المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1427
التاريخ 1427/09/14
هوالعلیم
ما هي المعرفة التي تُوصِلُ إلى الله؟
مراتب المعرفة وقصص من حياة الأعاظم
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي ـ سنة ۱٤٢۷ هـ ـ الجلسة التاسعة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
وصلّى اللهُ على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسمِ محمّدٍ
وعلى آلهِ الطيّبينَ الطاهرينَ
واللعنةُ على أعدائِهم أجمعينَ
«معرفتِي يا مولايَ دليلِي عليكَ وحُبِّي لكَ شفيعِي إليكَ وأنا واثقٌ من دليلِي بدلالتِكَ وساكنٌ من شفيعِي إلى شفاعتِكَ».
فأنا واثقٌ من أنَّ دليلِي لنْ يخذلَنِي في الدلالةِ عليكَ، ومطمئنٌّ إلى أنَّ شفيعِي سيوصلُنِي إلى شفاعتِكَ.
لقد ذكرنا أمورًا حولَ هذهِ الفقراتِ في كيفيةِّ المعرفةِ ومراتِبِها ودلالتِها على مقامِ القُربِ الإلهيِّ، وأيُّ قسمٍ من المعرفةِ يمكنُ أنْ يدلَّ على اللهِ تعالى، وأيُّ نوعٍ من المعرفةِ يمكنُ أنْ يوصلَ الإنسانَ إلى اللهِ تعالى. أهذه المعارفُ الظاهريّةُ الشائعةُ هي التي توصلُ الإنسانَ إلى اللهِ؟ وهلْ هيَ بهذا المستوى العاميِّ؟ هلْ هذهِ هي المعرفةُ التي توصلُ الإنسانَ إلى اللهِ؟ حسنًا، فكيفَ تنفعُ هذهِ المعرفةُ الإنسانَ؟! وما فائدة معرفةُ اللهِ التي تقتصرُ على أداءِ تكليفٍ ظاهريٍّ للإنسانِ؟
حجُّ الظاهرِ وحجُّ الباطنِ: هلْ يتساويانِ؟
تلكَ المعرفةُ التي يذهبُ بها المرءُ إلى الحجِّ لأداءِ فريضةِ الحجِّ، وعندما نسألُهُ عن حالِهِ ووضعِهِ؟ يقولُ: إنْ شاءَ اللهُ تنقضي هذهِ المشقةُ بعدَ يومينِ أو ثلاثةٍ ونعودُ إلى أهلِنا وأولادِنا! أفهذهِ المعرفةُ التي لا تتعدّى انتظار انتهاء المشقّة تتساوَى معَ معرفةِ الإمامِ الحسنِ عليه السلام الذي حجَّ خمسًا وعشرينَ مرةً، أكثرها ماشيًا على قدميهِ؟! هذهِ منَ القضايا التي يبدُو أنَّ قياساتِها معَها۱. فهذه المعرفةُ التي تجعل الإنسان ينظر إلى فريضةِ الحجِّ على أنّها مجرّد أداء تكليفٍ ظاهريٍّ، بحيثُ لا فرقَ لديه بين الكعبةِ وبين أيِّ تلّةٍ في الصحراءِ، غير أنَّ هناكَ تكليفًا يجب تأديتُه، أمّا الطواف في الصحراءِ حولَ التلِّ والحجارةِ فليسَ واجبًا. ولا يميّز بين السعيَ بينَ الصفا والمروةِ وبين السيرِ في الشارعِ، إلّا أنَّ الفرقَ تعلّقُ أمرٍ وجوبيّ بالأول ولا وجوب في السير في الشارع. كذلك باقي الشعائر كالذهابَ إلى عرفاتٍ والمشعرِ وغيرها، فهي لا تختلفُ عنِ السفرِ والتنقُّلِ منْ مدينةٍ إلى أُخرى والمبيت في الصحراءِ وشرب الشايِ وأكل الجبنِ والفطور، إلّا أنَّ الذهابَ إلى عرفاتٍ والمشعرِ تكليفٌ واجبٌ، أما الجلوس في الصحراءِ والنوم فيها ونصب الخيامِ فليسَ تكليفًا. يقتصرُ الفرقُ عنده على هذا الحدِّ لا أكثر. فهلْ هذهِ المعرفةُ توصلُ الإنسانَ إلى اللهِ؟ إنّ مجرّد أنَّ اللهَ قالَ تعالَوْا وانصبُوا الخيامَ وبيتُوا ليلةً ثمَّ اذهبُوا إلى هناكَ واجمعُوا بعضَ الحصَى وارمُوا بها جدارًا واذبحُوا شاةً، وإن لمْ يتيسّرِ الذبحُ هناكَ، فمنَ الأفضلِ أنْ تطلبُوا منْ أهلِكم وأولادِكم أنْ يذبحُوا عنكم! فهلِ المقصودُ هوَ الذبحُ بحدّ ذاته؟ وهلْ نفهمُ أصلًا ما هوَ الذبحُ في منَى وما هيَ آثارُهُ وخواصُّهُ؟ نحنُ بعيدونَ عنْ كلِّ هذهِ المسائلِ وتتركّزُ معرفتُنا فقطْ على مراعاةِ تكليفٍ نريدُ أنْ نستنبطَهُ ونحصّلهُ بناءً على فهمِنا الناقصِ وعلى بضعةِ أدلّةٍ ورواياتٍ.
أسرارُ الحجِّ عندَ العارفينَ
هذا الحجُّ يختلفُ عنْ ذلكَ الحجِّ الذي قام به المرحومُ الحدّادُ رحمه الله ثمَّ نقلَ أسرارَهُ للمرحومِ العلاّمةِ، مبيّنًا ما هوَ رميُ الجمارِ، وأيُّ مرتبةٍ منْ مراتبِ الإنسانِ هيَ الوقوفُ بالمشعرِ، وفي مسيرِ رجوعِهِ إلى الحقِّ في مقامِ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}۱، وأسرارَ الوقوفِ في عرفاتٍ والمشعرِ، ورميَ الشيطانِ، واستقبالَ القبلةِ واستدبارَها، والسعيَ بينَ الصفا والمروةِ، واتّباعَ السيّدةِ هاجرَ عليها السلام، وفي أيِّ مرتبةٍ يجبُ أنْ يتمَّ هذا الاتّباعُ، ولماذا يجبُ على الإنسانِ أنْ يعمل كعمل هذهِ السيّدةِ العظيمةِ حتّى يومِ القيامةِ، بلْ يجب هذا حتّى على الأنبياء والأئمّة عليهم السلام؛ وكذا الأمر في الصلاة خلفَ مقامِ إبراهيمَ عليه السلام، حيثُ يضعُ الإنسانُ موطئَ قدميهِ أمامَهُ ويصلِّي خلفَ موطئِ قدمَيْ إبراهيمَ عليه السلام، فما قيمةُ موطئِ القدمِ هذا وما المكانةُ التي يحصِّلُها الإنسانُ بهذهِ الصلاةِ التي لوْ صلّاها في أماكنَ أُخرى لبطلتْ؟ يجبُ أنْ يقفَ خلفَ قدمَيْ إبراهيمَ عليه السلام ليقومَ بهذا العملِ، أيْ أنَّ هذهِ الصلاةَ التي أُصلِّيها الآنَ تجعلُنِي شريكًا معَ إبراهيمَ عليه السلام في بناءِ هذهِ الكعبةِ! هلْ هذا الحجُّ بهذهِ الخصوصيّاتِ يتساوَى معَ الحجِّ الذي يقولونَ فيهِ يجبُ أنْ تضبطَ كتفَكَ بزاويةٍ هندسيّةٍ معيّنةٍ تجاه الكعبة كي لا تنحرفَ يمينًا أو شمالًا؟ فهلْ هذهِ المعرفةُ كتلكَ؟! لا يعرِفُ الإنسانُ أيبكِي على هذهِ الأمورِ أمْ يضحكُ؟ أيأسفُ على هذا القدرِ منَ المعرفةِ أمْ أنَّ المسألةَ وصلتْ إلى حدٍّ لا يسمحُ لهُ بإدخالِها في أُذنيهِ أصلًا؟! هلْ هذهِ المعرفةُ توصلُ الإنسانَ إلى اللهِ؟ بدلَ الذهابِ إلى عرفاتٍ والتوجُّهِ والابتهالِ وهذهِ الأمورِ، يأتِي جنابُ رجلِ الدينِ ليقولَ: صوِّرُونا فيديو وصورًا فوتوغرافيةً ونحنُ نصلِّي، والناسُ جميعًا بدلَ أنْ يكونوا ملتفتين إلى قيمة كونهم في عرفاتٍ، تكونُ رؤوسُهم متّجهةً إلى كاميرا التصويرِ، وهوَ يدورُ بينَهم واحدًا تلوَ الآخرِ بين الصفوف ـ وهذه الأمورُ التي أقولُها قد رأيتُها بعينِي ـ فهذهِ هي عرفاتهم وتلكَ هي صلاتهم، وغير ذلك من الأمور التي ندع الكلام عنها. هلِ الأمرُ هوَ هذا أمْ ذلكَ الحجُّ الذي رأيناهُ منَ الأعاظمِ وأولياءِ اللهِ؟ وذلكَ التوجُّهُ الذي رأيناهُ منهم وتلكَ الأسرارُ التي كنّا نسمعُها منهم؟
ما هيَ المعرفةُ التي يرتضِيها الإمامُ السجّادُ عليه السلام؟
أيٌّ منْ هاتينِ المعرفتينِ هيَ المقصودةُ في كلامِ الإمامِ السجّادِ عليه السلام: «معرفتِي يا مولايَ دليلِي عليكَ وحُبِّي لكَ شفيعِي إليكَ وأنا واثقٌ منْ دليلِي بدلالتِكَ»؟ أنا مطمئنٌّ وواثقٌ وأقولُ جازمًا: إنَّ هذهِ المعرفةَ توصلُنِي إليكَ. فهل المقصود هذهِ المعرفةُ باللهِ؟ هلْ هذهِ المعرفةُ هيَ الدليلُ أمْ لا؟ المعرفةُ باللهِ هيَ تلكَ المعرفةُ التي توجبُ الابتهالَ الكُلِّيَّ والتضرُّعَ التامَّ وإلقاءَ جميعِ شوائبِ الوجودِ على هذهِ العتبةِ وهذا الفناءِ ـ الفَناءُ بالفتحِ ليس بالكسر أي العتبةُ، البابُ۱ ـ يُلقِي الإنسانُ كلَّ تفاصيله وأفكارِهِ هنا ويتركها هنا.
متى تصلّى إذن؟
تلكَ الصلاةُ التي قيلَ فيها، عندما وصلَ ذلكَ الرجلُ العظيمُ إلى محضر وليٍّ من أولياءِ اللهِ وقالَ: أنا في الصلاةِ أدفعُ الخيالَ والخواطرَ، فأجابَهُ ـ يا لهُ منْ جوابٍ عجيبٍ! ـ «متَى تصلِّي إذن؟!». يعنِي أنَّ الإنسانَ في الصلاةِ يجبُ أنْ يتجاوزَ حتّى مرحلة دفعَ الخواطرِ؛ فدفعُ الخواطرِ هوَ حربٌ وجدالٌ يخوضُهُ الإنسانُ معَ الشيطانِ، وهذهِ الأمورُ يجبُ أنْ يقومَ بها قبلَ الصلاةِ. أمّا في الصلاةِ فلا ينبغِي له أنْ يخوضَ حربًا وجدالًا معَ الشيطانِ. في الصلاةِ يجبُ أنْ يكونَ التوجُّهُ مباشرةً إلى جانبِه تعالى، ويتركُ الخصوماتِ معَ الشيطانِ لما قبلَ الصلاةِ، وعندما يصفِّي حسابَهُ معَهُ ويخرجُهُ منْ قلبِهِ، يأتِي ويقولُ: اللهُ أكبرُ. تلكَ الصلاةُ التي يقولُ عنها ذلكَ الوليُّ الإلهيُّ: «متَى تصلِّي إذن؟» هلْ تتساوَى معَ الصلاةِ التي عندما يريدونَ تصويرَ الإنسانِ فيها، يُصلِحُ عباءتَهُ ويُغمِضُ عينيهِ ويُطأطِئُ رأسَهُ ولا يضعُ تحتَ الحنكِ؟ فوضع طرف العمامة تحت الحنك كان لزمنِ النبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ، ولزمنِ الأئمّةِ عليهم السلام، أمّا في زمانِنا فلا! فما هو وضع العمامة تحتَ الحنكِ هذا؟! ينبغي أنْ تكونَ العمامةُ مرتّبةً وجميلةً ليراها الجميعُ بشكلٍ مرتبٍ ومتناسقٍ! فهلْ تلكَ الصلاةُ كهذهِ الصلواتِ؟! هلْ ذلكَ التوجُّهُ كهذا؟! تلكَ المعرفةُ باللهِ هي التي تجعل الإنسان يصلِّيَ صلاتَهُ بتلكَ الطريقةِ؛ لأنَّ العباداتِ تكونُ بحسبِ مقدارِ المعرفةِ.
قصّةُ العالمِ الذي يقرأُ الحديثَ خشيةَ المُراقِبين المُرسَلين مِن قِبَلِ الإمامِ!
كنّا في مكانٍ ما، وكان هناك فردٌ معروفٌ ولا يزالُ على قيدِ الحياةِ، حفظَهُ اللهُ، وهوَ إنسانٌ جيّدٌ، ولكنَّ مقدارَ معرفتِهِ ومرتبتها هكذا... فعلى كلِّ حالٍ، كلُّ فردٍ لهُ مرتبةٌ خاصّةٌ من المعرفة. كنّا جالسينَ نتحدّثُ، وكانَ ذلكَ في شهرِ رمضانَ المباركِ، فقالَ: لنقرأْ كلَّ يومٍ روايةً عنِ الأئمّةِ عليهم السلام؛ كي يكتب المراقبون المرسلون من قبل الإمامِ صاحبِ الزمانِ عليه السلام الذينَ يأتونَ ويشاركونَ في المجالسِ أنَّنا نقرأُ الرواياتِ في مجلسِنا! فهوَ عالمٌ معروفٌ، ولوْ ذكرتُ اسمَهُ لعرفتمُوهُ جميعًا. قدْ يأتِي هذا المراقبُ ونحنُ لا نعرفُهُ ويمرُّ مجلسُنا دونَ روايةٍ عنِ الأئمّةِ عليهم السلام ويكونُ قدْ خرج. لذلكَ كانَ دأبُهُ أنْ يقرأَ عادةً روايةً كلَّ يومٍ حتّى إذا جاءَ مراقبٌ يكونُ قدْ دوَّنَ هذا الأمرَ في ملفِّهِ! فما هوَ مقدارُ معرفةِ إنسانٍ بعدَ ثمانينَ عامًا منَ الدراسةِ! الإمامُ صاحبُ الزمانِ عليه السلام يرسلُ مراقبًا إلى المجالسِ؟! مثلًا يجلسُ هنا مراقبٌ بينَ الطلّابِ أو غيرِ الطلّابِ وأنا لا أعرفُهُ، وهوَ يسجّل تقريرًا: الليلةُ ليلة الخميسِ، جرتْ مثلُ هذهِ الأحاديثِ في مجلسِ فلانٍ. يكتبُ التقريرَ أوْ يسجِّلَها بهذهِ الأجهزةِ؛ فالتكنولوجيا تقدّمتْ والإمامُ صاحبُ الزمانِ عليه السلام لا يتخلّفُ عن التطوّر! أوْ أنْ يخفي آلة التسجيل تحتَ العباءةِ... لأنَّ الذاكرةَ لا تسمحُ بحفظِ كلِّ هذا الكلام! فهلْ التفتُّم؟ هلْ هذا القدرُ منْ معرفةِ الإنسانِ بالإمامِ يوصلُهُ إلى الإمامِ؟ هلْ هوَ كذلكَ حقًّا؟!
