المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1427
التاريخ 1427/09/18
التوضيح
هل يمكن فهم الآيات والروايات المتعلّقة بالتوحيد وصفات الله تعالى بعيدًا عن دراسة الفلسفة والحكمة؟ لماذا لم يفهم الكثيرون كلام الأئمّة عليهم السلام رغم حفظهم للروايات؟ ما الفرق بين المعرفة العقليّة والمعرفة الشهوديّة؟ وهل يكفي الاقتصار على علوم المادّة للوصول إلى حقيقة الخالق؟ تجيبك هذه المحاضرة عن هذه الأسئلة، مبينةً أهميّة العلوم العقليّة والعرفانيّة في الغوص في أعماق النصوص الدينيّة وإدراك الحقائق الإلهيّة التي تفوق مستوى الفهم السطحيّ.
هوالعليم
لزوم تعلّم الفلسفة لإدراك حقائق الدين
هل تكفي العلوم الظاهريّة لمعرفة الله؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي سنة ۱٤٢۷ هـ الجلسة الحادية عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیمِ
بِسمِ اللَه الرَّحمَنِ الرَّحیمِ
و صلَّی اللَه عَلَی سیّدنا و نبیّنا أبیالقاسم مُحَمّدٍ
و علی آله الطّیبین الطّاهرین
و اللعنةُ اللَه عَلَى أَعدَائِهِم أَجمَعِينَ
معرفتي بك دليلي عليك
«معرفتي يا مولاي دليلي عليك وحُبّي لك شفيِعي إليك وأنا واثقٌ من دليلي بدلالتِك وساكنٌ من شفيعي إلى شفاعتِك»
معرفتي بك يا مولاي هي هاديَّ ومرشدي نحوك. والمقصود بـ "معرفتي" هنا هو معرفتي بك، لا معرفتي بالبطاطس والبصل، أو معرفتي بالرياضيّات والهندسة والكيمياء، أو معرفتي بالمسائل الماديّة والمتعارفة. فهذه ليست دليلًا لي نحوك، مهما كانت مرتبتها. إنّ معرفتي بالمسائل الماديّة لا تثير إعجابي بالصانع إلا بقدرٍ محدودٍ كقولي: يا له من إلهٍ عجيب! ما هذه الجزيئات التي خلقها! وما هذه الخلايا التي أوجدها! وما هذا النظام والترتيب الذي أحدثه في هذه الأمور! وما هذه الأسرار المكنونة التي وضعها في عالم المادّة! وهذا فقط يزيد إعجابي بك بأنّك إلهٌ بهذه الكيفيّة، ولا يُحصّل لي أكثر من ذلك. لا أحصل على شيءٍ أكثر من هذا. فعالم الفيزياء يقضي عمره كلّه في دراسة العلاقة بين الجزيئات، بين الإلكترونات والبروتونات، ومقدار الإلكترونات والبروتونات، وكيفيّة مداراتها، هل هي كرويّة أم بيضاويّة، ومدى قربها من بعضها، وكيفيّة انفصالها عن بعضها، فهذا كلّ شيء! ولا يُحصّل له أكثر من هذا. وكلّما تعمّق وبحث في هذا المجال أكثر، ازداد اطمئنانه بأنّ صانعًا يجب أن يكون قد تدخّل في هذه القضيّة. أمّا من هو هذا الصانع؟ وما هي خصائصه وآثاره وصفاته؟ فلا يعرف من ذلك مقدار ذرّة. ولو بحث وتعمق في هذه المسألة ألف مرّة وألف سنة، فلن يفهم معنى المجرّد والمادة، ولن يتمكّن من التمييز لهذا عن ذاك، وفي النهاية يقول إنّ هناك إلهًا، من المحتمل أن يكون هو أيضًا من جنس المادّة، لكنّها مادّة أقوى وذات وسائل أكثر. ولكن لو أراد من الفيزياء أن يصل إلى التجرّد، فلو فكّر مائة مليون سنة فلن يصل. وهكذا.
فـ «معرفتي بك» إذن تعني أنّ معرفتي بك أنت هي دليلي. ولكن يجب أن تلتفتوا إلى أنّ هذه الأمور (علوم المادة) تساعد، لا أنها عديمة الفائدة، كلاّ! فهذه العلوم تساعد.
علماء المادة: هل يوصلهم علمهم إلى معرفة الله؟
سُئل إديسون عن العامل الذي له دخلٌ في مسألة الاختراع؟ فقال: تسعة وتسعون بالمائة جهدٌ وسعيٌ من الإنسان، وواحد بالمائة إلهامات يجب أن تأتي من مكانٍ ما، وما لم تأتِ تلك الواحد بالمائة، فإنّ التسعة والتسعون بالمائة عقيمة، ولا تُقدّم شيئًا، هذا ما يفهمه أولئك القوم. وهكذا هو الحال لدى آينشتاين، فالمسائل التي قالها عن ما وراء الطبيعة هي بمستوى إدراكه، هذا كلّ شيء لديه، وفي آخر عمره قال: يا ليتني صرفتُ بعضًا من مقدار العمر الذي حصلتُ عليه في دراسة العلاقة بين المادّة وكيفيّة ارتباطها بالطاقة، في دراسة ما وراء المادّة! يعني أنّه فهم أنّ هناك خبرًا ما، ولكن ما هو؟ لا يمكنه أن يدرك ذلك من الذرّة، ولو وضع مائة ذرّة بعضها إلى جانب بعضها فلن يدرك، لا يستطيع التمييز. ولكن لماذا إحساسه الداخليّ هكذا، وأنّه يجب أن تكون هناك يدٌ غيبيّةٌ خفيّةٌ خلف المسألة، ولكن ما هي خصائصها؟ وما هي كيفية إدارتها؟ وما هي كيفيّة ارتباطها وأنّ تلك اليد الغيبيّة ليست هي ذاتها التي يدرسها؟ فهل يصل إلى هذه النقطة يومًا ما؟ لا يصل.
من الذي يصل إلى هذه المسألة؟ إمّا الذهن المتوقّد والنقّاد للفيلسوف الإسلاميّ، أو مشاهدات وواردات العارف الإلهيّ. وطبعًا الثاني أقوى وأقرب إلى الحقيقة.
