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ} النمل - ٦٥، و قال تعالى: {وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} الأنعام - ٥٩ و قال تعالى: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‌ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‌ مِنْ رَسُولٍ} الجن - ٢٧، و كذلك الآيات الناطقة في التوفي و الخلق و الرزق و التأثير و الحكم و الملك و غير ذلك فإنها 

تفسير الميزان ج۱

157
  •  

  • شائعة في أسلوب القرآن، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى، ثم يثبته لنفسه، ثم يثبته لغيره بإذنه و مشيته، فتفيد أن الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها و استقلالها، و إنما تملكها بتمليك الله لها إياها، حتى أن القرآن تثبت نوعا من المشية في ما حكم فيه و قضى عليه بقضاء، حتم كقوله تعالى: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} هود - ١٠٨، فقد علق الخلود بالمشية و خاصة في خلود الجنة مع حكمه بأن العطاء غير مجذوذ، إشعارا بأن قضاءه تعالى بالخلود لا يخرج الأمر من يده و لا يبطل سلطانه و ملكه عز سلطانه كما يدل عليه قوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} هود - ١٠٧، و بالجملة لا إعطاء هناك يخرج الأمر من يده و يوجب له الفقر، و لا منع يضطره إلى حفظ ما منعه و إبطال سلطانه تعالى.

  • أبحاث الشفاعة 

  • و من هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك، و الآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة، و لغيره تعالى بإذنه و تمليكه، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى بإذنه فلننظر ما ذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة و متعلقها؟ و فيمن تجري؟ و ممن تصح؟ و متى تتحقق؟ و ما نسبتها إلى العفو و المغفرة منه تعالى؟ و نحو ذلك في أمور.

  • ١ - ما هي الشفاعة؟ 

  • الشفاعة على ما نعرف من معناها إجمالا بالقريحة المكتسبة من الاجتماع و التعاون (و هي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجا بعد ما كان فردا فيقوى على نيل ما يريده، لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته و ضعفها و قصورها) من الأمور التي نستعملها لإنجاح المقاصد، و نستعين بها على حوائج الحياة، و جل الموارد التي نستعملها فيها إما مورد يقصد فيها جلب المنفعة و الخير، و إما مورد يطلب فيها دفع المضرة و الشر، لكن لا كل نفع و ضرر، 

تفسير الميزان ج۱

158
  •  

  • فإنا لا نستشفع فيما يتضمنه الأسباب الطبيعية و الحوادث الكونية من الخير و الشر، و النفع و الضر، كالجوع، و العطش، و الحر، و البرد، و الصحة، و المرض، بل نتسبب فيها بالأسباب الطبيعية، و نتوسل إليها بوسائلها المناسبة لها كالأكل، و الشرب، و اللبس و الاكتنان و المداواة، و إنما نستشفع في الخيرات و الشرور و المنافع و المضار التي تستدعيها أو تستتبعها أوضاع القوانين و الأحكام التي وضعتها و اعتبرتها و قررتها و أجرتها حكومة الاجتماع بنحو الخصوص أو العموم، ففي دائرة المولوية و العبودية، و عند كل حاكم و محكوم، و أحكام من الأمر و النهي إذا عمل بها و امتثلها المكلف بها استتبع ذلك تبعة الثواب من مدح أو نفع، من جاه أو مال، و إذا خالفها و تمرد منها استتبع ذلك تبعة العقاب من ذم أو ضرر مادي، أو معنوي، فإذا أمر المولى أو نهى عبده، أو كل من هو تحت سيادته و حكومته بأمر أو نهي مثلا فامتثله كان له بذلك أجر كريم، و إن خالف كان له عقاب أو عذاب فهناك نوعان من الوضع و الاعتبار، وضع الحكم و وضع تبعة الحكم، يتعين به تبعة الموافقة و المخالفة.

  • و على هذا الأصل تدور جميع الحكومات العامة بين الملل و الخاصة بين كل إنسان و من دونه.

  • فإذا أراد الإنسان أن ينال كمالا و خيرا ماديا أو معنويا و ليس عنده ما يستوجب ذلك بحسب ما يعينه الاجتماع، و يعرف به لياقته، أو أراد أن يدفع عن نفسه شرا متوجها إليه من عقاب المخالفة و ليس عنده ما يدفعه، أعني الامتثال و الخروج عن عهدة التكليف، و بعبارة واضحة إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه، أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجه إليه فذلك مورد الشفاعة، و عنده تؤثر لكن لا مطلقا فإن من لا لياقة له بالنسبة إلى التلبس بكمال، أو لا رابطة له تربطها إلى المشفوع عنده أصلا، كالعامي الأمي الذي يريد تقلد مقام علمي، أو الجاحد الطاغي الذي لا يخضع لسيده أصلا لا تنفع عنده الشفاعة، فإنما الشفاعة متممة للسبب لا مستقلة في التأثير.

  • ثم إن تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيرا جزافيا من غير سبب يوجب ذلك بل لا بد أن يوسط أمرا يؤثر في الحاكم، و يوجب نيل الثواب، 

تفسير الميزان ج۱

159
  •  

  • أو التخلص من العقاب، فالشفيع لا يطلب من المولى مثلا أن يبطل مولوية نفسه و عبودية عبده فلا يعاقبه، و لا يطلب منه أن يرفع اليد عن حكمه و تكليفه المجعول، أو ينسخه عموما أو في خصوص الواقعة فلا يعاقبه، و لا يطلب منه أن يبطل قانون المجازاة عموما أو خصوصا فلا يعاقب لذلك رأسا، أو في خصوص الواقعة، فلا نفوذ و لا تأثير للشفيع في مولوية و عبودية، و لا في حكم و لا في جزاء حكم، بل الشفيع بعد ما يسلم جميع الجهات الثلاث المذكورة إنما يتمسك: إما بصفات في المولى الحاكم توجب العفو و الصفح كسؤدده، و كرمه، و سخائه، و شرافة محتده، و إما بصفات في العبد تستدعي الرأفة و الحنان و تثير عوامل المغفرة كمذلته و مسكنته و حقارته و سوء حاله، و إما بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى و كرامته و علو منزلته عنده فيقول: ما أسألك إبطال مولويتك و عبوديته، و لا أن تبطل حكمك و لا أن تبطل الجزاء، بل أسألك الصفح عنه بأن لك سؤددا و رأفة و كرما لا تنتفع بعقابه و لا يضرك الصفح عن ذنبه أو بأنه جاهل حقير مسكين لا يعتني مثلك بشأنه و لا يهتم بأمره أو بأن لي عندك من المنزلة و الكرامة ما يوجب إسعاف حاجتي في تخليصه و العفو عنه.

  • و من هنا يظهر للمتأمل أن الشفيع إنما يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثرة في رفع العقاب مثلا من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم و ترتب العقاب على مخالفته، و نعني بالحكومة أن يخرج مورد الحكم عن كونه موردا بإدخاله في مورد حكم آخر، فلا يشمله الحكم الأول لعدم كونه من مصاديقه لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادة كإبطال الأسباب المتضادة في الطبيعة بعضها حكم بعض بالمعارضة و الغلبة في التأثير، فحقيقة الشفاعة التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة دون المضادة.

  • و من هنا يظهر أيضا أن الشفاعة من مصاديق السببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الأول البعيد و مسببه، هذا ما يتحصل من تحليل معنى الشفاعة التي عندنا.

  • ثم إن الله سبحانه يمكن أن يقع مورد النظر في السببية من جهتين: 

تفسير الميزان ج۱

160
  •  

  • إحداهما: أنه يبتدي منه التأثير، و ينتهي إليه السببية، فهو المالك للخلق و الإيجاد على الإطلاق، و جميع العلل و الأسباب أمور متخللة متوسطة بينه و بين غيره لنشر رحمته التي لا تنفد و نعمته التي لا تحصى إلى خلقه و صنعه.

  • و الثانية: أنه تعالى تفضل علينا بالدنو في حين علوه فشرع الدين و وضع فيه أحكاما من أوامر و نواهي و غير ذلك و تبعات من الثواب و العقاب في الدار الآخرة و أرسل رسلا مبشرين و منذرين فبلغوه أحسن تبليغ و قامت بذلك الحجة و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته.

  • أما من الجهة الأولى: و هي النظر إليه من جهة التكوين فانطباق معنى الشفاعة على شأن الأسباب و العلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى، فإنها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة و الخلق و الإحياء و الرزق و غير ذلك إيصال أنواع النعم و الفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه، و كلامه تعالى أيضا يحتمل ذلك كقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} البقرة - ٢٥٥، و قوله {إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى‌ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} يونس - ٣، فإن الشفاعة في مورد التكوين ليست إلا توسط العلل و الأسباب بينه و بين مسبباتها في تدبير أمرها و تنظيم وجودها و بقائها فهذه شفاعة تكوينية.

  • و أما من الجهة الثانية و هي النظر إليه من جهة التشريع فالذي ينبغي أن يقال: أن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده و لا محذور في ذلك و عليه ينطبق قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً} طه - ١٠٩، و قوله: {لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} السبا - ٢٣، و قوله: {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَرْضى‌} النجم - ٢٦ و قوله: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‌} الأنبياء - ٢٨، و قوله: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ} الزخرف - ٨٦، فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة و الناس من بعد الإذن و الارتضاء، فهو تمليك و لله الملك و له الأمر فلهم أن يتمسكوا برحمته و عفوه 

تفسير الميزان ج۱

161
  •  

  • و مغفرته و ما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده سائت حاله بالمعصية، و شملته بلية العقوبة، فيخرج عن كونه مصداقا للحكم الشامل، و الجرم العامل على ما عرفت أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة دون التضاد و هو القائل عز من قائل: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اَللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} الفرقان - ٧٠، فله تعالى أن يبدل عملا من عمل كما أن له أن يجعل الموجود من العمل معدوما، قال تعالى: {وَ قَدِمْنَا إِلى‌ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} الفرقان - ٢٣، و قال تعالى: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} محمد - ١٠و قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} النساء - ٣١، و قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء - ٤٨، و الآية في غير مورد الإيمان و التوبة قطعا فإن الإيمان و التوبة يغفر بهما الشرك أيضا كسائر الذنوب و له تكثير القليل من العمل، قال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} القصص - ٦٥، و قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام - ١٦٠، و له سبحانه أن يجعل المعدوم من العمل موجودا، قال تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} الطور - ٢١، و هذا هو اللحوق و الإلحاق و بالجملة فله تعالى أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

  • نعم إنما يفعل لمصلحة مقتضية، و علة متوسطة و لتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه و أوليائه و المقربين من عباده من غير جزاف و لا ظلم.

  • و من هنا ظهر أن معنى الشفاعة بمعنى الشافعية، صادق بحسب الحقيقة في حقه تعالى فإن كلا من صفاته متوسطة بينه و بين خلقه في إفاضة الجود و بذل الوجود فهو الشفيع في الحقيقة على الإطلاق. قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ اَلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} الزمر - ٤٤ و قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ شَفِيعٍ} السجدة - ٤، و قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاَ شَفِيعٌ} الأنعام - ٥١. و غيره تعالى لو كان شفيعا فإنما هو بإذنه و تمليكه. فقد ثبت بما مر صحة تحقق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذورا لا يليق بساحة كبريائه تعالى.

تفسير الميزان ج۱

162
  •  

  • ٢ - إشكالات الشفاعة 

  • قد عرفت: أن الشفاعة ثابتة في الجملة لا بالجملة، و ستعرف أن الكتاب و كذلك السنة لا يثبتان أزيد من ذلك، بل التأمل في معناها وحده يقضي بذلك، فإن الشفاعة كما مر يرجع بحسب المعنى إلى التوسط في السببية و التأثير، و لا معنى للإطلاق في السببية و التأثير فلا السبب يكون سببا لكل مسبب من غير شرط و لا مسبب واحد يكون مسببا لكل سبب على الإطلاق فإن ذلك يؤدي إلى بطلان السببية و هو باطل بالضرورة. و من هنا اشتبه الأمر على النافين للشفاعة حيث توهموها مطلقة من غير شرط فاستشكلوا فيها بأمور و بنوا عليها بطلان هذه الحقيقة القرآنية من غير تدبر فيما يعطيه كلامه تعالى و هاك شطرا منها: 

  • الإشكال الأول: أن رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعد ما أثبته الله تعالى بالوعيد إما أن يكون عدلا أو ظلما. فإن كان عدلا كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلما لا يليق بساحته تعالى و تقدس، و إن كان ظلما كان شفاعة الأنبياء مثلا سؤالا للظلم منه و هو جهل لا يجوز نسبته إليهم صلوات الله عليهم.

  • و الجواب عنه أولا: بالنقض فإنه منقوض بالأوامر الامتحانية فرفع الحكم الامتحاني ثانيا و إثباته أولا كلاهما من العدل، و الحكمة فيها اختبار سريرة المكلف أو إظهار باطن أمره أو إخراج ما في قوته إلى الفعل، فيقال في مورد الشفاعة أيضا يمكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين، ثم يوضع الأحكام و ما لمخالفتها من أنواع العقاب ليهلك الكافرون بكفرهم، و أما المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم و يبقى المسيئون فينالون بالشفاعة النجاة المكتوبة لهم و لو بالنسبة إلى بعض أنواع العذاب أو أفراده مع مقاساة البعض الآخر كأحوال البرزخ و أهوال يوم القيامة، فيكون بذلك أصل وضع الحكم و عقابه أولا عدلا و رفع عقابه ثانيا عدلا.

  • و ثانيا: بالحل، فإن رفع العقاب أولا بواسطة الشفاعة إنما يغاير الحكم الأول فيما ذكر من العدل و الظلم لو كان رفع العقاب بالشفاعة نقضا للحكم الأول أو نقضا للحكم باستتباع العقوبة و قد عرفت أنه ليس كذلك بل أثر الشفاعة بالحكومة لا 

تفسير الميزان ج۱

163
  •  

  • بالمضادة فيها إخراج المجرم عن كونه مصداقا لشمول العقاب بجعله مصداقا لشمول الرحمة من صفات أخرى له تعالى من رحمة و عفو و مغفرة، و منها إفضاله للشافع بالإكرام و الإعظام.

  • الإشكال الثاني: أن سنة الله تعالى جرت على صون أفعاله من التخلف و الاختلاف، فما قضى و حكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء، و على هذا جرت سنة الأسباب، قال تعالى: {هَذا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} الحجر - ٤٣، و قال تعالى: {وَ أَنَّ هَذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} الأنعام - ١٥٣، و قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَحْوِيلاً} الفاطر - ٤٢، و تحقق الشفاعة موجب للاختلاف في الفعل فإن رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين في جميع جرائمهم موجب لنقض الفرض المحال، و لعب ينافي الحكمة قطعا، و رفعه عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم و ذنوبهم اختلاف في فعله تعالى و تغير و تبدل في سنته الجارية و طريقته الدائمة، إذ لا فرق بين المجرمين في أن كل واحد منهم مجرم و لا بين الذنوب في أن كلا منها ذنب و خروج عن زي العبودية فتخصيص بعضهم أو بعض من أعمالهم بالصفح و الإغماض دون بعض بواسطة الشفاعة محال، و إنما تجري الشفاعة و ما يشبهها في سنة هذه الحياة من ابتناء الأعمال و الأفعال على الأهواء و الأوهام التي ربما تقضي في الحق و الباطل على السواء، و تجري عن الحكمة و عن الجهالة على نسق واحد.

  • و الجواب أنه لا ريب في أن صراطه تعالى مستقيم و سنته واحدة لكن هذه السنة الواحدة الغير المختلفة ليست قائمة على أصل صفة واحدة من صفاته تعالى كصفة التشريع و الحكم مثلا حتى لا يتخلف حكم عن مورده و لا جزاء حكم عن محله قط بل هي قائمة على ما يستوجبه جميع صفاته المربوط علت صفاته.

  • توضيح ذلك: أن الله سبحانه هو الواهب المفيض لكل ما في الوجود من حياة أو موت أو رزق أو نعمة أو غير ذلك. و هي أمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء و لا لرابطة واحدة كيف كانت، فإن فيه بطلان الارتباط و السببية، فهو تعالى لا يشفي مريضا من غير سبب موجب و مصلحة مقتضية و لا يشفيه لأنه الله المميت 

تفسير الميزان ج۱

164
  •  

  • المنتقم شديد البطش بل لأنه الله الرءوف الرحيم المنعم الشافي المعافي مثلا و لا يهلك جبارا مستكبرا من غير سبب، لأنه رءوف رحيم به، بل لأنه الله المنتقم الشديد البطش القهار مثلا و هكذا. و القرآن بذلك ناطق فكل حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود يسند إليه من جهة صفة أو أكثر من صفاته العليا تتسبب إليه بالتلاؤم و الايتلاف الواقع بينها و الاقتضاء المستنتج من ذلك، و إن شئت قلت: كل أمر من الأمور يرتبط به تعالى من جهة ما يتضمنه من المصالح و الخيرات. إذا عرفت هذا علمت: أن استقامة صراطه و عدم تبدل سنته و عدم اختلاف فعله إنما هي بالنسبة إلى ما يفعله بجميع صفاته المربوطة لا بالنسبة إلى مقتضى صفة قاصرة و إن شئت قلت: بالنسبة إلى ما يتحصل من الفعل و الانفعال و الكسر و الانكسار الواقع بين الحكم و المصالح المرتبطة بالمورد لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة. فلو كان هناك سبب الحكم المجعول فقط لم يتغير و لم يختلف في بر و لا فاجر و لا مؤمن و لا كافر. لكن الأسباب كثيرة ربما استدعى توافق عدة منها غير ما يقتضيه بعضها فافهم ذلك.

  • فوقوع الشفاعة و ارتفاع العقاب و ذلك إثر عدة من الأسباب كالرحمة و المغفرة و الحكم و القضاء و إعطاء كل ذي حق حقه و الفصل في القضاء - لا يوجب اختلافا في السنة الجارية و ضلالا في الصراط المستقيم.

  • الإشكال الثالث: أن الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره حكم به أو لا فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك الإرادة و نسخها لأجل الشفيع فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن أخطأ ثم عرف الصواب و رأى أن المصلحة أو العمل في خلاف ما كان يريده أو حكم به. و أما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشي‌ء و هو عالم بأنه ظلم و أن العدل في خلافه و لكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة، و كل من النوعين محال على الله تعالى لأن إرادته على حسب علمه و علمه أزلي لا يتغير.

  • و الجواب أن ذلك منه تعالى ليس من تغير الإرادة و العلم في شي‌ء و إنما التغير في المراد و المعلوم، فهو سبحانه يعلم أن الإنسان الفلاني سيتحول عليه الحالات فيكون 

تفسير الميزان ج۱

165
  •  

  • في حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب و شرائط خاصة فيريد فيه بإرادة، ثم يكون في حين آخر على حال آخر جديد يخالف الأول لاقتران أسباب و شرائط أخر فيريد فيه بإرادة أخرى و كل يوم هو في شأن، و قد قال تعالى: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ} الرعد - ٣٩، و قال: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} المائدة - ٦٧، مثال ذلك: أنا نعلم أن الهواء ستغشاه الظلمة فلا يعمل أبصارنا و الحاجة إليه قائمة ثم تنجلي الظلمة بإنارة الشمس فتتعلق إرادتنا عند إقبال الليل بالاستضاءة بالسراج و عند انقضائه بإطفائه و العلم و الإرادة غير متغيرتين و إنما تغير المعلوم و المراد، فخرجا عن كونهما منطبقا عليه للعلم و الإرادة، و ليس كل علم ينطبق على كل معلوم، و لا كل إرادة تتعلق بكل مراد، نعم تغير العلم و الإرادة المستحيل عليه تعالى هو بطلان انطباق العلم على المعلوم و الإرادة على المراد مع بقاء المعلوم و المراد على حالهما و هو الخطأ و الفسخ، مثل أن ترى شبحا فتحكم بكونه إنسانا ثم يتبين أنه فرس فيتبدل العلم، أو تريد أمرا لمصلحة ما ثم يظهر لك أن المصلحة في خلافه فتنفسخ إرادتك، و هذان غير جائزين في مورده تعالى، و الشفاعة و رفع العقاب بها ليس من هذا القبيل كما عرفت.

  • الإشكال الرابع: أن وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الأنبياء (علیه السلام) مستلزم لتجري الناس على المعصية و إغراء لهم على هتك محارم الله تعالى و هو مناف للغرض الوحيد من الدين من سوق الناس إلى العبودية و الطلاعة فلا بد من تأويل ما يدل عليه من الكتاب و السنة بما لا يزاحم هذا الأصل البديهي.

  • و الجواب عنه، أولا: بالنقض بالآيات الدالة على شمول المغفرة و سعة الرحمة كقوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء - ٥١، و (الآية) كما - مر في غير مورد التوبة بدليل استثنائه الشرك المغفور بالتوبة.

  • و ثانيا: بالحل: فإن وعد الشفاعة أو تبليغها إنما يستلزم تجري الناس على المعصية و إغراءهم على التمرد و المخالفة بشرطين: 

  • أحدهما: تعيين المجرم بنفسه و نعته أو تعيين الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعيينا لا يقع فيه لبس بنحو الإنجاز من غير تعليق بشرط جائز.

تفسير الميزان ج۱

166
  •  

  • و ثانيهما: تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب و أوقاته بأن تقلعه من أصله قلعا.

  • فلو قيل: إن الطائفة الفلانية من الناس أو كل الناس لا يعاقبون على ما أجرموا و لا يؤاخذون فيما أذنبوا أبدا، أو قيل إن الذنب الفلاني لا عذاب عليه قط كان ذلك باطلا من القول و لعبا بالأحكام و التكاليف المتوجهة إلى المكلفين، و أما إذا أبهم الأمر من حيث الشرطين فلم يعين أن الشفاعة في أي الذنوب و في حق أي المذنبين أو أن العقاب المرفوع هو جميع العقوبات و في جميع الأوقات و الأحوال، فلا تعلم نفس هل تنال الشفاعة الموعودة أو لا فلا تتجرى على هتك محارم الله تعالى، غير أن ذلك توقظ قريحة رجائها فلا يوجب مشاهدة ما يشاهدها من ذنوبها و آثامها قنوطا من رحمة الله، و يأسا من روح الله، مضافا إلى قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} النساء - ٣١، فإن الآية تدل على رفع عقاب السيئات و المعاصي الصغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة فإذا جاز أن يقول الله سبحانه: إن اتقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم، فليجز أن يقال: إن تحفظتم على إيمانكم حتى أتيتموني في يوم اللقاء بإيمان سليم قبلت فيكم شفاعة الشافعين، فإنما الشأن كل الشأن في حفظ الإيمان و المعاصي تضعف الإيمان و تقسي القلب و تجلب الشرك، و قد قال تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخَاسِرُونَ} الأعراف - ٩٨، و قال: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلى‌ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين - ١٤، و قال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواى‌ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ} الروم - ١٠، و ربما أوجب ذلك انقلاعه عن المعاصي، و ركوبه على صراط التقوى، و صيرورته من المحسنين، و استغناءه عن الشفاعة بهذا المعنى، و هذا من أعظم الفوائد، و كذا إذا عين المجرم المشفوع له أو الجرم المشفوع فيه لكن صرح بشموله على بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته فلا يوجب تجري المجرمين قطعا.

  • و القرآن لم ينطق في خصوص المجرمين و في خصوص الذنب بالتعيين و لم ينطق في رفع العقاب إلا بالبعض كما سيجي‌ء فلا إشكال أصلا.

  • الإشكال الخامس: أن العقل لو دل فإنما يدل على إمكان وقوع الشفاعة لا على 

تفسير الميزان ج۱

167
  •  

  • فعلية وقوعها على أن أصل دلالته ممنوع، و أما النقل فما يتضمنه القرآن لا دلالة فيه على وقوعها فإن فيها آيات دالة على نفي الشفاعة مطلقا كقوله: {لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاَ خُلَّةٌ وَ لاَ شَفَاعَةٌ} البقرة - ٢٥٤، و أخرى ناطقة بنفي منفعة الشفاعة كقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ اَلشَّافِعِينَ} المدثر - ٤٨ و أخرى تفيد النفي بمثل قوله تعالى: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} البقرة - ٢٥٥ و قوله: {إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} يونس - ٣، و قوله تعالى: {إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‌} الأنبياء - ٢٨، و مثل هذا الاستثناء أي الاستثناء بالإذن و المشية معهود في أسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للإشعار بأن ذلك بإذنه و مشيته سبحانه كقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسى‌ إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ} الأعلى - ٦، و قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} هود - ١٠٧، فليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة و أما السنة فما دلت عليه الروايات من الخصوصيات لا تعويل عليه، و أما المتيقن منها فلا يزيد على ما في الكتاب دلالة.

  • و الجواب: أما عن الآيات النافية للشفاعة فقد عرفت أنها لا تنفي مطلق الشفاعة بل الشفاعة بغير إذن الله و ارتضائه، و أما عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة على زعم المستشكل فإنها تثبت الشفاعة و لا تنفيه فإن الآيات واقعة في سورة المدثر و إنما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصة من المجرمين لا عن جميعهم، و مع ذلك فالشفاعة مضافة لا مجردة مقطوعة عن الإضافة، ففرق بين أن يقول القائل: فلا تنفعهم الشفاعة و بين أن يقول: فلا تنفعهم شفاعة الشافعين فإن المصدر المضاف يشعر بوقوع الفعل في الخارج بخلاف المقطوع عن الإضافة، نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز فقوله: شفاعة الشافعين يدل على أن شفاعة ما ستقع غير أن هؤلاء لا ينتفعون بها على أن الإتيان بصيغة الجمع في الشافعين يدل على ذلك أيضا كقوله: {كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ} و قوله: {وَ كَانَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ}و قوله: {فَكَانَ مِنَ اَلْغَاوِينَ}و قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي اَلظَّالِمِينَ}و أمثال ذلك، و لو لا ذلك لكان الإتيان بصيغة الجمع و له مدلول زائد على مدلول المفرد لغوا زائدا في الكلام فقوله: فما تنفعهم شفاعة الشافعين من الآيات المثبتة للشفاعة دون النافية.

  • و أما عن الآيات المشتملة على استثناء الإذن و الارتضاء فدلالة قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 

تفسير الميزان ج۱

168
  •  

  • و قوله: {إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}على الوقوع و هو مصدر مضاف مما لا ينبغي أن ينكره عارف بأساليب الكلام و كذا القول: بكون قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ}و قوله: {إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‌}، بمعنى واحد و هو المشية مما لا ينبغي الإصغاء إليه، على أن الاستثناء واقع في مورد الشفاعة بوجوه مختلفة كقوله: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} و {إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}و قوله: {إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‌}، و قوله: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}إلى غير ذلك، فهب: أن الإذن و الارتضاء واحد و هو المشية فهل يمكن التفوه بذلك في قوله: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}. فهل المراد بهذا الاستثناء استثناء المشية أيضا؟ هذا و أمثاله من المساهلة في البيان مما لا يصح نسبته إلى كلام سوقي فكيف بالكلام البليغ! و كيف بأبلغ الكلام! و أما السنة فسيأتي الكلام في دلالتها على ما يحاذي دلالة الكتاب.

  • الإشكال السادس: أن الآيات غير صريحة في رفع العقاب الثابت على المجرمين يوم القيامة بعد ثبوت الجرم و لزوم العقاب بل المراد بها شفاعة الأنبياء بمعنى توسطهم بما هم أنبياء بين الناس و بين ربهم بأخذ الأحكام بالوحي و تبليغها الناس و هدايتهم و هذا المقدار كالبذر ينمو و ينشأ منه ما يستقبله من الأقدار و الأوصاف و الأحوال فهم (علیهم السلام) شفعاء المؤمنين في الدنيا و شفعاؤهم في الآخرة.

  • و الجواب: أنه لا كلام في أن ذلك من مصاديق الشفاعة إلا أن الشفاعة غير مقصورة فيه كما مر بيانه، و من الدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء - ٤٨، و قد مر بيان أن الآية في غير مورد الإيمان و التوبة، و الشفاعة التي قررها المستشكل في الأنبياء إنما هي بطريق الدعوة إلى الإيمان و التوبة.

  • الإشكال السابع: أن طريق العقل لا يوصل إلى تحقق الشفاعة، و ما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفيها تارة و تثبتها أخرى، و ربما قيدتها و ربما أطلقتها، و الأدب الديني الإيمان بها، و إرجاع علمها إلى الله تعالى.

  • و الجواب عنه: أن المتشابهة من الآيات تصير بإرجاعها إلى المحكمات محكمات مثلها، و هو أمر ميسور لنا غير مضروب دونه الستر، كما سيجي‌ء بيانه عند قوله 

تفسير الميزان ج۱

169
  •  

  • تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتَابِ وَ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} آل عمران - ٧ 

  • ٣ - فيمن تجري الشفاعة؟ 

  • قد عرفت أن تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدينية كل الملاءمة إلا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب إبهام و على ذلك جرى بيان القرآن، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اَلْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ اَلْخَائِضِينَ وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ حَتَّى أَتَانَا اَلْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ اَلشَّافِعِينَ} المدثر - ٤٨، بين سبحانه فيها أن كل نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب، مأخوذة بما أسلفت من الخطايا إلا أصحاب اليمين فقد فكوا من الرهن و أطلقوا و استقروا في الجنان، ثم ذكر أنهم غير محجوبين عن المجرمين الذين هم مرهونون بأعمالهم، مأخوذ عليهم في سقر، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار، و هم يجيبون بالإشارة إلى عدة صفات ساقتهم إلى النار، فرع على هذه الصفات بأنه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين.

  • و مقتضى هذا البيان كون أصحاب اليمين غير متصفين بهذه الصفات التي يدل الكلام على كونها هي المانعة عن شمول الشفاعة، و إذا كانوا غير متصفين بهذه الصفات المانعة عن شمول الشفاعة و قد فك الله تعالى نفوسهم عن رهانة الذنوب و الآثام دون المجرمين المحرومين عن الشفاعة، المسلوكين في سقر، فهذا الفك و الإخراج إنما هو بالشفاعة فأصحاب اليمين هم المشفعون بالشفاعة، و في الآيات تعريف أصحاب اليمين بانتفاء الأوصاف المذكورة عنهم، بيان ذلك: أن الآيات واقعة في سورة المدثر و هي من السور النازلة بمكة في بدء البعثة كما ترشد إليه مضامين الآيات الواقعة فيها، و لم يشرع يومئذ الصلاة و الزكاة بالكيفية الموجودة اليوم، فالمراد بالصلاة في قوله لم نك من المصلين التوجه إلى الله تعالى بالخضوع العبودي، و بإطعام المسكين مطلق الإنفاق على المحتاج في سبيل الله، دون الصلاة و الزكاة المعهودتين في الشريعة الإسلامية و الخوض‌ هو الغور في ملاهي الحياة و زخارف الدنيا الصارفة للإنسان عن الإقبال على 

تفسير الميزان ج۱

170
  •  

  • الآخرة و ذكر الحساب يوم الدين، أو التعمق في الطعن في آيات الله المذكرة ليوم الحساب المبشرة المنذرة، و بالتلبس بهذه الصفات الأربعة، و هي ترك الصلاة لله و ترك الإنفاق في سبيل الله و الخوض و تكذيب يوم الدين ينهدم أركان الدين، و بالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فإن الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالإعراض عن الإخلاد إلى الأرض و الإقبال إلى يوم لقاء الله، و هذان هما ترك الخوض و تصديق يوم الدين و لازم هذين عملا التوجه إلى الله بالعبودية، و السعي في رفع حوائج جامعة الحياة و هذان هما الصلاة و الإنفاق في سبيل الله، فالدين يتقوم بحسب جهتي العلم و العمل بهذه الخصال الأربع، و تستلزم بقية الأركان كالتوحيد و النبوة استلزاما هذا، فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة، و هم المرضيون دينا و اعتقادا سواء كانت أعمالهم مرضية غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن، و هم المعنيون بالشفاعة، فالشفاعة للمذنبين من أصحاب اليمين، و قد قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} النساء - ٣١، فمن كان له ذنب باق إلى يوم القيامة فهو لا محالة من أهل الكبائر، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفرا عنه، فقد بان أن الشفاعة لأهل الكبائر من أصحاب اليمين، و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل‌، (الحديث).

  • و من جهة أخرى إنما سمي هؤلاء بأصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال و ربما سموا أصحاب الميمنة في مقابل أصحاب المشأمة، و هو من الألفاظ التي اصطلح عليه القرآن مأخوذ من إيتاء الإنسان يوم القيامة كتابه بيمينه أو بشماله، قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتَابَهُمْ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى‌ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى‌ وَ أَضَلُّ سَبِيلاً} إسراء - ٧٢، و سنبين في الآية إن شاء الله تعالى أن المراد من إيتاء الكتاب باليمين اتباع الإمام الحق، و من إيتائه بالشمال اتباع إمام الضلال كما قال تعالى في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ} هود - ٩٨، و بالجملة مرجع التسمية بأصحاب اليمين أيضا إلى ارتضاء الدين كما أن إليه مرجع التوصيف بالصفات الأربعة المذكورة هذا.

  • ثم إنه تعالى قال في موضع آخر من كلامه: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى}‌

تفسير الميزان ج۱

171
  •  

  • الأنبياء - ٢٨، فأثبت الشفاعة على من ارتضى، و قد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل و نحوه، كما فعله في قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً} طه - ١٠٩، ففهمنا أن المراد به ارتضاء أنفسهم أي ارتضاء دينهم لا ارتضاء عملهم، فهذه الآية أيضا ترجع من حيث الإفادة إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ثم إنه تعالى قال: {يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ إِلى‌ جَهَنَّمَ وِرْداً لاَ يَمْلِكُونَ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً}فهو يملك الشفاعة (أي المصدر المبني للمفعول) و ليس كل مجرم بكافر محتوم له النار، بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَ لاَ يَحْيى‌ وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ اَلصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجَاتُ اَلْعُلى‌} طه - ٧٥، فمن لم يكن مؤمنا قد عمل صالحا فهو مجرم سواء كان لم يؤمن، أو كان قد آمن و لم يعمل صالحا، فمن المجرمين من كان على دين الحق لكنه لم يعمل صالحا و هو الذي قد اتخذ عند الله عهدا لقوله تعالى: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هَذا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} يس - ٦١ فقوله تعالى: {وَ أَنِ اُعْبُدُونِي}عهد بمعنى الأمر و قوله تعالى: {هَذا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة و النجاة، فهؤلاء قوم من أهل الإيمان يدخلون النار لسوء أعمالهم، ثم ينجون منها بالشفاعة، و إلى هذا المعنى يلوح قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللَّهِ عَهْداً} البقرة - ٨٠، فهذه الآيات أيضا ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة، و الجميع تدل على أن مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيمة هم الدائنون بدين الحق من أصحاب الكبائر، و هم الذين ارتضى الله دينهم.

  • ٤ - من تقع منه الشفاعة؟ 

  • قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية، و منها تشريعية، فأما الشفاعة التكوينية فجملة الأسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه و بين الأشياء. و أما الشفاعة التشريعية، و هي الواقعة في عالم التكليف و المجازات، فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قربا و زلفى، فهو شفيع متوسط بينه و بين عبده. و منه 

تفسير الميزان ج۱

172
  •  

  • التوبة كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‌ رَبِّكُمْ} الزمر - ٥٤، و يعم شموله لجميع المعاصي حتى الشرك. و منه الإيمان قال تعالى: {آمِنُوا بِرَسُولِهِ}، إلى قوله: {وَ يَغْفِرْ لَكُمْ} الحديد - ٢٨. و منه كل عمل صالح. قال تعالى: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ} المائدة - ٩، و قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ} المائدة - ٣٥ و الآيات فيه كثيرة، و منه القرآن لقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اَللَّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ اَلسَّلاَمِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المائدة - ١٦.

  • و منه كل ما له ارتباط بعمل صالح، و المساجد و الأمكنة المتبركة و الأيام الشريفة، و منه الأنبياء و الرسل باستغفارهم لأممهم. قال تعالى: {وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللَّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} النساء - ٦٤. و منه الملائكة في استغفارهم للمؤمنين، قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} المؤمن - ٧، و قال تعالى: {وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ} الشورى - ٥، و منه المؤمنون باستغفارهم لأنفسهم و لإخوانهم المؤمنين.قال تعالى حكاية عنهم {وَ اُعْفُ عَنَّا وَ اِغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا} البقرة - ٢٧٦.

  • و منها الشفيع يوم القيمة بالمعنى الذي عرفت فمنهم الأنبياء. قال تعالى: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} إلى أن قال: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‌} الأنبياء - ٢٩، فإن منهم عيسى بن مريم و هو نبي، و قال تعالى: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ} الزخرف - ٨٦، و الآيتان تدلان على جواز الشفاعة من الملائكة أيضا لأنهم قالوا إنهم بنات الله سبحانه. و منهم الملائكة.قال تعالى: {وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَرْضى‌} النجم - ٢٦، و قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ} طه - ١١٠، و منهم الشهداء 

تفسير الميزان ج۱

173
  •  

  • لدلالة قوله تعالى: {وَ لا يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ} الزخرف - ٨٦، على تملكهم للشفاعة لشهادتهم بالحق، فكل شهيد فهو شفيع يملك الشهادة غير أن هذه الشهادة كما مر في سورة الفاتحة و سيأتي في قوله تعالى: {وَ كَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنَّاسِ} البقرة - ١٤٣ شهادة الأعمال دون الشهادة بمعنى القتل في معركة القتال، و من هنا يظهر أن المؤمنين أيضا من الشفعاء فإن الله عز و جل أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة، قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الحديد - ١٩، كما سيجي‌ء بيانه.

  • ٥ - بما ذا تتعلق الشفاعة؟ 

  • قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية تتعلق بكل سبب تكويني في عالم الأسباب و منها شفاعة تشريعية متعلقة بالثواب و العقاب فمنها ما يتعلق بعقاب كل ذنب، الشرك فما دونه كشفاعة التوبة و الإيمان قبل يوم القيامة و منها ما يتعلق بتبعات بعض الذنوب كبعض الأعمال الصالحة، و أما الشفاعة المتنازع فيها و هي شفاعة الأنبياء و غيرهم يوم القيامة لرفع العقاب ممن استحقه بالحساب، فقد عرفت في الأمر الثالث أن متعلقها أهل المعاصي الكبيرة ممن يدين دين الحق و قد ارتضى الله دينه.

  • ٦ - متى تنفع الشفاعة؟ 

  • و نعني بها أيضا الشفاعة الرافعة للعقاب، و الذي يدل عليه قوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اَلْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} المدثر - ٤٢، فالآيات كما مر دالة على توصيف من تناله الشفاعة و من يحرم منها غير أنها تدل على أن الشفاعة إنما تنفع في الفك عن هذه الرهانة و الإقامة و الخلود في سجن النار، و أما ما يتقدم عليه من أهوال يوم القيامة و عظائمها فلا دليل على وقوع شفاعة فيها لو لم تدل الآية على انحصار الشفاعة في الخلاص من رهانة النار.

  • و اعلم أنه يمكن أن يستفاد من هذه الآيات وقوع هذا التساؤل بعد استقرار 

تفسير الميزان ج۱

174
  •  

  • أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار و تعلق الشفاعة بجمع من المجرمين بإخراجهم من النار، و ذلك لمكان قوله: {فِي جَنَّاتٍ}، الدال على الاستقرار و قوله: {مَا سَلَكَكُمْ} فإن السلوك‌ هو الإدخال لكن لا كل إدخال بل إدخال على سبيل النضد و الجمع و النظم ففيه معنى الاستقرار و كذا قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ}، فإن ما لنفي الحال، فافهم ذلك.

  • و أما نشأة البرزخ و ما يدل على حضور النبي (صلي الله علیه و أله و سلم) و الأئمة (علیهم السلام) عند الموت و عند مساءلة القبر و إعانتهم إياه على الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} النساء - ١٥٨، فليس من الشفاعة عند الله في شي‌ء و إنما هو من سبيل التصرفات و الحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه، قال تعالى: {وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ}، إلى أن قال: {وَ نَادى‌ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنى‌ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اَللَّهُ بِرَحْمَةٍ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} الأعراف - ٤٦، ٤٨، ٤٩، و من هذا القبيل من وجه قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} إسراء - ٧١، فوساطة الإمام في الدعوة، و إيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فافهم.

  • فتحصل أن المتحصل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة باستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار، أو إخراج بعض من كان داخلا فيها، باتساع الرحمة أو ظهور الكرامة.

  • (بحث روائي) بحث آخر في الشفاعة.

  • في أمالي الصدوق، عن الحسين بن خالد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي - و من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ثم قال (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل، قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا (علیه السلام) يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز و جل: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‌} قال (علیه السلام) 

تفسير الميزان ج۱

175
  •  

  • لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه.

  • أقول: قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): إنما شفاعتي، هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعددة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد مر استفادة معناه من الآيات.

  • و في تفسير العياشي، عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم (علیه السلام): في قول الله: {عَسى‌ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}، قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاما و يؤمر الشمس، فيركب على رءوس العباد، و يلجمهم العرق، و يؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئا - فيأتون آدم فيستشفعون منه فيدلهم على نوح، و يدلهم نوح على إبراهيم، و يدلهم إبراهيم على موسى، و يدلهم موسى على عيسى، و يدلهم عيسى فيقول: عليكم بمحمد خاتم البشر فيقول محمد (صلى الله عليه وآله و سلم): أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا؟ و الله أعلم فيقول: محمد، فيقال: افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا رفع رأسه حتى يقال له: تكلم و سل تعط و اشفع تشفع فيرفع رأسه و يستقبل ربه فيخر ساجدا - فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى إنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو قول الله تعالى: {عَسى‌ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}.

  • أقول: و هذا المعنى مستفيض مروي بالاختصار و التفصيل بطرق متعددة من العامة و الخاصة، و فيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة، و لا ينافي ذلك كون غيره (صلى الله عليه وآله و سلم) من الأنبياء، و غيرهم جائز الشفاعة لإمكان كون شفاعتهم فرعا لشفاعته فافتتاحها بيده (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • و في تفسير العياشي، أيضا: عن أحدهما (علیه السلام): في قوله تعالى: {عَسى‌ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}، قال: هي الشفاعة.

  • و في تفسير العياشي، أيضا: عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله (علیه السلام) عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال: نعم فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) يومئذ؟ قال: نعم إن للمؤمنين خطايا و ذنوبا و ما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ. قال: و سأله رجل عن قول رسول الله: أنا سيد ولد آدم و لا 

تفسير الميزان ج۱

176
  •  

  • فخر. قال نعم. قال: يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا - فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع اطلب تعط - فيرفع رأسه ثم يخر ساجدا - فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع و اطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع فيشفع و يطلب فيعطى.

  • و في تفسير الفرات: عن محمد بن القاسم بن عبيد معنعنا عن بشر بن شريح البصري قال: قلت لمحمد بن علي (علیه السلام)، أية آية في كتاب الله أرجى؟ قال: فما يقول فيها قومك؟ قلت: يقولون: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ}.قال: لكنا أهل بيت لا نقول ذلك. قال: قلت: فأي شي‌ء تقولون فيها؟ قال: نقول: {وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‌}؛ الشفاعة و الله الشفاعة و الله الشفاعة.

  • أقول: أما كون قوله تعالى: {عَسى‌ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}؛ (الآية) مقام الشفاعة فربما ساعد عليه لفظ الآية أيضا مضافا إلى ما استفاض عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه مقام الشفاعة فإن قوله تعالى: {أَنْ يَبْعَثَكَ}يدل على أنه مقام سيناله يوم القيامة. و قوله: {مَحْمُوداً} مطلق فهو حمد غير مقيد يدل على وقوعه من جميع الناس من الأولين و الآخرين، و الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري ففيه دلالة على وقوع فعل منه (صلى الله عليه وآله و سلم) ينتفع به و يستفيد منه الكل فيحمده عليه، و لذلك‌ قال (علیه السلام) في رواية عبيد بن زرارة السابقة: و ما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ (الحديث). و سيجي‌ء بيان هذا المعنى بوجه آخر وجيه.

  • و أما كون قوله تعالى: {وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‌}، أرجى آية في كتاب الله دون قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا} (الآية)، فإن النهي عن القنوط و إن تكرر ذكره في القرآن الشريف إلا أن قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) حكاية عن إبراهيم (علیه السلام): قال: {وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضَّالُّونَ} حجر ٥٦، و قوله تعالى حكاية عن يعقوب (علیه السلام): {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ} يوسف - ٨٧، ناظرتان إلى اليأس و القنوط من الرحمة التكوينية بشهادة المورد.

  • و أما قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ 

تفسير الميزان ج۱

177
  •  

  • اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‌ رَبِّكُمْ} الزمر - ٥٤، إلى آخر الآيات فهو و إن كان نهيا عن القنوط من الرحمة التشريعية بقرينة قوله تعالى {أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ} الظاهر في كون القنوط في الآية قنوطا من جهة المعصية، و قد عمم سبحانه المغفرة للذنوب جميعا من غير استثناء، و لكنه تعالى ذيله بالأمر بالتوبة و الإسلام و العمل بالاتباع فدلت الآية على أن العبد المسرف على نفسه لا ينبغي له أن يقنط من روح الله ما دام يمكنه اختبار التوبة و الإسلام و العمل الصالح.

  • و بالجملة فهذه رحمة مقيدة أمر الله تعالى عباده بالتعلق بها، و ليس رجاء الرحمة المقيدة كرجاء الرحمة العامة و الإعطاء، و الإرضاء المطلقين الذين وعدهما الله لرسوله الذي جعله رحمة للعالمين. ذلك الوعد يطيب نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بقوله تعالى: {وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‌} (الآية).

  • توضيح ذلك: أن الآية في مقام الامتنان و فيها وعد يختص به رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يعد الله سبحانه بمثله أحدا من خلقه قط، و لم يقيد الإعطاء بشي‌ء فهو إعطاء مطلق و قد وعد الله ما يشابه ذلك فريقا من عباده في الجنة فقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الشورى - ٢٢، و قال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ} ق - ٣٥، فأفاد أن لهم هناك ما هو فوق مشيتهم، و المشية تتعلق بكل ما يخطر ببال الإنسان من السعادة و الخير، فهناك ما لا يخطر على قلب بشر كما قال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} السجدة - ١٧، فإذا كان هذا قدر ما أعطاه الله على عباده الذين آمنوا و عملوا الصالحات و هو أمر فوق القدر كما عرفت ذلك فما يعطيه لرسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) في مقام الامتنان أوسع من ذلك و أعظم فافهم.

  • فهذا شأن إعطائه تعالى، و أما شأن رضى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فمن المعلوم أن هذا الرضا ليس هو الرضا بما قسم الله، الذي هو زميل لأمر الله. فإن الله هو المالك الغني على الإطلاق و ليس للعبد إلا الفقر و الحاجة فينبغي أن يرضى بقليل ما يعطيه ربه و كثيره و ينبغي أن يرضى بما قضاه الله في حقه، سره ذلك أو ساءه، فإذا كان هذا هكذا فرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أعلم و أعمل، لا يريد إلا ما يريده الله في حقه، لكن هذا 

تفسير الميزان ج۱

178
  •  

  • الرضا حيث وضع في مقابل الإعطاء يفيد معنى آخر نظير إغناء الفقير بما يشكو فقده، و إرضاء الجائع بإشباعه فهو الإرضاء بالإعطاء من غير تحديد، و هذا أيضا مما وعد الله ما يشابهه لفريق من عباده. قال عز من قائل: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} البينة - ٨، و هذا أيضا لموقع الامتنان و الاختصاص يجب أن يكون أمرا فوق ما للمؤمنين و أوسع من ذلك، و قد قال تعالى: في حق رسوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} التوبة - ١٢٨، فصدق رأفته و كيف يرضى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و يطيب نفسه أن يتنعم بنعيم الجنة و يرتاض في رياضه و فريق من المؤمنين متغلغلون في دركات السعير، مسجونون تحت أطباق النار و هم معترفون لله بالربوبية، و لرسوله بالرسالة، و لما جاء به بالصدق، و إنما غلبت عليهم الجهالة، و لعب بهم الشيطان، فاقترفوا معاصي من غير عناد و استكبار. و الواحد منا إذا راجع ما أسلفه من عمره و نظر إلى ما قصر به في الاستكمال و الارتقاء يلوم نفسه بالتفريط في سعيه و طلبه ثم يلتفت إلى جهالة الشباب و نقص التجارب فربما خمدت نار غضبه و انكسرت سورة ملامته لرحمة ناقصة أودعها الله فطرته، فما ظنك برحمة رب العالمين في موقف ليس فيه إلا جهالة إنسان ضعيف و كرامة النبي الرءوف الرحيم و رحمة أرحم الراحمين. و قد رأى ما رأى من وبال أمره من لدن نشبت عليه أظفار المنية إلى آخر مواقف يوم القيامة.

  • و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (الآية)، عن أبي العباس المكبر قال: دخل مولى لامرأة علي بن الحسين يقال له: أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغرون الناس و تقولون: شفاعة محمد، شفاعة محمد؛ فغضب أبو جعفر حتى تربد وجهه، ثم قال: ويحك يا أبا أيمن أ غرك أن عف بطنك و فرجك؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيمة لقد احتجت إلى شفاعة محمد، ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار؟ قال: ما من أحد من الأولين و الآخرين إلا و هو محتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم القيامة، ثم قال أبو جعفر: إن لرسول الله الشفاعة في أمته، و لنا شفاعة في شيعتنا، و لشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثم قال: و إن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة و مضر، و إن المؤمن ليشفع لخادمه و يقول: يا رب حق خدمتي كان يقيني الحر و البرد.

تفسير الميزان ج۱

179
  •  

  • أقول: قوله (علیه السلام): ما من أحد من الأولين و الآخرين إلا و هو محتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ظاهرة أن هذه الشفاعة العامة غير التي ذكرها بقوله: ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار؛ و قد مر نظير هذا المعنى في رواية العياشي عن عبيد بن زرارة عن الصادق (علیه السلام). و في هذا المعنى روايات أخر روتها العامة و الخاصة، و يدل عليه قوله تعالى: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ} الزخرف - ٨٦، حيث يفيد أن الملاك في الشفاعة هو الشهادة، فالشهداء هم الشفعاء المالكون للشفاعة، و سيأتي إن شاء الله في قوله تعالى: {وَ كَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}البقرة - ١٤٣، أن الأنبياء شهداء و أن محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) شهيد عليهم، فهو (صلى الله عليه وآله و سلم) شهيد الشهداء فهو شفيع الشفعاء و لو لا شهادة الشهداء لما قام للقيامة أساس.

  • و في تفسير القمي، أيضا: في قوله تعالى: {وَ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.قال (علیه السلام): لا يشفع أحد من أنبياء الله و رسله حتى يأذن الله له إلا رسول الله فإن الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة، و الشفاعة له و للأئمة من ولده ثم من بعد ذلك للأنبياء.

  • و في الخصال: عن علي (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ثلاثة يشفعون إلى الله عز و جل فيشفعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء.

  • أقول: الظاهر أن المراد بالشهداء، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الأئمة في الأخبار لا شهداء الأعمال كما هو مصطلح القرآن.

  • و في الخصال، في حديث الأربعمائة: و قال (علیه السلام): لنا شفاعة و لأهل مودتنا شفاعة.

  • أقول: و هناك روايات كثيرة في شفاعة سيدة النساء فاطمة (علیه السلام) و شفاعة ذريتها غير الأئمة و شفاعة المؤمنين حتى السقط منهم.ففي الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة و لو بالسقط يقوم محبنطئا على باب الجنة فيقال له: ادخل فيقول: لا حتى يدخل أبواي‌. (الحديث).

  • و في الخصال، عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (علیه السلام) قال: إن للجنة 

تفسير الميزان ج۱

180
  •  

  • ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون و الصديقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبونا، فلا أزال واقفا على الصراط أدعو و أقول: رب سلم شيعتي و محبي و أنصاري و من تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش، قد أجيبت دعوتك، و شفعت في شيعتك، و يشفع كل رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من عاداني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه و أقربائه، و باب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله و لم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت.

  • و في الكافي: عن حفص المؤذن عن أبي عبد الله (علیه السلام) في رسالته إلى أصحابه قال (علیه السلام): و اعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرب و لا نبي مرسل و لا من دون ذلك من سره أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه.

  • و في تفسير الفرات: بإسناده عن الصادق (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: قال جابر لأبي جعفر (علیه السلام): جعلت فداك يا بن رسول الله حدثني بحديث في جدتك فاطمة و ساق الحديث يذكر فيه شفاعة فاطمة يوم القيامة - إلى أن قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): فوالله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَ لاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين، قال أبو جعفر (علیه السلام): هيهات هيهات منعوا ما طلبوا و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون.

  • أقول: تمسكه (علیه السلام) بقوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} يدل على استشعار دلالة الآيات على وقوع الشفاعة و قد تمسك بها النافون للشفاعة على نفيها و قد اتضح مما قدمناه في قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ اَلشَّافِعِينَ} وجه دلالتها عليها في الجملة، فلو كان المراد مجرد النفي لكان حق الكلام أن يقال: فما لنا من شفيع و لا صديق حميم، فالإتيان في حيز النفي بصيغة الجمع يدل على وقوع شفاعة من جماعة و عدم نفعها في حقهم، مضافا إلى أن قوله تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} بعد قوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَ لاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} المسوق للتحسر تمن واقع في حيز التحسر و من المعلوم أن التمني في حيز التحسر إنما يكون بما يتضمن ما فقده و يشتمل على ما تحسر 

تفسير الميزان ج۱

181
  •  

  • عليه فيكون معنى قولهم: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}معناه يا ليتنا نرد فنكون من المؤمنين حتى ننال الشفاعة من الشافعين كما نالها المؤمنون، فالآية من الآيات الدالة على وقوع الشفاعة.

  • و في التوحيد: عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، قيل: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر، و الله تعالى يقول: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‌} و من ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟ فقال (علیه السلام): ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك و ندم عليه، و قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): كفى بالندم توبة، و قال (صلى الله عليه وآله و سلم) من سرته حسنة و ساءته سيئة فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن و لم تجب له الشفاعة و كان ظالما و الله تعالى ذكره يقول: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}، فقيل له: يا بن رسول الله و كيف لا يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي و هو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب، و متى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، و متى لم يندم عليها كان مصرا و المصر لا يغفر له، لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار، و أما قول الله عز و جل: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‌} فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، و الدين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيئات، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة.

  • أقول: قوله (علیه السلام) و كان ظالما، فيه تعريف الظالم يوم القيامة و إشارة إلى ما عرفه به القرآن حيث يقول: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} الأعراف - ٤٤ و ٤٥، و هو الذي لا يعتقد بيوم المجازاة فلا يتأسف على فوت أوامر الله تعالى و لا يسوؤه اقتحام محارمه إما بجحد جميع المعارف الحقة و التعاليم الدينية و إما بالاستهانة لأمرها و عدم الاعتناء بالجزاء و الدين يوم الجزاء و الدين فيكون قوله به استهزاء بأمره و تكذيبا له، و قوله (علیه السلام): فتكون تائبا مستحقا للشفاعة، أي راجعا إلى الله ذا دين 

تفسير الميزان ج۱

182
  •  

  • مرضي مستحقا للشفاعة، و أما التوبة المصطلحة فهي بنفسها شفيعة منجية، و قوله (علیه السلام): و قد قال النبي لا كبيرة مع الاستغفار، إلخ تمسكه (علیه السلام) به من جهة أن الإصرار و هو عدم الانقباض بالذنب و الندم عليه يخرج الذنب عن شأنه الذي له إلى شأن آخر و هو تكذيب المعاد و الظلم بآيات الله فلا يغفر لأن الذنب إنما يغفر إما بتوبة أو بشفاعة متوقفة على دين مرضي و لا توبة هناك و لا دين مرضيا.

  • و نظير هذا المعنى واقع‌ في رواية العلل، عن أبي إسحاق الليثي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (علیه السلام): يا بن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة و كمل هل يزني؟ قال: اللهم لا، قلت: فيلوط قال اللهم لا، قلت فيسرق؟ قال لا، قلت: فيشرب الخمر؟ قال: لا قلت: فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش؟ قال لا، قلت فيذنب ذنبا؟ قال: نعم و هو مؤمن مذنب مسلم، قلت: ما معنى مسلم؟ قال: المسلم لا يلزمه و لا يصر عليه. (الحديث).

  • و في الخصال: بأسانيد عن الرضا عن آبائه (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا كان يوم القيامة تجلى الله عز و جل لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر الله له لا يطلع الله له ملكا مقربا و لا نبيا مرسلا و يستر عليه أن يقف عليه أحد، ثم يقول لسيئاته: كوني حسنات.

  • و عن صحيح مسلم، مرفوعا إلى أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه و نحوا عنه كبارها - فيقال: عملت يوم كذا و كذا و كذا و هو مقر لا ينكر و هو مشفق من الكبائر فيقال: أعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول: إن لي ذنوبا ما أراها هاهنا، قال: و لقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه.

  • و في الأمالي: عن الصادق (علیه السلام): إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك و تعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته.

  • أقول: و الروايات الثلاث الأخيرة من المطلقات و الأخبار الدالة على وقوع 

تفسير الميزان ج۱

183
  •  

  • شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم القيامة من طرق أئمة أهل البيت و كذا من طرق أهل السنة و الجماعة بالغة حد التواتر، و هي من حيث المجموع إنما تدل على معنى واحد و هو الشفاعة على المذنبين من أهل الإيمان إما بالتخليص من دخول النار و إما بالإخراج منها بعد الدخول فيها، و المتيقن منها عدم خلود المذنبين من أهل الإيمان في النار و قد عرفت أن القرآن أيضا لا يدل على أزيد من ذلك.

  • (بحث فلسفي) بحث آخر في الشفاعة

  • البراهين العقلية و إن قصرت عن إعطاء التفاصيل الواردة كتابا و سنة في المعاد لعدم نيلها المقدمات المتوسطة في الاستنتاج على ما ذكره الشيخ ابن سينا لكنها تنال ما يستقبله الإنسان من كمالاته العقلية و المثالية في صراطي السعادة و الشقاوة بعد مفارقة نفسه بدنه من جهة التجرد العقلي و المثالي الناهض عليهما البرهان.

  • فالإنسان في بادئ أمره يحصل له من كل فعل يفعله هيئة نفسانية و حال من أحوال السعادة و الشقاوة، و نعني بالسعادة ما هو خير له من حيث إنه إنسان، و بالشقاوة ما يقابل ذلك، ثم تصير تلك الأحوال بتكررها ملكة راسخة، ثم يتحصل منها صورة سعيدة أو شقية للنفس تكون مبدأ لهيئات و صور نفسانية، فإن كانت سعيدة فآثارها وجودية ملائمة للصورة الجديدة، و للنفس التي هي بمنزلة المادة القابلة لها، و إن كانت شقية فآثارها أمور عدمية ترجع بالتحليل إلى الفقدان و الشر، فالنفس السعيدة تلتذ بآثارها بما هي إنسان، و تلتذ بها بما هي إنسان سعيد بالفعل، و النفس الشقية و إن كانت آثارها مستأنسة لها و ملائمة بما أنها مبدأ لها لكنها تتألم بها بما أنها إنسان، هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة في جانب السعادة و الشقاوة، أعني الإنسان السعيد ذاتا و الصالح عملا و الإنسان الشقي ذاتا و الطالح عملا، و أما الناقصة في سعادتها و شقاوتها فالإنسان السعيد ذاتا الشقي فعلا بمعنى أن يكون ذاته ذات صورة سعيدة بالاعتقاد الحق الثابت غير أن في نفسه هيئات شقية ردية من الذنوب و الآثام اكتسبتها حين تعلقها بالبدن الدنيوي و ارتضاعها من ثدي الاختيار، فهي أمور قسرية غير ملائمة لذاته، و قد أقيم البرهان على أن القسر لا يدوم، فهذه النفس سترزق التطهر منها في برزخ أو 

تفسير الميزان ج۱

184
  •  

  • قيمة على حسب قوة رسوخها في النفس، و كذلك الأمر فيما للنفس الشقية من الهيئات العارضة السعيدة فإنها ستسلب عنها و تزول سريعا أو بطيئا، و أما النفس التي لم تتم لها فعلية السعادة و الشقاوة في الحياة الدنيا حتى فارقت البدن مستضعفة ناقصة فهي من المرجئين لأمر الله عز و جل، فهذا ما يقتضيه البراهين في المجازاة بالثواب و العقاب المقتضية لكونها من لوازم الأعمال و نتائجها، لوجوب رجوع الروابط الوضعية الاعتبارية بالآخرة إلى روابط حقيقية وجودية هذا.

  • ثم إن البراهين قائمة على أن الكمال الوجودي مختلف بحسب مراتب الكمال و النقص و الشدة و الضعف و هو التشكيك خاصة في النور المجرد فلهذه النفوس مراتب مختلفة في القرب و البعد من مبدإ الكمال و منتهاه في سيرها الارتقائي و عودها إلى ما بدأت منها و هي بعضها فوق بعض، و هذه شأن العلل الفاعلية (بمعنى ما به) و وسائط الفيض، فلبعض النفوس و هي النفوس التامة الكاملة كنفوس الأنبياء (علیه السلام) و خاصة من هو في أرقى درجات الكمال و الفعلية وساطة في زوال الهيئات الشقية الردية القسرية من نفوس الضعفاء، و من دونهم من السعداء إذا لزمتها قسرا، و هذه هي الشفاعة الخاصة بأصحاب الذنوب.

  • (بحث اجتماعي) بحث آخر في الشفاعة 

  • الذي تعطيه أصول الاجتماع أن المجتمع الإنساني لا يقدر على حفظ حياته و إدامة وجوده إلا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، و الحكومة في أعمال الأفراد و شئونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع و غريزة الأفراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كل على حسب ما يلائم شأنه و يناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيرا حثيثا و يتولد بتألف أطرافه و تفاعل متفرقاته العدل الاجتماعي و هي موضوعة على مصالح و منافع مادية يحتاج إليها ارتقاء الاجتماع المادي، و على كمالات معنوية كالأخلاق الحسنة الفاضلة التي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول و الوفاء بالعهد و النصح و غير ذلك، و حيث كانت القوانين و الأحكام وضعية غير حقيقية احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقررة أخرى في المجازاة لتكون 

تفسير الميزان ج۱

185
  •  

  • هي الحافظة لحماها عن تعدي الأفراد المتهوسين و تساهل آخرين، و لذلك كلما قويت حكومة (أي حكومة كانت) على إجراء مقررات الجزاء لم يتوقف المجتمع في سيره و لا ضل سائره عن طريقه و مقصده، و كلما ضعفت اشتد الهرج و المرج في داخله و انحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، و إيجاد الإيمان به في نفوس الأفراد، و من الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلص عن حكم الجزاء، و تبعة المخالفة و العصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشي‌ء من الحيل و الدسائس المهلكة، و لذلك نقموا على الديانة المسيحية ما وقع فيها أن المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة و يكون الدين إذ ذاك هادما للإنسانية، مؤخرا للمدنية، راجعا بالإنسان القهقرى كما قيل. و أن الإحصاء يدل من أن المتدينين أكثر كذبا و أبعد من العدل من غيرهم و ليس ذلك إلا أنهم يتكلون بحقية دينهم، و ادخار الشفاعة في حقهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنهم خلوا و غرائزهم و فطرهم و لم يبطل حكمها بما بطل به في المتدينين فحكمت بقبح التخلف عما يخالف حكم الإنسانية و المدنية الفاضلة.

  • و بذلك عول جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الإسلام و قد نطق به الكتاب و تواترت عليه السنة.

  • و لعمري لا الإسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الذي فسروها به، و لا الشفاعة التي تثبتها تؤثر الأثر الذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصل الباحث في المعارف الدينية و تطبيق ما شرعه الإسلام على هيكل الاجتماع الصالح و المدنية الفاضلة تمام ما رامه الإسلام من الأصول و القوانين المنطبقة على الاجتماع كيفية ذلك التطبيق، ثم يحصل ما هي الشفاعة الموعودة و ما هو محلها و موقعها بين المعارف التي جاء بها.

  • فيعلم أولا: أن الذي يثبته القرآن من الشفاعة هو أن المؤمنين لا يخلدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربهم بالإيمان المرضي و الدين الحق فهو وعد وعده القرآن مشروطا ثم نطق بأن الإيمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب و لا سيما الكبائر و لا سيما الإدمان منها و الإمرار فيها، فهو شفا جرف الهلاك الدائم، 

تفسير الميزان ج۱

186
  •  

  • و بذلك يتحصل رجاء النجاة و خوف الهلاك، و يسلك نفس المؤمن بين الخوف و الرجاء فيعبد ربه رغبة و رهبة، و يسير في حياته سيرا معتدلا غير منحرف لا إلى خمود القنوط و لا إلى كسل الوثوق.

  • و ثانيا: أن الإسلام قد وضع من القوانين الاجتماعية من مادياتها و معنوياتها ما يستوعب جميع الحركات و السكنات الفردية و الاجتماعية، ثم اعتبر لكل مادة من موادها ما هو المناسب له من التبعة و الجزاء من دية و حد و تعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع و اللوم و الذم و التقبيح، ثم تحفظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الأمر، بتسليط الكل على الكل بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ثم أحيا ذلك بنفخ روح الدعوة الدينية المضمنة بالإنذار و التبشير بالعقاب و الثواب في الآخرة، و بنى أساس تربيته بتلقين معارف المبدإ و المعاد على هذا الترتيب.

  • فهذا ما يرومه الإسلام بتعليمه، جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و صدقه التجارب الواقع في عهده و عهد من يليه حتى أثبت به أيدي الولاة في السلطنة الأموية و من شايعهم في استبدادهم و لعبهم بأحكام الدين و إبطالهم الحدود و السياسات الدينية حتى آل الأمر إلى ما آل إليه اليوم و ارتفعت أعلام الحرية و ظهرت المدنية الغربية و لم يبق من الدين بين المسلمين إلا كصبابة في إناء فهذا الضعف البين في سياسة الدين و ارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزلهم في الفضائل و الفواضل و انحطاطهم في الأخلاق و الآداب الشريفة و انغمارهم في الملاهي و الشهوات و خوضهم في الفواحش و المنكرات، هو الذي أجرأهم على انتهاك كل حرمة و اقتراف كل ما يستشنعه حتى غير المنتحل بالدين لا ما يتخيله المعترض من استناد الفساد إلى بعض المعارف الدينية التي لا غاية لها و فيها إلا سعادة الإنسان في آجله و عاجله و الله المعين، و الإحصاء الذي ذكروها إنما وقع على جمعية المتدينين و ليس عليهم قيم و لا حافظ قوي و على جمعية غير المنتحلين، و التعليم و التربية الاجتماعيان قيمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعي فلا يفيد فيما أراده شيئا \

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٤٩ الی ٦١] 

  • {وَ إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ 

تفسير الميزان ج۱

187
  • يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ٤٩ وَ إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ اَلْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَ أَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ٥٠وَ إِذْ وَاعَدْنَا مُوسى‌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظَالِمُونَ ٥١ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٥٢ وَ إِذْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ وَ اَلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ٥٣ وَ إِذْ قَالَ مُوسى‌ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ اَلْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى‌ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ ٥٤ وَ إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى‌ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اَللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ٥٥ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٥٦ وَ ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ اَلْغَمَامَ وَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى‌ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ مَا ظَلَمُونَا وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٥٧ وَ إِذْ قُلْنَا اُدْخُلُوا هَذِهِ اَلْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ اُدْخُلُوا اَلْبَابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ ٥٨ فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ اَلسَّماءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ٥٩ وَ إِذِ اِسْتَسْقى‌ مُوسى‌ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا}

تفسير الميزان ج۱

188
  •  

  • }اِضْرِبْ بِعَصَاكَ اَلْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اَللَّهِ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٦٠وَ إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى‌ لَنْ نَصْبِرَ عَلى‌ طَعَامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَ قِثَّائِهَا وَ فُومِهَا وَ عَدَسِهَا وَ بَصَلِهَا قَالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ اَلَّذِي هُوَ أَدْنى‌ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ وَ بَاؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ ٦١

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {وَ يَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}، أي يتركونهن أحياء للخدمة من غير أن يقتلوهن كالأبناء فالاستحياء طلب الحياة و يمكن أن يكون المعنى و يفعلون ما يوجب زوال حيائهن من المنكرات، و معنى يسومونكم يولونكم.

  • قوله تعالى: {وَ إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ}الفرق‌ مقابل الجمع كالفصل و الوصل، و الفرق في البحر الشق و الباء للسببية أو الملابسة أي فرقنا لإنجائكم البحر أو لملابستكم دخول البحر.

  • قوله تعالى: {وَ إِذْ وَاعَدْنَا مُوسى‌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} و قص تعالى القصة في سورة الأعراف بقوله: {وَ وَاعَدْنَا مُوسى‌ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} الأعراف - ١٤٢، فعد المواعدة فيها أربعين ليلة إما للتغليب أو لأنه كانت العشرة الأخيرة بمواعدة أخرى فالأربعون مجموع المواعدتين كما وردت به الرواية.

تفسير الميزان ج۱

189
  •  

  • قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلى‌ بَارِئِكُمْ}البارئ‌ من الأسماء الحسنى كما قال تعالى: {هُوَ اَللَّهُ اَلْخَالِقُ اَلْبَارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى‌} الحشر - ٢٤، وقع في ثلاث مواضع من كلامه تعالى: اثنان منها في هذه الآية و لعله خص بالذكر هاهنا من بين الأسماء الملائمة معناه للمورد لأنه قريب المعنى من الخالق و الموجد، من برأ يبرأ براء إذا فصل لأنه يفصل الخلق من العدم أو الإنسان من الأرض، فكأنه تعالى يقول: هذه التوبة و قتلكم أنفسكم و إن كان أشق ما يكون من الأوامر لكن الله الذي أمركم بهذا الفناء و الزوال بالقتل هو الذي برأكم فالذي أحب وجودكم و هو خير لكم هو يحب الآن حلول القتل عليكم فهو خير لكم و كيف لا يحب خيركم و قد برأكم، فاختيار لفظ البارئ بإضافته إليهم في قوله: {إِلى‌ بَارِئِكُمْ}، و قوله: {عِنْدَ بَارِئِكُمْ} للإشعار بالاختصاص لإثارة المحبة.

  • قوله تعالى: {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} ظاهر الآية و ما تقدمها أن هذه الخطابات و ما وقع فيها من عد أنواع تعدياتهم و معاصيهم إنما نسبت إلى الكل مع كونها صادرة عن البعض لكونهم جامعة ذات قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض، و ينسب فعل بعضهم إلى آخرين. لمكان الوحدة الموجودة فيهم، فما كل بني إسرائيل عبدوا العجل، و لا كلهم قتلوا الأنبياء إلى غير ذلك من معاصيهم و على هذا فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، إنما يعني به قتل البعض و هم الذين عبدوا العجل كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ اَلْعِجْلَ}و قوله تعالى: {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} تتمة الحكاية من قول موسى كما هو الظاهر، و قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} يدل على نزول التوبة و قبولها، و قد وردت الرواية أن التوبة نزلت و لما يقتل جميع المجرمين منهم.

  • و من هنا يظهر أن الأمر كان أمرا امتحانيا نظير ما وقع في قصة رؤيا إبراهيم (علیه السلام) و ذبح إسماعيل {يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيَا} الصافات - ١٠٥، فقد ذكر موسى (علیه السلام): {فَتُوبُوا إِلى‌ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ}، و أمضى الله سبحانه قوله (علیه السلام) و جعل قتل البعض قتلا للكل و أنزل التوبة بقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} 

تفسير الميزان ج۱

190
  •  

  • قوله تعالى: {رِجْزاً مِنَ اَلسَّمَاءِ}، الرجز العذاب.

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَعْثَوْا}العيث و العثي‌ أشد الفساد.

  • قوله تعالى: {وَ قِثَّائِهَا وَ فُومِهَا}، القثاء الخيار و الفوم‌ الثوم أو الحنطة.

  • قوله تعالى: {وَ بَاؤُ بِغَضَبٍ}، أي رجعوا.

  • قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ}، تعليل لما تقدمه.

  • قوله تعالى: {ذلِكَ بِمَا عَصَوْا}، تعليل للتعليل فعصيانهم و مداومتهم للاعتداء هو الموجب لكفرهم بالآيات و قتلهم الأنبياء كما قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواى‌ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُنَ} الروم - ١٠، و في التعليل بالمعصية وجه سيأتي في البحث الآتي.

  • (بحث روائي) الصابئين

  • في تفسير العياشي: في قوله تعالى: {وَ إِذْ وَاعَدْنَا مُوسى‌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: كان في العلم و التقدير ثلاثين ليلة ثم بدا منه فزاد عشرا فتم ميقات ربه الأول و الآخر أربعين ليلة.

  • أقول: و الرواية تؤيد ما مر أن الأربعين مجموع المواعدتين.

  • و في الدر المنثور: عن علي (علیه السلام): في قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ مُوسى‌ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} (الآية)، قال: قالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضا فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه و أباه و ابنه و الله لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفا فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم و قد غفر لمن قتل و تيب على من بقي.

  • و في تفسير القمي: قال (علیه السلام): إن موسى لما خرج إلى الميقات و رجع إلى قومه و قد عبدوا العجل قال لهم موسى: {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ اَلْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى‌ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} فقالوا له: كيف نقتل 

تفسير الميزان ج۱

191
  •  

  • أنفسنا فقال لهم موسى: اغدوا كل واحد منكم إلى بيت المقدس - و معه سكين أو حديدة أو سيف - فإذا صعدت أنا منبر بني إسرائيل - فكونوا أنتم ملتثمين لا يعرف أحد صاحبه - فاقتلوا بعضكم بعضا فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممن كان عبدوا العجل إلى بيت المقدس فلما صلى بهم موسى و صعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضا حتى نزل جبرائيل فقال: قل لهم: يا موسى ارفعوا القتل فقد تاب الله لكم، فقتل منهم عشرة آلاف و أنزل الله: {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ - فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ}.

  • أقول: و الرواية كما ترى تدل على كون قوله تعالى: {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} مقولا لموسى و مقولا له سبحانه فيكون إمضاء لكلمة قالها موسى و كشفا عن كونها تامة على خلاف ما يلوح من الظاهر من كونها ناقصة فإن الظاهر يعطي أن موسى جعل قتل الجميع خيرا لهم عند بارئهم، و قد قتل منهم البعض دون الجميع فجعل سبحانه ما وقع من القتل هو الخير الذي ذكره موسى (علیه السلام) كما مر.

  • و في تفسير القمي، أيضا: في قوله تعالى: {وَ ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ اَلْغَمَامَ} (الآية) أن بني إسرائيل لما عبر موسى بهم البحر نزلوا في مفازة - فقالوا: يا موسى أهلكتنا و قتلتنا - و أخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل، و لا شجر، و لا ماء. و كانت تجي‌ء بالنهار غمامة تظلهم من الشمس - و ينزل عليهم بالليل المن - فيقع على النبات و الشجر و الحجر - فيأكلونه و بالعشي يأتيهم طائر مشوي يقع على موائدهم - فإذا أكلوا و شربوا طار و مر - و كان مع موسى حجر يضعه وسط العسكر - ثم يضربه بعصاه فتنفجر منها اثنتا عشرة عينا - كما حكى الله فيذهب إلى كل سبط في رحله - و كانوا اثني عشر سبطا.

  • و في الكافي في قوله تعالى: {وَ مَا ظَلَمُونَا وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، عن أبي الحسن الماضي (علیه السلام) قال: إن الله أعز و أمنع من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى الظلم - و لكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه و ولايتنا ولايته، ثم أنزل الله بذلك قرآنا على نبيه فقال: {وَ مَا ظَلَمُونَا وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}قال الراوي: قلت: هذا تنزيل، قال: نعم.

  • أقول: و روي ما يقرب منه أيضا عن الباقر (علیه السلام) و قوله (علیه السلام): أمنع من 

تفسير الميزان ج۱

192
  •  

  • أن يظلم بالبناء للمفعول تفسير لقوله تعالى: {وَ مَا ظَلَمُونَا}، و قوله: أو ينسب نفسه إلى الظلم بالبناء للفاعل، و قوله: و لكنه خلطنا بنفسه أي خلطنا معاشر الأنبياء و الأوصياء و الأئمة بنفسه، و قوله: قلت: هذا تنزيل قال: نعم وجهه أن النفي في هذه الموارد و أمثالها إنما يصح فيما يصح فيه الإثبات أو يتوهم صحته، فلا يقال للجدار، أنه لا يبصر أو لا يظلم إلا لنكتة و هو سبحانه أجل من أن يسلم في كلامه توهم الظلم عليه، أو جاز وقوعه عليه فالنكتة في هذا النفي الخلط المذكور لأن العظماء يتكلمون عن خدمهم و أعوانهم.

  • و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اَللَّهِ} (الآية) عن الصادق (علیه السلام) أنه قرأ هذه الآية: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اَللَّهِ - وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ} فقال: و الله ما ضربوهم بأيديهم و لا قتلوهم بأسيافهم و لكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فكان قتلا و اعتداء و مصيبة.