مرتبتانِ منَ المعرفةِ بالإمامِ: هلْ يستويانِ في نظرِ الإمامِ؟
لا شكَّ أنّ هذا العالِم مؤمنٌ ومخلصٌ ولديه استقامة، ولكنَّ الحديثَ هوَ أنّه هلْ نظرة الإمامِ عليه السلام إليهِ كنظرِهِ إلى ذلكَ الذي يقولُ: أنا لا أرَى نفسِي منفصلًا عنْ حضورِ الإمامِ عليه السلام لحظةً واحدةً؟ هلْ هما سيّانِ؟ هلْ كلاهما في مرتبةٍ واحدةٍ؟ ليسَ أنّهُ يقولُ إنَّ الإمامَ عليه السلام مشرفٌ على عملِي؛ حسنًا، هذا كلامٌ نقولُهُ جميعًا، في النهايةِ، الرفقاءُ الموجودونَ هنا يختلفُ فهمُهم وإدراكُهم، هذا كلامٌ نقولُهُ جميعًا: إنَّ الإمامَ عليه السلام أقربُ إلينا منْ أنفسِنا، وأقربُ إلى أحوالِنا منْ أنفسِنا. حسنًا، منْ هوَ أقربُ إلينا منْ أنفسِنا؟ الإمامُ عليه السلام بتلكَ الإحاطةِ والسيطرةِ الولائيّةِ والعِلّيّةِ التي لهُ، أيْ أنّ لوجودِ الإمامِ عليه السلام جنبةُ عِلّيةٍ في إيجادِ الحوادثِ الخارجيّةِ وظواهرِ عالمِ الكونِ، والعِلّةُ منْ وجهةِ نظرِ اشتدادِها الوجوديِّ أشدُّ في المعلولِ وأقوَى، وصورةُ المعلولِ هي في نفسِ العِلّةِ. وبناء على وجهةِ النظرِ هذهِ، فالإمامُ أقربُ.
لقد قلْت هذهِ الأمورَ والرفقاءُ يعرفونَها أيضًا، ولكنّهُ يقولُ: أنا لا أرَى نفسِي منفصلًا عنْ وجودِهِ لحظةً واحدةً، فأينَ الإمامُ أصلًا؟ هل الإمامُ مشرفٌ؟ وأيُّ إشرافٍ وإحاطةٍ؟ الإحاطةُ والإشرافُ في مكانهما! ولكنّي أنا أصلًا لا أرَى نفسِي منفصلًا عنه لحظةً واحدةً حتّى أُفكِّرَ هلْ هوَ مشرفٌ عليَّ أمْ لا؟ فهلْ هذهِ المعرفةُ كتلكَ المعرفةِ؟ هلْ هذهِ المعرفةُ كتلكَ؟ نعم؟! وهلْ نظرُ الإمامِ عليه السلام إلى صاحبيها واحدٌ؟! أيْ هلْ ينظرُ إليهما بعينٍ واحدةٍ؟! هلْ يعتنِي بهما بمرتبةٍ واحدةٍ؟! هلْ يفيضُ عليهما فيضًا علميًّا برتبةٍ واحدةٍ؟! إنّ فيض الإمامِ هوَ فيضٌ علميٌّ! أمّا فيضُ الماءِ والخبزِ فليسَ شيئًا ذا بال، الفيضُ والرزقُ الذي نتلقّاهُ منْ ناحيةِ إمامِ الزمانِ عليه السلام هوَ الفيض العلميّ والفيض الروحيّ والتجرُّد والتقرُّب، وإلاّ فالطعامُ وهذهِ الأمورُ مراتبُ دُنيا جدًّا وغيرُ معتدٍّ بها، والمسألةُ الأساس هيَ إلقاءُ المدركاتِ والمفاهيمِ العلميّةِ والأنوارِ المقرّبةِ والجاذبة التي تجذبُ الإنسانَ إلى ذلكَ الجانبِ منْ ناحيةِ نفسِ الإمامِ عليه السلام.
هلْ تحصلُ المعرفةُ تلقائيًّا لمنِ انشغلَ بالعلمِ؟
فهؤلاءِ الذينَ يقولونَ: لسنا بحاجةٍ إلى معرفةِ الإمامِ، وهذهِ الأمورُ إنْ حصلتْ فبها، وإنْ لمْ تحصلْ فلا مشكلة، وكما كانَ يقولُ المرحومُ العلامةُ: إنَّ بعضَ الأعاظمِ في النجفِ كانوا يقولونَ لي: يا سيّد محمّد حسينٍ، لا ينبغِي للإنسانِ أنْ يسعَى وراءَ هذهِ الأمورِ، بلْ يجبُ أنْ يتّبعَ درسَهُ وبحثَهُ، وهذهِ الأمورُ تحصلُ تلقائيًّا. يا جنابَ العظيمِ! هلْ حصلتْ لكَ؟ بعدَ تسعينَ ومائةِ عامٍ منَ العُمرِ وستّينَ عامًا منَ التدريسِ، هلْ حصلتْ لكَ؟! إن حصلتْ، فتفضّلْ وأخبرنا لنرَى ما هوَ إنجازُكَ وحصيلةُ تدريسِكَ وبحثِكَ ومطالعتِكَ ونتيجةُ غورِكَ في الأصولِ والكتبِ وهذهِ الأمورِ خلالَ هذهِ المدّةِ؟! تعالَ وأخبرنا! اكتبْ لنا سطرينِ عنِ الإمامِ عليه السلام وأعطِنا إيّاهما لندرسَهُما، فماذا سيقول؟ الإمامُ عليه السلام رجلٌ عظيمٌ جدًّا! شكرًا جزيلًا، هوَ منْ قِبَلِ اللهِ تعالى لإغاثتِنا وأمثال ذلك، وهذا الذي أقولُهُ لكمْ ليسَ مزاحًا، رأيتُهُ بعينِي ولا أُبالغُ في الأمورِ، رأيتُهُ بعينِي وسمعتُهُ بأُذنِي، فقد كنتُ معَ الكثيرينَ، وكنت قرينًا ومصاحبًا لكثيرٍ منَ العلماء، ومعَ كثيرٍ منْ أهلِ العلمِ حتّى آخرِ المراتبِ العلميّةِ، والحديثُ الذي كنتُ أتحدّثُ بهِ والكلامُ الذي كنتُ أقولُهُ سمعته منهم.