قصور الروايات وحدها عن إدراك الحقائق
حتّى من الروايات لا تُحصّل هذه المسألة. لو قرأتَ الروايات ألف سنة، وقرأت كلام الإمام الصادق عليه السلام في هذا المجال ألف سنة، وقرأت روايات أمير المؤمنين عليه السلام، فهل تحصل على شيءٍ؟ لا. هؤلاء الذين قرأوا ونهج البلاغة ألف مرّة، وخطب أمير المؤمنين عليه السلام التوحيديّة يحفظونها عن ظهر قلب، فليأتوا وليشرحوا جملة واحدة: «داخلٌ في الأشياء لا بالممازجة» هل فهموها؟ وهل الأمر بالحفظ؟ وهل خطب أمير المؤمنين عليه السلام شعرٌ لنحفظها؟ «خارجٌ عن الأشياء لا بالمباينة أو بالمزائلة»۱، ما معناها؟ خارجٌ عن الأشياء، ولكن انفصاله عن الأشياء ليس كانفصال شيءٍ تُخرجه من داخل كيس. فما معناها؟ لقد الإمام الصادق وموسى بن جعفر والإمام الرضا عليهم السلام قالوا ذلك، وكلّهم كانوا يحذون حذو أمير المؤمنين عليه السلام في مقام شرح هذه الخطب له عليه السلام، فالأئمة بعده جاؤوا وشرحوا خطب جدّهم، وهذه الروايات والأحاديث التي وردت في هذا المجال، كلّها شرحٌ لما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة وغيره. فائتِ بتلك الخطبة التوحيديّة لموسى بن جعفر عليه السلام أو خطب الإمام الرضا أو الإمام الجواد عليه السلام في توحيد الصدوق واقرأها، فهل فهمتَ مقدار رأس إبرة مما قاله الإمام الرضا عليه السلام؟! أقول رأس إبرة، أي أنّني أؤكّد على المسألة بهذا القدر!
فلو عشتَ تسعين سنة وأمضيتَ عمرك كلّه في الفقه، واطّلعت على الروايات الفقهيّة والتفسيريّة، فأدركت مقدار رأس إبرة من معنى هذه الرواية التي قالها موسى بن جعفر عليه السلام في التوحيد فإنّي أتراجع عن كلّ ما قلته. لماذا؟!
لأنّ هذه الحقائق بالنسبة إلينا تشبه اللغة الصينيّة، وكأننا نجلس مع من يتكلّم بها، فهل تعرفون اللغة الصينيّة الآن؟! فلو جاء صينيٌّ وأخذ يتحدّث معنا بالصينيّة، فكم سنفهم؟ لا شيء. يا عزيزي، الصينيّة لغة لا نعرفها ويجب أن نذهب ونتعلّمها. وهذه الحقائق التي يقولها الإمام عليه السلام عن الله تعالى، هي مطالب يتحدّث عنها من أفق رؤيته التجريديّة، ونحن لسنا كذلك. فإمّا أن نصل إلى تلك المباني من وجهة نظرٍ عقليّةٍ في حدود فهمنا، أو من وجهة نظرٍ شهوديّةٍ.
إنكار الشهود والفلسفة!
يقال: الشهود لا قيمة له! وهو ليس بشيء! ليس فقط لا قيمة له، بل وننكره أيضًا! فما هذا الكلام والهراء؟! هذا الكلام لجماعة من الدراويش والعاطلين عن العمل. فهذا ذهب جانبًا!
والفلسفة أيضًا لا تنفع! فما هي الفلسفة؟! مطالب جاءت من كتب اليونان، ولم تكن في الإسلام أصلاً. وجدت قبل الإسلام بألف عام أو ألفي عام، وترجمت في زمن الخلفاء العباسيّين ليقفوا في وجه الأئمة عليهم السلام. والأئمة ردّوها وقالوا إنّها لا فائدة منها، فلا تستخدموا عقولكم في هذه المسائل! اجلسوا من الليل حتّى الصباح تدخّنون النرجيلة وتشربون القهوة، فلا مشكلة ولا عيب في ذلك، ولكن لا تفهموا سطرين، هذا هو العيب، هذا أشدّ من أي كفر! هذا عن الفلسفة.
القرآن في حياتنا: تلاوة بلا فهم؟
حسنًا. لا بأس. قل لي، هل قرأتَ القرآن أم لا؟
ـ لا! لا نحتاج القرآن أيضًا! فالقرآن فيه بعض الشيء عن آيات الأحكام، وهي كليّةٌ ولا تنفعنا، ويجب أن نفهم خصائصها من الروايات. والمسائل الأخلاقيّة نفهم كيف نعمل بها في الناس بأنفسنا خيرًا من الله. وقسمٌ منه قصصٌ وهي عن الأمم السابقة، والسلام وتمّ الخطاب. أحيانًا في مجالس الفاتحة، أو عند قبر الميت، أو عندما نريد تغيير المنزل، نُدخل القرآن أولاً! فهذا كلّ شيء. نعم! نضعه أيضًا على الميّت في حال الاحتضار، نسيت هذا! هذا بالنسبة للقرآن. فإذن القرآن لا فائدة منه.
آيات التوحيد: هل نفهم معناها؟
ثمّ يقولون: لا! ليس الأمر بالنسبة للقرآن إلى هذا الحدّ من الرفض، فماذا تقولون حوله وماذا تقصدون؟
نقول: هذه الآيات التي أنزلها الله في القرآن، هل أنزلها للنبيّ صلّى الله عليه وآله أم أنزلها لي ولكم؟ يقولون: حسنًا، ماذا تريدون أن تقولوا وماذا تقصدون؟!
نقول: هذه الآيات التي تقول: {هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالباطِنُ}۱ ما معناها؟
يقول: لا نفهم هذا. هذا الأول وذاك الآخر!