  • أقول: و في الكافي، عنه (علیه السلام) مثله‌ و كأنه (علیه السلام) استفاد ذلك من قوله تعالى: {ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ} فإن القتل و خاصة قتل الأنبياء و الكفر بآيات الله لا يعلل بالعصيان بل الأمر بالعكس على ما يوجبه الشدة و الأهمية لكن العصيان بمعنى عدم الكتمان و التحفظ مما يصح التعليل المذكور به.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): آیة ٦٢] 

  • {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلنَّصَارى‌ وَ اَلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢}

  •  بیان 

  • تكرار الإيمان ثانيا و هو الاتصاف بحقيقته كما يعطيه السياق يفيد أن المراد 

تفسير الميزان ج۱

193
  •  

  • بالذين آمنوا في صدر الآية هم المتصفون بالإيمان ظاهرا المتسمون بهذا الاسم فيكون محصل المعنى أن الأسماء و التسمي بها مثل المؤمنين و اليهود و النصارى و الصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجرا و لا أمنا من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، و إنما ملاك الأمر و سبب الكرامة و السعادة حقيقة الإيمان بالله و اليوم الآخر و العمل الصالح، و لذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة لئلا يكون تقريرا للفائدة في التسمي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى و هذا مما تكررت فيه آيات القرآن أن السعادة و الكرامة تدور مدار العبودية، فلا اسم من هذه الأسماء ينفع لمتسميه شيئا، و لا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه و ينجيه إلا مع لزوم العبودية، الأنبياء و من دونهم فيه سواء، فقد قال تعالى في أنبيائه بعد ما وصفهم بكل وصف جميل: {وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأنعام - ٨٨، و قال تعالى في أصحاب نبيه و من آمن معه مع ما ذكر من عظم شأنهم و علو قدرهم: {وَعَدَ اَللّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً} الفتح - ٢٩، فأتى بكلمة منهم و قال في غيرهم ممن أوتي آيات الله تعالى: {وَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَ لَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ} الأعراف - ١٧٦، إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أن الكرامة بالحقيقة دون الظاهر.

  • بحث روائي 

  • في الدر المنثور: عن سلمان الفارسي قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن أهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم و عبادتهم فنزلت: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا}(الآية).

  • أقول: و روي أيضا نزول الآية في أصحاب سلمان بعدة طرق أخرى.

  • و في المعاني، عن ابن فضال قال: قلت للرضا (علیه السلام) لم سمي النصارى نصارى قال: لأنهم كانوا من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلتها مريم و عيسى بعد رجوعهما من مصر 

تفسير الميزان ج۱

194
  •  

  • أقول: و في الرواية بحث سنتعرض له في قصص عيسى (علیه السلام) من سورة آل عمران إن شاء الله.

  • و في الرواية أن اليهود سموا باليهود لأنهم من ولد يهودا بن يعقوب.

  • و في تفسير القمي: قال: قال (علیه السلام): الصابئون قوم لا مجوس و لا يهود و لا نصارى و لا مسلمون - و هم يعبدون النجوم و الكواكب.

  • أقول: و هي الوثنية، غير أن عبادة الأصنام غير مقصورة عليهم بل الذي يخصهم عبادة أصنام الكواكب.

  • (بحث تاريخي) بحث آخر في الشفاعة أيضا

  • ذكر أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية، ما لفظه: و أول المذكورين منهم يعني المتنبئين يوذاسف و قد ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث بأرض الهند و أتى بالكتابة الفارسية، و دعا إلى ملة الصابئين فاتبعه خلق كثير، و كانت الملوك البيشدادية و بعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين و الكواكب و كليات العناصر و يقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت عند مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف، و بقايا أولئك الصابئين بحران ينسبون إلى موضعهم، فيقال لهم: الحرانية و قد قيل: إنها نسبة إلى هادان بن ترخ أخي إبراهيم (علیه السلام) و إنه كان من بين رؤسائهم أوغلهم في الدين و أشدهم تمسكا به، و حكى عنه ابن سنكلا النصراني في كتابه الذي قصد فيه نقض نحلتهم، فحشاه بالكذب و الأباطيل، أنهم يقولون إن إبراهيم (علیه السلام) إنما خرج عن جملتهم لأنه خرج في قلفته برص و إن من كان به ذلك فهو نجس لا يخالطونه فقطع قلفته بذلك السبب يعني اختتن، و دخل إلى بيت من بيوت الأصنام فسمع صوتا من صنم يقول له: يا إبراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد، و جئتنا بعيبين، اخرج و لا تعاود المجي‌ء إلينا فحمله الغيظ على أن جعلها جذاذا، و خرج من جملتهم ثم إنه ندم بعد ما فعله، و أراد ذبح ابنه لكوكب المشتري على عادتهم في ذبح أولادهم، زعم فلما علم كوكب المشتري صدق توبته فداه بكبش.

تفسير الميزان ج۱

195
  •  

  • و حكى عبد المسيح بن إسحاق الكندي عنهم في جوابه عن كتاب عبد الله بن إسماعيل الهاشمي، أنهم يعرفون بذبح الناس و لكن ذلك لا يمكنهم اليوم جهرا و نحن لا نعلم منهم إلا أنهم أناس يوحدون الله، و ينزهونه عن القبائح، و يصفونه بالسلب لا الإيجاب كقولهم: لا يحد، و لا يرى، و لا يظلم، و لا يجور و يسمونه بالأسماء الحسنى مجازا، إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، و ينسبون التدبير إلى الفلك و أجرامه، و يقولون بحياتها و نطقها و سمعها و بصرها، و يعظمون الأنوار، و من آثارهم القبة التي فوق محراب عند المقصورة من جامع دمشق، و كان مصلاهم، كان اليونانيون و الروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود، فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى، فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام و أهله فاتخذوها مسجدا و كانت لهم هياكل و أصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبو معشر البلخي في كتابه في بيوت العبادات، مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، و قران فإنها منسوبة إلى القمر، و بناؤها على صورته كالطيلسان؛ و بقربها قرية تسمى سلمسين، و اسمها القديم صنم سين، أي صنم القمر، و قرية أخرى تسمى ترع‌عوز أي باب الزهرة و يذكرون أن الكعبة و أصنامها كانت لهم، و عبدتها كانوا من جملتهم، و أن اللات كان باسم زحل، و العزى باسم الزهرة و لهم أنبياء كثيرة أكثرهم فلاسفة يونان كهرمس المصري و أغاذيمون و واليس و فيثاغورث و باباسوار جد أفلاطون من جهة أمه و أمثالهم، و منهم من حرم عليه السمك خوفا أن يكون رغاوة و الفرخ لأنه أبدا محموم، و الثوم لأنه مصدع محرق للدم أو المني الذي منه قوام العالم، و الباقلاء لأنه يغلظ الذهن و يفسده، و أنه في أول الأمر إنما نبت في جمجمة إنسان، و لهم ثلاث صلوات مكتوبات:

  • أولها: عند طلوع الشمس ثماني ركعات.

  • و الثانية: عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات، و في كل ركعة من صلاتهم ثلاث سجدات، و يتنفلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار، و أخرى في التاسعة من النهار.

  • و الثالثة: في الساعة الثالثة من الليل، و يصلون على طهر و وضوء، و يغتسلون من الجنابة و لا يختتنون إذ لم يؤمروا بذلك زعموا و أكثر أحكامهم في المناكح و الحدود مثل أحكام المسلمين، و في التنجس عند مس الموتى، و أمثال ذلك شبيهة بالتوراة، و لهم 

تفسير الميزان ج۱

196
  •  

  • قرابين متعلقة بالكواكب و أصنامها و هياكلها و ذبائح يتولاها كهنتهم و فاتنوهم، و يستخرجون من ذلك علم ما عسى يكون المقرب و جواب ما يسأل عنه، و قد يسمى هرمس بإدريس الذي ذكر في التوراة أخنوخ، و بعضهم زعم أن يوذاسف هو هرمس.

  • و قد قيل: إن هؤلاء الحرانية ليسوا هم الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمون في الكتب بالحنفاء و الوثنية، فإن الصابئة هم الذين تخلفوا ببابل من جملة الأسباط الناهضة في أيام كورش و أيام أرطحشست إلى بيت المقدس، و مالوا إلى شرائع المجوس فصبوا إلى دين بخت نصر، فذهبوا مذهبا ممتزجا من المجوسية و اليهودية، كالسامرة بالشام، و قد توجد أكثرهم بواسط و سواد العراق بناحية جعفر و الجامدة و نهري الصلة منتمين إلى أنوش بن شيث، و مخالفين للحرانية، عائبين مذاهبهم، لا يوافقونهم إلا في أشياء قليلة، حتى أنهم يتوجهون في الصلاة إلى جهة القطب الشمالي و الحرانية إلى الجنوبي، و زعم بعض أهل الكتاب أنه كان لمتوشلخ ابن غير ملك يسمى صابي، و أن الصابئة سموا به، و كان الناس قبل ظهور الشرائع و خروج يوذاسف شمينين سكان الجانب الشرقي من الأرض و كانوا عبدة أوثان، و بقاياهم الآن بالهند و الصين و التغزغز و يسميهم أهل خراسان شمنان، و آثارهم و بهاراتهم و أصنامهم و فرخاراتهم ظاهرة في ثغور خراسان المتصلة بالهند، و يقولون: بقدم الدهر، و تناسخ الأرواح، و هوي الفلك في خلإ غير متناه، و لذلك يتحرك على استدارة فإن الشي‌ء المستدير إذا أزيل ينزل مع دوران، زعموا و منهم من أقر بحدوث العالم، و زعم أن مدته ألف ألف سنة انتهى موضع الحاجة.

  • أقول: و ما نسبه إلى بعض من تفسير الصائبة بالمذهب الممتزج من المجوسية و اليهودية مع أشياء من الحرانية هو الأوفق بما في الآية فإن ظاهر السياق أن التعداد لأهل الملة 

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٦٣ الی ٧٤] 

  • {وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٦٣ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ

تفسير الميزان ج۱

197
  • مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ٦٤ وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ٦٥ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَ مَا خَلْفَهَا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ٦٦ وَ إِذْ قَالَ مُوسى‌ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَ تَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ ٦٧ قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَ لاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ٦٨ قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ اَلنَّاظِرِينَ ٦٩ قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَ إِنَّا إِنْ شَاءَ اَللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ٧٠قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ اَلْأَرْضَ وَ لاَ تَسْقِي اَلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيهَا قَالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَ مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ٧١ وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَ اَللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ٧٢ فَقُلْنَا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذلِكَ يُحْيِ اَللَّهُ اَلْمَوْتى‌ وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٧٣ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهَارُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا} 

تفسير الميزان ج۱

198
  •  

  • يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْمَاءُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ وَ مَا اَللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ٧٤}

  •  (بيان) 

  • قوله تعالى: {وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ}، الطور هو الجبل كما بدله منه في قوله تعالى: {وَ إِذْ نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} الأعراف - ١٧١، و النتق‌ هو الجذب و الاقتلاع، و سياق الآية حيث ذكر أخذ الميثاق أولا و الأمر بأخذ ما أوتوا و ذكر ما فيه أخيرا و وضع رفع الطور فوقهم بين الأمرين مع السكوت عن سبب الرفع و غايتها يدل على أنه كان لإرهابهم بعظمة القدرة من دون أن يكون لإجبارهم و إكراههم على العمل بما أوتوه و إلا لم يكن لأخذ الميثاق وجه، فما ربما يقال: إن رفع الجبل فوقهم لو كان على ظاهره كان آية معجزة و أوجب إجبارهم و إكراههم على العمل.و قد قال سبحانه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي اَلدِّينِ} البقرة - ٢٥٦، و قال تعالى: {أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} يونس - ٩٩، غير وجيه فإن (الآية) كما مر لا تدل على أزيد من الإخافة و الإرهاب و لو كان مجرد رفع الجبل فوق بني إسرائيل إكراها لهم على الإيمان أو العمل، لكان أغلب معجزات موسى موجبة للإكراه، نعم هذا التأويل و صرف (الآية) عن ظاهرها، و القول بأن بني إسرائيل كانوا في أصل الجبل فزلزل و زعزع حتى أظل رأسه عليهم، فظنوا أنه واقع بهم فعبر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم، مبني على أصل إنكار المعجزات و خوارق العادات، و قد مر الكلام فيها و لو جاز أمثال هذه التأويلات لم يبق للكلام ظهور، و لا لبلاغة الكلام و فصاحته أصل تتكي عليه و تقوم به.

  • قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. لعل‌ كلمة ترج و اللازم في الترجي صحته في الكلام سواء كان قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بالمقام، كأن يكون المقام مقام رجاء و إن لم يكن للمتكلم و المخاطب رجاء فيه و هو لا يخلو عن شوب جهل بعاقبة الأمر فالرجاء في كلامه تعالى إما بملاحظة المخاطب أو بملاحظة المقام. و أما هو تعالى فيستحيل نسبة الرجاء إليه لعلمه بعواقب الأمور، كما نبه عليه الراغب في مفرداته.

تفسير الميزان ج۱

199
  •  

  • قوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي صاغرين.

  • قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} أي عبرة يعتبر بها، و النكال‌ هو ما يفعل من الإذلال و الإهانة بواحد ليعتبر به آخرون.

  • قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ مُوسى‌ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إلخ، هذه قصة بقرة بني إسرائيل، و بها سميت السورة سورة البقرة. و الأمر في بيان القرآن لهذه القصة عجيب فإن القصة فصل بعضها عن بعض حيث قال تعالى: {وَ إِذْ قَالَ مُوسى‌ لِقَوْمِهِ} إلى آخره ثم قال: {وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا}ثم إنه أخرج فصلا منها من وسطها و قدم أولا و وضع صدر القصة و ذيلها ثانيا، ثم إن الكلام كان مع بني إسرائيل في الآيات السابقة بنحو الخطاب فانتقل بالالتفات إلى الغيبة حيث قال: {وَ إِذْ قَالَ مُوسى‌ لِقَوْمِهِ} ثم التفت إلى الخطاب ثانيا بقوله: {وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا}.

  • أما الالتفات في قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ مُوسى‌ لِقَوْمِهِ: إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}، ففيه صرف الخطاب عن بني إسرائيل، و توجيهه إلى النبي في شطر من القصة و هو أمر ذبح البقرة و توصيفها ليكون كالمقدمة الموضحة للخطاب الذي سيخاطب به بنو إسرائيل بقوله: {وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَ اَللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذلِكَ يُحْيِ اَللَّهُ اَلْمَوْتى‌ وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، الآيتان في سلك الخطابات السابقة فهذه الآيات الخمس من قوله: {وَ إِذْ قَالَ مُوسى‌} إلى قوله: {وَ مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}، كالمعترضة في الكلام تبين معنى الخطاب التالي مع ما فيها من الدلالة على سوء أدبهم و إيذائهم لرسولهم، برميه بفضول القول و لغو الكلام، مع ما فيه من تعنتهم و تشديدهم و إصرارهم في الاستيضاح و الاستفهام المستلزم لنسبة الإبهام إلى الأوامر الإلهية و بيانات الأنبياء مع ما في كلامهم من شوب الإهانة و الاستخفاف الظاهر بمقام الربوبية فانظر إلى قول موسى (علیه السلام) لهم: {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}، و قولهم: {اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}، و قولهم ثانيا: {اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا}، و قولهم ثالثا: {اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}، فأتوا في الجميع بلفظ ربك من غير أن يقولوا ربنا ثم كرروا قولهم: {مَا هِيَ} و قالوا: {إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} فادعوا التشابه بعد البيان، و لم يقولوا: إن البقرة تشابهت علينا بل قالوا: {إِنَّ اَلْبَقَرَ 

تفسير الميزان ج۱

200
  •  

  • تَشَابَهَ عَلَيْنَا} كأنهم يدعون أن جنس البقر متشابه و لا يؤثر هذا الأثر إلا بعض أفراد هذا النوع و هذا المقدار من البيان لا يجزي في تعيين الفرد المطلوب و تشخيصه، مع أن التأثير لله عز اسمه لا للبقرة، و قد أمرهم أن يذبحوا بقرة فأطلق القول و لم يقيده بقيد، و كان لهم أن يأخذوا بإطلاقه، ثم انظر إلى قولهم لنبيهم: {أَ تَتَّخِذُنَا هُزُواً}، المتضمن لرميه (علیه السلام) بالجهالة و اللغو حتى نفاه عن نفسه بقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ}، و قولهم أخيرا بعد تمام البيان الإلهي: {اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}، الدال على نفي الحق عن البيانات السابقة المستلزم لنسبة الباطل إلى طرز البيان الإلهي و التبليغ النبوي.

  • و بالجملة فتقديم هذا الشطر من القصة لإبانة الأمر في الخطاب التالي كما ذكر مضافا إلى نكتة أخرى، و هي أن قصة البقرة غير مذكورة في التوراة الموجودة عند اليهود اليوم فكان من الحري أن لا يخاطبوا بهذه القصة أصلا أو يخاطبوا به بعد بيان ما لعبت به أيديهم من التحريف، فأعرض عن خطابهم أولا بتوجيه الخطاب إلى النبي ثم بعد تثبيت الأصل، عاد إلى ما جرى عليه الكلام من خطابهم المتسلسل، نعم في هذا المورد من التوراة حكم لا يخلو عن دلالة ما على وقوع القصة و هاك عبارة التوراة.

  • قال في الفصل الحادي و العشرين من سفر تثنية الاشتراع ":إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك و قضاتك و يقيسون إلى المدن التي حول القتيل فالمدينة القريبة من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالغير و ينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه و لم يزرع و يكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه و يباركوا باسم الرب و حسب قولهم تكون كل خصومة و كل ضربة و يغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي و يصرخون و يقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم و أعيننا لم تبصر اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب و لا تجعل دم بري‌ء في وسط شعبك إسرائيل فيغفر لهم الدم انتهى.

  • إذا عرفت هذا على طوله علمت أن بيان هذه القصة على هذا النحو ليس من قبيل 

تفسير الميزان ج۱

201
  •  

  • فصل القصة، بل القصة مبينة على نحو الإجمال في الخطاب الذي في قوله: {وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} إلخ و شطر من القصة مأتية بها ببيان تفصيلي في صورة قصة أخرى لنكتة دعت إليه.

  • فقوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ مُوسى‌ لِقَوْمِهِ} خطاب للنبي(صلى الله عليه وآله و سلم) و هو كلام في صورة قصة و إنما هي مقدمة توضيحية للخطاب التالي لم يذكر معها السبب الباعث على هذا الأمر و الغاية المقصودة منها بل أطلقت إطلاقا ليتنبه بذلك نفس السامع و تقف موقف التجسس، و تنتشط إذا سمعت أصل القصة، و نالت الارتباط بين الكلامين، و لذلك لما سمعت بنو إسرائيل قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} تعجبوا من ذلك و لم يحملوه إلا على أن نبي الله موسى يستهزئ بهم لعدم وجود رابطة عندهم بين ذبح البقرة و ما يسألونه من فصل الخصومة و الحصول على القاتل قالوا أ تتخذنا هزوا و سخرية.

  • و إنما قالوا ذلك لفقدهم روح الإطاعة و السمع و استقرار ملكة الاستكبار و العتو فيهم، و قولهم: إنا لا نحوم حول التقليد المذموم، و إنما نؤمن بما نشاهده و نراه كما قالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اَللَّهَ جَهْرَةً} و إنما وقعوا فيما وقعوا من جهة استقلالهم في الحكم و القضاء فيما لهم ذلك، و فيما ليس لهم ذلك فحكموا بالمحسوس على المعقول فطالبوا معاينة الرب بالحس الباصر و قالوا: {يَا مُوسَى اِجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} الأعراف - ١٣٨، و زعموا أن نبيهم موسى مثلهم يتهوس كتهوسهم، و يلعب كلعبهم، فرموه بالاستهزاء و السفه و الجهالة حتى رد عليهم، و قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، و إنما استعاذ بالله و لم يخبر عن نفسه بأنه ليس يجاهل لأن ذلك منه (علیه السلام) أخذ بالعصمة الإلهية التي لا تتخلف لا الحكمة الخلقية التي ربما تتخلف.

  • و زعموا أن ليس للإنسان أن يقبل قولا إلا عن دليل، و هذا حق، لكنهم غلطوا في زعمهم أن كل حكم يجب العثور على دليله تفصيلا و لا يكفي في ذلك الإجمال و من أجل ذلك طالبوا تفصيل أوصاف البقرة لحكمهم أن نوع البقر ليس فيه خاصة الإحياء، فإن كان و لا بد فهو في فرد خاص منه يجب تعيينه بأوصاف كاملة البيان و لذلك {قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}، و هذا تشديد منهم على أنفسهم من غير جهة فشدد الله عليهم، و قال موسى {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ}، أي ليست بمسنة انقطعت 

تفسير الميزان ج۱

202
  •  

  • ولادتها {وَ لاَ بِكْرٌ} أي لم تلد {عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ}، و العوان‌ من النساء و البهائم ما هو في منتصف السن أي واقعة في السن بين ما ذكر من الفارض و البكر، ثم ترحم عليهم ربهم فوعظهم أن لا يلحوا في السؤال، و لا يشددوا على أنفسهم و يقنعوا بما بين لهم فقال: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}، لكنهم لم يرتدعوا بذلك بل {قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ} شديد الصفرة في صفاء {لَوْنُهَا تَسُرُّ اَلنَّاظِرِينَ} و تم بذلك وصف البقرة بيانا، و اتضح أنها ما هي و ما لونها و هم مع ذلك لم يرضوا به، و أعادوا كلامهم الأول، من غير تحجب و انقباض و {قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَ إِنَّا إِنْ شَاءَ اَللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}، فأجابهم ثانيا بتوضيح في ماهيتها و لونها و قال {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ} أي غير مذللة بالحرث و السقي {تُثِيرُ اَلْأَرْضَ} بالشيار {وَ لاَ تَسْقِي اَلْحَرْثَ} فلما تم عليهم البيان و لم يجدوا ما يسألونه {قَالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} قول من يعترف بالحقيقة بالإلزام و الحجة من غير أن يجد إلى الرد سبيلا، فيعترف بالحق اضطرارا، و يعتذر عن المبادرة إلى الإنكار بأن القول لم يكن مبينا من قبل، و لا بينا تاما. و الدليل على ذلك قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَ مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} 

  • قوله تعالى: {وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا}، شروع في أصل القصة و التدارؤ هو التدافع من الدرء بمعنى الدفع فقد كانوا قتلوا - نفسا - و كل طائفة منهم يدفع الدم عن نفسها إلى غيرها - و أراد الله سبحانه إظهار ما كتموه.

  • قوله تعالى: {فَقُلْنَا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}، أول الضميرين راجع إلى النفس باعتبار أنه قتيل، و ثانيهما إلى البقرة، و قد قيل: إن المراد بالقصة بيان أصل تشريع الحكم حتى ينطبق على الحكم المذكور في التوراة الذي نقلناه، و المراد بإحياء الموتى العثور بوسيلة تشريع هذا الحكم على دم المقتول، نظير ما ذكره تعالى بقوله: {وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصَاصِ حَيَاةٌ} البقرة - ١٧٩، من دون أن يكون هناك إحياء بنحو الإعجاز هذا، و أنت خبير بأن سياق الكلام و خاصة قوله تعالى: {فَقُلْنَا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذلِكَ يُحْيِ اَللَّهُ اَلْمَوْتى‌}، يأبى ذلك.

  • قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}القسوة في القلب بمنزلة الصلابة في الحجر و كلمة أو بمعنى بل، و المراد بكونها بمعنى بل انطباق معناه على موردها،

تفسير الميزان ج۱

203
  •  

  • و قد بين شدة قسوة قلوبهم بقوله: {وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهَارُ}، و قوبل فيه بين الحجارة و الماء لكون الحجارة يضرب بها المثل في الصلابة ككون الماء يضرب به المثل في اللين فهذه الحجارة على كمال صلابتها يتفجر منها الأنهار على لين مائها و تشقق فيخرج منها الماء على لينه و صلابتها، و لا يصدر من قلوبهم حال يلائم الحق، و لا قول حق يلائم الكمال الواقع.

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ}، و هبوط الحجارة ما نشاهد من انشقاق الصخور على قلل الجبال، و هبوط قطعات منها بواسطة الزلازل، و صيرورة الجمد الذي يتخللها في فصل الشتاء ماء في فصل الربيع إلى غير ذلك، و عد هذا الهبوط المستند إلى أسبابها الطبيعية هبوطا من خشية الله تعالى لأن جميع الأسباب منتهية إلى الله سبحانه فانفعال الحجارة في هبوطها عن سببها الخاص بها انفعال عن أمر الله سبحانه إياها بالهبوط، و هي شاعرة لأمر ربها شعورا تكوينيا، كما قال تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} إسراء - ٤٤، و قال تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} البقرة - ١١٦، و الانفعال الشعوري هو الخشية فهي هابطة من خشية الله تعالى، فالآية جارية مجرى قوله تعالى: {وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} الرعد - ١٣: و قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ} الرعد - ١٥، حيث عد صوت الرعد تسبيحا بالحمد و عد الظلال ساجدة لله سبحانه إلى غير ذلك من الآيات التي جرى القول فيها مجرى التحليل كما لا يخفى.

  • و بالجملة فقوله: {وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ}، بيان ثان لكون قلوبهم أقسى من الحجارة فإن الحجارة تخشى الله تعالى، فتهبط من خشيته، و قلوبهم لا تخشى الله تعالى و لا تهابه.

  • (بحث روائي) 

  • في المحاسن: عن الصادق (علیه السلام): في قول الله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، أ قوة 

تفسير الميزان ج۱

204
  •  

  • الأبدان أو قوة القلب؟ قال (علیه السلام): فيهما جميعا.

  • أقول: و رواه العياشي أيضا في تفسيره.

  • و في تفسير العياشي، عن الحلبي: في قوله تعالى: {وَ اُذْكُرُوا مَا فِيهِ}، قال: قال اذكروا ما فيه و اذكروا ما في تركه من العقوبة.

  • أقول: و قد استفيد ذلك من المقام من قوله تعالى: {وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا}.

  • و في الدر المنثور: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لو لا أن بني إسرائيل قالوا و إنا إن شاء الله لمتهدون ما أعطوا أبدا و لو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم و لكنهم شددوا فشدد الله عليهم.

  • و في تفسير القمي: عن ابن فضال قال: سمعت أبا الحسن (علیه السلام) يقول: إن الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة - و إنما كانوا يحتاجون إلى ذنبها فشدد الله عليهم.

  • و في المعاني، و تفسير العياشي: عن البزنطي قال: سمعت الرضا (علیه السلام) يقول: إن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه و طرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى إن سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبر من قتله قال: ائتوني ببقرة {قَالُوا أَ تَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ} و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم، {قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَ لاَ بِكْرٌ} يعني لا صغيرة و لا كبيرة عوان بين ذلك و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليه {قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ اَلنَّاظِرِينَ} و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم {قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَ إِنَّا إِنْ شَاءَ اَللَّهُ لَمُهْتَدُونَ.قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ اَلْأَرْضَ وَ لاَ تَسْقِي اَلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيهَا. قَالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلا 

تفسير الميزان ج۱

205
  •  

  • بمل‌ء مسك ذهبا، فجاءوا إلى موسى و قالوا له ذلك قال اشتروها فاشتروها و جاءوا بها فأمر بذبحها ثم أمر أن يضربوا الميت بذنبها فلما فعلوا ذلك حيي المقتول و قال يا رسول الله إن ابن عمي قتلني، دون من أدعي عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله فقال لرسول الله موسى بعض أصحابه إن هذه البقرة لها نبأ فقال و ما هو؟ قال إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه و أنه اشترى بيعا فجاء إلى أبيه و الأقاليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع - فاستيقظ أبوه فأخبره فقال أحسنت، هذه البقرة فهي لك عوضا مما فاتك فقال له رسول الله موسى انظر إلى البر ما بلغ بأهله.

  • أقول: و الروايات كما ترى منطبقة على إجمال ما استفدناه من الآيات الشريفة.

  • (بحث فلسفي) إحياء الأموات و المسخ 

  • السورة كما ترى مشتملة على عدة من الآيات المعجزة، في قصص بني إسرائيل و غيرهم، كفرق البحر و إغراق آل فرعون في قوله تعالى: {وَ إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ اَلْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَ أَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} (الآية)، و أخذ الصاعقة بني إسرائيل و إحيائهم بعد الموت في قوله تعالى: {وَ إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى‌ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} (الآية)، و تظليل الغمام و إنزال المن و السلوى عليهم في قوله تعالى: {وَ ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ اَلْغَمَامَ} (الآية)، و انفجار العيون من الحجر في قوله تعالى: {وَ إِذِ اِسْتَسْقى‌ مُوسى‌ لِقَوْمِهِ} (الآية)، و رفع الطور فوقهم في قوله تعالى: {وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ} (الآية)، و مسخ قوم منهم في قوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} (الآية)، و إحياء القتيل ببعض البقرة المذبوحة في قوله: {فَقُلْنَا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (الآية)، و كإحياء قوم آخرين في قوله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} (الآية)، و كإحياء الذي مر على قرية خربة في قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‌ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خَاوِيَةٌ عَلى‌ عُرُوشِهَا} (الآية)، و كإحياء الطير بيد إبراهيم في قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى‌} (الآية)، فهذه اثنتا عشرة آية معجزة خارقة للعادة جرت أكثرها في بني إسرائيل ذكرها القرآن - و قد بينا فيما مر إمكان وقوع المعجزة و أن خوارق العادات جائزة الوقوع في الوجود و هي مع ذلك ليست ناقضة لقانون العلية و المعلولية الكلي، و تبين به أن 

تفسير الميزان ج۱

206
  •  

  • لا دليل على تأويل الآيات الظاهرة في وقوع الإعجاز، و صرفها عن ظواهرها ما دامت الحادثة ممكنة، بخلاف المحالات كانقسام الثلاثة بمتساويين و تولد مولود يكون أبا لنفسه، فإنه لا سبيل إلى جوازها.

  • نعم تختص بعض المعجزات كإحياء الموتى و المسخ ببحث آخر، فقد قيل: إنه قد ثبت في محله أن الموجود الذي له قوة الكمال و الفعلية إذا خرج من القوة إلى الفعل فإنه يستحيل بعد ذلك رجوعه إلى القوة ثانيا، و كذلك كل ما هو أكمل وجودا فإنه لا يرجع في سيره الاستكمالي إلى ما هو أنقص وجودا منه من حيث هو كذلك. و الإنسان بموته يتجرد بنفسه عن المادة فيعود موجودا مجردا مثاليا أو عقليا، و هاتان الرتبتان فوق مرتبة المادة، و الوجود فيهما أقوى من الوجود المادي، فمن المحال أن تتعلق النفس بعد موتها بالمادة ثانيا، و إلا لزم رجوع الشي‌ء إلى القوة بعد خروجه إلى الفعل، و هو محال، و أيضا الإنسان أقوى وجودا من سائر أنواع الحيوان، فمن المحال أن يعود الإنسان شيئا من سائر أنواع الحيوان بالمسخ.

  • أقول: ما ذكره من استحالة رجوع ما بالقوة بعد خروجه إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لا ريب فيه، لكن عود الميت إلى حياته الدنيا ثانيا في الجملة و كذا المسخ ليسا من مصاديقه. بيان ذلك: أن المحصل من الحس و البرهان أن الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فإنه يتحرك إلى الحيوانية، فيتصور بالصورة الحيوانية و هي صورة مجردة بالتجرد البرزخي، و حقيقتها إدراك الشي‌ء نفسه بإدراك جزئي خيالي و هذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي و فعلية لهذه القوة تلبس بها بالحركة الجوهرية و من المحال أن ترجع يوما إلى الجوهر المادي فتصير إياه إلا أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسدا لا حراك به، ثم إن الصورة الحيوانية مبدأ لأفعال إدراكية تصدر عنها، و أحوال علمية تترتب عليها، تنتقش النفس بكل واحد من تلك الأحوال بصدورها منها، و لا يزال نقش عن نقش، و إذا تراكمت من هذه النقوش ما هي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد و صار صورة ثابتة غير قابلة للزوال، و ملكة راسخة، و هذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيواني فتصير حيوانا خاصا ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر و الحقد و الشهوة و الوفاء و الافتراس و غير ذلك و إذا لم تحصل ملكة بقي النفس 

تفسير الميزان ج۱

207
  •  

  • على مرتبتها الساذجة السابقة، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتا و لم يخرج إلى الفعلية الحيوانية، و لو أن النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها و أفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أول وجودها لكنها تتكامل بواسطة أفعالها الإدراكية المتعلقة بالمادة شيئا فشيئا حتى تصير حيوانا خاصا إن عمر العمر الطبيعي أو قدرا معتدا به، و إن حال بينه و بين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية، ثم إن الحيوان إذا وقعت في صراط الإنسانية و هي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلا كليا مجردا عن المادة و لوازمها من المقادير و الألوان و غيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرد العقلي، و تحققت له صورة الإنسان بالفعل، و من المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوتها التي هي التجرد المثالي على حد ما ذكر في الحيوان.

  • ثم إن لهذه الصورة أيضا أفعالا و أحوالا تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الإنسانية على حد ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.

  • إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنا لو فرضنا إنسانا رجع بعد موته إلى الدنيا و تجدد لنفسه التعلق بالمادة و خاصة المادة التي كانت متعلقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجردة قبل انقطاع العلقة و معها أيضا و هي مع التعلق ثانيا حافظة لتجردها، و الذي كان لها بالموت أن الأداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته و الأدوات اللازمة لها؛ فإذا عادت النفس إلى تعلقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها و أدواتها البدنية و وضعت ما اكتسبتها من الأحوال و الملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرة و حاصلة لها من قبل و استكملت بها استكمالا جديدا من غير أن يكون ذلك منه رجوعا قهقرى و سيرا نزوليا من الكمال إلى النقص، و من الفعل إلى القوة.

  • فإن قلت: هذا يوجب القول: بالقسر الدائم مع ضرورة بطلانه، فإن النفس المجردة المنقطعة عن البدن لو بقي في طباعها إمكان الاستكمال من جهة الأفعال المادية بالتعلق بالمادة ثانيا كان بقاؤها على الحرمان من الكمال إلى الأبد حرمانا عما تستدعيه بطباعها، فما كل نفس براجعة إلى الدنيا بإعجاز أو خرق عادة، و الحرمان المستمر 

تفسير الميزان ج۱

208
  •  

  • قسر دائم.

  • قلت: هذه النفوس التي خرجت من القوة إلى الفعل في الدنيا و اتصلت إلى حد و ماتت عندها لا تبقى على إمكان الاستكمال اللاحق دائما بل يستقر على فعليتها الحاضرة بعد حين أو تخرج إلى الصورة العقلية المناسبة لذلك و تبقى على ذلك، و تزول الإمكان المذكور بعد ذلك فالإنسان الذي مات و له نفس ساذجة غير أنه فعل أفعالا و خلط عملا صالحا و آخر سيئا لو عاش حينا أمكن أن يكتسب على نفسه الساذجة صورة سعيدة أو شقية و كذا لو عاد بعد الموت إلى الدنيا و عاش أمكن أن يكتسب على صورته السابقة صورة خاصة جديدة و إذا لم يعد فهو في البرزخ مثاب أو معذب بما كسبته من الأفعال حتى يتصور بصورة عقلية مناسبة لصورته السابقة المثالية و عند ذلك يبطل الإمكان المذكور و يبقى إمكانات الاستكمالات العقلية فإن عاد إلى الدنيا كالأنبياء و الأولياء لو عادوا إلى الدنيا بعد موتهم أمكن أن يحصل صورة أخرى عقلية من ناحية المادة و الأفعال المتعلقة بها و لو لم يعد فليس له إلا ما كسب من الكمال و الصعود في مدارجه، و السير في صراطه، هذا.

  • و من المعلوم أن هذا ليس قسرا دائما و لو كان مجرد حرمان موجود عن كماله الممكن له بواسطة عمل عوامل و تأثير علل مؤثرة قسرا دائما لكان أكثر حوادث هذا العالم الذي هو دار التزاحم، و موطن التضاد أو جميعها قسرا دائما، فجميع أجزاء هذا العالم الطبيعي مؤثرة في الجميع، و إنما القسر الدائم أن يجعل في غريزة نوع من الأنواع اقتضاء كمال من الكمالات أو استعداد ثم لا يظهر أثر ذلك دائما إما لأمر في داخل ذاته أو لأمر من خارج ذاته متوجه إلى إبطاله بحسب الغريزة، فيكون تغريز النوع المقتضي أو المستعد للكمال تغريزا باطلا و تجبيلا هباء لغوا فافهم ذلك، و كذا لو فرضنا إنسانا تغيرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد و الخنزير فإنما هي صورة على صورة، فهو إنسان خنزير أو إنسان قردة، لا إنسان بطلت إنسانيته، و خلت الصورة الخنزيرية أو القردية محلها، فالإنسان إذا كسب صورة من صور الملكات تصورت نفسه بها و لا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حد ما ستظهر في الآخرة بعد الموت، و قد مر أن النفس 

تفسير الميزان ج۱

209
  •  

  • الإنسانية في أول حدوثها على السذاجة يمكن أن تتنوع بصورة خاصة تخصصها بعد الإبهام و تقيدها بعد الإطلاق و القبول فالممسوخ من الإنسان إنسان ممسوخ لا أنه ممسوخ فاقد للإنسانية هذا، و نحن نقرأ في المنشورات اليومية من أخبار المجامع العلمية بأوربا و أمريكا ما يؤخذ جواز الحياة بعد الموت، و تبدل صورة الإنسان بصورة المسخ، و إن لم نتكل في هذه المباحث على أمثال هذه الأخبار، لكن من الواجب على الباحثين من المحصلين أن لا ينسوا اليوم ما يتلونه بالأمس.

  • فإن قلت: فعلى هذا فلا مانع من القول بالتناسخ.

  • قلت: كلا فإن التناسخ و هو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ببدن آخر محال، فإن هذا البدن إن كان ذا نفس استلزم التناسخ تعلق نفسين ببدن واحد، و هو وحدة الكثير، و كثرة الواحد، و إن لم تكن ذا نفس استلزم رجوع ما بالفعل إلى القوة، كرجوع الشيخ إلى الصبا، و كذلك يستحيل تعلق نفس إنساني مستكملة مفارقة ببدن نباتي أو حيواني بما مر من البيان.

  • (بحث علمي و أخلاقي) معنى التقليد 

  • أكثر الأمم الماضية قصة في القرآن أمة بني إسرائيل، و أكثر الأنبياء ذكرا فيه موسى بن عمران (علیه السلام)، فقد ذكر اسمه في القرآن، في مائة و ستة و ثلاثين موضعا ضعف ما ذكر إبراهيم (علیه السلام) الذي هو أكثر الأنبياء ذكرا بعد موسى، فقد ذكر في تسعة و ستين موضعا على ما قيل فيهما، و الوجه الظاهر فيه أن الإسلام هو الدين الحنيف المبني على التوحيد الذي أسس أساسه إبراهيم (علیه السلام) و أتمه الله سبحانه و أكمله لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} الحج - ٧٨، و بنو إسرائيل أكثر الأمم لجاجا و خصاما، و أبعدهم من الانقياد للحق، كما أنه كان كفار العرب الذين ابتلي بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على هذه الصفة، فقد آل الأمر إلى أن نزل فيهم: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} البقرة - ٦.

تفسير الميزان ج۱

210
  •  

  • و لا ترى رذيلة من رذائل بني إسرائيل في قسوتهم و جفوتهم مما ذكره القرآن إلا و هو موجود فيهم، و كيف كان فأنت إذا تأملت قصص بني إسرائيل المذكورة في القرآن، و أمعنت فيها، و ما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم كانوا قوما غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية، فقد كانت هذه الأمة لا تؤمن بما وراء الحس، و لا تنقاد إلا إلى اللذة و الكمال المادي، و هم اليوم كذلك. و هذا الشأن هو الذي صير عقلهم و إرادتهم تحت انقياد الحس و المادة، لا يعقلون إلا ما يجوزانه، و لا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلك فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولا إلا إذا دل عليه الحس، و إن كان حقا و انقياد المادة اقتضى فيهم أن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبراؤهم ممن أوتي جمال المادة، و زخرف الحياة و إن لم يكن حقا، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولا و فعلا، فهم يذمون كل اتباع باسم أنه تقليد و إن كان مما ينبغي إذا كان بعيدا من حسهم، و يمدحون كل اتباع باسم أنه حظ الحياة، و إن كان مما لا ينبغي إذا كان ملائما لهوساتهم المادية، و قد ساعدهم على ذلك و أعانهم عليه مكثهم الممتد و قطونهم الطويل بمصر تحت استذلال المصريين، و استرقاقهم، و تعذيبهم، يسومونهم سوء العذاب و يذبحون أبناءهم و يستحيون نساءهم و في ذلك بلاء من ربهم عظيم.

  • و بالجملة فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبياؤهم، و الربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم و معادهم (تذكر في ذلك مواقفهم مع موسى و غيره) و سريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون و المستكبرون منهم.

  • و قد ابتليت الحقيقة و الحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية التي أتحفها إليها عالم الغرب، فهي مبنية القاعدة على الحس و المادة، فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس و لا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الإنسانية في أحكامها، و ارتحال المعارف العالية و الأخلاق الفاضلة من بيننا فصار يهدد الإنسانية بالانهدام، و جامعة البشر بأشد الفساد و ليعلمن نبأه بعد حين.

  • و استيفاء البحث في الأخلاق ينتج خلاف ذلك، فما كل دليل بمطلوب، و ما كل تقليد بمذموم، بيان ذلك: أن النوع الإنساني بما أنه إنسان إنما يسير إلى كماله 

تفسير الميزان ج۱

211
  •  

  • الحيوي بأفعاله الإرادية المتوقفة على الفكر و الإرادة منه مستحيلة التحقق إلا عن فكر، فالفكر هو الأساس الوحيد الذي يبتني عليه الكمال الوجودي الضروري فلا بد للإنسان من تصديقات عملية أو نظرية يرتبط بها كماله الوجودي ارتباطا بلا واسطة أو بواسطة، و هي القضايا التي نعلل بها أفعالنا الفردية أو الاجتماعية أو نحضرها في أذهاننا، ثم نحصلها في الخارج بأفعالنا، هذا.

  • ثم إن في غريزة الإنسان أن يبحث عن علل ما يجده من الحوادث، أو يهاجم إلى ذهنه من المعلومات، فلا يصدر عنه فعل يريد به إيجاد ما حضر في ذهنه في الخارج إلا إذا حضر في ذهنه علته الموجبة، و لا يقبل تصديقا نظريا إلا إذا اتكئ على التصديق بعلته بنحو، و هذا شأن الإنسان لا يتخطاه البتة، و لو عثرنا في موارد على ما يلوح منه خلاف ذلك فبالتأمل و الإمعان تنحل الشبهة، و يظهر البحث عن العلة، و الركون و الطمأنينة إليها فطري، و الفطرة لا تختلف و لا يتخلف فعلها، و هذا يؤدي الإنسان إلى ما فوق طاقته من العمل الفكري و الفعل المتفرع عليه لسعة الاحتياج الطبيعي، بحيث لا يقدر الإنسان الواحد إلى رفعه معتمدا على نفسه و متكئا إلى قوة طبيعته الشخصية فاحتالت الفطرة إلى بعثه نحو الاجتماع و هو المدينة و الحضارة و وزعت أبواب الحاجة الحيوية بين أفراد الاجتماع، و وكل بكل باب من أبوابها طائفة كأعضاء الحيوان في تكاليفها المختلفة المجتمعة فائدتها و عائدتها في نفسه، و لا تزال الحوائج الإنسانية تزداد كمية و اتساعا و تنشعب الفنون و الصناعات و العلوم، و يتربى عند ذلك الأخصائيون من العلماء و الصناع، فكثير من العلوم و الصناعات كانت علما أو صنعة واحدة يقوم بأمرها الواحد من الناس، و اليوم نرى كل باب من أبوابه علما أو علوما أو صنعة أو صنائع، كالطب المعدود قديما فنا واحدا من فروع الطبيعيات و هو اليوم فنون لا يقوم الواحد من العلماء الأخصائيين بأزيد من أمر فن واحد منها.

  • و هذا يدعو الإنسان بالإلهام الفطري، أن يستقل بما يخصه من الشغل الإنساني في البحث عن علته و يتبع في غيره من يعتمد على خبرته و مهارته.

  • فبناء العقلاء من أفراد الاجتماع على الرجوع إلى أهل الخبرة و حقيقة هذا الاتباع، و التقليد المصطلح و الركون إلى الدليل الإجمالي فيما ليس في وسع الإنسان 

تفسير الميزان ج۱

212
  •  

  • أن ينال دليل تفاصيله كما أنه مفطور على الاستقلال بالبحث عن دليله التفصيلي فيما يسعه أن ينال تفصيل علته و دليله، و ملاك الأمر كله أن الإنسان لا يركن إلى غير العلم، فمن الواجب عند الفطرة الاجتهاد، و هو الاستقلال في البحث عن العلة فيما يسعه ذلك و التقليد و هو الاتباع و رجوع الجاهل إلى العالم فيما لا يسعه ذلك، و لما استحال أن يوجد فرد من هذا النوع الإنساني مستقلا بنفسه قائما بجميع شئون الأصل الذي يتكي عليه الحياة استحال أن يوجد فرد من الإنسان من غير اتباع و تقليد، و من ادعى خلاف ذلك أو ظن من نفسه أنه غير مقلد في حياته فقد سفه نفسه.

  • نعم؛ التقليد فيما للإنسان أن ينال علته و سببه كالاجتهاد فيما ليس له الورود عليه و النيل منه، من الرذائل التي هي من مهلكات الاجتماع، و مفنيات المدينة الفاضلة و لا يجوز الاتباع المحض إلا في الله سبحانه لأنه السبب الذي إليه تنتهي الأسباب.

  •  

  •  [سورة البقرة (٢): الآیات ٧٥ الی ٨٢]

  • {أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اَللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ٧٥ وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلى‌ بَعْضٍ قَالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ٧٦ أَ وَ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ ٧٧ وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ اَلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ٧٨ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذا مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ٧٩ وَ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً}

تفسير الميزان ج۱

213
  •  

  • {مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اَللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٨٠بَلى‌ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٨١ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٨٢}

  • بيان‌ 

  • السياق و خاصة ما في ذيل الآيات يفيد أن اليهود عند الكفار، و خاصة كفار المدينة: لقرب دارهم منهم كانوا يعرفون قبل البعثة ظهيرا لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و عندهم علم الدين و الكتاب، و لذلك كان الرجاء في إيمانهم أكثر من غيرهم، و كان المتوقع أن يؤمنوا به أفواجا فيتأيد بذلك و يظهر نوره، و ينتشر دعوته، و لما هاجر النبي إلى المدينة و كان من أمرهم ما كان تبدل الرجاء قنوطا، و الطمع يأسا، و لذلك يقول سبحانه: {أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} إلخ، يعني أن كتمان الحقائق و تحريف الكلام من شيمهم، فلا ينبغي أن يستبعد نكولهم عما قالوا و نقضهم ما أبرموا.

  • قوله تعالى: {أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}، فيه التفات من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب النبي و الذين آمنوا و وضعهم موضع الغيبة و كان الوجه فيه أنه لما قص قصة البقرة و عدل فيها من خطاب بني إسرائيل إلى غيبتهم لمكان التحريف الواقع فيها بحذفها من التوراة كما مر، أريد إتمام البيان بنحو الغيبة بالإشارة إلى تحريفهم كتاب الله تعالى فصرف لذلك وجه الكلام إلى الغيبة.

  • قوله تعالى: {وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلاَ} إلخ، لا تقابل بين الشرطين و هما مدخولا إذا في الموضعين كما في قوله تعالى: {وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى‌ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} البقرة - ١٤، بل المراد بيان موضعين آخرين من مواضع جرائمهم و جهالتهم.

تفسير الميزان ج۱

214
  •  

  • أحدهما: أنهم ينافقون فيتظاهرون بالإيمان صونا لأنفسهم من الإيذاء و الطعن و القتل.

  • و ثانيهما: أنهم يريدون تعمية الأمر و إبهامه على الله سبحانه العالم بسرهم و علانيتهم و ذلك أن العامة منهم، و هم أولوا بساطة النفس ربما كانوا ينبسطون للمؤمنين، فيحدثونهم ببعض ما في كتبهم من بشارات النبي أو ما ينفع المؤمنين في تصديق النبوة، كما يلوح من لحن الخطاب فكان أولياؤهم ينهونهم معللا بأن ذلك مما فتح الله لهم، فلا ينبغي أن يفشي للمؤمنين، فيحاجوهم به عند ربهم كأنهم لو لم يحاجوهم به عند ربهم لم يطلع الله عليه فلم يؤاخذهم بذلك و لازم ذلك أن الله تعالى إنما يعلم علانية الأمر، دون سره و باطنه و هذا من الجهل بمكان، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: {أَ وَ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ} (الآية) فإن هذا النوع من العلم - و هو ما يتعلق بظاهر الأمر دون باطنه - إنما هو العلم المنتهي إلى الحس الذي يفتقر إلى بدن مادي مجهز بآلات مادية مقيد بقيود الزمان و المكان مولود لعلل أخرى مادية و ما هو كذلك مصنوع من العالم لا صانع العالم.

  • و هذا أيضا من شواهد ما قدمناه آنفا أن بني إسرائيل لإذعانهم بأصالة المادة كانوا يحكمون في الله سبحانه بما للمادة من الأحكام، فكانوا يظنونه موجودا فعالا في المادة، مستعليا قاهرا عليه، و لكن بعين ما تفعل علة مادية و تستعلي و تقهر على معلول مادي، و هذا أمر لا يختص به اليهود، بل هو شأن كل من يذعن بأصالة المادة من المليين و غيرهم، فلا يحكمون في ساحة قدسه سبحانه إلا بما يعقلون من أوصاف الماديات من الحياة و العلم و القدرة و الاختيار و الإرادة و القضاء و الحكم و تدبير الأمر و إبرام القضاء إلى غير ذلك، و هذا داء لا ينجع معه دواء، و ما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يعقلون، حتى آل الأمر إلى أن استهزأ بهم من لا مسكة له في دينهم الحق و لا قدم له في معارفهم الحقة، قائلا إن المسلمين يروون عن نبيهم أن الله خلق آدم على صورته و هم معاشر أمته يخلقون الله على صورة آدم، فهؤلاء يدور أمرهم بين أن يثبتوا لربهم جميع أحكام المادة، كما يفعله المشبهة من المسلمين أو من يتلو تلوهم و إن لم يعرف بالتشبيه، أو لا يفهموا شيئا من أوصاف جماله، فينفوا الجميع بإرجاعها إلى السلوب قائلا إن ما يبين أوصافه تعالى من الألفاظ إنما يقع عليه بالاشتراك اللفظي 

تفسير الميزان ج۱

215
  •  

  • فلقولنا: إنه موجود ثابت عالم قادر حي معان لا نفهمها و لا نعقلها، فاللازم إرجاع معانيها إلى النفي، فالمعنى مثلا أنه ليس بمعدوم، و لا زائل، و لا جاهل، و لا عاجز و لا ميت فاعتبروا يا أولي الأبصار فهذا بالاستلزام زعم منهم بأنهم يؤمنون بما لا يدرون، و يعبدون ما لا يفهمون، و يدعون إلى ما لا يعقلون، و لا يعقله أحد من الناس، و قد كفتهم الدعوة الدينية مئونة هذه الأباطيل بالحق فحكم على العامة أن يحفظوا حقيقة القول و لب الحقيقة بين التشبيه و التنزيه فيقولوا: إن الله سبحانه شي‌ء لا كالأشياء و إن له علما لا كعلومنا، و قدرة لا كقدرتنا، و حياة لا كحياتنا، مريد لا بهمامة، متكلم لا بشق فم، و على الخاصة أن يتدبروا في آياته و يتفقهوا في دينه فقد قال الله سبحانه: {هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ} الزمر - ٩، و الخاصة كما لا يساوون العامة في درجات المعرفة، كذلك لا يساوونهم في التكاليف المتوجهة إليهم، فهذا هو التعليم الديني النازل في حقهم لو أنهم كانوا يأخذون به.

  • قوله تعالى: {وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ اَلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ}، الأمي‌ من لا يقرأ و لا يكتب منسوب إلى الأم لأن عطوفة الأم و شفقتها كانت تمنعها أن ترسل ولدها إلى المعلم و تسلمه إلى تربيته، فكان يكتفي بتربية الأم، و الأماني‌ جمع أمنية، و هي الأكاذيب، فمحصل المعنى أنهم بين من يقرأ الكتاب و يكتبه فيحرفه و بين من لا يقرأ و لا يكتب و لا يعلم من الكتاب إلا أكاذيب المحرفين.

  • قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ}، الويل‌ هو الهلكة و العذاب الشديد و الحزن و الخزي و الهوان و كل ما يحذره الإنسان أشد الحذر و الاشتراء هو الابتياع.

  • قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ} إلخ، الضمائر إما راجعة إلى بني إسرائيل أو لخصوص المحرفين منهم و لكل وجه و على الأول يثبت الويل للأميين منهم أيضا.

  • قوله تعالى: {بَلى‌ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} إلخ، الخطيئة هي الحالة الحاصلة للنفس من كسب السيئة، و لذلك أتى بإحاطة الخطيئة بعد ذكر كسب 

تفسير الميزان ج۱

216
  •  

  • السيئة و إحاطة الخطيئة توجب أن يكون الإنسان المحاط مقطوع الطريق إلى النجاة كان الهداية لإحاطة الخطيئة به لا تجد إليه سبيلا فهو من أصحاب النار مخلدا فيها و لو كان في قلبه شي‌ء من الإيمان بالفعل، أو كان معه بعض ما لا يدفع الحق من الأخلاق و الملكات، كالإنصاف و الخضوع للحق، أو ما يشابههما لكانت الهداية و السعادة ممكنتي النفوذ إليه، فإحاطة الخطيئة لا تتحقق إلا بالشرك الذي قال تعالى فيه: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء - ٤٨، و من جهة أخرى إلا بالكفر و تكذيب الآيات كما قال سبحانه: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة - ٣٩، فكسب السيئة، و إحاطة الخطيئة كالكلمة الجامعة لما يوجب الخلود في النار.

  • و اعلم أن هاتين الآيتين قريبتا المعنى من قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلنَّصَارى‌ وَ اَلصَّابِئِينَ} إلخ: البقرة - ٦٢، و إنما الفرق أن الآيتين أعني قوله: {بَلى‌ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}، في مقام بيان أن الملاك في السعادة إنما هو حقيقة الإيمان و العمل الصالح دون الدعاوي و الآيتان المتقدمتان أعني قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلخ في مقام بيان أن الملاك فيها هو حقيقة الإيمان و العمل الصالح دون التسمي بالأسماء.

  • (بحث روائي)

  • في المجمع: في قوله: {وَ إِذَا لَقُوا اَلَّذِينَ}، (الآية) عن الباقر (علیه السلام) قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فنهى كبراؤهم عن ذلك و قالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فيحاجوهم به عند ربهم فنزلت هذه (الآية) 

  • و في الكافي، عن أحدهما (علیه السلام): في قوله تعالى: {بَلى‌ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}، قال: إذا جحدوا ولاية أمير المؤمنين فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

  • أقول: و روى قريبا من هذا المعنى الشيخ في أماليه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و الروايتان من الجري و التطبيق على المصداق، و قد عد سبحانه الولاية حسنة في 

تفسير الميزان ج۱

217
  •  

  • قوله: {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى‌ وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} الشورى - ٢٣، و يمكن أن يكون من التفسير لما سيجي‌ء في سورة المائدة أنها العمل بما يقتضيه التوحيد و إنما نسب إلى علي (علیه السلام) لأنه أول فاتح من هذه الأمة لهذا الباب فانتظر.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٨٣ الی ٨٨] 

  • {وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللَّهَ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ ذِي اَلْقُرْبى‌ وَ اَلْيَتَامى‌ وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ٨٣ وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ لاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ٨٤ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارى‌ تُفَادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتَابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلى‌ أَشَدِّ اَلْعَذَابِ وَ مَا اَللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ٨٥ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ٨٦ وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ وَ قَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} 

تفسير الميزان ج۱

218
  •  

  • {وَ آتَيْنَا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ أَ فَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوى‌ أَنْفُسُكُمُ اِسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ٨٧ وَ قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ ٨٨}

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، (الآية) في بديع نظمها تبتدئ أولا بالغيبة و تنتهي إلى الخطاب حيث تقول: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}، ثم إنها تذكر أولا الميثاق و هو أخذ للعهد، و لا يكون إلا بالقول، ثم تحكي ما أخذ عليه الميثاق فتبتدئ، فيه بالخبر، حيث تقول: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللَّهَ}، و تختتم بالإنشاء حيث تقول: {وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} إلخ. و لعل الوجه في ذلك كله أن الآيات المتعرضة لحال بني إسرائيل لما بدئت بالخطاب لمكان اشتمالها على التقريع و التوبيخ و جرت عليه كان سياق الكلام فيها الخطاب ثم لما تبدل الخطاب بالغيبة بعد قصة البقرة لنكتة داعية إليها كما مر حتى انتهت إلى هذه (الآية)، فبدئت أيضا بالغيبة لكن الميثاق حيث كان بالقول و بني على حكايته حكي بالخطاب فقيل: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللَّهَ} إلخ، و هو نهي في صورة الخبر. و إنما فعل ذلك دلالة على شدة الاهتمام به، كان الناهي لا يشك في عدم تحقق ما نهى عنه في الخارج، و لا يرتاب في أن المكلف المأخوذ عليه الميثاق سوف لا ينتهي عن نهيه، فلا يوقع الفعل قطعا و كذا قوله: {وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ ذِي اَلْقُرْبى‌ وَ اَلْيَتَامى‌ وَ اَلْمَسَاكِينِ}، كل ذلك أمر في صورة الخبر.

  • ثم إن الانتقال إلى الخطاب من قبل الحكاية أعطى فرصة للانتقال إلى أصل الكلام، و هو خطاب بني إسرائيل لمكان الاتصال في قوله: {وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} إلخ و انتظم بذلك السياق.

تفسير الميزان ج۱

219
  •  

  • قوله تعالى: {وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، أمر أو خبر بمعنى الأمر و التقدير و أحسنوا بالوالدين إحسانا، و ذي القربى و اليتامى و المساكين، أو التقدير: و تحسنون بالوالدين إحسانا، إلخ، و قد رتب موارد الإحسان أخذا من الأهم و الأقرب إلى المهم و الأبعد فقرابة الإنسان أقرب إليه من غيرهم، و الوالدان و هما الأصل الذي تتكي عليه و تقوم به شجرة وجوده أقرب من غيرهما من الأرحام، و في غير القرابة أيضا اليتامى أحق بالإحسان لصغرهم و فقدهم من يقوم بأمرهم من المساكين. هذا و قوله: {وَ اَلْيَتَامى‌}، اليتيم‌ من مات أبوه، و لا يقال لمن ماتت أمه يتيم. و قيل اليتيم في الإنسان إنما تكون من جهة الأب و في غير الإنسان من سائر الحيوان من جهة الأم و قوله تعالى: {وَ اَلْمَسَاكِينِ}، جمع مسكين‌ و هو الفقير العادم الذليل. و قوله تعالى: {حُسْناً} مصدر بمعنى الصفة جي‌ء به للمبالغة. و في بعض القراءات حسنا، بفتح الحاء و السين صفة مشبهة. و المعنى قولوا للناس قولا حسنا، و هو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس، كافرهم، و مؤمنهم و لا ينافي حكم القتال حتى تكون آية القتال ناسخة له لأن مورد القتال غير مورد المعاشرة فلا ينافي الأمر بحسن المعاشرة كما أن القول الخشن في مقام التأديب لا ينافي حسن المعاشرة.

  • قوله تعالى: {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}، خبر في معنى الإنشاء نظير ما مر في قوله: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللَّهَ}، و السفك‌ الصب.

  • قوله تعالى: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ}، التظاهر هو التعارف، و الظهير العون مأخوذ من الظهر لأن العون يلي ظهر الإنسان.

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}، الضمير للشأن و القصة كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ}.

  • قوله تعالى: {أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتَابِ}، أي ما هو الفرق بين الإخراج و الفدية حيث أخذتم بحكم الفدية و تركتم حكم الإخراج و هما جميعا في الكتاب‌ ، {أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتَابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}.

  • قوله تعالى: {وَ قَفَّيْنَا}، التقفية الاتباع و إتيان الواحد قفا الواحد.

  • قوله تعالى: {وَ آتَيْنَا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنَاتِ}، سيأتي الكلام فيه في سورة آل عمران.

تفسير الميزان ج۱

220
  •  

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع أغلف‌ من الغلاف أي قلوبنا محفوظة تحت لفائف و أستار و حجب، فهو نظير قوله تعالى: {وَ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} حم سجدة - ٥، و هو كناية عن عدم إمكان استماع ما يدعون إليه.

  • (بحث روائي)

  • في الكافي، عن أبي جعفر (علیه السلام): في قوله تعالى: {وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (الآية). قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم.

  • و في الكافي، أيضا عن الصادق (علیه السلام) قال: قولوا للناس و لا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو.

  • و في المعاني، عن الباقر (علیه السلام) قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله عز و جل يبغض السباب اللعان الطعان - على المؤمنين الفاحش المفحش السائل - و يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف.

  • أقول: و روى مثل الحديث في الكافي، بطريق آخر عن الصادق (علیه السلام) و كذا العياشي عنه (علیه السلام) و مثل الحديث الثاني في الكافي، عنه. و مثل الحديث الثالث العياشي عن الباقر (علیه السلام) و كان هذه المعاني استفيدت من إطلاق الحسن عند القائل و إطلاقه من حيث المورد.

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام) قال: إن الله بعث محمدا(صلى الله عليه وآله و سلم) بخمسة أسياف فسيف على أهل الذمة. قال الله: {وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}، نزلت في أهل الذمة ثم نسختها أخرى - قوله: {قَاتِلُوا اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(الحديث).

  • أقول: و هو منه (علیه السلام) أخذ بإطلاق آخر للقول و هو شموله للكلام و لمطلق التعرض. يقال لا تقل له إلا حسنا و خيرا أي لا تتعرض له إلا بالخير و الحسن، و لا تمسسه إلا بالخير و الحسن. هذا إن كان النسخ في قوله (علیه السلام) هو النسخ بالمعنى الأخص 

تفسير الميزان ج۱

221
  •  

  • و هو المصطلح و يمكن أن يكون المراد هو النسخ بالمعنى الأعم، على ما سيجي‌ء في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} البقرة - ١٠٦، و هو الكثير في كلامهم (علیهم السلام) لتكون هذه الآية و آية القتال غير متحدتين موردا.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٨٩ الی ٩٣] 

  • {وَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلْكَافِرِينَ ٨٩ بِئْسَمَا اِشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى‌ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُ بِغَضَبٍ عَلى‌ غَضَبٍ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ٩٠وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَ يَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اَللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٩١ وَ لَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسى‌ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظَالِمُونَ ٩٢ وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اِسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٩٣}

تفسير الميزان ج۱

222
  •  

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {وَ لَمَّا جَاءَهُمْ} إلخ، السياق يدل على أن هذا الكتاب هو القرآن.

  • و قوله: {وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا}، على وقوع تعرض بهم من كفار العرب، و أنهم كانوا يستفتحون أي يطلبون الفتح عليهم ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هجرته و أن ذلك الاستفتاح قد استمر منهم قبل الهجرة، بحيث كان الكفار من العرب أيضا يعرفون ذلك منهم لمكان قوله: {كَانُوا}، و قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا}، أي عرفوا أنه هو بانطباق ما كان عندهم من الأوصاف عليه كفروا.

  • قوله تعالى: {بِئْسَمَا اِشْتَرَوْا} بيان لسبب كفرهم بعد العلم و أن السبب الوحيد في ذلك هو البغي و الحسد، فقوله بغيا، مفعول مطلق نوعي. و قوله {أَنْ يُنَزِّلَ اَللَّهُ} متعلق به، و قوله تعالى: {فَبَاؤُ بِغَضَبٍ عَلى‌ غَضَبٍ}، أي رجعوا بمصاحبته أو بتلبس غضب بسبب كفرهم بالقرآن على غضب بسبب كفرهم بالتوراة من قبل، و المعنى أنهم كانوا قبل البعثة و الهجرة ظهيرا للنبي(صلى الله عليه وآله و سلم) و مستفتحا به و بالكتاب النازل عليه، ثم لما نزل بهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزل عليه القرآن و عرفوا أنه هو الذي كانوا يستفتحون به و ينتظرون قدومه هاج بهم الحسد، و أخذهم الاستكبار، فكفروا و أنكروا ما كانوا يذكرونه كما كانوا يكفرون بالتوراة من قبل، فكان ذلك منهم كفرا على كفر.

  • قوله تعالى: {وَ يَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}، أي يظهرون الكفر بما وراءه، و إلا فهم بالذي أنزل إليهم و هو التوراة أيضا كافرون.

  • قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ}، الفاء للتفريع. و السؤال متفرع على قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}، أي لو كان قولكم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} حقا و صدقا فلم تقتلون أنبياء الله، و لم كفرتم بموسى باتخاذ العجل، و لم قلتم عند أخذ الميثاق و رفع الطور: {سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا}.

  • قوله تعالى: {وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ}، الإشراب‌ هو السقي، و المراد بالعجل 

تفسير الميزان ج۱

223
  •  

  • حب العجل، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل و به يتعلق قوله في قلوبهم، ففي الكلام استعارتان أو استعارة و مجاز.

  • قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ}، بمنزلة أخذ النتيجة مما أورد عليهم من قتل الأنبياء و الكفر بموسى، و الاستكبار بإعلام المعصية، و فيه معنى الاستهزاء بهم

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى: {وَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُصَدِّقٌ} (الآية) قال (علیه السلام): كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما بين عير و أحد فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا حداد و أحد سواء، فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم بتيماء، و بعضهم بفدك، و بعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه، و قال لهم أمر بكم ما بين عير و أحد، فقالوا له إذا مررت بهما فأذنا لهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال ذلك عير و هذا أحد فنزلوا عن ظهر إبله و قالوا له قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت و كتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك و خيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا فكتبوا إليهم أنا قد استقرت بنا الدار و اتخذنا بها الأموال و ما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم، و اتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إني قد استطبت بلادكم و لا أراني إلا مقيما فيكم، فقالوا: ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي، و ليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك، فقال لهم فإني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده و نصره فخلف حيين تراهم: الأوس و الخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) لنخرجنكم من ديارنا و أموالنا فلما بعث الله محمدا آمنت به الأنصار و كفرت به اليهود و هو قوله تعالى: {وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا} 

تفسير الميزان ج۱

224
  •  

  • إلى آخر (الآية).

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس ":أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس و الخزرج برسول الله - قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به و جحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل و بشر بن أبي البراء و داود بن سلمة يا معشر اليهود اتقوا الله و أسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد و نحن أهل شرك و تخبرونا بأنه مبعوث و تصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير ما جاءنا بشي‌ء نعرفه و ما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله: {وَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ} (الآية).

  • و في الدر المنثور، أيضا أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء و الضحاك عن ابن عباس قال":كانت يهود بني قريظة و النضير من قبل أن يبعث محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) يستفتحون الله، يدعون على الذين كفروا و يقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم فينصرون فلما جاءهم ما عرفوا يريد محمدا(صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يشكوا فيه كفروا به.

  • أقول: و روى قريبا من هذين المعنيين بطرق أخرى أيضا. قال بعض المفسرين بعد الإشارة إلى الرواية الأخيرة و نظائرها: إنها على ضعف رواتها و مخالفتها للروايات المنقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و في بعض بحقه و هذا غير مشروع و لا حق لأحد على الله فيدعى به انتهى.

  • و هذا ناش من عدم التأمل في معنى الحق و في معنى القسم. بيانه: أن القسم هو تقييد الخبر أو الإنشاء بشي‌ء ذي شرافة و كرامة من حيث إنه شريف أو كريم فتبطل شرافته أو كرامته ببطلان النسبة الكلامية، فإن كان خبرا فببطلان صدقه و إن كان إنشاء أمرا أو نهيا فبعدم امتثال التكليف. فإذا قلت: لعمري إن زيدا قائم فقد قيدت صدق كلامك بشرافة عمرك و حياتك و علقتها عليه بحيث لو كان حديثك كاذبا كان عمرك فاقدا للشرافة، و كذا إذا قلت أفعل كذا و حياتي أو قلت أقسمك بحياتي أن تفعل كذا فقد قيدت أمرك بشرف حياتك بحيث لو لم يأتمر مخاطبك لذهب بشرف 

تفسير الميزان ج۱

225
  •  

  • حياتك و قيمة عمرك.

  • و من هنا يظهر أولا: أن القسم أعلى مراتب التأكيد في الكلام كما ذكره أهل الأدب.

  • و ثانيا: أن المقسم به يجب أن يكون أشرف من متعلقه فلا معنى لتأكيد الكلام بما هو دونه في الشرف و الكرامة. و قد أقسم الله تعالى في كتابه باسم نفسه و وصفه كقوله: {وَ اَللَّهِ رَبِّنَا}و كقوله: {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ} و قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ} و أقسم بنبيه و ملائكته و كتبه و أقسم بمخلوقاته كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الليل و النهار و اليوم و الجبال و البحار و البلاد و الإنسان و الشجر و التين و الزيتون. و ليس إلا أن لها شرافة حقة بتشريف الله و كرامة على الله من حيث إن كلا منها إما ذو صفة من أوصافه المقدسة الكريمة بكرامة ذاته المتعالية أو فعل منسوب إلى منبع البهاء و القدس - و الكل شريف بشرف ذاته الشريفة - فما المانع للداعي منا إذا سأل الله شيئا أن يسأله بشي‌ء منها من حيث إن الله سبحانه شرفه و أقسم به؟ و ما الذي هون الأمر في خصوص رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى أخرجه من هذه الكلية و استثناء من هذه الجملة؟

  • و لعمري ليس رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) بأهون عند الله من تينة عراقية، أو زيتونة شامية، و قد أقسم الله بشخصه الكريم فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ{ الحجر - ٧٢.

  • ثم إن الحق - و يقابله الباطل - هو الثابت الواقع في الخارج من حيث إنه كذلك كالأرض و الإنسان و كل أمر ثابت في حد نفسه و منه الحق المالي و سائر الحقوق الاجتماعية حيث إنها ثابتة بنظر الاجتماع و قد أبطل القرآن كل ما يدعى حقا إلا ما حققه الله و أثبته سواء في الإيجاد أو في التشريع فالحق في عالم التشريع و ظرف الاجتماع الديني هو ما جعله الله حقا كالحقوق المالية و حقوق الإخوان و الوالدين على الولد و ليس هو سبحانه محكوما بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم به كما ربما يظهر من بعض 

تفسير الميزان ج۱

226
  •  

  • الاستدلالات الاعتزالية غير أنه من الممكن أن يجعل على نفسه حقا، جعلا بحسب لسان التشريع فيكون حقا لغيره عليه تعالى كما قال تعالى: {كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ} يونس - ١٠٣، و قال تعالى: {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ. وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ} الصافات - ١٧١، ١٧٢، ١٧٣.

  • و النصر كما ترى مطلق، غير مقيد بشي‌ء فالإنجاء حق للمؤمنين على الله، و النصر حق للمرسل على الله تعالى و قد شرفه الله تعالى حيث جعله له فكان فعلا منه منسوبا إليه مشرفا به فلا مانع من القسم به عليه تعالى و هو الجاعل المشرف للحق و المقسم بكل أمر شريف.

  • إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن لا مانع من إقسام الله تعالى بنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أو بحق نبيه و كذا إقسامه بأوليائه الطاهرين أو بحقهم و قد جعل لهم على نفسه حقا أن ينصرهم في صراط السعادة بكل نصر مرتبط بها كما عرفت.

  • و أما قول القائل: ليس لأحد على الله حق فكلام واه.

  • نعم ليس على الله حق يثبته عليه غيره فيكون محكوما بحكم غيره مقهورا بقهر سواه. و لا كلام لأحد في ذلك و لا أن الداعي يدعوه بحق ألزمه به غيره بل بما جعله هو تعالى بوعده الذي لا يخلف هذا.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ٩٤ الی ٩٩] 

  • {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنَّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٩٤ وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ٩٥ وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ اَلنَّاسِ عَلى‌ حَيَاةٍ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ 

تفسير الميزان ج۱

227
  • أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ اَلْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اَللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ٩٦ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‌ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى‌ لِلْمُؤْمِنِينَ ٩٧ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكَالَ فَإِنَّ اَللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ٩٨ وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ مَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ اَلْفَاسِقُونَ ٩٩}

  •  (بيان)

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ} إلخ، لما كان قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا اَلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} و قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} في جواب ما قيل لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} يدلان بالالتزام على دعواهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم و أن نجاتهم و سعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك و شقاء لأنهم ليسوا بزعمهم بمعذبين إلا أياما معدودة و هي أيام عبادتهم للعجل، قابلهم الله تعالى خطابا بما يظهر به كذبهم في دعواهم و أنهم يعلمون ذلك من غير تردد و ارتياب فقال تعالى لنبيه: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ} أي سعادة تلك الدار فإن من ملك دارا فإنما يتصرف فيها بما يستحسنه و يحبه و يحل منها بأجمل ما يمكن و أسعده و قوله: {عِنْدَ اَللَّهِ}أي مستقرا عنده تعالى و بحكمه و إذنه، فهو كقوله تعالى: {إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْإِسْلاَمُ} آل عمران - ١٩ و قوله تعالى: {خَالِصَةً}أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنكم لا تعذبون فيها إلا أياما معدودة، قوله تعالى: {مِنْ دُونِ اَلنَّاسِ}و ذلك لزعمكم بطلان كل دين إلا دينكم، و قوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}و هذا كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ اَلنَّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الجمعة - ٦ و هذه مؤاخذة بلازم فطري بين الأثر في 

تفسير الميزان ج۱

228
  •  

  • الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشك و هو أن الإنسان بل كل موجود ذي شعور إذا خير بين الراحة و التعب اختار الراحة من غير تردد و تذبذب و إذا خير بين حياة و عيشة مكدرة مشوبة و أخرى خالصة صافية اختار الخالصة الهنيئة قطعا و لو فرض ابتلاؤه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقية ردية أو عيشة منغصة لم يزل يتمنى الأخرى الطيبة الهنيئة فلا ينفك عن التحسر له في قلبه و عن ذكره في لسانه و عن السعي إليه في عمله.

  • فلو كانوا صادقين في دعواهم أن السعادة الخالصة الأخروية لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنوه جنانا و لسانا و أركانا و لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم من قتل الأنبياء و الكفر بموسى و نقض المواثيق و الله عليم بالظالمين.

  • قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} كناية عن العمل فإن معظم العمل عند الحس يقع بواسطة اليد فيقدم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه ففيه عنايتان نسبة التقديم إلى الأيدي دون أصحاب الأيدي و عد كل فعل عملا للأيدي.

  • و بالجملة أعمال الإنسان و خاصة ما يستمر صدوره منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره و ارتكز في باطنه و الأعمال الطالحة و الأفعال الخبيثة لا يكشف إلا عن طوية خبيثة تأبى أن تميل إلى لقاء الله و الحلول في دار أوليائه.

  • قوله تعالى: {وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ اَلنَّاسِ عَلى‌ حَيَاةٍ}، كالدليل المبين لقوله تعالى: {وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} أي و يشهد على أنهم لن يتمنوا الموت، إنهم أحرص الناس على هذه الحياة الدنيا التي لا حاجب و لا مانع عن تمني الدار الآخرة إلا الحرص عليها و الإخلاد إليها، و التنكير في قوله تعالى: {عَلى‌ حَيَاةٍ} للتحقير كما قال تعالى: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت - ٦٤.

  • قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا} الظاهر أنه عطف على الناس و المعنى و لتجدنهم أحرص من الذين أشركوا.

  • قوله تعالى: {وَ مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ اَلْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ}، الظاهر أن ما نافية و ضمير 

تفسير الميزان ج۱

229
  •  

  • هو إما للشأن و القصة و أن يعمر مبتدأ خبره قوله: {بِمُزَحْزِحِهِ} أي بمبعده، و إما راجع إلى ما يدل عليه قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}، أي و ما الذي يوده بمزحزحه من العذاب. و قوله تعالى: {أَنْ يُعَمَّرَ} بيان له و معنى الآية و لن يتمنوا الموت و أقسم لتجدنهم أحرص الناس على هذه الحياة الحقيرة الردية الصارفة عن تلك الحياة السعيدة الطيبة بل تجدهم أحرص على الحياة من الذين أشركوا الذين لا يرون بعثا و لا نشورا يود أحدهم لو يعمر أطول العمر و ليس أطول العمر بمبعده من العذاب لأن العمر و هو عمر بالأخرة محدود منته إلى أمد و أجل.

  • قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}، أي أطول العمر و أكثره، فالألف كناية عن الكثرة و هو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الإفرادي عند العرب و الزائد عليه يعبر عنه بالتكرير و التركيب كعشرة آلاف و مائة ألف و ألف ألف.

  • قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}، البصير من أسمائه الحسنى و معناه العلم بالمبصرات فهو من شعب اسم العليم.

  • قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‌ قَلْبِكَ} إلخ. السياق يدل على أن الآية نزلت جوابا عما قالته اليهود و أنهم تابوا و استنكفوا عن الإيمان بما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و عللوه بأنهم عدو لجبريل النازل بالوحي إليه. و الشاهد على ذلك أن الله سبحانه يجيبهم في القرآن و في جبريل معا في الآيتين و ما ورد من شأن النزول يؤيد ذلك فأجاب عن قولهم: إنا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل به أولا: أن جبريل إنما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله، و ثانيا: أن القرآن مصدق لما في أيديهم من الكتاب الحق و لا معنى للإيمان بأمر و الكفر بما يصدقه. و ثالثا. أن القرآن هدى للمؤمنين به، و رابعا أنه بشرى و كيف يصح لعاقل أن ينحرف عن الهداية و يغمض عن البشرى و لو كان الآتي بذلك عدوا له.

  • و أجاب عن قولهم: إنا عدو جبريل أن جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلا امتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال و سائر الملائكة و هم عباد مكرمون لا يعصون 

تفسير الميزان ج۱

230
  •  

  • الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون، و كذلك رسل الله لا شأن لهم إلا بالله و من الله سبحانه فبغضهم و استعدائهم بغض و استعداء لله و من كان عدوا لله و ملائكته و رسله و جبريل و ميكال فإن الله عدو لهم، و إلى هذين الجوابين تشير الآيتان.

  • قوله تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‌ قَلْبِكَ}، فيه التفات من التكلم إلى الخطاب و كان الظاهر أن يقال على قلبي، لكن بدل من الخطاب للدلالة على أن القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل و إنما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلقيه و تبليغه لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا أن قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئا و هو مأمور بالتبليغ.

  • و اعلم أن هذه الآيات في أواخرها، أنواع الالتفات و إن كان الأساس فيها الخطاب لبني إسرائيل، غير أن الخطاب إذا كان خطاب لوم و توبيخ و طال الكلام صار المقام مقام استملال للحديث مع المخاطب و استحقار لشأنه فكان من الحري للمتكلم البليغ الإعراض عن المخاطبة تارة بعد أخرى بالالتفات بعد الالتفات للدلالة على أنه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم و خسة نفوسهم و لا يرضى بترك خطابهم إظهارا لحق القضاء عليهم.

  • قوله تعالى: {عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}، فيه وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه الدلالة على علة الحكم كأنه قيل: فإن الله عدو لهم لأنهم كافرون و الله عدو للكافرين.

  • قوله تعالى: {وَ مَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ اَلْفَاسِقُونَ}، فيه دلالة على علة الكفر و أنه الفسق فهم لكفرهم فاسقون و لا يبعد أن يكون اللام في قوله: {اَلْفَاسِقُونَ} للعهد الذكري و يكون ذلك إشارة إلى ما مر في أوائل السورة من قوله تعالى: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (الآية).

  • و أما الكلام في جبريل و كيفية تنزيله القرآن على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و كذا الكلام في ميكال و الملائكة فسيأتي فيما يناسبه من المحل إن شاء الله.

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع: في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} الآيتان، قال ابن عباس كان 

تفسير الميزان ج۱

231
  •  

  • سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا و جماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان.

  • فقال تنام عيناي؛ و قلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال أما العظام و العصب و العروق فمن الرجل و أما اللحم و الدم و الظفر و الشعر فمن المرأة. قالوا: صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه و ليس له من شبه أخواله شي‌ء؟ أو يشبه أخواله و ليس فيه من شبه أعمامه شي‌ء؟ فقال أيهما علا ماؤه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمد فأخبرنا عن ربك ما هو؟ فأنزل الله سبحانه: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخر السورة. فقال له ابن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك. أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟ قال: فقال جبرئيل. قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال و الشدة و الحرب و ميكائيل ينزل باليسر و الرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك.

  • أقول: قوله تنام عيناي و قلبي يقظان، قد استفاض الحديث من العامة و الخاصة أنه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تنام عينه و لا ينام قلبه و معناه أنه كان لا يغفل بالنوم عن نفسه فكان و هو في النوم يعلم أنه نائم و أن ما يراه رؤيا يراها ليس باليقظة، و هذا أمر بما يتفق للصالحين أحيانا عند طهارة نفوسهم و اشتغالها بذكر مقام ربهم و ذلك أن إشراف النفس على مقام ربها لا يدعها غافلة عما لها من طور الحياة الدنيوية و نحو تعلقها بربها. و هذا نحو مشاهدة يبين للإنسان أنه في عالم الحياة الدنيا على حال النوم سواء معه النوم الذي يراه الناس نوما فقط و كذا اليقظة التي يراها الناس يقظة و أن الناس و هم معتكفون على باب الحس مخلدون إلى أرض الطبيعة، رقود و إن عدوا أنفسهم أيقاظا.

  • فعن علي (علیه السلام): الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا (الحديث). و سيأتي زيادة استيفاء لهذا البحث و كذا الكلام في سائر فقرات هذا الحديث في مواضع مناسبة من هذا الكتاب إن شاء الله.

  •  

  •  [سورة البقرة (٢): الآیات ١٠٠الی ١٠١]

  •  {أَ وَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ} 

تفسير الميزان ج۱

232
  •  

  • يُؤْمِنُونَ ٠ وَ لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ كِتَابَ اَللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ١} 

  • (بيان) 

  • قوله تعالى: {نَبَذَهُ}، النبذ الطرح.

  • قوله تعالى: {وَ لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ}، المراد به رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لا كل رسول كان يأتيهم مصدقا لما معهم، لعدم دلالة قوله: {وَ لَمَّا جَاءَهُمْ} على الاستمرار بل إنما يدل على الدفعة، و الآية تشير إلى مخالفتهم للحق من حيث كتمانهم بشارة التوراة و عدم إيمانهم بمن يصدق ما معهم.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ١٠٢ الی ١٠٣] 

  • {وَ اِتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا اَلشَّيَاطِينُ عَلى‌ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَ مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَ لَكِنَّ اَلشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ اَلنَّاسَ اَلسِّحْرَ وَ مَا أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَ مَارُوتَ وَ مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَ لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٢ وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٣} 

تفسير الميزان ج۱

233
  •  

  • (بيان) [ فيما نسب من السحر إلى سليمان و هاروت و ماروت]

  • قوله تعالى: {وَ اِتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا اَلشَّيَاطِينُ عَلى‌ مُلْكِ}، إلخ، قد اختلف المفسرون في تفسير الآية اختلافا عجيبا لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله: {اِتَّبَعُوا}، أ هم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان، أو الذين في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أو الجميع؟ و اختلفوا في قوله: {تَتْلُوا}، هل هو بمعنى تتبع الشياطين و تعمل به أو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب؟ و اختلفوا في قوله: {اَلشَّيَاطِينُ}، فقيل هم شياطين الجن و قيل شياطين الإنس و قيل هما معا، و اختلفوا في قوله: {عَلى‌ مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، فقيل معناه في ملك سليمان، و قيل معناه في عهد ملك سليمان و قيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على، و قيل معناه على عهد ملك سليمان، و اختلفوا في قوله: {وَ لَكِنَّ اَلشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}، فقيل إنهم كفروا بما استخرجوه من السحر إلى الناس و قيل إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر، و قيل إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر، و اختلفوا في قوله: {يُعَلِّمُونَ اَلنَّاسَ اَلسِّحْرَ}، فقيل إنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه، و قيل إنهم دلوا الناس على استخراج السحر و كان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه و تعلموه، و اختلفوا في قوله: {وَ مَا أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ}،فقيل ما موصولة و العطف على قوله: {مَا تَتْلُوا}، و قيل ما موصولة و العطف على قوله: {اَلسِّحْرَ}،أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين، و قيل ما نافية و الواو استينافية أي و لم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود، و اختلفوا في معنى الإنزال فقيل إنزال من السماء و قيل بل من نجود الأرض و أعاليها، و اختلفوا في قوله: {اَلْمَلَكَيْنِ}، فقيل كانا من ملائكة السماء، و قيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه، بكسر اللام كما قرئ كذلك في الشواذ، أو ملكين بفتح اللام أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح، إن قرأناه على ما قرأ به المشهور و اختلفوا في قوله: {بِبَابِلَ}، فقيل هي بابل العراق و قيل بابل دماوند، و قيل، من نصيبين إلى رأس العين، و اختلفوا في قوله: {وَ مَا يُعَلِّمَانِ}، فقيل علم بمعناه الظاهر، و قيل علم بمعنى أعلم، و اختلفوا في قوله: {فَلاَ تَكْفُرْ}، فقيل، لا تكفر بالعمل بالسحر، و قيل لا تكفر بتعلمه، و قيل بهما معا،

تفسير الميزان ج۱

234
  •  

  • و اختلفوا في قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا}، فقيل أي من هاروت و ماروت، و قيل أي من السحر و الكفر، و قيل بدلا مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله، و اختلفوا في قوله: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ}، فقيل أي يوجدون به حبا و بغضا بينهما، و قيل إنهم يغرون أحد الزوجين و يحملونه على الكفر و الشرك فيفرق بينهما اختلاف الملة و النحلة و قيل إنهم يسعون بينهما بالنميمة و الوشاية فيئول إلى الفرقة، فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية و جمله، و هناك اختلافات أخر في الخارج من القصة في ذيل الآية و في نفس القصة، و هل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل؟ أو غير ذلك؟ و إذا ضربت بعض الأرقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقى الاحتمالات إلى كمية عجيبة و هي ما يقرب من ألف ألف و مائتين و ستين ألف احتمال (٤*٣٩ *٢٤)

  • و هذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردد الآية بين مذاهب و احتمالات تدهش العقول و تحير الألباب، و الكلام بعد متك على أريكة حسنة متجمل في أجمل جماله متحل بحلي بلاغته و فصاحته و سيمر بك نظيرة هذه الآية و هي قوله تعالى: {أَ فَمَنْ كَانَ عَلى‌ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسى‌ إِمَاماً وَ رَحْمَةً} هود - ١٧.

  • و الذي ينبغي أن يقال: أن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شئون اليهود و هو تداول السحر بينهم، و أنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبي و الملكين ببابل هاروت و ماروت، فالكلام معطوف على ما عندهم من القصة التي يزعمونها إلا أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف و تغيير في المعارف و الحقائق فلا يؤمنون و لا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرفة مغيرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول و الفعل و فيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية، و كيف كان فيلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعما منهم أن سليمان (علیه السلام) إنما ملك الملك و سخر الجن و الإنس و الوحش و الطير، و أتى بغرائب الأمور و خوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم، و ينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت و ماروت فرد عليهم القرآن بأن سليمان (علیه السلام) لم يكن يعمل 

تفسير الميزان ج۱

235
  •  

  • بالسحر، كيف و السحر كفر بالله و تصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه و أظهره على خيال الموجودات الحية و حواسها؟ و لم يكفر سليمان (علیه السلام) و هو نبي معصوم، و هو قوله تعالى: {وَ مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَ لَكِنَّ اَلشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ اَلنَّاسَ اَلسِّحْرَ}و قوله تعالى: {وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَرَاهُ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} فسليمان (علیه السلام) أعلى كعبا و أقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر و الكفر و قد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة كسورة الأنعام و الأنبياء و النمل و سورة (ص) و فيها أنه كان عبدا صالحا و نبيا مرسلا آتاه الله العلم و الحكمة و وهب له من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافية و الأساطير التي وضعتها الشياطين و تلوها و قرءوها على أوليائهم من الإنس و كفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر. و رد عليهم القرآن في الملكين ببال هاروت و ماروت بأنه و إن أنزل عليهما ذلك و لا ضير في ذلك لأنه فتنة و امتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر و الفساد فتنة و امتحانا و هو من القدر، فهما و إن أنزل عليهما السحر إلا أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلا و يقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر و الكشف عن بغي أهله و هم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به أصلح ما وضعه الله في الطبيعة و العادة، فيفرقون به بين المرء و زوجه ابتغاء للشر و الفساد و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم، فقوله تعالى: {وَ اِتَّبَعُوا} أي اتبعت اليهود الذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا، أي تضع و تكذب الشياطين من الجن على ملك سليمان و الدليل على أن تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى و على أن الشياطين هم الجن كون هؤلاء تحت تسخير سليمان و معذبين بعذابه، و بذلك كان (علیه السلام) يحبسهم عن الإفساد، قال تعالى: {وَ مِنَ اَلشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} الأنبياء - ٨٢، و قال تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي اَلْعَذَابِ اَلْمُهِينِ} سبأ - ١٤.

  • قوله تعالى: {وَ مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، أي و الحال أن سليمان لم يسحر حتى يكفر و لكن الشياطين كفروا، و الحال أنهم يضلون الناس و يعلمونهم السحر.

  • قوله تعالى: {وَ مَا أُنْزِلَ}، أي و اتبعت اليهود ما أنزل بالإخطار و الإلهام على 

تفسير الميزان ج۱

236
  •  

  • الملكين ببابل هاروت و ماروت، و الحال أنهما ما يعلمان السحر من أحد حتى يحذراه العمل به و يقولا إنما نحن فتنة لكم و امتحان تمتحنون بنا بما نعلمكم فلا تكفر باستعماله.

  • قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا}، أي من الملكين و هما هاروت و ماروت‌ {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ}،أي سحرا يفرقون بعمله و تأثيره بين المرء و زوجه.

  • قوله تعالى: {وَ مَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ}، دفع لما يسبق إلى الوهم أنهم بذلك يفسدون أمر الصنع و التكوين و يسبقون تقدير الله و يبطلون أمره فدفعه بأن السحر نفسه من القدر لا يؤثر إلا بإذن الله فما هم بمعجزين، و إنما قدم هذه الجملة على قوله: {وَ يَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنْفَعُهُمْ}، لأن هذه الجملة أعني: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ}، وحدها مشتملة على ذكر التأثير، فأردفت بأن هذا التأثير بإذن الله.

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}، علموا ذلك بعقولهم لأن العقل لا يرتاب في أن السحر أشأم منابع الفساد في الاجتماع الإنساني و علموا ذلك أيضا من قول موسى فإنه القائل: {وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتى‌}، طه - ٦٩.

  • قوله تعالى: {وَ لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، أي إنهم مع كونهم عالمين بكونه شرا لهم مفسدا لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإن العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالا و جهلا لا علما، قال تعالى: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلى‌ عِلْمٍ} الجاثية - ٢٣.

  • فهؤلاء مع علمهم بالأمر ينبغي أن يتمنى المتمني لهم العلم و الهداية.

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا}، إلخ أي اتبعوا الإيمان و التقوى، بدل اتباع أساطير الشياطين، و الكفر بالسحر، و فيه دليل على أن الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكاة، لا كفر في مرتبة الاعتقاد، و لو كان السحر كفرا في الاعتقاد لقال تعالى: و لو أنهم آمنوا لمثوبة، إلخ، و اقتصر على الإيمان و لم يذكر التقوى فاليهود آمنوا و لكن لما لم يتقوا و لم يرعوا محارم الله، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين.

تفسير الميزان ج۱

237
  •  

  • قوله تعالى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، أي من المثوبات و المنافع التي يرومونها بالسحر و يقتنونها بالكفر هذا.

  • بحث روائي بحث آخر فيما نسب من السحر إلى سليمان و هاروت و ماروت

  • في تفسير العياشي، و القمي: في قوله تعالى: {وَ اِتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا اَلشَّيَاطِينُ عَلى‌ مُلْكِ سُلَيْمَانَ} عن الباقر (علیه السلام) في حديث: فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر و كتبه في كتاب ثم طواه و كتب على ظهره، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا و كذا فليعمل كذا و كذا ثم دفنه تحت سريره ثم استتاره لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا، و قال المؤمنون: بل هو عبد الله و نبيه، فقال الله جل ذكره: {وَ اِتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا اَلشَّيَاطِينُ عَلى‌ مُلْكِ سُلَيْمَانَ}.

  • أقول: إسناد الوضع و الكتابة و القراءة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجن و الإنس لانتهاء الشر كله إليه و انتشاره منه لعنه الله، إلى أوليائه بالوحي و الوسوسة و ذلك شائع في لسان الأخبار. و ظاهر الحديث أن كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القراءة و هذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق: أن تتلو بمعنى يكذب لأن إفادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه، و تقدير قوله: {تَتْلُوا اَلشَّيَاطِينُ عَلى‌ مُلْكِ سُلَيْمَانَ} يقرءونه كاذبين على ملك سليمان و الأصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى يلي ولاية و هو أن يملك الشي‌ء من حيث الترتيب و وقوع جزء منه عقيب جزء آخر، و سيأتي الكلام فيه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ} المائدة - ٥٨.

  • و في العيون: في حديث الرضا (علیه السلام) مع المأمون، و أما هاروت و ماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة و يبطلوا كيدهم و ما علما أحدا من ذلك شيئا إلا قالا له إنما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه و جعلوا يفرقون بما يعملونه بين المرء و زوجه، قال الله تعالى: {وَ مَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ}.

تفسير الميزان ج۱

238
  •  

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال ":كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادة و هي امرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأخذه و لبسه فلما لبسه دانت له شياطين الجن و الإنس فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنه بلاء ابتلي به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر و كفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها فقرءوها على الناس فقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرئ الناس من سليمان و أكفروه حتى بعث الله محمدا و أنزل عليه: {وَ مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَ لَكِنَّ اَلشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}.

  • أقول: و القصة مروية في روايات أخرى و هي قصة طويلة من جملة القصص الواردة في عثرات الأنبياء مذكورة في جملتها.

  • و في الدر المنثور، أيضا و أخرج سعيد بن جرير و الخطيب في تاريخه عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر فلما كان في آخر الليل، قال يا نافع: انظر هل طلعت الحمراء؟ قلت لا، مرتين أو ثلاثا ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبا بها و لا أهلا. قلت: سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع. قال ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). قال: إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا و الذنوب؟ قال: إني أبليتهم و عافيتهم. قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال: فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت و ماروت فنزلا، فألقى الله عليهما الشبق. قلت: و ما الشبق؟ قال: الشهوة فجاءت امرأة يقال لها الزهرة فوقعت في قلوبهما فجعل كل واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه ثم قال أحدهما للآخر هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟ قال: نعم، فطالباها لأنفسهما فقالت لا أمكنكما حتى تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء و تهبطان فأبيا ثم سألاها أيضا فأبت. ففعلا فلما استطيرت طمسها الله كوكبا و قطع أجنحتهما ثم سألا التوبة من ربهما فخيرهما فقال إن شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه، فإذا كان يوم القيامة عذبتكما، و إن شئتما عذبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه، فقال أحدهما لصاحبه إن عذاب الدنيا ينقطع و يزول فاختارا 

تفسير الميزان ج۱

239
  •  

  • عذاب الدنيا على عذاب الآخرة فأوحى الله إليهما أن ائتيا بابل فانطلقا إلى بابل فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء و الأرض معذبان إلى يوم القيامة.

  • أقول: و قد روي قريب منه في بعض كتب الشيعة مرفوعا عن الباقر (علیه السلام) و روى السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت و ماروت و الزهرة نيفا و عشرين حديثا، صرحوا بصحة طريق بعضها. و في منتهى إسنادها عدة من الصحابة كابن عباس و ابن مسعود و علي و أبي الدرداء و عمر و عائشة و ابن عمر. و هذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم و طهارة وجودهم عن الشرك و المعصية أغلظ الشرك و أقبح المعصية، و هو: عبادة الصنم و القتل و الزنا و شرب الخمر و تنسب إلى كوكبة الزهرة أنها امرأة زانية مسخت و أنها أضحوكة و هي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها و صنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله: {اَلْجَوَارِ اَلْكُنَّسِ} التكوير - ١٦ على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها و كشف عن عنصرها و كميتها و كيفيتها و سائر شئونها.

  • فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصة هاروت و ماروت، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب و النجوم.

  • و من هاهنا يظهر للباحث المتأمل: أن هذه الأحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الأنبياء و عثراتهم لا تخلو من دس دسته اليهود فيها و تكشف عن تسربهم الدقيق و نفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الأول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاءوا من الدس و الخلط و أعانهم على ذلك قوم آخرون.

  • لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة إلهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم أتبعه بشهاب مبين، فقال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر - ٩، و قال {وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فصلت - ٤٢ و قال: {وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} إسراء - ٨٢ 

تفسير الميزان ج۱

240
  •  

  • فأطلق القول و لم يقيد، فما من خلط أو دس إلا و يدفعه القرآن و يظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله و إقراء صفحة تاريخه،- و قال رسول الله فيما رواه الفريقان: ما وافق كتاب الله فخذوه و ما خالفه فاتركوه. فأعطى ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه و من أوليائه، و بالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق ثم لا يلبث أن يظهر بطلانه و يمات عن القلوب الحية كما أميت عن الأعيان. قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} الأنبياء - ١٨، و قال تعالى: {وَ يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} الأنفال - ٧، و قال تعالى: {لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبَاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ}الأنفال - ٨، و لا معنى لإحقاق الحق و لا لإبطال الباطل إلا إظهار صفتهما.

  • و بعض الناس و خاصة من أهل عصرنا من المتوغلين في الأبحاث المادية و المرعوبين من المدنية الغربية الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوء و أخذوا بطرح جميع ما تضمنته سنة رسول الله و اشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط، قبال ما سلكه بعض الأخباريين و أصحاب الحديث و الحرورية و غيرهم مسلك الإفراط و الأخذ بكل رواية منقولة كيف كانت. و كما أن القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميز الحق من الباطل و نسبة الباطل و اللغو من القول إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كذلك الطرح الكلي تكذيب لها و إلغاء و إبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و هو القائل جل ثناؤه: {مَا آتَاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر - ٧ و قوله تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ} النساء - ٦٤، إذ لو لم يكن لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حجية أو لما ينقل من قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر، و الركون على النقل و الحديث مما يعتوره البشر و يقبله في حياته الاجتماعية قبولا يضطر إليه بالبداهة و يهديه إلى ذلك الفطرة الإنسانية لا غنى له عن ذلك، و أما وقوع الدس و الخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين كيف و رحى الاجتماع بجميع جهاتها و أركانها تدور على الأخبار الدائرة اليومية العامة و الخاصة، و وجوده الكذب و الدس و الخلط فيها أزيد و أيدي السياسات الكلية و الجزئية بها ألعب؟ و نحن على فطرتنا 

تفسير الميزان ج۱

241
  •  

  • الإنسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الأخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه و صدقه قبلناه و إن خالفه و كذبه طرحناه و إن لم يتبين شي‌ء من أمره و لم يتميز حقه من باطله و صدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول و لا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور و المضار.

  • هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل إلينا، و أما ما لا خبرة للإنسان فيه من الأخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع إلى أهل خبرته و الأخذ بما يرون فيه و يحكمون به هذا.

  • فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الإنساني، و الميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل و كذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه، و هو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شي‌ء أخذ به و إن لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة، و على ذلك أخبار متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأئمة من أهل بيته. هذا كله في غير المسائل الفقهية و أما هي فالمرجع في البحث عنها فن أصول الفقه.

  • (بحث فلسفي) [بحث آخر فيما نسب من السحر إلى سليمان و هاروت و ماروت] 

  • من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة و النقل، فقلما يوجد منا من لم يشاهد شيئا من خوارق الأفعال أو لم ينقل إليه شي‌ء من ذلك قليل أو كثير إلا أن البحث الدقيق في كثير منها يبين رجوعها إلى الأسباب الطبيعية العادية، فكثير من هذه الأفعال الخارقة يتقوى بها أصحابها بالاعتياد و التمرين كأكل السموم و حمل الأثقال و المشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك، و كثير منها تتكي على أسباب طبيعية مخفية على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار و لا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه أو يكتب كتابا لا خط عليه و لا يقرؤه إلا صاحبه، و إنما كتب بمايع لا يظهر إلا إذا عرض الكتاب على النار إلى غير ذلك. و كثير منها يحصل بحركات 

تفسير الميزان ج۱

242
  •  

  • سريعة تخفى على الحس لسرعتها فلا يرى الحس إلا أنه وقع من غير سبب طبيعي كالخوارق التي يأتي بها أصحاب الشعبذة، فهذه كلها مستندة إلى أسباب عادية مخفية علي حسنا أو غير مقدورة لنا لكن بعض هذه الخوارق لا يحلل إلى الأسباب الطبيعية الجارية على العادة كالإخبار عن بعض المغيبات و خاصة ما يقع منها في المستقبل و كأعمال الحب و البغض و العقد و الحل و التنويم و التمريض و عقد النوم و الإحضار و التحريكات بالإرادة مما يقع من أرباب الرياضات و هي أمور غير قابلة للإنكار، شاهدنا بعضا منها و نقل إلينا بعض آخر نقلا لا يطعن فيه، و هو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند و إيران و الغرب جماعة يشاهد منهم أنواع من هذه الخوارق و التأمل التام في طرق الرياضات المعطية لهذه الخوارق و التجارب العملي في أعمالهم و إرادتهم يوجب القول بأنها مستندة إلى قوة الإرادة و الإيمان بالتأثير على تشتت أنواعها، فالإرادة تابعة للعلم و الإذعان السابق عليه، فربما توجد على إطلاقها و ربما توجد عند وجود شرائط خاصة ككتابة شي‌ء خاص بمداد خاص في مكان خاص في بعض أعمال الحب و البغض، أو نصب المرآة حيال وجه طفل خاص عند إحضار الروح أو قراءة عوذة خاصة إلى غير ذلك، فجميع ذلك شرائط لحصول الإرادة الفاعلة، فالعلم إذا تم علما قاطعا أعطى للحواس مشاهدة ما قطع به، و يمكنك أن تختبر صحة ذلك بأن تلقن نفسك أن شيئا كذا أو شخصا كذا حاضر عندك تشاهده بحاستك ثم تتخيله بحيث لا تشك فيه و لا تلتفت إلى عدمه و لا إلى شي‌ء غيره فإنك تجده أمامك على ما تريد، و ربما توجد في الآثار معالجة بعض الأطباء الأمراض المهلكة بتلقين الصحة على المريض.

  • و إذا كان الأمر على هذا فلو قويت الإرادة أمكنها أن تؤثر في غير الإنسان المريد نظير ما توجده في نفس الإنسان المريد إما من غير شرط و قيد أو مع شي‌ء من الشرائط.

  • و يتبين بما مر أمور: أحدها: أن الملاك في هذا التأثير تحقق العلم الجازم من صاحب خرق العادة و أما مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الأرواح المتعلقة بالأجرام الفلكية، و يمكن أن يكون من هذا القبيل الملائكة و الشياطين الذين يستخرج أصحاب الدعوات و العزائم أسماءهم 

تفسير الميزان ج۱

243
  •  

  • و يدعون بها على طرق خاصة عندهم، و كذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الأرواح من حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسهم دون الخارج و إلا لرآه كل من حضر عندهم و للكل حس طبيعي، و به تنحل شبهة أخرى في إحضار روح من هو حي في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أن يشعر به و الواحد من الإنسان ليس له إلا روح واحدة، و به تنحل أيضا شبهة أخرى و هي أن الروح جوهر مجرد لا نسبة له إلى زمان و مكان دون زمان و مكان، و به تنحل أيضا شبهة ثالثة، و هي: أن الروح الواحدة ربما تحضر عند أحد بغير الصورة التي تحضر بها عند آخر. و به تنحل أيضا شبهة رابعة، و هي: أن الأرواح ربما تكذب عند الإحضار في أخبارها و ربما يكذب بعضها بعضا. فالجواب عن الجميع: أن الروح إنما تحضر في مشاعر الشخص المحضر لا في الخارج منها على حد ما نحس بالأشياء المادية الطبيعية.

  • ثانيها: أن صاحب هذه الإرادة المؤثرة ربما يعتمد في إرادته على قوة نفسه و ثبات إنيته كغالب أصحاب الرياضات في إرادتهم فتكون لا محالة محدودة القوة مقيدة الأثر عند المريد و في الخارج، و ربما يعتمد فيه على ربه كالأنبياء و الأولياء من أصحاب العبودية لله و أرباب اليقين بالله فهم لا يريدون شيئا إلا لربهم و بربهم، و هذه إرادة طاهرة لا استقلال للنفس التي تطلع هذه الإرادة منها بوجه و لم تتلون بشي‌ء من ألوان الميول النفسانية و لا اتكاء لها إلا على الحق فهي إرادة ربانية غير محدودة و لا مقيدة.

  • و القسم الثاني: إن أثرت في مقام التحدي كغالب ما ينقل من الأنبياء سميت آية معجزة و إن تحققت في غير مقام التحدي سميت كرامة أو استجابة دعوة إن كانت مع دعاء، و القسم الأول إن كان بالاستخبار و الاستنصار من جن أو روح أو نحوه سمي كهانة و إن كان بدعوة أو عزيمة أو رقية أو نحو ذلك سمي سحرا.

  • ثالثها: أن الأمر حيث كان دائرا مدار الإرادة في قوتها و هي على مراتب من القوة و الضعف أمكن أن يبطل بعضها أثر البعض كتقابل السحر و المعجزة أو أن لا يؤثر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوة و هو مشهود في أعمال التنويم و الإحضار، هذا و سيأتي شطر من الكلام في ذلك.

تفسير الميزان ج۱

244
  •  

  • (بحث علمي)[ أقسام الفنون الباحثة عن غرائب الآثار] 

  • العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثيرة و القول الكلي في تقسيمها و ضبطها عسيرة جدا، و أعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره: منها: السيمياء، و هو العلم الباحث عن تمزيج القوى الإرادية مع القوى الخاصة المادية للحصول على غرائب التصرف في الأمور الطبيعية، و منه التصرف في الخيال المسمى بسحر العيون و هذا الفن من أصدق مصاديق السحر، و منها: الليمياء و هو العلم الباحث عن كيفية التأثيرات الإرادية باتصالها بالأرواح القوية العالية كالأرواح الموكلة بالكواكب و الحوادث و غير ذلك بتسخيرها أو باتصالها و استمدادها من الجن بتسخيرهم، و هو فن التسخيرات، و منها: الهيمياء. و هو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفلية للحصول على عجائب التأثير و هو الطلسمات، فإن للكواكب العلوية و الأوضاع السماوية ارتباطات مع الحوادث المادية كما أن العناصر و المركبات و كيفياتها الطبيعية كذلك، فلو ركبت الأشكال السماوية المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان، و حياة فلان، و بقاء فلان مثلا مع الصورة المادية المناسبة أنتج ذلك الحصول على المراد و هذا معنى الطلسم، و منها: الريميا، و هو العلم الباحث عن استخدام القوى المادية للحصول على آثارها بحيث يظهر للحس أنها آثار خارقة بنحو من الأنحاء و هو الشعبذة، و هذه الفنون الأربعة مع فن خامس يتلوها و هو الكيميا الباحث عن كيفية تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تسمى عندهم بالعلوم الخمسة الخفية، قال شيخنا البهائي: أحسن الكتب المصنفة التي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات اسمه (كله سر) و قد ركب اسمه من أوائل أسماء هذه العلوم، الكيميا، و الليميا، و الهيميا، و السيميا، و الريميا انتهى ملخص كلامه.

  • و من الكتب المعتبرة فيها خلاصة كتب بليناس و رسائل الخسروشاهي و الذخيرة الإسكندرية و السر المكتوم للرازي و التسخيرات للسكاكي و أعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي.

  • و من العلوم الملحقة بما مر علم الأعداد و الأوفاق و هو الباحث عن ارتباطات 

تفسير الميزان ج۱

245
  •  

  • الأعداد و الحروف للمطالب و وضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلثة أو مربعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص، و منها: الخافية و هو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الأسماء و استخراج أسماء الملائكة أو الشياطين الموكلة بالمطلوب و الدعوة بالعزائم المؤلفة منها للنيل على المطلوب و من الكتب المعتبرة فيها عندهم كتب الشيخ أبي العباس التوني و السيد حسين الأخلاطي و غيرهما.

  • و من الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسي و إحضار الأرواح و هما كما مر من تأثير الإرادة و التصرف في الخيال و قد ألف فيها كتب و رسائل كثيرة، و اشتهار أمرها يغني عن الإشارة إليها هاهنا، و الغرض مما ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة.

  •  

  • سورة البقرة (٢): [الآیات ١٠٤ الی ١٠٥]

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَ قُولُوا اُنْظُرْنَا وَ اِسْمَعُوا وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٤ مَا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ وَ لاَ اَلْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اَللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ ٥}

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا}، أول مورد في القرآن ورد فيه خطاب المؤمنين بلفظة يا أيها الذين آمنوا، و هو واقع في القرآن خطابا في نحو من خمسة و ثمانين موضعا و التعبير عن المؤمنين بلفظة الذين آمنوا بنحو الخطاب أو بغير الخطاب مما يختص بهذه الأمة، و أما الأمم السابقة فيعبر عنهم بلفظة القوم كقوله: {قَوْمِ نُوحٍ} و {قَوْمِ هُودٍ} و قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى‌ بَيِّنَةٍ} (الآية) و قوله: {أَصْحَابِ مَدْيَنَ} و {أَصْحَابَ اَلرَّسِّ}، و {بَنِي إِسْرَائِيلَ}، و {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}، فالتعبير بلفظة الذين آمنوا 

تفسير الميزان ج۱

246
  •  

  • مما يختص التشرف به بهذه الأمة، غير أن التدبر في كلامه تعالى يعطي أن التعبير بلفظة الذين آمنوا يراد به في كلامه تعالى غير ما يراد بلفظة المؤمنين كقوله تعالى: {وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ} النور - ٣١، بحسب المصداق، قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذَابَ اَلْجَحِيمِ رَبَّنَا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} المؤمن - ٧ و ٨، فجعل استغفار الملائكة و حملة العرش أولا للذين آمنوا ثم بدله ثانيا من قوله: {لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اِتَّبَعُوا}، و التوبة هي الرجوع، ثم علق دعاءهم بالذين آمنوا و عطف عليهم آباءهم و ذرياتهم و لو كان هؤلاء المحكي عنهم بالذين آمنوا هم أهل الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، كيف ما كانوا، كان الذين آمنوا شاملا للجميع من الآباء و الأبناء و الأزواج و لم يبق للعطف و التفرقة محل و كان الجميع في عرض واحد و وقعوا في صف واحد. و يستفاد هذا المعنى أيضا من قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ كُلُّ اِمْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} الطور - ٢١، فلو كان ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان مصداقا للذين آمنوا في كلامه تعالى لم يبق للإلحاق وجه، و لو كان قوله: {وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ}قرينة على إرادة أشخاص خاصة من الذين آمنوا و هم كل جمع من المؤمنين بالنسبة إلى ذريتهم، المؤمنين لم يبق للإلحاق أيضا وجه، و لا لقوله: ‌{وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ}، وجه صحيح إلا في الطبقة الأخيرة التي لا ذرية بعدهم يتبعونهم بإيمان فهم يلحقون بآبائهم، و هذا و إن كان معنى معقولا إلا أن سياق الآية و هو سياق التشريف يأبى ذلك لعود المعنى على ذلك التقدير إلى مثل معنى قولنا: المؤمنون بعضهم من بعض أو بعضهم يلحق ببعض و هم جميعا في صف واحد من غير شرافة للبعض على البعض و لا للمتقدم على المتأخر فإن الملاك هو الإيمان و هو في الجميع واحد و هذا مخالف لسياق الآية الدال على نوع كرامة و تشريف للسابق بإلحاق ذريته به، فقوله: {وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ}، قرينة على إرادة أشخاص خاصة بقوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا}، و هم السابقون الأولون في الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من المهاجرين و الأنصار في يوم العسرة فكلمة الذين آمنوا كلمة تشريف يراد بها هؤلاء، و يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: 

تفسير الميزان ج۱

247
  •  

  • {لِلْفُقَرَاءِ اَلْمُهَاجِرِينَ}، إلى أن قال: {وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدَّارَ وَ اَلْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، إلى أن قال: {وَ اَلَّذِينَ جَاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَ لِإِخْوَانِنَا اَلَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَ لاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} الحشر - ١٠، فلو كان مصداق قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا}، عين مصداق قوله {اَلَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}، كان من وضع الظاهر موضع المضمر من غير وجه ظاهر.

  • و يشعر بما مر أيضا قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَاناً}، إلى أن قال: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً} الفتح - ٢٩.

  • فقد تحصل أن الكلمة كلمة تشريف تختص بالسابقين الأولين من المؤمنين، و لا يبعد جريان نظير الكلام في لفظة الذين كفروا فيراد به السابقون في الكفر برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من مشركي مكة و أترابهم كما يشعر به أمثال قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} البقرة - ٦.

  • فإن قلت: فعلى ما مر يختص الخطاب بالذين آمنوا بعده خاصة من الحاضرين في زمان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع أن القوم ذكروا أن هذه خطابات عامة لزمان الحضور و غيره و الحاضرين الموجودين في عصر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و غيرهم و خاصة بناء على تقريب الخطاب بنحو القضية الحقيقية.

  • قلت: نعم هو خطاب تشريفي يختص بالبعض لكن ذلك لا يوجب اختصاص التكاليف المتضمن لها الخطاب بهم فإن لسعة التكليف و ضيقه أسبابا غير ما يوجب سعة الخطاب و ضيقه من الأسباب، كما أن التكاليف المجردة عن الخطاب عامة وسيعة من غير خطاب، فعلى هذا يكون تصدير بعض التكاليف بخطاب {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} من قبيل تصدير بعض آخر من الخطابات بلفظ {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ}، و {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ} مبنيا على التشريف، و التكليف عام، و المراد وسيع، و مع هذا كله لا يوجب ما ذكرناه من الاختصاص التشريفي عدم إطلاق لفظة الذين آمنوا على غير هؤلاء المختصين بالتشريف أصلا إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا 

تفسير الميزان ج۱

248
  •  

  • ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} النساء - ١٣٧، و قوله تعالى: حكاية عن نوح: {وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ} هود - ٢٩.

  • قوله تعالى: {لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَ قُولُوا اُنْظُرْنَا}، أي بدلوا قول (راعنا) من قول (انظرنا) و لئن لم تفعلوا ذلك كان ذلك منكم كفرا و للكافرين عذاب أليم ففيه نهي شديد عن قول راعنا و هذه كلمة ذكرتها آية أخرى و بينت معناها في الجملة و هي قوله تعالى {مِنَ اَلَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ رَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ} النساء - ٤٦، و منه يعلم أن اليهود كانت تريد بقولهم للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) راعنا نحوا من معنى قوله: اسمع غير مسمع و لذلك ورد النهي عن خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بذلك و حينئذ ينطبق على ما نقل: أن المسلمين كانوا يخاطبون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بذلك إذا ألقى إليهم كلاما يقولون راعنا يا رسول الله - يريدون أمهلنا و انظرنا حتى نفهم ما تقول - و كانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بذلك يظهرون التأدب معه و هم يريدون الشتم و معناه عندهم اسمع لا أسمعت فنزل. {مِنَ اَلَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ رَاعِنَا}، (الآية) و نهى الله المؤمنين عن الكلمة و أمرهم أن يقولوا ما في معناه و هو انظرنا فقال: {لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَ قُولُوا اُنْظُرْنَا}.

  • قوله تعالى: {وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، يريد المتمردين من هذا النهي و هذا أحد الموارد التي أطلق فيها الكفر على ترك التكاليف الفرعية.

  • قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ}، لو كان المراد بأهل الكتاب اليهود خاصة كما هو الظاهر لكون الخطابات السابقة مسوقة لهم فتوصيفهم بأهل الكتاب يفيد الإشارة إلى العلة، و هو أنهم لكونهم أهل كتاب ما يودون نزول الكتاب على المؤمنين لاستلزامه بطلان اختصاصهم بأهلية الكتاب مع أن ذلك ضنة منهم بما لا يملكونه، و معارضة مع الله سبحانه في سعة رحمته و عظم فضله، و لو كان المراد عموم أهل الكتاب من اليهود و النصارى فهو تعميم بعد التخصيص لاشتراك الفريقين في بعض الخصائل، و هم على غيظ من الإسلام، و ربما يؤيد هذا الوجه بعض 

تفسير الميزان ج۱

249
  •  

  • الآيات اللاحقة كقوله تعالى: {وَ قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارى‌} البقرة - ١١١، و قوله تعالى: {وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ لَيْسَتِ اَلنَّصَارى‌ عَلى‌ شَيْ‌ءٍ وَ قَالَتِ اَلنَّصَارى‌ لَيْسَتِ اَلْيَهُودُ عَلى‌ شَيْ‌ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ اَلْكِتَابَ} البقرة – ١١٣

  • (بحث روائي)

  • في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أنزل الله آية فيها {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلا و علي رأسها و أميرها.

  • أقول: و الرواية تؤيد ما سننقله من الروايات الواردة في عدة من الآيات أنها في علي أو في أهل البيت نظير ما في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} آل عمران - ١١٠و قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ} البقرة - ١٤٣، و قوله تعالى: {وَ كُونُوا مَعَ اَلصَّادِقِينَ}، التوبة - ١١٩.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ١٠٦ الی ١٠٧] 

  • {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ٦ أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ ٧}

  • (بيان) النسخ

  • الآيتان في النسخ و من المعلوم أن النسخ بالمعنى المعروف عند الفقهاء و هو الإبانة عن انتهاء أمد الحكم و انقضاء أجله اصطلاح متفرع على الآية مأخوذ منها و من مصاديق ما يتحصل من الآية في معنى النسخ على ما هو ظاهر إطلاق الآية.

  • قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ}، النسخ‌ هو الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل إذا 

تفسير الميزان ج۱

250
  •  

  • أزالته و ذهبت به، قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى اَلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اَللَّهُ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ}، الحج - ٥١، و منه أيضا قولهم: نسخت الكتاب إذا نقل من نسخة إلى أخرى فكأن الكتاب أذهب به و أبدل مكانه و لذلك بدل لفظ النسخ من التبديل في قوله تعالى: {وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، النحل - ١٠١، و كيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود و بطلان تحققها بل الحكم حيث علق بالوصف و هو الآية و العلامة مع ما يلحق بها من التعليل في (الآية) بقوله تعالى: {أَ لَمْ تَعْلَمْ}، إلخ أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو إذهاب أثر الآية من حيث إنها آية، أعني إذهاب كون الشي‌ء آية و علامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله و هذا هو المستفاد من اقتران قوله: {نُنْسِهَا}، بقوله: {مَا نَنْسَخْ}، و الإنساء إفعال من النسيان و هو الإذهاب عن العلم كما أن النسخ هو الإذهاب عن العين فيكون المعنى ما نذهب بآية عن العين أو عن العلم نأت بخير منها أو مثلها.

  • ثم إن كون الشي‌ء آية يختلف باختلاف الأشياء و الحيثيات و الجهات، فالبعض من القرآن آية لله سبحانه باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله، و الأحكام و التكاليف الإلهية آيات له تعالى باعتبار حصول التقوى و القرب بها منه تعالى، و الموجودات العينية آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها و بخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته و أسمائه سبحانه، و أنبياء الله و أولياؤه تعالى آيات له تعالى باعتبار دعوتهم إليه بالقول و الفعل و هكذا، و لذلك كانت الآية تقبل الشدة و الضعف قال الله تعالى: {لَقَدْ رَأى‌ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرى‌}، النجم - ١٨.

  • و من جهة أخرى الآية ربما كانت في أنها آية ذات جهة واحدة و ربما كانت ذات جهات كثيرة، و نسخها و إزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي و تبقى من حيث بلاغتها و إعجازها و نحو ذلك.

  • و هذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى: {أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ 

تفسير الميزان ج۱

251
  •  

  • وَ اَلْأَرْضِ}، و ذلك أن الإنكار المتوهم في المقام أو الإنكار الواقع من اليهود على ما نقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ يتعلق به من وجهين: 

  • أحدهما: من جهة أن الآية إذا كانت من عند الله تعالى كانت حافظة لمصلحة من المصالح الحقيقية لا تحفظها شي‌ء دونها، فلو زالت الآية فاتت المصلحة و لن تقوم مقامها شي‌ء تحفظ به تلك المصلحة، و يستدرك به ما فات منها من فائدة الخلقة و مصلحة العباد، و ليس شأنه تعالى كشأن عباده و لا علمه كعلمهم بحيث يتغير بتغير العوامل الخارجية فيتعلق يوما علمه بمصلحة فيحكم بحكم ثم يتغير علمه غدا و يتعلق بمصلحة أخرى فاتت عنه بالأمس، فيتغير الحكم، و يقضي ببطلان ما حكم سابقا، و إتيان آخر لاحقا، فيطلع كل يوم حكم، و يظهر لون بعد لون، كما هو شأن العباد غير المحيطين بجهات الصلاح في الأشياء، فكانت أحكامهم و أوضاعهم تتغير بتغير العلوم بالمصالح و المفاسد زيادة و نقيصة و حدوثا و بقاء، و مرجع هذا الوجه إلى نفي عموم القدرة و إطلاقها.

  • و ثانيهما: أن القدرة و إن كانت مطلقة إلا أن تحقق الإيجاد و فعلية الوجود يستحيل معه التغير، فإن الشي‌ء لا يتغير عما وقع عليه بالضرورة و هذا مثل الإنسان في فعله الاختياري فإن الفعل اختياري للإنسان ما لم يصدر عنه فإذا صدر كان ضروري الثبوت غير اختياري له، و مرجع هذا الوجه إلى نفي إطلاق الملكية و عدم جواز بعض التصرفات بعد خروج الزمام ببعض آخر كما قالت اليهود: {يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، فأشار سبحانه إلى الجواب عن الأول بقوله: {أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ}، أي فلا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت أو إقامة ما هو مثل الفائت مقامه و أشار إلى الجواب عن الثاني بقوله: {أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ}، أي أن ملك السموات و الأرض لله سبحانه فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء و ليس لغيره شي‌ء من الملك حتى يوجب ذلك انسداد باب من أبواب تصرفه سبحانه، أو يكون مانعا دون تصرف من تصرفاته، فلا يملك شي‌ء شيئا، لا ابتداء و لا بتمليكه تعالى، فإن التمليك الذي يملكه غيره ليس كتمليك بعضنا بعضا شيئا بنحو يبطل ملك الأول و يحصل ملك الثاني، بل هو مالك 

تفسير الميزان ج۱

252
  •  

  • في عين ما يملك غيره ما يملك، فإذا نظرنا إلى حقيقة الأمر كان الملك المطلق و التصرف المطلق له وحدة، و إذا نظرنا إلى ما ملكنا بملكه من دون استقلال كان هو الولي لنا و إذا نظرنا إلى ما تفضل علينا من ظاهر الاستقلال و هو في الحقيقة فقر في صورة الغنى، و تبعية في صورة الاستقلال لم يمكن لنا أيضا أن ندبر أمورنا من دون إعانته و نصره كان هو النصير لنا.

  • و هذا الذي ذكرناه هو الذي يقتضيه الحصر الظاهر من قوله تعالى: {أَنَّ اَللَّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} فقوله تعالى:{أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}، مرتب على ترتيب ما يتوهم من الاعتراضين، و من الشاهد على كونهما اعتراضين اثنين الفصل بين الجملتين من غير وصل، و قوله تعالى: {وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ}، مشتمل على أمرين هما كالمتممين للجواب أي و إن لم تنظروا إلى ملكه المطلق بل نظرتم إلى ما عندكم من الملك الموهوب فحيث كان ملكا موهوبا من غير انفصال و استقلال فهو وحده وليكم، فله أن يتصرف فيكم و في ما عندكم ما شاء من التصرف، و إن لم تنظروا إلى عدم استقلالكم في الملك بل نظرتم إلى ظاهر ما عندكم من الملك و الاستقلال و انجمدتم على ذلك فحسب، فإنكم ترون أن ما عندكم من القدرة و الملك و الاستقلال لا تتم وحدها، و لا تجعل مقاصدكم مطيعة لكم خاضعة لقصودكم و إرادتكم وحدها بل لا بد معها من إعانة الله و نصره فهو النصير لكم فله أن يتصرف من هذا الطريق فله سبحانه التصرف في أمركم من أي سبيل سلكتم هذا، و قوله: {وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ}، جي‌ء فيه بالظاهر موضع المضمر نظرا إلى كون الجملة بمنزلة المستقل من الكلام لتمامية الجواب دونه.

  • فقد ظهر مما مر: أولا: أن النسخ لا يختص بالأحكام الشرعية بل يعم التكوينيات أيضا.

  • و ثانيا: أن النسخ لا يتحقق من غير طرفين ناسخ و منسوخ.

  • و ثالثا: أن الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال أو مصلحة.

  • و رابعا: أن الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته و إنما يرتفع التناقض بينهما من 

تفسير الميزان ج۱

253
  •  

  • جهة اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة فإذا توفي نبي و بعث نبي آخر و هما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر كان ذلك جريانا على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة و الموت و الرزق و الأجل و ما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار و تكامل الأفراد من الإنسان، و إذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملا على مصلحة الدين و كل من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة و ليس للمسلمين بعد عدة و لا عدة. و حكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام و أعد فيهم ما استطاعوا من قوة و ركز الرعب في قلوب الكفار و المشركين. و الآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء و تلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى {فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ} البقرة - ١٠٩، المنسوخ بآية القتال و قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} النساء - ١٤ المنسوخ بآية الجلد فقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ} و قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}لا يخلو عن إشعار بأن الحكم موقت مؤجل سيلحقه نسخ.

  • و خامسا: أن النسبة التي بين الناسخ و المنسوخ غير النسبة التي بين العام و الخاص و بين المطلق و المقيد و بين المجمل و المبين، فإن الرافع للتنافي بين الناسخ و المنسوخ بعد استقراره بينهما بحسب الظهور اللفظي هو الحكمة و المصلحة الموجودة بينهما، بخلاف الرافع للتنافي بين العام و الخاص و المطلق و المقيد و المجمل و المبين فإنه قوة الظهور اللفظي الموجود في الخاص و المقيد و المبين، المفسر للعام بالتخصيص، و للمطلق بالتقييد، و للمجمل بالتبيين على ما بين في فن أصول الفقه، و كذلك في المحكم و المتشابه على ما سيجي‌ء في قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتَابِ وَ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} آل عمران - ٧.

  • قوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا}، قرئ بضم النون و كسر السين من الإنساء بمعنى الإذهاب عن العلم و الذكر و قد مر توضيحه، و هو كلام مطلق أو عام غير مختص برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بل غير شامل له أصلا لقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسى‌ إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ}، الأعلى - ٧، و هي آية مكية و آية النسخ مدنية فلا يجوز عليه النسيان بعد قوله تعالى: 

تفسير الميزان ج۱

254
  •  

  • {فَلاَ تَنْسى‌}، و أما اشتماله على الاستثناء بقوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ}، فهو على حد الاستثناء الواقع في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، هود - ١٠٩، جي‌ء بها لإثبات بقاء القدرة مع الفعل على تغيير الأمر، و لو كان الاستثناء مسوقا لبيان الوقوع في الخارج لم يكن للامتنان بقوله: {فَلاَ تَنْسى‌}، معنى، إذ كل ذي ذكر و حفظ من الإنسان و سائر الحيوان كذلك يذكر و ينسى و ذكره و نسيانه كلاهما منه تعالى و بمشيته، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كذلك قبل هذا الإقراء الامتناني الموعود بقوله: {سَنُقْرِئُكَ}، يذكر بمشية الله و ينسى بمشية الله تعالى فليس معنى الاستثناء إلا إثبات إطلاق القدرة أي سنقرئك فلا تنسى أبدا و الله مع ذلك قادر على إنسائك هذا. و قرئ قوله: ننساها بفتح النون و الهمزة من نسي‌ء نسيئا إذا أخر تأخيرا فيكون المعنى على هذا: ما ننسخ من آية بإزالتها أو نؤخرها بتأخير إظهارها نأت بخير منها أو مثلها و لا يوجب التصرف الإلهي بالتقديم و التأخير في آياته فوت كمال أو مصلحة، و الدليل على أن المراد بيان أن التصرف الإلهي يكون دائما على الكمال و المصلحة هو قوله: {بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، فإن الخيرية إنما يكون في كمال شي‌ء موجود أو مصلحة حكم مجعول ففي ذلك يكون موجود مماثلا لآخر في الخيرية أو أزيد منه في ذلك فافهم.

  • (بحث روائي)

  • قد تكاثرت روايات الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الصحابة و عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام): أن في القرآن ناسخا و منسوخا.

  • و في تفسير النعماني، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): بعد ذكر عدة آيات من الناسخ و المنسوخ: قال (علیه السلام) و نسخ قوله تعالى: {وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} قوله عز و جل: {وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} أي للرحمة خلقهم.

  • أقول: و فيها دلالة على أخذه (علیه السلام) النسخ في الآية أعم من النسخ الواقع في التشريع فالآية الثانية تثبت حقيقة توجب تحديد الحقيقة التي تثبتها الآية الأولى،

تفسير الميزان ج۱

255
  •  

  • و بعبارة واضحة: الآية الأولى تثبت للخلقة غاية و هي العبادة، و الله سبحانه غير مغلوب في الغاية التي يريدها في فعل من أفعاله غير أنه سبحانه خلقهم على إمكان الاختلاف فلا يزالون مختلفين في الاهتداء و الضلال فلا يزالون مختلفين إلا من أخذته العناية الإلهية، و شملته رحمة الهداية، و لذلك خلقهم أي و لهذه الرحمة خلقهم، فالآية الثانية تثبت للخلقة غاية، و هو الرحمة المقارنة للعبادة و الاهتداء و لا يكون إلا في البعض دون الكل و الآية الأولى كانت تثبت العبادة غاية للجميع فهذه العبادة جعلت غاية الجميع من جهة كون البعض مخلوقا لأجل البعض الآخر و هذا البعض أيضا لآخر حتى ينتهي إلى أهل العبادة و هم العابدون المخلوقون للعبادة فصح أن العبادة غاية للكل نظير بناء الحديقة و غرس الشجرة لثمرتها أو لمنافعها المالية فالآية الثانية تنسخ إطلاق الآية الأولى، و في تفسير النعماني، أيضا عنه (علیه السلام): قال: و نسخ قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلى‌ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} قوله: {اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى‌ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لاَ يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ}

  • أقول: و ليست الآيتان من قبيل العام و الخاص لقوله تعالى: {كَانَ عَلى‌ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا}، و القضاء الحتم غير قابل الرفع و لا ممكن الإبطال و يظهر معنى هذا النسخ مما سيجي‌ء إن شاء الله في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى‌ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الأنبياء - ١٠١.

  • و في تفسير العياشي، عن الباقر (علیه السلام): أن من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ}، و نجاة قوم يونس.

  • أقول: و الوجه فيه واضح.

  • و في بعض الأخبار عن أئمة أهل البيت عد (علیه السلام) موت إمام و قيام إمام آخر مقامه من النسخ.

  • أقول: و قد مر بيانه، و الأخبار في هذه المعاني كثيرة مستفيضة.

  • و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و أبو داود في ناسخه و ابن جرير عن 

تفسير الميزان ج۱

256
  •  

  • قتادة قال: كانت الآية تنسخ الآية و كان نبي الله يقرأ الآية و السورة و ما شاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه فقال الله: يقص على نبيه {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}، يقول: فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.

  • أقول: و روى فيه أيضا في معنى الإنساء روايات عديدة و جميعها مطروحة بمخالفة الكتاب كما مر في بيان قوله: {أو ننسها}.

  •  

  • سورة البقرة (٢):[الآیات ١٠٨ الی ١١٥ ] 

  • {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسى‌ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ اَلْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ ٨ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ٩ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ١ وَ قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارى‌ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١١١ بَلى‌ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ١١٢ وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ لَيْسَتِ اَلنَّصَارى‌ عَلى‌ شَيْ‌ءٍ وَ قَالَتِ اَلنَّصَارى‌ لَيْسَتِ اَلْيَهُودُ عَلى‌ شَيْ‌ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ اَلْكِتَابَ كَذلِكَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ 

تفسير الميزان ج۱

257
  •  

  • يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ١١٣ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اَللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ وَ سَعى‌ فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيَا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ١١٤ وَ لِلَّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ١١٥}

  • (بيان) 

  • قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ}، سياق الآية يدل على أن بعض المسلمين - ممن آمن بالنبي - سأل النبي أمورا على حد سؤال اليهود نبيهم موسى (علیه السلام) و الله سبحانه وبخهم على ذلك في ضمن ما يوبخ اليهود بما فعلوا مع موسى و النبيين من بعده، و النقل يدل على ذلك.

  • قوله تعالى: {سَواءَ اَلسَّبِيلِ}،أي مستوى الطريق.

  • قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ}، نقل أنه حي بن الأخطب و بعض من معه من متعصبي اليهود.

  • قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا}، قالوا: إنها آية منسوخة بآية القتال.

  • قوله تعالى: {حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ}، فيه كما مر إيماء إلى حكم سيشرعه الله تعالى في حقهم، و نظيره قوله تعالى: في الآية الآتية {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ}، مع قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، التوبة - ٢٩، و سيأتي الكلام في معنى الأمر في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، إسراء - ٨٥.

تفسير الميزان ج۱

258
  •  

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ}، شروع في إلحاق النصارى باليهود تصريحا و سوق الكلام في بيان جرائمهم معا.

  • قوله تعالى: {بَلى‌ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}، هذه كرة ثالثة عليهم في بيان أن السعادة لا تدور مدار الاسم و لا كرامة لأحد على الله إلا بحقيقة الإيمان و العبودية، أولاها قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا}، البقرة - ٦٢، و ثانيتها، قوله تعالى: 

  • {بَلى‌ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، البقرة - ٨١، و ثالثتها، هذه الآية و يستفاد من تطبيق الآيات تفسير الإيمان بإسلام الوجه إلى الله و تفسير الإحسان بالعمل الصالح.

  • قوله تعالى: {وَ هُمْ يَتْلُونَ اَلْكِتَابَ}، أي و هم يعملون بما أوتوا من كتاب الله لا ينبغي لهم أن يقولوا ذلك و الكتاب يبين لهم الحق و الدليل على ذلك قوله: {كَذَلِكَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}، فالمراد بالذين لا يعلمون غير أهل الكتاب من الكفار و مشركي العرب قالوا: إن المسلمين ليسوا على شي‌ء أو إن أهل الكتاب ليسوا على شي‌ء.

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ}، ظاهر السياق أن هؤلاء كفار مكة قبل الهجرة فإن هذه الآيات نزلت في أوائل ورود رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) المدينة.

  • قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ}، يدل على مضي الواقعة و انقضائها لمكان قوله؛ {كَانَ}، فينطبق على كفار قريش و فعالهم بمكة كما ورد به النقل أن المانعين كفار، مكة كانوا يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام و المساجد التي اتخذوها بفناء الكعبة.

  • قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللَّهِ}، المشرق و المغرب و كل جهة من الجهات حيث كانت فهي لله بحقيقة الملك التي لا تقبل التبدل و الانتقال، لا كالملك الذي بيننا معاشر أهل الاجتماع، و حيث إن ملكه تعالى مستقر على ذات الشي‌ء محيط بنفسه و أثره، لا كملكنا المستقر على أثر الأشياء و منافعها، لا على ذاتها، و الملك لا يقوم من جهة أنه ملك إلا بمالكه فالله سبحانه قائم على هذه الجهات محيط 

تفسير الميزان ج۱

259
  •  

  • بها و هو معها، فالمتوجه إلى شي‌ء من الجهات متوجه إليه تعالى.

  • و لما كان المشرق و المغرب جهتين إضافيتين شملتا سائر الجهات تقريبا إذ لا يبقى خارجا منهما إلا نقطتا الجنوب و الشمال الحقيقتان و لذلك لم يقيد إطلاق قوله {فَأَيْنَمَا}، بهما بأن يقال: أينما تولوا منهما فكأن الإنسان أينما ولى وجهه فهناك إما مشرق أو مغرب، فقوله: {وَ لِلَّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ}، بمنزلة قولنا: و لله الجهات جميعا و إنما أخذ بهما لأن الجهات التي يقصدها الإنسان بوجهه إنما تتعين بشروق الشمس و غروبها و سائر الأجرام العلوية المنيرة.

  • قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اَللَّهِ}، فيه وضع علة الحكم في الجزاء موضع الجزاء، و التقدير و الله أعلم {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا}، جاز لكم ذلك فإن وجه الله هناك، و يدل على هذا التقدير تعليل الحكم بقوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، أي إن الله واسع الملك و الإحاطة عليم بقصودكم أينما توجهت، لا كالواحد من الإنسان أو سائر الخلق الجسماني لا يتوجه إليه إلا إذا كان في جهة خاصة، و لا أنه يعلم توجه القاصد إليه إلا من جهة خاصة كقدامه فقط، فالتوجه إلى كل جهة توجه إلى الله، معلوم له سبحانه.

  • و اعلم أن هذا توسعة في القبلة من حيث الجهة لا من حيث المكان، و الدليل عليه قوله: {وَ لِلَّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ}.

  • (بحث روائي)

  • في التهذيب، عن محمد بن الحصين قال: كتب إلى عبد صالح الرجل يصلي في يوم غيم في فلاة من الأرض و لا يعرف القبلة فيصلي حتى فرغ من صلاته بدت له الشمس فإذا هو صلى لغير القبلة يعتد بصلاته أم يعيدها؟ فكتب يعيد ما لم يفت الوقت، أ و لم يعلم أن الله يقول: و قوله الحق {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللَّهِ}.

  • و في تفسير العياشي، عن الباقر (علیه السلام): في قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ اَلْمَشْرقُ وَ اَلْمَغْرِبُ} إلخ، قال (علیه السلام): أنزل الله هذه الآية في التطوع خاصة {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ}، و صلى رسول الله إيماء على راحلته أينما توجهت به حين خرج إلى خيبر، 

تفسير الميزان ج۱

260
  •  

  •  و حين رجع من مكة، و جعل الكعبة خلف ظهره.

  •  أقول: و روى العياشي أيضا قريبا من ذلك عن زرارة عن الصادق (علیه السلام)، و كذا القمي و الشيخ عن أبي الحسن (علیه السلام)، و كذا الصدوق عن الصادق (علیه السلام).

  • و اعلم أنك إذا تصفحت أخبار أئمة أهل البيت حق التصفح، في موارد العام و الخاص و المطلق و المقيد من القرآن وجدتها كثيرا ما تستفيد من العام حكما، و من الخاص أعني العام مع المخصص حكما آخر، فمن العام مثلا الاستحباب كما هو الغالب و من الخاص الوجوب، و كذلك الحال في الكراهة و الحرمة، و على هذا القياس. و هذا أحد أصول مفاتيح التفسير في الأخبار المنقولة عنهم، و عليه مدار جم غفير من أحاديثهم. و من هنا يمكنك أن تستخرج منها في المعارف القرآنية قاعدتين:

  • إحداهما: أن كل جملة وحدها، و هي مع كل قيد من قيودها تحكي عن حقيقة ثابتة من الحقائق أو حكم ثابت من الأحكام كقوله تعالى: {قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}، الأنعام - ٩١، ففيه معان أربع: الأول: {قُلِ اَللَّهُ}، و الثاني: {قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ}، و الثالث: {قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ}، و الرابع: {قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}. و اعتبر نظير ذلك في كل ما يمكن.

  • و الثانية: أن القصتين أو المعنيين إذا اشتركا في جملة أو نحوها، فهما راجعان إلى مرجع واحد. و هذان سران تحتهما أسرار و الله الهادي.

  •  

  • سورة البقرة (٢): [الآیات ١١٦ الی ١١٧ ]

  • {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ١١٦ بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذَا قَضى‌ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ١١٧}

تفسير الميزان ج۱

261
  •  

  • (بيان) نفي الولد عنه تعالى

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً}، يعطي السياق، أن المراد بالقائلين بهذه المقالة هم اليهود و النصارى: إذ قالت اليهود: عزير ابن الله، و قالت النصارى: المسيح ابن الله، فإن وجه الكلام مع أهل الكتاب، و إنما قال أهل الكتاب هذه الكلمة أعني قولهم: اتخذ الله ولدا أول ما قالوها تشريفا لأنبيائهم كما قالوا: نحن أبناء الله و أحباؤه ثم تلبست بلباس الجد و الحقيقة فرد الله سبحانه عليهم في هاتين الآيتين فأضرب عن قولهم بقوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ} إلخ، و يشتمل على برهانين ينفي كل منهما الولادة و تحقق الولد منه سبحانه، فإن اتخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي بعض أجزاء وجوده، و يفصله عن نفسه فيصيره بتربية تدريجية فردا من نوعه مماثلا لنفسه، و هو سبحانه منزه عن المثل، بل كل شي‌ء مما في السموات و الأرض مملوك له، قائم الذات به، قانت ذليل عنده ذلة وجودية، فكيف يكون شي‌ء من الأشياء ولدا له مماثلا نوعيا بالنسبة إليه؟ و هو سبحانه بديع السموات و الأرض، إنما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق، فلا يشبه شي‌ء من خلقه خلقا سابقا، و لا يشبه فعله فعل غيره في التقليد و التشبيه و لا في التدريج، و التوصل بالأسباب إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق و لا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتخاذ الولد؟ و تحققه يحتاج إلى تربية و تدريج، فقوله: {لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}، برهان تام، و قوله: {بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذَا قَضى‌ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، برهان آخر تام، هذا. و يستفاد من الآيتين: 

  • أولا: شمول حكم العبادة لجميع المخلوقات مما في السموات و الأرض.

  • و ثانيا: أن فعله تعالى غير تدريجي، و يستدرج من هنا، أن كل موجود تدريجي فله وجه غير تدريجي، به يصدر عنه تعالى كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس - ٨٢، و قال تعالى: {وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} القمر - ٥٠، و تفصيل القول في هذه الحقيقة القرآنية، سيأتي إن شاء الله في ذيل قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} يس - ٨٢ فانتظر.

تفسير الميزان ج۱

262
  •  

  • قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ}، مصدر بمعنى التسبيح و هو لا يستعمل إلا مضافا و هو مفعول مطلق لفعل محذوف أي سبحته تسبيحا، فحذف الفعل و أضيف المصدر إلى الضمير المفعول و أقيم مقامه، و في الكلمة تأديب إلهي بالتنزيه فيما يذكر فيه ما لا يليق بساحة قدسه تعالى و تقدس.

  • قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}، القنوت‌ العبادة و التذلل.

  • قوله تعالى: {بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ}، بداعة الشي‌ء كونه لا يماثل غيره مما يعرف و يؤنس به.

  • قوله تعالى: {فَيَكُونُ}، تفريع على قول كن و ليس في مورد الجزاء حتى يجزم.

  • (بحث روائي)

  • في الكافي، و البصائر، عن سدير الصيرفي، قال: سمعت عمران بن أعين يسأل أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله تعالى: {بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}، فقال أبو جعفر (علیه السلام): إن الله عز و جل ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السماوات و الأرضين و لم يكن قبلهن سماوات و لا أرضون أ ما تسمع لقوله: {وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ}؟

  • أقول: و في الرواية استفادة أخرى لطيفة، و هي أن المراد بالماء في قوله تعالى: {وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ} غير المصداق الذي عندنا من الماء بدليل أن الخلقة مستوية على البداعة و كانت السلطنة الإلهية قبل خلق هذه السماوات و الأرض مستقرة مستوية على الماء فهو غير الماء و سيجي‌ء تتمة الكلام في قوله تعالى: {وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ} هود – ٧ 

  • (بحث علمي و فلسفي) تميز الذوات وجودا و بداعة الإيجاد

  • دل التجارب على افتراق كل موجودين في الشخصيات و إن كانت متحدة في 

تفسير الميزان ج۱

263
  •  

  • الكليات حتى الموجودان اللذان لا يميز الحس جهة الفرقة بينهما فالحس المسلح يدرك ذلك منهما، و البرهان الفلسفي أيضا يوجب ذلك، فإن المفروضين من الموجودين لو لم يتميز أحدهما عن الآخر بشي‌ء خارج عن ذاته، كان سبب الكثرة المفروضة غير خارج من ذاتهما فيكون الذات صرفة غير مخلوطة، و صرف الشي‌ء لا يتثنى و لا يتكرر، فكان ما هو المفروض كثيرا واحدا غير كثير هذا خلف. فكل موجود مغاير الذات لموجود آخر، فكل موجود فهو بديع الوجود على غير مثال سابق و لا معهود، و الله سبحانه هو المبتدع بديع السماوات و الأرض.

  •  

  • سورة البقرة (٢):[ الآیات ١١٨ الی ١١٩] 

  • {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْ لاَ يُكَلِّمُنَا اَللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ١١٨ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ اَلْجَحِيمِ ١١٩}

  •  (بيان) 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}، هم المشركون غير أهل الكتاب و يدل عليه المقابلة السابقة في قوله تعالى: {وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ لَيْسَتِ اَلنَّصَارى‌ عَلى‌ شَيْ‌ءٍ وَ قَالَتِ اَلنَّصَارى‌ لَيْسَتِ اَلْيَهُودُ عَلى‌ شَيْ‌ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ اَلْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} (الآية). - ففي تلك الآية ألحق أهل الكتاب في قولهم بالمشركين و الكفار من العرب، و في هذه الآية ألحق المشركين و الكفار بهم، فقال: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْ لاَ يُكَلِّمُنَا اَللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذلِكَ قَالَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، و هم أهل الكتاب و اليهود من بينهم حيث اقترحوا بمثل هذه الأقاويل على نبي الله موسى (علیه السلام)، فهم و الكفار متشابهون في أفكارهم و آرائهم، يقول هؤلاء ما قاله أولئك و بالعكس، 

تفسير الميزان ج۱

264
  •  

  • تشابهت قلوبهم.

  • قوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، جواب عن قول الذين لا يعلمون إلخ، و المراد أن الآيات التي يطالبون بها مأتية مبينة، و لكن لا ينتفع بها إلا قوم يوقنون بآيات الله، و أما هؤلاء الذين لا يعلمون، فقلوبهم محجوبة بحجاب الجهل، مئوفة بآفات العصبية و العناد، و ما تغني الآيات عن قوم لا يعلمون. و من هنا يظهر وجه توصيفهم بعدم العلم، ثم أيد ذلك بتوجيه الخطاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الإشعار بأنه مرسل من عند الله بالحق بشيرا و نذيرا، فلتطب به نفسه، و ليعلم أن هؤلاء أصحاب الجحيم، مكتوب عليهم ذلك، لا مطمع في هدايتهم و نجاتهم.

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ اَلْجَحِيمِ}، يجري مجرى قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} البقرة – ٦.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ١٢٠الی ١٢٣] 

  • }وَ لَنْ تَرْضى‌ عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصَارى‌ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اَللَّهِ هُوَ اَلْهُدى‌ وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ اَلَّذِي جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ ١٢٠اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ ١٢١ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ ١٢٢ وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لاَ تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ١٢٣} 

تفسير الميزان ج۱

265
  •  

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {وَ لَنْ تَرْضى‌ عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصَارى‌}، رجوع إلى الطائفتين بعد الالتفات إلى غيرهم، و هو بمنزلة جمع أطراف الكلام على تفرقها و تشتتها، فكأنه بعد هذه الخطابات و التوبيخات لهم يرجع إلى رسوله و يقول له: هؤلاء ليسوا براضين عنك، حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم و نظموها بآرائهم، ثم أمره بالرد عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اَللَّهِ هُوَ اَلْهُدى‌}، أي إن الاتباع إنما هو لغرض الهدى و لا هدى إلا هدى الله و الحق الذي يجب أن يتبع و غيره و هو ملتكم ليس بالهدى، فهي أهواؤكم ألبستموها لباس الدين و سميتموها باسم الملة، ففي قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اَللَّهِ} إلخ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل، ثم أضيف إلى الله فأفاد صحة الحصر في قوله: {إِنَّ هُدَى اَللَّهِ هُوَ اَلْهُدى‌}، على طريق قصر القلب، و أفاد ذلك خلو ملتهم عن الهدى، و أفاد ذلك كونها أهواء لهم، و استلزم ذلك كون ما عند النبي علما، و كون ما عندهم جهلا، و اتسع المكان لتعقيب الكلام بقوله: {وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ اَلَّذِي جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ}، فانظر إلى ما في هذا الكلام من أصول البرهان العريقة، و وجوه البلاغة على إيجازه، و سلاسة البيان و صفائه.

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ}، يمكن أن تكون الجملة بقرينة الحصر المفهوم من قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، جوابا للسؤال المقدر الذي يسوق الذهن إليه قوله تعالى: {وَ لَنْ تَرْضى‌ عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصَارى‌} إلخ و هو أنهم إذا لم يكن مطمع في إيمانهم، فمن ذا الذي يؤمن منهم؟ و هل توجيه الدعوة إليهم باطل لغو؟ فأجيب بأن الذين آتيناهم الكتاب و الحال أنهم يتلونه حق تلاوته، أولئك يؤمنون بكتابهم فيؤمنون بك، أو أن أولئك يؤمنون بالكتاب، كتاب الله المنزل أيا ما كان، أو أن أولئك يؤمنون بالكتاب الذي هو القرآن. و على هذا: فالقصر في قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، قصر إفراد و الضمير في قوله: {بِهِ}، على بعض التقادير لا يخلو عن استخدام. و المراد بالذين أوتوا الكتاب قوم من اليهود و النصارى ليسوا متبعين للهوى من أهل 

تفسير الميزان ج۱

266
  •  

  • الحق منهم، و بالكتاب التوراة و الإنجيل، و إن كان المراد بهم المؤمنين برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و بالكتاب القرآن، فالمعنى. إن الذين آتيناهم القرآن، و هم يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون بالقرآن، لا هؤلاء المتبعون لأهوائهم، فالقصر حينئذ قصر قلب.

  • قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اُذْكُرُوا}، إلى آخر الآيتين إرجاع ختم الكلام إلى بدئه، و آخره إلى أوله، و عنده يختتم شطر من خطابات بني إسرائيل.

  • (بحث روائي)

  • في إرشاد الديلمي، عن الصادق (علیه السلام): في قوله: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}، قال: يرتلون آياته و يتفقهون به و يعملون بأحكامه، و يرجون وعده، و يخافون وعيده، و يعتبرون بقصصه، و يأتمرون بأوامره، و ينتهون بنواهيه، ما هو و الله حفظ آياته، و درس حروفه، و تلاوة سورة، و درس أعشاره و أخماسه، حفظوا حروفه و أضاعوا حدوده، و إنما هو تدبر آياته و العمل بأحكامه، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}.

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام): في قول الله عز و جل: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}، قال (علیه السلام): الوقوف عند الجنة و النار.

  • أقول: و المراد به التدبر.

  • و في الكافي، عنه (علیه السلام): في الآية قال (علیه السلام): هم الأئمة.

  • أقول: و هو من باب الجري و الانطباق على المصداق الكامل.‌

  •  

  • [سورة البقرة (٢): آیة ١٢٤] 

  • {وَ إِذِ اِبْتَلى‌ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ

تفسير الميزان ج۱

267
  •  

  • لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي اَلظَّالِمِينَ ٢٤}

  •  (بيان) الإمامة و إثبات أمهات مسائلها

  • شروع بجمل من قصص إبراهيم (علیه السلام) و هو كالمقدمة و التوطئة لآيات تغيير القبلة و آيات أحكام الحج، و ما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الإسلامي بمراتبها: من أصول المعارف، و الأخلاق، و الأحكام الفرعية الفقهية جملا، و الآيات مشتملة على قصة اختصاصه تعالى إياه بالإمامة و بنائه الكعبة و دعوته بالبعثة.

  • فقوله تعالى: {وَ إِذِ اِبْتَلى‌ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} إلخ، إشارة إلى قصة إعطائه الإمامة و حبائه بها، و القصة إنما وقعت في أواخر عهد إبراهيم (علیه السلام) بعد كبره و تولد إسماعيل، و إسحاق له و إسكانه إسماعيل و أمه بمكة، كما تنبه به بعضهم أيضا، و الدليل على ذلك قوله (علیه السلام) على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي}، فإنه (علیه السلام) قبل مجي‌ء الملائكة ببشارة إسماعيل، و إسحاق، ما كان يعلم و لا يظن أن سيكون له ذرية من بعده حتى أنه بعد ما بشرته الملائكة بالأولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس و القنوط كما قال تعالى: {وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى‌ أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِنَ اَلْقَانِطِينَ}، الحجر - ٥٥، و كذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصة بشارته أيضا إذ قال تعالى: {وَ اِمْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتى‌ أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذَا لَشَيْ‌ءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ رَحْمَتُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} هود - ٧٣، و كلامهما كما ترى يلوح منه آثار اليأس و القنوط و لذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما و تطييب أنفسهما فما كان هو و لا أهله يعلم أن سيرزق ذرية، و قوله (علیه السلام): و من ذريتي، بعد 

تفسير الميزان ج۱

268
  •  

  • قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}، قول من يعتقد لنفسه ذرية، و كيف يسع من له أدنى دربة بأدب الكلام و خاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربه الجليل أن يتفوه بما لا علم له به؟ و لو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول: و من ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدي هذا المعنى فالقصة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة.

  • على أن قوله تعالى: {وَ إِذِ اِبْتَلى‌ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}، يدل على أن هذه الإمامة الموهوبة إنما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات و ليست هذه إلا أنواع البلاء التي ابتلي (علیه السلام) بها في حياته، و قد نص القرآن على أن من أوضحها بلاء قضية ذبح إسماعيل، قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‌ فِي اَلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، إلى أن قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْبَلاَءُ اَلْمُبِينُ} الصافات - ١٠٦.

  • و القضية إنما وقعت في كبر إبراهيم، كما حكى الله تعالى عنه من قوله: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعَاءِ} إبراهيم - ٤١.

  • و لنرجع إلى ألفاظ الآية فقوله: {وَ إِذِ اِبْتَلى‌ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}، الابتلاء و البلاء بمعنى واحد تقول: ابتليته و بلوته بكذا، أي امتحنته و اختبرته، إذا قدمت إليه أمرا أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك و استظهرت ما عنده من الصفات النفسانية الكامنة عنده كالإطاعة و الشجاعة و السخاء و العفة و العلم و الوفاء أو مقابلاتها، و لذلك لا يكون الابتلاء إلا بعمل فإن الفعل هو الذي يظهر به الصفات الكامنة من الإنسان دون القول الذي يحتمل الصدق و الكذب قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ} ن - ١٧، و قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} البقرة - ٢٤٩.

  • فتعلق الابتلاء، في الآية بالكلمات إن كان المراد بها الأقوال إنما هو من جهة تعلقها بالعمل و حكايتها عن العهود و الأوامر المتعلقة بالفعل كقوله تعالى {وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} البقرة - ٨٣، أي عاشروهم معاشرة جميلة و قوله: 

تفسير الميزان ج۱

269
  •  

  • {بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}، الكلمات‌ و هي جمع كلمة و إن أطلقت في القرآن على العين الخارجي دون اللفظ و القول، كقوله تعالى: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ} آل عمران - ٤٥، إلا أن ذلك بعناية إطلاق القول كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى‌ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} آل عمران - ٥٩.

  • و جميع ما نسب إليه تعالى من الكلمة في القرآن أريد بها القول كقوله تعالى: {وَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ} الأنعام - ٣٤، و قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ} يونس - ٦٤، و قوله: {يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} الأنفال - ٧، و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} يونس - ٩٦، و قوله: {وَ لَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ اَلْعَذَابِ} الزمر - ٧١، و قوله {وَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ اَلنَّارِ المؤمن - ٦، و قوله: {وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} الشورى - ١٤، و قوله: {وَ كَلِمَةُ اَللَّهِ هِيَ اَلْعُلْيَا} التوبة - ٤١، و قوله: {قَالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ} ص - ٨٤، و قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ‌ءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} النحل - ٤٠، فهذه و نظائرها أريد بها القول بعناية أن القول توجيه ما يريد المتكلم إعلامه المخاطب ما عنده كما في الأخبار أو لغرض تحميله عليه كما في الإنشاء و لذلك ربما تتصف في كلامه تعالى بالتمام كقوله تعالى: {وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} الأنعام - ١١٥، و قوله تعالى: {وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى‌ عَلى‌ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الأعراف - ١٣٦، كأن الكلمة إذا صدرت عن قائلها فهي ناقصة بعد، لم تتم، حتى تلبس لباس العمل و تعود صدقا.

  • و هذا لا ينافي كون قوله تعالى فعله، فإن الحقائق الواقعية لها حكم، و للعنايات الكلامية اللفظية حكم آخر، فما يريد الله سبحانه إظهاره لواحد من أنبيائه، أو غيرهم بعد خفائه، أو يريد تحميله على أحد قول و كلام له لاشتماله على غرض القول و الكلام و تضمنه غاية الخبر و النبإ، و الأمر و النهي، و إطلاق القول و الكلمة على مثل ذلك شائع في الاستعمال إذا اشتمل على ما يؤديه القول و الكلمة، تقول: لأفعلن كذا و كذا، لقول قلته و كلمة قدمتها، و لم 

تفسير الميزان ج۱

270
  •  

  • تقل قولا، و لا قدمت كلمة، و إنما عزمت عزيمة لا تنقضها شفاعة شفيع أو وهن إرادة، و منه قول عنترة: 

  • و قولي كلما جشأت و جاشت. مكانك تحمدي أو تستريحي.

  • يريد بالقول توطين نفسه على الثبات و العزم، على لزومها مكانها لتفوز بالحمد إن قتل، و بالاستراحة إن غلب.

  • إذا عرفت ذلك ظهر لك أن المراد بقوله تعالى: {بِكَلِمَاتٍ} ، قضايا ابتلي بها و عهود إلهية أريدت منه، كابتلائه بالكواكب و الأصنام، و النار و الهجرة و تضحيته بابنه و غير ذلك و لم يبين في الكلام ما هي الكلمات لأن الغرض غير متعلق بذلك، نعم قوله: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} ، من حيث ترتبه على الكلمات تدل على أنها كانت أمورا تثبت بها لياقته، (علیه السلام) لمقام الإمامة.

  • فهذه هي الكلمات و أما إتمامهن فإن كان الضمير في قوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ}، راجعا إلى إبراهيم كان معنى إتمامهن إتيانه (علیه السلام) ما أريد منه، و امتثاله لما أمر به، و إن كان الضمير راجعا إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما أريد منه، و مساعدته على ذلك، و أما ما ذكره بعضهم: أن المراد بالكلمات قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام.

  • قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}، أي مقتدى يقتدي بك الناس، و يتبعونك في أقوالك و أفعالك، فالإمام هو الذي يقتدي و يأتم به الناس، و لذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة، لأن النبي يقتدي به أمته في دينهم، قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ} النساء - ٦٣، لكنه في غاية السقوط.

  • أما أولا: فلأن قوله: {إِمَاماً}، مفعول ثان لعامله الذي هو قوله: {جَاعِلُكَ} و اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، و إنما يعمل إذا كان 

تفسير الميزان ج۱

271
  •  

  • بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله: ‌{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}، وعد له (علیه السلام) بالإمامة في ما سيأتي، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوة، فقد كان ((علیه السلام)) نبيا قبل تقلده الإمامة، فليست الإمامة في (الآية) بمعنى النبوة (ذكره بعض المفسرين.) و أما ثانيا: فلأنا بينا في صدر الكلام: أن قصة الإمامة، إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم (علیه السلام) بعد مجي‌ء البشارة له بإسحق و إسماعيل، و إنما جاءت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط و إهلاكهم، و قد كان إبراهيم حينئذ نبيا مرسلا، فقد كان نبيا قبل أن يكون إماما فإمامته غير نبوته.

  • و منشأ هذا التفسير و ما يشابهه الابتذال الطارئ على معاني الألفاظ الواقعة في القرآن الشريف في أنظار الناس من تكرر الاستعمال بمرور الزمن و من جملة تلك الألفاظ لفظ الإمامة، ففسره قوم: بالنبوة و التقدم و المطاعية مطلقا، و فسره آخرون بمعنى الخلافة أو الوصاية، أو الرئاسة في أمور الدين و الدنيا - و كل ذلك لم يكن - فإن النبوة معناها: تحمل النبإ من جانب الله و الرسالة معناها تحمل التبليغ، و المطاعية و الإطاعة قبول الإنسان ما يراه أو يأمره غيره و هو من لوازم النبوة و الرسالة، و الخلافة نحو من النيابة، و كذلك و الوصاية، و الرئاسة نحو من المطاعية و هو مصدرية الحكم في الاجتماع و كل هذه المعاني غير معنى الإمامة التي هي كون الإنسان بحيث يقتدي به غيره بأن يطبق أفعاله و أقواله على أفعاله و أقواله بنحو التبعية، و لا معنى لأن يقال لنبي من الأنبياء مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا، أو مطاعا فيما تبلغه بنبوتك، أو رئيسا تأمر و تنهى في الدين، أو وصيا، أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله.

  • و ليست الإمامة تخالف الكلمات السابقة و تختص بموردها بمجرد العناية اللفظية فقط، إذ لا يصح أن يقال لنبي - من لوازم نبوته كونه مطاعا بعد نبوته - إني جاعلك مطاعا للناس بعد ما جعلتك كذلك، و لا يصح أن يقال له ما يئول إليه معناه و إن اختلف بمجرد عناية لفظية، فإن المحذور هو المحذور، و هذه المواهب الإلهية ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية، بل دونها حقائق من المعارف 

تفسير الميزان ج۱

272
  •  

  • الحقيقية، فلمعنى الإمامة حقيقة وراء هذه الحقائق.

  • و الذي نجده في كلامه تعالى: أنه كلما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير، قال تعالى في قصص إبراهيم (علیه السلام): {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} الأنبياء - ٧٣، و قال سبحانه: {وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة - ٢٤، فوصفها بالهداية وصف تعريف، ثم قيدها بالأمر، فبين أن الإمامة ليست مطلق الهداية، بل هي الهداية التي تقع بأمر الله، و هذا الأمر هو الذي بين حقيقته في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} يس - ٨٣، و قوله: {وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} القمر - ٥٠، و سنبين في الآيتين أن الأمر الإلهي و هو الذي تسميه الآية المذكورة بالملكوت وجه آخر للخلق، يواجهون به الله سبحانه، طاهر مطهر من قيود الزمان و المكان خال من التغير و التبدل و هو المراد بكلمة {كُنْ} الذي ليس إلا وجود الشي‌ء العيني، و هو قبال الخلق الذي هو وجه آخر من وجهي الأشياء، فيه التغير و التدريج و الانطباق على قوانين الحركة و الزمان، و ليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله إن شاء الله العزيز.

  • و بالجملة فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم، و هدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبي و الرسول و كل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح و الموعظة الحسنة، قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} إبراهيم - ٤، و قال تعالى: في مؤمن آل فرعون، {وَ قَالَ اَلَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} مؤمن - ٣٨، و قال تعالى: {فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} التوبة - ١٢٢، و سيتضح لك هذا المعنى مزيد اتضاح.

  • ثم إنه تعالى بين سبب موهبة الإمامة بقوله: {لَمّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} 

تفسير الميزان ج۱

273
  •  

  • الآية فبين أن الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله - و قد أطلق الصبر - فهو في كل ما يبتلي و يمتحن به عبد في عبوديته، و كونهم قبل ذلك موقنين، و قد ذكر في جملة قصص إبراهيم (علیه السلام) قوله: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ} الأنعام - ٧٥، و الآية كما ترى تعطي بظاهرها: أن إراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدمة لإفاضة اليقين عليه، و يتبين به أن اليقين لا ينفك عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ} التكاثر - ٦ و قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلى‌ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}- إلى أن قال - {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ} المطففين - ٢١ و هذه الآيات تدل على أن المقربين هم الذين لا يحجبون عن ربهم بحجاب قلبي و هو المعصية و الجهل و الريب و الشك، فهم أهل اليقين بالله، و هم يشهدون عليين كما يشهدون الجحيم.

  • و بالجملة فالإمام يجب أن يكون إنسانا ذا يقين مكشوفا له عالم الملكوت - متحققا بكلمات من الله سبحانه - و قد مر أن الملكوت هو الأمر الذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم، فقوله تعالى: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}، يدل دلالة واضحة على أن كل ما يتعلق به أمر الهداية - و هو القلوب و الأعمال - فالإمام باطنه و حقيقته، و وجهه الأمري حاضر عنده غير غائب عنه، و من المعلوم أن القلوب و الأعمال كسائر الأشياء في كونها ذات وجهين، فالإمام يحضر عنده و يلحق به أعمال العباد، خيرها و شرها، و هو المهيمن على السبيلين جميعا، سبيل السعادة و سبيل الشقاوة. و قال تعالى أيضا: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} الإسراء - ٧١ و سيجي‌ء تفسيره بالإمام الحق دون كتاب الأعمال، على ما يظن من ظاهرها، فالإمام هو الذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر، كما أنه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحياة الدنيا و باطنها، و الآية مع ذلك تفيد أن الإمام لا يخلو عنه زمان من الأزمنة، و عصر من الأعصار، لمكان قوله تعالى: {كُلَّ أُنَاسٍ}، على ما سيجي‌ء في تفسير الآية من تقريبه.

  • ثم إن هذا المعنى أعني الإمامة، على شرافته و عظمته، لا يقوم إلا بمن كان سعيد الذات بنفسه، إذ الذي ربما تلبس ذاته بالظلم و الشقاء، فإنما سعادته بهداية من غيره، و قد قال الله تعالى: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى}

تفسير الميزان ج۱

274
  •  

  • يونس - ٣٥. و قد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحق و بين غير المهتدي إلا بغيره، أعني المهتدي بغيره، و هذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحق مهتديا بنفسه، و أن المهتدي بغيره لا يكون هاديا إلى الحق البتة.

  • و يستنتج من هنا أمران: أحدهما: أن الإمام يجب أن يكون معصوما عن الضلال و المعصية، و إلا كان غير مهتد بنفسه، كما مر كما، يدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} الأنبياء - ٧٣ فأفعال الإمام خيرات يهتدي إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي، و تسديد رباني و الدليل عليه قوله تعالى: {فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ}، بناء على أن المصدر المضاف يدل على الوقوع، ففرق بين مثل قولنا: و أوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدل على التحقق و الوقوع، بخلاف قوله: {وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ}، فهو يدل على أن ما فعلوه من الخيرات إنما هو بوحي باطني و تأييد سماوي. الثاني: عكس الأمر الأول و هو أن من ليس بمعصوم فلا يكون إماما هاديا إلى الحق البتة.

  • و بهذا البيان يظهر: أن المراد بالظالمين في قوله تعالى، {قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي اَلظَّالِمِينَ}، مطلق من صدر عنه ظلم ما، من شرك أو معصية، و إن كان منه في برهة من عمره، ثم تاب و صلح.

  • و قد سئل بعض أساتيذنا رحمة الله عليه: عن تقريب دلالة على عصمة الإمام.

  • فأجاب: أن الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام: من كان ظالما في جميع عمره، و من لم يكن ظالما في جميع عمره، و من هو ظالم في أول عمره دون آخره، و من هو بالعكس هذا. و إبراهيم (علیه السلام) أجل شأنا من أن يسأل الإمامة للقسم الأول و الرابع من ذريته، فبقي قسمان و قد نفى الله أحدهما، و هو الذي يكون ظالما في أول عمره دون آخره، فبقي الآخر، و هو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره انتهى و قد ظهر مما تقدم من البيان أمور: 

  • الأول: إن الإمامة لمجعولة.

  • الثاني: أن الإمام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية.

تفسير الميزان ج۱

275
  •  

  • الثالث: أن الأرض و فيه الناس، لا تخلو عن إمام حق.

  • الرابع: أن الإمام يجب أن يكون مؤيدا من عند الله تعالى.

  • الخامس: أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.

  • السادس: أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معاشهم و معادهم.

  • السابع: أنه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس.

  • فهذه سبع مسائل هي أمهات مسائل الإمامة: تعطيها الآية الشريفة بما ينضم إليها من الآيات و الله الهادي.

  • فإن قلت: لو كانت الإمامة هي الهداية بأمر الله تعالى: و هي الهداية إلى الحق الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ}، (الآية) كان جميع الأنبياء أئمة قطعا، لوضوح أن نبوة النبي لا يتم إلا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحي، من غير أن يكون مكتسبا من الغير، بتعليم أو إرشاد و نحوهما، و حينئذ فموهبة النبوة تستلزم موهبة الإمامة، و عاد الإشكال إلى أنفسكم.

  • قلت: الذي يتحصل من البيان السابق المستفاد من الآية أن الهداية بالحق و هي الإمامة تستلزم الاهتداء بالحق، و أما العكس و هو أن يكون كل من اهتدى بالحق هاديا لغيره بالحق، حتى يكون كل نبي لاهتدائه بالذات إماما، فلم يتبين بعد، و قد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحق، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحق في قوله تعالى: {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَ نُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى‌ وَ هَارُونَ وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ. وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى‌ وَ عِيسى‌ وَ إِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصَّالِحِينَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى اَلْعَالَمِينَ.وَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوَانِهِمْ وَ اِجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ. أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اِقْتَدِهْ} الأنعام - ٩٠، و سياق الآيات كما ترى يعطي أن هذه الهداية أمر ليس من شأنه أن يتغير و يتخلف، و أن هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمته، بل عن ذرية إبراهيم منهم خاصة، كما يدل 

تفسير الميزان ج۱

276
  •  

  • عليه قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَ جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الزخرف - ٢٨، فأعلم قومه ببراءته في الحال و أخبرهم بهدايته في المستقبل، و هي الهداية بأمر الله حقا، لا الهداية التي يعطيها النظر و الاعتبار، فإنها كانت حاصلة مدلولا عليها بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي}، ثم أخبر الله: أنه جعل هذه الهداية كلمة باقية في عقب إبراهيم، و هذا أحد الموارد التي أطلق القرآن الكلمة فيها على الأمر الخارجي دون القول، كقوله تعالى: {وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوى‌ وَ كَانُوا أَحَقَّ بِهَا} الفتح - ٢٦.

  • و قد تبين بما ذكر: أن الإمامة في ولد إبراهيم بعده، و في قوله تعالى: {قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي. قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي اَلظَّالِمِينَ}إشارة إلى ذلك، فإن إبراهيم (علیه السلام) إنما كان سأل الإمامة لبعض ذريته لا لجميعهم، فأجيب: بنفيها عن الظالمين من ولده، و ليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتى يكون نفيها عن الظالمين نفيا لها عن الجميع، ففيه إجابة لما سأله مع بيان أنها عهد، و عهده تعالى لا ينال الظالمين.

  • قوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي اَلظَّالِمِينَ}، في التعبير إشارة إلى غاية بعد الظالمين عن ساحة العهد الإلهي، فهي من الاستعارة بالكناية

  • (بحث روائي)

  • في الكافي، عن الصادق (علیه السلام): أن الله عز و جل اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، و أن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، و أن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، و أن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما، فلما جمع له الأشياء قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} قال (علیه السلام): فمن عظمها في عين إبراهيم قال: {وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي اَلظَّالِمِينَ} قال: لا يكون السفيه إمام التقي.

  • أقول: و روي هذا المعنى أيضا عنه بطريق آخر و عن الباقر (علیه السلام) بطريق آخر، و رواه المفيد عن الصادق (علیه السلام). 

تفسير الميزان ج۱

277
  •  

  • قوله: إن الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، يستفاد ذلك من قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}، إلى قوله - {مِنَ اَلشَّاهِدِينَ} الأنبياء - ٥٦، و هو اتخاذ بالعبودية في أول أمر إبراهيم.

  • و اعلم أن اتخاذه تعالى أحدا من الناس عبدا غير كونه في نفسه عبدا، فإن العبدية من لوازم الإيجاد و الخلقة، لا ينفك عن مخلوق ذي فهم و شعور، و لا يقبل الجعل و الاتخاذ و هو كون الإنسان مثلا مملوك الوجود لربه، مخلوقا مصنوعا له، سواء جرى في حياته على ما يستدعيه مملوكيته الذاتية، و استسلم لربوبية ربه العزيز، أو لم يجر على ذلك، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاَّ آتِي اَلرَّحْمَنِ عَبْداً} مريم - ٩٤، و إن كان إذا لم يجر على رسوم العبودية و سنن الرقية استكبارا في الأرض و عتوا كان من الحري أن لا يسمى عبدا بالنظر إلى الغايات، فإن العبد هو الذي أسلم وجهه لربه، و أعطاه تدبير نفسه، فينبغي أن لا يسمى بالعبد إلا من كان عبدا في نفسه و عبدا في عمله، فهو العبد حقيقة، قال تعالى: {وَ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً} الفرقان - ٦٣. و على هذا فاتخاذه تعالى إنسانا عبدا - و هو قبول كونه عبدا و الإقبال عليه بالربوبية - هو الولاية، و هو تولي أمره كما يتولى الرب أمر عبده، و العبودية مفتاح للولاية، كما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اَللَّهُ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْكِتَابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى اَلصَّالِحِينَ} الأعراف - ١٩٦، أي اللائقين للولاية، فإنه تعالى سمى النبي في آيات من كتابه بالعبد، قال تعالى: {اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلى‌ عَبْدِهِ اَلْكِتَابَ} الكهف - ١، و قال تعالى: {يُنَزِّلُ عَلى‌ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الحديد - ٩ و قال تعالى: {قَامَ عَبْدُ اَللَّهِ يَدْعُوهُ} الجن - ١٩، فقد ظهر أن الاتخاذ للعبودية هو الولاية.

  • و قوله (علیه السلام): و أن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، الفرق بين النبي و الرسول على ما يظهرمن الروايات المروية عن أئمة أهل البيت: أن النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحى به إليه، و الرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلمه‌، و الذي يظهر من قصص إبراهيم هو هذا الترتيب، قال تعالى: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ وَ لاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} مريم - ٤٢، فظاهر الآية أنه (علیه السلام) كان صديقا نبيا حين يخاطب أباه بذلك، فيكون هذا تصديقا لما أخبر به إبراهيم (علیه السلام) في أول وروده على قومه: {إِنَّنِي 

تفسير الميزان ج۱

278
  •  

  • بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} الزخرف - ٢٧، و قال تعالى: {وَ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى‌ قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} هود - ٦٩، و القصة - و هي تتضمن مشاهدة الملك و تكليمه - واقعة في حال كبر إبراهيم (علیه السلام) بعد ما فارق أباه و قومه.

  • و قوله (علیه السلام): إن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، يستفاد ذلك من قوله تعالى: {وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ اِتَّخَذَ اَللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} النساء - ١٢٥، فإن ظاهره أنه إنما اتخذه خليلا لهذه الملة الحنيفية التي شرعها بأمر ربه إذ المقام مقام بيان شرف ملة إبراهيم الحنيف، التي تشرف بسببها إبراهيم (علیه السلام) بالخلة و الخليل أخص من الصديق فإن أحد المتحابين يسمى صديقا إذا صدق في معاشرته و مصاحبته ثم يصير خليلا إذا قصر حوائجه على صديقه، و الخلة الفقر و الحاجة.

  • و قوله (علیه السلام): و أن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما، إلخ يظهر معناه مما تقدم من البيان.

  • و قوله: قال لا يكون السفيه إمام التقي إشارة إلى قوله تعالى، {وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} البقرة - ١٣١، فقد سمى الله سبحانه الرغبة عن ملة إبراهيم و هو الظلم سفها، و قابلها بالاصطفاء، و فسر الاصطفاء بالإسلام، كما يظهر بالتدبر في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}ثم جعل الإسلام و التقوى واحدا أو في مجرى واحد في قوله: {اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران - ١٠٢ فافهم ذلك.

  • و عن المفيد عن درست و هشام عنهم (علیهم السلام) قال: قد كان إبراهيم نبيا و ليس بإمام، حتى قال الله تبارك و تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي} فقال الله تبارك و تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي اَلظَّالِمِينَ}، من عبد صنما أو وثنا أو مثالا، لا يكون إماما.

  • أقول: و قد ظهر معناه مما مر.

  • و في أمالي الشيخ، مسندا، و عن مناقب ابن المغازلي مرفوعا عن ابن مسعود عن 

تفسير الميزان ج۱

279
  •  

  • النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في الآية عن قول الله لإبراهيم: من سجد لصنم دوني لا أجعله إماما. قال (علیه السلام) و انتهت الدعوة إلي و إلى أخي علي، لم يسجد أحدنا لصنم قط.

  • و في الدر المنثور: أخرج وكيع و ابن مردويه عن علي بن أبي طالب (علیه السلام) عن النبي: في قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي اَلظَّالِمِينَ}قال: لا طاعة إلا في المعروف.

  • و في الدر المنثور، أيضا: أخرج عبد بن حميد عن عمران بن حصين سمعت النبي يقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الله. 

  • أقول: معانيها ظاهرة مما مر.

  • و في تفسير العياشي، بأسانيد عن صفوان الجمال قال: كنا بمكة فجرى الحديث في قول الله: {وَ إِذِ اِبْتَلى‌ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}قال: فأتمهن بمحمد و علي و الأئمة من ولد علي في قول الله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

  • أقول: و الرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الإمامة كما فسرت بها في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَ جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}الآية فيكون معنى الآية: {وَ إِذِ اِبْتَلى‌ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ}هن إمامته، و إمامة إسحاق و ذريته، و أتمهن بإمامة محمد، و الأئمة من أهل بيته من ولد إسمعيل ثم بين الأمر بقوله: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} إلى آخر الآية.

  •  

  • سورة البقرة (٢): [الآیات ١٢٥ الی ١٢٩] 

  • {وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنَا إِلى‌ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ اَلْعَاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ ١٢٥ وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ 

تفسير الميزان ج۱

280
  • مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ قَالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى‌ عَذابِ اَلنَّارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ ١٢٦ وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ اَلْقَوَاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ١٢٧ رَبَّنَا وَ اِجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَ تُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ ١٢٨ رَبَّنَا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ١٢٩}

  • (بيان) قصة بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة و ما يتعلق بها من دعائه للنبي و أمته و معنى ذلك

  • قوله تعالى: {وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً} إشارة إلى تشريع الحج و الأمن في البيت، و المثابة هي المرجع، من ثاب يثوب إذا رجع.

  • قوله تعالى: {وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} كأنه عطف على قوله: {جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثَابَةً}، بحسب المعنى، فإن قوله: {جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثَابَةً}، لما كان إشارة إلى التشريع كان المعنى و إذ قلنا للناس ثوبوا إلى البيت و حجوا إليه‌{وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، و ربما قيل إن الكلام على تقدير القول، و التقدير: و قلنا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، و المصلى‌ اسم مكان من الصلاة بمعنى الدعاء أي اتخذوا من مقامه (علیه السلام) مكانا للدعاء و الظاهر أن قوله: {جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثَابَةً} إلخ بمنزلة التوطئة أشير به إلى مناط تشريع الصلاة و لذا لم يقل: و صلوا، في مقام إبراهيم، بل قال: {وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فلم يعلق الأمر بالصلاة في المقام، بل علق على اتخاذ المصلى منه.

تفسير الميزان ج۱

281
  •  

  • قوله تعالى: {وَ عَهِدْنَا إِلى‌ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا}، العهد هو الأمر و التطهير إما تخليص البيت لعبادة الطائفين، و العاكفين، و المصلين، و نسكهم فيكون من الاستعارة بالكناية، و أصل المعنى: أن خلصا بيتي لعبادة العباد، و ذلك تطهير و إما تنظيفه من الأقذار و الكثافات الطارئة من عدم مبالاة الناس، و الركع السجود جمعا راكع و ساجد و كان المراد به المصلون.

  • قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ}، هذا دعاء دعا به إبراهيم يسأل به الأمن على أهل مكة و الرزق و قد أجيبت دعوته، و حاشا لله سبحانه أن ينقل في كلامه دعاء لا يستجيبه و لا يرده في كلامه الحق فيشتمل كلامه على هجاء لغو لغا به لاغ جاهل، و قد قال تعالى: {وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ} ص - ٨٤، و قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ مَا هُوَ بِالْهَزْلِ} الطارق - ١٤.

  • و قد نقل القرآن العظيم عن هذا النبي الكريم دعوات كثيرة دعا بها و سألها ربه كدعائه لنفسه في بادئ أمره، و دعائه عند مهاجرته إلى سورية و دعائه و مسألته بقاء الذكر الخير، و دعائه لنفسه و ذريته و لوالديه و للمؤمنين و المؤمنات، و دعائه لأهل مكة بعد بناء البيت، و دعائه و مسألته بعثة النبي من ذريته. و من دعواته و مسائله التي تجسم آماله و تشخص مجاهداته و مساعيه في جنب الله و فضائل نفسه المقدسة، و بالجملة تعرف موقعه و زلفاه من الله عز اسمه، و سائر قصصه و ما مدحه به ربه، يستنبط شرح حياته الشريفة، و سنتعرض للميسور من ذلك في سورة الأنعام.

  • قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}، لما سأل (علیه السلام) لبلد مكة الأمن، ثم سأل لأهله أن يرزقوا من الثمرات، استشعر: أن الأهل سيكون منهم مؤمنون، و كافرون و دعاؤه للأهل بالرزق يعم الكافر و المؤمن، و قد تبرأ من الكافرين و ما يعبدونه، قال تعالى {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} التوبة - ١١٤، فشهد تعالى له: بالبراءة و التبري عن كل عدو لله، حتى أبيه، و لذلك لما استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيدها بقوله من آمن منهم - و هو يعلم أن رزقهم من الثمرات لا يتم من دون شركة الكافرين على ما يحكم به ناموس الحياة الدنيوية الاجتماعية - غير أنه خص مسألته - و الله أعلم - بما يحكم لسائر عباده، و يريد في حقهم، فأجيب (علیه السلام) بما يشمل المؤمن و الكافر، و و فيه 

تفسير الميزان ج۱

282
  •  

  • بيان أن المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة و قانون الطبيعة من غير خرق للعادة، و إبطال لظاهر حكم الطبيعة، و لم يقل: و ارزق من آمن من أهله من الثمرات لأن المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرم، و لا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع، وقع فيه البيت، و لو لا ذلك لم يعمر البلد، و لا وجد أهلا يسكنونه.

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً}، قرئ فأمتعه من باب الإفعال و التفعيل و الإمتاع و التمتيع بمعنى واحد.

  • قوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى‌ عَذابِ اَلنَّارِ} إلخ، فيه إشارة إلى مزيد إكرام البيت و تطييب لنفس إبراهيم (علیه السلام)، كأنه قيل: ما سألته من إكرام البيت برزق المؤمنين من أهل هذا البلد استجبته و زيادة، و لا يغتر الكافر بذلك أن له كرامة على الله، و إنما ذلك إكرام لهذا البلد، و إجابة لدعوتك بأزيد مما سألته، فسوف يضطر إلى عذاب النار، و بئس المصير.

  • قوله تعالى: {وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ اَلْقَوَاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ}، القواعد جمع قاعدة و هي ما قعد من البناء على الأرض، و استقر عليه الباقي، و رفع القواعد من المجاز بعد ما يوضع عليها منها، و نسبة الرفع المتعلق بالمجموع إلى القواعد وحدها.

  • و في قوله تعالى: {مِنَ اَلْبَيْتِ} تلميح إلى هذه العناية المجازية.

  • قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ}، دعاء لإبراهيم و إسمعيل، و ليس على تقدير القول، أو ما يشبهه، و المعنى يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} إلخ، بل هو في الحقيقة حكاية المقول نفسه، فإن قوله: {يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ اَلْقَوَاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْمَاعِيلُ}، حكاية الحال الماضية، فهما يمثلان بذلك تمثيلا كأنهما يشاهدان و هما مشتغلان بالرفع، و السامع يراهما على حالهما ذلك ثم يسمع دعاءهما بألفاظهما من غير وساطة المتكلم المشير إلى موقفهما و عملهما، و هذا كثير في القرآن، و هو من أجمل السياقات القرآنية - و كلها جميل - و فيه من تمثيل القصة و تقريبه إلى الحس ما لا يوجد و لا شي‌ء من نوع بداعته في التقبل بمثل القول و نحوه.

  • و في عدم ذكر متعلق التقبل - و هو بناء البيت - تواضع في مقام العبودية، 

تفسير الميزان ج۱

283
  •  

  • و استحقار لما عملا به و المعنى ربنا تقبل منا هذا العمل اليسير إنك أنت السميع لدعوتنا، العليم بما نويناه في قلوبنا.

  • قوله تعالى: {رَبَّنَا وَ اِجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}، من البديهي أن الإسلام على ما تداول بيننا من لفظه، و يتبادر إلى أذهاننا من معناه أول مراتب العبودية، و به يمتاز المنتحل من غيره، و هو الأخذ بظاهر الاعتقادات و الأعمال الدينية، أعم من الإيمان و النفاق، و إبراهيم (علیه السلام) - و هو النبي الرسول أحد الخمسة أولي العزم، صاحب الملة الحنيفية - أجل من أن يتصور في حقه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين، و كذا ابنه إسمعيل رسول الله و ذبيحة، أو يكونا قد نالاه و لكن لم يعلما بذلك، أو يكونا علما بذلك و أرادا البقاء على ذلك، و هما في ما هما فيه من القربى و الزلفى، و المقام مقام الدعوة عند بناء البيت المحرم، و هما أعلم بمن يسألانه، و أنه من هو، و ما شأنه، على أن هذا الإسلام من الأمور الاختيارية التي يتعلق بها الأمر و النهي كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} البقرة - ١٣١، و لا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للإنسان من حيث هو كذلك من غير عناية يصح معها ذلك.

  • فهذا الإسلام المسئول غير ما هو المتداول المتبادر عندنا منه، فإن الإسلام مراتب و الدليل على أنه ذو مراتب قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ}، (الآية) حيث يأمرهم إبراهيم بالإسلام و قد كان مسلما، فالمراد بهذا الإسلام المطلوب غير ما كان عنده من الإسلام الموجود، و لهذا نظائر في القرآن.

  • فهذا الإسلام هو الذي سنفسره من معناه، و هو تمام العبودية و تسليم العبد كل ما له إلى ربه، و هو إن كان معنى اختياريا للإنسان من طريق مقدماته إلا أنه إذا أضيف إلى الإنسان العادي و حاله القلبي المتعارف كان غير اختياري بمعنى كونه غير ممكن النيل له - و حاله حاله - كسائر مقامات الولاية و مراحله العالية، و كسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الإنسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة، و لهذا يمكن أن يعد أمرا إلهيا خارجا عن اختيار الإنسان، و يسأل من الله سبحانه أن يفيض به، و أن يجعل الإنسان متصفا به.

تفسير الميزان ج۱

284
  •  

  • على أن هنا نظرا أدق من ذلك، و هو أن الذي ينسب إلى الإنسان و يعد اختياريا له، هو الأفعال، و أما الصفات و الملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية بحسب الحقيقة، فمن الجائز أو الواجب أن ينسب إليه تعالى، و خاصة إذا كانت من الحسنات و الخيرات التي نسبتها إليه تعالى، أولى من نسبتها إلى الإنسان، و على ذلك جرى ديدن القرآن، كما في قوله تعالى: {رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاَةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي} إبراهيم - ٤٠، و قوله تعالى: {وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} الشعراء - ٨٣، و قوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‌ وَالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} النمل - ١٨، و قوله تعالى: {رَبَّنَا وَ اِجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (الآية)، فقد ظهر أن المراد بالإسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى: {قَالَتِ اَلْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لَمَّا يَدْخُلِ اَلْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الحجرات - ١٤، بل معنى أرقى و أعلى منه سيجي‌ء بيانه.

  • قوله تعالى: {وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَ تُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ}، يدل على ما مر من معنى الإسلام أيضا، فإن المناسك‌ جمع منسك بمعنى العبادة، كما في قوله تعالى: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} الحج - ٣٤، أو بمعنى المتعبد، أعني الفعل المأتي به عبادة و إضافة المصدر يفيد التحقق، فالمراد بمناسكنا هي الأفعال العبادية الصادرة منهما و الأعمال التي يعملانها دون الأفعال، و الأعمال التي يراد صدورها منهما، فليس قوله: أرنا بمعنى علمنا أو وفقنا، بل التسديد بآرائه حقيقة الفعل الصادر منهما، كما أشرنا إليه في قوله تعالى: {وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ} الأنبياء - ٧٣، و سنبينه في محله: أن هذا الوحي تسديد في الفعل، لا تعليم للتكليف المطلوب، و كأنه إليه الإشارة بقوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدَّارِ} ص - ٤٦.

  • فقد تبين أن المراد بالإسلام و البصيرة في العبادة، غير المعنى الشائع المتعارف، و كذلك المراد بقوله تعالى: {وَ تُبْ عَلَيْنَا}، لأن إبراهيم و إسماعيل كانا نبيين معصومين بعصمة الله تعالى، لا يصدر عنهما ذنب حتى يصح توبتهما منه، كتوبتنا من المعاصي 

تفسير الميزان ج۱

285
  •  

  • الصادرة عنا.

  • فإن قلت: كل ما ذكر من معنى الإسلام و إراءة المناسك و التوبة مما يليق بشأن إبراهيم و إسمعيل (علیه السلام)، لا يلزم أن يكون هو مراده في حق ذريته فإنه لم يشرك ذريته معه و مع ابنه إسماعيل إلا في دعوة الإسلام و قد سأل لهم الإسلام بلفظ آخر في جملة أخرى، فقال: {وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}، و لم يقل: و اجعلنا و من ذريتنا مسلمين، أو ما يؤدي معناه فما المانع أن يكون مراده من الإسلام ما يعم جميع مراتبه حتى ظاهر الإسلام، فإن الظاهر من الإسلام أيضا له آثار جميلة، و غايات نفيسة في المجتمع الإنساني، يصح أن يكون بذلك بغية لإبراهيم (علیه السلام) يطلبها من ربه كما كان كذلك عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حيث اكتفى (صلى الله عليه وآله و سلم) من الإسلام بظاهر الشهادتين الذي به يحقن الدماء، و يجوز التزويج، و يملك الميراث، و على هذا يكون المراد بالإسلام في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَ اِجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}، ما يليق بشأن إبراهيم و إسماعيل، و في قوله: {وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}، ما هو اللائق بشأن الأمة التي فيها المنافق، و ضعيف الإيمان و قويه و الجميع مسلمون.

  • قلت: مقام التشريع و مقام السؤال من الله مقامان مختلفان، لهما حكمان متغايران لا ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر، فما اكتفى به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أمته بظاهر الشهادتين من الإسلام، إنما هو لحكمة توسعة الشوكة و الحفظ لظاهر النظام الصالح، ليكون ذلك كالقشر يحفظ به اللب الذي هو حقيقة الإسلام، و يصان به عن مصادمة الآفات الطارئة.

  • و أما مقام الدعاء و السؤال من الله سبحانه فالسلطة فيها للحقائق، و الغرض متعلق هناك بحق الأمر، و صريح القرب و الزلفى و لا هوى للأنبياء في الظاهر من جهة ما هو ظاهر و لا هوى لإبراهيم (علیه السلام) في ذريته و لو كان له هوى لبدأ فيه لأبيه قبل ذريته و لم يتبرأ منه لما تبين أنه عدو لله، و لم يقل في ما حكى الله من دعائه {وَ لاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء - ٨٩، و لم يقل {وَ اِجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ} الشعراء - ٨٤، بل اكتفى بلسان ذكر في الآخرين إلى غير ذلك.

تفسير الميزان ج۱

286
  •  

  • فليس الإسلام الذي سأله لذريته إلا حقيقة الإسلام، و في قوله تعالى: {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}، إشارة إلى ذلك فلو كان المراد مجرد صدق اسم الإسلام على الذرية لقيل: أمة مسلمة، و حذف قوله: {لَكَ}، هذا.

  • قوله تعالى: {رَبَّنَا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} إلخ دعوة للنبي (علیه السلام)- و قد كان (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: أنا دعوة إبراهيم.

  • (بحث روائي) [قصة بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة و ما يتعلق بها من دعائه للنبي و أمته و معنى ذلك. و ما أورد على ما ورد في فضائل الكعبة و الجواب عنه]

  • في الكافي، عن الكناني: قال سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل نسي أن يصلي الركعتين عند مقام إبراهيم في طواف الحج و العمرة، فقال (علیه السلام): إن كان بالبلد صلى الركعتين عند مقام إبراهيم، فإن الله عز و جل يقول: {وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} و إن كان قد ارتحل، فلا آمره أن يرجع.

  • أقول: و روى قريبا منه، الشيخ في التهذيب، و العياشي في تفسيره بعدة أسانيد و خصوصيات الحكم و هو الصلاة عند المقام أو خلفه، كما في بعض الروايات: ليس لأحد أن يصلي ركعتي الطواف إلا خلف المقام‌، الحديث مستفادة من لفظة من، و مصلى من قوله تعالى: {وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (الآية).

  • و في تفسير القمي، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} (الآية) يعني نح عنه المشركين. و في الكافي، عن الصادق(علیه السلام) قال: إن الله عز و جل يقول في كتابه: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ اَلْعَاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ}، فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلا و هو طاهر قد غسل عرقه، و الأذى، و تطهر. 

  • أقول: و هذا المعنى مروي في روايات أخر، و استفادة طهارة الوارد من طهارة المورد، ربما تمت من آيات أخر، كقوله تعالى: {اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ}

تفسير الميزان ج۱

287
  •  

  • النور - ٢٦ و نحوها.

  • و في المجمع، عن ابن عباس قال: لما أتى إبراهيم بإسماعيل و هاجر، فوضعهما بمكة و أتت على ذلك مدة، و نزلها الجرهميون، و تزوج إسماعيل امرأة منهم، و ماتت هاجر، و استأذن إبراهيم سارة، فأذنت له و شرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم و قد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته أين صاحبك؟ قالت له ليس هو هاهنا، ذهب يتصيد، و كان إسماعيل يخرج من الحرم يتصيد و يرجع، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ فقالت ليس عندي شي‌ء، و ما عندي أحد، فقال لها إبراهيم: إذا جاء زوجك، فأقرئيه السلام و قولي له: فليغير عتبة بابه و ذهب إبراهيم فجاء إسماعيل، و وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا و كذا، كالمستخفة بشأنه، قال: فما قال لك؟ قالت: قال لي: أقرئي زوجك السلام، و قولي له: فليغير عتبة بابه، فطلقها و تزوج أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة: أن يزور إسماعيل و أذنت له، و اشترطت عليه: أن لا ينزل فجاء إبراهيم، حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيد و هو يجي‌ء الآن إن شاء الله، فانزل، يرحمك الله، قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم فجاءت باللبن و اللحم، فدعا لها بالبركة، فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله برا و شعيرا و تمرا، فقالت له انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه فوضع قدمه عليه، فبقي أثر قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدمه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، و قولي له: قد استقامت عتبة بابك فلما جاء إسمعيل (علیه السلام) وجد ريح أبيه -فقال لامرأته هل جاءك أحد؟ قالت نعم شيخ أحسن الناس وجها، و أطيبهم ريحا، فقال لي كذا و كذا و قلت له: كذا و غسلت رأسه، و هذا موضع قدميه على المقام، فقال إسماعيل لها: ذاك إبراهيم.

  • أقول: و روى القمي، في تفسيره: ما يقرب منه.

  • و في تفسير القمي، عن الصادق (علیه السلام) قال: إن إبراهيم كان نازلا، في بادية 

تفسير الميزان ج۱

288
  •  

  • الشام فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا، لأنه لم يكن لها ولد، و كانت تؤذي إبراهيم في هاجر و تغمه، فشكا إبراهيم ذلك إلى الله عز و جل، فأوحى الله إليه: مثل المرأة مثل الضلع العوجاء، إن تركتها استمتعت بها، و إن أقمتها كسرتها، ثم أمره: أن يخرج إسماعيل و أمه، فقال: يا رب إلى أي مكان؟ فقال إلى حرمي و أمني، و أول بقعة خلقتها من الأرض، و هي مكة فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق فحمل هاجر و إسماعيل و إبراهيم و كان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر و زرع و نخل -إلا و قال إبراهيم: يا جبرئيل إلى هاهنا، إلى هاهنا فيقول جبرئيل لا امض، امض، حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت، و قد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها، فاستظلوا تحته، فلما سرحهم إبراهيم و وضعهم أراد الانصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: يا إبراهيم أ تدعنا في موضع ليس فيه أنيس و لا ماء و لا زرع؟ فقال إبراهيم: الله الذي أمرني، أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم ثم انصرف عنهم، فلما بلغ؛ كداء، (و هو جبل بذي طوى) التفت إبراهيم، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، ثم مضى و بقيت هاجر، فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل، فقامت هاجر في موضع السعي فصعدت على الصفا، و لمع لها السراب في الوادي، فظنت أنه ماء، فنزلت في بطن الوادي، و سعت فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل، عادت حتى بلغت الصفا، فنظرت حتى فعلت ذلك سبع مرات فلما كان في الشوط السابع، و هي على المروة نظرت إلى إسماعيل و قد ظهر الماء من تحت رجليه فعادت حتى جمعت حوله رملا، فإنه كان سائلا، فزمته بما جعلت حوله، فلذلك سميت زمزم و كانت جرهم نازلة بذي المجاز و عرفات، فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير و الوحش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكف الطير و الوحش على ذلك المكان فاتبعتها، حتى نظروا إلى امرأة و صبي نازلين في ذلك الموضع، قد استظلا بشجرة، و قد ظهر الماء لهما، فقالوا لهاجر: من أنت و ما شأنك و شأن هذا الصبي؟ قالت: أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن، و هذا ابنه، أمره الله أن ينزلنا هاهنا، فقالوا لها: أ تأذنين لنا أن نكون 

تفسير الميزان ج۱

289
  •  

  •  بالقرب منكم؟ فقالت لهم: حتى يأتي إبراهيم، فلما زارهم إبراهيم في اليوم الثالث قالت هاجر: يا خليل الله إن هاهنا قوما من جرهم يسئلونك: أن تأذن لهم، حتى يكونوا بالقرب منا، أ فتأذن لهم في ذلك؟ قال إبراهيم: نعم، فأذنت هاجر لهم، فنزلوا بالقرب منهم، و ضربوا خيامهم، فأنست هاجر و إسماعيل بهم، فلما زارهم إبراهيم في المرة الثانية نظر إلى كثرة الناس حولهم فسر بذلك سرورا شديدا، فلما تحرك إسماعيل و كانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شاة، و شاتين فكانت هاجر و إسماعيل، يعيشان بها فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال، أمر الله إبراهيم: أن يبني البيت إلى أن قال: فلما أمر الله إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه، فبعث الله جبرئيل، و خط له موضع البيت إلى أن قال فبنى إبراهيم البيت، و نقل إسماعيل من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة أذرع، ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم، و وضعه في موضعه الذي هو فيه الآن، فلما بنى جعل له بابين بابا إلى الشرق، و بابا إلى الغرب، و الباب الذي إلى الغرب، يسمى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر و الإذخر، و ألقت هاجر على بابها كساء كان معها و كانوا يكونون تحته، فلما بنى و فرغ منه، حج إبراهيم و إسماعيل، و نزل عليهما جبرئيل يوم التروية، لثمان من ذي الحجة فقال: يا إبراهيم قم و ارتو من الماء، لأنه لم يكن بمنى و عرفات ماء، فسميت التروية لذلك ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم، فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت: {رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}(الآية)، قال (علیه السلام): من ثمرات القلوب، أي حببهم إلى الناس، ليستأنسوا بهم، و يعودوا إليهم.

  • أقول: هذا الذي لخصناه من أخبار القصة هو الذي تشتمل عليه الروايات الواردة في خلاصة القصة، و قد اشتملت عدة منها، و ورد في أخبار أخرى: أن تاريخ بناء البيت يتضمن أمورا خارقة للعادة، ففي بعض الأخبار، أن البيت أول ما وضع كان قبة من نور، نزلت على آدم، و استقرت في البقعة التي بنى إبراهيم عليها البيت، و لم تزل حتى وقع طوفان نوح، فلما غرقت الدنيا رفعه الله تعالى، و لم تغرق البقعة، فسمي لذلك البيت العتيق. 

تفسير الميزان ج۱

290
  •  

  • و في بعض الأخبار: أن الله أنزل قواعد البيت من الجنة.

  • و في بعضها: أن الحجر الأسود نزل من الجنة و كان أشد بياضا من الثلج فاسودت: لما مسته أيدي الكفار.

  • و في الكافي، أيضا عن أحدهما (علیه السلام) قال: إن الله أمر إبراهيم ببناء الكعبة، و أن يرفع قواعدها، و يري الناس مناسكهم، فبنى إبراهيم و إسماعيل البيت كل يوم ساقا، حتى انتهى إلى موضع الحجر الأسود، و قال أبو جعفر (علیه السلام): فنادى أبو قبيس: أن لك عندي وديعة، فأعطاه الحجر، فوضعه موضعه.

  • و في تفسير العياشي، عن الثوري عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: سألته عن الحجر، فقال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنة، الحجر الأسود استودعه إبراهيم، و مقام إبراهيم، و حجر بني إسرائيل.

  • و في بعض الأخبار: أن الحجر الأسود كان ملكا من الملائكة.

  • أقول: و نظائر هذه المعاني كثيرة واردة في أخبار العامة و الخاصة، و هي و إن كانت آحادا غير بالغة حد التواتر لفظا، أو معنى، لكنها ليست بعادمة النظير في أبواب المعارف الدينية و لا موجب لطرحها من رأس.

  • أما ما ورد من نزول القبة على آدم، و كذا سير إبراهيم إلى مكة بالبراق، و نحو ذلك، مما هو كرامة خارقة لعادة الطبيعة، فهي أمور لا دليل على استحالتها، مضافا إلى أن الله سبحانه خص أنبياءه بكثير من هذه الآيات المعجزة، و الكرامات الخارقة، و القرآن يثبت موارد كثيرة منها.

  • و أما ما ورد من نزول قواعد البيت من الجنة و نزول الحجر الأسود من الجنة، و نزول حجر المقام - و يقال: إنه مدفون تحت البناء المعروف اليوم بمقام إبراهيم - من الجنة و ما أشبه ذلك، فذلك كما ذكرنا كثير النظائر، و قد ورد في عدة من النباتات و الفواكه و غيرها: أنها من الجنة، و كذا ما ورد: أنها من جهنم، 

تفسير الميزان ج۱

291
  •  

  • و من فورة الجحيم، و من هذا الباب أخبار الطينة القائلة: إن طينة السعداء من الجنة، و إن طينة الأشقياء من النار، أو هما من عليين، و سجين، و من هذا الباب أيضا ما ورد: أن جنة البرزخ في بعض الأماكن الأرضية، و نار البرزخ في بعض آخر، و أن القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، إلى غير ذلك، مما يعثر عليه المتتبع البصير في مطاوي الأخبار، و هي كما ذكرنا بالغة في الكثرة حدا ليس مجموعها من حيث المجموع بالذي يطرح أو يناقش في صدوره أو صحة انتسابه و إنما هو من إلهيات المعارف التي سمح بها القرآن الشريف، و انعطف إلى الجري على مسيرها الأخبار الذي يقضي به كلامه تعالى: أن الأشياء التي في هذه النشأة الطبيعية المشهودة جميعا نازلة إليها من عند الله سبحانه، فما كانت منها خيرا جميلا، أو وسيلة خير، أو وعاء لخير، فهو من الجنة، و إليها تعود، و ما كان منها شرا، أو وسيلة شر، أو وعاء لشر، فهو من النار، و إليها ترجع، قال تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر - ٢١، أفاد: أن كل شي‌ء موجود عنده تعالى وجودا غير محدود بحد، و لا مقدر بقدر، و عند التنزيل - و هو التدريج في النزول - يتقدر بقدره و يتحدد بحده، فهذا على وجه العموم، و قد ورد بالخصوص أيضا أمثال قوله تعالى: {وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الزمر - ٦، و قوله تعالى: {وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ} الحديد - ٢٥، و قوله تعالى: {وَ فِي اَلسَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ} الذاريات - ٢٢، على ما سيجي‌ء من توضيح معناها إن شاء الله العزيز، فكل شي‌ء نازل إلى الدنيا من عند الله سبحانه، و قد أفاد في كلامه: أن الكل رجوع إليه سبحانه، فقال: {وَ أَنَّ إِلى‌ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى‌} النجم - ٤٢، و قال تعالى: {إِلى‌ رَبِّكَ اَلرُّجْعى‌} العلق - ٨، قال: {هُوَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ} المؤمن - ٣، و قال تعالى: {أَلاَ إِلَى اَللَّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ} الشورى - ٥٣، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

  • و أفاد: أن الأشياء - و هي بين بدئها و عودها - تجري على ما يستدعيه بدؤها، و يحكم به حظها من السعادة و الشقاء، و الخير و الشر، فقال تعالى: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‌ شَاكِلَتِهِ} إسراء - ٨٤، و قال: {وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} البقرة - ١٤٨، و سيجي‌ء توضيح دلالتها جميعا، و الغرض هاهنا مجرد الإشارة إلى ما يتم به البحث، 

تفسير الميزان ج۱

292
  •  

  • و هو أن هذه الأخبار الحاكية عن كون هذه الأشياء الطبيعية، من الجنة، أو من النار، إذا كانت ملازمة لوجه السعادة أو الشقاوة لا تخلو عن وجه صحة، لمطابقتها لأصول قرآنية ثابتة في الجملة، و إن لم يستلزم ذلك كون كل واحد واحد صحيحا، يصح الركون إليه، فافهم المراد.

  • و ربما قال القائل: إن قوله تعالى: {وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ اَلْقَوَاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْمَاعِيلُ} (الآية) ظاهر في أنهما، هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية، و لكن القصاصين و من تبعهم من المفسرين، جاءونا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا، و تفننوا في رواياتهم، عن قدم البيت، و عن حج آدم، و عن ارتفاعه إلى السماء وقت الطوفان، و عن كون الحجر الأسود من أحجار الجنة، و قد أراد هؤلاء القصاصون أن يزينوا الدين و يرقشوه برواياتهم هذه، و هذه التزيينات بزخارف القول، و إن أثرت أثرها في قلوب العامة، لكن أرباب اللب و النظر من أهل العلم يعلمون أن الشرف المعنوي الذي أفاضه الله سبحانه، بتكريم بعض الأشياء على بعض، فشرف البيت إنما هو بكونه بيتا لله، منسوبا إليه، و شرف الحجر الأسود بكونه موردا للاستلام بمنزلة يد الله سبحانه؛ و أما كون الحجر في أصله ياقوتة، أو درة، أو غير ذلك، فلا يوجب مزية فيه، و شرفا حقيقيا له، و ما الفرق بين حجر أسود، و حجر أبيض، عند الله تعالى في سوق الحقائق، فشرف هذا البيت بتسمية الله تعالى إياه بيته، و جعله موضعا لضروب من عبادته، لا تكون في غيره - كما تقدم - لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، و لا بكون موقعه تفضل سائر المواقع، و لا بكونه من السماء، و عالم الضياء و كذلك شرف الأنبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم، و لا في ملابسهم، و إنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم، و تخصيصهم بالنبوة، التي هي أمر معنوي، و قد كان أهل الدنيا أحسن زينة، و أكثر نعمة منهم.

  • قال: و هذه الروايات فاسدة، في تناقضها و تعارضها في نفسها، و فاسدة في عدم صحة أسانيدها، و فاسدة في مخالفتها لظاهر الكتاب.

  • قال: و هذه الروايات خرافات إسرائيلية، بثها زنادقة اليهود في المسلمين 

تفسير الميزان ج۱

293
  •  

  • ليشوهوا عليهم دينهم، و ينفروا أهل الكتاب منه.

  • أقول: ما ذكره لا يخلو من وجه في الجملة، إلا أنه أفرط في المناقشة، فاعترضه من خبط القول ما هو أردى و أشنع.

  • أما قوله: إن هذه الروايات فاسدة أولا من جهة التناقض و التعارض و ثانيا من جهة مخالفة الكتاب، ففيه أن التناقض أو التعارض إنما يضر لو أخذ بكل واحد واحد منها، و أما الأخذ بمجموعها من حيث المجموع (بمعنى أن لا يطرح الجميع لعدم اشتمالها على ما يستحيل عقلا أو يمنع نقلا) فلا يضره التعارض الموجود فيها و إنما نعني بذلك: الروايات الموصولة إلى مصادر العصمة، كالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الطاهرين من أهل بيته، و أما غيرهم من مفسري الصحابة، و التابعين، فحالهم حال غيرهم من الناس و حال ما ورد من كلامهم الخالي عن التناقض، حال كلامهم المشتمل على التناقض و بالجملة لا موجب لطرح رواية، أو روايات، إلا إذا خالفت الكتاب أو السنة القطعية، أو لاحت منها لوائح الكذب و الجعل، كما لا حجية إلا للكتاب و السنة القطعية، في أصول المعارف الدينية الإلهية.

  • فهناك ما هو لازم القبول، و هو الكتاب و السنة القطعية، و هناك ما هو لازم الطرح، و هو ما يخالفهما من الآثار، و هناك ما لا دليل على رده، و لا على قبوله، و هو ما لا دليل من جهة العقل على استحالته، و لا من جهة النقل أعني: الكتاب و السنة القطعية على منعه.

  • و به يظهر فساد إشكاله بعدم صحة أسانيدها فإن ذلك لا يوجب الطرح ما لم يخالف العقل أو النقل الصحيح.

  • و أما مخالفتها لظاهر قوله: {وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ اَلْقَوَاعِدَ} (الآية) فليت شعري: أن الآية الشريفة كيف تدل على نفي كون الحجر الأسود من الجنة؟ أم كيف تدل على نفي نزول قبة على البقعة في زمن آدم، ثم ارتفاعها في زمن نوح؟ و هل الآية تدل على أزيد من أن هذا البيت المبني من الحجر و الطين بناء إبراهيم؟ و أي ربط له إثباتا أو نفيا بما تتضمنه الروايات التي أشرنا إليها، نعم لا يستحسنه طبع هذا القائل، و لا يرتضيه رأيه 

تفسير الميزان ج۱

294
  •  

  • لعصبية مذهبية توجب نفي معنويات الحقائق عن الأنبياء، و اتكاء الظواهر الدينية على أصول و أعراق معنوية، أو لتبعية غير إرادية للعلوم الطبيعية المتقدمة اليوم، حيث تحكم: أن كل حادثة من الحوادث الطبيعية، أو ما يرتبط بها أي ارتباط من المعنويات يجب أن يعلل بتعليل مادي أو ما ينتهي إلى المادة، الحاكمة في جميع شئون الحوادث كالتعليمات الاجتماعية.

  • و قد كان من الواجب: أن يتدبر في أن العلوم الطبيعية شأنها البحث عن خواص المادة و تراكيبها و ارتباط الآثار الطبيعية بموضوعاتها، ذاك الارتباط الطبيعي و كذا العلوم الاجتماعية إنما تبحث عن الروابط الاجتماعية بين الحوادث الاجتماعية فقط.

  • و أما الحقائق الخارجة عن حومة المادة و ميدان عملها، المحيطة بالطبيعة و خواصها و ارتباطاتها المعنوية غير المادية مع الحوادث الكونية و ما اشتمل عليه عالمنا المحسوس فهي أمور خارجة عن بحث العلوم الطبيعية و الاجتماعية، و لا يسعها أن تتكلم فيها، أو تتعرض لإثباتها، أو تقضي بنفيها فالعلوم الطبيعية إنما يمكنها أن تقضي أن البيت يحتاج في الطبيعة إلى أجزاء من الطين و الحجر، و إلى بان يبنيه و يعطيه بحركاته و أعماله هيئة البيت أو كيف تتكون الحجرة من الأحجار السود و كذا الأبحاث الاجتماعية تعين الحوادث الاجتماعية التي أنتجت بناء إبراهيم للبيت، و هي جمل من تاريخ حياته، و حياة هاجر، و إسماعيل، و تاريخ، تهامة و نزول جرهم، إلى غير ذلك، و أما أنه ما نسبة هذا الحجر مثلا إلى الجنة أو النار الموعودتين فليس من وظيفة هذه العلوم أن تبحث عنه، أو تنفي ما قيل، أو يقال فيه، و قد عرفت: أن القرآن الشريف هو الناطق بكون هذه الموجودات الطبيعية المادية نازلة إلى مقرها و مستقرها من عند الله سبحانه ثم راجعة إليه متوجهة نحوه أيما إلى جنة أيما إلى نار، و هو الناطق بكون الأعمال صاعدة إلى الله، مرفوعة نحوه، نائلة إياه، مع أنها حركات و أوضاع طبيعية، تألفت تألفا اعتباريا اجتماعيا من غير حقيقة تكوينية، قال تعالى: {وَ لَكِنْ يَنَالُهُ اَلتَّقْوى‌ مِنْكُمْ} الحج - ٣٧، و التقوى فعل، أو صفة حاصلة من فعل، و قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ} الفاطر - ١٠، فمن الواجب على الباحث الديني أن يتدبر في هذه الآيات فيعقل أن المعارف الدينية لا مساس لها مع الطبيعيات و الاجتماعيات من جهة النظر الطبيعي و الاجتماعي على الاستقامة و إنما اتكاؤها و ركونها 

تفسير الميزان ج۱

295
  •  

  • إلى حقائق و معان وراء ذلك.

  • و أما قوله: إن شرف الأنبياء و المعاهد و الأمور المنسوبة إليهم كالبيت و الحجر الأسود ليس شرفا ظاهريا بل شرف معنوي ناش عن التفضيل الإلهي فكلام حق، لكن يجب أن يفهم منه حق المعنى الذي يشتمل عليه، فما هذا الأمر المعنوي الذي يتضمن الشرافة؟ فإن كان من المعاني التي يعطيها الاحتياجات الاجتماعية لموضوعاتها و موادها نظير الرتب و المقامات التي يتداولها الدول و الملل كالرئاسة و القيادة في الإنسان و غلاء القيمة في الذهب و الفضة و كرامة الوالدين و حرمة القوانين و النواميس فإنما هي معان يعتبرها الاجتماعات لضرورة الاحتياج الدنيوي، لا أثر منها في خارج الوهم و الاعتبار الاجتماعي، و من المعلوم أن الاجتماع الكذائي لا يتعدى عالم الاجتماع الذي صنعته الحاجة الحيوية، و الله عز سلطانه أقدس ساحة من أن يتطرق إليه هذه الحاجة الطارقة على حياة الإنسان، و مع ذلك فإذا جاز أن يتشرف النبي بهذا الشرف غير الحقيقي فليجز أن يتشرف بمثله بيت أو حجر، و إن كان هذا الشرف حقيقيا واقعيا من قبيل النسبة بين النور و الظلمة، و العلم و الجهل، و العقل و السفه بأن كان حقيقة وجود النبي غير حقيقة وجود غيره و إن كانت حواسنا الظاهرية لا تنال ذلك و هو اللائق بساحة قدسه من الفعل و الحكم، كما قال الله تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} الدخان - ٣٩ و سيجي‌ء بيانه كان ذلك عائدا إلى نسبة حقيقية معنوية غير مادية إلى ما وراء الطبيعة، فإذا جاز تحققها في الأنبياء بنحو فليجز تحققها في غير الأنبياء كالبيت و الحجر و نحوهما و إن وقع التعبير عن هذه النسب الحقيقية المعنوية بما ظاهره المعاني المعروفة عند العامة التي اصطلحت عليه أهل الاجتماع.

  • و ليت شعري: ما ذا يصنعه هؤلاء في الآيات التي تنطق بتزيين الجنة و تشريف أهلها بالذهب و الفضة، و هما فلزان ليس لهما من الشرف إلا غلاء القيمة المستندة إلى عزة الوجود؟ فما ذا يراد من تشريف أهل الجنة بهما؟ و ما الذي يؤثره معنى الثروة في الجنة و لا معنى للاعتبار المالي في الخارج من ظرف الاجتماع؟ فهل لهذه البيانات الإلهية و الظواهر الدينية وجه غير أنها حجب من الكلام و أستار وراءها أسرار؟ فلئن جاز أمثال هذه البيانات في أمور نشأة الآخرة فليجز نظيرتها في بعض الأمور نشأة الدنيا. 

تفسير الميزان ج۱

296
  •  

  • و في تفسير العياشي، عن الزبيري عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن أمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) من هم؟ قال: أمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) بنو هاشم خاصة قلت: فما الحجة في أمة محمد أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال: قول الله: {وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ اَلْقَوَاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ رَبَّنَا وَ اِجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَ تُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ}، فلما أجاب الله إبراهيم و إسماعيل و جعل من ذريتهما أمة مسلمة و بعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الأمة يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و ردف دعوته الأولى دعوته الأخرى فسأل لهم تطهيرا من الشرك و من عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم و لا يتبعوا غيرهم، فقال: {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ففي هذا دلالة على أنه لا يكون الأئمة و الأمة المسلمة التي بعث فيها محمدا إلا من ذرية إبراهيم لقوله: {اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ}

  • أقول: استدلاله (علیه السلام) في غاية الظهور، فإن إبراهيم (علیه السلام) إنما سأل أمة مسلمة من ذريته خاصة، و من المعلوم من ذيل دعوته: {رَبَّنَا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} انتهى، أن هذه الأمة المسلمة هي أمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) لكن لا أمة محمد بمعنى الذين بعث (صلى الله عليه وآله و سلم) إليهم و لا أمة محمد بمعنى من آمن بنبوته فإن هذه الأمة أعم من ذرية إبراهيم و إسماعيل بل أمة مسلمة هي من ذرية إبراهيم (علیه السلام) ثم سأل ربه أن يجنب و يبعد ذريته و بنيه من الشرك و الضلال و هي العصمة، و من المعلوم أن ذرية إبراهيم و إسماعيل - و هم عرب مضر أو قريش خاصة فيهم ضال و مشرك فمراده من بنيه في قوله: {وَ بَنِيَّ}، أهل العصمة من ذريته خاصة، و هم النبي و عترته الطاهرة، فهؤلاء هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) في دعوة إبراهيم (علیه السلام)، و لعل هذه النكتة هي الموجبة للعدول عن لفظ الذرية إلى لفظ البنين، و يؤيده قوله: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الآية) حيث أتى بفاء التفريع و أثبت من تبعه جزءا من نفسه، و سكت عن غيرهم كأنه ينكرهم و لا يعرفهم، هذا.

  • و قوله (علیه السلام): فسأل لهم تطهيرا من الشرك و من عبادة الأصنام، إنما سأل 

تفسير الميزان ج۱

297
  •  

  • إبراهيم (علیه السلام) التطهير من عبادة الأصنام إلا أنه (علیه السلام) علله بالضلال فأنتج سؤال التطهير من جميع الضلال من عبادة الأصنام و من أي شرك حتى المعاصي، فإن كل معصية شرك كما مر بيانه في قوله تعالى: {صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فاتحة الكتاب - ٦.

  • و قوله (علیه السلام): و في هذا دلالة على أنه لا يكون الأئمة و الأمة المسلمة، إلخ أي إنهما واحد، و هما من ذرية إبراهيم كما مر بيانه.

  • فإن قلت: لو كان المراد بالأمة في هذه الآيات و نظائرها كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} آل عمران - ١١٠، عدة معدودة من الأمة دون الباقين كان لازمه المجاز في الكلام من غير موجب يصحح ذلك و لا مجوز لنسبة ذلك إلى كلامه تعالى، على أن كون خطابات القرآن متوجهة إلى جميع الأمة ممن آمن بالنبي ضروري لا يحتاج إلى إقامة حجة.

  • قلت: إطلاق أمة محمد و إرادة جميع من آمن بدعوته من الاستعمالات المستحدثة بعد نزول القرآن و انتشار الدعوة الإسلامية و إلا فالأمة بمعنى القوم كما قال تعالى: {عَلى‌ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} هود - ٤٨، و ربما أطلق على الواحدة كقوله تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} النحل - ١٢٠، و على هذا فمعناها من حيث السعة و الضيق يتبع موردها الذي استعمل فيه لفظها، أو أريد فيه معناها.

  • فقوله تعالى: {رَبَّنَا وَ اِجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (الآية) و المقام مقام الدعاء بالبيان الذي تقدم - لا يراد به إلا عدة معدودة ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كذا قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} و هو في مقام الامتنان و تعظيم القدر و ترفيع الشأن لا يشمل جميع الأمة، و كيف يشمل فراعنة هذه الأمة و دجاجلتها الذين لم يجدوا للدين أثرا إلا عفوه و محوه، و لا لأوليائه عظما إلا كسروه و سيجي‌ء تمام البيان في الآية إن شاء الله فهو من قبيل قوله تعالى لبني إسرائيل: {وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ} البقرة - ٤٧، فإن منهم قارون و لا يشمله الآية قطعا، كما أن قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هَذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً} الفرقان - ٣٠، لا يعم جميع هذه الأمة و فيهم أولياء القرآن و رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله تعالى.

تفسير الميزان ج۱

298
  •  

  • و أما قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَ لاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} البقرة - ١٣٤، فالخطاب فيه متوجه إلى جميع الأمة ممن آمن بالنبي، أو من بعث إليه.

  • (بحث علمي) معنى قصة إبراهيم و سر تشريع الحج

  • إذا رجعنا إلى قصة إبراهيم (علیه السلام) و سيره بولده و حرمته إلى أرض مكة، و إسكانهما هناك، و ما جرى عليهما من الأمر، حتى آل الأمر، إلى ذبح إسماعيل و فدائه من جانب الله و بنائهما البيت، وجدنا القصة دورة كاملة من السير العبودي الذي يسير به العبد من موطن نفسه إلى قرب ربه، و من أرض البعد إلى حظيرة القرب بالإعراض عن زخارف الدنيا، و ملاذها، و أمانيها من جاه، و مال، و نساء و أولاد، و الانقلاع و التخلص عن وسائس الشياطين، و تكديرهم صفو الإخلاص و الإقبال و التوجه إلى مقام الرب و دار الكبرياء.

  • فها هي وقائع متفرقة مترتبة تسلسلت و تألفت قصة تاريخية تحكي عن سير عبودي من العبد إلى الله سبحانه و تشمل من أدب السير و الطلب و الحضور و رسوم الحب و الوله و الإخلاص على ما كلما زدت في تدبره إمعانا زادك استنارة و لمعانا.

  • ثم: إن الله سبحانه أمر خليله إبراهيم، أن يشرع للناس عمل الحج، كما قال {وَ أَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَ عَلى‌ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} إلى آخر الآيات: الحج - ٢٧، و ما شرعه (علیه السلام) و إن لم يكن معلوما لنا بجميع خصوصياته، لكنه كان شعارا دينيا عند العرب في الجاهلية إلى أن بعث الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و شرع فيه ما شرع و لم يخالف فيه ما شرعه إبراهيم إلا بالتكميل كما يدل عليه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} الأنعام - ١٦١، و قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى‌ وَ عِيسى‌} الشورى - ١٣.

  • و كيف كان فما شرعه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من نسك الحج المشتمل على الإحرام و الوقوف 

تفسير الميزان ج۱

299
  •  

  • بعرفات و مبيت المشعر و التضحية و رمي الجمرات و السعي بين الصفا و المروة و الطواف و الصلاة بالمقام تحكي قصة إبراهيم، و تمثل مواقفه و مواقف أهله و مشاهدهم و يا لها من مواقف طاهرة إلهية القائد إليها جذبة الربوبية و السائق نحوها ذلة العبودية.

  • و العبادات المشروعة - على مشرعيها أفضل السلام - صور لمواقف الكملين من الأنبياء من ربهم، و تماثيل تحكي عن مواردهم و مصادرهم في مسيرهم إلى مقام القرب و الزلفى، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الأحزاب - ٢١ و هذا أصل.

  • و في الأخبار المبينة لحكم العبادات و أسرار جعلها و تشريعها شواهد كثيرة على هذا المعنى، يعثر عليها المتتبع البصير.

  • سورة البقرة (٢): ] الآیات ١٣٠الی ١٣٤] 

  • {وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ ١٣٠إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٣١ وَ وَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفى‌ لَكُمُ اَلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ١٣٢ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَ إِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِلَهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ١٣٣ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَ لاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٣٤} 

تفسير الميزان ج۱

300
  •  

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}، الرغبة إذا عديت بعن أفادت معنى الإعراض و النفرة، و إذا عديت بفي أفادت: معنى الشوق و الميل، و سفه يأتي متعديا و لازما، و لذلك ذكر بعضهم أن قوله: {نَفْسَهُ} مفعول لقوله: سفه، و ذكر آخرون أنه تمييز لا مفعول، و المعنى على أي حال: أن الإعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس، و عدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها و من هذه الآية يستفاد معنى‌ ما ورد في الحديث: أن العقل ما عبد به الرحمن.

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا}، الاصطفاء أخذ صفوة الشي‌ء و تمييزه عن غيره إذا اختلطا، و ينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية و هو أن يجري العبد في جميع شئونه على ما يقتضيه مملوكيته و عبوديته من التسليم الصرف لربه، و هو التحقق بالدين في جميع الشئون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في أمور الدنيا و الآخرة و تسليم ما يرضاه الله لعبده في جميع أموره كما قال الله تعالى: {إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْإِسْلاَمُ} آل عمران - ١٩، فظهر: أن مقام الاصطفاء هو مقام الإسلام بعينه و يشهد بذلك قوله تعالى {:إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} (الآية) فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله: {اِصْطَفَيْنَاهُ}، فيكون المعنى أن اصطفاءه إنما كان حين قال له ربه {أَسْلِمْ}، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ}، بمنزلة التفسير لقوله: {اِصْطَفَيْنَاهُ}

  • و في الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}، و لم يقل إذ قلنا له أسلم، و التفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم: {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ}، و لم يقل: قال أسلمت لك أما الأول: فالنكتة فيه الإشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه و كان بينه و بين ما للمتكلم من الشأن و القصة ستر مضروب، فأفاد أن القصة من مسامرات الأنس و خصائص الخلوة.

تفسير الميزان ج۱

301
  •  

  • و أما الثاني: فلأن قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ}، يفيد معنى الاختصاص باللطف و الاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضي من إبراهيم و هو عبد عليه طابع الذلة و التواضع أن لا يسترسل، و لا يعد نفسه مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الأنس، بل يراها واحدا من العبيد الأذلاء المربوبين، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} 

  • معنى الإسلام مراتب الإسلام و الإيمان

  • و الإسلام و التسليم و الاستسلام‌ بمعنى واحد، من السلم، و أحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه و لا يدفعه فقد أسلم و سلم و استسلم له، قال تعالى {بَلى‌ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} البقرة - ١١٢، و قال تعالى: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ حَنِيفاً} الأنعام - ٧٩، و وجه الشي‌ء ما يواجهك به، و هو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشي‌ء، فإسلام الإنسان له تعالى هو وصف الانقياد و القبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني، من قدر و قضاء، أو تشريعي من أمر أو نهي أو غير ذلك، و من هنا كان له مراتب بحسب ترتب الواردات بمراتبها.

  • الأولى: من مراتب الإسلام، القبول لظواهر الأوامر و النواهي بتلقي الشهادتين لسانا، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى: {قَالَتِ اَلْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لَمَّا يَدْخُلِ اَلْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الحجرات - ١٤، و يتعقب الإسلام بهذا المعنى أول مراتب الإيمان و هو الإذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالا و يلزمه العمل في غالب الفروع.

  • الثانية: ما يلي الإيمان بالمرتبة الأولى، و هو التسليم و الانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية و ما يتبعها من الأعمال الصالحة و إن أمكن التخطي في بعض الموارد، قال الله تعالى في وصف المتقين: {اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِينَ} الزخرف - ٦٩، و قال أيضا: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً} البقرة - ٢٠٨، فمن الإسلام ما يتأخر عن الإيمان محققا فهو غير المرتبة الأولى من الإسلام، و يتعقب هذا الإسلام المرتبة الثانية من الإيمان و هو الاعتقاد التفصيلي بالحقائق الدينية، قال تعالى: {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أُولكَ هُمُ اَلصَّادِقُونَ} الحجرات - ١٥، و قال 

تفسير الميزان ج۱

302
  •  

  • أيضا: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‌ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ} الصف - ١١، و فيه إرشاد المؤمنين إلى الإيمان، فالإيمان غير الإيمان.

  • الثالثة: ما يلي الإيمان بالمرتبة الثانية فإن النفس إذا أنست بالإيمان المذكور و تخلقت بأخلاقه تمكنت منها و انقادت لها سائر القوى البهيمية و السبعية، و بالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا و زخارفها الفانية الداثرة، و صار الإنسان يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، و لم يجد في باطنه و سره ما لا ينقاد إلى أمره و نهيه أو يسخط من قضائه و قدره، قال الله سبحانه: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} النساء - ٦٥، و يتعقب هذه المرتبة من الإسلام المرتبة الثالثة من الإيمان، قال الله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ} إلى أن قال: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} المؤمنون - ٣، و منه قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} إلى غير ذلك، و ربما عدت المرتبتان الثانية و الثالثة مرتبة واحدة.

  • و الأخلاق الفاضلة من الرضاء و التسليم، و الحسبة و الصبر في الله، و تمام الزهد و الورع، و الحب و البغض في الله، من لوازم هذه المرتبة.

  • الرابعة: ما يلي، المرتبة الثالثة من الإيمان فإن حال الإنسان و هو في المرتبة السابقة مع ربه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائما بوظيفة عبوديته حق القيام، و هو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يحبه و يرتضيه، و الأمر في ملك رب العالمين لخلقه أعظم من ذلك و أعظم و إنه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشي‌ء من الأشياء لا ذاتا و لا صفة، و لا فعلا على ما يليق بكبريائه جلت كبرياؤه.

  • فالإنسان و هو في المرتبة السابقة من التسليم - ربما أخذته العناية الربانية فأشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شي‌ء سواه لنفسه شيئا إلا به لا رب سواه، و هذا معنى وهبي، و إفاضة إلهية لا تأثير لإرادة الإنسان فيه، و لعل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَ اِجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا}، (الآية) إشارة 

تفسير الميزان ج۱

303
  •  

  • إلى هذه المرتبة من الإسلام فإن قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} (الآية) ظاهره أنه أمر تشريعي لا تكويني، فإبراهيم كان مسلما باختياره، إجابة لدعوة ربه و امتثالا لأمره، و قد كان هذا من الأوامر المتوجهة إليه (علیه السلام) في مبادئ حاله، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الإسلام و إراءة المناسك سؤال لأمر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالإسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الإسلام و يتعقب الإسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الإيمان و هو استيعاب هذا الحال لجميع الأحوال و الأفعال، قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} يونس - ٦٢، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشي‌ء دون الله، و لا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتى لا يحزنوا من مكروه واقع، و لا يخافوا محذورا محتملا، و إلا فلا معنى لكونهم بحيث، لا يخوفهم شي‌ء، و لا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الإيمان بعد الإسلام المذكور فافهم.

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ}، الصلاح‌، و هو اللياقة بوجه ربما نسب في كلامه إلى عمل الإنسان و ربما نسب إلى نفسه و ذاته، قال تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} الكهف - ١١٠، و قال تعالى: {وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيَامى‌ مِنْكُمْ وَ اَلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ} النور - ٣٢.

  • و صلاح العمل و إن لم يرد به تفسير بين من كلامه تعالى غير أنه نسب إليه من الآثار ما يتضح به معناه.

  • فمنها: أنه صالح لوجه الله، قال تعالى: {صَبَرُوا اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} الرعد - ٢٢، و قال تعالى: {وَ مَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغَاءَ وَجْهِ اَللَّهِ} البقرة - ٢٧٢.

  • و منها: أنه صالح لأن يثاب عليه، قال تعالى: {ثَوَابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً} القصص - ٨٠.

  • و منها: أنه يرفع الكلم الطيب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر - ١٠، فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة 

تفسير الميزان ج۱

304
  •  

  • إليه أن صلاح العمل معنى تهيؤه و لياقته لأن يلبس لباس الكرامة و يكون عونا و ممدا لصعود الكلام الطيب إليه تعالى، قال تعالى: {وَ لَكِنْ يَنَالُهُ اَلتَّقْوى‌ مِنْكُمْ} الحج - ٣٧، و قال تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} الإسراء - ٢٠، فعطاؤه تعالى بمنزلة الصورة، و صلاح العمل بمنزلة المادة.

  • و أما صلاح النفس و الذات فقد قال تعالى: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} النساء - ٦٩، و قال تعالى: {وَ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصَّالِحِينَ} الأنبياء - ٨٦، و قال تعالى حكاية عن سليمان: {وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ اَلصَّالِحِينَ} النمل - ١٩، و قال تعالى: {وَ لُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً} إلى قوله {وَ أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ} الأنبياء - ٧٥، و ليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامة الإلهية الواسعة لكل شي‌ء و لا الخاصة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى: {وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‌ءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الأعراف - ١٥٦، إذ هؤلاء القوم و هم الصالحون، طائفة خاصة من المؤمنين المتقين، و من الرحمة ما يختص ببعض دون، بعض قال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} البقرة - ١٠٥ و ليس المراد أيضا مطلق كرامة، الولاية و هو تولي الحق سبحانه أمر عبده، فإن الصالحين و إن شرفوا بذلك، و كانوا من الأولياء المكرمين على ما بيناه سابقا في قوله تعالى: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ} فاتحة الكتاب - ٥ و سيجي‌ء في تفسير الآية لكن هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم و بين النبيين، و الصديقين، و الشهداء فلا يستقيم إذن عدهم طائفة خاصة في قبالهم.

  • نعم الأثر الخاص بالصلاح هو الإدخال في الرحمة، و هو الأمن العام من العذاب كما ورد المعنيان معا في الجنة، قال تعالى: {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} الجاثية - ٣٠، أي في الجنة، و قال تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} الدخان - ٥٥ أي في الجنة.

  • و أنت إذا تدبرت قوله تعالى: {وَ أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} الأنبياء - ٧٥ و قوله: {وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} الأنبياء - ٧٢ - حيث نسب الفعل إلى نفسه تعالى لا إلى 

تفسير الميزان ج۱

305
  •  

  • العبد - ثم تأملت أنه تعالى قصر الأجر و الشكر على ما بحذاء العمل و السعي قضيت بأن الصلاح الذاتي كرامة ليست بحذاء العمل و الإرادة و ربما تبين به معنى قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا} - و هو ما بالعمل - و قوله: {وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ} - و هو أمر غير ما بالعمل - على ما سيجي‌ء بيانه إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا} ق - ٣٥.

  • ثم إنك إذا تأملت حال إبراهيم و مكانته في أنه كان نبيا مرسلا و أحد أولي العزم من الأنبياء، و أنه إمام، و أنه مقتدى عدة ممن بعده من الأنبياء و المرسلين و أنه من الصالحين بنص قوله تعالى: {وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} الأنبياء - ٧٢، الظاهر في الصلاح المعجل على أن من هو دونه في الفضل من الأنبياء أكرم بهذا الصلاح المعجل و هو (علیه السلام) مع ذلك كله يسأل اللحوق بالصالحين الظاهر في أن هناك قوما من الصالحين سبقوه و هو يسأل اللحوق بهم فيما سبقوه إليه، و أجيب بذلك في الآخرة كما يحكيه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه حيث قال تعالى: {وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ} البقرة - ١٣٠، و قال تعالى: {وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ} العنكبوت - ٢٧، و قال تعالى: {وَ آتَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ} النحل - ١٢٢، فإذا تأملت ذلك حق التأمل قضيت بأن الصلاح ذو مراتب بعضها فوق بعض و لم تستبعد لو قرع سمعك أن إبراهيم (علیه السلام) سأل اللحوق بمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و آله الطاهرين (علیه السلام) فأجيب إلى ذلك في الآخرة لا في الدنيا فإنه (علیه السلام) يسأل اللحوق بالصالحين، و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) يدعيه لنفسه. قال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اَللَّهُ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْكِتَابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى اَلصَّالِحِينَ} الأعراف - ١٩٦ فإن ظاهر الآية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يدعي لنفسه الولاية فالظاهر منه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هو المتحقق بالصلاح الذي يدعيه بموجب الآية لنفسه و إبراهيم كان يسأل الله اللحوق بعده من الصالحين يسبقونه في الصلاح فهو هو.

  • قوله تعالى: {وَ وَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ}، أي وصى بالملة.

  • قوله تعالى: {فَلاَ تَمُوتُنَّ}، النهي عن الموت و هو أمر غير اختياري للإنسان، و التكليف إنما يتعلق بأمر اختياري إنما هو لرجوعه إلى أمر يتعلق بالاختيار، و التقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الإسلام، أي داوموا و الزموا الإسلام لئلا يقع 

تفسير الميزان ج۱

306
  •  

  • موتكم إلا في هذا الحال، و في الآية إشارة إلى أن الدين هو الإسلام كما قال تعالى: {إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْإِسْلاَمُ} آل عمران - ١٩.

  • قوله تعالى: {وَ إِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ}، في الكلام إطلاق لفظ الأب على الجد و العم و الوالد من غير مصحح للتغليب، و حجة فيما سيأتي إن شاء الله تعالى في خطاب إبراهيم لآزر بالأب.

  • قوله تعالى: {إِلَهاً وَاحِداً}، في هذا الإيجاز بعد الإطناب بقوله: {إِلَهَكَ وَ إِلَهَ آبَائِكَ} إلخ دفع لإمكان إبهام اللفظ أن يكون إلهه غير إله آبائه على نحو ما يتخذه الوثنيون من الآلهة الكثيرة.

  • قوله تعالى: {وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، بيان للعبادة و أنها ليست عبادة كيفما اتفقت بل عبادة على نهج الإسلام و في الكلام جملة أن دين إبراهيم هو الإسلام و الموروث منه في بني إبراهيم كإسحق و يعقوب و إسمعيل، و في بني إسرائيل، و في بني إسمعيل من آل إبراهيم جميعا هو الإسلام لا غير، و هو الذي أتى به إبراهيم من ربه فلا حجة لأحد في تركه و الدعوة إلى غيره.

  • (بحث روائي)

  • في الكافي، عن سماعة عن الصادق(علیه السلام): الإيمان من الإسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم و لا يكون في الكعبة و لا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم. و فيه، عن سماعة أيضا عن الصادق (علیه السلام) قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله و التصديق برسول الله، به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس، و الإيمان الهدى و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام.

  • أقول: و في هذا المضمون روايات أخر و هي تدل على ما مر بيانه من المرتبة الأولى من الإسلام و الإيمان.

  • و فيه، عن البرقي عن علي (علیه السلام) قال: الإسلام هو التسليم و التسليم هو اليقين‌.

  • و فيه، عن كاهل عن الصادق: لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له و أقاموا الصلاة 

تفسير الميزان ج۱

307
  •  

  • و آتوا الزكاة، و حجوا البيت، و صاموا شهر رمضان ثم قالوا لشي‌ء صنعه الله أو صنعه رسول الله إلا صنع بخلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين‌. (الحديث).

  • أقول: و الحديثان يشيران إلى المرتبة الثالثة من الإسلام و الإيمان.

  • و في البحار، عن إرشاد الديلمي - و ذكر سندين لهذا الحديث، و هو من أحاديث المعراج - و فيه: قال الله سبحانه: يا أحمد هل تدري أي عيش أهنى و أي حياة أبقى؟ قال: اللهم لا، قال: أما العيش الهني‌ء فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري و لا ينسى نعمتي، و لا يجهل حقي، يطلب رضائي في ليله و نهاره، و أما الحياة الباقية، فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا، و تصغر في عينه، و تعظم الآخرة عنده، و يؤثر هواي على هواه و يبتغي مرضاتي، و يعظم حق نعمتي، و يذكر عملي به، و يراقبني بالليل و النهار عند كل سيئة أو معصية، و ينقي قلبه عن كل ما أكره، و يبغض الشيطان و وساوسه، و لا يجعل لإبليس على قلبه سلطانا و سبيلا، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبا حتى أجعل قلبه و فراغه و اشتغاله و همه و حديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبتي من خلقي و أفتح عين قلبه و سمعه، حتى يسمع بقلبه و ينظر بقلبه إلى جلالي و عظمتي، و أضيق عليه الدنيا، و أبغض إليه ما فيها من اللذات، و أحذره من الدنيا و ما فيها كما يحذر الراعي على غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفر من الناس فرارا، و ينقل من دار الفناء إلى دار البقاء، و من دار الشيطان إلى دار الرحمن، يا أحمد و لأزيننه بالهيبة و العظمة فهذا هو العيش الهني‌ء و الحياة الباقية، و هذا مقام الراضين فمن عمل برضاي ألزمه ثلاث خصال أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل، و ذكرا لا يخالطه النسيان، و محبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين، فإذا أحبني أحببته و أفتح عين قلبه إلى جلالي، و لا أخفي عليه خاصة خلقي و أناجيه في ظلم الليل و نور النهار، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين، و مجالسته معهم، و أسمعه كلامي و كلام ملائكتي و أعرفه السر الذي سترته عن خلقي، و ألبسه الحياء، حتى يستحيي منه الخلق كلهم، و يمشي على الأرض مغفورا له، و أجعل قلبه واعيا و بصيرا و لا أخفي عليه شيئا من جنة و لا نار، و أعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول و الشدة و ما أحاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهال و العلماء، و أنومه في قبره، و أنزل عليه منكرا 

تفسير الميزان ج۱

308
  •  

  •  و نكيرا حتى يسألاه، و لا يرى غم الموت، و ظلمة القبر و اللحد، و هول المطلع، ثم أنصب له ميزانه، و أنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشورا، ثم لا أجعل بيني و بينه و ترجمانا فهذه صفات المحبين يا أحمد اجعل همك هما واحدا و اجعل لسانك لسانا واحدا و اجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا من يغفل عني لم أبال في أي واد هلك. 

  • و في البحار، عن الكافي، و المعاني، و نوادر الراوندي، بأسانيد مختلفة عن الصادق و الكاظم (علیه السلام) - و اللفظ المنقول هاهنا للكافي - قال: استقبل رسول الله حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني؟ فقال: يا رسول الله مؤمن حقا، فقال له رسول الله: لكل شي‌ء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، و أظمأت هواجري، و كأني أنظر إلى عرش ربي و قد وضع للحساب، و كأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة و كأني أسمع عواء أهل النار في النار، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): عبد نور الله قلبه أبصرت فأثبت.

  • أقول: و الروايتان تحومان حوم المرتبة الرابعة من الإسلام و الإيمان المذكورتين و في خصوصيات معناهما روايات كثيرة متفرقة سنورد جملة منها في تضاعيف الكتاب إن شاء الله تعالى و الآيات تؤيدها على ما سيجي‌ء بيانها، و اعلم أن لكل مرتبة من مراتب الإسلام و الإيمان معنى من الكفر و الشرك يقابله، و من المعلوم أيضا أن الإسلام و الإيمان كلما دق معناهما و لطف مسلكهما، صعب التخلص مما يقابلهما من معنى الكفر أو الشرك، و من المعلوم أيضا أن كل مرتبة من مراتب الإسلام و الإيمان الدانية، لا ينافي الكفر أو الشرك من المرتبة العالية، و ظهور آثارهما فيها، و هذان أصلان.

  • و يتفرع عليهما: أن للآيات القرآنية بواطن تنطبق على موارد لا تنطبق عليها ظواهرها و ليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله.

  • و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ}، قال (علیه السلام): النظر إلى رحمة الله.

  • و في المجمع، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

  • أقول: و الروايتان قد اتضح معناهما عند بيان معنى الصلاح، و الله الهادي. 

تفسير الميزان ج۱

309
  •  

  • و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ} (الآية) عن الباقر (علیه السلام) أنها جرت في القائم.

  • أقول: قال: في الصافي: لعل مراده أنها في قائم آل محمد فكل قائم منهم يقول: ذلك حين موته لبنيه، و يجيبونه بما أجابوا به. 

  •  

  • سورة البقرة (٢): [الآیات ١٣٥ الی ١٤١]

  • {وَ قَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارى‌ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ١٣٥ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ إِلى‌ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبَاطِ وَ مَا أُوتِيَ مُوسى‌ وَ عِيسى‌ وَ مَا أُوتِيَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ١٣٦ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللَّهُ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ١٣٧ صِبْغَةَ اَللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ١٣٨ قُلْ أَ تُحَاجُّونَنَا فِي اَللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنَا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنَا أَعْمالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ١٣٩ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارى‌ قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اَللَّهِ وَ مَا اَللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ١٤٠تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَ لاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٤١}

تفسير الميزان ج۱

310
  •  

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارى‌ تَهْتَدُوا}، لما بين تعالى أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل و إسحاق و يعقوب و أولاده كان هو الإسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا، استنتج من ذلك أن الاختلافات و الانشعابات التي يدعو إليها فرق المنتحلين من اليهود و النصارى، أمور اخترعتها هوساتهم، و لعبت بها أيديهم لكونهم في شقاق، فتقطعوا بذلك طوائف و أحزابا دينية، و صبغوا دين الله سبحانه - و هو دين التوحيد و دين الوحدة، بصبغة الأهواء و الأغراض و المطامع، مع أن الدين واحد كما أن الإله المعبود بالدين واحد و هو دين إبراهيم، و به فليتمسك المسلمون و ليتركوا شقاق أهل الكتاب.

  • فإن من طبيعة هذه الحياة الأرضية الدنيوية التغير و التحول في عين الجري و الاستمرار كنفس الطبيعة التي هي كالمادة لها و يوجب ذلك أن تتغير الرسوم و الآداب و الشعائر القومية بين طوائف الملل و شعباتها، و ربما يوجب ذلك تغييرا و انحرافا في المراسم الدينية، و ربما يوجب دخول ما ليس من الدين في الدين، أو خروج ما هو منه و الأغراض و الغايات الدنيوية ربما تحل محل الأغراض الدينية الإلهية (و هي بلية الدين)، و عند ذلك ينصبغ الدين بصبغة القومية فيدعو إلى هدف دون هدفه الأصلي و يؤدب الناس غير أدبه الحقيقي، فلا يلبث حتى يعود المنكر (و هو ما ليس من الدين) معروفا يتعصب له الناس لموافقته هوساتهم و شهواتهم و المعروف منكرا ليس له حام يحميه و لا واق يقيه و يئول الأمر إلى ما نشاهده اليوم من...

  • و بالجملة فقوله تعالى: {وَ قَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارى‌}، إجمال تفصيل معناه و قالت اليهود كونوا هودا تهتدوا، و قالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا، كل ذلك لتشعبهم و شقاقهم.

  • قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ}، جواب عن قولهم أي قل، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع 

تفسير الميزان ج۱

311
  •  

  • أنبيائكم، إبراهيم، فمن دونه، و ما كان صاحب هذه الملة و هو إبراهيم من المشركين و لو كان في ملته هذه الانشعابات، و هي الضمائم التي ضمها إليها المبتدعون، من الاختلافات لكان مشركا بذلك، فإن ما ليس من دين الله لا يدعو إلى الله سبحانه، بل إلى غيره و هو الشرك، فهذا دين التوحيد الذي لا يشتمل على ما ليس من عند الله تعالى.

  • قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}، لما حكى ما يأمره به اليهود و النصارى من اتباع مذهبهم، ذكر ما هو عنده من الحق (و الحق يقول) و هو الشهادة على الإيمان بالله، و الإيمان بما عند الأنبياء، من غير فرق بينهم، و هو الإسلام و خص الإيمان بالله بالذكر و قدمه و أخرجه من بين ما أنزل على الأنبياء لأن الإيمان بالله فطري، لا يحتاج إلى بينة النبوة، و دليل الرسالة.

  • ثم ذكر سبحانه ما أنزل إلينا و هو القرآن أو المعارف القرآنية و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب، ثم ذكر ما أوتي موسى و عيسى و خصهما بالذكر لأن المخاطبة مع اليهود و النصارى و هم يدعون إليهما فقط ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم، ليشمل الشهادة جميع الأنبياء فيستقيم قوله بعد ذلك: لا نفرق بين أحد منهم.

  • و اختلاف التعبير في الكلام، حيث عبر عما عندنا و عند إبراهيم و إسحاق و يعقوب بالإنزال و عما عند موسى و عيسى و النبيين بالإيتاء و هو الإعطاء، لعل الوجه فيه أن الأصل في التعبير هو الإيتاء، كما قال تعالى بعد ذكر إبراهيم، و من بعده و من قبله من الأنبياء في سورة الأنعام: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ}، الأنعام - ٨٩، لكن لفظ الإيتاء ليس بصريح في الوحي و الإنزال كما قال تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ اَلْحِكْمَةَ} لقمان - ١٢، و قال: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ} الجاثية - ١٦، و لما كان كل من اليهود و النصارى يعدون إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط من أهل ملتهم، فاليهود من اليهود، و النصارى من النصارى، و اعتقادهم أن الملة الحق من النصرانية، أو اليهودية، هي ما أوتيه موسى و عيسى، فلو كان قيل: و ما أوتي إبراهيم و إسماعيل 

تفسير الميزان ج۱

312
  •  

  • لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملة بالوحي و الإنزال و احتمل أن يكون ما أوتوه، هو الذي أوتيه موسى و عيسى (علیه السلام) نسب إليهم بحكم التبعية كما نسب إيتاؤه إلى بني إسرائيل فلذلك خص إبراهيم و من عطف عليه باستعمال لفظ الإنزال، و أما النبيون قبل إبراهيم فليس لهم فيهم كلام حتى يوهم قوله: و ما أوتي النبيون شيئا يجب دفعه.

  • قوله تعالى: {وَ اَلْأَسْبَاطِ} الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل و السبط كالقبيلة الجماعة يجتمعون على أب واحد، و قد كانوا اثنتي عشرة أسباطا أمما و كل واحدة منهم تنتهي إلى واحد من أولاد يعقوب و كانوا اثني عشر، فخلف كل واحد منهم أمة من الناس.

  • فإن كان المراد بالأسباط الأمم و الأقوام فنسبة الإنزال إليهم لاشتمالهم على أنبياء من سبطهم، و إن كان المراد بالأسباط الأشخاص كانوا أنبياء أنزل إليهم الوحي و ليسوا بإخوة يوسف لعدم كونهم أنبياء، و نظير الآية قوله تعالى: {وَ أَوْحَيْنَا إِلى‌ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبَاطِ وَ عِيسى‌} النساء - ١٦٣.

  • قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْا}، الإتيان بلفظ المثل مع كون أصل المعنى، فإن آمنوا بما آمنتم به، لقطع عرق الخصام و الجدال، فإنه لو قيل لهم أن آمنوا بما آمنا به أمكن أن يقولوا كما قالوا، بل نؤمن بما أنزل علينا و نكفر بما وراءه، لكن لو قيل لهم، إنا آمنا بما لا يشتمل إلا على الحق فآمنوا أنتم بما يشتمل على الحق مثله، لم يجدوا طريقا للمراء و المكابرة، فإن الذي بيدهم لا يشتمل على صفوة الحق.

  • قوله تعالى: {فِي شِقَاقٍ}، الشقاق النفاق و المنازعة و المشاجرة و الافتراق.

  • قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللَّهُ}، وعد لرسول الله بالنصرة عليهم، و قد أنجز وعده و سيتم هذه النعمة للأمة الإسلامية إذا شاء، و اعلم: أن الآية معترضة بين الآيتين السابقة و اللاحقة.

  • قوله تعالى: {صِبْغَةَ اَللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللَّهِ صِبْغَةً}، الصبغة بناء نوع من الصبغ 

تفسير الميزان ج۱

313
  •  

  • أي هذا الإيمان المذكور صبغة إلهية لنا، و هي أحسن الصبغ لا صبغة اليهودية و النصرانية بالتفرق في الدين، و عدم إقامته.

  • قوله تعالى: {وَ نَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}، في موضع الحال، و هو كبيان العلة لقوله: {صِبْغَةَ اَللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ}.

  • قوله تعالى: {قُلْ أَ تُحَاجُّونَنَا فِي اَللَّهِ}، إنكار لمحاجة أهل الكتاب، المسلمين في الله سبحانه و قد بين وجه الإنكار، و كون محاجتهم لغوا و باطلا، بقوله: {وَ هُوَ رَبُّنَا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنَا أَعْمالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}، و بيانه: أن محاجة كل تابعين في متبوعهما و مخاصمتهما فيه إنما تكون لأحد أمور ثلاثة: إما لاختصاص كل من التابعين بمتبوع دون متبوع الآخر، فيريدان بالمحاجة كل تفضيل متبوعه و ربه على الآخر، كالمحاجة بين وثني و مسلم، و إما لكون كل واحد منهما أو أحدهما و يريد مزيد الاختصاص به، و إبطال نسبة رفيقه، أو قربه أو ما يشبه ذلك، بعد كون المتبوع واحدا، و إما لكون أحدهما ذا خصائص و خصال لا ينبغي أن ينتسب إلى هذا المتبوع و فعاله ذاك الفعال، و خصاله تلك الخصال لكونه موجبا، لهتكه أو سقوطه أو غير، ذلك فهذه علل المحاجة و المخاصمة بين كل تابعين، و المسلمون و أهل الكتاب إنما يعبدون إلها واحدا، و أعمال كل من الطائفتين لا تزاحم الأخرى شيئا و المسلمون مخلصون في دينهم لله، فلا سبب يمكن أن يتشبث به أهل الكتاب في محاجتهم، و لذلك أنكر عليهم محاجتهم أولا ثم نفى واحدا واحدا من أسبابها الثلاثة، ثانيا.

  • قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله {كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارى‌} و هو قول كل من الفريقين، أن إبراهيم و من ذكر بعده منهم، و لازم ذلك كونهم هودا أو نصارى أو قولهم صريحا أنهم كانوا هودا أو نصارى، كما يفيده ظاهر قوله تعالى {يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ مَا أُنْزِلَتِ اَلتَّوْرَاةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} آل عمران - ٦٥.

  • قوله تعالى:{قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللَّهُ}، فإن الله أخبرنا و أخبركم في الكتاب أن موسى و عيسى و كتابيهما بعد إبراهيم و من ذكر معه.

تفسير الميزان ج۱

314
  •  

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اَللَّهِ}، أي كتم ما تحمل شهادة أن الله أخبر بكون تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم و من ذكر معه، فالشهادة المذكورة في الآية، شهادة تحمل، أو المعنى كتم شهادة الله على كون هؤلاء قبل التوراة و الإنجيل، فالشهادة شهادة أداء، المتعين هو المعنى الأول.

  • قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}، أي أن الغور في الأشخاص و أنهم ممن كانوا لا ينفع حالكم، و لا يضركم السكوت عن المحاجة و المجادلة فيهم، و الواجب عليكم الاشتغال بما تسألون غدا عنه، و تكرار الآية مرتين لكونهم يفرطون في هذه المحاجة التي لا تنفع لحالهم شيئا، و خصوصا مع علمهم بأن إبراهيم كان قبل اليهودية و النصرانية، و إلا فالبحث عن حال الأنبياء، و الرسل بما ينفع البحث فيه كمزايا رسالاتهم و فضائل نفوسهم الشريفة مما ندب إليه القرآن حيث يقص قصصهم و يأمر بالتدبر فيها.

  • (بحث روائي)

  • في تفسير العياشي: في قوله تعالى {قُلْ: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (الآية) عن الصادق (علیه السلام) قال: إن الحنيفية في الإسلام.

  • و عن الباقر (علیه السلام): ما أبقت الحنيفية شيئا، حتى أن منها قص الشارب و قلم الأظفار و الختان.

  • و في تفسير القمي: أنزل الله على إبراهيم الحنيفية، و هي الطهارة، و هي عشرة: خمسة في الرأس و خمسة في البدن، فأما التي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طم الشعر و السواك و الخلال، و ما التي في البدن فأخذ الشعر من البدن و الختان و قلم الأظفار و الغسل من الجنابة، و الطهور بالماء و هي الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة.

  • أقول: طم الشعر؛ جزه، و توفيره و في معنى الرواية أو ما يقرب منه أحاديث كثيرة جدا روتها الفريقان في كتبهم.

  • و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الباقر (علیه السلام): في قوله تعالى، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}

تفسير الميزان ج۱

315
  •  

  • (الآية) قال: إنما عنى بها عليا و فاطمة و الحسن و الحسين و جرت بعدهم في الأئمة. الحد يث.

  • أقول: و يستفاد ذلك من وقوع الخطاب في ذيل دعوة إبراهيم و من ذريتنا أمة مسلمة لك الآية و لا ينافي ذلك توجيه الخطاب إلى عامة المسلمين و كونهم مكلفين بذلك، فإن لهذه الخطابات عموما و خصوصا بحسب مراتب معناها على ما مر في الكلام على الإسلام و الإيمان و مراتبهما.

  • و في تفسير القمي، عن أحدهما، و في المعاني، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى {صِبْغَةَ اَللَّهِ} (الآية) – قال: الصبغة هي الإسلام.

  • أقول: و هو الظاهر من سياق الآيات.

  • و في الكافي، و المعاني، عن الصادق (علیه السلام) قال: صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق.

  • أقول: و هو من باطن الآية على ما سنبين معناه و نبين أيضا معنى الولاية و معنى الميثاق إن شاء الله العزيز.

  •  

  • سورة البقرة (٢): [الآیات ١٤٢ الی ١٥١] 

  • {سَيَقُولُ اَلسُّفَهَاءُ مِنَ اَلنَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ١٤٢ وَ كَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ مَا جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‌ عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى اَلَّذِينَ هَدَى اَللَّهُ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اَللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ١٤٣ قَدْ نَرى‌ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ}

تفسير الميزان ج۱

316
  •  

  • {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اَللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ١٤٤ وَ لَئِنْ أَتَيْتَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ مَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ مَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ ١٤٥ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ١٤٦ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ١٤٧ وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّ جَمِيعاً إِنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ١٤٨ وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اَللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ١٤٩ وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٥٠كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ١٥١} 

تفسير الميزان ج۱

317
  •  

  • (بيان) تشريع القبلة و معنى شهادة الأمة على الناس و الرسول على الأمة

  • الآيات مترتبة متسقة منتظمة في سياقها على ما يعطيه التدبر فيها و هي تنبئ عن جعل الكعبة قبلة للمسلمين فلا يصغي إلى قول من يقول إن فيها تقدما و تأخرا أو إن فيها ناسخا و منسوخا، و ربما رووا فيها شيئا من الروايات، و لا يعبأ بشي‌ء منها بعد مخالفتها لظاهر الآيات.

  • قوله تعالى: {سَيَقُولُ اَلسُّفَهَاءُ مِنَ اَلنَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} هذا تمهيد ثانيا لما سيأمر تعالى به من اتخاذ الكعبة قبلة و تعليم للجواب عما سيعترض به السفهاء من الناس و هم اليهود تعصبا لقبلتهم التي هي بيت المقدس و مشركو العرب الراصدون لكل أمر جديد يحتمل الجدال و الخصام، و قد مهد لذلك أولا بما ذكره الله تعالى من قصص إبراهيم و أنواع كرامته على الله سبحانه و كرامة ابنه إسماعيل و دعوتهما للكعبة و مكة و للنبي و الأمة المسلمة و بنائهما البيت و الأمر بتطهيره للعبادة، و من المعلوم أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من أعظم الحوادث الدينية و أهم التشريعات التي قوبل به الناس بعد هجرة النبي إلى المدينة و أخذ الإسلام في تحقيق أصوله و نشر معارفه و بث حقائقه، فما كانت اليهود و غيرهم تسكت و تستريح في مقابل هذا التشريع، لأنهم كانوا يرون أنه يبطل واحدا من أعظم مفاخرهم الدينية و هو القبلة و اتباع غيرهم لهم فيها و تقدمهم على من دونهم في هذا الشعار الديني، على أن ذلك تقدم باهر في دين المسلمين، لجمعه وجوههم في عباداتهم و مناسكهم الدينية إلى نقطة واحدة يخلصهم من تفرق الوجوه في الظاهر و شتات الكلمة في الباطن و استقبال الكعبة أشد تأثيرا و أقوى من أمثال الطهارة و الدعاء و غيرهما في نفوس المسلمين، عند اليهود و مشركي العرب و خاصة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصة في القرآن، فقد كانوا أمة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة و لا لغير الحس وقعا، إذا جاءهم حكم من أحكام الله معنوي قبلوه من غير تكلم عليه و إذا جاءهم أمر من ربهم صوري متعلق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال و الهجرة و السجدة و خضوع القول و غيرها قابلوه بالإنكار و قاوموا عليه و دونه أشد المقاومة.

تفسير الميزان ج۱

318
  •  

  • و بالجملة فقد أخبر الله سبحانه عما سيعترضون به على تحويل القبلة و علم رسوله ما ينبغي أن يجابوا و يقطع به قولهم.

  • أما اعتراضهم: فهو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت، ما كان به شي‌ء من هذا الشرف الذاتي ما وجهه؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه و ينسخ ما شرعه، و اليهود ما كانت تعتقد النسخ (كما تقدم في آية النسخ) و إن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط و الخروج من الهداية إلى الضلال و هو تعالى و إن لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك.

  • و أما الجواب: فهو أن جعل بيت من البيوت كالكعبة أو بناء من الأبنية أو الأجسام كبيت المقدس، أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه يستحيل التعدي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتى يكون البيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه و لا يجوز إلغاؤه، بل جميع الأجسام و الأبنية و جميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليه الإنسان في أنها لا تقتضي حكما و لا يستوجب تشريعا على السواء و كلها لله يحكم فيها ما يشاء و كيف يشاء و متى يشاء، و ما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم و كمالهم الفردي و النوعي، فلا يحكم إلا ليهدي به و لا يهدي إلا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم و صلاحهم.

  • قوله تعالى: {سَيَقُولُ اَلسُّفَهَاءُ مِنَ اَلنَّاسِ}، أراد بهم اليهود و المشركين من العرب و لذلك عبر عنهم بالناس و إنما سفههم لعدم استقامة فطرتهم و ثقوب رأيهم في أمر التشريع، و السفاهةعدم استقامة العقل و تزلزل الرأي.

  • قوله تعالى: {مَا وَلاَّهُمْ}، تولية الشي‌ء أو المكان جعله قدام الوجه و أمامه كالاستقبال، قال تعالى {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}، الآية و التولية عن الشي‌ء صرف الوجه عنه كالاستدبار و نحوه، و المعنى ما الذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة التي كانوا عليها و هو بيت المقدس الذي كان يصلي إليه النبي و المسلمون أيام إقامته بمكة و عدة شهور بعد هجرته إلى المدينة و إنما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع أن اليهود أقدم في الصلاة 

تفسير الميزان ج۱

319
  •  

  • إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجب و أوجب للاعتراض، و إنما قيل ما وليهم عن قبلتهم و لم يقل ما ولى النبي و المسلمين لما ذكرنا من الوجه، فلو قيل ما ولى النبي و المسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجب واقعا موقعه و كان الجواب عنه ظاهرا لكل سامع بأدنى تنبه.

  • قوله تعالى: {قُلْ لِلّ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ}، اقتصر من بين الجهات بهاتين لكونهما هما المعنيتين لسائر الجهات الأصلية و الفرعية كالشمال و الجنوب و ما بين كل جهتين من الجهات الأربعة الأصلية، و المشرق و المغرب جهتان إضافيتان تتعينان بشروق الشمس أو النجوم و غروبهما، يعمان جميع نقاط الأرض غير نقطتين موهومتين هما نقطتا الشمال و الجنوب الحقيقيتان، و لعل هذا هو الوجه في وضع المشرق و المغرب موضع الجهات.

  • قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، تنكير الصراط لأن الصراط يختلف باختلاف الأمم في استعداداتها للهداية إلى الكمال و السعادة.

  • قوله تعالى: {وَ كَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، الظاهر أن المراد كما سنحول القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم أمة وسطا، و قيل إن المعنى و مثل هذا الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا (و هو كما ترى)، و أما المراد بكونهم أمة وسطا شهداء على الناس فالوسط هو المتخلل بين الطرفين لا إلى هذا الطرف و لا إلى ذاك الطرف، و هذه الأمة بالنسبة إلى الناس و هم أهل الكتاب و المشركون على هذا الوصف فإن بعضهم و هم المشركون و الوثنيون إلى تقوية جانب الجسم محضا لا يريدون إلا الحياة الدنيا و الاستكمال بملاذها و زخارفها و زينتها، لا يرجون بعثا و لا نشورا، و لا يعبئون بشي‌ء من الفضائل المعنوية و الروحية، و بعضهم كالنصارى إلى تقوية جانب الروح لا يدعون إلا إلى الرهبانية و رفض الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر هذه النشأة المادية لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان، فهؤلاء أصحاب الروح أبطلوا النتيجة بإبطال سببها و أولئك أصحاب الجسم أبطلوا النتيجة بالوقوف على سببها و الجمود عليها، لكن الله سبحانه جعل هذه الأمة وسطا بأن جعل لهم دينا يهدي منتحليه إلى سواء الطريق وسط الطرفين لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء بل يقوي كلا من الجانبين - جانب الجسم و جانب الروح على ما يليق به و يندب إلى جمع الفضيلتين فإن الإنسان مجموع الروح و الجسم لا روح محضا و لا جسم محضا، و محتاج 

تفسير الميزان ج۱

320
  •  

  • في حياته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين و السعادتين المادية و المعنوية، فهذه الأمة هي الوسط العدل الذي به يقاس و يوزن كل من طرفي الإفراط و التفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الأطراف و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو المثال الأكمل من هذه الأمة - هو شهيد على نفس الأمة فهو (صلى الله عليه وآله و سلم) ميزان يوزن به حال الآحاد من الأمة، و الأمة ميزان يوزن به حال الناس و مرجع يرجع إليه طرفا الإفراط و التفريط، هذا ما قرره بعض المفسرين في معنى الآية، و هو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقة إلا أنه غير منطبق على لفظ الآية فإن كون الأمة وسطا إنما يصحح كونها مرجعا يرجع إليه الطرفان، و ميزانا يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين، أو يشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى و الشهادة و هو ظاهر، على أنه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيدا على الأمة إذ لا يترتب شهادة الرسول على الأمة على جعل الأمة وسطا، كما يترتب الغاية على المغيا و الغرض على ذيه.

  • على أن هذه الشهادة المذكورة في الآية، حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، و اللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنَا بِكَ عَلى‌ هَؤُلاَءِ شَهِيداً} النساء - ٤١، و قال تعالى: {وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} النحل - ٨٤ و قال تعالى: {وَ وُضِعَ اَلْكِتَابُ وَ جِي‌ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ} الزمر - ٦٩، و الشهادة فيها مطلقة، و ظاهر الجميع على إطلاقها هو الشهادة على أعمال الأمم، و على تبليغ الرسل أيضا، كما يومئ إليه قوله تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ} الأعراف - ٦، و هذه الشهادة و إن كانت في الآخرة يوم القيامة لكن تحملها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى - حكاية عن عيسى (علیه السلام) - {وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ} المائدة - ١١٧ و قوله تعالى: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} النساء - ١٥٩، و من الواضح أن هذه الحواس العادية التي فينا، و القوى المتعلقة بها منا لا تتحمل إلا صور الأفعال و الأعمال فقط، و ذلك التحمل أيضا إنما يكون في شي‌ء يكون موجودا حاضرا عند الحس لا معدوما و لا غائبا عنه و أما حقائق الأعمال و المعاني النفسانية من الكفر و الإيمان و الفوز و الخسران، و بالجملة كل خفي عن الحس و مستبطن عند الإنسان - و هي التي تكسب 

تفسير الميزان ج۱

321
  •  

  • القلوب، و عليه يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى: {وَ لكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} البقرة - ٢٢٥ فهي مما ليس في وسع الإنسان إحصاؤها و الإحاطة بها و تشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين إلا رجل يتولى الله أمره و يكشف ذلك له بيده، و يمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ} الزخرف - ٨٦، فإن عيسى داخل في المستثنى في هذه الآية قطعا - و قد شهد الله تعالى في حقه بأنه من الشهداء - كما مر في الآيتين السابقتين، فهو شهيد بالحق و عالم بالحقيقة.

  • و الحاصل أن هذه الشهادة ليست هي كون الأمة على دين جامع للكمال الجسماني و الروحاني فإن ذلك على أنه ليس معنى الشهادة خلاف ظاهر الآيات الشريفة.

  • بل هي تحمل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء و رد و قبول، و انقياد و تمرد، و أداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كل شي‌ء، حتى من أعضاء الإنسان، يوم يقول الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.

  • و من المعلوم أن هذه الكرامة ليست تنالها جميع الأمة، إذ ليست إلا كرامة خاصة للأولياء الطاهرين منهم، و أما من دونهم من المتوسطين في السعادة، و العدول من أهل الإيمان فليس لهم ذلك، فضلا عن الأجلاف الجافية، و الفراعنة الطاغية من الأمة، و ستعرف في قوله تعالى: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} النساء - ٦٩، إن أقل ما يتصف به الشهداء - و هم شهداء الأعمال - أنهم تحت ولاية الله و نعمته و أصحاب الصراط المستقيم، و قد مر إجمالا في قوله تعالى: {صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فاتحة الكتاب - ٧.

  • فالمراد بكون الأمة شهيدة أن هذه الشهادة فيهم، كما أن المراد بكون بني إسرائيل فضلوا على العالمين، أن هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف به كل واحد منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه و منه، فكون الأمة شهيدة هو أن فيهم من يشهد على الناس و يشهد الرسول عليهم.

تفسير الميزان ج۱

322
  •  

  • فإن قلت: قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الحديد - ١٩، يدل على كون عامة المؤمنين شهداء.

  • قلت: قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ}، يدل على أنه تعالى سيلحقهم بالشهداء يوم القيامة، و لم ينالوه في الدنيا، نظير ذلك قوله تعالى {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الطور - ٢١، على أن الآية مطلقة تدل على كون جميع المؤمنين من جميع الأمم شهداء عند الله من غير اختصاص بهذه الأمة فلا ينفع المستدل شيئا.

  • فإن قلت: جعل هذه الأمة أمة وسطا بهذا المعنى لا يستتبع كونهم أو كون بعضهم شهداء على الأعمال و لا كون الرسول شهيدا على هؤلاء الشهداء فالإشكال وارد على هذا التقريب كما كان واردا على التقريب السابق.

  • قلت: معنى الشهادة غاية متفرعة في الآية على جعل الأمة وسطا فلا محالة تكون الوسطية معنى يستتبع الشهادة و الشهداء، و قد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ جَاهِدُوا فِي اَللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اِجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هَذَا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ اَلْمَوْلى‌ وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ} الحج - ٧٨، جعل تعالى كون الرسول شهيدا عليهم و كونهم شهداء على الناس غاية متفرعة على الاجتباء و نفي الحرج عنهم في الدين ثم عرف الدين بأنه هو الملة التي كانت لأبيكم إبراهيم الذي هو سماكم المسلمين من قبل، و ذلك حين دعا لكم ربه و قال: {وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}، فاستجاب الله دعوته و جعلكم مسلمين، تسلمون له الحكم و الأمر من غير عصيان و استنكاف، و لذلك ارتفع الحرج عنكم في الدين، فلا يشق عليكم شي‌ء منه و لا يحرج، فأنتم المجتبون المهديون إلى الصراط، المسلمون لربهم الحكم و الأمر، و قد جعلناكم كذلك ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس، أي تتوسطوا بين الرسول و بين الناس فتتصلوا من جهة إليهم، و عند ذلك يتحقق مصداق دعائه (علیه السلام) فيكم و في الرسول 

تفسير الميزان ج۱

323
  •  

  • {رَبَّنَا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ} البقرة - ١٢٩، فتكونون أمة مسلمة أودع الرسول في قلوبكم علم الكتاب و الحكمة، و مزكين بتزكيته، و التزكية التطهير من قذرات القلوب، و تخليصها للعبودية، و هو معنى الإسلام كما مر بيانه، فتكونون مسلمين خالصين في عبوديتكم، و للرسول في ذلك القدم الأول و الهداية و التربية، فله التقدم على الجميع، و لكم التوسط باللحوق به، و الناس في جانب، و في أول الآية و آخرها قرائن تدل على المعنى الذي استفدناه منها غير خفية على المتدبر فيها سنبينها في محله إن شاء الله.

  • فقد تبين بما قدمناه: أولا: أن كون الأمة وسطا مستتبع للغايتين جميعا، و أن قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (الآية) جميعا لازم كونهم وسطا.

  • و ثانيا: أن كون الأمة وسطا إنما هو بتخللها بين الرسول و بين الناس، لا بتخللها بين طرفي الإفراط و التفريط، و جانبي تقوية الروح و تقوية الجسم في الناس.

  • و ثالثا: أن الآية بحسب المعنى مرتبطة بآيات دعوة إبراهيم (علیه السلام) و أن الشهادة من شئون الأمة المسلمة.

  • و اعلم: أن الشهادة على الأعمال على ما يفيده كلامه تعالى لا يختص بالشهداء من الناس، بل كل ما له تعلق ما بالعمل كالملائكة و الزمان و المكان و الدين و الكتاب و الجوارح و الحواس و القلب فله فيه شهادة.

  • و يستفاد منها أن الذي يحضر منها يوم القيامة هو الذي في هذه النشأة الدنيوية و أن لها نحوا من الحياة الشاعرة بها، تتحمل بها خصوصيات الأعمال، و ترتسم هي فيها، و ليس من اللازم أن تكون الحياة التي في كل شي‌ء، سنخا واحدا كحياة جنس الحيوان، ذات خواص و آثار كخواصها و آثارها، حتى تدفعه الضرورة فلا دليل على انحصار أنحاء الحياة في نحو واحد، هذا إجمال القول في هذا المقام و أما تفصيل القول في كل واحد واحد منها فموكول إلى محله اللائق به.

  • قوله تعالى: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ 

تفسير الميزان ج۱

324
  •  

  • يَنْقَلِبُ عَلى‌ عَقِبَيْهِ}، المراد بقوله: {لِنَعْلَمَ}، إما علم الرسل و الأنبياء مثلا، لأن العظماء يتكلمون عنهم و عن أتباعهم، كقول الأمير، قتلنا فلانا و سجنا فلانا، و إنما قتله و سجنه أتباعه لا نفسه، و إما العلم العيني الفعلي منه تعالى الحاصل مع الخلقة و الإيجاد، دون العلم قبل الإيجاد.

  • و الانقلاب على العقبين كناية عن الإعراض، فإن الإنسان - و هو منتصب على عقبيه - إذا انقلب من جهة، إلى جهة انقلب على عقبيه، فجعل كناية عن الإعراض نظير قوله: {وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الأنفال - ١٦، و ظاهر الآية أنه دفع لما يختلج في صدور المؤمنين: من تغيير القبلة و نسخها، و من جهة الصلوات التي صلوها إلى القبلة، ما شأنها؟ و يظهر من ذلك أن المراد بالقبلة التي كان رسول الله عليها، هو بيت المقدس الكعبة، فلا دليل على جعل بيت المقدس قبلة مرتين، و جعل الكعبة قبلة مرتين، إذ لو كان المراد من القبلة في الآية الكعبة كان لازم ذلك ما ذكر.

  • و بالجملة كان من المترقب أن يختلج في صدور المؤمنين: أولا، أنه لما كان من المقدر أن يستقر القبلة بالآخرة على الكعبة فما هو السبب، أولا: في جعل بيت المقدس قبلة؟ فبين سبحانه أن هذه الأحكام و التشريعات ليست إلا لأجل مصالح تعود إلى تربية الناس و تكميلهم، و تمحيص المؤمنين من غيرهم، و تمييز المطيعين من العاصين، و المنقادين من المتمردين، و السبب الداعي إلى جعل القبلة السابقة في حقكم أيضا هذا السبب بعينه، فالمراد بقوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ}، إلا لنميز من يتبعك، و العدول من لفظ الخطاب إلى الغيبة لدخالة صفة الرسالة في هذا التميز، و المراد بجعل القبلة السابقة: جعلها في حق المسلمين، و إن كان المراد أصل جعل بيت المقدس قبلة فالمراد مطلق الرسول، و الكلام على رسله من غير التفات، غير أنه بعيد من الكلام بعض البعد.

  • و ثانيا: أن الصلوات التي كان المسلمون صلوها إلى بيت المقدس كيف حالها، و قد صليت إلى غير القبلة؟ و الجواب: أن القبلة قبلة ما لم تنسخ، و أن الله سبحانه إذا 

تفسير الميزان ج۱

325
  •  

  • نسخ حكما رفعه من حين النسخ، لا من أصله، لرأفته و رحمته بالمؤمنين، و هذا ما أشار إليه بقوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اَللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ}. و الفرق بين الرأفة و الرحمة، بعد اشتراكهما في أصل المعنى، أن الرأفة يختص بالمبتلى المفتاق، و الرحمة أعم.

  • قوله تعالى: {قَدْ نَرى‌ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}، (الآية) تدل على أن رسول الله قبل نزول آية القبلة - و هي هذه الآية كان يقلب وجهه في آفاق السماء، و أن ذلك كان انتظارا منه، أو توقعا لنزول الوحي في أمر القبلة، لما كان يحب أن يكرمه الله تعالى بقبلة تختص به، لا أنه كان لا يرتضي بيت المقدس قبلة، و حاشا رسول الله من ذلك، كما قال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}، فإن الرضا بشي‌ء لا يوجب السخط بخلافه بل اليهود على ما في الروايات الواردة في شأن نزول الآية كانوا يعيرون المسلمين في تبعية قبلتهم، و يتفاخرون بذلك عليهم، فحزن رسول الله ذلك، فخرج في سواد الليل يقلب وجهه إلى السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه، و كشف همه فنزلت الآية، و لو نزلت على البقاء بالقبلة السابقة لكانت حجة له (صلى الله عليه وآله و سلم) على اليهود، و ليس و لم يكن لرسول الله و لا للمسلمين عار في استقبال قبلتهم، إذ ليس للعبد إلا الإطاعة و القبول، لكن نزلت بقبلة جديدة، فقطع تعييرهم و تفاخرهم، مضافا إلى تعيين التكليف، فكانت حجة و رضى.

  • قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، الشطر البعض، و شطر المسجد الحرام هو الكعبة، و في قوله تعالى {شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ}، دون أن يقال: فول وجهك الكعبة، أو يقال: فول وجهك البيت الحرام، محاذاة للحكم في القبلة السابقة، فإنها كانت شطر المسجد الأقصى، و هي الصخرة المعروفة هناك، فبدلت من شطر المسجد الحرام - و هي الكعبة - على أن إضافة الشطر إلى المسجد، و توصيف المسجد بالحرام يعطي مزايا للحكم، تفوت لو قيل: الكعبة أو البيت الحرام.

  • و تخصيص رسول الله بالحكم أولا بقوله {فَوَلِّ وَجْهَكَ}، ثم تعميم الحكم له و لغيره من المؤمنين بقوله {وَ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ}، يؤيد أن القبلة حولت، و رسول الله قائم يصلي في 

تفسير الميزان ج۱

326
  •  

  • المسجد - و المسلمون معه - فاختص الأمر به، أولا في شخص صلاته ثم عقب الحكم العام الشامل له و لغيره، و لجميع الأوقات و الأمكنة.

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، و ذلك لاشتمال كتابهم على صدق نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، أو كون قبلة هذا النبي الصادق هو شطر المسجد الحرام، و أيا ما كان فقوله: {أُوتُوا اَلْكِتَابَ}، يدل على اشتمال كتابهم على حقية هذا التشريع، إما مطابقة أو تضمنا {وَ مَا اَللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، من كتمان الحق، و احتكار ما عندهم من العلم.

  • قوله تعالى: {وَ لَئِنْ أَتَيْتَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ}، تقريع لهم بالعناد و اللجاج، و أن إباءهم عن القبول ليس لخفاء الحق عليهم، و عدم تبينه لهم، فإنهم عالمون بأنه حق علما لا يخالطه شك، بل الباعث لهم على بث الاعتراض و إثارة الفتنة عنادهم في الدين و جحودهم للحق، فلا ينفعهم حجة، و لا يقطع إنكارهم آية، فلو أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك لعنادهم و جحودهم‌{وَ مَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}، لأنك على بينة من ربك، و يمكن أن يكون قوله: {وَ مَا أَنْتَ}، نهيا في صورة خبر{وَ مَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}، و هم اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا، و النصارى يستقبلون المشرق أينما كانوا، فلا هذا البعض يقبل قبلة ذاك البعض، و لا ذاك يقبل قبلة هذا اتباعا للهوى.

  • قوله تعالى: {وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ}، تهديد للنبي، و المعنى متوجه إلى أمته، و إشارة إلى أنهم في هذا التمرد إنما يتبعون أهواءهم و أنهم بذلك ظالمون.

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، الضمير في قوله يعرفونه، راجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) دون الكتاب، و الدليل عليه تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء، فإن ذلك إنما يحسن في الإنسان، و لا يقال في الكتاب، أن فلانا يعرفه أو يعلمه، كما يعرف ابنه، على أن سياق الكلام - و هو في رسول الله، 

تفسير الميزان ج۱

327
  •  

  • و ما أوحي إليه من أمر القبلة، أجنبي عن موضوع الكتاب الذي أوتيه أهل الكتاب، فالمعنى أن أهل الكتاب يعرفون رسول الله بما عندهم من بشارات الكتب كما يعرفون أبناءهم، و إن فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون.

  • و على هذا ففي الكلام التفات من الحضور إلى الغيبة في قوله يعرفونه، فقد أخذ رسول الله غائبا، و وجه الخطاب إلى المؤمنين بعد ما كان (صلى الله عليه وآله و سلم) حاضرا، و الخطاب معه، و ذلك لتوضيح: أن أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) واضح ظاهر عند أهل الكتاب، و مثل هذا النظم كمثل كلام من يكلم جماعة لكنه يخص واحدا منهم بالمخاطبة إظهارا لفضله، فيخاطبه و يسمع غيره، فإذا بلغ إلى ما يخص شخص المخاطب من الفضل و الكرامة، عدل عن خطابه إلى مخاطبة الجماعة، ثم بعد الفراغ عن بيان فضله عدل ثانيا إلى ما كان فيه أولا من توجيه الخطاب إليه و بهذا يظهر نكتة الالتفات.

  • قوله تعالى: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، تأكيد للبيان السابق و تشديد في النهي عن الامتراء، و هو الشك و الارتياب، و ظاهر الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و معناه للأمة.

  • قوله تعالى: {وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ}، الوجهة ما يتوجه إليه كالقبلة، و هذا رجوع إلى تلخيص البيان السابق، و تبديل له من بيان آخر يهدي الناس إلى ترك تعقيب أمر القبلة، و الإكثار من الكلام فيه، و المعنى أن كل قوم فلهم قبلة مشرعة على حسب ما يقتضيه مصالحهم و ليس حكما تكوينيا ذاتيا لا يقبل التغيير و التحويل، فلا يهم لكم البحث و المشاجرة، فيه فاتركوا ذلك و استبقوا الخيرات و سارعوا إليها بالاستباق، فإن الله سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه، و {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ}.

  • و اعلم أن الآية كما أنها قابلة الانطباق على أمر القبلة لوقوعها بين آياتها كذلك تقبل الانطباق على أمر التكوين، و فيها إشارة إلى القدر و القضاء، و جعل الأحكام و الآداب لتحقيقها و سيجي‌ء تمام بيانه فيما يخص به من المقام إن شاء الله.

تفسير الميزان ج۱

328
  •  

  • قوله تعالى: {وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ}، ذكر بعض المفسرين أن المعنى و من أي مكان خرجت، و في أي بقعة حللت فول وجهك و ذكر بعضهم أن المعنى و من حيث خرجت من البلاد، و يمكن أن يكون المراد بقوله {وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}؛ مكة، التي خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) منها كما قال تعالى {مِنْ قَرْيَتِكَ اَلَّتِي أَخْرَجَتْكَ} محمد - ١٣ و يكون المعنى أن استقبال البيت حكم ثابت لك في مكة و غيرها من البلاد و البقاع، و في قوله {وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اَللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تأكيد و تشديد.

  • قوله تعالى: {وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، تكرار الجملة الأولى بلفظها لعله للدلالة على ثبوت حكمها على أي حال، فهو كقول القائل، اتق الله إذا قمت و اتق الله إذا قعدت، و اتق الله إذا نطقت، و اتق الله إذا سكت، يريد: التزم التقوى عند كل واحدة من هذه الأحوال و لتكن معك، و لو قيل اتق الله إذا قمت و إذا قعدت و إذا نطقت و إذا سكت فاتت هذه النكتة، و المعنى استقبل شطر المسجد الحرام من التي خرجت منها و حيث ما كنتم من الأرض فولوا وجوهكم شطره.

  • قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِي}، بيان لفوائد ثلاث في هذا الحكم الذي فيه أشد التأكيد على ملازمة الامتثال و التحذر عن الخلاف: 

  • إحداها: أن اليهود كانوا يعلمون من كتبهم أن النبي الموعود تكون قبلته الكعبة دون بيت المقدس، كما قال تعالى: {وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (الآية)، و في ترك هذا الحكم الحجة لليهود على المسلمين بأن النبي ليس هو النبي الموعود لكن التزام هذا الحكم و العمل به يقطع حجتهم إلا الذين ظلموا منهم، و هو استثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم باتباع الأهواء لا ينقطعون بذلك فلا تخشوهم لأنهم ظالمون باتباع الأهواء، و الله لا يهدي القوم الظالمين و اخشوني.

  • و ثانيتها: أن ملازمة هذا الحكم يسوق المسلمين إلى تمام النعمة عليهم بكمال دينهم، و سنبين معنى تمام النعمة في الكلام على قوله تعالى {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} المائدة - ٤. 

تفسير الميزان ج۱

329
  •  

  • و ثالثتها: رجاء الاهتداء إلى الصراط المستقيم، و قد مر معنى الاهتداء في الكلام على معنى قوله تعالى {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ} فاتحة الكتاب - ٦.

  • و ذكر بعض المفسرين أن اشتمال هذه الآية و هي آية تحويل القبلة - على قوله و ليتم نعمته عليكم و لعلكم تهتدون، مع اشتمال قوله تعالى في سورة الفتح في ذكر فتح مكة على هاتين الجملتين، إذ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اَللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مَا تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} الفتح - ٢ يدل على كونها مشتملة على البشارة بفتح مكة.

  • بيان ذلك أن الكعبة كانت مشغولة في صدر الإسلام بأصنام المشركين و أوثانهم و كان السلطان معهم، و الإسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره و قدرته، فهدى الله رسوله إلى استقبال بيت المقدس، لكونه قبلة لليهود، الذين هم أقرب في دينهم من المشركين إلى الإسلام، ثم لما ظهر أمر الإسلام بهجرة رسول الله إلى المدينة، و قرب زمان الفتح و توقع تطهير البيت من أرجاس الأصنام جاء الأمر بتحويل القبلة و هي النعمة العظيمة التي اختص به المسلمون، و وعد في آية التحويل إتمام النعمة و الهداية و هو خلوص الكعبة من أدناس الأوثان، و تعينها لأن تكون قبلة يعبد الله إليها، و يكون المسلمون هم المختصون بها، و هي المختصة بهم، فهي بشارة بفتح مكة، ثم لما ذكر فتح مكة حين فتحت أشار إلى ما وعدهم به من إتمام النعمة و البشارة بقوله: {وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (الآية).

  • و هذا الكلام و إن كان بظاهره وجيها لكنه خال عن التدبر، فإن ظاهر الآيات لا يساعد عليه، إذ الدال على وعد إتمام النعمة في هذه الآية: {وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، (الآية) إنما هو لام الغاية، و آية سورة الفتح التي أخذها إنجازا لهذا الوعد و مصداقا لهذه البشارة أعني قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اَللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مَا تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}، مشتملة على هذه اللام بعينها، فالآيتان جميعا مشتملتان على الوعد الجميل بإتمام النعمة، على أن آية الحج مشتملة على وعد إتمام النعمة لجميع المسلمين، و آية الفتح على ذلك لرسول الله خاصة فالسياق في الآيتين مختلف.

  • و لو كان هناك آية تحكي عن إنجاز الوعد الذي تشتمل عليه الآيتان لكان هو قوله 

تفسير الميزان ج۱

330
  •  

  • تعالى: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً} المائدة - ٤، و سيجي‌ء الكلام في معنى النعمة و تشخيص هذه النعمة التي يمتن بها الله سبحانه في الآية.

  • و نظير هاتين الآيتين في الاشتمال على عدة إتمام النعمة قوله تعالى: {وَ لَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} المائدة - ٦، و قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} النحل - ٨١، و سيجي‌ء إن شاء الله شي‌ء من الكلام المناسب لهذا المقام في ذيل هذه الآيات.

  • قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ}، ظاهر الآية أن الكاف للتشبيه و ما مصدرية، فالمعنى: أنعمنا عليكم بأن جعلنا لكم البيت الذي بناه إبراهيم، و دعا له بما دعا من الخيرات و البركات قبلة كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا و يعلمكم الكتاب و الحكمة و يزكيكم مستجيبين لدعوة إبراهيم، إذ قال هو و ابنه إسماعيل ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم، و فيهم امتنان عليهم بالإرسال كالامتنان بجعل الكعبة قبلة، و من هنا يظهر أن المخاطب بقوله فيكم رسولا منكم، هو الأمة المسلمة، و هو أولياء الدين من الأمة خاصة بحسب الحقيقة، و المسلمون جميعا من آل إسماعيل - و هم عرب مضر - بحسب الظاهر، و جميع العرب بل جميع المسلمين بحسب الحكم.

  • قوله تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا}، ظاهره آيات القرآن لمكان قوله {يَتْلُوا}، فإن العناية في التلاوة إلى اللفظ دون المعنى، و التزكية هي التطهير، و هو إزالة الأدناس و القذارات، فيشمل إزالة الاعتقادات الفاسدة كالشرك و الكفر، و إزالة الملكات الرذيلة من الأخلاق كالكبر و الشح، و إزالة الأعمال و الأفعال الشنيعة كالقتل و الزنا و شرب الخمر و تعليم الكتاب و الحكمة، و تعليم ما لم يكونوا يعلمونه يشمل جميع المعارف الأصلية و الفرعية.

  • و اعلم: أن الآيات الشريفة تشتمل على موارد من الالتفات، فيه تعالى بالغيبة و التكلم وحده و مع الغير، و في غيره تعالى أيضا بالغيبة و الخطاب و التكلم، و النكتة فيها غير خفية على المتدبر البصير. 

تفسير الميزان ج۱

331
  •  

  • بحث روائي تشريع القبلة و معنى شهادة الأمة على الناس و الرسول على الأمة

  • في المجمع، عن القمي: في تفسيره في قوله تعالى: {سَيَقُولُ اَلسُّفَهَاءُ} (الآية) عن الصادق (علیه السلام) قال تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس و بعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر قال ثم وجهه الله إلى مكة و ذلك أن اليهود كانوا يعيرون على رسول الله يقولون أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول الله من ذلك غما شديدا و خرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله في ذلك أمرا فلما أصبح و حضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم و قد صلى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل فأخذ بعضديه و حوله إلى الكعبة و أنزل عليه: {قَدْ نَرى‌ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} فكان قد صلى ركعتين إلى بيت المقدس و ركعتين إلى الكعبة فقالت اليهود و السفهاء ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها 

  • أقول: و الروايات الواردة من طرق العامة و الخاصة كثيرة مودعة في جوامع الحديث قريبة المضامين و قد اختلف في تاريخ الواقعة و أكثرها و هو الأصح أنها كانت في رجب السنة الثانية من الهجرة الشهر السابع عشر منها و سيجي‌ء بعض ما يتعلق بالمقام في بحث على حدة إن شاء الله.

  • و عن طرق أهل السنة و الجماعة: في شهادة هذه الأمة على الناس و شهادة النبي عليهم أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا و هو أعلم فيؤتى بأمة محمد فيشهدون فتقول الأمم من أين عرفتم فيقولون عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد و يسأل عن حال أمته فيزكيهم و يشهد بعدالتهم و ذلك قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}.

  • أقول: ما يشتمل عليه هذا الخبر و هو مؤيد بأخبار أخر نقلها السيوطي في الدر المنثور، و غيره من تزكية رسول الله لأمته و تعديله إياهم لعله يراد به تعديله لبعضهم دون جميعهم و إلا فهو مدفوع بالضرورة الثابتة من الكتاب و السنة و كيف 

تفسير الميزان ج۱

332
  •  

  • تصحح أو تصوب هذه الفجائع التي لا تكاد، توجد و لا أنموذجة منها في واحدة من الأمم الماضية؟ و كيف يزكي و يعدل فراعنة هذه الأمة و طواغيتها؟ فهل ذلك إلا طعن في الدين الحنيف و لعب بحقائق هذه الملة البيضاء، على أن الحديث مشتمل على إمضاء الشهادة النظرية دون شهادة التحمل.

  • و في المناقب، في هذا المعنى عن الباقر (علیه السلام): و لا يكون شهداء على الناس إلا الأئمة و الرسل، و أما الأمة فغير جائز أن يستشهدها الله و فيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل.

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (الآية)  فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين أ فترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة، و يقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟ كلا! لم يعن الله مثل هذا من خلقه، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، و هم الأمة الوسطى و هم خير أمة أخرجت للناس.

  • أقول: و قد مر بيان ذلك في ذيل الآية بالاستفادة من الكتاب.

  • و في قرب الإسناد، عن الصادق (علیه السلام) عن أبيه عن النبي قال: مما أعطى الله أمتي و فضلهم على سائر الأمم أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلا نبيا إلى أن قال و كان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على قومه، و إن الله تبارك و تعالى جعل أمتي شهيدا على الخلق، حيث يقول ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس.‌ (الحديث).

  • أقول: و الحديث لا ينافي ما مر، فإن المراد بالأمة الأمة المسلمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم.

  • و في تفسير العياشي، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): في حديث يصف فيه يوم القيامة، قال (علیه السلام): يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق، فلا يتكلم أحد إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا، فيقام الرسول فيسأل فذلك قوله لمحمد {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنَا بِكَ عَلى‌ هَؤُلاَءِ شَهِيداً}، و هو الشهيد على الشهداء، و الشهداء هم الرسل.

تفسير الميزان ج۱

333
  •  

  • و في التهذيب، عن أبي بصير عن أحدهما (علیه السلام) قال: قلت له أمره أن يصلي إلى بيت المقدس؟ قال نعم أ لا ترى أن الله تبارك و تعالى يقول: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‌ عَقِبَيْهِ} (الآية).

  • أقول: مقتضى الحديث كون قوله تعالى: {اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا}، وصفا للقبلة، و المراد بها بيت المقدس، و أنه القبلة التي كان رسول الله عليها، و هو الذي يؤيده سياق الآيات كما تقدم.

  • و من هنا يتأيد ما في بعض الأخبار عن العسكري (علیه السلام): أن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد الله أن يبين متبع محمد من مخالفيه باتباع القبلة التي كرهها، و محمد يأمر بها، و لما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها و التوجه إلى الكعبة ليبين من يتبع محمدا فيما يكرهه فهو مصدقه و موافقه‌. (الحديث)، و به يتضح أيضا فساد ما قيل: إن قوله تعالى: {اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا}، مفعول ثان لجعلنا، و المعنى: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ}، هي الكعبة التي كنت عليها قبل بيت المقدس، و استدل عليها بقوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ}، و هو فاسد، ظهر فساده مما تقدم.

  • و في تفسير العياشي، عن الزبيري عن الصادق (علیه السلام) قال: قلت له أ لا تخبرني عن الإيمان، أ قول هو و عمل أم قول بلا عمل؟ فقال: الإيمان عمل كله و القول بعض ذلك العمل، مفروض من الله، مبين في كتابه، واضح نوره ثابت حجته، يشهد له بها الكتاب و يدعو إليه، و لما أن صرف الله نبيه إلى الكعبة عن بيت المقدس قال المسلمون: للنبي أ رأيت صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس، ما حالنا فيها و ما حال من مضى من أمواتنا، و هم كانوا يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اَللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ}، فسمى الصلاة إيمانا، فمن اتقى الله حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه بما فرض الله عليه لقي الله مستكملا لإيمانه من أهل الجنة، و من خان في شي‌ء منها أو تعدى ما أمر الله فيها لقي الله ناقص الإيمان.

  • أقول: و رواه الكليني أيضا، و اشتماله على نزول قوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (الآية) بعد تغيير القبلة لا ينافي ما تقدم من البيان.

  • و في الفقيه: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) صلى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة و تسعة عشر شهرا بالمدينة، ثم عيرته اليهود فقالوا إنك تابع لقبلتنا، فاغتم لذلك غما شديدا، 

تفسير الميزان ج۱

334
  •  

  • فلما كان في بعض الليل خرج يقلب وجهه في آفاق السماء، فلما أصبح صلى الغداة، فلما صلى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له: {قَدْ نَرى‌ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} (الآية)، ثم أخذ بيد النبي فحول وجهه إلى الكعبة، و حول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء و النساء مقام الرجال، فكان أول صلاته إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة فبلغ الخبر مسجدا بالمدينة و قد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبلة، فكان أول صلاتهم إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.

  • أقول: و روى القمي نحوا من ذلك‌، و أن النبي كان في مسجد بني سالم.

  • و في تفسير العياشي، عن الباقر (علیه السلام): في قوله تعالى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} (الآية) قال استقبل القبلة، و لا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن الله يقول لنبيه في الفريضة {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}

  • أقول: و الأخبار في نزول الآية في الفريضة و اختصاصها بها كثيرة مستفيضة.

  • و في تفسير القمي، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ}، (الآية) قال نزلت هذه الآية في اليهود و النصارى، يقول الله تبارك و تعالى{اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} يعني يعرفون رسول الله كما يعرفون أبناءهم لأن الله عز و جل قد أنزل عليهم في التوراة و الإنجيل و الزبور صفة محمد و صفة أصحابه و مهاجرته، و هو قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ}، و هذه صفة رسول الله في التوراة و صفة أصحابه، فلما بعثه الله عز و جل عرفه أهل الكتاب كما قال جل جلاله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} 

  • أقول: و روى نحوا منه في الكافي، عن علي (علیه السلام) و في أخبار كثيرة من طرق الشيعة أن قوله تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللَّهُ 

تفسير الميزان ج۱

335
  •  

  • جَمِيعاً} (الآية) في أصحاب القائم، و في بعضها أنه من التطبيق و الجري.

  • و في الحديث من طرق العامة في قوله تعالى:} وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}.عن علي: تمام النعمة الموت على الإسلام. 

  • و في الحديث من طرقهم أيضا: تمام النعمة دخول الجنة

  • (بحث علمي) تشخيص القبلة 

  • تشريع القبلة في الإسلام، و اعتبار الاستقبال في الصلاة - و هي عبادة عامة بين المسلمين - و كذا في الذبائح، و غير ذلك مما يبتلي به عموم الناس أحوج الناس إلى البحث عن جهة القبلة و تعيينها و قد كان ذلك منهم في أول الأمر بالظن و الحسبان و نوع من التخمين، ثم استنهض الحاجة العمومية الرياضيين من علمائهم أن يقربوه من التحقيق، فاستفادوا من الجداول الموضوعة في الزيجات لبيان عرض البلاد و طولها، و استخرجوا انحراف مكة عن نقطة الجنوب في البلد، أي انحراف الخط الموصول بين البلد و مكة عن الخط الموصول بين البلد و نقطة الجنوب (خط نصف النهار) بحساب الجيوب و المثلثات، ثم عينوا ذلك في كل بلدة من بلاد الإسلام، بالدائرة الهندية المعروفة المعينة لخط نصف النهار، ثم درجات الانحراف و خط القبلة.

  • ثم استعملوا لتسريع العمل و سهولته الإله المغناطيسية المعروفة بالحك، فإنها بعقربتها تعين جهة الشمال و الجنوب، فتنوب عن الدائرة الهندية في تعيين نقطة الجنوب و بالعلم بدرجة انحراف البلد يمكن للمستعمل أن يشخص جهة القبلة.

  • لكن هذا السعي منهم - شكر الله تعالى سعيهم - لم يخل من النقص و الاشتباه من الجهتين جميعا. أما من جهة الأولى: فإن المتأخرين من الرياضيين عثروا على أن المتقدمين اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الطول، و اختل بذلك حساب الانحراف فتشخيص جهة الكعبة، و ذلك أن طريقهم إلى تشخيص عرض البلاد - و هو ضبط ارتفاع القطب الشمالي - كان أقرب إلى التحقيق، بخلاف الطريق إلى تشخيص الطول، و هو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثة سماوية مشتركة كالخسوف بمقدار سير الشمس حسا عندهم، و هو التقدير بالساعة، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيرا 

تفسير الميزان ج۱

336
  •  

  • و على غير دقة لكن توفر الوسائل و قرب الروابط اليوم سهل الأمر كل التسهيل، فلم تزل الحاجة قائمة على ساق، حتى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير؛ بالسردار الكابلي؛ - رحمة الله عليه - في هذه الأواخر بهذا الشأن، فاستخرج الانحراف القبلي بالأصول الحديثة، و عمل فيه رسالته المعروفة؛ بتحفة الأجلة في معرفة القبلة؛ و هي رسالة ظريفة بين فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضي؛ و وضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد.

  • و من ألطف ما وفق له في سعيه - شكر الله سعيه - ما أظهر به كرامة باهرة للنبي(صلى الله عليه وآله و سلم) في محرابه المحفوظ في مسجد النبي بالمدينة ٢٥ _- ٧٥ _- ٢٠و ذلك: أن المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض ٢٥ درجة و طول ٧٥ درجة ٢٠دقيقة، و كانت لا توافقه قبلة محراب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في مسجده، و لذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في أمر قبلة المحراب و ربما ذكروا في انحرافه وجوها لا تصدقها حقيقة الأمر لكنه - رحمه الله - أوضح أن المدينة على عرض ٢٤ درجة ٥٧ دقيقة و طول ٣٩ درجة ٥٩ دقيقة و انحراف. درجة ٤٥ دقيقة تقريبا. و انطبق على ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق و بدت بذلك كرامة باهرة للنبي في قبلته التي وجه وجهه إليها و هو في الصلاة، و ذكر أن جبرئيل أخذ بيده و حول وجهه إلى الكعبة، صدق الله و رسوله.

  • ثم استخرج بعده المهندس الفاضل الزعيم عبد الرزاق البغائري رحمة الله عليه قبلة أكثر بقاع الأرض و نشر فيها رسالة في معرفة القبلة، و هي جداول يذكر فيها ألف و خمسمائة بقعة من بقاع الأرض، و بذلك تمت النعمة في تشخيص القبلة.

  • و أما الجهة الثانية: و هي الجهة المغناطيسية، فإنهم وجدوا أن القطبين المغناطيسيين في الكرة الأرضية، غير منطبقين على القطبين الجغرافيين منها، فإن القطب المغناطيسي الشمالي مثلا على أنه متغير بمرور الزمان، بينه و بين القطب الجغرافيائي الشمالي ما يقرب من ألف ميل، و على هذا فالحك لا يشخص القطب الجنوبي الجغرافي بعينه، بل ربما بلغ التفاوت إلى ما لا يتسامح فيه، و قد أنهض هذا المهندس الرياضي الفاضل الزعيم حسين علي رزم‌آرا في هذه الأيام و هي سنة ١٣٣٢ هجرية شمسية على حل هذه المعضلة، و استخراج مقدار التفاوت بين القطبين الجغرافي و المغناطيسي بحسب النقاط المختلفة، 

تفسير الميزان ج۱

337
  •  

  • و تشخيص انحراف القبلة من القطب المغناطيسي فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الأرض، و اختراع حك يتضمن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة، و ها هو اليوم دائر معمول - شكر الله سعيه.

  • (بحث اجتماعي) أيضا في معنى القبلة و فوائدها

  • المتأمل في شئون الاجتماع الإنساني، و الناظر في الخواص و الآثار التي يتعقبها هذا الأمر المسمى بالاجتماع من جهة أنه اجتماع لا يشك في أن هذا الاجتماع إنما كونته ثم شعبته و بسطته إلى شعبه و أطرافه الطبيعة الإنسانية، لما استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء و الاستكمال إلى أفعال اجتماعية فتلتجئ إلى الاجتماع و تلزمها لتوفق إلى أفعالها و حركاتها و سكناتها في مهد تربية الاجتماع و بمعونته. ثم استشعرت و ألهمت بعلوم (صور ذهنية) و إدراكات توقعها. على المادة، و على حوائجها فيها و على أفعالها، و جهات أفعالها تكون هي الوصلة و الرابطة بينها و بين أفعالها و حوائجها كاعتقاد الحسن و القبح، و ما يجب، و ما ينبغي، و سائر الأصول الاجتماعية من الرئاسة و المرءوسية و الملك و الاختصاص، و المعاملات المشتركة و المختصة، و سائر القواعد و النواميس العمومية و الآداب و الرسوم القومية التي لا تخلو عن التحول و الاختلاف باختلاف الأقوام و المناطق و الأعصار، فجميع هذه المعاني و القواعد المستقرة عليها من صنع الطبيعة الإنسانية بإلهام من الله سبحانه، تلطفت بها طبيعة الإنسان، لتمثل بها ما تعتقدها و تريدها من المعاني في الخارج، ثم تتحرك إليها بالعمل، و الفعل و الترك، و الاستكمال.

  • و التوجه العبادي إلى الله سبحانه، و هو المنزه عن شئون المادة، و المقدس عن تعلق الحس المادي إذا أريد أن يتجاوز حد القلب و الضمير، و تنزل على موطن الأفعال - و هي لا تدور إلا بين الماديات - لم يكن في ذلك بد و مخلص من أن يكون على سبيل التمثيل بأن يلاحظ التوجهات القلبية على اختلاف خصوصياتها، ثم تمثل في الفعل بما يناسبها من هيئات الأفعال و أشكالها، كالسجدة يراد بها التذلل، و الركوع يراد به

تفسير الميزان ج۱

338
  •  

  • التعظيم، و الطواف يراد به تفدية النفس، و القيام يراد به التكبير، و الوضوء و الغسل يراد بهما الطهارة للحضور و نحو ذلك. و لا شك أن التوجه إلى المعبود، و استقباله من العبد في عبوديته روح عبادته، التي لولاها لم يكن لها حياة و لا كينونة، و إلى تمثيله تحتاج العبادة في كمالها و ثباتها و استقرار تحققها.

  • و قد كان الوثنيون، و عبدة الكواكب و سائر الأجسام من الإنسان و غيره يستقبلون معبوداتهم و آلهتهم، و يتوجهون إليهم بالأبدان في أمكنة متقاربة.

  • لكن دين الأنبياء و نخص بالذكر من بينها دين الإسلام الذي يصدقها جميعا وضع الكعبة قبلة، و أمر باستقبالها في الصلاة، التي لا يعذر فيها مسلم، أينما كان من أقطار الأرض و آفاقها، و نهى عن استقبالها و استدبارها في حالات و ندب إلى ذلك في أخرى فاحتفظ على قلب الإنسان بالتوجه إلى بيت الله، و أن لا ينسى ربه في خلوته و جلوته، و قيامه و قعوده، و منامه و يقظته، و نسكه و عبادته حتى في أخس حالاته و أرداها فهذا بالنظر إلى الفرد.

  • و أما بالنظر إلى الاجتماع، فالأمر أعجب و الأثر أجلى و أوقع فقد جمع الناس على اختلاف أزمنتهم و أمكنتهم على التوجه إلى نقطة واحدة، يمثل بذلك وحدتهم الفكرية و ارتباط جامعتهم، و التيام قلوبهم، و هذا ألطف روح يمكن أن تنفذ في جميع شئون الأفراد في حيويتها المادية و المعنوية، تعطي من الاجتماع أرقاه، و من الوحدة أوفاها و أقواها، خص الله تعالى بها عباده المسلمين، و حفظ به وحدة دينهم، و شوكة جمعهم، حتى بعد أن تحزبوا أحزابا، و افترقوا مذاهب و طرائق قددا، لا يجتمع منهم اثنان على رأي، نشكر الله تعالى على آلائه.

تفسير الميزان ج۱

339
  •  

  • [سورة البقرة (٢): آیة ١٥٢] 

  • {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لاَ تَكْفُرُونِ ١٥٢} 

  • (بيان) معنى الذكر

  • لما امتن الله تعالى على النبي و المسلمين، بإرسال النبي الكريم منهم إليهم نعمة لا تقدر بقدر و منحة على منحة - و هو ذكر منه لهم - إذ لم ينسهم في هدايتهم إلى مستقيم الصراط، و سوقهم إلى أقصى الكمال، و زيادة على ذلك، و هو جعل القبلة، الذي فيه كمال دينهم، و توحيد عبادتهم، و تقويم فضيلتهم الدينية و الاجتماعية فرع على ذلك دعوتهم إلى ذكره و شكره، ليذكرهم بنعمته على ذكرهم إياه بعبوديته و طاعته، و يزيدهم على شكرهم لنعمته و عدم كفرانهم، و قد قال تعالى: {وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى‌ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذَا رَشَداً} الكهف - ٢٤. و قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} إبراهيم - ٧، و الآيتان جميعا نازلتان قبل آيات القبلة من سورة البقرة.

  • ثم إن الذكر ربما قابل الغفلة كقوله تعالى: {وَ لاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} الكهف - ٢٨. و هي انتفاء العلم بالعلم، مع وجود أصل العلم، فالذكر خلافه، و هو العلم بالعلم، و ربما قابل النسيان و هو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن، فالذكر خلافه، و منه قوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (الآية). و هو حينئذ كالنسيان معنى ذو آثار و خواص تتفرع عليه، و لذلك ربما أطلق الذكر كالنسيان في موارد تتحقق فيها آثارهما و إن لم تتحقق أنفسهما، فإنك إذا لم تنصر صديقك - و أنت تعلم حاجته إلى نصرك فقد نسيته، و الحال أنك تذكره، و كذلك الذكر.

  • و الظاهر أن إطلاق الذكر على الذكر اللفظي من هذا القبيل، فإن التكلم عن الشي‌ء من آثار ذكره قلبا، قال تعالى: {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً} الكهف - ٨٣. و نظائره كثيرة، و لو كان الذكر اللفظي أيضا ذكرا حقيقة فهو من مراتب الذكر، لأنه مقصور عليه و منحصر فيه، و بالجملة: الذكر له مراتب كما قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ} الرعد - ٢٨، و قال: {وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ اَلْجَهْرِ مِنَ اَلْقَوْلِ} الأعراف - ٢٠٥، و قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اَللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ 

تفسير الميزان ج۱

340
  •  

  • ذِكْراً} البقرة - ٢٠٠، فالشدة إنما يتصف به المعنى دون اللفظ، و قال تعالى: {وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى‌ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} الكهف - ٢٤.

  • و ذيل هذه الآية تدل على الأمر برجاء ما هو أعلى منزلة مما هو فيه، فيئول المعنى إلى أنك إذا تنزلت من مرتبة من ذكره إلى مرتبة هي دونها، و هو النسيان، فاذكر ربك و ارج بذلك ما هو أقرب طريقا و أعلى منزلة، فينتج أن الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه، و بذلك يتبين صحة قول القائل: إن الذكر حضور المعنى عند النفس، فإن الحضور ذو مراتب.

  • و لو كان لقوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي} و هو فعل متعلق بياء المتكلم حقيقة من دون تجوز أفاد ذلك، أن للإنسان سنخا آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا الذي هو حصول صورة المعلوم و مفهومه عند العالم، إذ كلما فرض من هذا القبيل فهو تحديد و توصيف للمعلوم من العالم، و قد تقدست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين، قال تعالى: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} الصافات - ١٦٠، و قال: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} طه - ١١٠، و سيجي‌ء بعض ما يتعلق بالمقام في الكلام على الآيتين إن شاء الله.

  • (بحث روائي)

  • تكاثرت الأخبار في فضل الذكر من طرق العامة و الخاصة، فقد روي: بطرق مختلفة أن ذكر الله حسن على كل حال.

  • و في عدة الداعي قال: و روي: أن رسول الله قد خرج على أصحابه، فقال: ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله و ما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر اغدوا و روحوا و اذكروا، و من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه، و اعلموا: أن خير أعمالكم عند مليككم و أزكاها و أرفعها في درجاتكم، و خير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، و قال تعالىفاذكروني أذكركم بنعمتي، اذكروني بالطاعة و العبادة أذكركم بالنعم و الإحسان و الراحة و الرضوان.

تفسير الميزان ج۱

341
  •  

  • و في المحاسن، و دعوات الراوندي، عن الصادق (علیه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى يقول: من شغل بذكري عن مسألتي، أعطيه أفضل ما أعطي من سألني.

  • و في المعاني، عن الحسين البزاز قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): أ لا أحدثك بأشد ما فرض الله على خلقه؟ قلت: بلى، قال: إنصاف الناس من نفسك، و مواساتك لأخيك، و ذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر، و إن كان هذا من ذاك، و لكن ذكر الله في كل موطن، إذا هجمت على طاعته أو معصيته.

  • أقول: و هذا المعنى مروي بطرق كثيرة عن النبي، و أهل بيته (علیه السلام)، و في بعضها و هو قول الله: {اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الآية).

  • و في عدة الداعي، عن النبي قال: قال سبحانه: إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي، نقلت شهوته في مسألتي و مناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك و أراد أن يسهو حلت بينه و بين أن يسهو، أولئك أوليائي حقا، أولئك الأبطال حقا، أولئك الذين إذا أردت أن أهلك أهل الأرض عقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال.

  • و في المحاسن، عن الصادق (علیه السلام) قال: قال الله تعالى: ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، اذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك، و قال: ما من عبد يذكر الله في ملإ من الناس إلا ذكره الله في ملإ من الملائكة.

  • أقول: و قد روي هذا المعنى بطرق كثيرة في كتب الفريقين.

  • و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله: من أعطي أربعا أعطي أربعا، و تفسير ذلك في كتاب الله من أعطي الذكر ذكره الله، لأن الله يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، و من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، لأن الله يقول: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، و من أعطي الشكر أعطي الزيادة، لأن الله يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، و من أعطي الاستغفار أعطي المغفرة لأن الله يقول: {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}.

تفسير الميزان ج۱

342
  •  

  • و في الدر المنثور، أيضا أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و البيهقي في شعب الإيمان عن خالد بن أبي عمران، قال: قال رسول الله: من أطاع الله فقد ذكر الله، و إن قلت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن، و من عصى الله فقد نسي الله، و إن كثرت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن.

  • أقول: في الحديث إشارة إلى أن المعصية لا تتحقق من العبد إلا بالغفلة و النسيان فإن الإنسان لو ذكر ما حقيقة معصيته و ما لها من الأثر لم يقدم على معصيته، حتى أن من يعصي الله و لا يبالي إذا ذكر عند ذلك بالله، و لا يعتني بمقام ربه هو طاغ جاهل بمقام ربه و علو كبريائه و كيفية إحاطته، و إلى ذلك تشير أيضا رواية أخرى، رواها الدر المنثور، عن أبي هند الداري، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): قال الله: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي و من ذكرني و هو مطيع فحق علي أن أذكره بمغفرتي، و من ذكرني و هو عاص فحق علي أن أذكره بمقت‌ الحديث، و ما اشتمل عليه هذا الحديث من الذكر عند المعصية هو الذي تسميه الآية و سائر الأخبار بالنسيان لعدم ترتب آثار الذكر عليه، و للكلام بقايا سيجي‌ء شطر منها.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ١٥٣ الی ١٥٧] 

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلصَّابِرِينَ ١٥٣ وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لَكِنْ لاَتَشْعُرُونَ ١٥٤ وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‌ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ وَ اَلْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلثَّمَرَاتِ وَ بَشِّرِ اَلصَّابِرِينَ ١٥٥ اَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ١٥٦ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ ١٥٧} 

تفسير الميزان ج۱

343
  •  

  • (بيان)

  • خمس آيات متحدة السياق، متسقة الجمل، ملتئمة المعاني، يسوق أولها إلى آخرها و يرجع آخرها إلى أولها، و هذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرقة، و سياقها ينادي بأنها نزلت قبيل الأمر بالقتال و تشريع حكم الجهاد، ففيه ذكر من بلاء سيقبل على المؤمنين، و مصيبة ستصيبهم، و لا كل بلاء و مصيبة، بل البلاء العمومي الذي ليس بعادي الوقوع مستمر الحدوث، فإن نوع الإنسان كسائر الأنواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية لا يخلو في أفراده من حوادث جزئية يختل بها نظام الفرد في حياته الشخصية: من موت و مرض و خوف و جوع و غم و حرمان، سنة الله التي جرت في عباده و خلقه، فالدار دار التزاحم، و النشأة نشأة التبدل و التحول، و لن تجد لسنة الله تحويلا و لن تجد لسنة الله تبديلا.

  • و البلاء الفردي و إن كان شاقا على الشخص المبتلى بذلك، مكروها، لكن ليس مهولا مهيبا تلك المهابة التي تتراءى بها البلايا و المحن العامة، فإن الفرد يستمد في قوة تعقله و عزمه و ثبات نفسه من قوى سائر الأفراد، و أما البلايا العامة الشاملة فإنها تسلب الشعور العمومي و جملة الرأي و الحزم و التدبير من الهيأة المجتمعة، و يختل به نظام الحياة منهم، فيتضاعف الخوف و تتراكم الوحشة و يضطرب عندها العقل و الشعور و تبطل العزيمة و الثبات، فالبلاء العام و المحنة الشاملة أشق و أمر، و هو الذي تلوح له الآيات.

  • و لا كل بلاء عام كالوباء و القحط بل بلاء عام قربتهم منها أنفسهم، فإنهم أخذوا دين التوحيد، و أجابوا دعوة الحق، و تخالفهم فيه الدنيا و خاصة قومهم، و ما لهؤلاء هم إلا إطفاء نور الله، و استيصال كلمة العدل، و إبطال دعوة الحق، و لا وسيلة تحسم مادة النزاع و تقطع الخلاف غير القتال، فسائر الوسائل كإقامة الحجة و بث الفتنة، و إلقاء الوسوسة و الريبة و غيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة، فالحجة مع النبي و الوسوسة و الفتنة و الدسيسة ما كانت تؤثر أثرا تطمئن إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلا القتال و الاستعانة به على سد سبيل الحق، و إطفاء نور الدين اللامع المشرق. هذا من جانب الكفر، و الأمر من جانب الدين أوضح، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد، 

تفسير الميزان ج۱

344
  •  

  • و بث دين الحق، و حكم العدل، و قطع دابر الباطل وسيلة إلا القتال، فإن التجارب الممتدة من لدن كان الإنسان نازلا في هذه الدار يعطي أن الحق إنما يؤثر إذا أميط الباطل، و لن يماط إلا بضرب من أعمال القدرة و القوة.

  • و بالجملة ففي الآيات تلويح إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله، و توصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهة مكروهة، و لا صفة سوء، و هو أنه ليس بموت بل حياة، و أي حياة! فالآيات تستنهض المؤمنين على القتال، و تخبرهم أن أمامهم بلاء و محنة لن تنالوا مدارج المعالي، و صلاة ربهم و رحمته، و الاهتداء بهدايته إلا بالصبر عليها، و تحمل مشاقها، و يعلمهم ما يستعينون به عليها، و هو الصبر و الصلاة، أما الصبر: فهو وحدة الوقاية من الجزع و اختلال أمر التدبير، و أما الصلاة: فهي توجه إلى الرب، و انقطاع إلى من بيده الأمر، و أن القوة لله جميعا.

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلصَّابِرِينَ} (الآية)، قد تقدم جملة من الكلام في الصبر و الصلاة في تفسير قوله: {وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ وَ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى اَلْخَاشِعِينَ} البقرة - ٤٥ و الصبر من أعظم الملكات و الأحوال التي يمدحها القرآن، و يكرر الأمر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ} لقمان - ١٧، و قيل: {وَ مَا يُلَقَّاها إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فصلت - ٣٥، و قيل: {إِنَّمَا يُوَفَّى اَلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر - ١٠.

  • و الصلاة: من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهى‌ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ} العنكبوت - ٤٥، و ما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلاة رأسها و أولها.

  • ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر، و إنما لم يصف الصلاة، كما في قوله تعالى: {وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ وَ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} (الآية)، لأن المقام في هذه الآيات، مقام ملاقاة الأهوال، و مقارعة الأبطال، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الآية السابقة، فلذلك قيل: إن الله مع الصابرين، و هذه المعية غير المعية 

تفسير الميزان ج۱

345
  •  

  • التي يدل عليه قوله تعالى: {وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} الحديد - ٤، فإنها معية الإحاطة و القيمومة، بخلاف المعية مع الصابرين، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج.

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لَكِنْ لاَتَشْعُرُونَ} (الآية)، ربما يقال: إن الخطاب مع المؤمنين الذين آمنوا بالله و رسوله و اليوم الآخر و أذعنوا بالحياة الآخرة، و لا يتصور منهم القول ببطلان الإنسان بالموت، بعد ما أجابوا دعوة الحق و سمعوا شيئا كثيرا من الآيات الناطقة بالمعاد، مضافا إلى أن الآية إنما تثبت الحياة بعد الموت في جماعة مخصوصين، و هم الشهداء المقتولون في سبيل الله، في مقابل غيرهم من المؤمنين، و جميع الكفار، مع أن حكم الحياة بعد الموت عام شامل للجميع فالمراد بالحياة بقاء الاسم، و الذكر الجميل على مر الدهور، و بذلك فسره جمع من المفسرين.

  • و يرده أولا: أن كون هذه حياة إنما هو في الوهم فقط دون الخارج، فهي حياة تخيلية ليس لها في الحقيقة إلا الاسم، و مثل هذا الموضوع الوهمي لا يليق بكلامه، و هو تعالى يدعو إلى، الحق و يقول: {فَمَا ذَا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاَلُ} يونس - ٣٢، و أما الذي سأله إبراهيم في قوله: {وَ اِجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ} الشعراء - ٨٤، فإنما يريد به بقاء دعوته الحقة، و لسانه الصادق بعده، لا حسن ثنائه و جميل ذكره بعده فحسب.

  • نعم هذا القول الباطل، و الوهم الكاذب إنما يليق بحال الماديين، و أصحاب الطبيعة، فإنهم اعتقدوا: مادية النفوس و بطلانها بالموت و نفوا الحياة الآخرة ثم أحسوا باحتياج الإنسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس و تأثرها بالسعادة و الشقاء، بعد موتها في معالي أمور، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفدية و التضحية، لا سيما في عظائم العزائم التي يموت و يقتل فيها أقوام ليحيا و يعيش آخرون، و لو كان كل من مات فقد فات لم يكن داع للإنسان (و خاصة إذا اعتقد بالموت و الفوت) أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين، و لا باعث له أن يحرم على نفسه لذة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتع آخرون بالعدل، فالعاقل لا يعطي شيئا إلا و يأخذ بدله و أما الإعطاء من غير بدل، و الترك من غير أخذ، كالموت في سبيل حياة الغير، و الحرمان في طريق 

تفسير الميزان ج۱

346
  •  

  • تمتع الغير فالفطرة الإنسانية تأباه، فلما استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الأوهام الكاذبة، التي ليس لها موطن إلا عرصة الخيال و حظيرة الوهم، قالوا إن الإنسان الحر من رق الأوهام و الخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه، أو كل ما فيه شرفه، لينال الحياة الدائمة بحسن الذكر و جميل الثناء، و يجب عليه أن يحرم على نفسه بعض تمتعاته في الاجتماع ليناله الآخرون، ليستقيم أمر الاجتماع و الحضارة، و يتم العدل الاجتماعي فينال بذلك حياة الشرف و العلاء.

  • و ليت شعري إذا لم يكن إنسان، و بطل هذا التركيب المادي، و بطل بذلك جميع خواصه، و من جملتها الحياة و الشعور، فمن هو الذي ينال هذه الحياة و هذا الشرف؟ و من الذي يدركه و يلتذ به؟ فهل هذا إلا خرافة؟.

  • و ثانيا: أن ذيل الآية و هو قوله تعالى: {وَ لَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ}، - لا يناسب هذا المعنى، بل كان المناسب له أن يقال: بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل، و ثناء الناس عليهم بعدهم، لأنه المناسب لمقام التسلية و تطييب النفس.

  • و ثالثا: أن نظيرة هذه الآية و هي تفسرها - وصف حياتهم بعد القتل بما ينافي هذا المعنى، قال تعالى: {وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} آل عمران - ١٩٦، إلى آخر الآيات و معلوم أن هذه الحياة حياة خارجية حقيقية ليست بتقديرية.

  • و رابعا: أن الجهل بهذه الحياة التي بعد الموت ليس بكل البعيد من بعض المسلمين في أواسط عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فإن الذي هو نص غير قابل للتأويل إنما هو البعث للقيامة، و أما ما بين الموت إلى الحشر - و هي الحياة البرزخية - فهي و إن كانت من جملة ما بينه القرآن من المعارف الحقة، لكنها ليست من ضروريات القرآن، و المسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة و أن الإنسان يبطل وجوده بالموت و انحلال التركيب، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيامة، فيمكن أن يكون المراد بيان حياة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك، و إن علم به آخرون.

تفسير الميزان ج۱

347
  •  

  • و بالجملة: المراد بالحياة في الآية الحياة الحقيقية دون التقديرية، و قد عد الله سبحانه حياة الكافر بعد موته هلاكا و بوارا في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: {وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ} إبراهيم - ٢٨، إلى غير ذلك من الآيات، فالحياة حياة السعادة، و الإحياء بهذه الحياة المؤمنون خاصة كما قال: {وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت - ٦٤، و إنما لم يعلموا، لأن حواسهم مقصورة على إدراك خواص الحياة في المادة الدنيوية، و أما ما وراءها فإذا لم يدركوه لم يفرقوا بينه و بين الفناء فتوهموه فناء، و ما توهمه الوهم مشترك بين المؤمن و الكافر في الدنيا، فلذلك قال: في هذه الآية{بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي: بحواسكم، كما قال في الآية الأخرى: {لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، أي باليقين كما قال تعالى: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ} التكاثر - ٦.

  • فمعنى الآية -و الله أعلم - {وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتٌ}، و لا تعتقدوا فيهم الفناء و البطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم، و مقابلته مع الحياة، و كما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا بأموات بمعنى البطلان، بل أحياء و لكن حواسكم لا تنال ذلك و لا تشعر به، و إلقاء هذا القول على المؤمنين - مع أنهم جميعا أو أكثرهم عالمون ببقاء حياة الإنسان بعد الموت، و عدم بطلان ذاته - إنما هو لإيقاظهم و تنبيههم بما هو معلوم عندهم، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم، و الاضطراب و القلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل، فإنه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند أولياء القتيل إلا مفارقة في أيام قلائل في الدنيا و هو هين في قبال مرضاة الله سبحانه و ما ناله القتيل من الحياة الطيبة، و النعمة المقيمة، و رضوان من الله أكبر، و هذا نظير خطاب النبي بمثل قوله تعالى: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (الآية)، مع أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) أول الموقنين بآيات ربه، و لكنه كلام كني به عن وضوح المطلب، و ظهوره بحيث لا يقبل أي خطور نفساني لخلافه.

  • (نشأة البرزخ) 

  • فالآية تدل دلالة واضحة على حياة الإنسان البرزخية، كالآية النظيرة لها و هي 

تفسير الميزان ج۱

348
  •  

  • قوله: {وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} آل عمران - ١٦٩، و الآيات في ذلك كثيرة.

  • و من أعجب الأمر ما ذكره بعض الناس في الآية: أنها نزلت في شهداء بدر، فهي مخصوصة بهم فقط، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا، و لقد أحسن بعض المحققين: من المفسرين في تفسير قوله: {وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ} (الآية)، إذ سئل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الأقاويل.

  • و ليت شعري ما ذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا؟ و على أي صفة يتصورون حياة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم: بانعدام الإنسان بعد الموت و القتل، و انحلال تركيبه و بطلانه؟ أ هو على سبيل الإعجاز: باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الأكرم و سائر الأنبياء و المرسلين و الأولياء المقربين، إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام، فليس ذلك بإعجاز بل إيجاد محال ضروري الاستحالة، و لا إعجاز في محال، و لو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه؟ أم هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بأن يكون الحس مخطئا في أمر هؤلاء الشهداء؟ فهم أحياء يرزقون بالأكل و الشرب و سائر التمتعات - و هم غائبون عن الحس - و ما ناله الحس من أمرهم بالقتل و قطع الأعضاء و سقوط الحس و انحلال التركيب فقد أخطأ في ذلك من رأس، فلو جاز على الحس أمثال هذه الأغلاط فيصيب في شي‌ء و يغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الإطلاق، و لو كان المخصص هو الإرادة الإلهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر، و الإشكال - و هو عدم الوثوق بالإدراك على حاله، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع واقعا و الواقع ليس بواقع، و كيف يرضى عاقل أن يتفوه بمثل ذلك؟ و هل هو إلا سفسطة؟.

  • و قد سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين، حيث يرون أن الأمور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب و السنة، كالملائكة و أرواح المؤمنين و سائر ما هو من هذا القبيل موجودات مادية طبيعية، و أجسام لطيفة تقبل الحلول و النفوذ في الأجسام الكثيفة، على صورة الإنسان و نحوه، يفعل جميع الأفعال الإنسانية مثلا، و لها أمثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام 

تفسير الميزان ج۱

349
  •  

  • الطبيعة: من التغير و التبدل و التركيب و انحلاله، و الحياة و الموت الطبيعيتين، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا، و إذا لم يشأ أو شاء أن لا تظهر لم تظهر، مشية خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس، أو تلك الأشياء.

  • و هذا القول منهم مبني على إنكار العلية و المعلولية بين الأشياء، و لو صحت هذه الأمنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية، و الأحكام العلمية، فضلا عن المعارف الدينية و لم تصل النوبة إلى أجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير و التأثر المادي الطبيعي، و هو ظاهر.

  • فقد تبين بما مر: أن الآية دالة على الحياة البرزخية، و هي المسماة بعالم القبر، عالم متوسط بين الموت و القيامة، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيامة.

  • و من الآيات الدالة عليه - و هي نظيرة لهذه الآية الشريفة - قوله تعالى: {وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ} آل عمران - ١٧١، و قد مر تقريب دلالة الآية على المطلوب، و لو تدبر القائل باختصاص هذه الآيات بشهداء بدر في متن الآيات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحياة، و التنعم بعد الموت.

  • و من الآيات قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‌ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} المؤمنون - ١٠٠، و الآية ظاهرة الدلالة على أن هناك حياة متوسطة بين حياتهم الدنيوية و حياتهم بعد البعث، و سيجي‌ء تمام الكلام في الآية إن شاء الله تعالى.

  • و من الآيات قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرى‌ رَبَّنَا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ}(و من المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم و هو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر) {لاَ بُشْرى‌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً. وَ قَدِمْنَا إِلى‌ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً. أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً. وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} 

تفسير الميزان ج۱

350
  •  

  • (و هو يوم القيامة) {وَ نُزِّلَ اَلْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً. اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَ كَانَ يَوْماً عَلَى اَلْكَافِرِينَ عَسِيراً} الفرقان - ٢٦، و دلالتها ظاهرة. و سيأتي تفصيل القول فيها في محله إن شاء الله تعالى.

  • و من الآيات قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلى‌ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} المؤمن - ١١، فهنا إلى يوم البعث - و هو يوم قولهم هذا - إماتتان و إحيائان، و لن تستقيم المعنى إلا بإثبات البرزخ، فيكون إماتة و إحياء في البرزخ و إحياء في يوم القيامة، و لو كان أحد الإحيائين في الدنيا و الآخر في الآخرة لم يكن هناك إلا إماتة واحدة من غير ثانية، و قد مر كلام يتعلق بالمقام في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} البقرة - ٢٨ فارجع.

  • و من الآيات قوله تعالى: {وَ حَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذابِ اَلنَّارُ. يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذَابِ} المؤمن - ٤٦، إذ من المعلوم أن يوم القيامة لا بكرة فيه و لا عشي فهو يوم غير اليوم.

  • و الآيات التي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنية، أو تومئ إليها كثيرة، كقوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلى‌ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اَلْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} النحل - ٦٣، إلى غير ذلك.

  • (تجرد النفس)

  • و يتبين بالتدبر في الآية، و سائر الآيات التي ذكرناها حقيقة أخرى أوسع من ذلك، و هي تجرد النفس، بمعنى كونها أمرا وراء البدن و حكمها غير حكم البدن و سائر التركيبات الجسمية، لها نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور و الإرادة و سائر الصفات الإدراكية، و التدبر في الآيات السابقة الذكر يجلي هذا المعنى فإنها تفيد أن الإنسان بشخصه ليس بالبدن، لا يموت بموت البدن، و لا يفنى بفنائه، و انحلال تركيبه و تبدد أجزائه، و أنه يبقى بعد فناء البدن في عيش هني‌ء دائم، و نعيم مقيم، أو في شقاء لازم، و عذاب أليم، و أن سعادته في هذه العيشة، و شقاءه فيها مرتبطة بسنخ ملكاته و أعماله، لا بالجهات الجسمانية و الأحكام الاجتماعية.

تفسير الميزان ج۱

351
  •  

  • فهذه معان تعطيها هذه الآيات الشريفة، و واضح أنها أحكام تغاير الأحكام الجسمانية، و تتنافى الخواص المادية الدنيوية من جميع جهاتها، فالنفس الإنسانية غير البدن.

  • و مما يدل عليه من الآيات قوله تعالى: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضى‌ عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرى‌} الزمر - ٤٢، و التوفي و الاستيفاء هو أخذ الحق بتمامه و كماله، و ما تشتمل عليه الآية: من الأخذ و الإمساك و الإرسال ظاهر في المغايرة بين النفس و البدن.

  • و من الآيات قوله تعالى: {وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‌ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} السجدة - ١١، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفار المنكرين للمعاد، و هو أنا بعد الموت و انحلال تركيب أبداننا تتفرق أعضاؤنا، و تبدد أجزاؤنا، و تتبدل صورنا فنضل في الأرض، و يفقدنا حواس المدركين، فكيف يمكن أن نقع ثانيا في خلق جديد؟ و هذا استبعاد محض، و قد لقن تعالى على رسوله: الجواب عنه، بقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (الآية) و حاصل الجواب أن هناك ملكا موكلا بكم هو يتوفاكم و يأخذكم، و لا يدعكم تضلوا و أنتم في قبضته و حفاظته، و ما تضل في الأرض إنما هو أبدانكم لا نفوسكم التي هي المدلول عليها بلفظ؛ كم؛ فإنه يتوفاكم.

  • و من الآيات قوله تعالى: {وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} (الآية) السجدة - ٩، ذكره في خلق الإنسان ثم قال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الإسراء - ٨٥، فأفاد أن الروح من سنخ أمره، ثم عرف الأمر في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} يس - ٨٣ فأفاد أن الروح من الملكوت، و أنها كلمة؛ كن؛ ثم عرف الأمر بتوصيفه بوصف آخر بقوله: {وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} القمر - ٥٠، و التعبير بقوله: كلمح بالبصر يعطي أن الأمر الذي هو كلمة؛ كن؛ موجود دفعي الوجود غير تدريجية، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده و تقييده بزمان أو مكان، و من هنا يتبين أن الأمر - و منه الروح شي‌ء غير جسماني و لا مادي فإن، الموجودات المادية الجسمانية من 

تفسير الميزان ج۱

352
  •  

  • أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود، مقيدة بالزمان و المكان، فالروح التي للإنسان ليست بمادية جسمانية، و إن كان لها تعلق بها.

  • و هناك آيات تكشف عن كيفية هذا التعلق، فقد قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} طه - ٥٥، و قال تعالى: {خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} الرحمن - ١٤ و قال تعالى {وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} السجدة - ٨، ثم قال سبحانه و تعالى: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اَللَّهُ أَحْسَنُ اَلْخَالِقِينَ} المؤمنون - ١٤، فأفاد أن الإنسان لم يكن إلا جسما طبيعيا يتوارد عليه صور مختلفة متبدلة، ثم أنشأ الله هذا الذي هو جسم جامد خامد خلقا آخر ذا شعور و إرادة، يفعل أفعالا: من الشعور و الإرادة و الفكر و التصرف في الأكوان، و التدبير في أمور العالم بالنقل و التبديل و التحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الأجسام و الجسمانيات، فلا هي جسمانية، و لا موضوعها الفاعل لها.

  • فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها - و هو البدن الذي تنشأ منه النفس - بمنزلة الثمرة من الشجرة و الضوء من الدهن بوجه بعيد، و بهذا يتضح كيفية تعلقها بالبدن ابتداعا، ثم بالموت تنقطع العلقة، و تبطل المسكة، فهي في أول وجودها عين البدن، ثم تمتاز بالإنشاء منه، ثم تستقل عنه بالكلية فهذا ما تفيده الآيات الشريفة المذكورة بظهورها: و هناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالإيماء و التلويح، يعثر عليها المتدبر البصير، و الله الهادي. قوله تعالى: {وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‌ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ وَ اَلْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلثَّمَرَاتِ}، لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر و الصلاة، و نهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياء بين لهم السبب الذي من أجله خاطبهم بما خاطب، و هو أنهم سيبتلون بما لا يتمهد لهم المعالي و لا يصفو لهم الأمر في الحياة الشريفة، و الدين الحنيف إلا به، و هو الحرب و القتال، لا يدور رحى النصر و الظفر على مرادهم إلا أن يتحصنوا بهذين الحصنين و يتأيدوا بهاتين القوتين، و هما الصبر و الظفر، و يضيفوا إلى ذلك ثالثا و هو خصلة ما حفظها قوم إلا ظفروا بأقصى مرادهم و حازوا الغاية 

تفسير الميزان ج۱

353
  •  

  • القصوى من كمالهم، و اشتد بأسهم و طابت نفسهم، و هو الإيمان بأن القتيل منهم غير ميت و لا فقيد، و أن سعيهم بالمال و النفس غير ضائع و لا باطل، فإن قتلوا عدوهم فهم على الحياة، و قد أبادوا عدوهم و ما كان يريده من حكومة الجور و الباطل عليهم - و إن قتلهم عدوهم فهم على الحياة - و لم يتحكم الجور و الباطل عليهم، فلهم إحدى الحسنيين على أي حال.

  • و عامة الشدائد التي يأتي بها هو الخوف و الجوع و نقص الأموال و الأنفس فذكرها الله تعالى، و أما الثمرات فالظاهر أنها الأولاد، فإن تأثير الحرب في قلة النسل بموت الرجال و الشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الأشجار، و ربما قيل: إن المراد ثمرات النخيل، و هي التمر و المراد بالأموال غيرها و هي الدواب من الإبل و الغنم.

  • قوله تعالى: {وَ بَشِّرِ اَلصَّابِرِينَ اَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، أعاد ذكر الصابرين ليبشرهم أولا، و يبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا، و يظهر به حق الأمر الذي يقضي بوجوب الصبر - و هو ملكه تعالى للإنسان - ثالثا، و يبين جزاءه العام - و هو الصلاة و الرحمة و الاهتداء - رابعا 

  • فأمر تعالى نبيه أولا بتبشيرهم، و لم يذكر متعلق البشارة لتفخيم أمره فإنها من الله سبحانه فلا تكون إلا خيرا و جميلا، و قد ضمنها رب العزة، ثم بين أن الصابرين هم الذين يقولون: كذا و كذا عند إصابة المصيبة، و هي الواقعة التي تصيب الإنسان، و لا يستعمل لفظ المصيبة إلا في النازلة المكروهة، و من المعلوم أن ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، و لا مجرد الإخطار من غير تحقق بحقيقة معناها، و هي أن الإنسان مملوك لله بحقيقة الملك، و أن مرجعه إلى الله سبحانه و به يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع و الأسف، و يغسل رين الغفلة.

  • بيانه أن وجود الإنسان و جميع ما يتبع وجوده، من قواه و أفعاله قائم الذات بالله الذي هو فاطره و موجده فهو قائم به مفتقر و مستند إليه في جميع أحواله من حدوث و بقاء غير مستقل دونه، فلربه التصرف فيه كيف شاء و ليس للإنسان من 

تفسير الميزان ج۱

354
  •  

  • الأمر شي‌ء إذ لا استقلال له بوجه أصلا فله الملك في وجوده و قواه و أفعاله حقيقة.

  • ثم إنه تعالى ملكه بالإذن نسبة ذاته، و من هناك يقال: للإنسان وجود، و كذا نسبة قواه و أفعاله و من هناك يقال: للإنسان قوى كالسمع و البصر، و يقال: للإنسان أفعال كالمشي و النطق، و الأكل و الشرب، و لو لا الإذن الإلهي لم يملك الإنسان و لا غيره من المخلوقات نسبة من هذه النسب الظاهرة، لعدم استقلال في وجودها من دون الله أصلا.

  • و قد أخبر سبحانه: أن الأشياء سيعود إلى حالها قبل الإذن و لا يبقى ملك إلا لله وحده، قال تعالى: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ. لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} المؤمن - ١٦، و فيه رجوع الإنسان بجميع ما له و معه إلى الله سبحانه.

  • فهناك ملك حقيقي هو لله سبحانه لا شريك له فيه، لا الإنسان و لا غيره، و ملك ظاهري صوري كملك الإنسان نفسه و ولده و ماله و غير ذلك و هو لله سبحانه حقيقة، و للإنسان بتمليكه تعالى في الظاهر مجازا، فإذا تذكر الإنسان حقيقة ملكه تعالى، و نسبه إلى نفسه فوجد نفسه ملكا طلقا لربه، و تذكر أيضا أن الملك الظاهري فيما بين الإنسان و من جملتها ملك نفسه لنفسه و ماله و ولده سيبطل فيعود راجعا إلى ربه وجد أنه بالآخرة لا يملك شيئا أصلا لا حقيقة و لا مجازا، و إذا كان كذلك لم يكن معنى للتأثر عن المصائب الموجبة للتأثر عند إصابتها، فإن التأثر إنما يكون من جهة فقد الإنسان شيئا مما يملكه، حتى يفرح بوجدانه، و يحزن بفقدانه، و أما إذا أذعن و اعتقد أنه لا يملك شيئا لم يتأثر و لم يحزن، و كيف يتأثر من يؤمن بأن الله له الملك وحده يتصرف في ملكه كيف يشاء؟

  • (الأخلاق)

  • اعلم أن إصلاح أخلاق النفس و ملكاتها في جانبي العلم و العمل، و اكتساب الأخلاق الفاضلة، و إزالة الأخلاق الرذيلة إنما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة لها و مزاولتها، و المداومة عليها، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية علوم جزئية، و تتراكم و تنتقش في النفس انتقاشا متعذر الزوال أو متعسرها، مثلا إذا أراد الإنسان 

تفسير الميزان ج۱

355
  •  

  • إزالة صفة الجبن و اقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد و المهاول التي تزلزل القلوب و تقلقل الأحشاء، و كلما ورد في مورد منها و شاهد أنه كان يمكنه الورود فيه و أدرك لذة الإقدام و شناعة الفرار و التحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشا بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة، و حصول هذه الملكة العلمية و إن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه بالمقدمات الموصلة إليه كما عرفت اختياري كسبي.

  • إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الأخلاق و اكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين: 

  • المسلك الأول: تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيوية، و العلوم و الآراء المحمودة عند الناس كما يقال: إن العفة و قناعة الإنسان بما عنده و الكف عما عند الناس توجب العزة و العظمة في أعين الناس و الجاه عند العامة، و إن الشره يوجب الخصاصة و الفقر، و إن الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة، و إن العلم يوجب إقبال العامة و العزة و الوجاهة و الأنس عند الخاصة، و إن العلم بصر يتقي به الإنسان كل مكروه، و يدرك كل محبوب و إن الجهل عمى، و إن العلم يحفظك و أنت تحفظ المال، و إن الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلون و الحمد من الناس على أي تقدير سواء غلب الإنسان أو غلب عليه بخلاف الجبن و التهور، و إن العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية، و هي الحياة بعد الموت ببقاء الاسم و حسن الذكر و جميل الثناء و المحبة في القلوب.

  • و هذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الأخلاق، و المأثور من بحث الأقدمين من يونان و غيرهم فيه.

  • و لم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بناؤه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم، و الأخذ بما يستحسنه الاجتماع و ترك ما يستقبحه، نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي كقوله تعالى: {وَ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} البقرة - ١٥٠.دعا سبحانه إلى العزم و الثبات، و علله بقوله: لئلا يكون، و كقوله تعالى: {وَ لاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اِصْبِرُوا} الأنفال - ٤٦، دعا سبحانه إلى الصبر و علله بأن تركه و إيجاد النزاع يوجب الفشل و ذهاب الريح و جرأة العدو، و قوله تعالى: {وَ لَمَنْ 

تفسير الميزان ج۱

356
  •  

  • صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ} الشورى - ٤٣، دعا إلى الصبر و العفو، و علله بالعزم و الإعظام.

  • المسلك الثاني: الغايات الأخروية، و قد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه {إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى‌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ} التوبة - ١١١، و قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى اَلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر - ١٠، و قوله تعالى: {إِنَّ اَلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إبراهيم - ٢٢، و قوله تعالى: {اَللَّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اَلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ} البقرة - ٢٥٧، و أمثالها كثيرة على اختلاف فنونها.

  • و يلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ}، فإن الآية دعت إلى ترك الأسى و الفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم و ما أخطأكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضي و قدر مقدر، فالأسى و الفرح لغو لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمة الأمور كما يشير إليه قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}فهذا القسم من الآيات أيضا نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالغايات الشريفة الأخروية، و هي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالمبادئ السابقة الحقيقية من القدر و القضاء و التخلق بأخلاق الله و التذكر بأسماء الله الحسنى و صفاته العليا و نحو ذلك.

  • فإن قلت: التسبب بمثل القضاء و القدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية، و في ذلك بطلان الأخلاق الفاضلة، و اختلال نظام هذه النشأة الطبيعية، فإنه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر و الثبات و ترك الفرح و الأسى كما استفيد من الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ، و مقضية بقضاء محتوم أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق، و كسب كل كمال مطلوب، و الاتقاء عن كل رذيلة خلقية و غير ذلك، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق، و الدفاع عن الحق، و نحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب، و كذا يجوز أن نترك السعي 

تفسير الميزان ج۱

357
  •  

  • في كسب كل كمال، و ترك كل نقص بالاستناد التي حتم القضاء و حقيقة الكتاب، و في ذلك بطلان كل كمال.

  • قلت: قد ذكرنا في البحث عن القضاء، ما يتضح به الجواب عن هذا الإشكال، فقد ذكرنا ثم أن الأفعال الإنسانية من أجزاء علل الحوادث، و من المعلوم أن المعاليل و المسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها و أجزاء أسبابها، فقول القائل: إن الشبع إما مقضي الوجود، و إما مقضي العدم، و على كل حال فلا تأثير للأكل غلط فاحش، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلا بعد فرض تحقق الأكل الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله، فمن الخطإ أن يفرض الإنسان معلولا من المعاليل، ثم يحكم بإلغاء علله أو شي‌ء من أجزاء علله.

  • فغير جائز أن يبطل الإنسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حياته الدنيوية، و إليه تنتسب سعادته و شقاؤه، و هو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الأحوال و الملكات الحاصلة من أفعاله، غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته و اختياره من زمرة العلل، و إبطال حكمه في التأثير، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سببا وحيدا، و علة تامة إليه تستند الحوادث، من غير أن يشاركه شي‌ء آخر من أجزاء العالم و العلل الموجودة فيه التي في رأسها الإرادة الإلهية فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب و الكبر و البخل، و الفرح و الأسى، و الغم و نحو ذلك.

  • يقول الجاهل: أنا الذي فعلت كذا و تركت كذا فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله - و هو جاهل بأن بقية الأسباب الخارجة عن اختياره الناقص، و هي ألوف و ألوف لو لم يمهد له الأمر لم يسد اختياره شيئا، و لا أغنى عن شي‌ء - يقول الجاهل: لو أني فعلت كذا لما تضررت بكذا، أو لما فات عني كذا، و هو جاهل بأن هذا الفوت أو الموت يستند عدمه - أعني الربح أو العافية، أو الحياة - إلى ألوف و ألوف من العلل يكفي في انعدامها - أعني في تحقق الفوات أو الموت - انعدام واحد منها، و إن كان اختياره موجودا، على أن نفس اختيار الإنسان مستند إلى علل كثيرة خارجة عن اختيار الإنسان فالاختيار لا يكون بالاختيار.

تفسير الميزان ج۱

358
  •  

  • فإذا عرفت ما ذكرنا و هو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الإلهي كما مر، ثم تدبرت في الآيات الشريفة التي في المورد وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم و الكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الأخلاق دون بعض.

  • فما كان من الأفعال أو الأحوال و الملكات يوجب استنادها إلى القضاء و القدر إبطال حكم الاختيار فإن القرآن لا يستند إليه، بل يدفعه كل الدفع كقوله تعالى: {وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} الأعراف - ٢٨.

  • و ما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الإنسان في التأثير، و كونه سببا تاما غير محتاج في التأثير، و مستغنيا عن غيره، فإنه يثبت استناده إلى القضاء و يهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطئ بسالكه، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الإنسان بما وجده جهلا، و لا يحزن بما فقده جهلا كما في قوله تعالى: {وَ آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اَللَّهِ اَلَّذِي آتَاكُمْ} النور - ٣٣، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى، و كما في قوله تعالى: {وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} البقرة - ٣، فإنه يندب إلى الإنفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى، و كما في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‌ آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِها اَلْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الكهف - ٧، نهى رسوله(صلى الله عليه وآله و سلم) عن الحزن و الغم استنادا إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله سبحانه بل ما على الأرض من شي‌ء أمور مجعولة عليها للابتلاء و الامتحان إلى غير ذلك.

  • و هذا المسلك أعني الطريقة الثانية في إصلاح الأخلاق طريقة الأنبياء، و منه شي‌ء كثير في القرآن، و فيما ينقل إلينا من الكتب السماوية.

  • و هاهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شي‌ء مما نقل إلينا من الكتب السماوية، و تعاليم الأنبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، و لا في المعارف المأثورة من الحكماء الإلهيين، و هو تربية الإنسان وصفا و علما باستعمال علوم و معارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، و بعبارة أخرى إزالة الأوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع.

تفسير الميزان ج۱

359
  •  

  • و ذلك كما أن كل فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها، أو قوة يخاف منها و يحذر عنها، لكن الله سبحانه يقول: {إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} يونس - ٦٥، و يقول: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} البقرة - ١٦٥، و التحقق بهذا العلم الحق لا يبقى موضوعا لرياء، و لا سمعة، و لا خوف من غير الله و لا رجاء لغيره، و لا ركون إلى غيره، فهاتان القضيتان إذا صارتا معلومتين للإنسان تغسلان كل ذميمة وصفا أو فعلا عن الإنسان و تحليان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الإلهية من التقوى بالله، و التعزز بالله و غيرهما من مناعة و كبرياء و استغناء و هيبة إلهية ربانية.

  • و أيضا قد تكرر في كلامه تعالى: أن الملك لله، و أن له ملك السماوات و الأرض و أن له ما في السماوات و الأرض و قد مر بيانه مرارا، و حقيقة هذا الملك كما هو ظاهر لا تبقى لشي‌ء من الموجودات استقلالا دونه، و استغناء عنه بوجه من الوجوه فلا شي‌ء إلا و هو سبحانه المالك لذاته و لكل ما لذاته، و إيمان الإنسان بهذا الملك و تحققه به يوجب سقوط جميع الأشياء ذاتا و وصفا و فعلا عنده عن درجة الاستقلال، فهذا الإنسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى، و لا أن يخضع لشي‌ء، أو يخاف أو يرجو شيئا، أو يلتذ أو يبتهج بشي‌ء، أو يركن إلى شي‌ء أو يتوكل على شي‌ء أو يسلم لشي‌ء أو يفوض إلى شي‌ء، غير وجهه تعالى، و بالجملة لا يريد و لا يطلب شيئا إلا وجهه الحق الباقي بعد فناء كل شي‌ء، و لا يعرض إعراضا و لا يهرب إلا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى لوجوده وقعا و لا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه.

  • و كذلك قوله تعالى: {اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى‌} طه - ٨، و قوله: {ذلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} الأنعام - ١٠٢، و قوله: {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ} السجدة - ٧ و قوله: {وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ} طه - ١١١ و قوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} البقرة - ١١٦، و قوله: {وَ قَضى‌ رَبُّكَ أَلاّتَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ {الإسراء - ٢٣، و قوله: {أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ} فصلت - ٥٣، و قوله: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ مُحِيطٌ} فصلت - ٥٤، و قوله: {وَ أَنَّ إِلى‌ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى‌} النجم - ٤٢.

  • و من هذا الباب الآيات التي نحن فيها و هي قوله تعالى: {وَ بَشِّرِ اَلصَّابِرِينَ اَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}إلى آخرها فإن هذه الآيات و أمثالها 

تفسير الميزان ج۱

360
  •  

  • مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في فنه، و لا نوع التربية التي سنها الأنبياء في شرائعهم، فإن المسلك الأول كما عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن و القبح و المسلك الثاني مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية و مجازاتها، و هذا المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الإسلام على مشرعه و آله أفضل الصلاة هذا.

  • فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الإسلام، و حاصله: أن الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شئون المدنية التي بسطتها الدعوة الدينية الإسلامية بين الناس من متبعيها، و المزايا و الخصائص التي خلفها و ورثها فيهم من تقدم الحضارة و تعالي المدنية، و أما المعارف الدينية التي يشتمل عليها الإسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات، و يدعو إليها جميع الأنبياء هذا.

  • و أنت بالإحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظره، و خبط رأيه فإن النتيجة فرع لمقدمتها، و الآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد و نتائج لنوع العلوم و المعارف التي تلقاها المتعلم المتربي، و ليسا سواء قول يدعو إلى حق نازل و كمال متوسط و قول يدعو إلى محض الحق و أقصى الكمال، و هذا حال هذا المسلك الثالث، فأول المسالك يدعو إلى الحق الاجتماعي، و ثانيها يدعو إلى الحق الواقعي و الكمال الحقيقي الذي فيه سعادة الإنسان في حياته الآخرة، و ثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله، و يبني تربيته على أن الله سبحانه واحد لا شريك له، و ينتج العبودية المحضة، و كم بين المسالك من فرق!

  • و قد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الإنساني جما غفيرا من العباد الصالحين، و العلماء الربانيين، و الأولياء المقربين رجالا و نساء، و كفى بذلك شرفا للدين.

  • على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج، فإن بناءه على الحب العبودي، و إيثار جانب الرب على جانب العبد و من المعلوم أن الحب و الوله و التيم ربما يدل الإنسان المحب على أمور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك 

تفسير الميزان ج۱

361
  •  

  • الأخلاق الاجتماعية، أو الفهم العام العادي الذي هو أساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكام، و للحب أحكام، و سيجي‌ء توضيح هذا المعنى في بعض الأبحاث الآتية إن شاء الله تعالى.

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ} (الآية) التدبر في الآية يعطي أن الصلاة غير الرحمة بوجه، و يشهد به جمع الصلاة و إفراد الرحمة، و قد قال تعالى: {هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} الأحزاب - ٤٣، و الآية تفيد كون قوله: {وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}، في موقع العلة لقوله: {هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ}، و المعنى أنه إنما يصلي عليكم، و كان من اللازم المترقب ذلك، لأن عادته جرت على الرحمة بالمؤمنين، و أنتم مؤمنون فكان من شأنكم أن يصلي عليكم حتى يرحمكم، فنسبة الصلاة إلى الرحمة نسبة المقدمة إلى ذيها و كالنسبة التي بين الالتفات و النظر، و التي بين الإلقاء في النار و الإحراق مثلا، و هذا يناسب ما قيل في معنى الصلاة: إنها الانعطاف و الميل، فالصلاة من الله سبحانه انعطاف إلى العبد بالرحمة و من الملائكة انعطاف إلى الإنسان بالتوسط في إيصال الرحمة، و من المؤمنين رجوع و دعاء بالعبودية و هذا لا ينافي كون الصلاة بنفسها رحمة و من مصاديقها، فإن الرحمة في القرآن على ما يعطيه التدبر في مواردها هي العطية المطلقة الإلهية، و الموهبة العامة الربانية، كما قال تعالى: {وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‌ءٍ} الأعراف - ١٥٦، و قال تعالى: {وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} الأنعام - ١٣٣، فالإذهاب لغناه و الاستخلاف و الإنشاء لرحمته، و هما جميعا يستندان إلى رحمته كما يستندان إلى غناه فكل خلق و أمر رحمة، كما أن كل خلق و أمر عطية تحتاج إلى غنى، قال تعالى: {وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} الإسراء - ٢٠، و من عطيته الصلاة فهي أيضا من الرحمة غير أنها رحمة خاصة، و من هنا يمكن أن يوجه جمع الصلاة و إفراد الرحمة في الآية.

  • قوله تعالى: {وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ}، كأنه بمنزلة النتيجة لقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ}، و لذلك جدد اهتداءهم جملة ثانية مفصولة عن الأولى، و لم يقل: صلوات من ربهم و رحمة و هداية، و لم يقل: و أولئك هم المهديون بل ذكر قبولهم للهداية بالتعبير بلفظ الاهتداء الذي هو فرع مترتب على الهداية، فقد تبين 

تفسير الميزان ج۱

362
  •  

  • أن الرحمة هدايتهم إليه تعالى، و الصلوات كالمقدمات لهذه الهداية و اهتداءهم نتيجة هذه الهداية، فكل من الصلاة و الرحمة و الاهتداء غير الآخر و إن كان الجميع رحمة بنظر آخر.

  • فمثل هؤلاء المؤمنين في ما يخبره الله من كرامته عليهم مثل صديقك تلقاه و هو يريد دارك، و يسأل عنها يريد النزول بك فتلقاه بالبشر و الكرامة، فتورده مستقيم الطريق و أنت معه تسيره، و لا تدعه يضل في مسيره حتى تورده نزلة من دارك و تعاهده في الطريق بمأكله و مشربه، و ركوبه و سيره، و حفظه من كل مكروه يصيبه فجميع هذه الأمور إكرام واحد لأنك إنما تريد إكرامه، و كل تعاهد تعاهد و إكرام خاص، و الهداية غير الإكرام، و غير التعاهد، و هو مع ذلك إكرام فكل منها تعاهد، و كل منها هداية و كل منها إكرام خاص، و الجميع إكرام. فالإكرام الواحد العام بمنزلة الرحمة، و التعاهدات في كل حين بمنزلة الصلوات، و النزول في الدار بمنزلة الاهتداء.

  • و الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: {وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ}، و الابتداء باسم الإشارة الدال على البعيد، و ضمير الفصل ثانيا و تعريف الخبر بلام الموصول في قوله: {اَلْمُهْتَدُونَ} كل ذلك لتعظيم أمرهم و تفخيمه - و الله أعلم.

  • ( بحث روائي في البرزخ و حياة الروح بعد الموت) 

  • في تفسير القمي، عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا، و أول يوم من الآخرة مثل له ماله و ولده و عمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: و الله إني كنت عليك لحريصا شحيحا، فما لي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك، ثم يلتفت إلى ولده فيقول: و الله إني كنت لكم لمحبا، و إني كنت عليكم لحاميا، فما ذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك و نواريك فيها، ثم يلتفت إلى عمله فيقول: و الله إني كنت فيك لزاهدا، و إنك كنت علي لثقيلا، فما ذا عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، و يوم حشرك، حتى أعرض أنا و أنت على ربك، فإن 

تفسير الميزان ج۱

363
  •  

  • كان لله وليا أتاه أطيب الناس ريحا و أحسنهم منظرا، و أزينهم رياشا، فيقول: بشر بروح من الله و ريحان و جنة نعيم، قد قدمت خير مقدم، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح أرتحل من الدنيا إلى الجنة، و إنه ليعرف غاسله، و يناشد حامله أن يعجله فإذا دخل قبره أتاه ملكان، و هما فتانا القبر، يحبران أشعارهما، و يحبران الأرض بأنيابهما، و أصواتهما كالرعد القاصف، و أبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك، و من نبيك؟ و ما دينك؟ فيقول: الله ربي، و محمد نبيي، و الإسلام ديني، فيقولان: ثبتك الله فيما تحب و ترضى، و هو قول الله: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} (الآية) فيفسحان له في قبره مد بصره، و يفتحان له بابا إلى الجنة و يقولان: نم قرير العين نوم الشاب الناعم، و هو قوله: {أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً}.

  • و إذا كان لربه عدوا فإنه يأتيه أقبح خلق الله رياشا، و أنتنه ريحا، فيقول له أبشر بنزل من حميم، و تصلية جحيم، و إنه ليعرف غاسله، و يناشد حامله أن يحبسه، فإذا أدخل قبره أتياه ممتحنا القبر، فألقيا عنه أكفانه ثم قالا له، من ربك؟ و من نبيك؟ و ما دينك؟ فيقول: لا أدري فيقولان له: ما دريت و لا هديت، فيضربانه بمرزبة ضربة ما خلق الله دابة إلا و تذعر لها ما خلا الثقلان، ثم يفتحان له بابا إلى النار، ثم يقولان له: نم بشر حال، فيبوء من الضيق مثل ما فيه القنا من الزج، حتى أن دماغه يخرج من بين ظفره و لحمه، و يسلط الله عليه حيات الأرض و عقاربها و هوامها تنهشه حتى يبعثه الله من قبره، و إنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر.

  • و في منتخب البصائر، عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: لا يسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا فقلت له: فسائر الناس؟ فقال: يلهى عنهم.

  • و في أمالي الشيخ عن ابن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فقال: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم؟ قلت: يقولون في حواصل طيور خضر، فقال: سبحان الله، المؤمن أكرم على الله من ذلك! إذا كان ذلك أتاه رسول الله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين (علیه السلام)، و معهم ملائكة الله عز و جل المقربون، فإن 

تفسير الميزان ج۱

364
  •  

  • أنطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحيد، و للنبي بالنبوة و الولاية لأهل البيت، شهد على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي و فاطمة و الحسن و الحسين (علیه السلام) و الملائكة المقربون معهم و إن اعتقل لسانه خص الله نبيه بعلم ما في قلبه من ذلك، فشهد به، و شهد على شهادة النبي: علي و فاطمة و الحسن و الحسين على جماعتهم من الله أفضل السلام و من حضر معهم من الملائكة فإذا قبضه الله إليه صير تلك الروح إلى الجنة، في صورة كصورته، فيأكلون و يشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا.

  • و في المحاسن، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: ذكر الأرواح، أرواح المؤمنين فقال: يلتقون، قلت: يلتقون؟ قال: نعم يتساءلون و يتعارفون حتى إذا رأيته قلت: فلان.

  • و في الكافي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب، و يستر عنه ما يكره، و إن الكافر ليزور أهله، فيرى ما يكره و يستر عنه ما يحب، قال: منهم من يزور كل جمعة، و منهم من يزور على قدر عمله. و في الكافي، عن الصادق (علیه السلام): أن الأرواح في صفة الأجساد في شجر من الجنة، تعارف و تساءل، فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها، فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان، و ما فعل فلان فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، و إن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى هوى.

  • أقول: و الروايات في باب البرزخ كثيرة، و إنما نقلنا ما فيه جوامع معنى البرزخ، و في المعاني المنقولة روايات مستفيضة كثيرة، و فيها دلالة على نشأة مجردة عن المادة.

  • (بحث فلسفي) تجرد النفس أيضا

  • هل النفس مجردة عن المادة؟ (و نعني بالنفس ما يحكي عنه كل واحد منا بقوله، أنا؛ و بتجردها عدم كونها أمرا ماديا ذا انقسام و زمان و مكان).

تفسير الميزان ج۱

365
  •  

  • إنا لا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بأنا، و لا نشك أن كل إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حينا من أحيان حياتنا و شعورنا، و ليس هو شيئا من أعضائنا، و أجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر و اللمس و نحو ذلك، و أعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس و التجربة. فإنا ربما نغفل عن كل واحد منها و عن كل مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذي نسميه بالبدن، و لا نغفل قط عن المشهود الذي نعبر عنه: بأنا، فهو غير البدن و غير أجزائه.

  • و أيضا لو كان هو البدن أو شيئا من أعضائه أو أجزائه: أو خاصة من الخواص الموجود فيها و هي جميعا مادية، و من حكم المادة التغير التدريجي و قبول الانقسام و التجزي لكان ماديا متغيرا و قابلا للانقسام و ليس كذلك فإن كل أحد إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه، و ذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أول شعوره بنفسه وجده معنى مشهودا واحدا باقيا على حاله من غير أدنى تعدد و تغير، كما يجد بدنه، و أجزاء بدنه و الخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة، في مادتها و شكلها، و سائر أحوالها و صورها، و كذا وجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام و التجزي، كما يجد البدن و أجزاءه و خواصه و كل مادة و أمر مادي كذلك فليست النفس هي البدن، و لا جزءا من أجزائه، و لا خاصة من خواصه، سواء أدركناه بشي‌ء من الحواس أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك، فإنها جميعا مادية كيفما فرضت، و من حكم المادة التغير، و قبول الانقسام، و المفروض أن ليس في مشهودنا المسمى بالنفس شي‌ء من هذه الأحكام فليست النفس بمادية بوجه.

  • و أيضا هذا الذي نشاهده نشاهده أمرا واحدا بسيطا ليس فيه كثرة من الأجزاء و لا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكل إنسان يشاهد ذلك من نفسه و يرى أنه هو و ليس بغيره فهذا المشهود أمر مستقل في نفسه، لا ينطبق عليه حد المادة و لا يوجد فيه شي‌ء من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرد عن المادة، متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحادا ما له بالبدن و هو التعلق التدبيري و هو المطلوب.

  • و قد أنكر تجرد النفس جميع الماديين، و جمع من الإلهيين من المتكلمين، و الظاهريين 

تفسير الميزان ج۱

366
  •  

  • من المحدثين، و استدلوا على ذلك، و ردوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلف من غير طائل.

  • قال الماديون: إن الأبحاث العلمية على تقدمها و بلوغها اليوم إلى غاية الدقة في فحصها و تجسسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلا وجدت علتها المادية، و لم تجد أثرا روحيا لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى تحكم بسببها بوجود روح مجردة.

  • قالوا: و سلسلة الأعصاب تؤدي الإدراكات إلى العضو المركزي و هو الجزء الدماغي على التوالي و في نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزاؤها و لا يدرك بطلان بعضها، و قيام الآخر مقامه، و هذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها، و نحكي عنها بأنا، فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن و غير خواصه، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالي و التوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الأعصاب و وقوفها عن أفعالها و هو الموت، و الذي نرى أنه ثابت، صحيح لكنه لا من جهة ثباته و عدم تغيره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكية و سرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب و يخرج من جانب بما يساويه و هو مملوء دائما، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا، و هو بحسب الواقع لا واحد و لا ثابت، و كذا يجد عكس الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحدا ثابتا و ليس واحدا ثابتا بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، و على هذا النحو وجود الثبات و الوحدة و الشخصية التي نرى في النفس.

  • قالوا: فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، و هي الإدراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير و التأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية، و جزء المركب العصبي، و وحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية.

  • أقول: أما قولهم: إن الأبحاث العلمية المبتنية على الحس و التجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، و لا وجدت حكما من الأحكام غير قابل التعليل إلا بها فهو كلام 

تفسير الميزان ج۱

367
  •  

  • حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي أقيم البرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة و خواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة، و إثبات ما هو من سنخها، و كذا الخواص و الأدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادي إنما لها أن تحكم في الأمور المادية، و أما ما وراء المادة و الطبيعة، فليس لها أن تحكم فيها نفيا و لا إثباتا، و غاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان، و عدم الوجدان غير عدم الوجود، و ليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها، و لا بين أحكام المادة و خواصها التي هي نتائج بحثها أمرا مجردا خارجا عن سنخ المادة و حكم الطبيعة.

  • و الذي جرأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الأعضاء و لم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعا مبدأ لهذه الأفاعيل، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها، و نظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.

  • و هو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك و لم يسندوا بعض الأفاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة، و بعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة و إلى النفس بواسطتها، و إنما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن البتة و هو علم الإنسان بنفسه و مشاهدته ذاته كما مر.

  • و أما قولهم: إن الإنية المشهودة للإنسان على صفة الوحدة هي عدة من الإدراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي و في نهاية السرعة - و لها وحدة اجتماعية - فكلام لا محصل له و لا ينطبق عليه الشهود النفساني البتة، و كأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسية إلى الدماغ و اشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الآثار التالية و ليت شعري إذا فرض أن هناك أمورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها البتة، و هذه الأمور الكثيرة التي هي الإدراكات أمور مادية ليس وراءها شي‌ء آخر إلا نفسها، و أن الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه 

تفسير الميزان ج۱

368
  •  

  • الإدراكات الكثيرة، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره؟ و من أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عيانا؟ و الذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة و إنما وحدتها في الحس أو الخيال كالدار الواحدة و الخط الواحد مثلا، لا في نفسه، و المفروض في محل كلامنا أن الإدراكات و الشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم إن هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلا، و هي بعينها شعور واحد نفساني واقعا، و ليس هناك أمر آخر له هذه الإدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أو الخيال المحسوسات أو المتخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإن المفروض أن مجموع الإدراكات الكثيرة في نفسها نفس الإدراك النفساني الواحد في نفسه، و لو قيل: إن المدرك هاهنا الجزء الدماغي يدرك الإدراكات الكثيرة على نعت الوحدة كان الإشكال بحاله، فإن المفروض أن إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الإدراكات الكثيرة المتعاقبة بعينها، لا أن للجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الإدراكات كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية و انتزاعها منها صورا حسية، فافهم ذلك.

  • و الكلام في كيفية حصول الثبات و البساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجز في نفسه كالكلام في حصول وحدته.

  • مع أن هذا الفرض أيضا - أعني أن يكون الإدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ و القوة التي فيه، و الشعور الذي لها، و المعلوم الذي عندها، و هي جميعا أمور مادية، و من شأن المادة و المادي الكثرة، و التغير، و قبول الانقسام، و ليس في هذه الصورة العلمية شي‌ء من هذه الأوصاف و النعوت، و ليس غير المادة و المادي هناك شي‌ء؟.

  • و قولهم: إن الأمر يشتبه على الحس أو القوة المدركة، فيدرك الكثير المتجزي المتغير واحدا بسيطا ثابتا غلط واضح، فإن الغلط و الاشتباه من الأمور النسبية التي تحصل بالمقايسة و النسبة، لا من الأمور النفسية، مثال ذلك أنا نشاهد الأجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاط البيض، و نغلط في مشاهدتنا هذه، على ما تبينه البراهين 

تفسير الميزان ج۱

369
  •  

  • العلمية، و كثير من مشاهدات حواسنا إلا أن هذه الأغلاط إنما تحصل و توجد إذا قايسنا ما عند الحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات، و أما ما عند الحس في نفسه فهو أمر واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطا البتة.

  • و الأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل فإن حواسنا و قوانا المدركة إذا وجدت الأمور الكثيرة المتغيرة المتجزية على صفة الوحدة و الثبات و البساطة كانت القوى المدركة غالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج و أما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها البتة، و لا يمكن أن يقال للأمر الذي هذا شأنه: أنه مادي لفقده أوصاف المادة العامة.

  • فقد تحصل من جميع ما ذكرنا أن الحجة التي أوردها الماديون من طريق الحس و التجربة إنما ينتج عدم الوجدان، و قد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود (و هو مدعاهم) مكان عدم الوجدان، و ما صوروه لتقرير الشهود النفساني المثبت لوجود أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لا يوافق، لا الأصول المادية المسلمة بالحس و التجربة، و لا واقع الأمر الذي هو عليه في نفسه.

  • و أما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد في أمر النفس و هو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية، من الإدراك و الإرادة و الرضا و الحب و غيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة فلا كلام لنا فيه، فإن لكل باحث أن يفترض موضوعا و يضعه موضوعا لبحثه، و إنما الكلام فيه من حيث وجوده و عدمه في الخارج و الواقع مع قطع النظر عن فرض الفارض و عدمه، و هو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.

  • و قال قوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين: إن الذي يتحصل من الأمور المربوطة بحياة الإنسان كالتشريح و الفيزيولوجي أن هذه الخواص الروحية الحيوية تستند إلى جراثيم الحياة و السلولات التي هي الأصول في حياة الإنسان و سائر الحيوان، و تتعلق بها، فالروح خاصة و أثر مخصوص فيها لكل واحد منها أرواح متعددة فالذي 

تفسير الميزان ج۱

370
  •  

  • يسميه الإنسان روحا لنفسه و يحكي عنه بأنا مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد و الاجتماع، و من المعلوم أن هذه الكيفيات الحيوية و الخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم و السلولات و تفسد بفسادها فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني غاية الأمر أن الأصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموز الحياة كان لنا أن نقول: إن العلل الطبيعية لا تفي بإيجاد الروح فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، و أما الاستدلال على تجرد النفس من جهة العقل محضا فشي‌ء لا يقبله و لا يصغي إليه العلوم اليوم لعدم اعتمادها على غير الحس و التجربة، هذا.

  • أقول: و أنت خبير بأن جميع ما أوردناه على حجة الماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق و نزيدها أنها مخدوشة أولا: بأن عدم وفاء الأصول العلمية المكتشفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح و الحياة لا ينتج عدم وفائها أبدا و لا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادية في نفس الأمر على جهل منا، فهل هذا إلا مغالطة وضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم؟.

  • و ثانيا: بأن استناد بعض حوادث العالم - و هي الحوادث المادية - إلى المادة، و بعضها الآخر و هي الحوادث الحيوية إلى أمر وراء المادة - و هو الصانع - قول بأصلين في الإيجاد، و لا يرتضيه المادي و لا الإلهي، و جميع أدلة التوحيد يبطله.

  • و هنا إشكالات أخر أوردوها على تجرد النفس مذكورة في الكتب الفلسفية و الكلامية غير أن جميعها ناشئة عن عدم التأمل و الإمعان فيما مر من البرهان، و عدم التثبت في تعقل الغرض منه، و لذلك أضربنا عن إيرادها، و الكلام عليها، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانها، و الله الهادي

  • (بحث أخلاقي)

  • علم الأخلاق (و هو الفن الباحث عن الملكات الإنسانية المتعلقة بقواه النباتية و الحيوانية و الإنسانية، و تميز الفضائل منها من الرذائل ليستكمل الإنسان التحلي 

تفسير الميزان ج۱

371
  •  

  • و الاتصاف بها سعادته العلمية، فيصدر عنه من الأفعال ما يجلب الحمد العام و الثناء الجميل من المجتمع الإنساني) يظفر ببحثه أن الأخلاق الإنسانية تنتهي إلى قوى عامة ثلاثة فيه هي الباعثة للنفس على اتخاذ العلوم العملية التي تستند و تنتهي إليها أفعال النوع و تهيئتها و تعبيتها عنده، و هي القوى الثلاث: الشهوية و الغضبية و النطقية الفكرية، فإن جميع الأعمال و الأفعال الصادرة عن الإنسان إما من قبيل الأفعال المنسوبة إلى جلب المنفعة كالأكل و الشرب و اللبس و غيرها، و إما من الأفعال المنسوبة إلى دفع المضرة كدفاع الإنسان عن نفسه و عرضه و ماله و نحو ذلك، و هذه الأفعال هي الصادرة عن المبدأ الغضبي كما أن القسم السابق عليها صادر عن المبدأ الشهوي، و إما من الأعمال المنسوبة إلى التصور و التصديق الفكري، كتأليف القياس و إقامة الحجة و غير ذلك، و هذه الأفعال صادرة عن القوة النطقية الفكرية، و لما كانت ذات الإنسان كالمؤلفة المركبة من هذه القوى الثلاث التي باتحادها و حصول الوحدة التركيبية منها يصدر أفعال خاصة نوعية، و يبلغ الإنسان سعادته التي من أجلها جعل هذا التركيب، فمن الواجب لهذا النوع أن لا يدع قوة من هذه القوى الثلاث تسلك مسلك الإفراط أو التفريط، و تميل عن حاق الوسط إلى طرفي الزيادة و النقيصة، فإن في ذلك خروج جزء المركب عن المقدار المأخوذ منه في جعل أصل التركيب و في ذلك خروج المركب عن كونه ذاك المركب و لازمه بطلان غاية التركيب التي هي سعادة النوع.

  • و حد الاعتدال في القوة الشهوية - و هي استعمالها على ما ينبغي كما و كيفا - يسمى عفة، و الجانبان في الإفراط و التفريط الشره و الخمود، و حد الاعتدال في القوة الغضبية هي الشجاعة، و الجانبان التهور و الجبن، و حد الاعتدال في القوة الفكرية تسمى حكمة، و الجانبان الجربزة و البلادة، و تحصل في النفس من اجتماع هذه الملكات ملكة رابعة هي كالمزاج من الممتزج، و هي التي تسمى عدالة، و هي إعطاء كل ذي حق من القوى حقه، و وضعه في موضعه الذي ينبغي له، و الجانبان فيها الظلم و الانظلام.

  • فهذه أصول الأخلاق الفاضلة أعني: العفة و الشجاعة و الحكمة و العدالة، و لكل منها فروع ناشئة منها راجعة بحسب التحليل إليها، نسبتها إلى الأصول المذكورة كنسبة النوع إلى الجنس، كالجود و السخاء، و القناعة و الشكر، و الصبر و الشهامة 

تفسير الميزان ج۱

372
  •  

  •  

تفسير الميزان ج۱

373
  •  

  • و الجرأة و الحياء، و الغيرة و النصيحة، و الكرامة و التواضع، و غيرها، هي فروع الأخلاق الفاضلة المضبوطة في كتب الأخلاق (و هاك شجرة تبين أصولها و تفرع فروعها) و علم الأخلاق يبين حد كل واحد منها و يميزها من جانبيها في الإفراط و التفريط، ثم يبين أنها حسنة جميلة ثم يشير إلى كيفية اتخاذها ملكة في النفس من طريقي العلم و العمل أعني الإذعان بأنها حسنة جميلة، و تكرار العمل بها حتى تصير هيئة راسخة في النفس.

  • مثاله أن يقال: إن الجبن إنما يحصل من تمكن الخوف من النفس، و الخوف إنما يكون من أمر ممكن الوقوع و عدم الوقوع، و المساوي الطرفين يقبح ترجيح أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح و الإنسان العاقل لا ينبغي له ذلك فلا ينبغي للإنسان أن يخاف.

  • فإذا لقن الإنسان نفسه هذا القول ثم كرر الإقدام و الورود في المخاوف و المهاول زالت عنه رذيلة الخوف، و هكذا الأمر في غيره من الرذائل و الفضائل.

  • فهذا ما يقتضيه المسلك الأول على ما تقدم في البيان و خلاصته إصلاح النفس و تعديل ملكاتها لغرض الصفة المحمودة و الثناء الجميل.

  • و نظيره ما يقتضيه المسلك الثاني، و هو مسلك الأنبياء و أرباب الشرائع، و إنما التفاوت من حيث الغرض و الغاية، فإن غاية الاستكمال الخلقي في المسلك الأول الفضيلة المحمودة عند الناس و الثناء الجميل منهم، و غايته في المسلك الثاني السعادة الحقيقية للإنسان و هو استكمال الإيمان بالله و آياته، و الخبر الأخروي و هي سعادة و كمال في الواقع لا عند الناس فقط، و مع ذلك فالمسلكان يشتركان في أن الغاية القصوى و الغرض فيها الفضيلة الإنسانية من حيث العمل.

  • و أما المسلك الثالث المتقدم بيانه فيفارق الأولين بأن الغرض فيه ابتغاء وجه الله لا اقتناء الفضيلة الإنسانية و لذلك ربما اختلف المقاصد التي فيه مع ما في المسلكين الأولين فربما كان الاعتدال الخلقي فيه غير الاعتدال الذي فيهما و على هذا القياس، بيان ذلك أن العبد إذا أخذ إيمانه في الاشتداد و الإزدياد انجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية 

تفسير الميزان ج۱

374
  •  

  • ربه، و استحضار أسمائه الحسنى، و صفاته الجميلة المنزهة عن النقص و الشين و لا تزال تزيد نفسه انجذابا، و تترقى مراقبة حتى صار يعبد الله كأنه يراه و أن ربه يراه، و يتجلى له في مجالي الجذبة و المراقبة و الحب فيأخذ الحب في الاشتداد لأن الإنسان مفطور على حب الجميل، و قد قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} البقرة - ١٦٥، و صار يتبع الرسول في جميع حركاته و سكناته لأن حب الشي‌ء يوجب حب آثاره، و الرسول من آثاره و آياته كما أن العالم أيضا آثاره و آياته تعالى، و لا يزال يشتد هذا الحب ثم يشتد حتى ينقطع إليه من كل شي‌ء، و لا يحب إلا ربه، و لا يخضع قلبه إلا لوجهه فإن هذا العبد لا يعثر بشي‌ء، و لا يقف على شي‌ء و عنده شي‌ء من الجمال و الحسن إلا وجد أن ما عنده أنموذج يحكي ما عنده من كمال لا ينفد و جمال لا يتناهى و حسن لا يحد، فله الحسن و الجمال و الكمال و البهاء، و كل ما كان لغيره فهو له، لأن كل ما سواه آية له ليس له إلا ذلك، و الآية لا نفسية لها، و إنما هي حكاية تحكي صاحبها و هذا العبد قد استولى سلطان الحب على قلبه، و لا يزال يستولي، و لا ينظر إلى شي‌ء إلا لأنه آية من آيات ربه، و بالجملة فينقطع حبه عن كل شي‌ء إلى ربه، فلا يحب شيئا إلا لله سبحانه و في الله سبحانه.

  • و حينئذ يتبدل نحو إدراكه و عمله فلا يرى شيئا إلا و يرى الله سبحانه قبله و معه، و تسقط الأشياء عنده من حيز الاستقلال فما عنده من صور العلم و الإدراك غير ما عند الناس لأنهم إنما ينظرون إلى كل شي‌ء من وراء حجاب الاستقلال بخلافه، هذا من جهة العلم، و كذلك الأمر من جهة العمل فإنه إذا كان لا يحب إلا لله فلا يريد شيئا إلا لله و ابتغاء وجهه الكريم، و لا يطلب و لا يقصد و لا يرجو و لا يخاف، و لا يختار، و لا يترك، و لا ييأس، و لا يستوحش، و لا يرضى، و لا يسخط إلا لله و في الله فيختلف أغراضه مع ما للناس من الأغراض و تتبدل غاية أفعاله فإنه قد كان إلى هذا الحين يختار الفعل و يقصد الكمال لأنه فضيلة إنسانية، و يحذر الفعل أو الخلق لأنه رذيلة إنسانية.و أما الآن فإنما يريد وجه ربه، و لا هم له في فضيلة و لا رذيلة، و لا شغل له بثناء جميل، و ذكر محمود، و لا التفات له إلى دنيا أو آخرة أو جنة أو نار، و إنما همه ربه، و زاده ذل عبوديته، و دليله حبه.

  • روت لي أحاديث الغرام صبابة***بإسنادها عن جيرة العلم الفرد
  • و حدثني مر النسيم عن الصبا***عن الدوح عن وادي الغضا عن ربي نجد 

تفسير الميزان ج۱

375
  •  

  • عن الدمع عن عيني القريح عن الجوى***عن الحزن عن قلبي الجريح عن الوجد
  • بأن غرامي و الهوى قد تحالفا***على تلفي حتى أوسد في لحدي
  • ‌و هذا البيان الذي أوردناه و إن آثرنا فيه الإجمال و الاختصار لكنك إن أجدت فيه التأمل وجدته كافيا في المطلوب و تبين أن هذا المسلك الثالث يرتفع فيه موضوع الفضيلة و الرذيلة، و يتبدل فيه الغاية و الغرض أعني الفضيلة الإنسانية إلى غرض واحد، و هو وجه الله، و ربما اختلف نظر هذا المسلك مع غيره فصار ما هو معدود في غيره فضيلة رذيلة فيه و بالعكس.

  • بقي هنا شي‌ء و هو أن هاهنا نظرية أخرى في الأخلاق تغاير ما تقدم، و ربما عد مسلكا آخر، و هي أن الأخلاق تختلف أصولا و فروعا باختلاف الاجتماعات المدنية لاختلاف الحسن و القبح من غير أن يرجع إلى أصل ثابت قائم على ساق، و قد ادعي أنها نتيجة النظرية المعروفة بنظرية التحول و التكامل في المادة.

  • قالوا: إن الاجتماع الإنساني مولود جميع الاحتياجات الوجودية التي يريد الإنسان أن يرفعها بالاجتماع، و يتوسل بذلك، إلى بقاء وجود الاجتماع الذي يراه بقاء وجود شخصه، و حيث إن الطبيعة محكومة لقانون التحول و التكامل كان الاجتماع أيضا متغيرا في نفسه، و متوجها في كل حين إلى ما هو أكمل و أرقى، و الحسن و القبح و هما موافقة العمل لغاية الاجتماع أعني الكمال و عدم موافقته له - لا معنى لبقائهما على حال واحد، و جمودهما على نهج فارد، فلا حسن مطلقا، و لا قبح مطلقا، بل هما دائما نسبيان مختلفان باختلاف الاجتماعات بحسب الأمكنة و الأزمنة، و إذا كان الحسن و القبح نسبيين متحولين وجب التغير في الأخلاق، و التبدل في الفضائل و الرذائل و من هنا يستنتج أن الأخلاق تابعة للمرام القومي الذي هو وسيلة إلى نيل الكمال المدني و الغاية الاجتماعية، لتبعية الحسن و القبح لذلك فما كان به التقدم و الوصول إلى الغاية و الغرض كان هو الفضيلة و فيه الحسن، و ما كان يدعو إلى الوقوف و الارتجاع كان هو الرذيلة، و على هذا فربما كان الكذب و الافتراء و الفحشاء و الشقاوة و القساوة و السرقة و الوقاحة حسنة و فضيلة إذا وقعت في طريق المرام الاجتماعي، و الصدق و العفة و الرحمة رذيلة قبيحة إذا أوجب الحرمان عن المطلوب، هذه خلاصة هذه النظرية العجيبة التي ذهبت إليها الاشتراكيون من الماديين، و النظرية غير حديثة، على ما زعموا، 

تفسير الميزان ج۱

376
  •  

  • فقد كان الكلبيون من قدماء - اليونان - على ما ينقل على هذه المسلك، و كذا المزدكيون (و هم أتباع مزدك الذي ظهر بإيران على عهد كسرى و دعا إلى الاشتراك) كان عملهم على ذلك، و يعهد من بعض القبائل الوحشية بإفريقية و غيرهم.

  • و كيف كان فهو مسلك فاسد و الحجة التي أقيمت على هذه النظرية فاسدة من حيث البناء و المبنى معا.

  • توضيح ذلك: أنا نجد كل موجود من هذه الموجودات العينية الخارجية يصحب شخصية تلازمه، و يلزمها أن لا يكون الموجود بسببه عين الموجود الآخر و يفارقه في الوجود، كما أن وجود زيد يصحب شخصية و نوع وحدة لا يمكن معها أن يكون عين عمرو، فزيد شخص واحد، و عمرو شخص آخر، و هما شخصان اثنان، لا شخص واحد، فهذه حقيقة لا شك فيها (و هذا غير ما نقول: إن عالم المادة موجود ذو حقيقة واحدة شخصية فلا ينبغي أن يشتبه الأمر).

  • و ينتج ذلك: أن الوجود الخارجي عين الشخصية، لكن المفاهيم الذهنية يخالف الموجود الخارجي في هذا الحكم فإن المعنى كيف ما كان يجوز العقل أن يصدق على أكثر من مصداق واحد كمفهوم الإنسان و مفهوم الإنسان الطويل، و مفهوم هذا الإنسان القائم أمامنا، و أما تقسيم المنطقيين المفهوم إلى الكلي و الجزئي، و كذا تقسيمهم الجزئي إلى الإضافي و الحقيقي فإنما هو تقسيم بالإضافة و النسبة، إما نسبة أحد المفهومين إلى الآخر و إما نسبته إلى الخارج، و هذا الوصف الذي في المفاهيم - و هو جواز الانطباق على أكثر من واحد - ربما نسميه بالإطلاق كما نسمي مقابله بالشخصية أو الوحدة.

  • ثم الموجود الخارجي (و نعني به الموجود المادي خاصة) لما كان واقعا تحت قانون التغير و الحركة العمومية كان لا محالة ذا امتداد منقسما إلى حدود و قطعات، كل قطعة منها تغاير القطعة الأخرى مما تقدم عليها أو تأخر عنها، و مع ذلك فهي مرتبطة بها بوجودها، إذ لو لا ذلك لم يصدق معنى التغير و التبدل لأن أحد شيئين إذا عدم من أصله، و الآخر وجد من أصله لم يكن ذلك تبدل هذا من ذاك، بل التبدل الذي يلازم كل حركة إنما يتحقق بوجود قدر مشترك في الحالين جميعا.

  • و من هنا يظهر أن الحركة أمر واحد بشخصه يتكثر بحسب الإضافة إلى الحدود، 

تفسير الميزان ج۱

377
  •  

  • فيتعين بكل نسبة قطعة تغاير القطعة الأخرى، و أما نفس الحركة فسيلان و جريان واحد شخصي، و نحن ربما سمينا هذا الوصف في الحركة إطلاقا في مقابل النسب التي لها إلى كل حد حد، فنقول: الحركة المطلقة بمعنى قطع النظر عن إضافتها إلى الحدود.و من هنا يظهر أن المطلق بالمعنى الثاني أمر واقعي موجود في الخارج، بخلاف المطلق بالمعنى الأول فإن الإطلاق بهذا المعنى وصف ذهني لموجود ذهني، هذا.

  • ثم إنا لا نشك أن الإنسان موجود طبيعي ذو أفراد و أحكام و خواص و أن الذي توجده الخلقة هو الفرد من أفراد الإنسان دون مجموع الأفراد أعني الاجتماع الإنساني إلا أن الخلقة لما أحست بنقص وجوده، و احتياجه إلى استكمالات لا تتم له وحدة، جهزه بأدوات و قوى تلائم سعيه للاستكمال في ظرف الاجتماع و ضمن الأفراد المجتمعين، فطبيعة الإنسان الفرد مقصود للخلقة أولا و بالذات و الاجتماع مقصود لها ثانيا و بالتبع.

  • و أما حقيقة أمر الإنساني مع هذا الاجتماع الذي تقتضيه و تتحرك إليه الطبيعة الإنسانية (إن صح إطلاق الاقتضاء و العلية و التحرك في مورد الاجتماع حقيقة) فإن الفرد من الإنسان موجود شخصي واحد بالمعنى الذي تقدم من شخصيته و وحدته، و هو مع ذلك واقع في الحركة، متبدل متحول إلى الكمال، و من هنا كان كل قطعة من قطعات وجوده المتبدل مغايرة لغيرها من القطعات، و هو مع ذلك ذو طبيعة سيالة مطلقة محفوظة في مراحل التغيرات واحدة شخصية، و هذه الطبيعة الموجودة في الفرد محفوظة بالتوالد و التناسل و اشتقاق الفرد من الفرد - و هي التي نعبر عنها بالطبيعة النوعية - فإنها محفوظة بالأفراد و إن تبدلت و عرض لها الفساد و الكون، بمثل البيان الذي مر في خصوص الطبيعة الفردية، فالطبيعة الشخصية موجودة متوجهة إلى الكمال الفردي، و الطبيعة النوعية موجودة مطلقة متوجهة إلى الكمال.

  • و هذا الاستكمال النوعي لا شك في وجوده و تحققه في نظام الطبيعة، و هو الذي نعتمد عليه في قولنا: إن النوع الإنساني مثلا متوجه إلى الكمال، و إن الإنسان اليوم أكمل وجودا من الإنسان الأولى، و كذا ما تحكم به فرضية تحول الأنواع، فلو لا أن هناك طبيعة نوعية خارجية محفوظة في الأفراد أو الأنواع مثلا لم يكن هذا الكلام إلا كلاما شعريا.

تفسير الميزان ج۱

378
  •  

  • و الكلام في الاجتماع الشخصي القائم بين أفراد قوم أو في عصر أو في محيط، و نوع الاجتماع القائم بنوع الإنسان المستمر باستمراره و المتحول بتحوله (لو صح أن الاجتماع كالإنسان المجتمع حال خارجي لطبيعة خارجية!) نظير القول في طبيعة الإنسان الشخصية و النوعية في التقييد و الإطلاق.

  • فالاجتماع متحرك متبدل بحركة الإنسان و تبدله و له وحدة من بادئ الحركة إلى أين توجه بوجود مطلق - و هذا الواحد المتغير بواسطة نسبته و إضافته إلى كل حد حد تصير قطعة قطعة، و كل قطعة شخص واحد من أشخاص الاجتماع، و أشخاص الاجتماع مستندة في وجودها إلى أشخاص الإنسان، كما أن مطلق الاجتماع بالمعنى الذي تقدم مستند إلى مطلق الطبيعة الإنسانية، فإن حكم الشخص شخص الحكم و فرده، و حكم المطلق مطلق الحكم (لا كلي الحكم، فلسنا نعني الإطلاق المفهومي فلا تغفل) و نحن لا نشك أن الفرد من الإنسان و هو واحد له حكم واحد باق ببقائه، إلا أنه متبدل بتبدلات جزئية بتبع التبدلات الطارئة على موضوعه الذي هو الإنسان فمن أحكام الإنسان الطبيعي أنه يتغذى و يفعل بالإرادة و يحس و يتفكر - و هو موجود مع الإنسان و باق - ببقائه و إن تبدل طبق تبدله في نفسه، و كذلك الكلام في أحكام مطلق الإنسان الموجود بوجود أفراده.

  • و لما كان الاجتماع من أحكام الطبيعة الإنسانية و خواصها فمطلق الاجتماع (نعني به الاجتماع المستمر الذي أوجدته الطبيعة الإنسانية المستمرة من حين وجد الإنسان الفرد إلى يومنا هذا) من خواص النوع الإنساني المطلق، موجود معه باق ببقائه، و أحكام الاجتماع التي أوجدها و اقتضاها هي مع الاجتماع موجودة بوجوده، باقية ببقائه، و إن تبدلت بتبدلات جزئية مع انحفاظ الأصل مثل نوعها، و حينئذ صح لنا أن نقول: إن هناك أحكاما اجتماعية باقية غير متغيرة، كوجود مطلق الحسن و القبح، كما أن نفس الاجتماع المطلق كذلك، بمعنى أن الاجتماع لا ينقلب إلى غير الاجتماع كالانفراد و إن تبدل اجتماع خاص إلى آخر خاص، و الحسن المطلق و الخاص كالاجتماع المطلق و الخاص بعينه.

  • ثم إنا نرى أن الفرد من الإنسان يحتاج في وجوده و بقائه إلى كمالات و منافع يجب 

تفسير الميزان ج۱

379
  •  

  • له أن يجتلبها و يضمها إلى نفسه، و الدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده و تجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك، كجهاز التغذي و جهاز التناسل مثلا، فعلى الإنسان أن يقدم عليه، و ليس له أن لا يقدم قطعا بالتفريط فإنه يناقض دليل الوجوب الذي ذكرناه، و ليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللازم بالإفراط، مثل أن يأكل حتى يموت، أو يمرض، أو يتعطل عن سائر قواه الفعالة، بل عليه أن يتوسط في جلب كل كمال أو منفعة، و هذا التوسط هي العفة، و طرفاه الشره و الخمود، و كذلك نرى الفرد في وجوده و بقائه متوسطا بين نواقص و أضداد و مضار لوجوده يجب عليه أن يدفعها، و الدليل عليه الاحتياج و التجهيز في نفسه فيجب عليه المقاومة و الدفاع على ما ينبغي من التوسط، من غير إفراط يضاد سائر تجهيزاته أو تفريط يضاد الاحتياج و التجهيز المربوطين، و هذا التوسط هي الشجاعة، و طرفاها التهور و الجبن و نظير الكلام جار في العلم و مقابليه أعني الجربزة و البلادة، و في العدالة و مقابليها و هما الظلم و الانظلام.

  • فهذه أربع ملكات و فضائل يستدعيه الطبيعة الفردية المجهزة بأدواتها: العفة و الشجاعة، و الحكمة، و العدالة - و هي كلها حسنة - لأن معنى الحسن‌ الملاءمة لغاية الشي‌ء و كماله و سعادته، و هي جميعا ملاءمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الذي تقدم ذكره، و مقابلاتها رذائل قبيحة، و إذا كان الفرد من الإنسان بطبيعته و في نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضا على هذا الوصف، و كيف يمكن أن يبطل الاجتماع - و هو من أحكام هذه الطبيعة - سائر أحكامها الوجودية؟ و هل هو إلا تناقض الطبيعة الواحدة، و ليس حقيقة الاجتماع إلا تعاون الأفراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم و بلوغها إلى غاية أمنيتها؟.

  • و إذا كان الفرد من الإنسان في نفسه و في ظرف الاجتماع على هذا الوصف، فنوع الإنسان في اجتماعه النوعي أيضا كذلك، فنوع الإنسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع و باجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع، و بالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع، و بالعدالة الاجتماعية - و هي إعطاء كل ذي حق حقه، و بلوغه حظه الذي يليق به دون الظلم و الانظلام - و كل هذه الخصال الأربع فضائل بحكم 

تفسير الميزان ج۱

380
  •  

  • الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الإنساني بحسنها المطلق و يعد مقابلاتها رذائل و يقضي بقبحها.

  • فقد تبين بهذا البيان: أن في الاجتماع المستمر الإنساني حسنا و قبحا لا يخلو عنهما قط و أن أصول الأخلاق الأربعة فضائل حسنة دائما، و مقابلاتها رذائل قبيحة دائما، و الطبيعة الإنسانية الاجتماعية تقضي بذلك، و إذا كان الأمر في الأصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك، و إن كان ربما يقع اختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه.

  • إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الأخلاق و هاك بيانه.

  • أما قولهم: إن الحسن و القبح المطلقين غير موجودين، بل الموجود منهما النسبي من الحسن و القبح و هو متغير مختلف باختلاف المناطق و الأزمنة و الاجتماعات، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الإطلاق المفهومي بمعنى الكلية و الإطلاق الوجودي بمعنى استمرار الوجود، فالحسن و القبح المطلقان الكليان غير موجودين في الخارج لوصف الكلية و الإطلاق، لكنهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة، و أما الحسن و القبح المطلقان المستمران بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرا باستمرار الطبيعة فهما كذلك، فإن غاية الاجتماع سعادة النوع، و لا يمكن موافقة جميع الأفعال الممكنة و المفروضة للاجتماع كيف ما، فرض فهناك أفعال موافقة و مخالفة دائما فهناك حسن و قبح دائما.

  • و على هذا فكيف يمكن أن يفرض اجتماع كيف ما فرض و لا يعتقد أهله أن من الواجب أن يعطى كل ذي حق حقه أو أن جلب المنافع بقدر ما ينبغي واجب أو أن الدفاع عن مصالح الاجتماع بقدر ما ينبغي لازم أو أن العلم الذي يتميز به منافع الإنسان من غيرها فضيلة حسنة؟ و هذه هي العدالة و العفة، و الشجاعة، و الحكمة التي ذكرنا أن الاجتماع الإنساني كيف ما فرض لا يحكم إلا بحسنها و كونها فضائل إنسانية، و كذا كيف يتيسر لاجتماع أن لا يحكم بوجوب الانقباض و الانفعال عن التظاهر بالقبيح 

تفسير الميزان ج۱

381
  •  

  • الشنيع، و هو الحياء من شعب العفة أو لا يحكم بوجوب السخط و تغير النفس في هتك المقدسات و هضم الحقوق، و هو الغيرة من شعب الشجاعة، أو لا يحكم بوجوب الاقتصار على ما للإنسان من الحقوق الاجتماعية، و هو القناعة أو لا يحكم بوجوب حفظ النفس في موقعها الاجتماعي من غير دحض الناس و تحقيرهم بالاستكبار و البغي بغير الحق، و هو التواضع؟ و هكذا الأمر في كل واحد واحد من فروع الفضائل.

  • و أما ما يزعمونه من اختلاف الأنظار في الاجتماعات المختلفة في خصوص الفضائل و صيرورة الخلق الواحد فضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين في أمثلة جزئية فليس من جهة اختلاف النظر في الحكم الاجتماعي بأن يعتقد قوم بوجوب اتباع الفضيلة الحسنة و آخرون بعدم وجوبه بل من جهة الاختلاف في انطباق الحكم على المصداق و عدم انطباقه.

  • مثل أن الاجتماعات التي كانت تديرها الحكومات المستبدة كانت ترى لعرش الملك الاختيار التام في أن يفعل ما يشاء، و يحكم ما يريد، و ليس ذلك لسوء ظنهم بالعدالة بل لاعتقادهم بأنه من حقوق السلطنة و الملك فلم يكن ذلك ظلما من مقام السلطنة بل إيفاء بحقوقه الحقة بزعمهم.

  • و مثل أن العلم كان يعير به الملوك في بعض الاجتماعات، كما يحكى عن ملة فرنسا في القرون الوسطى، و لم يكن ذلك لتحقيرهم فضيلة العلم، بل لزعمهم أن العلم بالسياسة و فنون إدارة الحكومة يضاد المشاغل السلطانية.

  • و مثل أن عفة النساء بمعنى حفظ البضع من غير الزوج، و كذا الحياء من النساء و كذا الغيرة من رجالهن، و كذا عدة من الفضائل كالقناعة و التواضع أخلاق لا يذعن بفضلها في بعض الاجتماعات، لكن ذلك منهم لأن اجتماعهم الخاص لا يعدها مصاديق للعفة و الحياء و الغيرة و القناعة و التواضع، لا لأن هذه الفضائل ليست فضائل عندهم.

  • و الدليل على ذلك وجود أصلها عندهم، فهم يمدحون عفة الحاكم في حكمه و القاضي في قضائه، و يمدحون الاستحياء من مخالفة القوانين، و يمدحون الغيرة للدفاع عن الاستقلال و الحضارة و عن جميع مقدساتهم، و يمدحون القناعة بما عينه القانون من الحقوق لهم، و يمدحون التواضع لأئمتهم و هداتهم في الاجتماع.

تفسير الميزان ج۱

382
  •  

  • و أما قولهم: بدوران الأخلاق في حسنها مدار موافقتها لغاية المرام الاجتماعي و استنتاجهم ذلك من دوران حسنها مدار موافقة غاية الاجتماع ففيه مغالطة واضحة فإن المراد بالاجتماع الهيئة الحاصلة من عمل مجموع القوانين التي قررتها الطبيعة بين الأفراد المجتمعين و لا محالة تكون موصلة إلى سعادتهم لو لا الإخلال بانتظامها و جريها، و لا محالة لها أحكام: من الحسن و القبح و الفضيلة و الرذيلة، و المراد بالمرام مجموع الفرضيات التي وضعت لإيجاد اجتماع على هيئة جديدة بتحميلها على الأفراد المجتمعين، أعني أن الاجتماع و المرام الاجتماعي متغايران بالفعلية و القوة، و التحقق و فرض التحقق، فكيف يصير حكم أحدهما عين حكم الآخر، و كيف يكون الحسن و القبح، و الفضيلة و الرذيلة التي عينها الاجتماع العام باقتضاء من الطبيعة الإنسانية متبدلة إلى ما حكم به المرام الذي ليس إلا فرضا من فارض؟.

  • و لو قيل: أن لا حكم للاجتماع العام الطبيعي من نفسه بل الحكم للمرام، و خاصة إذا كانت فرضية متلائمة لسعادة الأفراد عاد الكلام السابق في الحسن و القبح، و الفضيلة و الرذيلة، و أنها تنتهي بالآخرة إلى اقتضاء مستمر من الطبيعة.

  • على أن هاهنا محذورا آخر و هو أن الحسن و القبح و سائر الأحكام الاجتماعية - و هي التي تعتمد عليها الحجة الاجتماعية و تتألف منها الاستدلالات - لو كانت تابعة للمرام، و من الممكن بل الواقع تحقق مرامات مختلفة متناقضة متباينة أدى ذلك إلى ارتفاع الحجة المشتركة المقبولة عند عامة الاجتماعات، و لم يكن التقدم و النجاح حينئذ إلا للقدرة و التحكم، و كيف يمكن أن يقال: إن الطبيعة الإنسانية ساقت أفرادها إلى حياة اجتماعية لا تفاهم بين أجزائها و لا حكم يجمعها إلا حكم مبطل لنفس الاجتماع؟ و هل هذا إلا تناقض شنيع في حكم الطبيعة و اقتضائها الوجودي؟

  • (بحث روائي آخر) في متفرقات متعلقة بما تقدم‌ 

  • عن الباقر(عليه السلام)قال: أتى رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إني راغب نشيط في الجهاد. قال: فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل كنت حيا عند الله مرزوقا و إن 

تفسير الميزان ج۱

383
  •  

  •  مت فقد وقع أجرك على الله‌. (الحديث).

  • و قوله ص: و إن مت إلخ إشارة إلى قوله تعالى: {وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللَّهِ} النساء - ١٠٠، و فيه دلالة على أن الخروج إلى الجهاد مهاجرة إلى الله و رسوله.

  • و في الكافي، عن الصادق (علیه السلام) في إسماعيل النبي الذي سماه الله سبحانه صادق الوعد، قال (علیه السلام): إنما سمي صادق الوعد لأنه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسماه الله عز و جل صادق الوعد، ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك الوقت فقال له إسماعيل: ما زلت منتظرا لك.‌ (الحديث).

  • أقول: و هذا أمر ربما يحكم العقل العادي بكونه منحرفا عن جادة الاعتدال مع أن الله سبحانه جعله منقبة له (علیه السلام) حتى عظم قدره و رفع ذكره بقوله: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} مريم - ٥٥، فليس ذلك إلا أن الميزان الذي وزن به هذا العمل غير الميزان الذي بيد العقل العادي، فللعقل العادي تربية بتدبيره و لله سبحانه تربية لأوليائه بتأييده، و كلمة الله هي العليا، و نظائر هذه القضية كثيرة مروية منقولة عن النبي و الأئمة و الأولياء.

  • فإن قلت: كيف يمكن مخالفة الشرع مع العقل في ما للعقل إليه سبيل.

  • قلت: أما حكم العقل في ما له إليه سبيل ففي محله، لكنه يحتاج إلى موضوع يقع عليه حكمه، و قد عرفت في ما تقدم أن أمثال هذه العلوم في المسلك الثالث الذي ذكرناه لا تبقي للعقل موضوعا يحكم فيه و عليه، و هذا سبيل المعارف الإلهية و الظاهر أن إسماعيل النبي (علیه السلام) كان أطلق القول بوعده بأن قال: أنتظرك هاهنا حتى تعود إلي ثم التزم على إطلاق قوله صونا لنفسه عن نقض العهد و الكذب في الوعد و حفظا لما ألقى الله في روعه و أجراه على لسانه، و قد روي نظيره عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه كان عند المسجد الحرام فوعده بعض أصحابه بالرجوع إليه و وعده النبي بانتظاره حتى يرجع فذهب في شأنه و لم يرجع، فانتظره النبي ثلاثة أيام في مكانه الذي وعده حتى مر به الرجل بعد الثلاثة، و هو جالس ينتظر و الرجل قد نسي الوعد. (الحديث). 

تفسير الميزان ج۱

384
  •  

  • و في الخصائص، للسيد الرضي، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: - و قد سمع رجلا يقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}يا هذا إن قولنا: إنا لله إقرار منا بالملك، و إنا إليه راجعون إقرار منا بالهلاك.

  • أقول: و قد اتضح معناه بما تقدم و رواه في الكافي، مفصلا.

  • و في الكافي: عن إسحاق بن عمار و عبد الله بن سنان، عن الصادق (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قال الله عز و جل: إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف، و من لم يقرضني قرضا و أخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها عني، ثم قال أبو عبد الله: قول الله: {اَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ}، فهذه واحدة من ثلاث خصال، و رحمة اثنتان، {وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ} ثلاث، ثم قال أبو عبد الله (علیه السلام) هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا.

  • أقول: و الرواية مروية لطرق أخرى متقاربة.

  • و في المعاني، عن الصادق (علیه السلام): الصلاة من الله رحمة، و من الملائكة التزكية، و من الناس دعاء.

  • أقول: و في معناه عدة روايات أخر، و بين هذه الرواية و ما تقدمها تناف ظاهرا حيث إن الرواية السابقة تعد الصلاة غير الرحمة، و يساعد عليه ظاهر قوله: {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ}، و هذه الرواية تعدها رحمة و يرتفع التنافي بالرجوع إلى ما تقدم من البيان.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): آیة ١٥٨] 

  • {إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اَللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ١٥٨} 

تفسير الميزان ج۱

385
  •  

  • (بيان) 

  • الصفا و المروة موضعان بمكة يأتي الحجاج بينهما بعمل السعي، و هما جبلان مسافة بينهما سبعمائة و ستون ذراعا و نصف ذراع على ما قيل، و أصل الصفا في اللغة الحجر الصلب الأملس، و أصل المروة الحجر الصلب، و الشعائر جمع شعيرة، و هي العلامة، و منه المشعر، و منه قولنا: أشعر، الهدي أي أعلمه، و الحج‌ هو القصد بعد القصد، أي القصد المكرر، و هو في اصطلاح الشرع العمل المعهود بين المسلمين، و الاعتمار الزيارة و أصله العمارة لأن الديار تعمر بالزيارة، و هو في اصطلاح الشرع زيارة البيت بالطريق المعهود، و الجناح‌ الميل عن الحق و العدل، و يراد به الإثم، فيئول نفي الجناح إلى التجويز، و التطوف‌ من الطواف، و هو الدوران حول الشي‌ء، و هو السير الذي ينتهي آخره إلى أوله، و منه يعلم أن ليس من اللازم كونه حول شي‌ء، و إنما ذلك من مصاديقه الظاهرة و على هذا المعنى أطلق التطوف في الآية، فإن المراد به السعي و هو قطع ما بين الصفا و المروة من المسافة سبع مرات متوالية، و التطوع‌ من الطوع بمعنى الطاعة، و قيل: إن التطوع يفارق الإطاعة في أنه يستعمل في المندوب خاصة، بخلاف الإطاعة و لعل ذلك - لو صح هذا القول - بعناية أن العمل الواجب لكونه إلزاميا كأنه ليس بمأتي به طوعا، بخلاف المأتي من المندوب فإنه على الطوع من غير شائبة، و هذا تلطف عنائي و إلا فأصل الطوع يقابل الكره و لا ينافي الأمر الإلزامي.قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} فصلت - ١١، و أصل باب التفعل الأخذ لنفسه، كقولنا: تميز أي أخذ يميز، و تعلم الشي‌ء أي أخذ يعلمه، و تطوع خيرا أي أخذ يأتي بالخير بطوعه، فلا دليل من جهة اللغة على اختصاص التطوع بالامتثال الندبي إلا أن توجبه العناية العرفية المذكورة.

  • فقوله تعالى: {إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ} إلى قوله: {يَطَّوَّفَ بِهِمَا} يشير إلى كون المكانين معلمين بعلامة الله سبحانه، يدلان بذلك عليه، و يذكرانه تعالى و اختصاصهما بكونهما من الشعائر دون بقية الأشياء جميعا يدل على أن المراد بالشعائر ليست الشعائر التكوينية بل هما شعيرتان بجعله تعالى إياهما معبدين يعبد فيهما، فهما يذكران الله سبحانه، فكونهما شعيرتين يدل على أنه تعالى قد شرع فيهما عبادة 

تفسير الميزان ج۱

386
  •  

  • متعلقة بهما، و تفريع قوله: {فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} إنما هو للإيذان بأصل تشريع السعي بين الصفا و المروة، لا لإفادة الندب، و لو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب بسياق الكلام أن يمدح التطوف، لا أن ينفي ذمه، فإن حاصل المعنى أنه لما كان الصفا و المروة معبدين و منسكين من معابد الله فلا يضركم أن تعبدوه فيهما، و هذا لسان التشريع، و لو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب أن يفاد أن الصفا و المروة لما كانا من شعائر الله فإن الله يحب السعي بينهما - و هو ظاهر - و التعبير بأمثال هذا القول الذي لا يفيد وحدة الإلزام في مقام التشريع شائع في القرآن، و كقوله تعالى في الجهاد: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} الصف - ١١، و في الصوم {وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} البقرة - ١٨٤، و في القصر {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاَةِ} النساء - ١٠١.

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اَللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}، إن كان معطوفا على مدخول فاء التفريع في قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ}، كان كالتعليل لتشريع التطوف بمعنى آخر أعم من العلة الخاصة التي تبين بقوله: {إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ}، و كان المراد بالتطوع مطلق الإطاعة لا الإطاعة المندوبة، و إن كان استينافا بالعطف إلى أول الآية كان مسوقا لإفادة محبوبية التطوف في نفسه إن كان المراد بتطوع الخير هو التطوف أو مسوقا لإفادة محبوبية الحج و العمرة إن كان هما المراد بتطوع الخير هذا.

  • و الشاكر و العليم اسمان من أسماء الله الحسنى، و الشكر هو مقابلة من أحسن إليه إحسان المحسن بإظهاره لسانا أو عملا كمن ينعم إليه المنعم بالمال فيجازيه بالثناء الجميل الدال على نعمته أو باستعمال المال في ما يرتضيه، و يكشف عن إنعامه، و الله سبحانه و إن كان محسنا قديم الإحسان و منه كل الإحسان لا يد لأحد عنده حتى يستوجبه الشكر إلا أنه جل ثناؤه عد الأعمال الصالحة التي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده إحسانا من العبد إليه، فجازاه بالشكر و الإحسان و هو إحسان على إحسان قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ اَلْإِحْسَانِ إِلاَّ اَلْإِحْسَانُ} الرحمن - ٦٠، و قال تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} الدهر - ٢٢، فإطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز.

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي: عن بعض أصحابنا عن الصادق (علیه السلام): سألته: عن السعي 

تفسير الميزان ج۱

387
  •  

  • بين الصفا و المروة فريضة هي أم سنة؟ قال: فريضة، قلت: أ ليس الله يقول: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}؟ قال: كان ذلك في عمرة القضاء، و ذلك أن رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام قال: فأنزل الله‌{إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، أي و الأصنام عليها 

  • أقول: و عن الكافي، ما يقرب منه.

  • و في الكافي، أيضا عن الصادق (علیه السلام) في حديث حج النبي (علیه السلام): بعد ما طاف بالبيت و صلى ركعتيه قال: (صلى الله عليه وآله و سلم) {إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ}، فابدأ بما بدأ الله عز و جل، و إن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا و المروة شي‌ء صنعه المشركون فأنزل الله {إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}.

  • أقول: و لا تنافي بين الروايتين في شأن النزول، و هو ظاهر، و قوله (علیه السلام) في الرواية فابدأ بما بدأ الله ملاك التشريع، و قد مضى في حديث هاجر و سعيها سبع مرات بين الصفا و المروة أن السنة جرت بذلك.

  • و في الدر المنثور: عن عامر الشعبي قال: كان وثن بالصفا يدعى إساف، و وثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما و يمسحون الوثنين فلما قدم رسول الله (علیه السلام) قالوا: يا رسول الله إن الصفا و المروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، و ليس الطواف بهما من الشعائر، فأنزل الله: {إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ} (الآية) فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، و أثبت المروة من جهة الصنم الذي كان عليه موثبا.

  • أقول: و قد روى الفريقان في المعاني السابقة روايات كثيرة.

  • و مقتضى جميع هذه الروايات أن الآية نزلت في تشريع السعي في سنة حج فيها المسلمون، و سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة، و من هنا يستنتج أن الآية غير متحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة فإنها نزلت في السنة الثانية من الهجرة 

تفسير الميزان ج۱

388
  •  

  • كما تقدم، و مع الآيات التي في مفتتح السورة، فإنها نزلت في السنة الأولى من الهجرة فللآيات سياقات متعددة كثيرة، لا سياق واحد.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ١٥٩ الی ١٦٢]

  • {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلْهُدى‌ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي اَلْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاَّعِنُونَ ١٥٩ إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ ١٦٠إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ١٦١ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذَابُ وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ١٦٢}

  • ( بيان )

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلْهُدى‌}، الظاهر - و الله أعلم - أن المراد بالهدى ما تضمنه الدين الإلهي من المعارف و الأحكام الذي يهدي تابعيه إلى السعادة، و بالبينات الآيات و الحجج التي هي بينات و أدلة و شواهد على الحق الذي هو الهدى، فالبينات في كلامه تعالى وصف خاص بالآيات النازلة، و على هذا يكون المراد بالكتمان‌ و هو الإخفاء أعم من كتمان أصل الآية، و عدم إظهاره للناس، أو كتمان دلالته بالتأويل أو صرف الدلالة بالتوجيه، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم، و ما يعلم به الناس يؤولونه بصرفه عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ}، أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان و التبين للناس، لا لهم فقط، و ذلك أن التبين لكل شخص شخص من أشخاص الناس أمر 

تفسير الميزان ج۱

389
  •  

  • لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم، لا في الوحي فقط، بل في كل إعلام عمومي و تبيين مطلق، بل إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة و إلى بعض آخرين بواسطتهم، بتبليغ الحاضر الغائب، و العالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلوغ و أدواته، كاللسان و الكلام: فإذا بين الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم و هو السبب الوحيد الذي عده الله سبحانه سببا لاختلاف الناس في الدين و تفرقهم في سبل الهداية و الضلالة، و إلا فالدين فطري تقبله الفطرة و تخضع له القوة المميزة بعد ما بين لها، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} الروم - ٣٠، فالدين فطري على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبدا لو ظهر لها ظهورا ما بالصفاء من القلب، كما في الأنبياء، أو ببيان قولي، و لا محالة ينتهي هذا الثاني إلى ذلك الأول فافهم ذلك.

  • و لذلك جمع في الآية بين كون الدين فطريا على الخلقة و بين عدم العلم به فقال: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا}، و قال: {لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، و قال تعالى: {وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} البقرة - ٢١٣، فأفاد أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنما هو ناش عن بغي العلماء الحاملين له، فالاختلافات الدينية و الانحراف عن جادة الصواب معلول بغي العلماء بالإخفاء و التأويل و التحريف، و ظلمهم، حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيامة كما قال: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً} الأعراف - ٤٤، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

  • فقد تبين أن الآية مبتنية على الآية أعني، أن قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلْهُدى‌ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي اَلْكِتَابِ} (الآية)، مبتنية على قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الآية)، و مشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها و هو قوله: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللَّهُ} إلخ.

تفسير الميزان ج۱

390
  •  

  • قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاَّعِنُونَ}، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات و الهدى، و هو اللعن من الله، و اللعن من كل لاعن، و قد كرر اللعن لأن اللعن‌ مختلف فإنه من الله التبعيد من الرحمة و السعادة و من اللاعنين سؤاله من الله، و قد أطلق اللعن منه و من اللاعنين و أطلق اللاعنين، و هو يدل على توجيه كل اللعن من كل لاعن إليهم و الاعتبار يساعد عليه فإن الذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة، و لا سعادة بحسب الحقيقة، إلا السعادة الحقيقية الدينية، و هذه السعادة لما كانت مبينة من جانب الله، مقبولة عند الفطرة، فلا يحرم عنها محروم إلا بالرد و الجحود، و كل هذا الحرمان إنما هو لمن علم بها و جحدها عن علم دون من لا يعلم بها و لم تبين له، و قد أخذ الميثاق على العلماء أن يبثوا علمهم و ينشروا ما عندهم من الآيات و الهدى، فإذا كتموه و كفوا عن بثه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون، و يشهد لما ذكرنا الآية الآتية: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ} إلى قوله: {أَجْمَعِينَ} (الآية) فإن الظاهر أن قوله: {إِنَّ} للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه الآية، بتكرار ما هو في مضمونها و معناها و هو قوله: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ}.

  • قوله تعالى: {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا} (الآية) استثناء من الآية السابقة، و المراد بتقييد توبتهم بالتبين أن يتبين أمرهم و يتظاهروا بالتوبة، و لازم ذلك أن يبينوا ما كتموه للناس و أنهم كانوا كاتمين و إلا فلم يتوبوا بعد لأنهم كاتمون بعد بكتمان أنهم كانوا كاتمين.

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ}، كناية عن إصرارهم على كفرهم و عنادهم و تعنتهم في قبول الحق فإن من لا يدين بدين الحق لا لعناد و استكبار بل لعدم تبينه له ليس بكافر بحسب الحقيقة، بل مستضعف، أمره إلى الله، و يشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات و التكذيب و خاصة في آيات هبوط آدم المشتملة على أول تشريع شرع لنوع الإنسان، قال تعالى: {قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} إلى قوله: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة - ٣٩، فالمراد بالذين كفروا في الآية هم المكذبون المعاندون - و هم الكاتمون لما أنزل الله - و جازاهم الله تعالى بقوله:} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، و هذا حكم من الله سبحانه أن يلحق بهم كل لعن لعن به ملك من الملائكة أو أحد من الناس جميعا من غير استثناء، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان،

تفسير الميزان ج۱

391
  •  

  • إذ قال الله سبحانه فيه: {وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلى‌ يَوْمِ اَلدِّينِ} الحجر - ٣٥، فجعل جميع اللعن عليه فهؤلاء - و هم العلماء الكاتمون لعلمهم - شركاء الشيطان في اللعن العام المطلق و نظراؤه فيه، فما أشد لحن هذه الآية و أعظم أمرها! و سيجي‌ء في الكلام على قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‌ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} الأنفال - ٣٧، ما يتعلق بهذا المقام إن شاء الله العزيز.

  • قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا}، أي في اللعنة و قوله: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذَابُ وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ}، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللعنة دلالة على أن اللعنة تتبدل عليهم عذابا.

  • و اعلم أن في هذه الآيات موارد من الالتفات، فقد التفت في الآية الأولى من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللَّهُ}، لأن المقام مقام تشديد السخط، و السخط يشتد إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه - و لا أعظم من الله سبحانه - فنسب إليه اللعن ليبلغ في الشدة كل مبلغ، ثم التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلم وحده بقوله: {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ}، للدلالة على كمال الرحمة و الرأفة، بإلقاء كل نعت و طرح كل صفة و تصدى الأمر بنفسه تعالى و تقدس، فليست الرأفة و الحنان المستفادة من هذه الجملة كالتي يستفاد من قولنا مثلا: فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربهم عليهم، ثم التفت في الآية الثالثة من التكلم وحده إلى الغيبة بقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللَّهِ}، و الوجه فيه نظير ما ذكرناه في الالتفات الواقع في الآية الأولى.

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي، عن بعض أصحابنا عن الصادق (علیه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن قول الله عز و جل: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ} (الآية) قال: نحن نعنى بها - و الله المستعان - إن الواحد منا إذا صارت إليه لم يكن له - أو لم يسعه إلا أن يبين للناس من يكون بعده.

  • و عن الباقر (علیه السلام) في الآية، قال: يعني بذلك نحن، و الله المستعان. 

تفسير الميزان ج۱

392
  •  

  • و عن محمد بن مسلم قال (علیه السلام): هم أهل الكتاب.

  • أقول: كل ذلك من قبيل الجري و الانطباق، و إلا فالآية مطلقة.

  • و في بعض الروايات عن علي (علیه السلام): تفسيره بالعلماء إذا فسدوا.

  • و في المجمع، عن النبي في الآية، قال: من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، و هو قوله: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاَّعِنُونَ}.

  • أقول: و الخبران يؤيدان ما قدمناه.

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى: {وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاَّعِنُونَ}، قال: نحن هم، و قد قالوا: هوام الأرض.

  • أقول: هو إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى: {وَ يَقُولُ اَلْأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلى‌ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ} هود - ١٨، فإنهم الأشهاد المأذونون في الكلام يوم القيامة، و القائلون صوابا، و قوله: و قالوا: هوام الأرض، هو منقول عن المفسرين كمجاهد و عكرمة و غيرهما، و ربما نسب في بعض الروايات إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام): {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلْهُدى‌}، في علي.

  • أقول: و هو من قبيل الجري و الانطباق.

  •  

  • [سورة البقرة (٢): الآیات ١٦٣ الی ١٦٧]

  • {وَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ واحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ اَلرَّحْمَنُ اَلرَّحِيمُ ١٦٣ إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ وَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ

تفسير الميزان ج۱

393
  •  

  • اَلرِّيَاحِ وَ اَلسَّحَابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ١٦٤ وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذَابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعَذَابِ ١٦٥ إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ ١٦٦ وَ قَالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اَللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ اَلنَّارِ ١٦٧}

  • (بيان)

  • الآيات متحدة متسقة ذات نظم واحد و هي تذكر التوحيد و تقيم عليه البرهان و تذكر الشرك و ما ينتهي إليه أمره.

  • قوله تعالى: {وَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، قد مر معنى الإله في الكلام على البسملة من سورة الحمد في أول الكتاب، و أما الوحدة فمفهومها من المفاهيم البديهية التي لا نحتاج في تصورها إلى معرف يدلنا عليها، و الشي‌ء ربما يتصف بالوحدة من حيث وصف من أوصافه، كرجل واحد، و عالم واحد، و شاعر واحد، فيدل به على أن الصفة التي فيه لا تقبل الشركة و لا تعرضها الكثرة، فإن الرجولية التي في زيد مثلا - و هو رجل واحد - ليست منقسمة بينه و بين غيره، بخلاف ما في زيد و عمرو مثلا - و هما رجلان - فإنه منقسم بين اثنين كثير بهما، فزيد من جهة هذه الصفة - و هي الرجولية - واحد لا يقبل الكثرة، و إن كان من جهة هذه الصفة و غيرها من الصفات كعلمه، و قدرته، و حياته، و نحوها ليس بواحد بل كثير حقيقة، و الله سبحانه واحد، من جهة أن 

تفسير الميزان ج۱

394
  •  

  • الصفة التي لا يشاركه فيها غيره، كالألوهية فهو واحد في الألوهية، لا يشاركه فيها غيره تعالى، و العلم و القدرة و الحياة، فله علم لا كالعلوم و قدرة و حياة لا كقدرة غيره و حياته، و واحد من جهة أن الصفات التي له لا تتكثر و لا تتعدد إلا مفهوما فقط، فعلمه و قدرته و حياته جميعها شي‌ء واحد هو ذاته، ليس شي‌ء منها غير الآخر بل هو تعالى يعلم بقدرته و يقدر بحياته و حي بعلمه، لا كمثل غيره في تعدد الصفات عينا و مفهوما، و ربما يتصف الشي‌ء بالوحدة من جهة ذاته، و هو عدم التكثر و التجزي في الذات بذاته، فلا تتجزى إلى جزء و جزء، و إلى ذات و اسم و هكذا، و هذه الوحدة هي المسماة بأحدية الذات، و يدل على هذا المعنى بلفظ أحد، الذي لا يقع في الكلام من غير تقييد بالإضافة إلا إذا وقع في حيز النفي أو النهي أو ما في معناهما كقولنا ما جاءني أحد، فيرتفع بذلك أصل الذات سواء كان واحدا أو كثيرا، لأن الوحدة مأخوذة في أصل الذات لا في وصف من أوصافه بخلاف قولنا: ما جاءني واحد فإن هذا القول لا يكذب بمجي‌ء اثنين أو أزيد لأن الوحدة مأخوذة في صفة الجائي و هو الرجولية في رجل واحد مثلا فاحتفظ بهذا الإجمال حتى نشرحه تمام الشرح في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} الإخلاص - ١، إن شاء الله تعالى.

  • و بالجملة فقوله: {وَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، تفيد بجملته اختصاص الألوهية بالله عز اسمه، و وحدته فيها وحدة تليق بساحة قدسه تبارك و تعالى، و ذلك أن لفظ الواحد بحسب المتفاهم عند هؤلاء المخاطبين لا يدل على أزيد من مفهوم الوحدة العامة التي تقبل الانطباق على أنواع مختلفة لا يليق بالله سبحانه إلا بعضها فهناك وحدة عددية و وحدة نوعية و وحدة جنسية و غير ذلك، فيذهب وهم كل من المخاطبين إلى ما يعتقده و يراه من المعنى، و لو كان قيل: و الله إله واحد، لم يكن فيه توحيد لأن أرباب الشرك يرون أنه تعالى إله واحد، كما أن كل واحد من آلهتهم إله واحد، و لو كان قيل: و إلهكم واحد لم يكن فيه نص على التوحيد، لإمكان أن يذهب الوهم إلى أنه واحد في النوع، و هو الألوهية، نظير ما يقال في تعداد أنواع الحيوان: الفرس واحد، و البغل واحد، مع كون كل منهما متعددا في العدد، لكن لما قيل: و إلهكم إله واحد فأثبت معنى إله واحد - و هو في مقابل إلهين اثنين و آلهة كثيرة - على قوله: إلهكم كان نصا في التوحيد بقصر أصل الألوهية على واحد من الآلهة التي اعتقدوا بها.

تفسير الميزان ج۱

395
  •  

  • قوله تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}، جي‌ء به لتأكيد نصوصية الجملة السابقة في التوحيد و نفي كل توهم أو تأويل يمكن أن يتعلق بها، و النفي فيه نفي الجنس، و المراد بالإله ما يصدق عليه الإله حقيقة و واقعا، و حينئذ فيصح أن يكون الخبر المحذوف هو موجود أو كائن، أو نحوهما، و التقدير لا إله بالحقيقة و الحق بموجود، و حيث كان لفظة الجلالة مرفوعا لا منصوبا فلفظ إلا ليس للاستثناء، بل وصف بمعنى غير، و المعنى لا إله غير الله بموجود.

  • فقد تبين أن الجملة أعني قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}، مسوقة لنفي غير الله من الآلهة الموهومة المتخيلة لا لنفي غير الله و إثبات وجود الله سبحانه، كما توهمه كثيرون، و يشهد بذلك أن المقام إنما يحتاج إلى النفي فقط، ليكون تثبيتا لوحدته في الألوهية لا الإثبات و النفي معا، على أن القرآن الشريف يعد أصل وجوده تبارك و تعالى بديهيا لا يتوقف في التصديق العقلي به، و إنما يعني عنايته بإثبات الصفات، كالوحدة، و الفاطرية، و العلم، و القدرة، و غير ذلك.

  • و ربما يستشكل تقدير الخبر لفظ الموجود أو ما بمعناه أنه يثبت نفي وجود إله غير الله لا نفي إمكانه، فيجاب عنه بأنه لا معنى لفرض موجود ممكن مساوي الوجود و العدم ينتهي إليه وجود جميع الموجودات بالفعل و جميع شئونها، و ربما يجاب عنه بتقدير حق، و المعنى لا معبود حق إلا هو.

  • قوله تعالى: {اَلرَّحْمنُ اَلرَّحِيمُ}، قد مر الكلام في معناهما في تفسير البسملة من سورة الفاتحة و بذكر الاسمين يتم معنى الربوبية، فإليه تعالى ينتهي كل عطية عامة، بمقتضى رحمانيته، و كل عطية خاصة واقعة في طريق الهداية و السعادة الأخروية بمقتضى رحيميته.

  • قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآية، السياق كما مر في أول البيان يدل على أن الآية مسوقة للدلالة و البرهنة على ما تضمنته الآية السابقة أعني قوله تعالى: {وَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ اَلرَّحْمَنُ اَلرَّحِيمُ} (الآية) فإن الآية تنحل بحسب المعنى إلى أن لكل شي‌ء من هذه الأشياء إلها، و أن إله الجميع واحد و أن هذا الإله الواحد هو إلهكم، و أنه رحمن مفيض للرحمة العامة، و أنه رحيم يسوق إلى سعادة 

تفسير الميزان ج۱

396
  •  

  • الغاية - و هي سعادة الآخرة - فهذه حقائق حقة، و {فِي خَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ} إلى آخر ما ذكر في الآية آيات دالة عليها عند قوم يعقلون.

  • و لو كان المراد إقامة الحجة على وجود إله الإنسان أو أن إله الإنسان واحد لما كان الجميع إلا آية واحدة دالة على ذلك من طريق اتصال التدبير، و لكان حق الكلام في الآية السابقة أن يقال: و إلهكم واحد لا إله إلا هو، فالآية مسوق للدلالة على الحجة على وجود الإله و على وحدته بمعنى أن إله غير الإنسان من النظام الكبير واحد و أن ذلك بعينه إله الإنسان.

  • و إجمال الدلالة أن هذه السماوات التي قد علتنا و أظلتنا على ما فيها من بدائع الخلقة، و الأرض التي قد أقلتنا و حملتنا مع عجيب أمرها و سائر ما فيها من غرائب التحولات و التقلبات كاختلاف الليل و النهار، و الفلك الجارية، و الأمطار النازلة، و الرياح المصرفة، و السحب المسخرة أمور مفتقرة في نفسها إلى صانع موجد، فلكل منها إله موجد (و هذا هو الحجة الأولى).

  • ثم إن هذه الأجرام الجوية المختلفة بالصغر و الكبر و البعد و القرب (و قد وجد الواحد في الصغر على ما بلغه الفحص العلمي ما يعادل: ۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰۰٣٣/۰سانتيمتر مكعب و الواحد في الكبر ما يعادل الملايين من حجم الأرض و هو كرة يعادل قطرها ٩٠٠٠ميلا تقريبا، و اكتشف من المسافة بين جرمين علويين ما يقرب من ثلاثة ملايين سنة نورية، و السنة النورية من المسافة تعدل: ٣٦٥*٢٤*٦۰*٦۰*٣۰۰۰۰۰ كيلومتر تقريبا)، فانظر إلى هذه الأرقام التي تدهش اللب و تبهت الفكر و اقض ما أنت قاض في غرابة الأمر و بداعته تفعل البعض منها في البعض، و تنفعل البعض منها عن البعض أينما كانت و كيفما كانت بالجاذبة العامة، و إفاضة النور و الحرارة و تحيا بذلك سنة الحركة العامة و الزمان العمومي، و هذا نظام عام دائم تحت قانون ثابت، حتى أن النسبية العمومية القاضية بالتغير في قوانين الحركة في العالم الجسماني لا تتجافى عن الاعتراف بأن التغيير العمومي أيضا محكوم قانون آخر ثابت في التغير و التحول، ثم إن هذه الحركة و التحول العمومي تتصور في كل جزء من أجزاء العالم بصورة خاصة كما بين الشمس التي 

تفسير الميزان ج۱

397
  •  

  • لعالمنا مع منظومتها ثم تزيد ضيقا في الدائرة كما في أرضنا مع ما يختص بها من الحوادث و الأجرام، كالقمر و الليل و النهار، و الرياح و السحب و الأمطار، ثم تتضيق الدائرة، كما في المكونات الأرضية: من المعادن و النبات و الحيوان و سائر التراكيب، ثم في كل نوع من أنواعها، ثم تتضيق الدائرة حتى تصل النوبة إلى العناصر، ثم إلى الذرات، ثم إلى أجزاء الذرات حتى تصل إلى آخر ما انتهى الفحص العلمي الميسور للإنسان إلى هذا اليوم، و هي الإلكترون، و البروتون، و يوجد هناك نظير المنظومات الشمسية جرم مركزي و أشياء يدور حولها دوران الكواكب على مداراتها التي حول شمسها و سبحها في أفلاكها.

  • ففي أي موقف من هذه المواقف وقف الإنسان شاهد نظاما عجيبا ذا تحولات و تغيرات، يحفظ بها أصل عالمه، و تحيا بها سنة إلهية لا تنفد عجائبه، و لا تنتهي غرائبه، لا استثناء في جريها و إن كان واحدا، و لا اتفاق في طيها و إن كان نادرا شاردا، لا يدرك ساحلها و لا يقطع مراحلها، و كلما ركبت عدة منها أخذا من الدقيق إلى الجليل وجدتها لا تزيد على عالم واحد، ذا نظام واحد و تدبير متصل حتى ينتهي الأمر إلى ما انتهى إليه توسع العلم إلى اليوم بالحس المسلح و الأرصاد الدقيقة، و كلما حللتها و جزيتها راجعا من الكل إلى الجزء حتى تنتهي إلى مثل المليكول وجدته لا تفقد من العالم الواحد شيئا ذا نظام واحد و تدبير متصل، على أن كل اثنين من هذه الموجودات متغاير الواحدين ذاتا و حكما شخصا.

  • فالعالم شي‌ء واحد و التدبير متصل، و جميع الأجزاء مسخرة تحت نظام واحد و إن كثرت و اختلفت أحكامها، و عنت الوجوه للحي القيوم، فإله العالم الموجد له و المدبر لأمره واحد (و هذا هو البرهان الثاني).

  • ثم إن الإنسان الذي هو موجود أرضي يحيا في الأرض و يعيش في الأرض ثم يموت و يرجع إلى الأرض لا يفتقر في شي‌ء من وجوده و بقائه إلى أزيد من هذا النظام الكلي الذي لمجموع هذا العالم المتصل تدبيره، الواحد نظامه، فهذه الأجرام العلوية في إنارتها و تسخينها، و هذه الأرض في اختلاف ليلها و نهارها و رياحها و سحبها و أمطارها و منافعها التي تجري من قطر إلى قطر من رزق و متاع هي التي يحتاج إليها الإنسان في 

تفسير الميزان ج۱

398
  •  

  • حاجته المادية و تدبير وجوده و بقائه - و الله من ورائهم محيط - فإلهها الموجد لها المدبر لأمرها هو إله الإنسان الموجد له و المدبر لأمره (و هذا هو البرهان الثالث).

  • ثم إن هذا الإله هو الذي يعطي كلا ما يحتاج إليه في سعادته الوجودية و ما يحتاج إليه في سعادته في غايته و آخرته لو كان له سعادة أخروية غائية فإن الآخرة عقبى هذه الدار، و كيف يمكن أن يدبر عاقبة الأمر غير الذي يدبر نفس الأمر؟ (و هذا هو البرهان على الاسمين الرحمن الرحيم).

  • و عند هذا تم تعليل الآية الأولى بالثانية و في تصدير الآية بلفظة، إن؛ الدالة على التعليل إشارة إلى ذلك - و الله العالم -.

  • فقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}، إشارة إلى ذوات الأجرام العلوية و الأرض بما تشتمل عليه تراكيبها من بدائع الخلق و عجائب الصنع، من صور تقوم بها أسماؤها، و مواد تتألف منها ذواتها، و تحول بعضها إلى بعض، و نقص أو زيادة تطرؤها، و تركب أو تحلل يعرضها، كما قال: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} الرعد - ٤١، و قال: {أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‌ءٍ حَيٍّ} الأنبياء - ٣٠.

  • قوله تعالى: {وَ اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ}، و هو النقيصة و الزيادة و الطول و القصر العارضان لهما من جهة اجتماع عاملين من العوامل الطبيعية، و هي الحركة اليومية التي للأرض على مركزها و هي ترسم الليل و النهار بمواجهة نصف الكرة و أزيد بقليل دائما مع الشمس فتكتسب النور و تمص الحرارة، و يسمى النهار، و استتار الشمس عن النصف الآخر و أنقص بقليل فيدخل تحت الظل المخروطي و تبقى مظلما و تسمى الليل، و لا يزالان يدوران حول الأرض، و العامل الآخر ميل سطح الدائرة الإستوائية أو المعدل عن سطح المدار الأرضي في الحركة الانتقالية إلى الشمال و الجنوب، و هو الذي يوجب ميل الشمس من المعدل إلى الشمال أو الجنوب الراسم للفصول، و هذا يوجب استواء الليل و النهار في منطقة خط الإستواء و في القطبين، أما القطبان فلهما في كل سنة شمسية تامة يوم و ليلة واحدة كل منهما يعدل نصف السنة، و الليل في قطب الشمال نهار في قطب الجنوب و بالعكس، و أما النقطة الاستوائية فلها في كل سنة شمسية ثلاثمائة و خمس و ستون ليلا و نهارا تقريبا و النهار و الليل فيها متساويان، و أما بقية المناطق 

تفسير الميزان ج۱

399
  •  

  • فيختلف النهار و الليل فيها عددا و في الطول و القصر بحسب القرب من النقطة الاستوائية و من القطبين، و هذا كله مشروح مبين في العلوم المربوطة بها.

  • و هذا الاختلاف هو الموجب لاختلاف ورود الضوء و الحرارة، و هو الموجب لاختلاف العوامل الموجبة لاختلاف حدوث التراكيب الأرضية و التحولات في كينونتها مما ينتفع باختلافها الإنسان انتفاعات مختلفة.

  • قوله تعالى: {وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ}، و الفلك‌ هو السفينة يطلق على الواحد و الجمع، و الفلك و الفلكة كالتمر و التمرة و المراد بما ينفع الناس المتاع و الرزق تنقلها من ساحل إلى ساحل و من قطر من أقطار الأرض إلى قطر آخر.

  • و في عد الفلك في طي الموجودات و الحوادث الطبيعية التي لا دخل لاختيار الإنسان فيها كالسماء و الأرض و اختلاف الليل و النهار دلالة على أنها أيضا تنتهي مثلها إلى صنع الله سبحانه في الطبيعة فإن نسبة الفعل إلى الإنسان بحسب الدقة لا تزيد على نسبة الفعل إلى سبب من الأسباب الطبيعية، و الاختيار الذي يتبجح به الإنسان لا يجعله سببا تاما مستقلا غير مفتقر إلى إرادة الله سبحانه و لا يجعله أقل احتياجا إليه تعالى بالنسبة إلى سائر الأسباب الطبيعية، فلا فرق من حيث الاحتياج إلى إرادة الله سبحانه بين أن يفعل قوة طبيعية في مادة، فتوجد بالفعل و الانفعال و التحريك و التركيب و التحليل صورة من الصور كصورة الحجارة مثلا و بين أن يفعل الإنسان، بالتحريك و التقريب و التبعيد في المادة صورة من الصور كصورة السفينة مثلا في أن الجميع تنتهي إلى صنع الله و إيجاده لا يستقل شي‌ء مستغنيا عنه تعالى في ذاته و فعله.

  • فالفلك أيضا مثل سائر الموجودات الطبيعية تفتقر إلى الإله في وجودها و تفتقر إلى الإله في تدبير أمرها من غير فرق، و قد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله: {وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ} الصافات - ٩٦، حيث حكاه من إبراهيم فيما قاله لقومه في خصوص الأصنام التي اتخذوها آلهة فإن من المعلوم أن الصنم ليس إلا موجودا صناعيا كالفلك التي تجري في البحر، و قال تعالى: {وَ لَهُ اَلْجَوَارِ اَلْمُنْشَآتُ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاَمِ} الرحمن - ٢٤، فعدها ملكا لنفسه، و قال تعالى: {وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} إبراهيم - ٣٢، فعد تدبير أمرها راجعا إليه.

تفسير الميزان ج۱

400
  •  

  • (كلام في استناد مصنوعات الإنسان إلى الله سبحانه)

  • فما أغفل هؤلاء الذين يعدون الصناعيات من الأشياء التي يعملها الإنسان مصنوعة مخلوقة للإنسان مقطوعة النسبة عن إله العالم عز اسمه مستندين إلى أنها مخلوقة لإرادة الإنسان و اختياره.

  • فطائفة منهم و هم أصحاب المادة من المنكرين لوجود الصانع زعموا أن حجة المليين في إثبات الصانع: أنهم وجدوا في الطبيعة حوادث و موجودات جهلوا عللها المادية و لزمهم من جهة القول بعموم قانون العلية و المعلولية في الأشياء و الحوادث أن يحكموا بوجود عللها و هي مجهولة لهم بعد - فأنتج ذلك القول بأن لهذه الحوادث المجهولة العلة علة مجهولة الكنه هي وراء عالم الطبيعة؛ و هو الله سبحانه؛ فالقول بأن الصانع موجود فرضية أوجب افتراضها ما وجده الإنسان الأولي من الحوادث المادية المجهولة العلل كالحوادث الجوية و كثير من الحوادث الأرضية المجهولة العلل، و ما وجده من الحوادث و الخواص الروحية التي لم يكشف العلوم عن عللها المادية حتى اليوم.

  • قالوا: و قد وفق العلوم في تقدمها الحديث لحل المشكل في الحوادث المادية و كشفت عن عللها فأبطلت من هذه الفرضية أحد ركنيها و هو احتياج الحوادث المادية المجهولة العلل إلى علل ورائها، و بقي الركن الآخر و هو احتياج الحوادث الروحية إلى عللها، و انتهاؤها إلى علة مجردة، و تقدم البحث في الكيمياء الآلي جديدا يعدنا وعدا حسنا أن سيطلع الإنسان على علل الروح و يقدر على صنعه الجراثيم الحيوية و تركيب أي موجود روحي و إيجاد أي خاصة روحية، و عند ذلك ينهدم أساس الفرضية المذكورة و يخلق الإنسان في الطبيعة أي موجود شاء من الروحيات كما يخلق اليوم أي شي‌ء شاء من الطبيعيات، و قد كان قبل اليوم لا يرضى أن ينسب الخلق إلا إلى علة مفروضة فيما وراء الطبيعة، حمله على افتراضها الجهل بعلل الحوادث، هذا ما ذكروه.

  • و هؤلاء المساكين لو أفاقوا قليلا من سكرة الغفلة و الغرور لرأوا أن الإلهيين من أول ما أذعنوا بوجود إله للعالم و لن يوجد له أول أثبتوا هذه العلة الموجدة لجميع العالم، و بين أجزائه حوادث معلومة العلل و فيها حوادث مجهولة العلل 

تفسير الميزان ج۱

401
  •  

  • و المجموع من حيث المجموع مفتقر عندهم إلى علة خارجة، فما يثبته أولئك غير ما ينفيه هؤلاء.

  • فالمثبتون - و لم يقدر البحث و التاريخ على تعيين مبدإ لظهورهم في تاريخ حياة النوع الإنساني - أثبتوا لجميع العالم صانعا واحدا أو كثيرا (و إن كان القرآن يثبت تقدم دين التوحيد على الوثنية، و قد بين ذلك الدكتور ماكس موللر الألماني المستشرق صاحب التقدم في حل الرموز السنسكريتية) و هم حتى الإنسان الأولي منهم يشاهدون العلل في بعض الحوادث المادية، فإثباتهم، إلها صانعا لجميع العالم استنادا إلى قانون العلية العام ليس لأجل أن يستريحوا في مورد الحوادث المجهولة العلل حتى ينتج ذلك القول باحتياج بعض العالم إلى الإله و استغناء البعض الآخر عنه، بل لإذعانهم بأن هذا العالم المؤلف من سلسلة علل و معلولات طبيعية بمجموعها و وحدانيتها لا يستغني عن الحاجة إلى علة فوق العلل تتكي عليها جميع التأثيرات و التأثرات الجارية بين أجزائه، فإثبات هذه العلة العالية لا يبطل قانون العلية العام الجاري بين أجزاء العالم أنفسها، و لا وجود العلل المادية في موارد المعلولات المادية تغني عن استناد الجميع إلى علة عالية خارجة من سلسلتها، و ليس معنى الخروج وقوف العلة في رأس السلسلة، بل إحاطتها بها من كل جهة مفروضة.

  • و من عجيب المناقضة في كلام هؤلاء أنهم قائلون في الحوادث و من جملتها الأفعال الإنسانية بالجبر المطلق فما من فعل و لا حادث غيره إلا و هو معلول جبري لعلل عندهم، و هم مع ذلك يزعمون أن الإنسان لو خلق إنسانا آخر كان غير منته إلى علة العالم لو فرض له علة.

  • و هذا المعنى الذي قلنا - على لطفه و دقته و إن لم يقدر على تقريره الفهم العامي الساذج لكنه موجود على الإجمال في أذهانهم حيث قالوا باستناد جميع العالم بأجمعه إلى الإله الصانع و فيه العلل و المعلولات. فهذا أولا.

  • ثم إن البراهين العقلية التي أقامها الإلهيون من الحكماء الباحثين أقاموها بعد إثبات عموم العلية و بنوا فيها على وجوب انتهاء العلل الممكنة إلى علة واجبة الوجود، و استمروا على هذا المسلك من البحث منذ ألوف من السنين من أقدم عهود الفلسفة إلى 

تفسير الميزان ج۱

402
  •  

  • يومنا هذا، و لم يرتابوا في استناد المعلولات التي معها عللها الطبيعية الممكنة إلى علة واجبة، فليس استنادهم إلى العلة الواجبة لأجل الجهل بالعلة الطبيعية، و في المعلولات المجهولة العلل كما يتوهمه هؤلاء، و هذا ثانيا.

  • ثم إن القرآن المثبت لتوحيد الإله إنما يثبته مع تقرير جريان قانون العلية العام بين أجزاء العالم، و تسليم استناد كل حادث إلى علة خاصة به، و تصديق ما يحكم به العقل السليم في ذلك، فإنه يسند الأفعال الطبيعية إلى موضوعاتها و فواعلها الطبيعية و ينسب إلى الإنسان أفعاله الاختيارية في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها، ثم ينسب الجميع إلى الله سبحانه من غير استثناء، قال تعالى: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} الزمر - ٦٢، و قال تعالى: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} المؤمن - ٦٢، و قال تعالى: {أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ} الأعراف - ٥٤، و قال تعالى: {لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} طه - ٥، فكل ما صدق عليه اسم شي‌ء فهو مخلوق لله منسوب إليه على ما يليق بساحة قدسه و كماله، و قد جمع في آيات أخر بين الإثباتين جميعا فنسب الفعل إلى فاعله و إلى الله سبحانه معا كقوله تعالى: {وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ} الصافات - ٩٦، فنسب أعمال الناس إليهم و نسب خلق أنفسهم و أعمالهم إليه تعالى، و قال تعالى: {وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمى‌} الأنفال - ١٧، فنسب الرمي إلى رسول الله و نفاه عنه و نسبه إلى الله تعالى إلى غير ذلك.

  • و من هذا الباب آيات أخر تجمع بين الإثباتين بطريق عام كقوله تعالى: {وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} الفرقان - ٢، و قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} إلى أن قال {وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} القمر - ٥٣، و قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدْراً} الطلاق - ٣، و قال تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر - ٢١، فإن تقدير كل شي‌ء هو جعله محدودا بحدود العلل المادية و الشرائط الزمانية و المكانية.

  • و بالجملة فكون إثبات وجود الإله الواحد في القرآن على أساس إثبات العلية و المعلولية بين جميع أجزاء العالم، ثم استناد الجميع إلى الإله الفاطر الصانع للكل مما لا يعتريه شك و لا ريب لا كما يزعمه هؤلاء من إسناد البعض إلى الله و إسناد الآخر إلى علله المادية المعلومة، و هذا ثالثا.

تفسير الميزان ج۱

403
  •  

  • نعم حملهم على هذا الزعم ما تلقوه: من جمع من أرباب النحل الباحثين عن هذه المسألة و أمثالها في فلسفة عامية كانت تنشرها الكنيسة في القرون الوسطى.

  • أو يعتمد عليها الضعفاء من متكلمي الأديان الأخرى و كانت مؤلفه من مسائل محرفة ما هي بالمسائل، و احتجاجات و استدلالات واهية فاقدة لاستقامة النظر، فهؤلاء لما أرادوا بيان دعواهم الحق (الذي يقضي بصحته إجمالا عقولهم) و نقله من الإجمال إلى التفصيل دفعهم ضعف التعقل و الفكر إلى غير الطريق فعمموا الدعوى، و توسعوا في الدليل، فحكموا باستناد كل معلول مجهول العلة إلى الله سبحانه من غير واسطة، و نفوا حاجة الأفعال الاختيارية إلى علة موجبة، أو احتياج الإنسان في صدور فعله الاختياري إلى الإله تعالى، و استقلاله في فعله، و قد مر البحث عن قولهم في الكلام على قوله تعالى: {وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} البقرة - ٢٦، و نورد هاهنا بعض ما فيه من الكلام.

  • و طائفة منهم - و هم بعض المحدثين و المتكلمين من ظاهريي المسلمين و جمع من غيرهم - لم يقدروا أن يتعقلوا معنى صحيحا لإسناد أفعال الإنسان الاختيارية إلى الله سبحانه على ما يليق بالمقام الربوبي فنفوا استناد مصنوعات الإنسان إليه سبحانه، و بالخصوص فيما وضعه للمعصية خاصة كالخمر و آلات اللهو و القمار و غير ذلك، و قد قال تعالى: {إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} المائدة - ٩٠. و معلوم أن ما عده الله سبحانه عملا للشيطان لا يجوز أن ينسب إليه.

  • و قد مر فيما تقدم ما يظهر به بطلان هذا التوهم نقلا و عقلا، فالأفعال الاختيارية كما أن لها انتسابا إلى الله سبحانه على ما يليق به تعالى كذلك نتائجها و هي الأمور الصناعية التي يصنعها الإنسان لداعي رفع الحوائج الحيوية.

  • على أن الأنصاب الواقعة في الآية السابقة هي الأصنام و التماثيل المنصوبة المعبودة التي ذكر الله سبحانه أنها مخلوقة له في قوله: {وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ}، (الآية) و من هاهنا يظهر أن فيها جهات مختلفة من النسب ينسب من بعضها إلى الله سبحانه و هي طبيعة وجودها مع قطع النظر عن وصف المعصية المتعلق بها، فإن الصنم ليس بحسب الحقيقة إلا حجرا أو فلزا عليه شكل خاص و ليس فيه ما يوجب نفي انتسابه إلى موجد كل شي‌ء، و أما أنه صنم معبود دون الله سبحانه فهذه هي الجهة التي يجب 

تفسير الميزان ج۱

404
  •  

  • نفيها عنه تعالى و نسبتها إلى عمل غيره من شيطان أو إنسان، و كذا حكم غيره من حيث انتسابه إليه تعالى و إلى غيره.

  • فقد تبين من جميع ما مر أن الأمور الصناعية منتسبة إلى الخلقة كاستناد الأمور الطبيعية من غير فرق، نعم يدور الأمر في الانتساب إلى الخلقة مدار حظ الشي‌ء من الوجود فافهم ذلك.

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {وَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}، فإن حقيقته عناصر مختلفة يحملها ماء البحار و غيره ثم يتكاثف بخارا متصاعدا حاملا للحرارة حتى ينتهي إلى زمهرير الهواء فيتبدل ماء متقاطرا على صورة المطر أو يجمد ثانيا فيصير ثلجا أو بردا فينزل لثقله إلى الأرض فتشربه و تحيا به أو تخزنه فيخرج على صورة ينابيع في الأرض بها حياة كل شي‌ء فالماء النازل من السماء حادث من الحوادث الوجودية جار على نظام متقن غاية الإتقان من غير انتقاض و استثناء و يستند إليه انتشاء النبات و تكون الحيوان من كل نوع.

  • و هو من جهة تحدده بما يحفه من حوادث العالم طولا و عرضا تصير معها جميعا شيئا واحدا لا يستغني عن موجد يوجده و علة تظهره فله إله واحد، و من جهة أنه مما يستند إليه وجود الإنسان حدوثا و بقاء يدل على كون إلهه هو إله الإنسان.

  • قوله تعالى: {وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيَاحِ}، و هو توجيهها من جانب إلى جانب بعوامل طبيعية مختلفة، و الأغلب فيها أن الأشعة النورية الواقعة على الهواء من الشمس تتبدل حرارة فيه فيعرضه اللطافة و الخفة لأن الحرارة من عواملها فلا يقدر على حمل ما يعلوه أو يجاوره من الهواء البارد الثقيل فينحدر عليه فيدفعه بشدة فيجري الهواء اللطيف إلى خلاف سمت الدفع و هو الريح، و من منافعه تلقيح النبات و دفع الكثافات البخارية، و العفونات المتصاعدة، و سوق السحب الماطرة و غيرها، ففيه حياة النبات و الحيوان و الإنسان.

  • و هو في وجوده يدل على الإله و في التيامه مع سائر الموجودات و اتحاده معها كما مر يدل على إله واحد للعالم، و في وقوعه طريقا إلى وجود الإنسان و بقائه يدل على أن 

تفسير الميزان ج۱

405
  •  

  • إله الإنسان و غيره واحد.

  • قوله تعالى: {وَ اَلسَّحَابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ}، السحاب‌ البخار المتكاثف الذي منه الأمطار و هو ضباب بالفتح ما لم ينفصل من الأرض فإذا انفصل و علا سمي سحابا و غيما و غماما و غير ذلك، و التسخير قهر الشي‌ء و تذليله في عمله، و السحاب مسخر مقهور في سيره و إمطاره بالريح و البرودة و غيرهما المسلطة عليه بإذن الله، و الكلام في كون السحاب آية نظير الكلام في غيره مما عد معه.

  • و اعلم: أن اختلاف الليل و النهار و الماء النازل من السماء و الرياح المصرفة و السحاب المسخر جمل الحوادث العامة التي منها يتألف نظام التكوين في الأرضيات من المركبات النباتية و الحيوانية و غيرهما فهذه الآية كالتفصيل بوجه لإجمال قوله تعالى: {وَ بَارَكَ فِيهَا وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} فصلت - ١٠.

  • قوله تعالى: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، العقل - و هو مصدر عقل يعقل إدراك الشي‌ء و فهمه التام، و منه العقل اسم لما يميز به الإنسان بين الصلاح و الفساد و بين الحق و الباطل و الصدق و الكذب و هو نفس الإنسان المدرك و ليس بقوة من قواه التي هي كالفروع للنفس كالقوة الحافظة و الباصرة و غيرهما.

  • قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَنْدَاداً}، الند كالمثل وزنا و معنى، و لم يقل من يتخذ لله أندادا كما عبر بذلك في سائر الموارد كقوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} البقرة - ٢٢، و قوله تعالى: {وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} إبراهيم - ٣٠، و غير ذلك لأن المقام مسبوق بالحصر في قوله: {وَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّهُوَ} (الآية)، فكأن من اتخذ لله أندادا قد نقض الحصر من غير مجوز و اتخذ من يعلم أنه ليس بإله إلها اتباعا للهوى و تهوينا لحكم عقله و لذلك نكره تحقيرا لشأنه، فقال {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَنْدَاداً} 

  • معنى الحب و تعلقه بالله تعالى

  • قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، و في التعبير بلفظ يحبونهم دلالة على أن المراد بالأنداد ليس هو الأصنام فقط بل يشمل الملائكة، و أفرادا من الإنسان الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى بل يعم كل مطاع من دون الله من غير أن يأذن الله في إطاعته كما يشهد به ما في ذيل الآيات من قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا} البقرة - ١٦٦، و كما قال تعالى: {وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً 

تفسير الميزان ج۱

406
  •  

  • أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ} آل عمران - ٦٤، و قال تعالى: {اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ} التوبة - ٣١، و في الآية دليل على أن الحب يتعلق بالله تعالى حقيقة خلافا لمن قال: إن الحب - و هو وصف شهواني - يتعلق بالأجسام و الجسمانيات، و لا يتعلق به سبحانه حقيقة و إن معنى ما ورد من الحب له الإطاعة بالايتمار بالأمر و الانتهاء عن النهي تجوزا كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللَّهُ} آل عمران - ٣١.

  • و الآية حجة عليهم فإن قوله تعالى: {أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} يدل على أن حبه تعالى يقبل الاشتداد، و هو في المؤمنين أشد منه في المتخذين لله أندادا، و لو كان المراد بالحب هو الإطاعة مجازا كان المعنى و الذين آمنوا أطوع لله و لم يستقم معنى التفضيل لأن طاعة غيرهم ليست بطاعة عند الله سبحانه فالمراد بالحب معناه الحقيقي.

  • و يدل عليه أيضا قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ} التوبة - ٢٥، فإنه ظاهر في أن الحب المتعلق بالله و الحب المتعلق برسوله و الحب المتعلق بالآباء و الأبناء و الأموال و غيرها جميعا من سنخ واحد لمكان قوله أحب إليكم، و أفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضل و المفضل عليه في أصل المعنى و اختلافهما من حيث الزيادة و النقصان.

  • ثم إن الآية ذم المتخذين للأنداد بقوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللَّهِ} ثم مدح المؤمنين بأنهم أشد حبا لله سبحانه فدل التقابل بين الفريقين على أن ذمهم إنما هو لتوزيعهم المحبة الإلهية بين الله و بين الأنداد الذين اتخذوهم أندادا. و هذا و إن كان بظاهره يمكن أن يستشعر منه أنهم لو وضعوا له سبحانه سهما أكثر لم يذموا على ذلك لكن ذيل الآية ينفي ذلك فإن قوله: {إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذَابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}، و قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ}، و قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اَللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}، يشهد بأن الذم لم يتوجه إلى الحب من حيث إنه حب بل من جهة لازمه الذي هو الاتباع و كان هذا الاتباع منهم لهم لزعمهم أن لهم قوة يتقوون بها لجلب محبوب أو دفع مكروه عن أنفسهم فتركوا بذلك اتباع الحق من أصله أو في بعض الأمر، و ليس من اتبع الله في بعض أمره دون بعض بمتبع له و حينئذ يندفع الاستشعار المذكور، و يظهر أن هذا الحب يجب أن لا يكون لله فيه سهيم و إلا فهو الشرك و اشتداد هذا الحب ملازم لانحصار التبعية من أمر الله، و لذلك مدح المؤمنين 

تفسير الميزان ج۱

407
  •  

  • بذلك في قوله {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}

  • و إذ كان هذا المدح و الذم متعلقا بالحب من جهة أثره الذي هو الاتباع فلو كان الحب للغير بتعقيب إطاعة الله تعالى في أمره و نهيه لكون الغير يدعو إلى طاعته تعالى - ليس له شأن دون ذلك - لم يتوجه إليه ذم البتة كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ}- إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ} التوبة - ٢٤، فقرر لرسوله حبا كما قرره لنفسه لأن حبه (علیه السلام) حب الله تعالى فإن أثره و هو الاتباع عين اتباع الله تعالى فإن الله سبحانه هو الداعي إلى إطاعة رسوله و الأمر باتباعه، قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ} النساء - ٦٤، و قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللَّهُ}و كذلك اتباع كل من يهتدي إلى الله باتباعه كعالم يهدي بعلمه أو آية تعين بدلالته و قرآن يقرب بقراءته و نحو ذلك فإنها كلها محبوبة بحب الله و اتباعها طاعة تعد مقربة إليه.

  • فقد بان بهذا البيان أن من أحب شيئا من دون الله ابتغاء قوة فيه فاتبعه في تسبيبه إلى حاجة ينالها منه أو اتبعه بإطاعته في شي‌ء لم يأمر الله به فقد اتخذ من دون الله أندادا و سيريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، و أن المؤمنين هم الذين لا يحبون إلا الله و لا يبتغون قوة إلا من عند الله و لا يتبعون غير ما هو من أمر الله و نهيه فأولئك هم المخلصون لله دينا.

  • و بان أيضا أن حب من حبه من حب الله و اتباعه اتباع الله كالنبي و آله و العلماء بالله، و كتاب الله و سنة نبيه و كل ما يذكر الله بوجه إخلاص لله ليس من الشرك المذموم في شي‌ء، و التقرب بحبه و اتباعه تقرب إلى الله، و تعظيمه بما يعد تعظيما من تقوى الله، قال تعالى: {وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اَللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ} الحج - ٣٢ و الشعائر هي العلامات الدالة، و لم يقيد بشي‌ء مثل الصفا و المروة و غير ذلك، فكل ما هو من شعائر الله و آياته و علاماته المذكرة له فتعظيمه من تقوى الله و يشمله جميع الآيات الآمرة بالتقوى.

  • نعم لا يخفى لذي مسكة أن إعطاء الاستقلال لهذه الشعائر و الآيات في قبال الله و اعتقاد أنها تملك لنفسها أو غيرها نفعا أو ضرا أو موتا أو حياة أو نشورا إخراج لها 

تفسير الميزان ج۱

408
  •  

  • عن كونها شعائر و آيات و إدخال لها في حظيرة الألوهية و شرك بالله العظيم، و العياذ بالله تعالى.

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذَابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعَذَابِ}، ظاهر السياق أن قوله: {إِذْ} مفعول يرى، و أن قوله: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ} إلى آخر الآية، بيان للعذاب، و {لَوْ} للتمني. و المعنى ليتهم يرون في الدنيا يوما يشاهدون فيه العذاب فيشاهدون أن القوة لله جميعا و قد أخطئوا في إعطاء شي‌ء منه لأندادهم و أن الله شديد في عذابه، و إذاقته عاقبة هذا الخطأ فالمراد بالعذاب في الآية على ما يبينه ما يتلوه - مشاهدتهم الخطأ في اتخاذهم أندادا يتوهم قوة فيه و مشاهدة عاقبة هذا الخطأ و يؤيده الآيتان التاليتان: {إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا} فلم يصل من المتبوعين إلى تابعيهم نفع كانوا يتوقعونه و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب فلم يبق تأثير لشي‌ء دون الله ‌{وَ قَالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}، و هو تمني الرجوع إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} أي من الأنداد المتبوعين في الدنيا {كَمَا تَبَرَّؤُا مِنَّا} في الآخرة{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اَللَّهُ} أي الذين ظلموا باتخاذ الأنداد {أَعْمالَهُمْ}، و هي حبهم و اتباعهم لهم في الدنيا حالكونها{حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ اَلنَّارِ}

  • قوله تعالى: {وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ اَلنَّارِ}، فيه حجة على القائلين بانقطاع العذاب من طريق الظواهر.

  • (بحث روائي)

  • في الخصال، و التوحيد، و المعاني، عن شريح بن هاني قال: إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال يا أمير المؤمنين أ تقول إن الله واحد؟ قال فحمل الناس عليه، فقالوا: يا أعرابي أ ما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب؟ فقال أمير المؤمنين: دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: (علیه السلام) يا أعرابي إن القول: في أن الله واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على الله تعالى، و وجهان يثبتان فيه فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد فهذا لا يجوز لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أ ما ترى أنه كفر من قال إنه ثالث ثلاثة؟ و قول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه و جل ربنا و تعالى عن ذلك، و أما الوجهان اللذان يثبتان فيه 

تفسير الميزان ج۱

409
  •  

  • فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربنا، و قول القائل إنه عز و جل أحدي المعنى يعني به: أنه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم كذلك ربنا.

  • أقول: و الوجهان اللذان أثبتهما (علیه السلام) كما ترى منطبق على ما ذكرناه في بيان قوله تعالى: {وَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الآية).

  • و قد تكرر في الخطب المروية عن علي (علیه السلام) و الرضا (علیه السلام) و غيرهما من أئمة أهل البيت: قولهم: إنه واحد لا بالعدد الخطبة، و هو ما مر من معنى صرافة ذاته الآبية عن العدد،

  • و في دعاء الصحيفة الكاملة: لك وحدانية العدد الدعاء، و يحمل على الملكية أي أنت تملك وحدانية العدد دون الاتصاف فإن العقل و النقل ناهضان على أن وجوده سبحانه صرف لا يتثنى و لا يتكرر بذاته و حقيقته.

  • و في الكافي، و الاختصاص، و تفسير العياشي، عن الباقر (علیه السلام): في قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَنْدَاداً} (الآية) في حديث قال: هم و الله يا جابر أئمة الظلمة و أشياعهم، و في رواية العياشي: و الله يا جابر هم أئمة الظلم و أشياعهم.

  • أقول: و قد اتضح معناه بما مر من البيان و تعبيره (علیه السلام) بأئمة الظلم لمكان قوله تعالى: {وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا}، فعد التابعين المتخذين للأنداد ظلمة فيكون متبوعوهم أئمة الظلمة و أئمة الظلم.

  • و في الكافي، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اَللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} (الآية) قال: هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل في طاعة الله أو في معصية الله فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة و قد كان المال له و إن كان عمل به في معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية؟ الله.

  • أقول: و روى هذا المعنى العياشي و الصدوق و المفيد و الطبرسي عن الباقر و الصادق (علیه السلام) و هو ناظر إلى التوسعة في معنى الأنداد و هو كذلك كما تقدم.

  • (بحث فلسفي) معنى الحب و تعلقه بالله تعالى

  • من المعاني الوجدانية التي عندنا معنى نسميه بالحب كما في موارد حب الغذاء 

تفسير الميزان ج۱

410
  •  

  • و حب النساء و حب المال و حب الجاه و حب العلم، هذه مصاديق خمسة لا نشك في وجودها فينا، و لا نشك أنا نستعمل لفظ الحب فيها بمعنى واحد على سبيل الاشتراك المعنوي دون اللفظي، و لا شك أن المصاديق مختلفة، فهل هو اختلاف نوعي أو غير ذلك.

  • إذا دققنا النظر في حب ما هو غذاء كالفاكهة مثلا وجدناه محبوبا عندنا لتعلقه بفعل القوة الغاذية، و لو لا فعل هذه القوة و ما يحوزه الإنسان بها من الاستكمال البدني لم يكن محبوبا و لا تحقق حب، فالحب بحسب الحقيقة بين القوة الغاذية و بين فعلها، و ما تجده عند الفعل من اللذة، و لسنا نعني باللذة لذة الذائقة فإنها من خوادم الغاذية و ليست نفسها، بل الرضى الخاص الذي تجده القوة بفعلها، ثم إذا اختبرنا حال حب النساء وجدنا الحب فيها يتعلق بالحقيقة بالوقاع، و تعلقه بهن ثانيا و بالتبع، كما كان حب الغذاء متعلقا بنفس الغذاء ثانيا و بالتبع، و الوقاع أثر القوة المودعة في الحيوان، كما كان التغذي كذلك أثرا لقوة فيه، و من هنا يعلم أن هذين الحبين يرجعان إلى مرجع واحد و هو تعلق وجودي بين هاتين القوتين و بين فعلهما أي كمالهما الفعلي.

  • و من المحتمل حينئذ أن يكون الحب هو التعلق الخاص بهذين الموردين و لا يوجد في غير موردهما لكن الاختبار بالآثار يدفع ذلك، فإن لهذا التعلق المسمى حبا أثرا في المتعلق (اسم فاعل) و هو حركة القوة و انجذابها نحو الفعل إذا فقدته و تحرجها عن تركه إذا وجدته، و هاتان الخاصتان أو الخاصة الواحدة نجدها موجودة في مورد جميع القوى الإدراكية التي لنا و أفعالها و إن قوتنا الباصرة و السامعة و الحافظة و المتخيلة و غيرها من القوى و الحواس الظاهرية و الباطنية جميعها - سواء كانت فاعلة أو منفعلة - على هذه الصفة فجميعها تحب فعلها و تنجذب إليها و ليس إلا لكون أفعالها كمالات لها يتم بها نقصها و حاجتها الطبيعية، و عند ذلك يتضح الأمر في حب المال و حب الجاه و حب العلم فإن الإنسان يستكمل نوع استكمال بالمال و الجاه و العلم.

  • و من هنا يستنتج أن الحب تعلق خاص و انجذاب مخصوص شعوري بين الإنسان و بين كماله، و قد أفاد التجارب الدقيقة بالآثار و الخواص أنه يوجد في الحيوان غير الإنسان، و قد تبين أن ذلك لكون المحب فاعلا أو منفعلا عما يحبه من الفعل و الأثر و متعلقا بتبعه بكل ما يتعلق به كما مر في حديث الأكل و الفاكهة، و غير الحيوان أيضا 

تفسير الميزان ج۱

411
  •  

  • كالحيوان إذا كان هناك استكمال أو إفاضة لكمال مع الشعور.

  • و من جهة أخرى لما كان الحب تعلقا وجوديا بين المحب و المحبوب كانت رابطة قائمة بينهما فلو كان المعلول الذي يتعلق به حب علته موجودا ذا شعور وجد حب علته في نفسه لو كان له نفس و استقلال جوهري.

  • و يستنتج من جميع ما مر: أولا: أن الحب تعلق وجودي و انجذاب خاص بين العلة المكملة أو ما يشبهها و بين المعلول المستكمل أو ما يشبهه، و من هنا كنا نحب أفعالنا لاستكمالنا بها و نحب ما يتعلق به أفعالنا كغذاء نتغذى به، أو زوج نتمتع بها، أو مال نتصرف فيه، أو جاه نستفيد به، أو منعم ينعم علينا، أو معلم يعلمنا، أو هاد يهدينا أو ناصر ينصرنا، أو متعلم يتعلم منا، أو خادم يخدمنا، أو أي مطيع يطيعنا و ينقاد لنا، و هذه أقسام من الحب بعضها طبيعي و بعضها خيالي و بعضها عقلي.

  • و ثانيا: أن الحب ذو مراتب مختلفة من الشدة و الضعف فإنه رابطة وجودية - و الوجود مشكك في مراتبه - و من المعلوم أن التعلق الوجودي بين العلة التامة و معلولها ليس كالتعلق الكائن بين العلل الناقصة و معلولاتها، و أن الكمال الذي يتعلق بواسطته الحب مختلف من حيث كونه ضروريا أو غير ضروري، و من حيث كونه ماديا كالتغذي أو غير مادي كالعلم، و به يظهر بطلان القول باختصاصه بالماديات حتى ذكر بعضهم: أن أصله حب الغذاء، و غيره ينحل إليه، و ذكر آخرون: أن الأصل في بابه حب الوقاع، و غيره راجع إليه.

  • و ثالثا: أن الله سبحانه أهل للحب بأي جهة فرضت فإنه تعالى في نفسه موجود ذو كمال غير متناه و أي كمال فرض غيره فهو متناه، و المتناهي متعلق الوجود بغير المتناهي و هذا حب ذاتي مستحيل الارتفاع، و هو تعالى خالق لنا منعم علينا بنعم غير متناهية العدة و المدة فنحبه كما نحب كل منعم لإنعامه.

  • و رابعا: أن الحب لما كانت رابطة وجودية - و الروابط الوجودية غير خارجة الوجود عن وجود موضوعها و من تنزلاته - أنتج ذلك أن كل شي‌ء فهو يحب ذاته، و قد مر أنه يحب ما يتعلق بما يحبه فيحب آثار وجوده، و من هنا يظهر أن الله سبحانه يحب خلقه لحب ذاته، و يحب خلقه لقبولهم إنعامه عليهم، و يحب خلقه لقبولهم هدايته.

تفسير الميزان ج۱

412
  •  

  • و خامسا: أن لزوم الشعور و العلم في مورد الحب إنما هو بحسب المصداق و إلا فالتعلق الوجودي الذي هو حقيقة الحب لا يتوقف عليه من حيث هو، و من هنا يظهر أن القوى و المبادي الطبيعية غير الشاعرة لها حب بآثارها و أفعالها.

  • و سادسا: يستنتج مما مر أن الحب حقيقة سارية في الموجودات.

  • (بحث فلسفي آخر) دوام العذاب و انقطاعه

  • مسألة انقطاع العذاب و الخلود مما اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقلي و من جهة الظواهر اللفظية.

  • و الذي يمكن أن يقال: أما من جهة الظواهر، فالكتاب نص في الخلود، قال تعالى: {وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ اَلنَّارِ}(الآية) و السنة من طرق أئمة أهل البيت مستفيضة فيه، و قد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع و نفي الخلود، و هي مطروحة بمخالفة الكتاب.

  • و أما من جهة العقل فقد ذكرنا فيما تقدم من البحث في ذيل قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} البقرة - ٤٨، أن الاستدلال على خصوصيات ما جاء به الشرع في المعاد بالمقدمات الكلية العقلية غير مقدور لنا لأن العقل لا ينال الجزئيات، و السبيل فيه تصديق ما جاء به النبي الصادق من طريق الوحي للبرهان على صدقه.

  • و أما النعمة و العذاب العقليان الطارئان على النفس من جهة تجردها و تخلقها بأخلاق و ملكات فاضلة أو ردية أو اكتسائها و تلبسها بأحوال حسنة جميلة أو قبيحة فقد عرفت أن هذه الأحوال و الملكات تظهر للنفس بما لها من صورة القبح أو الحسن فتنعم بما هي حسنة منها إن كانت ذاتها سعيدة و تعذب بما هي قبيحة مشوهة منها، سواء كانت ذاتها سعيدة أو شقية.

  • و أن ما كانت من هذه الصور صورا غير راسخة للنفس و غير ملائمة لذاتها فإنها ستزول لأن القسر لا يكون دائميا و لا أكثريا، و هذه النفس هي النفس السعيدة ذاتا و عليها هيآت شقية ردية ممكنة الزوال عنها كالنفس المؤمنة المجرمة، و هذا كله ظاهر.

تفسير الميزان ج۱

413
  •  

  • و أما الهيآت الردية التي رسخت في النفس حتى صارت صورا أو كالصور الجديدة تعطي للشي‌ء نوعية جديدة كالإنسان البخيل الذي صار البخل صورة لإنسانيته كما صار النطق لحيوانيته الصائرة به نوعا جديدا تحت الحيوان فالإنسان البخيل أيضا نوع جديد تحت الإنسان، فمن المعلوم أن هذا النوع نوع مجرد في نفسه دائمي الوجود، و جميع ما كان يصدر عنه بالقسر حال عدم الرسوخ فيعذب به و يذوق وبال أمره فهي تصدر عن هذا النوع بإذن الله من غير قسر إلا أنها لما كانت صادرة عن نوعيته من غير قسر فهي دائمة من غير زوال بخلاف ما لو كانت حاصلة بالقسر، و مثل هذا الإنسان المعذب بلوازم ملكاته من وجه مثل من ابتلي بمرض الماليخوليا أو الكابوس المستمر فإنه لا يزال يصدر عن قوة تخيله صور هائلة أو مشوهة يعذب بها و هو نفسه هو الذي يوجدها من غير قسر قاسر و لو لم تكن ملائمة لطبعه المريض ما أوجدها فهو و إن لم تكن متألما من حيث انتهاء الصدور إليه نفسه لكنه معذب بها من حيث إن العذاب ما يفر منه الإنسان إذا لم يبتل به بعد و يحب التخلص عنه إذا ابتلي به و هذا الحد يصدق على الأمور المشوهة و الصور غير الجميلة التي تستقبل الإنسان الشقي في دار آخرته، فقد بان أن العذاب خالد غير منقطع عن الإنسان الشقي الذي لذاته شقوة لازمة.

  • و قد استشكل هاهنا بإشكالات واضحة السقوط بينة الفساد: مثل أن الله سبحانه ذو رحمة واسعة غير متناهية فكيف يسع رحمته أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد لا يقوم له شي‌ء؟ و مثل أن العذاب إنما يكون عذابا إذا لم يلائم الطبع فيكون قسرا و لا معنى للقسر الدائم فكيف يصح وجود عذاب دائم؟

  • و مثل أن العبد لم يذنب إلا ذنبا منقطع الآخر فكيف يجازى بعذاب دائم؟

  • و مثل أن أهل الشقاء لا يقصر خدمتهم لنظام التكوين عن خدمات أهل السعادة.

  • و لولاهم لم تتحقق سعادة لسعيد فما هو الموجب لوقوعهم في عذاب مخلد؟

  • و مثل أن العذاب للمتخلف عن أوامر الله و نواهيه انتقام و لا يكون الانتقام إلا لجبر النقص الذي أورده العاصي الظالم على المنتقم المقتدر، و لا يجوز ذلك على الله تعالى فهو الغني المطلق فكيف يجوز منه العذاب و خاصة العذاب المخلد؟

تفسير الميزان ج۱

414
  •  

  • فهذه و أمثالها وجوه من الإشكال أوردوها على خلود العذاب و عدم انقطاعه.

  • و أنت بالإحاطة بما بيناه من معنى خلود العذاب تعرف أنها ساقطة من رأس، فإن العذاب الخالد أثر و خاصة لصورة الشقاء الذي لزمت الإنسان الشقي فتصور ذاته بها بعد تمامية الاستعداد الشديد الذي حصل في ذاته القابلة لها بواسطة الأحوال العارضة لها المنتهية إلى اختياره، و اشتداد الاستعداد التام هو الذي يوجب في جميع الحوادث إفاضة الصورة المناسبة لسنخ الاستعداد، فكما لا يجوز السؤال عن علة تحقق الأفعال الإنسانية بعد ورود الصورة الإنسانية على المادة لوجود العلة التي هي الصورة الإنسانية كذلك لا معنى للسؤال عن لمية ترتب آثار الشقاء اللازم، و منها العذاب المخلد بعد تحقق صورة الشقاء اللازم، المنتهية إلى الاختيار فإنها آثارها و خواصها فبطلت السؤالات جميعا، فهذا هو الجواب الإجمالي عنها.

  • و أما تفصيلا: فالجواب عن الأول: أن الرحمة فيه تعالى ليس بمعنى رقة القلب و الإشفاق و التأثر الباطني فإنها تستلزم المادة - تعالى عن ذلك -، بل معناها العطية و الإفاضة لما يناسب الاستعداد التام الحاصل في القابل، فإن المستعد بالاستعداد التام الشديد يحب ما يستعد له و يطلبه و يسأله بلسان استعداده فيفاض عليه ما يطلبه و يسأله، و الرحمة رحمتان: رحمة عامة، و هي إعطاء ما يستعد له الشي‌ء و يشتاقه في صراط الوجود و الكينونة، و رحمة خاصة، و هي إعطاء ما يستعد الشي‌ء في صراط الهداية إلى التوحيد و سعادة القرب و إعطاء صورة الشقاء اللازم الذي أثره العذاب الدائم للإنسان المستعد له باستعداده الشديد لا ينافي الرحمة العامة بل هو منها، و أما الرحمة الخاصة فلا معنى لشمولها لمن هو خارج عن صراطها، فقول القائل: إن العذاب الدائم ينافي الرحمة إن أراد به الرحمة العامة فليس كذلك بل هو من الرحمة العامة، و إن أراد به الرحمة الخاصة فليس كذلك لكونه ليس موردا لها، على أن الإشكال لو تم لجرى في العذاب المنقطع أيضا حتى أنواع العذاب الدنيوي، و هو ظاهر.

  • و الجواب عن الثاني: أنه ينبغي أن يحرر معنى عدم ملاءمة الطبع فإنه تارة بمعنى عدم السنخية بين الموضوع و الأثر الموجود عنده و هو الفعل القسري الذي يصدر 

تفسير الميزان ج۱

415
  •  

  • عن قسر القاسر و يقابله الأثر الملائم الذي يصدر عن طبع الشي‌ء إذا اقترن به آفات ثم رسخت فيه فصارت صورة في الشي‌ء و عاد الشي‌ء يطلبه بهذا الوجود و هو في عين الحال لا يحبه كما مثلنا فيه من مثال الماليخوليائي فهذه الآثار ملائمة لذاته من حيث صدورها عن طبعه الشقي الخبيث، و الآثار الصادرة عن الطباع ملائمة، و هي بعينها عذاب لصدق حد العذاب عليها لكون الشي‌ء لا يرتضيها فهي غير مرضية من حيث الذوق و الوجدان في عين كونها مرضية من حيث الصدور.

  • و الجواب عن الثالث: أن العذاب في الحقيقة ترتب أثر غير مرضي على موضوعه الثابت حقيقة، و هو صورة الشقاء فهذا الأثر معلول الصورة الحاصلة بعد تحقق علل معدة، و هي المخالفات المحدودة، و ليس معلولا لتلك العلل المعدة المحدودة حتى يلزم تأثير المتناهي أثرا غير متناه و هو محال، و نظيره أن عللا معدة و مقربات معدودة محدودة أوجبت أن تتصور المادة بالصورة الإنسانية فيصير إنسانا يصدر عنه آثار الإنسانية المعلولة للصورة المذكورة، و لا معنى لأن يسأل و يقال: إن الآثار الإنسانية الصادرة عن الإنسان بعد الموت صدورا دائميا سرمديا لحصول معدات محدودة مقطوعة الأمر للمادة فكيف صارت مجموع منقطع الآخر من العلل سببا لصدور الآثار المذكورة و بقائها مع الإنسان دائما لأن علتها الفاعلة - و هي الصورة الإنسانية - موجودة معها دائما على الفرض، فكما لا معنى لهذا السؤال لا معنى لذلك أيضا.

  • و الجواب عن الرابع: أن الخدمة و العبودية أيضا مثل الرحمة على قسمين: عبودية عامة، و هو الخضوع و الانفعال الوجودي عن مبدإ الوجود، و عبودية خاصة و هو الخضوع و الانقياد في صراط الهداية إلى التوحيد، و لكل من القسمين جزاء يناسبه و أثر يترتب عليه و يخصه من الرحمة، فالعبودية العامة في نظام التكوين جزاؤه الرحمة العامة، و النعمة الدائمة و العذاب الدائم كلاهما من الرحمة العامة، و العبودية الخاصة جزاؤه الرحمة الخاصة، و هي النعمة و الجنة و هو ظاهر، على أن هذا الإشكال لو تم لورد في مورد العذاب المنقطع الأخروي بل الدنيوي أيضا.

  • و الجواب عن الخامس: أن العذاب الدائم مستند إلى صورة الشقاء الذي في الإنسان كما عرفت، و إلى الله سبحانه بالمعنى الذي يقال: في كل موجود: أنه مستند إليه تعالى لا بمعنى الانتقام و تشفي الصدر المستحيل عليه تعالى، نعم الانتقام بمعنى 

تفسير الميزان ج۱

416
  •  

  • الجزاء الشاق و الأثر السيئ الذي يجزي به المولى عبده في مقابل تعديه عن طور العبودية، و خروجه عن ساحة الانقياد إلى عرصة التمرد و المخالفة مما يصدق فيه تعالى لكن لا يستلزم كون العذاب انتقاما بهذا المعنى إشكالا البتة.

  • على أن هذا الإشكال أيضا لو تم لورد في مورد العذاب الموقت المنقطع في الآخرة بل في الدنيا أيضا

  • (بحث قرآني و روائي متمم للبحث السابق)

  • اعلم أن هذا الطريق من الاستدلال على رد الشبهة المذكورة مما استعمل في الكتاب و السنة أيضا، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَ مَنْ أَرَادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى‌ لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} إسراء - ٢٠، فالآية كما ترى يجعل العذاب و الشكر كليهما من العطية و الرحمة و تجعل تحقق كل منهما مرتبطة بإرادة العبد و سعيه و هذا بعينه الطريق الذي سلكناه في أصل المسألة و دفع الإشكالات عنها و هناك آيات أخر في هذا المعنى سنتكلم فيها في مواردها، إن شاء الله تعالى

  •  

  • سورة البقرة (٢):[ الآیات ١٦٨ الی ١٧١]

  • {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي اَلْأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَ لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ١٦٨ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ اَلْفَحْشَاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ١٦٩ وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَهْتَدُونَ ١٧٠وَ مَثَلُ اَلَّذِين

تفسير الميزان ج۱

417
  •  

  • كَفَرُوا كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَ نِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ١٧١}

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي اَلْأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} إلى آخر الآيتين، الحلال‌ مقابل الحرام الممنوع اقتحامه، و الحل‌ مقابل الحرمة، و الحل مقابل حرم، و الحل مقابل العقد، و هو في جميع موارد استعماله يعطي معنى حرية الشي‌ء في فعله و أثره، و الطيب مقابل الخبيث - ما يلائم النفس و الشي‌ء، كالطيب من القول لملاءمته السمع، و الطيب من العطر يلائم الشامة، و الطيب من المكان يلائم حال المتمكن فيه.

  • و الخطوات‌ بضمتين جمع خطوة، و هي ما بين القدمين للماشي، و قرئ خطوات بفتحتين و هي جمع خطوة و هي المرة، و خطوات الشيطان هي الأمور التي نسبته إلى غرض الشيطان - و هو الإغواء بالشرك - نسبة خطوات الماشي إلى مقصده و غرضه، فهي الأمور التي هي مقدمات للشرك و البعد من الله سبحانه، و الأمر هو تحميل الآمر إرادة نفسه على المأمور ليأتي ما يريده، و الأمر من الشيطان وسوسته و تحميله ما يريده من الإنسان عليه بإخطاره في قلبه و تزيينه في نظره و السوء ما ينافره الإنسان و يستقبحه بنظر الاجتماع فإذا جاوز حده و تعدى طوره كان فحشاء و لذلك سمي الزنا بالفحشاء و هو مصدر كالسراء و الضراء.

  • و قد عمم تعالى الخطاب لجميع الناس لأن الحكم الذي يقرعه سمعهم و يبينه لهم مما يبتلى به الكل، أما المشركون: فقد كان عندهم أمور مما حرموه على أنفسهم افتراء على الله كما روي أن ثقيفا و خزاعة و بني عامر بن صعصعة و بني مدلج كانوا قد حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث و الأنعام و البحيرة و السائبة و الوصيلة، هذا في العرب، و في غيرهم أيضا يوجد أشياء كثيرة من هذا القبيل، و أما المؤمنون: فربما كان يبقى بعد الإسلام بينهم أمور خرافية طبق ناموس توارث الأخلاق و الآداب القومية و السنن المنسوخة بنواسخ غير تدريجية كالأديان و القوانين و غيرهما فإن كل طريقة جديدة دينية 

تفسير الميزان ج۱

418
  •  

  • أو دنيوية إذا نزلت بدار قوم فإنما تتوجه أول ما تتوجه إلى أصول الطريقة القديمة و أعراقها فتقطعه فإن دامت على حياتها و قوتها - و ذلك بحسن التربية و حسن القبول - أماتت الفروع و قطعت الأذناب و إلا فاختلطت بقايا من القديمة بالحديثة و التأمت بها و صارت كالمركب النباتي، ما هو بهذا و لا ذاك.

  • فأمر تعالى الناس أن يأكلوا مما في الأرض، و الأكل هو البلع عن مضغ و ربما يكنى بالأكل عن مطلق التصرف في الأموال لكون الأكل هو الأصل في أفعال الإنسان و الركن في حياته كما قال تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} النساء - ٢٩، و الآية لا تأبى الحمل على هذا المعنى الوسيع لإطلاقها، و المعنى كلوا و تصرفوا و تمتعوا مما في الأرض من النعم الإلهية التي هيأته لكم طبيعة الأرض بإذن الله و تسخيره أكلا حلالا طيبا، أي لا يمنعكم عن أكله أو التصرف فيه مانع من قبل طبائعكم و طبيعة الأرض، كالذي لا يقبل بطبعه الأكل، أو الطبع لا يقبل أكله، و لا تنفر طبائعكم عن أكله مما يقبل الطبع أكله لكن ينافره و يأبى عنه السليقة كالأكل الذي توسل إليه بوسيلة غير جائزة.

  • فقوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي اَلْأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً}، يفيد الإباحة العامة من غير تقييد و اشتراط فيه إلا أن قوله {وَ لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ}، إلخ يفيد: أن هاهنا أمورا تسمى خطوات الشيطان - متعلقة بهذا الأكل الحلال الطيب - إما كف عن الأكل اتباعا للشيطان، و إما إقدام عليه اتباعا للشيطان، ثم ذكر ضابط ما يتبع فيه الشيطان بأنه سوء و فحشاء، و قول ما لا يعلم على الله سبحانه و إذا كان الكف غير جائز إلا برضى من الله تعالى فالفعل أيضا كذلك فليس الأكل مما في الأرض حلالا طيبا إلا أن يأذن الله تعالى و يشرعه و قد شرعه بهذه الآية و نظائرها و لا يمنع عنه بنهي أو ردع كما سيأتي من قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ} (الآية) فرجع معنى الآية - و الله أعلم - إلى نحو قولنا كلوا مما في الأرض من نعم الله المخلوقة لكم فقد جعله الله لكم حلالا طيبا و لا تتركوا بعضا منها كفا و امتناعا فيكون سوء و فحشاء و قولا بغير علم أي تشريعا ليس لكم ذلك و هو اتباع خطوات الشيطان.

  • فالآية تدل أولا: على عموم الحلية في جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل فإن لله سبحانه المنع فيما له الإذن فيه.

تفسير الميزان ج۱

419
  •  

  • و ثانيا: على أن الامتناع مما أحله الله من غير دليل علمي تشريع محرم.

  • و ثالثا: على أن المراد من اتباع خطوات الشيطان التعبد لله بما لم يأذن في التعبد بذلك فإنه لم ينه عن المشي و السلوك لكن عن المشي الذي يضع فيه الإنسان قدمه موضع قدم الشيطان فينطبق مشيته على مشيته فيكون متبعا لخطواته، و من هنا يعلم أن عموم التعليل، و هو قوله {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ}إلخ و إن اقتضى المنع عن الاقتحام في فعل بغير علم كما يقتضي المنع عن الامتناع بغير علم لكنه ليس بمراد في الخطاب فإنه ليس من اتباع خطوات الشيطان و إن كان اتباعا للشيطان.

  • قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ اَلْفَحْشَاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، السوء و الفحشاء يكونان في الفعل، و في مقابله القول، و بذلك يظهر: أن ما يأمر به الشيطان ينحصر في الفعل الذي هو سوء و فحشاء، و القول الذي هو قول بغير علم.

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا}، الإلفاء الوجدان أي وجدنا عليه آباءنا، و الآية تشهد بما استفدناه من الآية السابقة في معنى خطوات الشيطان.

  • قوله تعالى: {أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَهْتَدُونَ}، جواب عن قولهم، و بيانه أنه قول بغير علم و لا تبين، و ينافيه صريح العقل فإن قولهم: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}، قول مطلق أي نتبع آباءنا على أي حال و على أي وصف كانوا، حتى لو لم يعلموا شيئا و لم يهتدوا و نقول ما فعلوه حق، و هذا هو القول بغير علم، و يؤدي إلى القول بما لا يقول به عاقل لو تنبه له و لو كانوا اتبعوا آباءهم فيما علموه و اهتدوا فيه و هم يعلمون: أنهم علموا و اهتدوا فيه لم يكن من قبيل الاهتداء بغير علم.

  • و من هنا: يعلم أن قوله تعالى: {لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَهْتَدُونَ}، ليس واردا مورد المبالغة نظرا إلى أن سلب مطلق العلم عن آبائهم مع كونهم يعلمون أشياء كثيرة في حياتهم لا يحتمل إلا المبالغة.

  • و ذلك أن الكلام مسوق سوق الفرض بإبداء تقدير لا يقول بجواز الاتباع فيه قائل ليبطل به إطلاق قولهم نتبع ما ألفينا عليه آباءنا و هو ظاهر.

  • قوله تعالى: {وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَ نِدَاءً{ 

تفسير الميزان ج۱

420
  •  

  • المثل هو الكلام السائر و المثل هو الوصف كقوله تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} الفرقان - ٩، و النعيق‌ صوت الراعي لغنمه زجرا يقال: نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا، و النداء مصدر نادى ينادي مناداة، و هو أخص من الدعاء ففيه معنى الجهر بالصوت و نحوه بخلاف الدعاء، و المعنى - و الله أعلم - و مثلك في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق من البهائم بما لا يسمع من نعيقه إلا دعاء و نداء ما، فينزجر بمجرد قرع الصوت سمعه من غير أن يعقل شيئا فهم صم لا يسمعون كلاما يفيدهم، و بكم لا يتكلمون بما يفيد معنى، و عمي لا يبصرون شيئا فهم لا يعقلون شيئا لأن الطرق المؤدية إلى التعقل مسدودة عليهم.

  • و من ذلك يظهر أن في الكلام قلبا أو عناية أخرى يعود إليه فإن المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى إلا أن الأوصاف الثلاثة التي استنتج و استخرج من المثل و ذكرت بعده، و هي قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}، لما كانت أوصافا للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحق استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب

  • (بحث روائي)

  • في التهذيب، عن عبد الرحمن، قال: سألت أبا عبد الله عن رجل حلف أن ينحر ولده قال: ذلك من خطوات الشيطان.

  • و عن منصور بن حازم أيضا قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): أ ما سمعت بطارق إن طارقا كان نخاسا بالمدينة فأتى أبا جعفر فقال يا أبا جعفر إني حلفت بالطلاق و العتاق و النذر؟ فقال له يا طارق إن هذا من خطوات الشيطان.

  • و في تفسير العياشي، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: كل يمين بغير الله فهو من خطوات الشيطان.

  • و في الكافي، عن الصادق (علیه السلام) قال: إذا حلف الرجل على شي‌ء و الذي حلف 

تفسير الميزان ج۱

421
  •  

  • عليه إتيانه خير من تركه فليأت الذي هو خير و لا كفارة له، و إنما ذلك من خطوات الشيطان.

  • أقول: و الأحاديث كما ترى مبنية على كون المراد من خطوات الشيطان الأعمال التي يتقرب بها و ليست بمقربة لعدم العبرة بها شرعا كما ذكرناه في البيان السابق نعم في خصوص الطلاق و نحوه وجه آخر للبطلان و هو التعليق المنافي للإنشاء، و المسألة فقهية، و المراد باليمين بغير الله هو اليمين الذي يترتب عليه أثر اليمين الشرعي أو القسم بما لم يقسم به الله و لم يثبت له كرامة شيئا.

  • و في المجمع، عن الباقر: في قوله تعالى: {وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ} (الآية) قال: أي مثلهم في دعائك إياهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم و إنما تسمع الصوت.

  • (بحث أخلاقي و اجتماعي) التقليد و اتباع الخرافة

  • الآراء و العقائد التي يتخذها الإنسان إما نظرية لا تعلق لها بالعمل من غير واسطة كالمسائل المتعلقة بالرياضيات و الطبيعيات و ما وراء الطبيعة، و إما عملية متعلقة بالعمل بلا واسطة كالمسائل المتعلقة بما ينبغي فعله و ما لا ينبغي، و السبيل في القسم الأول هو اتباع العلم و اليقين المنتهي إلى برهان أو حس، و في القسم الثاني اتباع ما يوصل إلى الخير الذي فيه سعادة الإنسان أو النافع فيها، و اجتناب ما ينتهي إلى شقائه أو يضره في سعادته، و أما الاعتقاد بما لا علم له بكونه حقا في القسم الأول، و الاعتقاد بما لا يعلم كونه خيرا أو شرا فهو اعتقاد خرافي.

  • و الإنسان لما كانت آراؤه منتهية إلى اقتضاء الفطرة الباحثة عن علل الأشياء و الطبيعة الباعثة له إلى الاستكمال بما هو كماله حقيقة فإنه لا تخضع نفسه إلى الرأي الخرافي المأخوذ على العمياء و جهلا إلا أن العواطف النفسانية و الإحساسات الباطنية التي تثيرها الخيال - و عمدتها الخوف و الرجاء - ربما أوجبت له القول بالخرافة من جهة أن الخيال يصور له صورا يستصحب خوفا أو رجاء فيحفظها إحساس الخوف أو الرجاء، و لا يدعها تغيب عن النفس الخائفة أو الراجية، كما أن الإنسان إذا أحل 

تفسير الميزان ج۱

422
  •  

  • واديا - و هو وحده بلا أنيس و الليل داج مظلم و البصر حاسر عن الإدراك - فلا مؤمن يؤمنه بتميز المخاطر من غيرها بضياء و نحوه فترى أن خياله يصور له كل شبح يترائى له غولا مهيبا يقصده بالإهلاك أو روحا من الأرواح، و ربما صور له حركة و ذهابا و إيابا و صعودا في السماء و نزولا إلى الأرض، و أشكالا و تماثيل ثم لا يزال الخيال يكرر له هذا الشبه المجعول كلما ذكره و حاله حاله من الخوف، ثم ربما نقله لغيره فأوجد فيه حالا نظير حاله و لا يزال ينتشر - و هو موضوع خرافي لا ينتهي إلى حقيقة -.

  • و ربما هيج الخيال حسن الدفاع من الإنسان أن يضع أعمالا لدفع شر هذا الموجود الموهوم و يحث غيره على العمل بها للأمن من شره فيذهب سنة خرافية.

  • و لم يزل الإنسان منذ أقدم أعصار حياته مبتلى بآراء خرافية حتى اليوم و ليس كما يظن من أنها من خصائص الشرقيين فهي موجودة بين الغربيين مثلهم لو لم يكونوا أحرص عليها منهم.

  • و لا يزال الخواص من الإنسان - و هم العلماء - يحتالون في إمحاء رسوم هذه الخرافات المتمكنة في نفوس العامة من الناس بلطائف حيلهم التي توجب تنبه العامة و تيقظهم في أمرها، و قد أعيا الداء الطبيب فإن الإنسان لا يخلو من التقليد و الاتباع في الآراء النظرية و المعلومات الحقيقية من جانب، و من الإحساسات و العواطف النفسانية من جانب آخر، و ناهيك في ذلك أن العلاج لم ينجح إلى اليوم.

  • و أعجب من الجميع ما يراه في ذلك أهل الحضارة و علماء الطبيعة اليوم! فقد ذكروا أن العلم اليوم يبنى أساسه على الحس و التجربة و يدفع ما دون ذلك، و المدنية و الحضارة تبنى أساسه على استكمال الاجتماع في كل كمال ميسور ما استيسر، و بنوا التربية على ذلك.

  • مع أن ذلك - و هو عجيب - نفسه من اتباع الخرافة فإن علوم الطبيعة إنما تبحث عن خواص الطبيعة و تثبتها لموضوعاتها، و بعبارة أخرى هذه العلوم المادية إنما تكشف دائما عن خبايا خواص المادة، و أما ما وراء ذلك فلا سبيل لها إلى نفيه و إبطاله فالاعتقاد بانتفاء ما لا تناله الحس و التجربة من غير دليل من أظهر الخرافات.

  • و كذلك بناء المدنية على استكمال الاجتماع المذكور فإن هذا الاستكمال و النيل 

تفسير الميزان ج۱

423
  •  

  • بالسعادة الاجتماعية ربما يستلزم حرمان بعض الأفراد من سعادته الحيوية الفردية كتحمل القتل و التفدية في الدفاع عن الوطن أو القانون أو المرام، و المحرومية من سعادة الشخص لأجل وقاية حريم الاجتماع فهذه الحرمانات لا يقدم فيها الإنسان إلا عن عقيدة الاستكمال، و أن يراها كمالات - و ليست كمالات لنفسه - بل عدم و حرمان لها، و إنما هي كمالات - لو كانت كمالات - للمجتمع من حيث هو مجتمع و إنما يريد الإنسان الاجتماع لأجل نفسه لا نفسه لأجل الاجتماع، و لذلك كله ما احتالت هذه الاجتماعات لأفرادها فلقنوهم أن الإنسان يكتسب بالتفدية ذكرا جميلا و اسما باقيا على الفخر دائما و هو الحياة الدائمة، و هذه خرافة، و أي حياة بعد البطلان و الفناء غير أنا نسميه حياة، تسمية ليس وراءها شي‌ء؟ 

  • و مثلها القول: إن الإنسان يجب له تحمل مر القانون و الصبر على الحرمان في بعض ما يشتهيه نفسه ليتحفظ به الاجتماع فينال كماله في الباقي فيعتقد أن كمال الاجتماع كماله، و هذه خرافة، فإن كمال الاجتماع إنما هو كماله فيما يتطابق الكمالان و أما غير ذلك فلا فأي موجب على فرد بالنسبة إلى كماله أو اجتماع قوم بالنسبة إلى اجتماع الدنيا إذا قدر على نيل ما يبتغيه من آماله و لو بالجور و فاق في القوة و الاستطاعة من غير مقاوم يقاومه أن يعتقد أن كمال الاجتماع كماله و الذكر الجميل فخارة؟ كما أن أقوياء الأمم لا يزالون على الانتفاع من حياة الأمم الضعيفة، فلا يجدون منهم موطئا إلا وطئوه، و لا منالا إلا نالوه، و لا نسمة إلا استرقوه و استعبدوه، و هل ذلك إلا علاجا لمزمن الداء بالإفناء؟

  • و أما ما سلكه القرآن في ذلك فهو أمره باتباع ما أنزل الله و النهي عن القول بغير علم، هذا في النظر، و أما في العمل فأمره بابتغاء ما عند الله فيه فإن كان مطابقا لما يشتهيه النفس كان فيه سعادة الدنيا و الآخرة و إن كان فيه حرمانها، فعند الله عظيم الأجر، و ما عند الله خير و أبقى.

  • و الذي يقوله أصحاب الحس: أن اتباع الدين تقليد يمنع عنه العلم و أنه من خرافات العهد الثاني من العهود الأربعة المارة على نوع الإنسان (و هي عهد الأساطير و عهد المذهب و عهد الفلسفة و عهد العلم، و هو الذي عليه البشر اليوم من اتباع العلم و رفض الخرافات) فهو قول بغير علم و رأي خرافي.

تفسير الميزان ج۱

424
  •  

  • أما إن اتباع الدين تقليد فيبطله: أن الدين مجموع مركب من معارف المبدأ و المعاد، و من قوانين اجتماعية من العبادات و المعاملات مأخوذة من طريق الوحي و النبوة الثابت صدقه بالبرهان و المجموعة من الأخبار التي أخبر بها الصادق صادقة و اتباعها اتباع للعلم لأن المفروض العلم بصدق مخبرها بالبرهان، و قد مر في البحث التالي لقوله تعالى {وَ إِذْ قَالَ مُوسى‌ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} البقرة - ٦٧، كلام في التقليد فارجع.

  • و من العجيب أن هذا القول قول من ليس بيده في أصول الحياة و سنن الاجتماع: من مأكله و مشربه و ملبسه و منكحه و مسكنه و غير ذلك إلا التقليد على العمى و اتباع الهوى من غير تثبت و تبين، نعم اختلقوا للتقليد اسما آخر و هو اتباع السنة الذي ترتضيه الدنيا الراقية فصار التقليد بذلك ممحو الاسم ثابت الرسم، مهجور اللفظ، مأنوس المعنى، و كان (ألق دلوك في الدلاء) شعارا علميا و رقيا مدنيا و عاد (و لا تتبع الهوى فيضلك) تقليدا دينيا و قولا خرافيا.

  • و أما تقسيمهم سير الحياة الإنسانية إلى أربعة عهود فما بأيدينا من تاريخ الدين و الفلسفة يكذبه فإن طلوع دين إبراهيم إنما كان بعد عهد الفلسفة بالهند و مصر و كلدان و دين عيسى بعد فلسفة يونان و كذا دين محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) - و هو الإسلام - كان بعد فلسفة يونان و إسكندرية، و بالجملة غاية أوج الفلسفة كانت قبل بلوغ الدين أوجه.و قد مر فيما مر أن دين التوحيد يتقدم في عهده على جميع الأديان الأخر.

  • و الذي يرتضيه القرآن من تقسيم تاريخ الإنسان هو تقسيمه إلى عهد السذاجة و وحدة الأمم و عهد الحس و المادة، و سيجي‌ء بيانه في الكلام على قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ} البقرة – ٢١٣.

  •  

  • سورة البقرة (٢): [الآیات ١٧٢ الی ١٧٦]

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ١٧٢ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ 

تفسير الميزان ج۱

425
  •  

  • وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللَّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٧٣ إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنَّارَ وَ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اَللَّهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ لاَ يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ١٧٤ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلاَلَةَ بِالْهُدى‌ وَ اَلْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنَّارِ ١٧٥ ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ نَزَّلَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِي اَلْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ١٧}

  • (بيان) 

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، خطاب خاص بالمؤمنين بعد الخطاب السابق للناس فهو من قبيل انتزاع الخطاب من الخطاب، كأنه انصراف عن خطاب جماعة ممن لا يقبل النصح و لا يصغي إلى القول، و التفات إلى من يستجيب الداعي لإيمانه به، و التفاوت الموجود بين الخطابين ناش من تفاوت المخاطبين، فإن المؤمنين بالله لما كان يتوقع منهم القبول بدل قوله: {مِمَّا فِي اَلْأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً}، من قوله: {طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، و كان ذلك وسيلة إلى أن يطلب منهم الشكر لله وحده لكونهم موحدين لا يعبدون إلا الله سبحانه، و لذلك بعينه قيل: {مَا رَزَقْنَاكُمْ}، و لم يقل: ما رزقتم أو ما في الأرض و نحوه، لما فيه من الإيماء أو الدلالة على كونه تعالى معروفا لهم قريبا منهم حنينا رءوفا بهم، و الظاهر أن يكون قوله: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف لا من قبيل قيام الصفة مقام الموصوف فإن المعنى على الأول كلوا من رزقنا الذي كله طيب، و هو المناسب لمعنى التقرب و التحنن الذي يلوح من المقام، و المعنى على الثاني كلوا من طيب الرزق لا من خبيثه، و هو بعيد المناسبة عن المقام الذي هو مقام رفع الحظر، و النهي عن الامتناع عن بعض ما رزقهم الله سبحانه 

تفسير الميزان ج۱

426
  •  

  • تشريعا من عند أنفسهم و قولا بغير علم.

  • قوله تعالى: {وَ اُشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، لم يقل و اشكروا لنا بل اشكروا لله ليكون أدل على الأمر بالتوحيد و لذلك أيضا قيل: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فدل على الحصر و القصر و لم يقل إن كنتم تعبدونه.

  • قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللَّهِ}، الإهلال لغير الله هو الذبح لغيره كالأصنام.

  • قوله تعالى: {فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ}، أي غير ظالم و لا متجاوز حده، و هما حالان عاملهما الاضطرار فيكون المعنى فمن اضطر إلى أكل شي‌ء مما ذكر من المنهيات اضطرارا في حال عدم بغيه و عدم عدوه فلا ذنب له في الأكل، و أما لو اضطر في حال البغي و العدو كأن يكونا هما الموجبين للاضطرار فلا يجوز له ذلك، و قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، دليل على أن التجوز تخفيف و رخصة منه تعالى للمؤمنين و إلا فمناط النهي موجود في صورة الاضطرار أيضا.

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ مِنَ اَلْكِتَابِ}، تعريض لأهل الكتاب إذ عندهم شي‌ء كثير من المحللات الطيبة التي حرمها كبراؤهم و رؤساؤهم في العبادات و غيرها - و عندهم الكتاب الذي لا يقضي فيه بالتحريم - و لم يكتموا ما كتموه إلا حفظا لما يدر عليهم من رزق الرئاسة و أبهة المقام و الجاه و المال.

  • و في الآية من الدلالة على تجسم الأعمال و تحقق نتائجها ما لا يخفى فإنه تعالى ذكر أولا أن اختيارهم الثمن القليل على ما أنزل الله هو أكل النار في بطونهم ثم بدل اختيار الكتمان و أخذ الثمن على بيان ما أنزل الله في الآية التالية من اختيار الضلالة على الهدى ثم من اختيار العذاب على المغفرة ثم ختمها بقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنَّارِ}، و الذي كان منهم ظاهرا هو الإدامة للكتمان و البقاء عليها فافهم.

  • (بحث روائي)

  • في الكافي، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى {فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ} (الآية) قال: 

تفسير الميزان ج۱

427
  •  

  • الباغي باغي الصيد، و العادي السارق ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها، هي حرام عليهما ليس هي عليهما كما هي على المسلمين و ليس لهما أن يقصرا في الصلاة.

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام) قال: الباغي الظالم، و العادي الغاصب.

  • و عن حماد عنه (علیه السلام) قال: الباغي الخارج على الإمام و العادي اللص.

  • و في المجمع، عن أبي جعفر (علیه السلام) و أبي عبد الله (علیه السلام): غير باغ على إمام المسلمين و لا عاد بالمعصية طريق المحقين.

  • أقول: و الجميع من قبيل عد المصاديق، و هي تؤيد المعنى الذي استفدناه من ظاهر اللفظ.

  • و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام): في قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنَّارِ} (الآية) قال: ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار.

  • و في المجمع، عن علي بن إبراهيم عن الصادق (علیه السلام) قال: ما أجرأهم على النار.

  • و عن الصادق (علیه السلام): ما أعملهم بأعمال أهل النار.

  • أقول: و الروايات قريبة المعاني ففي الأولى تفسير الصبر على النار بالصبر على سبب النار، و في الثانية تفسير الصبر على النار بالجرأة عليها و هي لازمة للصبر، و في الثالثة تفسير الصبر على النار بالعمل بما يعمل به أهل النار و مرجعه إلى معنى الرواية الأولى.

  •  

  • سورة البقرة (٢):[ آیة ١٧٧] 

  • {لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ وَ اَلْكِتَابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمَالَ عَلى‌ حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى‌ وَ اَلْيَتَامى‌ وَ اَلْمَسَاكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسَّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقَابِ وَ أَقَامَ اَلصَّلاَةَ وَ آتَى اَلزَّكَاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا

تفسير الميزان ج۱

428
  •  

  • عَاهَدُوا وَ اَلصَّابِرِينَ فِي اَلْبَأْسَاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ ١٧٧}

  • (بيان)

  • قيل: كثر الجدال و الخصام بين الناس بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة و طالت المشاجرة فنزلت الآية.

  • قوله تعالى: {لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ}، البر بالكسر التوسع من الخير و الإحسان، و البر بالفتح صفة مشبهة منه، و القبل‌ بالكسر فالفتح الجهة و منه القبلة و هي النوع من الجهة، و ذوو القربى‌ الأقرباء، و اليتامى‌ جمع يتيم و هو الذي لا والد له، و المساكين‌ جمع مسكين و هو أسوأ حالا من الفقير، و ابن السبيل‌ المنقطع عن أهله، و الرقاب‌ جمع رقبة و هي رقبة العبد، و البأساء مصدر كالبؤس و هو الشدة و الفقر، و الضراء مصدر كالضر و هو أن يتضرر الإنسان بمرض أو جرح أو ذهاب مال أو موت ولد، و البأس‌ شدة الحرب.

  • قوله تعالى: {وَ لَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}، عدل عن تعريف البر بالكسر إلى تعريف البر بالفتح ليكون بيانا و تعريفا للرجال مع تضمنه لشرح وصفهم و إيماء إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي عن المصداق و لا فضل فيه، و هذا دأب القرآن في جميع بياناته فإنه يبين المقامات و يشرح الأحوال بتعريف رجالها من غير أن يقنع ببيان المفهوم فحسب.

  • و بالجملة قوله: {وَ لَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ}، تعريف للأبرار و بيان لحقيقة حالهم، و قد عرفهم أولا في جميع المراتب الثلاث من الاعتقاد و الأعمال و الأخلاق بقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}و ثانيا بقوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا}، و ثالثا بقوله:}وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ}.

  • فأما ما عرفهم به أولا فابتدأ فيه بقوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ وَ اَلْكِتَابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ}، و هذا جامع لجميع المعارف الحقة التي يريد الله سبحانه من عباده الإيمان بها، و المراد بهذا الإيمان الإيمان التام الذي لا يتخلف عنه أثره، لا 

تفسير الميزان ج۱

429
  •  

  • في القلب بعروض شك أو اضطراب أو اعتراض أو سخط في شي‌ء مما يصيبه مما لا ترتضيه النفس، و لا في خلق و لا في عمل، و الدليل على أن المراد به ذلك قوله في ذيل الآية: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا}، فقد أطلق الصدق و لم يقيده بشي‌ء من أعمال القلب و الجوارح فهم مؤمنون حقا صادقون في إيمانهم كما قال تعالى: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} النساء ٦٨ و حينئذ ينطبق حالهم على المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان التي مر بيانها في ذيل قوله تعالى {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ} البقرة ١٣١.

  • ثم ذكر تعالى نبذا من أعمالهم بقوله: {وَ آتَى اَلْمَالَ عَلى‌ حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى‌ وَ اَلْيَتَامى‌ وَ اَلْمَسَاكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسَّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقَابِ وَ أَقَامَ اَلصَّلاَةَ وَ آتَى اَلزَّكَاةَ}، فذكر الصلاة - و هي حكم عبادي - و قد قال تعالى: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهى‌ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ} العنكبوت - ٤٥، و قال: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي} طه - ١٤، و ذكر الزكاة - و هي حكم مالي فيه صلاح المعاش - و ذكر قبلهما إيتاء المال و هو بث الخير و نشر الإحسان غير الواجب لرفع حوائج المحتاجين و إقامة صلبهم.

  • ثم ذكر سبحانه نبذا من جمل أخلاقهم بقوله: {وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَ اَلصَّابِرِينَ فِي اَلْبَأْسَاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ}، فالعهد هو الالتزام بشي‌ء و العقد له - و قد أطلقه تعالى - و هو مع ذلك لا يشمل الإيمان و الالتزام بأحكامه - كما توهمه بعضهم - لمكان قوله إذا عاهدوا، فإن الالتزام بالإيمان و لوازمه لا يقبل التقيد بوقت دون وقت - كما هو ظاهر - و لكنه يشتمل بإطلاقه كل وعد وعده الإنسان و كل قول قاله التزاما كقولنا: لأفعلن كذا و لأتركن، و كل عقد عقد به في المعاملات و المعاشرات و نحوها، و الصبر هو الثبات على الشدائد حين تهاجم المصائب أو مقارعة الأقران، و هذان الخلقان و إن لم يستوفيا جميع الأخلاق الفاضلة غير أنهما إذا تحققا تحقق ما دونهما، و الوفاء بالعهد و الصبر عند الشدائد خلقان يتعلق أحدهما بالسكون و الآخر بالحركة و هو الوفاء فالإتيان بهذين الوصفين من أوصافهم بمنزلة أن يقال: إنهم إذا قالوا قولا أقدموا عليه و لم يتجافوا عنه بالزوال.

  • و أما ما عرفهم به ثانيا بقوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا}، فهو وصف جامع لجمل فضائل العلم و العمل فإن الصدق خلق يصاحب جميع الأخلاق من العفة و الشجاعة 

تفسير الميزان ج۱

430
  •  

  • و الحكمة و العدالة و فروعها فإن الإنسان ليس له إلا الاعتقاد و القول و العمل، و إذا صدق تطابقت الثلاثة فلا يفعل إلا ما يقول و لا يقول إلا ما يعتقد، و الإنسان مفطور على قبول الحق و الخضوع له باطنا و إن أظهر خلافه ظاهرا فإذا أذعن بالحق و صدق فيه قال ما يعتقده و فعل ما يقوله و عند ذلك تم له الإيمان الخالص و الخلق الفاضل و العمل الصالح، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ اَلصَّادِقِينَ} التوبة - ١٢٠، و الحصر في قوله :{أُولَئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا}، يؤكد التعريف و بيان الحد، و المعنى - و الله أعلم - إذا أردت الذين صدقوا فأولئك هم الأبرار.

  • و أما ما عرفهم به ثالثا بقوله {وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ}، الحصر لبيان الكمال فإن البر و الصدق لو لم يتما لم يتم التقوى.

  • و الذي بينه تعالى في هذه الآية من الأوصاف الأبرار هي التي ذكرها في غيرها.قال تعالى: {إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً - عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اَللّ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً - وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلى‌ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً - إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ}- إلى أن قال - {وَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً} الدهر - ١٢، فقد ذكر فيها الإيمان بالله و اليوم الآخر و الإنفاق لوجه الله و الوفاء بالعهد و الصبر، و قال تعالى أيضا: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ. إِنَّ اَلْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}- إلى أن قال - {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ}- إلى أن قال - {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا اَلْمُقَرَّبُونَ} المطففين - ٢٨، بالتطبيق بين هذه الآيات و الآيات السابقة عليها يظهر حقيقة وصفهم و مآل أمرهم إذا تدبرت فيها، و قد وصفتهم الآيات بأنهم عباد الله و أنهم المقربون، و قد وصف الله سبحانه عباده فيما وصف بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الحجر - ٤٢، و وصف المقربين بقوله: {وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ. أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ} الواقعة - ١٢، فهؤلاء هم السابقون في الدنيا إلى ربهم السابقون في الآخرة إلى نعيمه، و لو أدمت البحث عن حالهم فيما تعطيه الآيات لوجدت عجبا.

  • و قد بان مما مر أن الأبرار أهل المرتبة العالية من الإيمان، و هي المرتبة الرابعة على ما مر بيانه سابقا، قال تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} الأنعام - ٨٢.

تفسير الميزان ج۱

431
  •  

  •  قوله تعالى: {وَ اَلصَّابِرِينَ فِي اَلْبَأْسَاءِ}، منصوب على المدح إعظاما لأمر الصبر، و قد قيل إن الكلام إذا طال بذكر الوصف بعد الوصف فمذهبهم أن يعترضوا بين الأوصاف بالمدح و الذم، و اختلاف الإعراب بالرفع و النصب.

  • (بحث روائي) معنى الأبرار

  • عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان.

  • أقول: و وجهه واضح بما بيناه، و قد نقل عن الزجاج و الفراء أنهما قالا: إن الآية مخصوصة بالأنبياء المعصومين لأن هذه الأشياء لا يأتيها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الأنبياء انتهى، و هو ناش من عدم التدبر فيما تفيده الآيات و الخلط بين المقامات المعنوية، و قد أنزلت آيات سورة الدهر في أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و سماهم الله فيها أبرارا و ليسوا بأنبياء.

  • نعم خطرهم عظيم، و قد وصف الله حال أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض، ثم ذكر مسألتهم أن يلحقهم الله بالأبرار، قال: {وَ تَوَفَّنَا مَعَ اَلْأَبْرَارِ} آل عمران - ١٩٣.

  • و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي عن أبي عامر الأشعري قال: قلت: يا رسول الله ما تمام البر، قال: أن تعمل في السر ما تعمل في العلانية.

  • و في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (علیه السلام): ذوي القربى قرابة النبي.

  • أقول: و كأنه من قبيل عد المصداق بالنظر إلى آية القربى.

  • و في الكافي، عن الصادق (علیه السلام): الفقير الذي لا يسأل الناس و المسكين أجهد منه و البائس أجدهم.

  • و في المجمع، عن أبي جعفر (علیه السلام): ابن السبيل، المنقطع به.

  • و في التهذيب، عن الصادق (علیه السلام): سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته و قد أدى بعضها، قال (علیه السلام): يؤدي عنه من مال الصدقة فإن الله عز و جل يقول: {وَ فِي اَلرِّقَابِ}.

  • و في تفسير القمي: في قوله: {وَ اَلصَّابِرِينَ فِي اَلْبَأْسَاءِ وَ اَلضَّرّاءِ} قال (علیه السلام): في الجوع و العطش و الخوف، و في قوله: {وَ حِينَ اَلْبَأْسِ} قال: قال (علیه السلام): عند القتال. 

  •  

تفسير الميزان ج۱

432
  •  

  • سورة البقرة (٢):[ الآیات ١٧٨ الی ١٧٩] 

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصَاصُ فِي اَلْقَتْلى‌ اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى‌ بِالْأُنْثى‌ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‌ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اِعْتَدى‌ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٧٨ وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي اَلْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٧٩}

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصَاصُ فِي اَلْقَتْلى‌ اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ} في توجيه الخطاب إلى المؤمنين خاصة إشارة إلى كون الحكم خاصا بالمسلمين، و أما غيرهم من أهل الذمة و غيرهم فالآية ساكتة عن ذلك.

  • و نسبة هذه الآية إلى قوله تعالى: {أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ} المائدة - ٤٨، نسبة التفسير، فلا وجه لما ربما يقال، إن هذه الآية ناسخة لتلك الآية فلا يقتل حر بعبد و لا رجل بمرأة.

  • و بالجملة القصاص‌ مصدر؛ قاص يقاص؛ من قص أثره إذا تبعه و منه القصاص لمن يحدث بالآثار و الحكايات كأنه يتبع آثار الماضين فتسمية القصاص بالقصاص لما فيه من متابعة الجاني في جنايته فيوقع عليه مثل ما أوقعه على غيره.

  • قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‌ءٌ}، المراد بالموصول القاتل، و العفو للقاتل إنما يكون في حق القصاص فالمراد بالشي‌ء هو الحق، و في تنكيره تعميم للحكم أي أي حق كان سواء كان تمام الحق أو بعضه كما إذا تعدد أولياء الدم فعفا بعضهم حقه للقاتل فلا قصاص حينئذ بل الدية، و في التعبير عن ولي الدم بالأخ إثارة لحس المحبة و الرأفة و تلويح إلى أن العفو أحب.

تفسير الميزان ج۱

433
  •  

  • قوله تعالى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}، مبتدأ خبره محذوف أي فعليه أن يتبع القاتل في مطالبة الدية بمصاحبة المعروف، من الاتباع و على القاتل أن يؤدي الدية إلى أخيه ولي الدم بالإحسان من غير مماطلة فيها إيذاؤه.

  • قوله تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ}، أي الحكم بانتقال القصاص إلى الدية تخفيف من ربكم فلا يتغير فليس لولي الدم أن يقتص بعد العفو فيكون اعتداء فمن اعتدى فاقتص بعد العفو فله عذاب أليم.

  • {وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي اَلْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، إشارة إلى حكمة التشريع، و دفع ما ربما يتوهم من تشريع العفو و الدية و بيان المزية و المصلحة التي في العفو و هو نشر الرحمة و إيثار الرأفة أن العفو أقرب إلى مصلحة الناس، و حاصله أن العفو و لو كان فيه ما فيه من التخفيف و الرحمة، لكن المصلحة العامة قائمة بالقصاص فإن الحياة لا يضمنها إلا القصاص دون العفو و الدية و لا كل شي‌ء مما عداهما، يحكم بذلك الإنسان إذا كان ذا لب و قوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، أي القتل و هو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص.

  • و قد ذكروا: أن الجملة، أعني قوله تعالى: {وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (الآية) على اختصارها و إيجازها و قلة حروفها و سلاسة لفظها و صفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها، و أسماها في بلاغتها فهي جامعة بين قوة الاستدلال و جمال المعنى و لطفه، و رقة الدلالة و ظهور المدلول، و قد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل و القصاص تعجبهم بلاغتها و جزالة أسلوبها و نظمها كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع و قولهم: أكثروا القتل ليقل القتل، و أعجب من الجميع عندهم قولهم: القتل أنفى للقتل غير أن الآية أنست الجميع و نفت الكل: {وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فإن الآية أقل حروفا و أسهل في التلفظ، و فيها تعريف القصاص و تنكير الحياة ليدل على أن النتيجة أوسع من القصاص و أعظم و هي مشتملة على بيان النتيجة و على بيان حقيقة المصلحة و هي الحياة، و هي متضمن حقيقة المعنى المفيد للغاية فإن القصاص هو المؤدي إلى الحياة دون القتل فإن من القتل ما يقع عدوانا ليس يؤدي إلى الحياة، و هي مشتملة على أشياء أخر غير

تفسير الميزان ج۱

434
  • القتل يؤدي إلى الحياة و هي أقسام القصاص في غير القتل، و هي مشتملة على معنى زائد آخر، و هو معنى المتابعة التي تدل عليها كلمة القصاص بخلاف قولهم القتل أنفى للقتل، و هي مع ذلك متضمنة للحث و الترغيب فإنها تدل على حياة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها نظير ما تقول: لك في مكان كذا أو عند فلان مالا و ثروة، و هي ذلك تشير إلى أن القائل لا يريد بقوله هذا إلا حفظ منافعهم و رعاية مصلحتهم من غير عائد يعود إليه حيث قال{وَ لَكُمْ}.

  • فهذه وجوه من لطائف ما تشتمل عليه هذه الآية، و ربما ذكر بعضهم وجوها أخرى يعثر عليه المراجع غير أن الآية كلما زدت فيه تدبرا زادتك في تجلياتها بجمالها و غلبتك بهور نورها - و كلمة الله هي العليا.

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي، عن الصادق (علیه السلام) في قوله تعالى {اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ}، قال: لا يقتل الحر بالعبد و لكن يضرب ضربا شديدا و يغرم دية العبد و إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه أدوا نصف ديته إلى أولياء الرجل.

  • و في الكافي، عن الحلبي عن الصادق (علیه السلام): قال سألته عن قول الله عز و جل {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}، قال: يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا، و سألته عن قوله عز و جل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‌ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}، قال: ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية و ينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أداه إذا قدر على ما يعطيه و يؤدي إليه بإحسان، و سألته عن قول الله عز و جل: {فَمَنِ اِعْتَدى‌ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قال هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي فيقتل كما قال الله عز و جل.

  • أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة.

  • (بحث علمي) القصاص و ما أشكل عليه و الجواب عنه

  • كانت العرب أوان نزول آية القصاص و قبله تعتقد القصاص بالقتل لكنها ما كانت تحده بحد و إنما يتبع ذلك قوة القبائل و ضعفها فربما قتل الرجل بالرجل و المرأة 

تفسير الميزان ج۱

435
  •  

  • بالمرأة فسلك في القتل مسلك التساوي و ربما قتل العشرة بالواحد و الحر بالعبد و الرئيس بالمرءوس و ربما أبادت قبيلة قبيلة أخرى لواحد قتل منها.

  • و كانت اليهود تعتقد القصاص كما ورد في الفصل الحادي و العشرين و الثاني و العشرين من الخروج و الخامس و الثلاثين من العدد، و قد حكاه القرآن حيث قال تعالى: {وَ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصَاصٌ} النساء - ٤٥.

  • و كانت النصارى على ما يحكى لا ترى في مورد القتل إلا العفو و الدية، و سائر الشعوب و الأمم على اختلاف طبقاتهم ما كانت تخلو عن القصاص في القتل في الجملة و إن لم يضبطه ضابط تام حتى القرون الأخيرة.

  • و الإسلام سلك في ذلك مسلكا وسطا بين الإلغاء و الإثبات فأثبت القصاص و ألغى تعينه بل أجاز العفو و الدية ثم عدل القصاص بالمعادلة بين القاتل و المقتول، فالحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى.

  • و قد اعترض على القصاص مطلقا و على القصاص بالقتل خاصة بأن القوانين المدنية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جوازها و إجراءها بين البشر اليوم.

  • قالوا: إن القتل بالقتل مما يستهجنه الإنسان و ينفر عنه طبعه و يمنع عنه وجدانه إذا عرض عليه رحمة و خدمة للإنسانية، و قالوا: إذا كان القتل الأول فقدا لفرد فالقتل الثاني فقد على فقد، و قالوا: إن القتل بالقصاص من القسوة و حب الانتقام، و هذه صفة يجب أن تزاح عن الناس بالتربية العامة و يؤخذ في القاتل أيضا بعقوبة التربية، و ذلك إنما يكون بما دون القتل من السجن و الأعمال الشاقة، و قالوا: إن المجرم إنما يكون مجرما إذا كان مريض العقل فالواجب أن يوضع القاتل المجرم في المستشفيات العقلية و يعالج فيها، و قالوا: إن القوانين المدنية تتبع الاجتماع الموجود، و لما كان الاجتماع غير ثابت على حال واحد كانت القوانين كذلك فلا وجه لثبوت القصاص بين الاجتماع للأبد حتى الاجتماعات الراقية اليوم، و من اللازم أن يستفيد الاجتماع من وجود أفرادها ما استيسر، و من الممكن أن يعاقب المجرم بما دون القتل مما يعادل القتل من حيث الثمرة و النتيجة كحبس الأبد أو حبس مدة سنين و فيه الجمع 

تفسير الميزان ج۱

436
  •  

  • بين الحقين حق المجتمع و حق أولياء الدم، فهذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل.

  • و قد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة، و هي قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ اَلنَاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا اَلنَّاسَ جَمِيعاً} المائدة - ٣٢.

  • بيان ذلك: أن القوانين الجارية بين أفراد الإنسان و إن كانت وضعية اعتبارية يراعى فيها مصالح الاجتماع الإنساني غير أن العلة العاملة فيها من أصلها هي الطبيعة الخارجية الإنسانية الداعية إلى تكميل نقصها و رفع حوائجها التكوينية، و هذه الواقعية الخارجية ليست هي العدد العارض على الإنسان و لا الهيأة الواحدة الاجتماعية فإنها نفسها من صنع الوجود الكوني الإنساني بل هي الإنسان و طبيعته و ليس بين الواحد من الإنسان و الألوف المجتمعة منه فرق في أن الجميع إنسان و وزن الواحد و الجميع واحد من حيث الوجود.

  • و هذه الطبيعة الوجودية تجهزت في نفسها بقوى و أدوات تدفع بها عن نفسها العدم لكونها مفطورة على حب الوجود، و تطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت و إلى أي غاية بلغت حتى القتل و الإعدام، و لذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله و لا ينتهي عنه إلا به، و هذه الأمم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعا عن استقلالهم و حريتهم و قوميتهم، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها، و يدفعون عن بطلان القانون بالغا ما بلغ حتى بالقتل و يتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحرب إذا لم يعالج الداء بغيرها، تلك الحرب التي فيها فناء الدنيا و هلاك الحرث و النسل و لا يزال ملل يتقدمون بالتسليحات و آخرون يتجهزون بما يجاوبهم، و ليس ذلك كله إلا رعاية لحال الاجتماع و حفظا لحياته و ليس الاجتماع إلا صنيعة من صنائع الطبيعة فما بال الطبيعة يجوز القتل الذريع و الإفناء و الإبادة لحفظ صنيعة من صنائعها، و هي الاجتماع المدني و لا تجوزها لحفظ حياة نفسها؟ و ما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل و لم يفعل و لا تجوزه فيمن هم و فعل؟ و ما بال الطبيعة تقضي بالانعكاس في الوقائع التاريخية، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، و من يعمل مثقال 

تفسير الميزان ج۱

437
  •  

  • ذرة شرا يره و لكل عمل عكس عمل في قانونها لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما و تنقض حكم نفسها.

  • على أن الإسلام لا يرى في الدنيا قيمة للإنسان يقوم بها و لا وزنا يوزن به إلا إذا كان على دين التوحيد فوزن الاجتماع الإنساني و وزن الموحد الواحد عنده سيان، فمن الواجب أن يكون حكمهما عنده واحدا، فمن قتل مؤمنا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر إزرائه و هتكه لشرف الحقيقة كما أن من قتل نفسا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر الطبيعة الوجودية، و أما الملل المتمدنة فلا يبالون بالدين و لو كانت شرافة الدين عندهم تعادل في قيمتها أو وزنها - فضلا عن التفوق - الاجتماع المدني في الفضل لحكموا فيه بما حكموا في ذلك.

  • على أن الإسلام يشرع للدنيا لا لقوم خاص و أمة معينة، و الملل الراقية إنما حكمت بما حكمت بعد ما أذعنت بتمام التربية في أفرادها و حسن صنيع حكوماتها و دلالة الإحصاء في مورد الجنايات و الفجائع على أن التربية الموجودة مؤثرة و أن الأمة في أثر تربيتهم متنفرة عن القتل و الفجيعة فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ و إذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل، و الإسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية و أثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق.

  • و يلوح إليه قوله تعالى في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‌ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}، فاللسان لسان التربية و إذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام.

  • و أما غير هؤلاء الأمم فالأمر فيها على خلاف ذلك و الدليل عليه ما نشاهده من حال الناس و أرباب الفجيعة و الفساد فلا يخوفهم حبس و لا عمل شاق و لا بصدهم وعظ و نصح، و ما لهم من همة و لا ثبات على حق إنساني، و الحياة المعدة لهم في السجون أرفق و أعلى و أسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم و لا ذم، و لا يدهشهم سجن و لا ضرب، و ما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الفجائع في الإحصاءات يوما فيوما فالحكم العام الشامل للفريقين - و الأغلب منهما الثاني - لا يكون إلا القصاص و جواز العفو فلو رقت الأمة و ربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو (و الإسلام لا يألو جهده في التربية) و لو لم يسلك إلا الانحطاط أو كفرت بأنعم ربها 

تفسير الميزان ج۱

438
  •  

  • و فسقت، أخذ فيهم بالقصاص و يجوز معه العفو.

  • و أما ما ذكروه من حديث الرحمة و الرأفة بالإنسانية فما كل رأفة بمحمودة و لا كل رحمة فضيلة، فاستعمال الرحمة في مورد الجاني القسي و العاصي المتخلف المتمرد و المتعدي على النفس و العرض جفاء على صالح الأفراد، و في استعمالها المطلق اختلال النظام و هلاك الإنسانية و إبطال الفضيلة.

  • و أما ما ذكروه أنه من القسوة و حب الانتقام فالقول فيه كسابقه، فالانتقام للمظلوم من ظالمة استظهارا للعدل و الحق ليس بمذموم قبيح، و لا حب العدل من رذائل الصفات، على أن تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام بل فيه ملاك التربية العامة و سد باب الفساد.

  • و أما ما ذكروه من كون جناية القتل من الأمراض العقلية التي يجب أن يعالج في المستشفيات فهو من الأعذار (و نعم العذر) الموجبة لشيوع القتل و الفحشاء و نماء الجناية في الجامعة الإنسانية، و أي إنسان منا يحب القتل و الفساد علم أن ذلك فيه مرض عقلي و عذر مسموع يجب على الحكومة أن يعالجه بعناية و رأفة و أن القوة الحاكمة و التنفيذية تعتقد فيه ذلك لم يقدم معه كل يوم على قتل.

  • و أما ما ذكروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمين بمثل الأعمال الإجبارية و نحوها مع حبسهم و منعهم عن الورود في الاجتماع فلو كان حقا متكئا على حقيقة فما بالهم لا يقضون بمثله في موارد الإعدام القانوني التي توجد في جميع القوانين الدائرة اليوم بين الأمم؟ و ليس ذلك إلا للأهمية التي يرونها للإعدام في موارده، و قد مر أن الفرد و المجتمع في نظر الطبيعة من حيث الأهمية متساويان.

  •  

  • سورة البقرة (٢): [الآیات ١٨٠الی ١٨٢] 

  • {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ ١٨٠فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٨١ 

تفسير الميزان ج۱

439
  •  

  • فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٨٢}

  • (بيان)

  • قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ} لسان الآية لسان الوجوب فإن الكتابة يستعمل في القرآن في مورد القطع و اللزوم و يؤيده ما في آخر الآية من قوله {حَقًّا}، فإن الحق أيضا كالكتابة يقتضي معنى اللزوم لكن تقييد الحق بقوله على المتقين، مما يوهن الدلالة على الوجوب و العزيمة فإن الأنسب بالوجوب أن يقال: حقا على المؤمنين، و كيف كان فقد قيل إن الآية منسوخة بآية الإرث، و لو كان كذلك فالمنسوخ هو الفرض دون الندب و أصل المحبوبية و لعل تقييد الحق بالمتقين في الآية لإفادة هذا الغرض.

  • و المراد بالخير المال، و كأنه المال المعتد به، دون اليسير الذي لا يعبأ به و المراد بالمعروف هو المعروف المتداول من الصنيعة و الإحسان.

  • قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}، ضمير إثمه راجع إلى التبديل، و الباقي من الضمائر إلى الوصية بالمعروف، و هي مصدر يجوز فيه الوجهان و إنما قال {عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}، و لم يقل عليهم ليكون فيه دلالة على سبب الإثم و هو تبديل الوصية بالمعروف و ليستقيم تفريع الآية التالية عليه.

  • قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}، الجنف‌ هو الميل و الانحراف، و قيل: هو ميل القدمين إلى الخارج كما أن الحنف بالحاء المهملة انحرافهما إلى الداخل، و المراد على أي حال الميل إلى الإثم بقرينة الإثم و الآية تفريع على الآية السابقة عليها، و المعنى (و الله أعلم) فإنما إثم التبديل على الذين يبدلون الوصية بالمعروف، و يتفرع عليه: أن من خاف من وصية الموصي أن يكون وصيته بالإثم أو مائلا إليه فأصلح بينهم برده إلى ما لا إثم فيه فلا إثم عليه لأنه لم يبدل وصيته بالمعروف بل إنما بدل ما فيه إثم أو جنف. 

تفسير الميزان ج۱

440
  •  

  • (بحث روائي) 

  • و في الكافي، و التهذيب، و تفسير العياشي، - و اللفظ للأخير - عن محمد بن مسلم عن الصادق (علیه السلام): سألته عن الوصية تجوز للوارث؟ قال نعم ثم تلا هذه الآية {إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ}.

  • و في تفسير العياشي، عن الصادق عن أبيه عن علي (علیه السلام) قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية.

  • و في تفسير العياشي، أيضا عن الصادق (علیه السلام): في الآية قال: حق جعله الله في أموال الناس لصاحب هذا الأمر، قال قلت: لذلك حد محدود، قال: نعم، قلت: كم؟ قال: أدناه السدس و أكثره الثلث.

  • أقول: و روى هذا المعنى الصدوق أيضا في الفقيه، عنه (علیه السلام) و هو استفادة لطيفة من الآية بضم قوله تعالى: {اَلنَّبِيُّ أَوْلى‌ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‌ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى‌ أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي اَلْكِتَابِ مَسْطُوراً} الأحزاب - ٦، فإن الآية هي الناسخة لحكم التوارث بالأخوة الذي كان في صدر الإسلام فقد نفت التوارث بالأخوة و أثبتته للقرابة ثم استثني ما فعل من معروف في حق الأولياء، و قد عدت النبي وليا و الطاهرين من ذريته أولياء لهم، و هذا المعروف المستثنى مورد قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ} (الآية) و هم قربى - فافهم.

  • و في تفسير العياشي، عن أحدهما (علیه السلام): في قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ} (الآية) قال (علیه السلام): هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث.

  • أقول: مقتضى الجمع بين الروايات السابقة و بين هذه الرواية أن المنسوخ من الآية هو الوجوب فقط فيبقى الاستحباب على حاله.

  • و في المجمع، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} (الآية) قال: الجنف أن يكون على جهة الخطإ من حيث لا يدري أنه يجوز.

  • و في تفسير القمي، قال الصادق (علیه السلام): إذا الرجل أوصى بوصيته فلا يجوز للوصي 

تفسير الميزان ج۱

441
  •  

  • أن يغير وصية يوصيها بل يمضيها على ما أوصى إلا أن يوصي بغير ما أمر الله فيعصي في الوصية و يظلم، فالموصى إليه جائز له أن يرده إلى الحق مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته و يحرم بعضا فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق و هو قوله: {جَنَفاً أَوْ إِثْماً}، و الجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض، و الإثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران و اتخاذ المسكر فيحل للوصي أن لا يعمل بشي‌ء من ذلك.

  • أقول: و بما في الرواية من معنى الجنف يظهر معنى قوله تعالى {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} فالمراد الإصلاح بين الورثة لوقوع النزاع بينهم من جهة جنف الموصي.

  • و في الكافي، عن محمد بن سوقة قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله عز و جل: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}، قال: نسختها التي بعدها قوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}، قال: يعني الموصى إليه إن خاف جنفا من الموصي في ولده فيما أوصى به إليه فيما لا يرضى الله به من خلاف الحق فلا إثم عليه أي على الموصى إليه أن يبدله إلى الحق و إلى ما يرضى الله به من سبيل الحق.

  • أقول: هذا من تفسير الآية بالآية فإطلاق النسخ عليه ليس على الاصطلاح و قد مر أن النسخ في كلامهم ربما يطلق على غير ما اصطلح عليه الأصوليون.

تفسير الميزان ج۱

444
  • فهرس ما في هذا المجلد من أمهات المطالب‌

تفسير الميزان ج۱

445
  •  

تفسير الميزان ج۱

446
  •  

تفسير الميزان ج۱

447