قصّةُ العالمِ الصادقِ الذي لمْ يفهمِ المسائلَ العقليّةَ الدقيقةَ
ذات مرّة، كنت في مكانٍ ما معَ أحدِ العلماء وكانَ رجلًا عظيمًا جدًّا ولهُ حقُّ الأُستاذيّةِ عليَّ أيضًا، كانَ رجلًا عظيمًا جدًّا وكانَ من أهلَ الصدقٍ! أهلَ الصدقٍ! فكونُ المرءِ من أهلَ صدقٍ مهمٌّ جدًّا، ولكنَّ مرتبتَهُ منْ حيثُ المعرفةُ وهذهِ الأمورُ لها حسابٌ آخرُ، وكنتُ أُشاركُ في بحوثِهِ ودروسه، وأحيانًا عندما تصلُ الأمورُ إلى مسائلَ فلسفيّةٍ، كانَ يقولُ: أنا لا أفهمُ هذهِ الأمورَ، اذهبْ واسألْ أباكَ عنْ هذهِ الأمورِ، كانَ يقولُها بصراحةٍ! كنتُ أدرسُ عندَهُ علم أصول الفقه، وعندما تصلُ المسائلُ إلى بحوثٍ عقليّةٍ دقيقةٍ، كانَ يقولُ: أنا إلى هنا... وكانَ يُحبُّنِي كثيرًا ويودُّني. مرّةً كنّا قادمينَ معًا إلى طهرانَ، فكانَ المرحومُ العلامةُ قدْ طلبَ منِّي أنْ أصحبَهُ إلى طهرانَ بسببِ وعكةٍ صحيّةٍ، ثمَّ ذهبْنا برفقةِ المرحومِ العلامةِ إلى الطبيبِ، فكنّا نجلسُ في المقعدِ الخلفيِّ للسيّارةِ، كانتْ سيّارةُ أحدِ الرفقاءِ. فدارَ بينَنا بحثٌ حولَ ما إذا كانَ الإمامُ عليه السلام يستطيعُ أنْ يأمرَ بأمورٍ تخالفُ رغبةَ الإنسانِ أم لا، كأنْ يأمره بأن يطلِّقَ زوجتَهُ أوْ يزوِّجَ ابنتَهُ لفلانٍ أوْ يأخذَ ابنةَ فلانٍ زوجةً لهُ؟
فقالَ: يا سيّدُ، مستحيلٌ أصلًا الإمامَ لا يفعل ذلك! وقالَها بجزمٍ قاطعٍ لدرجةِ أنّهُ فزعَ كيفَ خرجَ مثلُ هذا الكلامِ منْ فمِي! واستغربَ وتعجّبَ كثيرًا منَ الأمرِ الذي طرحتُهُ! ورأيتُ أنَّ الأمرَ مستهجن! فبدأتُ أتحدّثُ وآتِي بالآياتِ، وشيئًا فشيئًا أدخلتُهُ في التفكيرِ منْ نفسِ الطريقِ الذي أفكّر فيه، فرأيتُهُ يفكِّرُ، فلمْ أتحدّثْ معه بعدَ ذلكَ حول الموضوع وتركتُهُ يفكِّرُ فيه، وكنت قد طرحتُ بعضَ القضايا وأتيتُ بآياتٍ قرآنيّةٍ ولكنْ بهدوء ولطفٍ! حسنًا، كنت جريئًا جدًّا في البحثِ... وكانَ رجلًا أهلَ الولاءٍ جدًّا، ومتوسِّلًا بالأئمّةِ عليهم السلام، رحمَهُ اللهُ ، كانَ رجلًا عظيمًا جدًّا وأهلَ ولاءٍ، وكانَ ينظمُ الشعرَ في الأئمّةِ عليهم السلام، ولمْ تكنْ زيارتُهُ للإمامِ الرضا عليه السلام تنقطعُ أبدًا. كانَ يتشرّفُ بزيارةِ الإمامِ الرضا عليه السلام منْ قُمَّ هذهِ كلَّ أُسبوعينِ أوْ ثلاثةٍ على الأقلِّ، أيٌّ منَ الناس كانَ هكذا؟ وسمعتُ أنّهُ قالَ: كلّما ذهبتُ إلى طهرانَ، لمْ يحدثْ قطُّ أنْ تركتُ زيارةَ حضرةِ عبدِ العظيمِ، كانَ هكذا، ولكنْ معَ كلِّ هذهِ الأوصافِ، لمْ يكتملْ الأمرُ عنده، والمسألةُ شيءٌ آخرُ، وكنتُ أنا شخصيًّا أُكنُّ لهُ الاحترامَ وأُحبُّهُ حقًّا، وكلّما تشرّفتُ بزيارةِ الحرمِ ـ لأنَّ قبرَهُ هناكَ ـ لمْ يحدثْ قطُّ أنْ لمْ أقرأْ لهُ الفاتحةَ، هذا بصرفِ النظرِ عنْ حقِّ الأُستاذيّةِ الذي لهُ عليَّ، حسنًا كانَ لديّ أساتذةٌ كثيرونَ، ولكنَّ الحديثَ هنا هوَ: أينَ هي الحقيقة؟ وإلى أينَ يجبُ أنْ نذهبَ؟ فهناك الكثيرُ منَ الرجالِ العظامِ، ويوجدُ الكثيرُ منْ أهلِ الحالِ، ويوجدُ الكثيرُ منْ أهلِ المراقبةِ، ويوجدُ الكثيرُ منْ أهلِ الصدقِ، ولكنْ أينَ نُلقِي رحالَنا؟ هذا هوَ الأمرُ المهمّ، فعلى أيِّ نقطةٍ نركِّزُ اهتمامَنا؟ نحنُ لا نرفضُ هؤلاءِ! نعوذُ باللهِ أنْ نقولَ إنَّ هؤلاءِ أصلًا خارجون عنَ الدينِ وأمثال هذهِ الأمورِ... لا يا عزيزي! كلُّ هؤلاءِ هم منَ الأعاظمِ، ومنْ أهلِ المعرفةِ، ومنْ أهلِ الفضلِ، ومشمولونَ بعنايةِ اللهِ في مراتبِهم، حتّى أنَّنا نأملُ في إغاثتِهم وشفاعتِهم لنا، فليسَ الأمرُ كذلكَ. ولكنَّ الحديثَ هنا هوَ: عندما يريدُ شيعيٌّ ما أنْ يوجِّهَ نفسه ويركّز حضورَهُ على نقطةٍ واحدةٍ، فأينَ هي تلكَ النقطةُ؟ ومنْ بينَ الذينَ حصلَ للإنسانِ معرفةٌ بهم، أينَ يجبُ أنْ يحط الرحال منَ الناحيةِ المعرفيّةِ؟
ثلاثُ طُرقٍ في السلوكِ: أيُّها الأسلمُ؟
عندما نسمعُ أنّهُ على الإنسانِ أنْ يُراعِيَ ألفاظَهُ في الصلاةِ، ويجبُ أنْ يُراعِيَ مخارجَ الحروفِ، ويلبسَ الخاتمَ، ويتوضّأَ بشكلٍ صحيحٍ ـ طبعًا كلُّ هذا صحيحٌ وليسَ خطأً ولكنْ بهذا المقدارِ فقطْ ـ وذلكَ الذي يقولُ: نحنُ في الصلاةِ ندفعُ الخواطرَ ـ وهذه مرتبةٌ أعلَى ـ ونسعَى وراءَ التوجُّهِ ونريدُ أنْ نعمِّقَ توجُّهَنا إلى اللهِ ونخلِّصَهُ ولا نمزجَهُ بالخواطرِ والأوهامِ والتخيُّلاتِ اليوميّةِ. وذلكَ الذي يقولُ: في الصلاةِ لا ينبغِي حتّى دفعُ الخواطرِ. أيَّ واحدٍ منْ هؤلاءِ الثلاثةِ نتمسّكُ بهِ ونتّخذُهُ أُسوةً ونجعلُ فكرَنا ونيّتَنا وهدفَنا وقصدَنا ووجودَنا في تلكَ المرتبةِ؟ نُلقِي أنفسَنا في تلكَ المرتبةِ؟ أيٌّ منْ هؤلاءِ؟ الآنَ هؤلاءِ الثلاثةُ وما بينَهما والمتوسِّطاتُ وسائرُ المواردِ والأشياءِ الأُخرَى في السلوكِ والأفعالِ أيضًا كذلكَ. عندما يُشاهدُ الإنسانُ كيفيّةَ حالِ فردٍ ما، يرَى أنَّ كلَّ الأعمالِ قائمةٌ على الأخذِ والعطاءِ، الأخذُ والعطاءُ يعني أنّ هذا يفعلُ هذا الشيءَ لفلان حتّى يفعلَ لهُ هوَ ذلكَ الشيءَ غدًا، والإنسانُ يعرفُ هذهِ الأمورَ وكلَّ حياتِهِ هكذا، فهذهِ فئةٌ. والفئةُ الثانيةُ همُ الذينَ يُولُونَ اهتمامًا أكبرَ للجوانبِ المعنويّةِ، والجوانبُ الظاهريّةُ أيضًا إنْ تحقّقتْ فبها، يُراعُونَ الظاهرَ أيضًا، وهذهِ أيضًا فئةٌ، وهكذا حتّى يُدركَ أنَّ هناكَ أفرادًا لا معنَى للكثرةِ في وجودِهم وفي أذهانِهم أصلًا.