ـ ما معنى هذا هو الأول وذاك الآخر؟ وهو الظاهر وهو الباطن، ما معناها؟
ـ الظاهر هو ما نراه الآن، والباطن هو ما في المنبر. هل ترى ما في المنبر؟! لا، بل يجب أن تفتح بابه لترى. أنا أرى الآن قطعة قماش خضراء وبيضاء وأدواتٍ. بالنسبة لي الآن هي ظاهرة، ولكن بالنسبة لك هي باطنة. الآن هل يمكن أن تكون ظاهرة وباطنة في نفس الوقت؟
تقول: لا يمكن أن يكون شيءٌ ما ظاهرًا وباطنًا في الوقت نفسه، فإذا رأيته فلا يكون باطنًا بعد ذلك. ترى البطن والأمعاء والمرارة والكبد والقلب والكلى بواسطة الأشعة المقطعيّة والموجات فوق الصوتيّة والرنين المغناطيسي، حيث يرسلون بعض الأشعّة، وقبل وجود هذه الأشعة، ماذا كان يفعل الأطباء؟ كانوا يتوصّلون إلى المرض بالفحوصات والمعاينات الأخرى. والآن بعدما جاءت هذه الأجهزة، لم يعد لديهم هذا العناء أيضًا. بمجرّد أن يأتي المريض إليهم، يقولون تفضّل هذه الوصفة، واذهب وأجرِ هذه التحاليل، ثمّ ائتِ بهذه الصور، وافعل كذا وكذا. يقول له المريض: افحصني أيّها الطبيب. فيجيبه: اذهب يا رجل، فالمريض التالي على الباب. المسكين يجب أن يذهب ويتجوّل ويبيع بساطه، ثمّ يأخذ صورة ويأتي بها إلى العيادة! وقبل وجود هذه الأشعة، ما كان يدور في داخل القلب كان باطنًا. الآن الطبيب الذي يرى المعدة والمريء ودخول الطعام في المريء وكيفيّة دخوله ووظيفة المعدة من خلف الجهاز، ويرى دخول السائل في الاثني عشر، ويُشاهد إذا كان هناك قرحة، وقد أجرى منظارًا للمعدة ويرى المعدة بأكملها، فهل هذه المسائل بالنسبة له الآن باطنة أم ظاهرة؟! هي ظاهرة بالطبع. نعم، المريض الذي ينام ويُفحص، هذه المسائل بالنسبة له باطنة، ولكن بالنسبة لمن يرى، هي ليست باطنة، بل ظاهرة. لدينا مظهران: مظهر ظاهر وهو ظاهر البدن والجلد والبطن الذي نراه. ومظهرٌ بالنسبة لهم، وهو ما يرونه بواسطة الجهاز. وبناءً على هذا، إذا كان الشيء ظاهرًا فلن يكون باطنًا. افترضوا أن شخصًا لديه عينٌ تخترق المادة، سيصبح الأمر عجيبًا جدًّا وستحدث مسائل كثيرة! افترضوا أنّها تخترق الملابس مثلاً! تخترق الجدار. أليست الأمواج تخترق؟ فلو كانت عين إنسان ما هكذا أيضًا.
هل أولياء الله يروننا؟
قال لي أحدهم: هل أولياء الله يروننا أم لا؟
قلت: يروننا.
قال: إذن الوضع سيّئٌ جدًّا!! (ضحك)
قلت: لا! إنهم يغمضون أعينهم! (ضحك) عندما يأتي أحدهم إلى المرحوم العلامة أو تأتي عائلة، يبدأ المرحوم العلامة في سرد أحداث ليلة أمس الواحدة تلو الأخرى، أنت قلتَ هذا الشعر وهو أجاب، فمعلومٌ أنه يّرى كل شيء. ولكن قلت له: لا! هم يغمضون أعينهم، فلا تقلق! ولا تهتمّ! الآن لو أن شخصًا عينه تخترق، يعني هكذا، كما نرى هذا الجدار وهذا العمود، نرى هذا الحجر والآجر وهذه الأشياء، ونرى ما وراء العمود أيضًا، فهل ما وراء العمود باطنٌ بالنسبة لنا؟ لا، إنه ظاهرٌ.
إذن ماذا تقول هذه الآية القرآنيّة؟ هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، هو ظاهر وباطن. ما معناها؟! وهل يمكن أن يكون الشيء ظاهرًا وباطنًا في الوقت نفسه؟ حسنًا، أجب على ذلك.
ـ لا نفهم هذا، وهو يختصّ بالأئمة والأنبياء، فعلم ذلك يخصهم.
ـ إذا كان يخص الأنبياء، فلماذا قيل في القرآن؟ حسنًا، كان على الله أن يقوله للنبيّ صلّى الله عليه وآله، فلماذا يقوله في القرآن؟ إذا كان الإمام يفهم هذا، فليقله الله للإمام، ولماذا نقرأه نحن؟! ولنحذف هذه الآيات الستّ من سورة الحديد. الشيء الذي لا ينفعنا، لماذا نقوله؟ هل هو تميمة؟ لماذا نقوله؟ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}۱، لماذا نقرأ سورة التوحيد؟ ولماذا نقرأ آيات التوحيد في القرآن ونحن لا نفهم منها شيئًا؟! {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ}٢. هو إلهٌ في السماء وإلهٌ في الأرض، فهل يمكن لكيانٍ ما أن ينقسم إلى قطعتين؟ إذا كانت قطعةٌ منه في السماء، فهو ليس على الأرض. شيءٌ مع حفظ وحدته الشخصيّة يتكثر عدديًّا، بناءً على رأي القوم، لا بناءً على رأينا، فهو محالٌ. شيءٌ يكون واحدًا واثنين في نفس الوقت، هذا محالٌ. هذا الكوب إما واحدٌ أو اثنان. الآن الله إلهٌ في السماء لنفسه، ولا يفرق شيئًا ولا ينقص منه مقدار رأس إبرة، وهو إلهٌ في الأرض أيضًا، فكيف يكون هذا؟! كيف هو ارتباط المادّة بالمجرّد؟ كيف ترتبط المادّة بالمجرّد؟ إذا كان الله مادّةً، فالمادة لا يمكن أن تحافظ على وحدتها الشخصيّة في مكانين. إذا كان الله مجرّدًا، فكيف ترتبط المادّة بذلك المجرّد؟ وكيف هي كيفيّة ارتباط المادّة بالمجرّد؟ هل هذه المعاني يمكن أن يدركها من ليس من أهل الفلسفة والحكمة المتعالية أم لا؟ ممتنعٌ، مستحيلٌ.