فمن بين هذهِ المراتبِ، إلى أيٍّ منْ هؤلاءِ يجبُ أنْ يتوجّهَ الإنسانُ؟ هذهِ مرتبةٌ وهذهِ مرتبةٌ وهذهِ لنفترضْ أنَّها المرتبةُ الأخيرةُ، وهذهِ هيَ المرتبةُ العُليا، فإلى أيٍّ منْ هؤلاءِ يتوجّه؟ يختارُ الأفرادُ واحدًا بحسبِ فكرِهم وذوقِهم واهتمامِهم وبمقدارِ تلكَ الحصّةِ الوجوديّةِ منَ المعرفةِ التي لديهم.
قصّةُ جماعةِ الحجِّ وتأثُّرِهم بسلوكِ المرحومِ العلامةِ
في رحلةِ الحجِّ تلكَ التي كنّا فيها معَ المرحومِ العلامةِ ، كانَ هناكَ أفرادٌ مختلفونَ، كانَ عُمرِي آنذاكَ حوالي سبعةَ عشرَ عامًا، وكانَ هناكَ أفرادٌ مختلفونَ، لمْ يكنْ هناكَ أحدٌ منْ رفقاءِ السلوكِ بحسب الظاهر، لمْ يكنْ أحدٌ منهم، بل كانَ هناكَ مجموعةٌ منْ أهلِ المساجدِ وبعضُهم مرتبطٌ ببعضِ الهيئاتِ۱ وأفرادٌ مختلفونَ، وكلُّ الذينَ كانوا هناكَ اتّفقُوا بالإجماعِ على التأثُّرِ بأعمالِ المرحومِ العلامةِ وسلوكِه. جميعُهم، سواءٌ أولئكَ الذينَ كانوا في المسجدِ أوْ أولئكَ الذينَ كانوا في الهيئاتِ، كانوا على صلةٍ بالكثيرينَ وكانوا يُعاشرونَ الكثيرينَ، وكانَ واضحًا في نهايةِ تلكَ الأيّامِ، في تلكَ الأيّامِ الأخيرةِ ونهايةِ الحجِّ، أنَّ هؤلاءِ باختصارٍ قدْ فهمُوا بعضَ الأمورِ بحسبِ أفكارِهم وأفهامِهم، وأنّهُ يوجدُ هنا خبرٌ ما، فلمْ يكونُوا أفرادًا عاديّينَ أيضًا وكانوا يُعاشرونَ الجميعَ ويدعُونَ المراجعَ إلى هيئاتِهم وكانَ المراجعُ يذهبونَ إلى هيئاتِهم سواءٌ للمشاركةِ في صلاةِ الجماعةِ أوْ لإلقاءِ الخُطبِ على منابرِهم، كانوا يقولونَ لنا، في ذلكَ الوقتِ. عندما عادُوا جاءُوا إلى المرحومِ العلامةِ: يا سيّدُ، تعالَ إلى هيئتِنا، إلى مكانِنا تولَّ أمرًا ما. فلمْ يقبلِ المرحومُ العلامةُ، وفي النهايةِ قالَ المرحومُ العلامةُ: يا عزيزِي! لماذا تريدونَني؟ قالُوا: لكَيْ تأتِيَ وتتولَّى المسؤوليّةَ [هناكَ]. فقالَ: هلْ تستمعونَ لكلِّ ما أقولُ؟ قالُوا: نعمْ. قالَ: افعلُوا الأمرَ الفلانيَّ أولًا. فتراجعَ الجميعُ، لماذا؟ أنتمُ الذينَ تعرفونَ أنَّ هذا السيّدَ يختلفُ عنِ الآخرين، فلماذا تتراجعونَ؟ أليسَ على الإنسانِ أنْ يقبلَ الحقَّ دائمًا ويمضِيَ قُدمًا ويختارَ الطريقَ الأفضلَ؟ ألا تقرؤونَ آيةَ القرآنِ؟ {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}٢ فلماذا لمْ تقبلُوا؟
قصّةُ الرجلِ الذي اعترفَ بفضلِ العلامةِ وصلَّى خلفَ غيرِهِ
أحدُ هؤلاءِ، بالمناسبةِ، أُعجبْنا بهِ كثيرًا وكنّا على علاقةٍ جيّدةٍ بهِ وكانَ يمزحُ معنا كثيرًا هناكَ. يومًا ما في منًى، أصابتْنِي ضربةُ شمسٍ وتغيّرتْ حالتِي وكانتْ هناكَ احتمالاتٌ، في نفسِ المكانِ الذي كنّا نجلسُ فيهِ ولمْ أكنْ في وعيِي، كانَ السيّدُ جالسًا أيضًا ومجموعةٌ منَ الرفقاءِ، كانَ هناكَ وعاءٌ وإبريقُ ماءٍ باردٍ، فقالَ هذا: يجبُ أنْ نصبَّ هذا الماءَ على رأسِهِ، وأخذَ كلَّ هذا وصبَّهُ على رأسِي، وكانَ ذلكَ هوَ الشفاءُ، أيْ كانتْ يدُهُ شفاءً، وتغيّرتْ حالتِي وتحسّنتْ، وكانَ يحبّني كثيرًا و... بلّلَني طبعًا، كنت قدْ أحللت منَ الإحرامِ في منًى، وكانَ الجوُّ حارًّا جدًّا. فجاءَ هذا الرجلُ، وكانَ على صلةٍ بالكثيرينَ وببعضِ أهلِ العلمِ، هوَ نفسُهُ قالَ لي: يا سيّدُ، هؤلاءِ جميعًا جيّدونَ ولكنَّ أباكَ شيءٌ آخرُ. هوَ نفسُهُ يقولُ هذا الكلامَ ولكنّهُ يذهبُ ويصلِّي خلفَ ذلكَ الآخرِ، فأينَ الخللُ في الأمرِ؟ أنتَ الذي تعترفُ بأنَّ أبي شيءٌ آخرُ، لماذا تصلِّي هناكَ وتُبدِي لهُ الولاءَ وتجلسُ عندَ منبرِهِ وصلاتِهِ ومجلسِهِ وتذهبُ وتجِيءُ معَهُ؟ لماذا لا تأتِي إلى هذا الجانبِ؟ يجبُ أنْ يعرفَ الرفقاءُ أينَ الخللُ والإشكالُ؟ هذا ما أُريدُ أنْ أقولَهُ.
لماذا نعترفُ بالحقِّ ولا نتّبعُهُ؟ السرُّ في "الإيمانِ القلبيِّ"!
كيفَ يمكنُ للإنسانِ أنْ يُقرَّ بأمرٍ ما، ولمْ يقلْ هذا الأمرَ لي فقطْ بلْ قالَهُ للكثيرينَ أيضًا، وليسَ لأنّهُ يريدُ أنْ يقولَهُ أمامَنا. الخللُ هوَ أنَّنا لا نريدُ، أيْ نحنُ في مقامِ التوجُّهِ وفي مقامِ التسليمِ للمراتبِ المختلفةِ للقضيّةِ لا نريد؛ فهناك مراتبُ مختلفةٌ في النهايةِ، وأحدُهم نوعٌ ما، والآخرُ نوع آخرُ، وكلامُ أحدِهم نوع وكلامُ الآخرِ نوعٌ آخرُ، والذهابُ والمجيءُ والتواصلُ والإرشادُ والهدايةُ تختلفُ باختلافِ الأفرادِ. على الرغمِ منْ أنَّنا نُقرُّ ونعترفُ ونقولُ، ولكنَّنا في الوقتِ نفسه نذهبُ إلى الجانبِ الآخرِ، لماذا هذا؟! لأنَّ مسألةَ الإيمانِ، الإيمانَ القلبيَّ الذي يتضمّنُ تلكَ الجاذبيّةَ الخاصّةَ وذلكَ الالتصاقَ والارتباط اللازمَ للحركةِ، ذلكَ الارتباط وتلكَ الجاذبيّةَ غيرُ موجودةٍ في هذا، فهناك نوعٌ آخرُ منَ الالتصاقِ. فعلى الرغمِ منْ أنّ هذا الرجل في مقامِ الفهمِ والفكرِ والحُكمِ، كان حُكمُهُ صحيحًا، صحيحًا في حدِّ نفسهِ، لمْ يدرك الكثيرَ منَ الأمورِ عنْ هذا العظيمِ، لا بأس ولكنّهُ أدرك هذا المقدارَ وأنَّ إخلاصَ هذا الرجل يختلفُ عنْ إخلاصِ ذاك الذي يصلِّي خلفَهُ، فهذا المقدار فهمَهُ، أدرك صدقَ هذا، في النهايةِ يرَى الأعمالَ، فعندما جلستَ معَ فردٍ لمدّةِ نصفِ ساعةٍ في ذلكَ الوقتِ فهمت كيفَ هوَ ظاهرُهُ وباطنُهُ، أمّا هذا الذي تتردّدُ عليهِ منذُ عشرِ سنواتٍ في السفرِ والحضرِ والمسجدِ وفوقَ المنبرِ وتحتَ المنبرِ، ألا تفهمُ حقيقةَ أمرِه؟ أيّ إنسان يدرك هذا، {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}۱، فأنتمْ تميِّزونَ الناسَ منْ كيفيّةِ كلامِهم، وهلْ يقولُ فلان الصدقَ أمِ الكذبَ؟ هلْ يمثِّلُ ويلعبُ دورًا أمْ يقولُ الحقيقةَ؟ {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}٢.
قصّةُ تذكرةِ الحجِّ وغضبُ المرحوم العلاّمةِ لأجلِ الدينِ
مرّةً عادَ المرحومُ العلامةُ منْ سفرٍ وكانتْ حالتُهُ غريبةً جدًّا وكانتْ حالتُهُ مضطربةً جدًّا، غريبةً جدًّا! كلّما تذكّرتُ هذهِ القضيّةَ والقصّةَ يرتجفُ بدنِي وأقولُ: الويل لنا! حدثتْ مسألةٌ عندَ عودتِهِ منْ سفرِ الحجِّ، وخدعةٌ قامَ بها مدير الحملةِ، كانَ يريدُ أنْ يعطيه تذكرةَ امرأة، فقدْ تُوفِّيتَ امرأة عجوز كانت معهم حينها وكان ذلك في زمنِ الشاهِ، وكانَ منَ المقرَّرِ أنْ يشترِيَ هذا المسؤول تذكرةً للمرحومِ العلامةِ وأخذَ منهُ المالَ أيضًا ليشترِيَ تذكرة للعودة؛ لأنَّه لمْ يذهب عنْ طريقِ إيرانَ بلْ ذهب عنْ طريقِ الشامِ وهُناكَ التحقُ بالقافلةِ بواسطةِ بعضِ أصدقائِه، لذا لمْ يكنْ لديه تذكرة للعودةٍ. فأعطَى المالَ لمسؤولِ الحملة ليشترِيَ له تذكرةً ليعود معهم بالطائراتِ الإيرانيّةِ في ذلكَ الزمنِ القديمِ، وهذا الرجلُ المخادعُ والخبيثُ أخذَ المالَ أيضًا، ثمَّ تُوفِّيَت تلك المرأة فأرادَ أنْ يجعل تذكرتَها للمرحوم العلاّمة.
وأتذكّرُ أنّه عندما كانَ يروِي هذهِ القصّةَ، كانَ العرقُ يتصبّبُ منْ جسدِهِ، وقد روَى هذهِ القصّةَ مرّتينِ بطريقةٍ جعلتْنِي أُريدُ أنْ أقولَ لهُ بعدَ ذلكَ: يا سيّدُ، لا تروِ هذهِ القصّةَ بعدَ الآنَ، أيْ أنَّ تلكَ الحالةَ التي كانتْ تنتابُهُ آنذاكَ عندما يتذكّرُها كانتْ غريبةً جدًّا بالنسبةِ لهُ! كانَ يقولُ مرارًا: يا سيّدُ، ماذا حدثَ في موضوع تذكرتِي؟ فكانَ ذاكَ يقولُ: اشتريْتها، ولمْ يُعطِها لهُ، ولمْ يُعطِها حتّى جاءَ الموظّف الذي أرادَ فحصَ التذاكرِ والنظرَ فيها، في ذلكَ الوقتِ جاء ووقف إلى جانبِ السيّدِ، وهوَ نفسُهُ أعطَى التذكرةَ لذلكَ الموظّف حتّى لا تكونَ التذكرةُ بيدِ السيّدِ نفسِهِ ولا يراها، ثمَّ أخذَها هوَ نفسُهُ ولمْ يُعطِها للسيّدِ، فعرف السيّدُ حقيقة الأمر، فقالَ لهُ: أنا أُعطِيكَ عشرةَ أضعافِ ثمنِ التذكرةِ. ولمْ يقلْ لهُ ذلكَ مباشرةً بلْ كانَ يروِي لنا الحالَ، أنتَ أخذت المالِ وجعلتني في هذا الموقف! فلوْ نظرَ ذلكَ الموظّف إليّ وقالَ: هذا اسمُ امرأةٍ، وأنتَ رجل ومن أهل العلمِ وعالمٌ شيعيٌّ تدّعِي أنَّكَ هيَ، فماذا أُجيبُ هذا الموظّف السعوديَّ والسنيَّ وهذا الإنسانَ الذي ينظرُ إليّ كعالمٍ؟ باختصارٍ كانتْ عبارتُهُ هكذا: اعترتْنِي حالةٌ في ذلكَ الوقتِ ـ انتبهُوا أيُّها الرفقاءُ لما أُريدُ أنْ أقولَهُ حتّى تدركوا منْ همْ حملةُ لواءِ دينِكم، حتّى تعرفوا منْ همْ أولئكَ الذينَ يحترقونَ للدينِ ويتألّمونَ للدينِ! ـ كانَ يقولُ: اعترتْنِي حالةٌ لمْ يعترِنِي مثلُها طوالَ عُمرِي، أيْ مرّتْ عليّ أيّامٌ في مثلِ هذا... ثمَّ قطعَ علاقتَهُ بهِ تمامًا على الرغمِ منْ أنّهُ كانَ منْ معارفِهِ.