هل روايات الأئمة قاصرةٌ على أحكام الظاهر؟
لنفترض أنّ القرآن لا ينفعنا، فهو يخصّ ما قبل ألف وأربعمائة عام كما يقول بعضهم. وروايات الأئمة عليهم السلام أيضًا لا تنفعنا أم لا؟ الأئمة عليهم السلام لم يقولوا فقط أحكام الحيض والنفاس. والأئمة عليهم السلام لم يقولوا فقط أحكام الغسل والتيمم والمعاملات والتجارات والمكاسب والديات، وروايات وأحاديث الأئمة عليهم السلام تتعلّق بالأحكام والتكاليف الظاهريّة، كما تتعلّق بالأصول والاعتقادات حول المبدأ والمعاد يا عزيزي. ومجرّد أن تضع روايات الإمام الرضا عليه السلام أمامك، تتعثّر. إذن لماذا قال الإمام الرضا عليه السلام هذا الكلام ولمَن قاله؟ ولِمَن قال موسى بن جعفر عليه السلام هذه الروايات؟ هل قالها لابنه الإمام الرضا عليه السلام؟ كان يمكنه أن يقولها في أذنه، لماذا قال هذا الكلام أمام ثلاثين إنسانًا وخمسين إنسانًا؟! لماذا قال الإمام الرضا عليه السلام تلك الخطب التوحيديّة أمام عددٍ قليلٍ من الناس؟! إذا كان من المفترض أن يفهمها الإمام الجواد عليه السلام فقط، فلماذا قالها لنا؟ أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن يقرأ تلك الخطب في أذن ميثم التمّار. خطبة يعني أنه صعد المنبر وجلس مئتان شخص، فكان يقول هذا الكلام لهم. ولم يفهم أحدٌ من هؤلاء الذين كانوا حاضرين. لِمَن قال الإمام هذا الكلام؟! قاله لأولئك العرفاء والحكماء الذين سيأتون بعد ألف عام، ومع الدراسة والبحث والتحقيق في أسرار عالم الوجود، سيفهمون حينئذٍ ماذا قال أمير المؤمنين عليه السلام قبل ألف وأربعمائة عام. وإلا فذلك العربيّ الذي كان جالسًا هناك وينظر بدهشة، هل كان يفهم خطب أمير المؤمنين عليه السلام؟!
سؤال الإمام عليّ عليه السلام: سَلُونِي قبل أن تفقدوني
أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي»۱. حقًا، يا لهم من أناس! يا أعزّائي، اسألوا ما شئتم فسأخبركم، لا تُضيّعوا هذه الكيمياء. هذه الكيمياء سيُضرب رأسها بالسيف بعد يومين ولن يكون لها أثرٌ في هذا العالم، فقدّروها ما دامت موجودةً، ما دامت موجودةً، اجعلوها ذات قيمة، لا تُضيّعوها، تعالوا لأخبركم بمشكلاتكم، لأخبركم بأمراضكم. تلك الأمراض التي لا يستطيع أيّ طبيبٍ أن يشفيها، تعالوا لأخبركم عنها، ولأحدّثكم عن أمراضكم النفسيّة، وأخبركم أين الخلل في عملكم، «سلوني»، تعالوا واسألوا قبل أن تفقدوني؛ فأنا أيضًا سأفقد يومًا ما، أنا لستُ أعلى من النبيّ صلّى الله عليه وآله، النبيّ مضى قبل خمسة وعشرين عامًا، وأنا أيضًا سأمضي. وبالمناسبة، كان يقول «سلوني قبل أن تفقدوني» في تلك السنوات الأخيرة، والأشهر الأخيرة، وفي تلك الأوقات، كان يحذّر وينبّه بأنّني لم يتبقَّ لي إلا القليل بينكم، فتعالوا واسألوني عما تحتاجون إليه، والذي لا تجدون إجابته في مكانٍ آخر.
سؤالٌ لا يليق: كم شعرةً في رأسي؟
يقول سعد بن أبي وقّاص: يا علي، كم شعرةً في رأسي؟ فهل يخطب الإمام فيهم خطبًا توحيديّة؟! حيفٌ على ذلك الوقت الذي يُضيّعه الإمام مع هؤلاء؟! فلم يكن الملاّ صدرا وابن سينا والفارابي وصدر الدين القونوي والسهروردي وحافظ ومولانا قد جلسوا يستمعون لكلام الإمام، بل جمعٌ من الناس. فقال له: يا عليّ. كم شعرةً في رأسي؟!
هل تريد أن تستخدم النورة لرأسك؟ لنفترض أنّ في رأسك عشرة آلاف شعرة، وخمسين ألف شعرة، هكذا حقًّا كانوا يتعاملون مع أمير المؤمنين عليه السلام، وهكذا نتعامل نحن مع الأولياء! ولا يختلف الأمر، يجب أن نستفيق قليلاً وننتبه، إذن لماذا كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول تلك الخطب؟! لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن يختصّ بذلك الزمان، بل هو لهذا الزمان وهو لنا. نعم! كان هناك عددٌ قليلٌ في ذلك الوقت: ميثم وحبيب ورُشيد، كانوا من الأصحاب والمقرّبين، وكما يقال، من الحواريّين والمحيطين بأمير المؤمنين عليه السلام. والإمام كان مسرورًا بهؤلاء الأربعة أو الخمسة، حسب مراتبهم. ولكنّه قال تلك المعارف من أجلنا الآن، الآن يظهر صدر المتألهين ويثبت وحدة الوجود ووحدة الحقّ بالصرافة، حتّى يتضح الآن كلام أمير المؤمنين عليه السلام على مبنى أصالة الوجود ووحدة الوجود وتشخّص الوجود، بعد ألف عام۱، فهل نفهم ماذا قال الإمام قبل ألف وأربعمائة عام؟ ماذا قال الإمام الرضا عليه السلام قبل ألف ومائتي عام؟
من العقل إلى الشهود: مرتبةٌ أعلى في الإدراك
هذا في حدود فهمنا، أما الحقيقة الأسمى والأعلى، فتتعلّق بمرتبة الشهود، حيث يشاهد الإنسان بقلبه ما توصّل إليه بعقله. يقال لك: يا رجل، الحلوى حلوةٌ، ولها هذا العطر وهذا الطعم وهذه الرائحة، وأنت لم تأكلها أبدًا، فيتكوّن في ذهنك صورة للحلوى، تلك الصورة، حسب شدّة الذكاء والفطنة وكيفيّة إدراك الجزئيّات، تكون قريبةً من تلك الحقيقة أو بعيدةً عنها، كلٌّ في ذهنه. ثمّ يأتون بها ويضعونها أمامك ويقولون: كُل الآن. وبعد أن يأكل الإنسان يقول: هذه هي التي أدركتُها. ثمّ يقول: لا، إنها تختلف قليلاً عما أدركتُه. ذلك الاختلاف القليل يعود إلى أنّه لم يتصوّرها مائة بالمائة في مقام التصوّر. كان قد اقترب منها، وصل إليها بنسبة سبعين بالمائة، وصل إليها بنسبة ثمانين بالمائة، ووصل إليها بنسبة ستين بالمائة.
بناءً على ذلك، حتّى أولياء الله تعالى والعظماء من حكماء الحكمة المتعاليّة، عندما كانوا يصلون إلى نهاية مرتبتهم العلميّة، كانوا يفكرون حينها: يا للأسف، لماذا لم تُصبح هذه المطالب شهوديّةً لنا؟!
قصّة ابن سينا والتحوّل نحو الشهود
ابن سينا رحمة الله عليه في آخر عمره، عندما كان يقول: لقد وصلتُ إلى الفعليّة من وجهة نظرٍ عقليّةٍ، ولم يعد هناك نقطةٌ مجهولةٌ بالنسبة لي، كان يقول: يا للأسف! لقد أغفلتُ مرتبة الشهود! أمضيتُ عمري في الدرس والبحث، وكانت حالاته في آخر عمره مختلفة، أصبح يميل إلى العزلة، وزاد من خلوته، وكان يقضي ساعاتٍ في البكاء والتضرّع. وكان يأمر تلاميذه بالتهجّد وصلاة الليل. هذه أشياء لم تكن موجودةً من قبل. كان يصلّي فقط، والتهجّد وصلاة الليل لم تكن من عادة ابن سينا. ولكنّه رأى أنّ ما كان لديه لم يكن كافيًا! يا للعجب! لقد فهم للتوّ كم من الأشياء لا تزال متبقيّة. عندما كان بعض تلاميذه يحضرون الدرس ويشعر بالفتور لديهم، كان ينزعج ويعطّل درسه. كان يقول: التلميذ الذي لا يقضي الليل بالتهجّد والتضرّع لا يفهم درسي الصباحي، أنتم لا تنفعون! لا أُضيّع درسي معكم.
الملا صدرا: بين العلم والشهود
والملا صدرا الشيرازي بعد أن مرّ بمراتب علميّة، اعتزل في آخر عمره. وكان يقضي أيّامه في هذه النواحي من قم في التهجّد والذكر والورد والمراقبة والتوسّل بالسيّدة فاطمة المعصومة. وقد كتب "الأسفار" في هذه الفترة، والتي كانت مصحوبةً بالمكاشفات والمشاهدات والإدراكات. في كلّ جزءٍ من "الأسفار"، يقول: لم أستطع إدراك هذا الأمر بالعقل، ولكنّ التوفيق الإلهيّ والبوارق الإلهيّة وضّحت هذه الحقيقة في ذهني هكذا وبشكلٍ جليٍّ، هذه كانت مكاشفات معنويّة توحيديّة، الفارابي والميرداماد كذلك، مشاهدات الميرداماد والكتب التي كتبها في أواخر عمره.
الآخوند الملا حسين قلي الهمداني: تهذيب النفس بعد الفلسفة
والمرحوم الآخوند الملّا حسينقلي الهمداني بعد أن أتمّ دروس الفلسفة عند الحاج الملّا هادي السبزواري، بدأ يفكّر في تهذيب النفس. يا إلهي! ملأنا عقولنا وأذهاننا، وتوصّلنا إلى مطالب سامية، ولكن أين الشهود؟ لقد فهمنا أنّ هناك إلهًا وله أسماء وصفات. انظروا إلى «معرفتي بِك دليلي عَليك». هؤلاء لم يصلوا إلى الله بالاعتماد على الكيمياء والفيزياء وغيرهما من هذه الأقاويل!
فالذين يعتمدون على هذه العلوم مرخّصون، إنّهم من عباد الله المرخّصين! ذات سألني المرحوم العلامة عن حالي، فقلت: إنّا من عباد الله المرخّصين! نحن مرخّصون. قال: متى نزلت هذه الآية؟ قلت: ليلة أمس! نزلت عليّ ليلة أمس. فهؤلاء جميعًا مرخّصون. لا يا عزيزي! فهذه المعرفة هي الحدّ الأدنى. ولكنّ معرفتي بك هي الدليل، تبدأ في الوسوسة للإنسان، تبدأ في نخسه، تبدأ في تحفيزه، تبدأ هذه العلوم في سوق الإنسان نحو حقائق ما وراء نفسها. فالإمام السجّاد عليه السلام يقول هذا، إنّ هذه المعرفة التي وجدتها بك حرّكتني. هذه المعرفة ليست معرفة شكوك الصلاة، فهذه تتعلّق بالأعمال والجوارح. ثمّ ماذا بعدها؟ ماذا حدث؟ هل انتهى الأمر؟ ذلك الإله الذي هو هكذا، ذلك الإله الذي رحمته كذا، ذلك الإله الذي علمه كذا، وظهوره كذا... فلِمَن قال الأئمة عليهم السلام هذه الروايات؟ من المؤكد أنّهم قالوها لنا.
هل نحتاج الفلسفة والحكمة لفهم حقائق الدين؟
هل يستطيع الإنسان أن يصل إلى هذا المطلب بدون الالتفات إلى هذه العلوم، وبدون دراسة الفلسفة والحكمة أم لا بل يجب أن يقول في جواب شبهات المشكّكين وشبهات الملحدين أمثال ابن كُمّونة وأمثال هؤلاء الذين قالوا عن وحدة الصانع: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}۱، قالوا: ما المشكلة في أن يكون للسماء إلهٌ وللأرض إلهٌ، ولا يتقاتلان ولا يتشاجران، ويتصالحان؟ أليس الأمر كذلك الآن؟ رئيسان يأتيان ويجلسان خلف طاولة، يضعان الخارطة أمامهما، ويتّفقان على أنّ ما وراء الخطّ لك، وما قبل الخطّ لي. والله أيضًا هكذا، وضع هو والإله الآخر خارطة السماء والأرض أمامهما واقتسماهما! فهذه المجموعة الشمسيّة والزهرة وأمثالها لك، افعل فيها ما تشاء! والماء والريح وأمثالها هي لي، ولن يتقاتلا أبدًا وسيكونان في سلامٍ وصلح، لأنّهما يعلمان أنّ كل من يحاول الاعتداء على الآخر، وفي حدود حكمه، مثل عالم اليوم، دولة تريد احتلال دولة أخرى، يا عزيزي اجلس مكانك، كُل هذا هو لك يكفي. احتلت دولةً، وتريد احتلال الثالثة، يا عمّي! توقّف، ما الخبر؟ يقول ابن كُمّونة: نحن أهل صلحٍ ومصالحةٍ، ولسنا أهل حربٍ. لدينا إلهان. إلهٌ للسماء، وهو جيّدٌ جدًّا، لديه قمرٌ لا يعلى عليه. وإلهٌ للأرض. وهو أفضل منه. وهذان جلسا وقسّما الوظائف، وقسّما الصلاحيّات، فما المشكلة؟! فليجب القوم ما هو الجواب؟! بأيّة روايةٍ تريدون أن تجيبوا على هذا؟ بأيّ حديثٍ تريدون أن تجيبوا على هذا؟
ردّ الفلاسفة على شبهات الملحدين
يقول صاحب روضات الجنات: رغم أنّه لا يوجد أيّ جوابٍ لشبهة هذا الإبليس! ـ يسمّونه "افتخار الشياطين"! وهو حقًا افتخار الشياطين! شخصٌ يُلقي مثل هذه الشبهة في قلوب هؤلاء ـ رغم أنّه لا يمكن الإجابة على هذه الشبهة بأي دليلٍ غير برهان الفلاسفة ودليلهم، إلا أنّنا بما أنّ لدينا في القرآن المجيد سورة {قل هو الله أحد}۱ وبعض آيات التوحيد، ونعلم أنّ الله تعالى صادقٌ ويقول الحقّ في كلامه، لذلك لسنا بحاجةٍ للإجابة على هذه الشبهة.شكرًا لك! هل كان ابن كُمّونة جالسًا ينتظر ليسمع منك هذا الكلام الذي هو كالجواهر؟! ما شاء الله! رائع! هو يقول: أنا لا أقبل إلهكم أصلاً، فكيف بقرآنكم؟ أنت تقول: بما أنّه وردت آياتٌ عن التوحيد في القرآن، فلا حاجة للإجابة. هو أيضًا يقول: شكرًا جزيلاً، بارك الله بك، إلى اللقاء.
أما صدر المتألهين، فقد تقدّم مثل الأسد إلى الأمام، وظهره مستندٌ إلى سدّ الإسكندر، وعلى أساسٍ قويٍّ جدًّا، هزَمَ "افتخار الشياطين" هذا هزيمةً جعلته يتبخّر ويتلاشى. قال: أيّها المسكين التعيس، بقاعدتَي أصالة الوجود ووحدة الوجود، لم يتبقَّ شيءٌ لهذه الشبهة، فلازم التعدّد إثبات الأنانيّة وإثبات الماهيّة للّه تعالى، وإثبات الماهيّة يقتضي الإمكان. والإمكان يقتضي علةً ثالثة. والعلة الثالثة توجب عدم التعدّد. وانتهى الأمر. اثنان في اثنين أربعة. هزمه. في أيّ روايةٍ هذا؟
مفاخر الإسلام: علماء الفلسفة والعرفان
هؤلاء مفاخر الإسلام، هؤلاء هم الذين يفتخر بهم الإمام الصادق عليه السلام، وأمير المؤمنين عليه السلام يفتخر بأمثال صدر المتألهين والفارابي ومحيي الدين وحافظ وابن سينا والحاج الملا هادي السبزواري والعلامة الطباطبائي، والعرفاء لهم مقامهم، فهم خارج دائرة البحث، يفتخر بهم في مدرسته، من بين كل هؤلاء التلاميذ، كان للإمام الصادق عليه السلام هشام بن الحكم. وهو أيضًا كان شخصًا جيّدًا ومناظِرًا، ولكن ما علاقته بصدر المتألهين؟! كلما جاء هشام أجلسه بجانبه. كان يعظّمه ويُبجّله. من كان؟ كان رجلاً يذهب إلى هنا وهناك، يقف في وجه معاندي مدرسة أهل البيت عليهم السلام ويُدينهم، بأدلّة عقليّةٍ يُدينهم. ويثبت الولاية في وجه المدارس الماديّة. كان محلّ تعظيمٍ كبيرٍ من الإمام الصادق عليه السلام. هو أين، وصدر المتألهين أين؟ والملا هادي السبزواري والحكيم النوري وابن سينا والفارابي وأولئك العظماء من الفلسفة والعلامة الطباطبائي أين؟ حقًّا هؤلاء هم الذين أحيوا فلسفة الإسلام، وأحيوا حقائق الإسلام. ولو لم يكن هؤلاء، هل كان يتبقّى فخرٌ للآخرين في وجه شبهات الملحدين أم لا؟
معرفةٌ تؤثر في العبادة والحياة
هذه هي المسألة في «معرفتي يا مولاي»، فإذن معرفتي بك، معرفتي بك هي دليلي إليك. عندما أعرف حقيقتك التجريديّة في ارتباطها بي، وتلك الحقيقة الربطيّة بيني وبينك، ليس بالشهود بل بهذا العقل والبرهان، حينئذٍ كيف أصلّي؟ حينئذٍ كيف أصوم؟ كيف ستكون معرفتي بعد ذلك؟
كان المرحوم العلامة يقول: عندما أتحرّك في هذا الشارع، قال هذا الكلام في زمن الشاه، في الوقت الذي كانت فيه غير المحجّبات يسِرن بشعر مكشوفٍ في الشارع، فانظروا ماذا يريد أن يقول. يقول: عندما أتحرك في هذا الشارع، بمجرّد أن تقع عيني على امرأةٍ حاملٍ، تنتابني حالةٌ أرى فيها نفسي في نفس مجرى نزول نور الله تعالى الذي ينزل في هذا العالم. أي أنّني أشعر بنفسي في ذلك المجرى الذي تنزل فيه حقيقةُ {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}۱، حيث يتنزّل هذا الإنسان من مقام الذات، يغيّر الوجه والشكل، يُحقق الهويّات المختلفة بواسطة الماهيّات المختلفة في العالم الخارجي. هذه الظهورات تتوالى حتى يخطو إلى عالم الوجود. كان المرحوم العلامة يقول: أشعر بنفسي في نفس ذلك المجرى مع ذلك الجنين في بطن تلك المرأة غير المحجّبة التي تمشي في الشارع وهي حامل. وأرى في وجودي نفس الشعور الذي يشعر به الله تعالى تجاه هذا الجنين، تجاه هذا الجنين. انظروا إلى أين يذهب هؤلاء؟ في أيّ فئةٍ هم؟
قصةٌ مؤثرةٌ: رحمةٌ لا حدود لها
في إحدى المرّات، قال شيئًا عجيبًا. في السابق، في مسجد القائم، كان يلقي محاضراتٍ عن معرفة الإمام. وكان يتحدث بنفسه في شهر رمضان المبارك في سنواتٍ كثيرة. أذكر تلك السنة التي كان يتحدّث فيها عن معرفة الإمام، ثمّ واصل تلك المطالب في تلك الليالي في مسجد القائم في ليلة الثلاثاء. ونتائج تلك المطالب هي مجلّدات معرفة الإمام المتوفرة حاليًّا. ذات يومٍ قال لي: يا فلان، كنتُ أدرسُ هذه القضيّة بالأمس. تلك القضيّة التي هي حقًّا عجيبة، فمن أين نتحدّث عن هؤلاء؟ قصّة حياة امرأةٍ مسكينةٍ أُحضرت إلى هناك، امرأة حامل. وجاء أناسٌ وقالوا إنّ هذه المرأة لديها طفل، إمّا كانت حاملاً أو قد ولدت. فليبحث عنها الرفقاء. على الأرجح أنّها في هذا معرفة الإمام. وخلاصة القول، قالوا إنّ حملها لم يكن من زوجها، فإما أنّ لون الطفل الذي ولد كان مختلفًا، ومن المحتمل أن يكون الأمر هكذا. مهما بكت المرأة وصرخت: يا جماعة أنا متزوجةٌ ولديّ زوج، نظر إليها عمر مباشرةً وأصدر أمرًا برجم هذه المرأة المسكينة. وأخذوا هذه المرأة ورجموها حيّةً أمام أعين الجميع. ومزّقوها إربًا وقتلوها. يا لها من جريمة! الآن طفلٌ عمره خمسة عشر عامًا يضحك على هذا الكلام! أمسك بامرأةٍ بريئةٍ لا ذنب لها وأعدمها. لأنّ لون الطفل يختلف عنها، أو أنّ زوجها لم يكن موجودًا في ذلك الوقت، أو أنّها حملت بطريقةٍ غير عادية. قالت: لم أزنِ. كان يقول: عندما قرأتُ هذه القضيّة، تغيّرت حالي بشكلٍ عجيبٍ. لم أعد أملك نفسي. كانت عبارته هكذا: بكيتُ أربع ساعات٢. أعلم ما مرّ به. في ذلك الوقت، كانت حالته تجاه هذه المرأة هي نفس الحالة التي كان يشعر بها الإمام عليه السلام تجاهها، والتي كان يشعر بها الله تجاهها. جانب العطف والرحمة من جهة، جانب كونها مجرى الفيض الإلهي من جهة، جانب الاتحاد مع تلك الحقيقة الخارجيّة من جهة، وبراءتها، تضافرت كلّ هذه الأمور. وأصبح تحمّل هذه المسألة مستحيلاً بالنسبة له. يقول: أربع ساعات لم أكن أملك نفسي. أيّة معرفةٍ هذه التي يمكن لشخصٍ أن يمتلكها تجاه ما هو خارجٌ عن نفسه وغيره وبني نوعه؟ هذا يمكنه أن يتولّى زمام الحكم والأمر.
القيادة والاتّصال بعالم القدس
الآن وصلتم إلى تلك المطالب التي كنّا نقولها في ذلك الزمان، بأنّه يجب أن يكون من يتولّى الحكم متّصلاً بعالم القدس، وأن يهدي من هناك، وأن يكون إدراكه للأحداث إدراكًا علّيًا لا معلوليًّا وكثراتيًّا، لا ينظر من الأسفل، بل ينظر من الأعلى، هذا الرجل يجب أن يحكم، وهذه هي المسألة المهمّة. وهذه الأمور تُظهر كيفيّة معرفة الإنسان التي يجب أن تكون دليلًا، فأيّة معرفةٍ هي الدليل؟ أيّة معرفةٍ يمكن أن تُوصل الإنسان؟ هناك ضجيجٌ وصخبٌ كثيرٌ. خلف مكبّرات الصوت والميكروفونات والإذاعات والتلفزيونات في جميع أنحاء العالم، هناك ضجيجٌ وصخبٌ كثيرٌ. {كُلٌّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}۱. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}٢، {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}٣
هر كسى از ظنّ خود شد يار من | *** | واز درون من نجست اسرار من |
يقول: ظَنّ كلّ امرئ أن صَارَ صديقي *** وَلم يبحث مِنْ دَاخِلِي عَنْ أَسْرَارِي.
كلٌّ منهم بناءً على ظنّه ووهمه صار صديقي.
فهذه المعرفة تُصبح دليلاً، والإمام عليه السلام قال: «وحُبّي لك شفيعي». فهذه المعرفة قادتنا نحوك.
والآن ماذا نُقدّم؟ وأيّ زادٍ نحمل؟ أيّ شيءٍ يليق أن يُقدّم في حضرتك لنُقدّمه؟ عندما يذهب الإنسان إلى مكانٍ ما، يأخذ هديةً أو تحفةً ليقول: جئتُ إلى هنا وأحضرتُ هديةً.
قصّة الدرويش وصندوق الجواهر
يُنقل ويُقال إنّ أحد هؤلاء الدراويش جاء لزيارة المرحوم الآخوند الملاّ حسين قلي الهمداني. وقبل أن يأتي، وضع بعض الجواهر والنقود وغير ذلك في صندوقٍ وأرسله إليه قبل مجيئه. حسنًا، كان من رؤساء الدراويش وأمثالهم، فوضع المرحوم الآخوند هذا الصندوق جانبًا ولم يمسّه، فهو لا يحتاج إلى هذا بل ينظر إلى شيءٍ آخر وكأنّه يقول: أحضر صندوق قلبك وسلّمه، أحضرتَ صندوق مال؟! تركتَ صندوق القلب لنفسك وأحضرتَ المال؟! وبعد أسبوع، جاء هو بنفسه. جاء بنفسه مع تلاميذه. فقال المرحوم الآخوند: ما مطلبكم؟ قال: جئنا لخدمتكم، وسنُطيع أيّ أمرٍ تأمرون به. قال: أحضروا ذلك الصندوق، فأحضروا الصندوق، فقال لهم: ليَبقَ هذا الصندوق عندكم. وفي الوقت نفسه قال: أحضروا مقصًّا. فأحضروا المقصّ، فقصّ له شواربه! قال له: خذ هذا الصندوق لنفسك، وعندما تأتي إلى هنا، فيجب أن تكون موافقًا للشريعة، وإطالة الشارب عمل مكروهٌ، وأنت هنا جعلتَ الشارب دكّانًا ووسيلة للتجارة، فهذه الشوارب التي يُطيلونها هي دكّانٌ، كلّ شعرةٍ منها دكانٌ، ولها مبلغ يدفع كخلوّ! وكلّ شعرةٍ منها تساوي عشرة ملايين. تقول: لا، اذهبوا واسألوا! خصلتان من الشعر بعشرين مليونًا. فهي كلّها زينة. يقولون: نُطيل شواربنا يعني نُغطّي أفواهنا. لماذا لم يفعل أمير المؤمنين والنبيّ صلّى الله عليه وآله والإمام السجاد عليه السلام هذا؟! ما هذه الأشياء المبتدعة؟! ألا يقولون إنّها مكروهة؟! فاذهب وقصّها، ولا تُقدّم تلك التبريرات أيضًا، فلو كان من المفترض أن يفعل أحدٌ هذا، لفعلوه هم، واترك هذه الألاعيب جانبًا، فأحضر المقصّ وقصّ شواربهم، وقال: الآن صارت حالتكم جيّدة؟
فهذا هو تلميذ مَن كان يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني». وقد أحضر المقصّ ووضعه حيث الألم وحيث العيب، وحيث الإشكال، فهو تلميذ ذاك، يعرف أين يضع الجمر وأين يضع المرهم.
على الإنسان أن يأخذ شيئًا كهديّةٍ لعظيمٍ يذهب إليه، حتّى يقبله ذلك العظيم، ونحن بمعرفتنا بك، وصلنا إلى بابك هذا، فكيف ندخل هذا البيت؟ يا الله، عرفناك لا بهذه المعرفة التي يمتلكها الآخرون، فهي لا تنفع! بل بتلك المعرفة التي هي الحدّ الأدنى، الحدّ الأدنى للغاية، والتي يمكن في ظلّ كلام الإمام السجّاد عليه السلام أن تجذبنا نحوك. نحن لا يمكننا أن نفهم ما قاله الإمام السجّاد عليه السلام حتّى لو عشنا مائة ألف سنة. لا! ذلك الحدّ الأدنى الذي يختلف عن الآخرين، ذلك الحدّ الأدنى الذي أنت وفّقتَنا إليه، وكان من توفيقك، الفهم والشعور والاستعداد الذي أعطيتَنا إيّاه، ومَن أوجد الظروف؟ لو كنّا في ظروفٍ غير هذه، فهل كان هذا الكلام سيصل إلى أسماعنا؟ لماذا لم نذهب إلى أماكن أخرى ومجالس أخرى وتسلية وسهرات؟ لماذا وقع مسيرنا إلى هنا؟ لماذا وقع مسيرنا إلى هذه المطالب والمدرسة؟ ولماذا وقع مسيرنا إلى هذه المسائل التي أدركنا أن وراءها أمرًا ما؟ فمن الذي وفّق بهذا التوفيق؟ ومَن وفّر الوسائل؟ ومَن مهّد لنا الطريق؟ ومَن أزال المشاكل؟ ومَن أزال الموانع من طريقنا؟ وأحضرنا، أحضرنا حتى تعلّمنا مقدارًا من المطالب على قدر فهمنا؟ من أين كان هذا؟ هذا كان من عند الله. أنا من جهتي أقول إنّه من عنده. والآخرون مختارون! يمكنهم أن يقولوا: لا! إنه من عندنا، لا مشكلة، ولكنّكم ستخسرون. إن شاء الله في الليالي الأخرى سنقول إنه من الأفضل أن نردّ كل شيءٍ هو لأنفسنا، وألا نترك لأنفسنا شيئًا، وإذا تركنا شيئًا، فقد خسرنا بمقدار ذلك. لا أنّنا خسرنا بمقدار ذلك، إذا تركنا ذرّةً، فقد خسرنا خسارةً عظيمةً. لا أننا إن تركنا ذرّةً فسنكون قد خسرنا ذرّةً، كلاّ أيّها الرفقاء! بل إذا تركنا ذرّةً لأنفسنا، فقد خسرنا كثيرًا، وهنا التناسب معكوس.
ورغم أنّ التوفيق كلّه منك، وهذا كلّه منك، فقد وجدنا المعرفة وجئنا، جئنا حتّى وصلنا إلى هذا الباب. ليس هناك دليلٌ على أنّهم سيفتحون الباب لنا. وصلنا وأدركنا أنّ المنزل هنا، وصاحب المنزل هنا، وصاحب المنزل يمتلك هذه الصفات والخصائص والأسماء والفضائل. أدركنا هذه الأمور. يقول: أدركت؟ إذن ماذا أفعل؟ وأيّ شيءٍ يجب أن أقدّمه كهديّةٍ حتّى يُدخلونا البيت بتلك الهدية؟! هنا، ذهب الإمام السجّاد عليه السلام إلى «وحُبّي لك». فالمعرفة أوصلتنا إلى هنا، ولكن للدخول إلى البيت، للدخول إلى الحريم الإلهي، للدخول في مقام القرب، ما الذي نحتاجه؟ هل العمل؟ العمل الصالح؟ لقد تمّ الحديث عن أن الإنسان يحتاج إلى العمل، ولكن هل يمكن للعمل أن يكون هديةً أم لا؟ إن شاء الله للمجلس القادم.
اللَهمّ صلّ علی محمّد و آل محمّد.