فإلى متَى الغشُّ والخداعُ؟ وإلى أينَ يمضِي الإنسانُ؟ إلى أينَ يمضِي الإنسانُ ليقومَ بمثلِ هذا العملِ غيرَ مُبالٍ بأيِّ شيءٍ! اعترتْنِي حالةٌ لمْ أجدْ مثلَها في كلِّ عُمرِي معَ كلِّ المصائبِ والمشاكلِ التي مرّتْ بِي!
هذا إنسانٌ، وإنسانٌ آخرُ يأتِي ويُعلِّمُ آخرَ أنْ يفعلَ كذا في وثيقةٍ حكوميّةٍ يريدُ إنجازَها في جوازِ السفرِ، تعالَ افعلْ هكذا حتّى تمرَّ ولا يلتفتوا! في النهاية ألا يلمسُ ذلكَ المسؤولُ الذي ينظرُ إلى جوازِ السفرِ ليرَى أنَّ إحدَى ورقاتِهِ أسمكُ منَ البقيّةِ؟! ألا يشعر بهذا؟ إذا جاءَ وميَّزَ وعرف أنَّنِي أنا العالمُ جئتُ ولصقتُ ورقتَيْ جواز سفرٍ ببعضِهما البعضِ حتّى لا تظهرَ هذهِ التأشيرةُ والخَتْمُ، فماذا سيقولُ؟ يقولُ: جناب العالم شكرًا جزيلًا! عجبًا! إذًا أنتَ أيضًا تقوم بهذا؟ نعمْ! إنّهُ يُعلِّمُ ويقولُ: تعالَ افعلْ هذا! أينَ ذلكَ وماذا عسايَ أنْ أقولَ؟ ماذا نقولُ بعدُ؟! هلْ عرفتم الآنَ منْ همْ حملةُ اللواءِ؟ أولئكَ الذينَ يفعلون هذه الأفاعيل.
العلامةُ الطباطبائيُّ رحمَهُ اللهُ في تلكَ القضيّةِ قالَ للمرحومِ آيةِ اللهِ الميلانيِّ رحمَهُ اللهُ ـ وكانَ السيّدُ الميلانيُّ رجلًا جيّدًا جدًّا، وفي أواخرِ عُمرِهِ أيضًا أُصيبَ بمرضٍ في المستشفَى، وشارك المرحومُ العلامةُ ونحنُ أيضًا في تشييعِهِ في ذلكَ الزمنِ السابقِ ـ وعندما جاءَ، قالَ إنّهُ لاحظَ في حالاتِهِ حالةَ الانقطاعِ على سريرِ المستشفَى. كانَ المرحومُ آيةُ اللهِ الميلانيُّ رجلًا من أهلَ الصدق والإخلاص، فرحمَهُ اللهُ. عندما قالَ المرحومُ العلامةُ لآيةِ اللهِ الميلانيِّ ـ وكانَ يبكِي في تلكَ القضيّةِ التي كتبَها المرحومُ العلامةُ في كتابِهِ وأنا أيضًا ذكرتُها۱ ـ إنّهُ لا يزالُ هناكَ أفرادٌ همْ حملةُ اللواءِ أوْ بعبارةٍ أُخرَى نسيتُها بالضبطِ، باختصارٍ همْ حافظُو الشريعةِ وحافظُو الدينِ، لا يزالُ هؤلاءِ الأفرادُ موجودينَ. يجبُ أنْ نعلمَ ماذا فهمَ المرحومُ العلامةُ الطباطبائيّ، ماذا فهمَ المرحومُ العلامةُ الطباطبائيُّ منْ هذا العملِ للمرحومِ العلامةِ الطهرانيّ؟ ذلكَ العلامةُ هوَ أهلُ المعنَى الذي يفهمُ! هوَ أهلُ الدقّةِ والظرافةِ الذي يميِّزُ، الآنَ لوْ كانَ فردًا آخرَ لقالَ: نعمْ! نعمْ! إنّها مسألةٌ حدثتْ، حالةٌ نعمْ! هوَ موفّقٌ، انتهَى الأمرُ. في ذلكَ الحدِّ هوَ موفّقٌ، تُختمُ المسألةُ ويُغلقُ الملفُّ أيضًا، ولكنَّ العلامةَ الطباطبائيّ يفهمُ شيئًا آخرَ منْ هذا العملِ، لماذا؟ لأنَّه عرفَ الإمامَ، ذلكَ الذي هو من أهل المعنَى هوَ الذي يستطيعُ أنْ يُدركَ المعنَى وينتبهَ إلى ذلكَ الرمزِ والسرِّ الخفيِّ في هذهِ القصّةِ، وما هيَ المسألةُ الموجودةُ هنا.
برقى از منزل ليلى بدرخشيد سَحَر | *** | وَه كه با خرمن مجنون دل افكار چه كرد |
في حين أنّ هناك آخرون ليسوا كذلك، كلا الصنفين معمّمٌ ومن أهل العلم وتلميذ لأساتذةٍ وكلاهما له شأن، فأينَ يجبُ أنْ يذهبَ الإنسانُ؟ أينَ يجبُ أنْ يُسلِّمَ نفسهُ ويخضعَ؟ أينَ يجبُ أنْ يجدَ اللهَ؟ هذهِ قضيّةٌ وتلكَ قضيّةٌ!
قصّةُ رفضِ العلامةِ العلاجَ في دولِ الكفرِ
هو يقولُ: عندما يكونُ على التذكرة اسمُ امرأةٍ، وهذا الرجلُ الفاسدُ يُقدِّمُنِي كامرأةٍ... لا أعلَمُ الآنَ ماذا حصل لذلكَ المسؤول، أعمَى اللهُ بصرَهُ ولمْ يدرك أنَّ هذا اسمَ امرأة بالفارسيّة فهوَ عربيٌّ ولمْ يميِّزْ، وفي تلكَ الزحمةِ لمْ يدرك ومرَّرَ الأمرَ ومضَى، فلوْ عرف، ماذا كان سيحدث؟ في حينِ أنَّ هذا الموظّف يمكنُهُ لاحقًا أنْ يقولَ إنَّ هذا العالم خدعَني وفعلَ كذا... بمجرّدُ أنْ يرَى للحظةٍ، فهو سُنِّيٌّ في السعوديّةِ، لا علاقةَ لهُ، يأتِي ويقولُ مثلَ هذهِ المسألةِ عنْ عالمٍ شيعيٍّ، ماذا تصبحُ هذهِ القضيّةُ؟ يهدمُ الدُّنيا على رأسِهِ.
هذا المرحوم العلاّمة هوَ نفسُهُ الذي عندما يقولونَ له في المستشفَى: يا سيّدُ، لماذا تريدُ إجراءَ عمليّةِ المرارةِ هنا؟ اذهبْ إلى أمريكا وإنجلترا. كنتُ أنا شخصيًّا في المستشفَى عندَهُ عندما جاءتِ اتّصالاتٌ متعدّدةٌ منْ طهرانَ: اذهبُوا إلى إنجلترا، نجهِّزُ الترتيباتِ وأجرُوا العمليّةَ هناكَ. قالَ: أنا أذهبُ إلى إنجلترا منْ أجلِ المرارةِ؟! إلى دولةِ الكفرِ والدولةِ المستعمرةِ والدولةِ المُلحدةِ والدولةِ المعاديةِ للّهِ والمعادية للشريعةِ، أمدُّ يدَ الحاجةِ إليهم؟! ليقولَ هؤلاءِ: تفضّلُوا! هؤلاءِ عُلماءُ الشيعةِ في الإسلامِ يأتونَ إلينا، الآنَ بعدَ أنْ وقعتُم في ورطةٍ تأتونَ إلينا لنجرِيَ لكمُ العمليّةَ! الآنَ تأتونَ؟! عندما تكونونَ هناكَ تسبُّونَنا، وبمجرّدِ أنْ يؤلمَكم جزءٌ منكمْ تأتونَ إلينا! يقولُ: لوْ قطّعُونِي إربًا إربًا، لنْ أمدَّ يدَ الحاجةِ أبدًا نحوَ دولِ الكفرِ. وعندما يقولُ هذا، ليسَ لأنّهُ يريدُ التظاهرَ أمامَ الناسِ؛ أصلًا عندما كنّا نطرحُ هذا الأمرَ كانَ يتوتّرُ كثيرًا ولمْ نكنْ نجرُؤْ على طرحِ هذهِ المسألةِ، ليسَ لأنّهُ يريدُ التظاهرَ والتصنُّعَ، لا! بل كانَ يشمئزُّ أصلًا ويقولُ: لا تذكرُوا أسماءَهم أمامِي.
الآنَ هذا طرفٌ، وآخرُ فقطْ كُسِرتْ ساقُهُ وأُصيبَ بشُعْرٍ! فيذهبُ إلى الخارجِ، إلى أمريكا، ويأخذُ معَهُ عدّةَ أفرادٍ لئلّا يكون وحيدًا وليكونُوا مشرفينَ على المسألةِ. أينَ هذا وأينَ ذاكَ؟ هذا الذي أقولُهُ، أقولُهُ عنْ لسانِ الأطبّاءِ من أصدقائِنا. أنقلُ هذهِ القصّةَ عنْ لسانِ أحدِ أشهرِ جَرّاحِي مشهدَ الذي كانَ رئيسًا للمستشفَى حينَها فكان يقولُ لي: يا فُلانُ، هناكَ فرقٌ كبيرٌ بينَ أبيكَ والآخرينَ! ذلكَ الإنسانُ يقولُ، ذلكَ الإنسانُ الذي كلُّ دراساتِهِ في أمريكا وإنجلترا وكندا، ذلكَ الإنسانُ الذي قضَى كلَّ عُمرِهِ هناكَ، ذلكَ الإنسانُ الذي رأَى كلَّ أنواعِ الناسِ، وذلكَ الإنسانُ الذي تعاملَ معَ الجميعِ، يأتِي في مجلسِ فاتحةِ المرحومِ العلامةِ ويبكِي بمرارةٍ ويقولُ: بعدَهُ لا أستطيعُ البقاءَ في إيرانَ. بعد ذلك أنتَ تقولُ إنَّ هؤلاءِ كانوا جماعةً منَ الدراويشِ والصوفيّةِ وكانوا أهلَ عرفانٍ وصوفيّةٍ وهذهِ الأمورِ وذهبُوا وكانوا يقولونَ أمورًا! أعمالُ الإنسانِ وسلوكُهُ تُنبِئُ عنْ باطنِه، وبالإضافةِ إلى ذلكَ يقولُ: أليسَ هذا مُخجِلًا؟ لقدْ جِئنا إلى عتبةِ الإمامِ الرضا عليه السلام وركعْنا وألقيْنا رحالَنا هنا واستقرَّينا، أفليسَ مُخجِلًا أنْ يقومَ الإنسانُ منْ عندِ الإمامِ الرضا عليه السلام ويذهبَ إلى هؤلاء الذين يزعم أنّهم أفضلُ منّا! يذهبُ إلى إنجلترا! فما مشكلة أطبّائِنا هنا؟ وهلْ همْ أقلُّ منهم؟ وهلْ خبرتُهم أقلُّ؟ نتركُ أبناءنا المسلمينَ الحاذقينَ الخبراءَ المؤمنينَ الشيعةَ عندَ الإمامِ الرضا عليه السلام ونذهبُ إلى جماعةٍ منْ شارِبِي الخمرِ والزُّناةِ المرتدّين والمستعمِرين المُلحدين العديمي الدين، والحال أنّي عالم شيعيٍّ. فمنِ الذي يتألّمُ لأجل الإسلامِ؟! منِ الذي يتألّمُ لأجل الدينِ؟ ومنْ الذي يحترقُ قلبُهُ على النبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وإمامِ الزمانِ عليه السلام؟! منْ؟!
قصّةُ طبيبِ العيونِ والفرقُ بينَ العلاّمةِ وغيرِهِ
قالَ لي أحدُ الأصدقاء ـ وهوَ طبيبُ عيونٍ مشهورٌ عالميًّا أيضًا ـ قالَ: جاءَ إليَّ فُلانٌ وفحصت عينه وقلتُ لهُ: مشكلةُ عينِكَ كذا ولا تتحسّنُ وعليكَ أنْ تتأقلمَ معَها. فقامَ وذهبَ إلى أينَ؟! إلى أمريكا وإنجلترا وإسبانيا والبرتغالِ والنمسا، والآنَ عادَ إلى مكانِهِ بعد أن قالُوا له الكلام نفسه. جاءَ إليَّ، فقلتُ له: سيّدنا، أنا قلتُ لك الكلام نفسه، فإن تحسّنتْ هنا فجيّد، فلماذا سافرت إلى هناكَ؟! ثمَّ قال لي هوَ: هذا نوع ونوع آخرُ هوَ أبوكَ. وكانَ ينقلُ عنْ أمورٍ رآها بنفسِهِ.
الخاتمةُ: الفرقُ بينَ الإقرارِ والإيمانِ
لقدْ جعلَ اللهُ ضميرَ الناس بحيثُ يستطيعُ التمييزَ، لقدْ خلقَ اللهُ الضميرَ بحيثُ يستطيعُ أنْ يفهمَ. أمّا أنّه هل يعملُ وفق فهمه أمْ لا، فهذا أمرٌ آخرُ، يستطيعُ أنْ يضعَ هذهِ الأمورَ جنبًا إلى جنبٍ ويميّزَ بينَها.
مرّتْ ساعةٌ أُخرَى وما زِلنا في مُنعطفِ زُقاقٍ واحدٍ، الزُّقاقِ نفسه الذي كنّا فيهِ، وهذهِ المسائلُ جاءتْ منْ تِلقاءِ نفسِها، وقد نقلتُ لكمْ قضيّةَ المرحومِ دستغيبَ رحمَهُ اللهُ. كنت أريدُ أنْ أوجِّهَ البحثَ الليلةَ نحوَ مسألةِ المحبّةِ، ولكن جاءتْ هذه الأبحاث بنفسِها، فعلى أيِّ حالٍ كانَ الحديثُ بهذهِ الكيفيّةِ، وبالتأكيدِ كانتْ مشيئة اللهِ. وعلى كلِّ حالٍ، نأملُ أنْ يقسمَ اللهُ لنا أحسنَها، هذا القدرَ فهمْناهُ، هذا القدرَ أدركْناهُ ولا نستطيعُ إنكارَهُ، ولكنَّ الحديثَ هوَ أنْ يوفِّقَنا اللهُ لأنْ نتّبعَ هذا الأمرَ ونقتدِيَ بهِ، وذلكَ التوجُّهَ وذلكَ الارتباط الخاصَّ ـ نحنُ نُسمِّي الإيمانَ ارتباطًا والتصاقًا ـ الإيمانُ يختلفُ عنِ الاعترافِ والإقرارِ، والمسألةُ تختلفُ بينَهما، نسألُ اللهَ أنْ يجعلَنا نؤمنُ بالإقرارِ وأنْ يجعلَ ذلكَ الإيمانَ دائمًا دليلَ طريقِنا. إنْ شاءَ اللهُ.
اللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ.