12

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل

الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

61
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1427

التاريخ 1427/09/26

جلسات المجموعة(13 جلسة)

التوضيح

لماذا لا تكفي معرفة الأحكام للوصول إلى معرفة الله؟ ولماذا الحبّ هو الشفيع وليس العمل؟ تبحث هذه المحاضرة لسماحة آية الله السيد محمد محسن الطهراني (قدّس سرّه)، في هذه الأسئلة الجوهريّة من خلال شرح فقرة من دعاء أبي حمزة الثمالي، كما تناقش قيمة العمل وارتباطه بالإخلاص والنية، وتؤكّد على أهميّة التفكّر العميق بدلًا من العبادة الخالية منه، مبينةً الفارق بين معرفة الله الحقيقيّة ومعرفة شؤونه.

/۱۸
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

1
  •  

  • هوالعليم

  •  

  • الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل

  • الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي ـ سنة ۱٤٢۷ هـ ـ الجلسة الثانية عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ

  • بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَٰنِ الرَّحِيمِ

  • وصلَّى اللَّهُ عَلَى سيّدِنا ونبيِّنا أبي القاسمِ مُحَمَّدٍ

  • وعلى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ واللَّعنةُ عَلَى أعدائِهم أَجمَعِينَ

  •  

  •  

  • «معرفتِي يَا مَولايَ دلِيلِي علَيكَ وحُبِّي لَكَ شفِيعِي إِلَيكَ وَأَنا واثِقٌ مِن دَلِيلِي بِدلالتِكَ وساكِنٌ مِن شَفِيعِي إِلىٰ شفاعتِكَ.» 

  • معرفتي بكَ يا مولايَ هي دليلي ومُرشِدي إليكَ، ومحبّتي لكَ هي شفيعي إليكَ، وأنا على ثقةٍ بأنَّ هذا الدليلَ سيوصِلُني إلى المقصودِ بدلالتِهِ، ومُطمئنٌّ بأنَّ هذا الشفيعَ سيوصِلُني إليك بشفاعتِهِ. 

  • أيُّ معرفةٍ تدلُّ على الله حقًا؟

  • في الليلةِ الماضيةِ، وضّحنا للرفقاءِ أنَّ المعرفةَ التي تدلُّ على الله، يجبُ أن تكونَ معرفةً بالله نفسِهِ. والمعرفةُ باللهِ تختلفُ عن معرفةِ آثارِهِ وحتّى عن معرفةِ التكاليفِ؛ فيجبُ أن تكونَ هذهِ المعرفةُ معرفةً به وبصفاتِهِ وأسمائِهِ حتى تستطيعَ أن تدلَّ عليهِ. وبناءً على ذلكَ، لوِ افترضنا أنَّ إنسانًا لديهِ معرفةٌ بالأمورِ الدنيويّةِ والعلومِ الدنيويّةِ، وهي علومٌ منشأُ حدوثِها علاقاتُ المادةِ، ـ مثلُ علمِ التجارةِ والاقتصادِ ـ فما علاقةُ هذا باللهِ؟! لنفترض أنَّ المعاملةَ يجبُ أن تُجرى بهذهِ الطريقةِ لتحقيقِ ربحٍ أكبرَ، فما علاقةُ هذا به؟ أو في علمِ الزراعةِ يدرس مثلاً كيفَ يجبُ زرعُ البذرةِ في الأرضِ، وكيفَ يجبُ سَقيُها، وما هي الموادُّ التي يجبُ أن تحتويَها التربةُ، وكم يجبُ أن تكونَ نسبةُ الحديدِ والفسفورِ والكالسيومِ والمغنيسيومِ في التربةِ، وكم مِقدارُ النورِ اللازم، هلِ النورُ قليلٌ أم كثيرٌ؟ فبعضُ النباتاتِ تموتُ في النورِ الشديدِ وبعضُها يحتاجُ إلى النورِ، وحِرفةُ الزراعةِ هذهِ لها بابُها الخاصُّ، ولكنَّ نتيجتَها هي أنَّ النباتَ ينمو بشكلٍ أفضلَ وتكونُ ثمارُهُ أكثرَ وأكبرَ حجمًا، فما علاقةُ كلّ هذا باللهِ؟ هذهِ آثارُ اللهِ، فالزراعةُ لا توصِلُنا إليكَ، بلى! إنَّها مفيدةٌ لنا بهذا القدرِ، حيثُ نطَّلِعُ على أسرارٍ وخواصٍّ مُعيَّنةٍ ونتعرَّفُ على عظمةِ اللهِ تعالى من خلالِ كيفيَّةِ الخلقِ، لا شكَّ في ذلكَ. ولكنِ الآنَ بعدَ أن أدركنا أنَّ هذا الإلهَ هو إلهٌ عظيمٌ، فهلِ انتهى الأمرُ ولم يعد لنا شأنٌ معَ اللهِ؟! أنتَ عظيمٌ جدًّا ومنشأُ كلِّ الوجودِ، ويدُكَ الغيبيَّةُ مُؤثِّرةٌ ومُقرِّرةٌ في جميعِ الموجوداتِ، لقد فهمنا هذهِ الأمورَ، وأدركنا للتوِّ أيَّ إلهٍ عظيمٍ لدينا، ونحنُ بذلك لا نزالُ أفضلَ حالًا من الكثيرينَ الذينَ يقولونَ إنَّ كلَّ ما هو موجودٌ هو هذهِ التربةُ والمادةُ والعملُ وما إلى ذلكَ، فنحنُ لا نزالُ مُتقدِّمينَ بعضَ الشيءِ ولا نُنكِرُ كلَّ شيءٍ مثلَهم، ولكن يبقى الأمرُ عندَ هذا الحدِّ.

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

3
  • هلِ المعرفةُ بالفقهِ توصِلُ إلى معرفةِ اللهِ؟

  • لنرتَقِ أعلى ونتجاوَز هذهِ العلومَ أيضًا لنصِلَ إلى العلومِ والفنونِ الدينيَّةِ والشريعةِ. لنفترض أنَّ الفقهَ عبارةٌ عنِ العلمِ بالوظائفِ، أي الفقه الاصطلاحيّ وليسَ الفقهَ بمعناهُ الكاملِ والشاملِ للعلومِ التي جاءتنا عن طريقِ الوحيِ من رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله والأئمةِ المعصومينَ عليهم السلام، لا! بل الفقهُ الاصطلاحيُّ، المُتداوَلُ ومُتعارَفُ حاليًا، وهو الرواياتُ والأحاديثُ المتعلِّقةُ بالواجباتِ والمحرَّماتِ فقط، وشكوكِ الصلاةِ وشُبُهاتِ الصومِ، والرواياتُ المتعلِّقةُ بالتجارةِ، والدِّيَاتِ، والقصاصِ والجهادِ والخُمسِ والزكاةِ والحجِّ وأمثالِ ذلكَ. فما علاقةُ هذهِ باللهِ؟ فهذهِ لا تجلبُ معرفةً به. فإذا علِمنا أنَّ الشكَّ بينَ الركعتينِ والثلاثِ في الصلاةِ يُبطِلُها ويجبُ إعادتُها منَ البداية، فهل لهذا علاقةٌ به؟! فهذا تكليفٌ فرضَهُ اللهُ علينا بهذهِ الطريقةِ: وعلى سبيلِ المثالِ، إذا شككتَ بينَ الركعة الثالثة والرابعة فابنِ على الأكثرِ، وإذا شككتَ بينَ الثانية والثالثة أو الأولى والثانية فصلاتُكَ باطلةٌ. أو إذا شككتَ في الطهارةِ أثناءَ الصلاةِ فيجبُ عليكَ إتمامُ الصلاةِ، وإذا كانَ الشكُّ في بدايةِ الصلاةِ فيجبُ عليكَ الوضوءُ مرَّةً أخرى، وإذا شككتَ بعدَ الصلاةِ هل صلَّيتَ على طهارةٍ أم لا، فيجبُ عليكَ العملُ بقاعدةِ «لا تُعادُ»۱ فلا يجبُ عليكَ الإعادةُ، ولكن يجبُ عليكَ الوضوءُ للصلاةِ التاليةِ، هذا إذا كان في موضعٍ لا يمكن معه الاستصحابِ، أمّا إذا أمكن الاستصحاب، فهو جار بالنسبةِ للصلاةِ التاليةِ. فما علاقةُ هذا باللهِ؟ فقد شككنا في الصلاةِ بينَ الركعة الثانية والثالثة وأعدنا صلاتَنا منَ الأوَّلِ٢، وهذهِ ليست معرفةً بهِ، هذهِ معرفةٌ بالصلاةِ. أو أنّه يتعلَّقُ بهذا المِقدارِ من المحصولِ الزراعيِّ زكاةٌ مُعيَّنةٌ، أو إذا سُقِيَ بماءِ المطرِ فالمِقدارُ كذا، وإذا سُقِيَ بماءِ السَّقيِ اليدويِّ أوِ البئرِ أوِ القناةِ فالمِقدارُ كذا منَ الزكاةِ. حسنًا، فهذا لا علاقةَ لهُ بهِ، إنَّهُ حُكمٌ ووظيفةٌ شرعيَّةٌ، وعلى المسلمِ أن يعملَ بوظيفتِهِ الشرعيَّةِ. هذا لا يرتبطُ بأسمائه وصفاتِهِ. ومَن يملِكُ ذهبًا بهذا المِقدارِ ومضى عليهِ عامٌ، فيجبُ عليهِ دفعُ زكاتِهِ، فما علاقةُ هذا باللهِ؟! 

  • إذًا، الفقهُ بهذا المعنى الاصطلاحيِّ ليسَ معرفةً بكَ يا إلهي، إنَّهُ علمٌ بالوظائفِ والتكاليفِ الظاهريَّةِ المأمور بها من قِبَلِ اللهِ تعالى والتي يجبُ على المسلمِ القيامُ بها وهو مُلزَمٌ بها، إمَّا عن طريقِ الاجتهادِ إذا توفَّرت فيهِ شروطُ الاجتهادِ ـ ليسَ هذا الاجتهادَ المطروحَ اليومَ، بل ذلكَ الاجتهادُ الذي لا يكادُ أن يوجدُ! أي ذلك الاجتهادُ الذي كانَ لدى العلامةِ الطباطبائيِّ رحمه الله ـ أو عن طريقِ التقليدِ ـ ولا يجوز الاحتياطُ أيضًا في أصولِ الدينِ ـ تقليدِ المجتهدِ الأعلمِ، المجتهدِ الذي تثبُتُ أعلميَّتُهُ لدى الإنسانِ بالطُّرُقِ الشرعيَّةِ، فيجبُ على الإنسانِ أن يعملَ وهو واجبٌ، وإذا قصَّرَ فسيُحاسِبُهُ اللهُ حسابًا عسيرًا. وهذا حُكمٌ ظاهريٌّ وعلى كلِّ مسلمٍ أن يقومَ بهِ، ولكن ما علاقتُهُ باللهِ؟! فهذهِ ليست معرفةً بهِ! أنتَ تعلَّمتَ أحكامَ الصلاةِ وشكوكَها، فكم بلغت معرفتُكَ بهِ؟ لا شيء! لقدِ اطَّلعتَ على الأحكامِ والأفعالِ التكليفيَّةِ، صحيحٌ. فنحنُ نطَّلِعُ على الأحكامِ التي أوجَبَها علينا، صحيحٌ، نقبلُ بهذا، إمَّا عن طريقِ الاجتهادِ أوِ التقليدِ. ولكن باطِّلاعِنا على هذهِ الأمورِ، كمِ اطَّلعنا على ذاتِه تعالى؟ صفر، لا شيء، أو واحدٌ بالمئةِ، أي بمقدارٍ قليل جدًّا، قليل جدًّا! فمثلاً يجبُ أن تُؤدِّيَ الطوافَ سبعةَ أشواطٍ، وإذا شككتَ هل أتممتَ سبعةَ أشواطٍ أم لا، فماذا يجبُ أن تفعلَ؟ هل تبني على الأقلِّ وتُكمِلُ، أم تبني على الأكثرِ وتحتاطُ؟ إذا كانَ أقلَّ من ثلاثةِ أشواطٍ ونصفٍ فالطوافُ باطلٌ، وإذا كانَ بعدَ ثلاثةِ أشواطٍ ونصفٍ... فما علاقةُ هذا بالله؟ فالآنَ بعدَ أن فهمنا هذا، هل زادت معرفتُنا بهِ؟ لا، بل معرفتُنا بالأحكامِ هي التي تزيدُ، لا معرفتُنا بهِ.

    1. قاعدة فقهيّة مستفادة من الحديث عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «لا تعاد الصلاة إلا من خمس: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود».
      راجع مائة قاعدة فقهيّة للسيّد المصطفوي ص ٢٣٢. (م) 
    2. طبعًا هذا المثال ينطبق على صلاة المغرب. (م)

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

4
  • فلنفترض أنَّ لديكَ منزلًا ومتجرًا ووسيلةَ نقلٍ، ولديكَ عملٌ. وهناكَ إنسانٌ لا يعرفُ أيًّا من هذهِ، ويسألُ: يا هذا، كيفَ حالُ فلانٍ؟ فيقولُ: أنا فقط أستطيعُ أن أُعطيَكَ عُنوانَ منزلِهِ. وبالعُنوانِ الذي يُعطيكَ إيَّاهُ، تأتي وتجِدُ بابَ منزلِهِ. حسنًا، لقد وجدتَ منزلَهُ، ولكنَّكَ لم تجِدهُ هو. عرفتَ أنَّ هذا الرجل في هذا المنزلِ، فما علاقةُ هذا بهِ؟ وكم عرفتَ عنه؟! لقدِ اطَّلعتَ على آثارِهِ، وذلكَ أثرٌ جُزئيٌّ بسيطٌ جدًّا، فقط أنَّ منزلَهُ هنا ومتجرَهُ هناكَ، ورقمَ سيارتِهِ كذا وهاتفَهُ كذا، بهذا القدرِ فقط. وأمَّا مَن هو هذا الإنسانُ وكم لديهِ من معلوماتٍ وما هي صفاتُهُ، وما هي خصائصُهُ الأخلاقيَّةُ، وما هي صفاتُهُ القبيحةُ أو صفاتُهُ الحسنةُ، حيث أنَّ معرفةَ عُنوان منزلِه لا توصِلُ الإنسانَ إلى هذهِ الأمورِ، فتلكَ تتطلَّبُ شيئًا آخرَ. يجبُ أن يكونَ معَهُ، فيُجالِسَهُ، ويلتقي معَهُ ويختَبِرهُ، ويختبره ويطَّلِعُ على فنونِهِ وأخلاقِهِ وصفاتِهِ في مُختلِفِ المواقفِ، وتلكَ طريقةٌ أخرى. فعُنوانُ المنزلِ لا علاقةَ لهُ بهِ، وعُنوانُ المتجرِ لا ارتباطَ لهُ بهِ. فإذًا، الفقهُ بمعنى الاطِّلاعٍ على الأحكامِ الظاهريَّةِ لا علاقةَ لهُ بمعرفةِ اللهِ أبدًا! 

  • ما هي العلومُ التي تُحقِّقُ معرفةَ اللهِ إذن؟

  • نعم، تفسيرُ القرآنِ لهُ علاقةٌ، والأحاديثُ الاعتقاديَّةُ للأئمةِ عليهم السلام لها علاقةٌ دقيقةٌ، دقيقةٌ! تلك الأحاديثُ التي لا نعرفُ واحدةً منها، فتمرُّ خمسونَ سنةً من عُمرِنا ولا نفتحُ كتابَ مكارِمِ الأخلاقِ، وتمرُّ مئةُ سنةٍ من عُمرِنا ولا نقرأُ روايةً توحيديَّةً واحدةً للإمامِ الرضا عليه السلام، لا نعرفها أبدًا! لأنَّنا لا نملِكُ عِلمَها لنقرأَها، فماذا نقرأُ؟ وكأنَّهم يتحدَّثونَ بالصينيَّةِ، أو اليابانيَّةِ! لماذا؟ لأنَّنا لا نملِكُ عِلمَها. وأمَّا الشكوكُ والطهاراتُ والنجاساتُ والدماءُ الثلاثةُ فيمكنُنا شرحُها جيِّدًا والمسائلُ الأخرى المشابهة، ولكن عندما يضعونَ أمامَنا روايةً لموسى بنِ جعفرٍ عليه السلام حولَ التوحيدِ، نقلبُ الصفحةَ ونذهبُ إلى الصفحة التالية.

  • هل حقًّا طالب العلوم الدينيّة لا يحتاج إلى المعارف القرآنيّة والاعتقاديّة؟ 

  • أحدُ أعاظم النجفِ قالَ بنفسِهِ للمرحومِ العلامةِ: يا سيِّدي، ما فائدةُ قراءةِ القرآنِ لنا الآنَ؟! فطالبُ العلمِ يجبُ أن يذهبَ ويدرُسَ ويبحثَ ويجتهِدَ، والرواياتُ التي تخصُّنا هي أحاديثُ الأحكامِ، ويجبُ فقط أن ننشغِلَ برواياتِ الأحكامِ، أمَّا الرواياتُ الاعتقاديَّةُ وآياتُ القرآنِ فلا علاقةَ لنا بها! فوقتُ طالبِ العلمِ ثمينٌ ومحترمٌ! 

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

5
  • شكرًا لكَ! مرحبًا! مرحبًا! قرَّت عينُ الإمامِ الصادقِ عليه السلام والإمامِ الرضا عليه السلام حين يأتيَ بعدَ ألفٍ وأربعمائةِ عامٍ مَن يقولُ هذا الكلامَ وهذهِ السخافاتِ. فوقتُ طالبِ العلمِ ثمينٌ، فلماذا يقرأُ القرآنَ! يجبُ أن يذهبَ ليقرأَ الأحاديثَ والأحكامَ والكُتُبَ الأصوليَّةَ وأمثالَ ذلكَ!

  • ولكنَّ الأعاظمَ لم يُضيِّعوا أوقاتَهم، بل ذهبوا إلى مَنبعِ المعرفةِ والإدراكِ والشعورِ والحياةِ، أي الأئمّةِ المعصومين عليهم السلام، وسألوا: ما هو الطريقُ إلى المعرفةِ؟ الإمامُ الصادقُ عليه السلام أيضًا عندما يعرفُ من أمامه ويعرفُ تلميذَهُ ويفهمُ مَن هو، فماذا سيقولُ؟ سينهضُ ويأتي بتلكَ المعرفةِ الإلهيَّةِ وتلكَ المسائلِ ويتحدّث بها. نعم، يجبُ أن تُصلِّيَ صلاتَكَ هكذا، يجبُ أن تُصلِّيَها بطهارةٍ، بقراءةٍ، وفي أوَّلِ الوقتِ، وأمثالِ ذلكَ، فيجبُ أن تقومَ بهذهِ الأمورِ، ولكنَّ هذهِ مُقدِّمةٌ، مُقدِّمةٌ لماذا؟ مُقدِّمةٌ لإدراكٍ وشعورٍ بذاتِ الله وأسمائِهِ وصفاتِهِ، هذهِ هي المسألةُ. وأينَ يجبُ أن نجِدَ ذلكَ؟ أينَ يجبُ أن نحصُلَ عليهِ؟! لذا، علمُ التفسيرِ، الفلسفةُ والحكمةُ الإسلاميَّةُ، العرفانُ الإسلاميُّ، والرواياتُ والأحاديثُ التي بقيت لنا من الأئمةِ عليهم السلام في مسائلِ المبدأِ والمعادِ والاعتقاداتِ التوحيديَّةِ، هذهِ هي التي تُحصِّلُ لنا «معرفتِي إليكَ»، أي المعرفةَ بكَ. أمّا لو فهمتُ أحكامَ الدماءِ الثلاثةِ، وهل هي بينَ ثلاثةِ أيَّامٍ وعشرةِ أيَّامٍ، وإذا شكَّتِ المرأةُ فهل تستصحِبُ أم تبني على الأقل أوِ الأكثر وهذهِ الأمورُ، فماذا حدثَ في القضيَّةِ؟ هل هذهِ أصبحت معرفةً باللهِ وحصلت لكَ معرفةٌ بهِ؟ هل هذهِ معرفةٌ بهِ؟! 

  • كيفَ تبدو معرفةُ اللهِ الحقَّةُ عندَ الإمامِ السجَّادِ عليه السلام؟

  • المعرفةُ باللهِ يجِدُها ذلكَ الذي عندما يُحرِمُ ويُريدُ أن يُلبِّيَ يصفَرُّ لونُهُ، ويتصبَّبُ العرقُ على جسدِهِ، ويرتعِدُ بدنُهُ. وعندما يُسألُ الإمامُ: يا ابنَ رسولِ اللهِ، لِمَ أصبحتَ هكذا؟ ـ الإمامُ السجَّادُ والإمامُ المُجتبى عليهما السلام! - فيقولُ: «إنِّي أقولُ لبَّيكَ أخشى أن يقولَ لي: لا لبَّيكَ ولا سعدَيكَ»۱. أي أنّك لستَ أهلًا للتلبيةِ! ومَن يقولُ هذا الكلامَ؟! الإمامُ السجَّادُ عليه السلام يقولُهُ. الإمامُ يقولُ أخشى أن يأتيَ الجوابُ: لا لبَّيكَ! فأيُّ معنىً يدورُ في ذهنِ الإمامِ عليه السلام؟ هل فكَّرنا يومًا في هذا الكلامِ؟! نعم، نقولُ فقط إنَّهم كانوا عُظماءَ وأئمةً ولهم مسائلُ خاصَّةٌ! هل كانوا عُظماءَ وانتهى الأمرُ؟! هل جلسنا مرَّةً واحدةً لخمسِ دقائقَ نُفكِّرُ ماذا كانَ يفهمُ الإمامُ السجَّادُ عليه السلام عندما قالَ هذا الكلامَ؟! يا عزيزي، اصفِرارُ لونِ البدنِ ليسَ تمثيلاً مسرحيًّا! ارتِجافُ البدنِ ليسَ شَعوذةً وتمثيلًا! ويستمِرُّ الناس في القولِ إنَّهم قالوا هذهِ الأمورَ لنا! هلِ ارتِجافُ بدنِهِ كانَ لنا أيضًا؟! ألا يخجلونَ؟! حقًا ألا يملِكونَ هذا القدرَ منَ الإدراك ليفهموا أنَّ الإمامَ عندما يتغيَّرُ لونُهُ وتذرِفُ الدموعُ من عينَيهِ، فهل هو يُمثِّلُ مسرحيَّةً لنا؟! هلِ الإمامُ مثلُ هؤلاءِ المُمثِّلينَ الذين يُمثِّلونَ ألفَ دور لألف شخصيّة؟! مِسكينٌ! اذهب وابحث عن شخصيَّتِكَ أنتَ، فلماذا تُمثِّلُ دور ألفَ شخصيَّةٍ؟ فتارةً تصبحُ امرأةً وتارةً رجلاً، وتارةً تصبحُ قِطَّةً وتارةً حِمارًا. ما هي شخصيَّتُكَ أنتَ؟! أنتَ دائمًا في شخصيَّةِ هذا وذاكَ. وهلِ الإمامُ هكذا أيضًا؟! هل يفعلُ هذا لنا وهذهِ الدموعُ تنهمِرُ من عينَيهِ؟! هذهِ الدمعةُ التي تنهمِرُ، يقولونَ: ما شاءَ اللهُ على فنِّ الإمام في التمثيل! يقولونَ: فنَّانٌ، الفنَّانُ هو الذي عندما يبكي، تعتقد حقًا أنَّهُ مثلُ تلكَ الأُمِّ الثَّكلى التي تبكي، فهذا هو الفنُّ! 

    1. الحج والعمرة في الكتاب والسنة ج۱، ص ۱۸٢: سفيان بن عيينة: حج زين العابدين (عليه السلام)، فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه ووقعت عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبي. فقيل: ألا تلبي؟ فقال: «أخشى أن يقول لي: لا لبيك ولا سعديك»! فلما لبى خر مغشيا عليه وسقط عن راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه.

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

6
  • قصَّةُ المُمثِّلِ وتأثيرِهِ على المُحيطِ

  • قرأتُ مقالةً ذاتَ مرَّةٍ، عندما كنت في مرحلة الطَّيشِ، وكنت أطرق جميع الأبواب، وكنتُ أقرأُ كُتُبَ عِلمِ النفسِ والتي تستحقّ التمزيق هذهِ، فكانَت هناكَ فقرة تقولُ إنَّ الإنسانَ في تأثيرِهِ على المُحيطِ، يجبُ أن يعملَ بطريقةٍ ينسجِمُ فيها معَ المُحيطِ ويتموّه معَهُ ويتَّحِدُ معَ وضعِهِ وجوِّ مُحيطِهِ بحيثُ لا يستطيعُ الفردُ الآخرُ تمييزَ الازدواجيَّةِ والمُغايَرةِ بينَ الشخصيَّتَينِ، ـ بينَهُ وبينَ الحالةِ التي يخلقُها ـ ، وبهذهِ الطريقةِ يمكنُهُ أن يُؤثِّرَ، وإلَّا فلن يستطيعُ. ثمَّ ضربَ مِثالًا، فذكر اسم مُمثِّل مُعيَّن، كانَ في مكانٍ ما، وكان في القوقازِ ذاهبًا إلى مكانٍ، والأفرادُ الذينَ كانوا هناكَ عرفوهُ، فقد كانَ هذا المُمثِّلُ مشهورًا، فبدأوا يتحدَّثونَ معَهُ ويسألونَهُ، فقالوا: كيفَ تستطيعُ أن تُؤدِّيَ دورَكَ جيِّدًا؟ تلكَ الحيلةُ والفنُّ ـ في النهايةِ هذهِ أيضًا حِرفةٌ وفنٌّ أن يُغيِّرَ إنسانٌ شخصيَّتَهُ تمامًا ـ أصلًا لدينا بعضِ الأمراضِ النفسيَّةِ هكذا كمرض ازدواجِيّة الشخصيَّةِ، وهو مرضٌ نفسيٌّ هِستيريٌّ حيثُ ينتقِلُ فيهِ الإنسانُ من شخصيَّةٍ إلى أخرى بشكلٍ كلِّيٍّ، والمُثيرُ للاهتمامِ هنا أنَّهُ عندما يُغيِّرُ شخصيَّتَهُ لا يكونُ لديهِ أيُّ اطِّلاعٍ على الشخصيَّةِ السابقةِ أبدًا، وكأنَّها لا وجود لها، تمامًا كما أنَّني الآنَ ليسَ لديَّ أيُّ اطِّلاعٍ على شخصيَّتِكَ، وأنتَ أيضًا ليسَ لديكَ اطِّلاعٌ على شخصيَّتي، فكلُّ إنسانٍ شخصيَّتُهُ لنفسِهِ، واطِّلاعُهُ على صفاتِهِ وغرائزِهِ وأخلاقِهِ ومسائلِهِ وصفاتِهِ مُختصٌّ بهِ ولا أحدَ يطَّلِعُ عليها. فقد يُمثِّلُ الإنسانُ أمامَ الناس بحيثُ لا يدركون لعشرينَ عامًا كيف كانَ هذا، وعجيب أن لا أحدَ يدرك! حتى لو كانَ عالمًا لا يدرك، إلَّا إذا كانَ هناكَ إنسانٌ عينُهُ ترى الباطنَ ونافِذُ البصيرةِ ويرى الباطنَ فيدرك! فالباطنُ شيءٌ آخرُ، وهذا الظاهرُ والتزيُّنُ هو للخلقِ، ويُخفى في الباطنِ شيئًا آخر، وبينهما بَونٌ بعيدٌ، مسافة ما بينَ المشرقِ والمغرِبِ! فأينَ هذا من ذاك؟ يا إلهي! يا للهولِ! فلنُغلِقِ البابَ عليه ولا نفضحِ الأمرَ، فالأوضاعُ سيِّئةٌ للغايةِ! 

  • أهميَّةُ الأُستاذِ في كشفِ البواطنِ

  • في السابقِ كنَّا نسمعُ بعضَ الأمورِ ولم نكن نقبل بها ونصدّقها أبدًا، أبدًا. كنَّا نقولُ: يا إلهي، هل يمكنُ أن يوجدَ مثلُ هذا الشيءِ حتى ولو بالنسبةِ لشخصٍ واحدٍ؟ ولكن عندما كانتِ الأحداثُ تتغيَّرُ وتتبدَّلُ الأمورُ، كنَّا نرى أنَّ هذهِ القضيَّةَ كانت صحيحةً فعلاً، وحينها يبقى الإنسانُ في حيرةٍ. لهذا يقولونَ: على الإنسانَ أن يضعَ يدَهُ في يدِ الأُستاذِ، فالأعاظمُ الذينَ لم يفعلوا ذلكَ وقعوا في الهلاكِ. وهذا لا علاقةَ لهُ بالكبَرِ والصِّغَرِ، بل يتطلَّبُ عينًا وبصيرةً أخرى! يتطلَّبُ وسيلةً وأداةً أخرى. فالأدواتُ الظاهريَّةُ کالعين والأُذن واللِّسان والسَّمع والفكر ومستوى اطِّلاعِ الإنسانِ ومعرفتِهِ، لا تكفي لإدراكِ هذا الأمرِ الهامِّ، فهذا يتطلَّبُ شيئًا آخرَ. يتطلَّبُ إنسانًا بمُجرَّدِ أن ينظر يقولُ:

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

7
  • ـ اذهب في حال سبيلِكَ!

  • ـ يا سيِّدي، هل تطرُدُنا من بيتِكَ؟!

  • ـ انهض!

  • فهذهِ مسألةٌ أخرى، كيفيّة اختلاف ظاهر الإنسانِ عن باطنِهِ وتغيّرهما، وكيفَ يُميِّزُ الإنسانُ هذهِ المسألةَ؟ فإنَّها مسألةٌ دقيقةٌ جدًّا! لهذا يقولونَ إنَّ الإنسانَ يجبُ أن يضعَ يدَهُ في يدِ الأُستاذِ، لكيلا يقعَ لسنواتٍ في فخِّ حِيَل ونفاق الأفرادِ، فكلُّ هذا هو بسببِ هذا الأمرِ. فما يفهمُهُ العظيمُ برؤيتِهِ يختلفُ عن رؤيةِ سائرِ الأفرادِ، ذلكَ يختلفُ.

  • يقولُ الإمامُ عليه السلام: «معرفتِي يَا مَولايَ دلِيلِي علَيكَ» معرفتي دليلٌ إليكَ ونحوَكَ. وضّحت هذه المسألة، ولنُنهِ المسألةَ عندَ هذا الحدِّ وندخُل في قضيَّةٍ وأمرٍ آخرَ.

  • لماذا الحبُّ شفيعٌ لا العملُ؟

  • لقد اتّضح للرفقاءِ لماذا يقولُ الإمامُ السجَّادُ عليه السلام: «وحُبِّي لَكَ شفِيعِي إلَيكَ»، ولا يقولُ العملَ، فشفيعي نحوَكَ هو محبَّتي لكَ، لا العملُ. ألا يجبُ علينا أن نعملَ؟! فكلُّ هذا التأكيدِ لدينا حولَ العملِ، أن يجبُ أن تُؤدُّوا العملَ بشكلٍ صحيحٍ، ويجبُ أن تكونوا دقيقينَ، ويجبُ أن يكونَ بإخلاصٍ، وأن يكونَ صحيحًا، وأن تهتمُّوا بهِ. فلماذا لم يأتِ الإمامُ عليه السلام بالعملِ هنا كشفيعٍ؟ لماذا؟! أليسَ زادُ السالكِ إلى اللهِ هو العملَ؟! كلُّ هذا التأكيد من الأئمةِ عليهم السلام على العمل حيث كانوا يقولونَ: «آهِ مِن قِلَّةِ الزَّادِ وبُعدِ الطَّرِيقِ!»۱ آهِ من قِلَّةِ الزادِ وطول الطريقِ الذي أمامَنا! فلماذا كان ذلك؟! 

  • الوجهُ الأوَّلُ: هل أعمالُنا صالحةٌ لأن نستعرضها أمام اللهِ؟

  • يمكنُنا دراسةُ هذهِ المسألةِ من جانِبَينِ:

  • الجانبُ الأوَّلُ بخصوص العمل وهل هذا العملُ الذي نقومُ بهِ، وهذهِ الأفعالُ التي نُؤدِّيها صالحة لأن نستعرضها أمام اللهِ تعالى لكي نأتيَ ونقولَ: يا إلهي، لقد قُمنا بهذا العملِ وفعلنا هذا الفعلَ وأدَّينا هذا التكليفَ فيجبُ أن تقبلَهُ منَّا! فليسَ الأمرُ هكذا! فلقد قُلتَ صَلِّ فصَلَّينا، فماذا تُريدُ منَّا بعدُ؟ قُلتَ صُم، فصُمنا شهرَ رمضانَ، فهل لا تزال تُريدُ شيئًا؟! هل لا تزالُ تُطالِبُنا بشيءٍ!؟ لو كُنتَ قُلتَ صوموا شهرَينِ لصُمنا شهرَينِ! قُلتَ شهرًا واحدًا فصُمناهُ! قُلتَ لا تأكُل ولا تشرَب ولا تُدخِّن، فلم نأكُل ولم نَشرَب ولم نُدخِّن ـ طبعًا التدخينُ حرامٌ دائمًا ـ ولا تُدخِل غُبارًا غليظًا إلى الحلقِ، فلم نفعل. ولا تفعل أيَّ شيءٍ، فلم نفعل. والآنَ ماذا تُريدُ بعدُ؟! لقد صلَّينا وصُمنا وأدَّينا حجَّةً واجبةً واحدةً وصفَّينا أُمورَنا الماليَّةَ، والآنَ ليسَ لكَ أيُّ طلبٍ منَّا، ومن واجبِكَ أن تُدخِلَنا الجنَّةَ، وإذا خالفتَ فسنُحاسِبُكَ حسابًا عسيرًا! ـ طبعًا إذا استطعنا! ـ فماذا تُريدُ منَّا بعدُ؟! هذا هو منطقُ أهلِ العملِ، وقد شرحناه قليلًا، وإلاّ فهو مختفٍ في قلوبِ الجميعِ، وهل تقولونَ إنّهُ ليسَ كذلكَ؟ فلماذا إذًا عندما تذهبونَ إلى كربلاءَ وتعودونَ تأتونَ إلينا وتقولونَ: يا سيِّدي، ذهبنا إلى كربلاءَ لزيارةِ الإمامِ الحسينِ عليه السلام ولم يحدُث شيءٌ! إذًا يتَّضِحُ أنَّ هذا التفكير موجودٌ. ولماذا عندما تذهبونَ لأداءِ العُمرةِ وتعودونَ، تقولونَ: لقد قطعنا كلَّ هذهِ المسافةَ وأنفقنا المالَ وذهبنا للعُمرةِ لكي يُفتَحَ لنا بابٌ عندَ العودةِ، ولكن لم يُفتَح؟! فهل تتوقَّعونَ أن يأتيَ اللهُ ليَبنيَ لكم قوسَ نصرٍ من البحرِ الأحمرِ ويذبحَ ألفَ بقرةٍ وجملٍ لأنَّ الحاجَّ قد قَدِمَ من مكَّةَ، وأن تصطفَّ الملائكةُ وتستقبِلَ زائرَ بيتِ اللهِ، ثمَّ تُفتَح جميعُ أبوابِ السماءِ لأنَّ جنابَكمُ المُعظَّمَ قد تكرَّمَ وشرَّفَ بالنزولِ في المسجدِ الحرامِ وتكبَّدَ عناءَ السَّفرِ بالطائرةِ في ساعتينِ في أفضلِ المقاعِدِ الخاصَّةِ؟! ـ بعضُ هذهِ الطائراتِ التي تذهبُ إلى مكَّةَ يُسمُّونَها الرِّحلةَ الذهبيَّةَ، أي لفئةٍ خاصَّةٍ، فهؤلاءِ زُوَّارُ اللهِ الخواصُّ! ويجبُ أن يكونَ الأمرُ بهذهِ الطريقةِ والكيفيَّةِ! فهؤلاءِ يختلِفونَ أصلًا وقضيَّتُهم تختلفُ أصلًا، وألفُ جبريلٍ يُمسِكونَ بهذا الجانبِ منهم وألفُ ميكائيلٍ يُمسِكونَ بذلكَ الجانبِ. وبقيَّةُ الأماكنِ لا نعلمُها! يا سيِّدي، ذهبنا وأنفقنا المالَ وتعبنا، ولم يُفتَح لنا بابُ الفتحِ، أليسَ من واجبِ اللهِ أن يلطُفَ بنا؟!

    1. نهج البلاغة، ج٤، ص ۱۷.

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

8
  • شُكرًا جزيلًا! ذهبتَ إلى هناكَ بل واستمتعتَ أيضًا، وأكلتَ ونِمتَ لأُسبوعَينِ، ونقلوكَ بأفضلِ السيَّاراتِ هنا وهناكً، وأكلتَ أفضلَ الأطعمةِ، وزادَ وزنُكَ عشرةَ كيلوغراماتٍ ثمّ عُدتَ، ومع ذلكَ لا نزالُ ندَّعي ونتَبجَّحُ بأنَّنا ذهبنا إلى هناكَ وفعلنا كذا! ذهبنا إلى كربلاءَ وتعبنا وعبرنا الحدودَ وجلسنا عشرَ ساعاتٍ على الحدودِ، ورغم هذه الأوضاع ذهبنا إلى الزيارة! فيجبُ على الإمامِ الحسينِ عليه السلام أن يقضيَ حاجتَنا ويجبُ عليه أن يُلبِّيَ مطالِبَنا! وكأنّ الإمامُ الحسينُ عليه السلام جالِسٌ هناكَ مكتوفَ الأيدي ينتظِرُ حتى يشرَّفَ جنابُ السيِّدِ الحرم بحضورِه! لا أن يتشرَّفَ هو بل يشرّف بالحضورِ!

  • قصَّةُ أدبِ المرحوم العلّامةِ في التعبيرِ عنِ الزيارةِ

  • ذاتَ مرَّةٍ كنَّا جالسينَ في محضرِ العلامةِ الطباطبائيِّ رحمه الله ـ وكنَّا في مشهدٍ ـ وجاءَ ذِكرُ أحد الأقارب، فسأل العلامةُ الطباطبائي ابن ذلك الرجل: أينَ فلان؟ فأجابه: هو أيضًا شرّف إلى مشهدٍ۱. وفجأةً قالَ العلامةُ الطهراني: تشرَّفَ! ـ انظروا! تشرَّفَ! ـ المرحوم الوالد قال ذلك، فالعلّامة الطباطبائي هو الذي سألَ: أينَ والدُك؟ فقالَ ذلكَ الرجل: هو أيضًا شرّف بالمجيءِ! فقالَ المرحومُ العلامةُ الطهراني: قولوا تشرَّفَ. لا يُقالُ عن زيارةِ الإمامِ الرضا عليه السلام تفضَّلَ بالمجيءِ، نحنُ جميعًا نتشَرَّفُ بخدمةِ الإمامِ. الإمامُ إذا أرادَ أن يذهبَ إلى مكانٍ يُقالُ إنَّهُ تفضَّلَ بالمجيءِ، أمَّا نحنُ فلا! لسنا كذلكَ، فنحنُ نشرّف بالحضور! ذاك التشرّف هو للعلامةِ الطباطبائيِّ وأمثالِهِ! أمَّا نحنُ فلا يا سيِّدي! فما هذا الكلامُ؟! لقد سمِعتُ ورأيتُ أنَّهُ كُتِبَ: فُلانٌ شرّف إلى مشهدٍ. نحنُ الآنَ نشرّف لزيارةِ الإمامِ الرضا عليه السلام، نحنُ نشرّف إلى كربلاءَ، نحنُ نشرّف إلى حضرةِ اللهِ. تفضُّلٌ! 

  • لقد قُمنا بهذا العملِ، فلماذا لم يحدُث شيءٌ؟! 

  • ـ لقد تعِبتُم كثيرًا، وماذا أيضًا؟ نهضتَ وتفضَّلتَ بالذهابِ في ساعتينِ بأفضلِ طائرةٍ أمريكيَّةٍ إلى مكَّةَ، ثمَّ عُدتَ بنفسِ الطائرةِ، ثمَّ سكنت هناك في أفضلِ الفنادِقِ، لا، يجبُ أن يكونَ الفُندُقُ الفُلانيُّ، لابد أن تكون ذا مستوى رفيع! وحجزتَ في أفضلِ الفنادِقِ وتناولتَ أفضلَ الأطعمةِ، والآنَ عُدتَ تقولُ: يا سيِّدي، لماذا لم يُفتَح لنا بابُ المعرفة؟ لقد ذهبنا إلى هناك، فلم لم يفتح لنا؟! حسنًا، هل عملُنا هذا يصلح أن نفتخر به أمام الله؟ وهل عملُنا هذا يصلُحُ للشفاعةِ؟! لكي نأتيَ إلى اللهِ ونقولَ: يا إلهي، عملُنا هذا شفيعٌ لنا عندك. هل في عملِنا هذا إخلاصٌ؟ هل لو قيلَ لنا بدلًا من طائرةِ بوينغ ۷٤۷ وفي المقاعد الأماميّة ـ لا أعرفُ هل هي في الأعلى أمِ الأمامِ التي يقولونَ إنَّها جيِّدةٌ ـ لو قيلَ لجنابِكمُ المُستطابِ المُعظَّمِ: اذهبوا إلى مكَّةَ بالحافِلةِ ! فهل كنتُم ستتشَرَّفونَ بالعُمرةِ؟ فحجَّتكم هذه بل وحجَّتنا أيضًا! نحن أيضًا! فلماذا دائمًا نقول أنتم! فلنُوجِّهِ الخطابَ لأنفُسِنا ونتحاور في الأمرَ بوُدِّيَّةٍ. فهل عُمرتُنا هذهِ وحجّتنا هذهِ هي نفسُها عُمرةُ وحجّة الإمامِ المُجتبى عليه السلام ماشيًا، خمسًا وعشرينَ مرَّةً؟! هل هي نفسُها؟! لن نقول أصلًا الإمامَ المُجتبى عليه السلام، بل تلكَ التي كانَ الناسُ يذهبونَها، فلقد كانوا يذهبونَ بالهوادِجِ ويمكثونَ ثلاثةَ أشهُرٍ في الطريقِ، ويتعرَّضونَ للّصوص وقُطَّاع الطُّرُق، ويموتونَ في الطريقِ بسببِ الوباءِ، ويَهلكونَ بسببِ المصاعِبِ، فهل هذه مثلُ تلكَ؟! لا نقولُ أصلًا مثلَ ذلكَ الوقتِ، بل أولئكَ الذينَ كانوا يذهبونَ بالسيَّاراتِ وتتعطَّلُ سيَّاراتُهم، وكانوا يحكونَ أنَّهم يبقونَ أُسبوعًا وعشرةَ أيَّامٍ في الطريقِ، ويذوقونَ حرَّ الصحراءِ ويتحمَّلونَ بردَ الليلِ! وهناكَ حِكاياتٌ في هذا المجالِ، فهل هي نفسُها؟! فنحن ركِبنا من طِهرانَ وبعدَ ساعتينِ نزلنا نزولَ الإجلالِ في جدَّةَ، وأخذونا وأحرمنا وذهبنا إلى هناكَ وأدَّينا [المناسِكَ] في نِصفِ ساعةٍ أوَّلًا وآخِرًا، وبمُجرَّدِ انتهاءِ الإحرامِ لبِسنا ملابِسَنا وأسرعنا بالخروجِ، لنتنقّل من هذا السوقِ إلى ذاكَ، ومن هذا الشارعِ إلى ذاكَ، ثمَّ انتهى الأمرُ ونهضنا وعُدنا إلى منازِلِنا، ثمَّ نتوقَّعُ أن ينقُشَ جبريلُ الأمينُ عُمرتَنا هذهِ بماءِ الذهبِ على ورقٍ مُنقَّشٍ ومُذهَّبٍ في صفحاتِ الأعمالِ، وفي يومِ القيامةِ يُحضِرونَها بالورودِ وباقاتِ الزهورِ لتُعرَضَ على محكمةِ الحسابِ! لا يا عزيزي! 

    1. تستعمل هذه المفردة في اللغة الفارسيّة ضمن المحاورات اليوميّة بشكل تلقائي، فبدلاً من أن يقال جاء فلان يقال: شرّف فلان، ولكنّ المرحوم العلاّمة كان ينبّه على ضرورة الدقّة في التعبير حتّى وإن لم يكن مقصودًا. (م) 

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

9
  • فالعملُ الذي نقومُ بهِ، وما يُوجِبُ تناميه وتساميهِ هو مِقدارُ النيَّةِ وإخلاصُ الضميرِ وصفاءُ الباطنِ الذي ينطَبِعُ على صورتِهِ الملكوتيَّةِ. فكم فكَّرنا في تلكَ المسألةِ؟ وكم فكَّرنا في تلكَ القضيَّةِ؟ وكم توجَّهنا إلى ذلكَ الأمرِ؟ فذلكَ الذي يأتي إلى مجلسِ الإمامِ الحسينِ عليه السلام للمُشاركةِ في العزاءِ، فيقوم بارتداء لِباس يختلفُ عن بقيَّةِ الملابِسِ، فهلِ العزاءُ الذي يُشارِكُ فيهِ هو للّهِ؟! فذلكَ الذي يذهبُ ويرتدي لِباسًا ـ في مجالِسِ العزاءِ ومجالِسِ الأعيادِ والمجلس المشابهة لذلك ـ ليكونَ مُلفِتًا للنظرِ أمامَ الآخرينَ، وليختلِفَ عنِ البقيَّةِ! هل مُشاركتُهُ في مجالِسِ العيدِ تلكَ هي للّهِ؟! يا سيِّدي، فلقد شاركنا في مجالِسِ العيد! وتلكَ التي تذهبُ وتضعُ جوهرةً على عُنُقِها لتتفوَّقَ على جميعِ نساءِ المجلسِ بتلكَ الجوهرةِ وأساور الذهب وما شابه ذلك ، فهل مُشاركتُها للّهِ؟! 

  • فلنترُك هذهِ الحِيَلَ جانبًا، ولنترُك هذهِ الخدع جانبًا، فالملائكةُ تفهمُ مُشاركتَنا ونيَّتَنا وحركتَنا بشكلٍ أفضلَ! وتميِّزها بشكلٍ أفضلَ! فذلكَ الذي يعملُ بطريقةٍ بينَ الناسِ ليشار إليه بالبنان، وليُصبِحَ مشهورًا، ولا تظُنُّوا أنَّ زمنَ المرحومِ العلامةِ لم يكن هكذا أيضًا، ففي زمنِ المرحومِ العلامةِ أيضًا كانَ هناكَ أفرادٌ يُريدونَ أن يكونوا في المجالِسِ بطريقةٍ تجعلُهم مختلفين عن الآخرين. فكلُّ هذهِ خدع وحِيَلٌ، وكلُّها رياءٌ وكَذِبٌ ونِفاقٌ، وكلُّها مادِّيَّاتٌ وكَثراتٌ و {ظُلُماتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ}۱ فهذهِ هي التي تُسبِّبُ الظُّلمةَ والكَدَرَ وزوالَ روحيّة المجالس ونورانيَّتها والانغِماسَ في الكثرةِ والدُّنيا باسمِ مجلسِ العزاءِ وباسمِ مجلسِ العيدِ. فما الفرقُ بينَ هذا المجلسِ ومجلسِ الرقصِ؟! ذاكَ لهُ اسمُهُ الخاصُّ، وهذا مُنتسِبٌ إلى الإمامِ! فيا لخجلِنا! مُنتسِبٌ إلى الغديرِ ومُنتسِبٌ إلى الإمامِ الحسينِ عليه السلام ومُنتسِبٌ إلى الإمامِ الباقرِ عليه السلام ومُنتسِبٌ إلى الإحياءِ والعزاءِ و... فما كلُّ هذا؟ ألا تفهمُ الملائكةُ عملَنا ونيَّتَنا؟ أليسوا مُطَّلِعينَ على أوضاعِنا وكيفيَّةِ ارتِباطِنا؟!

  • يجبُ ارتداءُ اللِّباسِ، وأن يكون لِباسًا جميلاً ونظيفًا وجيِّدًا، يجبُ ارتداؤُهُ، ولمَ لا؟ أوَّلًا، في مجالِسِ العزاءِ يختلفُ الأمرُ، وفي سائرِ المجالِسِ أيضًا يجبُ أن يكونَ هناكَ تنوُّعٌ، ولكنَّ هل الانشغال وراء هذه الأمور صحيحٌ؟ هل هو صحيحٌ؟ وهل من الصحيح ألَّا يجعل الإنسانُ نفسَهُ مطابقة لما قالَهُ الأعاظمُ؟ وأن يكون بتلكَ الكيفيَّةِ والوضعِ، هل هذا صحيحٌ؟ ففي الموضعِ الذي كانَ المرحومُ العلامةُ يقولُ فيهِ: يا سيِّدي، جلوسُكَ على الأريكةِ يؤدّي إلى اختلاف حالتكَ الروحانيَّةُ عن جلوسِكَ على الأرضِ، وهذا ليسَ بأيدينا. هل تقولُ إنَّهُ لا فرق؟ حسنًا، تعالوا وامنعوا حصول الفرق، هل تستطيعونَ؟ هل لديكمُ القوَّةُ والقُدرةُ لمنعِهِ؟ نحنُ لا نستطيعُ. يقولونَ لا ترتدوا هذا اللِّباسَ، فهذا لِباسٌ قصيرٌ ولِباسُ أهلِ الذّلَّةِ، ويجبُ أن يكونَ لِباسُ الإنسانِ مُرتَّبًا ومُنظَّمًا. والآنَ يُريدُ الإنسانُ أن يُميِّزَ نفسَهُ عنِ البقيَّةِ ويجعلَ نفسَهُ مميّزًا ويأتي بطريقةٍ مُعيَّنةٍ، فما هذا؟ كلُّ هذهِ خِدَعٌ، نُخدَعُ، دائمًا نُخدَعُ. فالأعمالُ التي نقومُ بها، هل حقًا فيها قُربٌ من الله؟ فتلكَ الصلاةُ التي ننهضُ لنُصلِّيَها، ما هي حالتُنا أثناءها؟ هل نُصلِّي بثِقلٍ؟ اللهُ يقولُ قِف، وانتهى. فهل صلَّيتَ بثِقلٍ؟ أي لو لم تطلب يا الله لكانَ أفضلَ. والآنَ بما أنَّكَ أمرتني سأُصلِّي، فإن لم أُصَلِّ فسوفَ تُحاسِبُني حسابًا عسيرًا، نعلمُ هذا، ولكنَّني أُصلِّي حتى لا تُحاسِبَني حسابًا عسيرًا. يقولُ اللهُ: قِف! هذهِ الصلاةُ غير مفيدة لك! الصلاةُ التي تنفعُني هي الصلاةُ التي تكونُ عن محبَّةٍ، عن محبّة! عن رغبة. فهل فكَّرتُم في هذهِ الأمورِ يومًا؟ ووقتَ الصلاةِ عندما يقولُ المُؤذِّنُ: أشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، في تلكَ اللحظةِ أيُّ حالٍ يتملَّكُنا؟ هل فكَّرنا في ذلكَ؟ نقولُ: يا للهولِ! لوِ انتظرتَ نِصفَ ساعةٍ أُخرى وقُلتَها، ليتك انتظرت قليلًا! الآنَ يجبُ أن ننهضَ ونذهبَ لنُصلِّيَ. يا فُلانُ، انتَظِر لحظاتٍ سنُصلِّي ونأتي، لا تذهب! أليسَ هذا فِكرُنا؟ بينَنا وبينَ اللهِ، نحنُ الرُّفَقاءُ، فلنقُلِ الصِّدقَ، من نفسي إلى الجميعِ. ففي النهايةِ إن شاءَ اللهُ نأملُ أن يُصلِحَ اللهُ عُيوبَنا، لدينا عُيوبٌ ولا مزاحَ في الأمرِ، ففي النهايةِ نحنُ عبيدٌ مَعيبونَ، نأملُ أن يُصلِحَ اللهُ هذهِ العُيوبَ وسيُصلِحُها، فإذا كانَ الإنسانُ يقصدُ القُربةَ، فلماذا جاءَ اللهُ إذًا؟ لماذا جاءَ الأئمةُ عليهم السلام؟ ليأتوا ويُصلِحوا النقائِصَ وإلَّا قالَ ذلكَ الإنسانُ: يا عليُّ! لو لم تأتِ برحمتِكَ تلكَ، لكانَ حتى سلمان ذاكَ الذي كانَ معك سيَقِفُ في آخِرِ الصَّفِّ يوم القيامةِ، إلَّا أن تأتيَ أنتَ وترحمَ وتتكرَّمَ، وأميرُ المؤمنينَ عليه السلام عظيمٌ وهذا شأنُهُ. ولكن ما أُريدُ أن أقولَهُ للرُّفَقاءِ، وفي اللَّيالي القادِمةِ إذا وفَّقَ اللهُ، هو: أيَّ حِسابٍ يجبُ أن نحسب لأعمالِنا؟ كيفَ يجبُ أن نُفكِّرَ في أعمالِنا؟ هل نحسِبُ أعمالَنا أم لا؟ هذهِ هي المسألةُ. 

    1. سورة النور(٢٤) ، مقطع من الآية ٤۰. 

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

10
  • لا شكَّ أنَّ عملَنا فيهِ نَقصٌ، لا شكَّ أنَّ عملَنا فيهِ عَيبٌ. فالصلاةُ التي نُصلِّيها، من أوَّلِ الأذانِ الذي يُقالُ، منَ المُؤذِّنِ، نقولُ: يا للهولِ، جاءَ وقتُ الظُّهرِ مرَّةً أُخرى، وجاءَ اللَّيلُ مرَّةً أُخرى، والآنَ جاءَ الصباحُ، يجبُ الآنَ أن نستيقِظَ من هذا الفِراشِ، ماذا لو جعلَ اللهُ هذهِ الصلاةَ عندَ أوَّلِ شروقِ الشمسِ! لم يكن لديهِ عملٌ فجعلَها وقتَ اللَّيلِ والظَّلامِ، فالآنَ الملائِكةُ أعيُنُها لا تُبصِرُ لتشاهِدنا، فلو جعلتَها بعدَ ساعتينِ من شروقِ الشمسِ ونحنُ نُمارِسُ الرياضةَ وبِمِزاجٍ جيِّدٍ، فالآنَ يقولونَ الصلاةُ نوعٌ منَ الرياضةِ أيضًا.

  • قصَّةُ الطبيبِ الذي اعتبرَ غارَ حِراءَ رياضةً

  • كنَّا في سفَرِ للعُمرةِ، وجاءَ طبيبٌ هناكَ، وكانَ مُرتبِكًا بعضَ الشيءِ، لا بل كثيرًا. ذهبت مجموعةٌ إلى غارِ حِراءَ، وهو أيضًا ذهبَ معهم. وعندما عُدنا، قُلت: كيفَ كانَ غارُ حِراءَ؟ قالَ: كان الصعود إليها رياضة جيِّدة! للذينَ يُريدونَ إجراءَ اختبارٍ للقلبِ، هو اختبارٌ جيِّدٌ! ذهبَ إلى غارِ حِراءَ، المِسكينُ عادَ يقولُ: كانت رياضةً جيِّدةً! الآنَ ماذا لو كانتِ الصلاةُ مُتأخِّرةً قليلًا... فالنهوض من الفراش صعب... .

  • قصَّةُ السالِكِ الذي يضبُطُ المُنَبِّهَ

  • كانَ المرحومُ العلامةُ يقولُ: عندما كنتُ في النجفِ، قُلتُ لأحدِ الأعاظمِ، وطبعًا كانت حالتُهُ جيِّدةً آنذاكَ ولكن اختلفت أحواله فيما بعدُ: يا فُلانُ، كيفَ تستيقِظُ صباحًا؟ قُلتُ: أضبُطُ المُنَبِّهَ. قالَ: وهلِ السالِكُ يضبُطُ مُنبِّهًا أيضًا؟ هلِ السالِكُ يضبُطُ مُنبِّهًا؟

  • فنحن ننهضُ ونُصلِّي ولا نفهمُ اللهَ أكبرَ ولا كيفَ كانت السجدة؟ وعندما تنتهي، نقولُ: حسنًا انتهت، والآنَ لدينا بعضُ الوقتِ بينما يجبُ أن نكونَ مُستيقِظينَ بينَ الطُّلوعَينِ، فلنذهب لنُكمِلَ نومَنا، لكي نذهبَ إلى العملِ صباحًا بنشاطٍ. حينها في يومِ القيامةِ يقولُ اللهُ: أينَ صلاتُكَ؟ نقولُ: يا إلهي لقد صلَّينا، لو لم تَقُل أنتَ لكنَّا نائِمينَ، في مكانٍ دافئٍ ومُريحٍ في الفراش! لقد كنَّا نائِمينَ بشكلٍ جيِّدٍ جدًّا وأنتَ قُلتَ انهضوا، فنهضنا، وترَكنا النومَ الهانِئَ و... وتوضَّأنا وصلَّينا، فماذا تُريدُ بعدُ؟ فيقول الله: هل صلَّيتَ لي؟ فهذهِ الصلاةُ التي من المفترض أن تصلّيها لي تنفعُكَ أنتَ. ألم تتذَمَّر منِّي ألفَ مرَّةٍ في قلبِكَ في هذهِ الصلاةِ؟ ألم تعتَرِض عليَّ وتنتَقِدني في هذا الصومِ الذي صُمتَهُ؟ وهذا العملُ الذي قُمتَ بهِ، ألم يكن للآخرينَ؟ ألم تكن أعمالك للآخرينَ؟ ألم تكن لكي ينتبِهَ الآخرونَ؟ لقد أقمتَ مجلسًا، ولكن هل مِقدارُ فرحِكَ بأنَّ المجلسَ في بيتِكَ كانَ بنفسِ مِقدارِ فرحِكَ لو كانَ في منزلِ الآخرينَ؟ هلِ العملُ الذي كنتَ تقومُ بهِ في بيتِكَ، لو كانَ المجلسُ في منزلِ الآخرينَ هل كنتَ ستُشمِّرُ عن ساعِدَيكَ وتبدأُ بالعملِ؟ هلِ المِقدارُ الذي ذهبتَ وقرأت من أجلِهِ لتتحدَّثَ في مجلسِكَ وتجذِبَ الناسَ، هل كنتَ ستَبذُلُ الجُهد نفسه وتحضّر وتقرأُ الكُتُبَ وتدعو لو كانَ المجلسُ للآخرينَ؟ ولو لم يُشارِكِ الأفرادُ في مجلسِكَ، هل كنتَ ستَعتَرِضُ بالمِقدارِ نفسه الذي تعترضه لو كانَ المجلسُ للآخرينَ، وتقولُ: يا سيِّدي، لماذا لا يُشارِكُ الناس؟ أم أنَّ كلَّ هذهِ الأمورِ كانت ستَختلِفُ؟ هل كلُّ هذهِ الأمورِ تختلفُ؟ إذا كانَ منَ المُقرَّرِ أن يكونَ المجلسُ لي، فما الفرقُ سواءٌ كانَ في بيتِكَ أم بيتِ صديقِكَ أم بيتِ غريبٍ؟ إذا كانَ منَ المُقرَّرِ أن يكونَ المجلسُ، مجلسَ الإمامِ الحسينِ عليه السلام، فما الفرقُ؟!

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

11
  • الإمامُ السجَّادُ عليه السلام يكشِفُ كلَّ باطِنِنا، فيقولُ: عندما أقولُ «وحُبِّي لَكَ شفِيعِي إلَيكَ» فلأنَّ أعمالَنا وأفعالَنا وعِباداتِنا هي هكذا، فوضعُنا هكذا أيضًا. أنا أقولُ حُبِّي لكَ شفيعي إليكَ، وأنتَ تقولُ لا، عملي هو الشفيعُ! حسنًا جدًّا، تعالَ واعرِض عملَكَ، وانظُر كم منهُ سيُقبل. 

  • قصَّةُ نجاةِ العلامةِ المجلِسيِّ رحمه الله بعملٍ واحدٍ خالِصٍ

  • ماذا فعلَ العلامةُ المجلِسيُّ رحمه الله؟ قليلٌ من عُلماءِ الشيعةِ مَن خدَمَ الإسلامَ وساعَدَ واجتهَدَ بقَدرِ ما فعلَ العلامةُ المجلِسيُّ رحمه الله. العلامةُ المجلِسيُّ، المُلَّا مُحمَّد باقِر المجلِسيُّ. طبعًا والدُهُ المرحومُ المُلَّا مُحمَّد تقي المجلِسيُّ كانَ من كِبارِ أهلِ القُلوبِ وأهلِ الكشفِ، ولكن في النهايةِ لابنه أيضًا مكانتُهُ، وهو أيضًا كانَ رجلًا عظيمًا ورجلًا جليلًا ورجلًا عاليَ المقامِ وكان رجلًا ثريًّا، أنفقَ كلَّ ثروتِهِ في سبيلِ إحياءِ حديثِ أهلِ البيتِ عليهم السلام، هكذا كانوا. عندما تُوفِّيَ ـ قصَّتُهُ مُفصَّلةٌ ـ رأوهُ في المنامِ فقالوا له: ماذا فعلوا بكَ؟! قالَ: عندما وضعوني في القبرِ، جاءَ منكر ونكير وقالا: بسمِ اللهِ! الآنَ تعالَ وقدِّمِ الحِسابَ. قالا: ماذا فعلتَ؟ قُلتُ: فعلتُ كذا وكذا. قالا: لا! بسببِ النيَّةِ الفُلانيَّةِ التي كانت فيكَ والمسألةِ الفُلانيَّةِ، فهو مردودٌ. 

  • ـ فعلتُ العملَ الفُلانيَّ، حتى كتابَ بِحارِ الأنوارِ، وهو أهمُّ كُتُبِهِ، كتبتُهُ.

  • هذا أيضًا ردّاهُ، وقالا: لا ينفعُنا، فماذا أحضرتَ إلى هنا؟ وذكرا نيَّاتي واحدةً تِلوَ الأُخرى، وذكرا الأمورَ التي كانت تخطُرُ ببالي، أمورٌ لم أكن أُصدِّقُها أنا نفسي. يا للعجَبِ، لقدِ التقطوا صورةً! صورةٌ لا تلتقِطُها المِرآةُ نفسُها. المِرآةُ تُظهِرُ فقطِ الصورةَ الظاهريَّةَ، أمَّا صورتُهم هذهِ فهي من نوعِ التصويرِ المقطعيِّ حيثُ تدخُلُ الأشعَّةُ إلى الداخلِ وتلتقِطُ صورةً من ذلكَ الباطِنِ. عرضوا عليَّ تلكَ الصُّوَرَ. يا سيِّدي، هذا التأليفُ الذي قُمتَ بهِ فيهِ إشكالٌ ـ ولدينا أمثالٌ كثيرةٌ لهذهِ القضيَّةِ، رُوِيَت هذهِ الأمورُ عنِ الكثيرِ من الأعاظمِ، عنِ الكثيرينَ ـ فبقيتُ حائِرًا، عندما بقيتُ حائِرًا، خطَرَ ببالي شيءٌ فجأةً، فقُلتُ: خطَرَ ببالي عملٌ الآنَ. قالوا: قُل! قُلتُ: ذاتَ يومٍ كنتُ أمُرُّ بسوقِ أصفهانَ، رأيتُ الناسَ مُجتمعينَ في السوقِ والضَّجيجُ مُرتفِعٌ، فتقدَّمتُ فرأيتُهم يسبُّونَ إنسانًا ويصرُخونَ. قُلتُ: ما الأمرُ؟ قالوا: هذا مَدينٌ ومُبتلًى، وجاءَ الدائِنونَ يُريدونَ أخذَهُ وضربَهُ وسجنَهُ. فقُلتُ: توقَّفوا. أخذتُ هذا الرجلَ والدائِنِينَ إلى المنزلِ ـ فقد كانَ رجلًا ثريًّا ـ ودفعتُ كلَّ ديونِ هذا المدين، وأعطيتُهُ بعضَ المالِ أيضًا وصرفتُهُ. فقالاا: باركَ اللهُ بكَ، بسببِ هذا العملِ ستحظى بالشفاعةِ، هذا العملُ الواحدُ فقط. هلِ استمعتُم؟! هل فهمتُمُ الآنَ ما يجري في ذلكَ العالمِ؟! هل فهمتُمُ الآنَ أنَّ كلَّ عملٍ نقومُ بهِ يجبُ أن نرسُمَ حولَهُ خطًّا أحمرَ أيضًا؟! قالَ: هذا فقط هو ما سبَّبَ نجاتَنا! ومن هذا القبيلِ الحِكاياتُ كثيرةٌ جدًّا، كثيرةٌ جدًّا.

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

12
  • گر حكم شود كه مست گيرند***در شهر هر آنچه هست از اول و آخر بگیرند 
  • والمعنى: 

  • لو صدَرَ الحُكمُ بالقبضِ على السكارى *** لأُخِذَ كلُّ مَن في المدينةِ من أوَّلِها لآخِرِها 

  • والآنَ أتينا نُريدُ بأعمالِنا وأفعالِنا هذهِ أن نذهبَ إلى محضر الله ونقولَ: يا إلهي، الجنَّةُ أيضًا لها مراتبُ، ليستِ المرتبةُ الأولى والثانيةُ والثالثةُ، بل يجبُ أن تُعطيَنا جنَّةَ الذاتِ! تلكَ الجنَّةَ العُليا العليا، يجبُ أن تُعطيَها لنا. يقولُ اللهُ: بأيِّ عملٍ؟ بأيِّ عملٍ؟ 

  • خُلاصةُ القولِ: لا تَمنُن بعملِكَ واسعَ بإخلاصٍ

  • الخواجة الشيرازي أراحَ نفسَهُ وقالَ: 

  • گرچه وصالش نه به کوشش دهند***هر قدر ای دل که توانی بکوش 
  • والمعنى: 

  • معَ أنَّ وِصالَهُ لا يُنالُ بالسَّعيِ *** اسعَ يا قلبُ قَدرَ ما تستطيعُ

  • لقد جاءَ وأراحَ خيالَهُ وقالَ: مهما سعَيتَ فهناكَ نَقصٌ في القضيَّةِ. والآنَ بما أنَّ الأمرَ هكذا، فهل نترُكُ الأمرَ؟ هل نتوقَّفُ عنِ السَّعيِ؟ كلاّ! لا نرهَنُ قلوبَنا بهذا العملِ بعدَ الآنَ، لا نأتي ونَمُنُّ على اللهِ وأولياءِ اللهِ والأئمةِ عليهم السلام بأنَّنا يا ابنَ رسولِ اللهِ قد أتينا، أيّها الإمامَ الرضا أتينا إلى مشهدٍ لزيارتِكَ، والآنَ بما أنَّنا أتينا فيجبُ أن تقضيَ حاجاتِنا! علينا أن لا نَمُنَّ على الإمامِ الحسينِ عليه السلام بأنَّنا قطعنا هذا الطريقَ في هذا الوضعِ غيرِ الآمِنِ، والآنَ بما أنَّنا أتينا فيجبُ أن تُعطيَنا. علينا أن لا نحسِبَ زيارتنا. لماذا؟ لأنّه إذا أردنا أن نحسِبَها، فسيقولونَ بوُضوحٍ: لا تأتِ! فلم نكن ننتَظِرُ قدومَكَ لكي تأتيَ، نحنُ هنا مشغولونَ بما فيهِ الكِفايةُ، بل ومشغولونَ جدًّا. لا تأتِ، شخصٌ واحدٌ أقلُّ، يتَّسِعُ المكانُ لشخصٍ واحدٍ أكثرَ، ويكونُ الأُكسجينُ أكثرَ، وأولئكَ الذينَ لهم قيمةٌ يكونُ لديهم مكانٌ أوسع ليتمكَّنوا منَ الذِّكرِ. فلماذا جِئتَ وضيّقت حرَمَنا؟! مَن قالَ لكَ أن تأتيَ؟! هل أرسلنا لكَ رسالةَ "فدَتكَ نفسي" لكي تأتيَ وتَمُنَّ علينا؟! هل أرسلوا بِطاقةَ دعوةٍ؟! ولمَن أرسلوها؟!

  • يبدو أنَّنا بدَّلنا أماكِنَنا معَ الأئمةِ عليهم السلام، ولقد حلَّ آخِرُ الزمانِ. فبدلًا من أن يكونَ االطلب منَّا والدَّلالُ منهم، أصبحَ الدَّلالُ منَّا والطلب منهم! نعم، فلنذهب إلى هناكَ حتى لا يبقى حرَمُ الإمامِ الحسينِ عليه السلام وحيدًا ولا يكونَ خاليًا. وهذهِ الأمورُ التي أذكرها لحضراتِكم هي أشياءٌ قيلت لي وأنا أقولُها لكم! ذهبنا إلى هناكَ ليكونَ حرَمُ الإمامِ الحسينِ عليه السلام مُمتلِئًا. لقد ذهبنا إلى هناكَ ليَعلمَ هؤلاءِ الأعداءُ أنَّنا قد أتينا إلى هنا ونُسانِدُ! نذهبُ إلى هناكَ لكيلا يظُنَّ الإمامُ الحسينُ عليه السلام أنَّهُ لا ناصِرَ لهُ، ففي يومِ عاشوراءَ كانَ يقولُ: «هل من ناصِرٍ ينصُرُني؟» يا عبدَ اللهِ، أنتَ لا تستطيعُ أن تتخلَّى عن ظُفرِكَ وجِئتَ هنا لتُلَبِّيَ نِداءَ «هل من ناصِرٍ»؟ أنتَ لا تستطيعُ أن تتخلَّى عن خَدشٍ في يدِكَ، أنتَ لا تستطيعُ أن تجِدَ أدنى تنازُلٍ فيما يتعلَّقُ بشخصيَّتِكَ، وآنذاكَ جِئتَ لتُجيبَ على نِداءِ مظلوميَّةِ الإمامِ الحسينِ عليه السلام؟! أنتَ تقِفُ صباحًا ومساءً ضدَّ كلِّ الأمورِ الحقَّةِ، والآنَ جِئتَ إلى كربلاءَ للزِّيارةِ؟! هل كانَ الإمامُ الحسينُ عليه السلام هكذا؟! هل كانت مدرسةُ الإمامِ الحسينِ عليه السلام هكذا؟! أم أنَّهُ في يومِ عاشوراءَ أدانَ جميعَ الذينَ جاؤوا لمُحاربتِهِ؟! كم مرَّةً حتى الآنَ سرنا في مدرسةِ الإمامِ الحسينِ عليه السلام وطأطأنا رؤوسَنا للأمورِ الحقَّةِ التي واجهتنا؟ كم مرَّةً؟! كم مرَّةً قبِلنا الحقَّ وأعلنَّاهُ في تلكَ المواقِفِ التي كان لنا فيها مسائل شخصيَّةُ ومنافِعُ شخصيَّةُ والتي كانَ الحقّ فيها ضدَّنا؟ كم مرَّةً؟! وكم مرَّةً بذَلنا الجُهدَ من أجلِ الهدفِ الذي كانَ للإمامِ الحسينِ عليه السلام، وهو إحقاقُ الحقِّ وإماتةُ الظُّلمِ؟!

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

13
  • والآنَ فلنستمِرَّ في الذهابِ لزيارةِ الإمامِ الحسينِ عليه السلام! ذهبتَ مرَّتينِ؟ حسنًا، اذهب عشرينَ مرَّةً أُخرى. وكما يقال: "ذهبنا حميرًا وعُدنا بقرًا". لقد ذهبتَ عشرينَ مرَّةً، فاذهب مِئتي مرَّةٍ أُخرى، ففي النهايةِ لقد رأيتَ السهول ورأيتَ الجبال وتنزَّهتَ. فالإمامُ الحسينُ عليه السلام يقولُ: اجلِس في بيتِكَ في مكانِكَ، فإذا أردتَ أن تتّبَعَني، لا أقولُ لا تأتِ لزيارتِي، لا! ولكن إذا جِئتَ، فاجعل نفسَكَ تابِعًا لي ومُتَّبِعًا لي، ثمَّ تعالَ للزِّيارةِ. اجعل نفسَكَ في طريق ذلكَ الهدفِ، ثمَّ تعالَ للزِّيارةِ. لا أن تنهضَ وتأتيَ للزِّيارةِ لكي تجِدَ لنفسك موقعًا ومكانة في ذلكَ الهدفِ، لا! فعندها لا يوجد شيءٌ هناك بتاتًا. يا إلهي، نذهبُ للعُمرةِ لكي تجعلَنا منَ المُوحِّدينَ! فيقولُ اللهُ: لا يا عزيزي! لا تتوهّم وتخدع نفسك، فإذا ذهبتَ للعُمرةِ مرَّةً واحدةً، اذهب مِئةَ مرَّةٍ أُخرى، {فَلَم يَزِدهُم دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}۱ فإنّك لا تزداد إلّا بعدًا عنِّي . لماذا؟ لأنَّكَ بدلًا من أن تُصيبَ الهدفَ الأصليَّ، ضربتَ في الضَّلالِ. تُريدُ أن تجِدَني في التجوال في السماواتِ والأرضِ؟ اجلِس في بيتِكَ نِصفَ ساعةٍ وفكِّر، فهذا أهمُّ من ألفِ عُمرةٍ، لا تُنفِق مالَكَ وأعطِهِ للفُقراءِ، فلماذا تُنفِقُهُ؟ أطعِمِ الطعامَ واقضِ الحوائِجَ. فبدلًا من هذا الذهابِ والإياب، فكِّر نِصفَ ساعةٍ، فكِّر في نفسِكَ وفي أعمالِكَ وفي النَّوايا التي تمُرُّ في ذِهنِكَ وفي الميولِ التي لنفسِكَ نحوَ هذا وذاكَ. فهذا أهم منَ المجيءِ والطوافِ وزيارةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله. فزيارةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله لا تفيد في حدّ نفسها، ولو كانت تفيد لوجب أن يكون الذي يذهبُ إلى المسجدِ النبويِّ ويُقيمُ الصلاةَ صباحًا وظُهرًا ومساءً يجبُ قد فَنِيَ أوَّلًا وبَقِيَ باللهِ، ثمَّ قفزَ عشرَ مرَّاتٍ بعدَ الفناءِ. أنتم ترونَ الآنَ، جالِسٌ في المسجدِ النبويِّ يتحدَّثُ للناسِ، يقرأُ روايةً كاذِبةً، أمامَ أعيُنِنا يختلِقُ الروايةَ ويكذِبُ. والآنَ أنتَ تعالَ واجلِس في المسجدِ النبويِّ أمامَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله نفسِهِ وتحدَّث. فإذًا يتَّضِحُ أنَّ الوقوفَ في حرم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله ليس بالشيء العظيم ، والجلوسَ على مِنبرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله لا فائدةَ فيهِ، والصلاةَ في مَوطِئِ قدَمِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله لا فائدةَ فيها، والدَّفنَ بجِوارِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله لا فائدةَ فيهِ، لا فائدةَ أبدًا. ما فيهِ فائدةٌ هو أن يجعلَ الإنسانُ نيَّتَهُ نيَّةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله، وإن لم يكن في مَوطِئِ قدَمِهِ، وإن لم يكن على مِنبرِهِ، ذلكَ هو المُهِمُّ!

    1. سورةِ نوحٍ (۷۱) الآيةُ ٦.

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

14
  • قيمةُ التفكُّرِ في مُقابِلِ العِبادةِ بلا وَعيٍ

  • حسنًا، هل نتكلّم أكثر أم لا أيُّها الرُّفَقاءُ؟ فكم مضى منَ الوقتِ؟ لقد مضت ساعة وعشرون دقيقةً ونحن نتحدَّثُ، ولا أحدَ هنا يشير إلينا أن نُنهِي الموضوعَ. 

  • إن شاءَ اللهُ إذا وفَّقَ اللهُ وبَقِيَت لنا حياةٌ، إن شاءَ اللهُ بقيَّةُ المواضيعِ لِليلةِ الغدِ والمجلسِ الآخرِ. والمُهِمُّ هو أن نعلَمَ ماذا نفعلُ في هذهِ الأيَّامِ القليلةِ المُتبقِّيةِ؟ بالنسبةِ لما مضى فقد مضى، نأملُ أن يغفِرَ لنا اللهُ، نأملُ أن تشمَلَنا رحمةُ اللهِ وغُفرانُهُ. ولكن بالنسبةِ لهذهِ الأيَّامِ القليلةِ القادِمةِ، بالنسبةِ للسَّنواتِ القليلةِ القادِمةِ، وبالنسبةِ لهذهِ المُدَّةِ المُتبقِّيةِ، فكيفَ علينا أن نُفكِّرُ فيها؟ 

  • حقًّا عجيبٌ، أُقسِمُ باللهِ لو لم يكن هذا الكلامُ كلامًا مُعجِزًا لما صدَرَ عنِ المعصومِ عليه السلام إنَّهُ قالَ: «تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عِبادةِ سبعينَ سنةً»۱ أو سبعينَ ألفِ سنةٍ، كِلاهُما ورَدَ. ساعةٌ واحدةٌ منَ التفكُّرِ خيرٌ من سبعينَ ألفِ سنةٍ منَ الصلاةِ. نحنُ نقولُ سبعينَ ألفَ سنةٍ! في رأيي، تعمَّدَ الإمامُ أوِ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله رفعَ هذا الرقمِ، لماذا؟ ليقولوا إنَّ العِبادةَ بدونِ فِكرٍ لا فائدةَ منها أبدًا. فلو لم يتعجَّبِ الناسُ لقالوا سبعمائةِ ألفِ سنةٍ. فلو عبدتَ ألفَ سنةٍ وفِكرُكَ هو نفسُهُ ـ ستُّونَ عامًا منَ العِبادةِ ثمَّ يأتي ليقتُلَ الإمامَ الحسينَ عليه السلام! ـ ألم يكونوا يعبُدونَ؟ ألم يكن عُمَرُ بنُ سعد يُصلِّي؟ أُقسِمُ باللهِ إنَّهُ كانَ يُصلِّي الصُّبحَ والظُّهرَ والمغرِبَ في مسجدِ الكوفةِ ويصومُ. فهم لم يكونوا أُناسًا لا يُصلُّونَ أو أنّ كلّهم يشرَبونَ الخمرَ، لا! ولكنَّ عِبادتَهم كانت بلا فِكرٍ. كانَ أميرُ المؤمنينَ عليه السلام يأتي فيُقدِّمونَهُ، ويزيدُ أيضًا يأتي فيُقدِّمونَهُ! نُريدُ أن نُصلِّيَ، فليَكُن مَن يَكُن. فجارية يزيدٍ أيضًا كانت تأتي، ألم تأتِ وقَدَّموها؟ الوليدُ بنُ يزيدٍ كانَ مَخمورًا صباحًا ولم يكن لديهِ واعيًا! شرِبَ لدرجةِ أنَّهُ لم يستَطِعِ النُّهوضَ، فوضعَ عِمامةً على رأسِ جاريته! ـ انظر يا سيِّدي ماذا حلَّ بالإسلامِ؟! خليفةُ المُسلمينَ مَخمورٌ! يا لَلهولِ! وتلكَ الأشياءُ التي كانوا يُحضِرونَها لهم لابُدَّ أنَّها كانت قويَّةً جدًا، فنحنُ لا نعلمُ ـ حينها لم يستَطِع هو الذهابَ، فيضعُ عباءَتَهُ على عشيقتِهِ ويضعُ عِمامةً على رأسِها ويُرسِلُها إلى المسجدِ لتُصلِّيَ بالناسِ جماعةً! هؤلاءِ كانوا خُلَفاءَ المُسلمينَ الذينَ أعزّ اللهُ بهم دينَهُ! أهل الرِّوايةِ من أهلِ السنَّةِ، يعني عظمة الإسلامِ ومناعة الإسلامِ، والمناعة تعني القوّة، فقوّة الإسلامِ كانت بواسِطَةِ هؤلاءِ الخُلَفاءِ! وبالنسبةِ لههم لم يكن يختلف الأمر سواءٌ جاءَ هذا أم ذاكَ! فلنُصَلِّ الصلاةَ كيفَما اتَّفقَ. 

    1. عوالي اللآلي ج٢ ص ٥۷، في الهامش عن: كنوز الحقايق للمناوي في هامش الجامع الصغير، ۱: ۱۰۷، حرف التاء، نقلا عن الديلمي .

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

15
  • هؤلاءِ هم الذينَ قطعوا رأسَ الإمامِ الحسينِ عليه السلام ورمَوا سهمًا في حَلقِ حضرةِ عليٍّ الأصغرِ عليه السلام. يصِل الأمر إلى درجةٍ يذبح معها طِفل رضيع! فكم هذهِ القضيَّةُ عجيبةٌ! لديكم مُشكِلةٌ معَ الإمامِ الحسينِ عليه السلام فاضرِبوهُ، في النهايةِ هو كبيرٌ فاضرِبوهُ واقتُلوهُ، أيًّا كان صاحب الحقّ، ولكن هذا الطِّفلُ الرضيعُ ابنُ الستَّةِ أشهُرٍ لماذا يقتل؟ وبأيّ منطِقٍ؟ فالكلبُ والذئب لا يفعلُ هذا الذي فعلتُموهُ. لقد حدَثَ أنَّ هذهِ الحيواناتِ عندما واجهت مثلَ هذهِ الحالاتِ، تعاملت بعَطفٍ. وحينها هذا ينهضُ يُصلِّي الصُّبحَ ويضعُ السَّهمَ في القَوسِ ويضرِبُ الطِّفلَ! لماذا أصبحَ الأمرُ هكذا؟ لأنَّ الصلاةَ التي كانوا يُصلُّونَها في هذهِ المُدَّةِ كانت بدونِ فِكرٍ وتعَقُّلٍ. والآنَ قولوا إنَّ العقلَ لا ينفعُ، والآنَ ليَقُل أولئكَ الذينَ يَتَّبِعونَ الظاهِرَ إنَّ العقلَ لا فائدةَ فيهِ، وليقولوا التعبُّدَ هو المهمّ. فأيّ تعبُّدٍ هذا؟! التعبُّدُ بدونِ عقلٍ هذه نتيجته، التعبُّدُ بدونِ عقلٍ هو قتلُ الإمامِ الحسينِ عليه السلام، والتعبُّدُ بدونِ عقلٍ هو تمزيقُ السيّدة الزهراءِ عليها السلام إربًا. كانوا يصلّون خلفَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله أيضًا، هل هناكَ أحدٌ أعلى منَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله؟! ولكنَّ الصلاةَ التي كانوا يُصلُّونَها خلفَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله كانت صلاةً بدونِ فِكرٍ، ومصاحبتهم للنبيّ صلّى الله عليه وآله كانت مصاحبةً بدونِ فِكرٍ، وكانوا فقط ينظُرونَ إلى ظاهِرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله، وإلى أنَّهُ قامَ بمُعجِزةٍ وشقَّ القمرَ وفعلَ أمرًا خارِقًا للعادةِ، كانوا ينظُرونَ إلى هذا. ولكن لم يُفكِّر أحدُهم في نفسِهِ أبدًا أنَّ هذهِ المُعجِزةَ ليست بالأمر المهمّ، وشقَّ القمرَ ليس مهمًّا، وأنَّها قُدرةُ اللهِ، فإن شاءَ أظهرَها وإن لم يشأ لم يُظهِرها. 

  • أيُّ سؤالٍ سألهُ الصحابةُ للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله؟

  • أصلِح أنتَ قلبَكَ وزِد فهمَكَ، واعمَل لتنالَ معرفةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله والإمامِ منَ اللهِ، وإلَّا فالمُعجِزةُ يمكنُ لمُرتاضٍ هِنديٍّ أيضًا أن يقوم بها فيُحوِّلَ هذا الإبريقَ الذي أمامي إلى ذهَبٍ، فهو يستطيعُ أن يفعلَ أمرًا خارِقًا للعادةِ. أيٌّ من هؤلاءِ الذينَ كانوا حولَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله جاءَ وسألَ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله: يا رسولَ اللهِ! كم ستُضيفُ إلى معرفتِنا؟ ماذا نفعلُ لتنموَ عقولُنا هذه؟ في كلِّ هذهِ الثلاثةِ والعشرينَ عامًا، كم إنسانًا جاءَ وقالَ هذا للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله؟ في هذهِ الثلاثةِ والعشرينَ عامًا، كم إنسانًا من هؤلاءِ الأصحابِ جاءَ وقالَ للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله: يا رسولَ اللهِ، ماذا نفعلُ لتتفتَّحَ معرفتُنا بحقائِقِ عالَمِ الوُجودِ؟ لنُفرِّقَ بينَ الاعتبارِ والحقيقةِ، لنُفرِّقَ بينَ الواقعِ والمَجازِ، كم إنسانًا قالَ هذا؟ كلُّهم قالوا: بطونُنا تؤلِمُنا يا رسولَ اللهِ فادعُ لنا، وزوجاتُنا في المخاض فادعُ لنا، وعلينا ديونٌ ونحن نموتُ من الضغوط ونحن مُبتَلونَ فادعُ لنا! أولئكَ الذينَ كانوا أعلى قليلًا كانوا يقولونَ: يا رسولَ اللهِ، أعطِنا مكانًا جيِّدًا في الجنَّةِ. كم إنسانًا جاءَ وطلبَ هذا الطلبَ: زِد معرفتَنا، وارفَع فِكرَنا، وأفهِمنا الفرقَ بينَ الاعتباريَّاتِ وغيرِ الاعتباريَّاتِ، والمَجازِ والحقيقةِ، أرِنا الدُّنيا والآخِرةَ! لنفهم مَجازيَّةَ الدُّنيا، فلا نُطأطئ رؤوسَنا لأيِّ كانَ بعدَ الآنَ. ولنصِل إلى قيمَتِنا الحقيقيَّةِ، فلا نُطأطِئ رؤوسَ الذُّلِّ لحُطامِ الدُّنيا بعدَ الآنَ. فكم إنسانًا جاءَ ليطلب هذا من النبيّ صلَّى الله عليه وآله؟! لا أحد، واحدٌ أوِ اثنانِ أو ثلاثةٌ، القليل منهم، جعفرٌ الطيَّارُ وسَلمانٌ والمِقدادُ وعمَّارٌ أيضًا، هؤلاءِ القِلَّةُ. هؤلاءِ هم الذينَ ثبتوا عندما رحل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله، لماذا؟ لأنَّ عقولَهم لم تذهب، الظاهِرُ تغيَّرَ، الحدث انقلبَ، ولكن ما كانَ في عقولِ هؤلاءِ وأدمِغَتِهم ومعرفتِهم بَقِيَ في مكانِهِ. ذهبَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وعليٌّ عليه السلام جالِسٌ هنا، فلتذهب كلُّ الدُّنيا، لا مشكلة!

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

16
  • قصَّةُ السيِّدِ السَّبزواريِّ واتِّباعِ الحمامِ!

  • رحِمَ اللهُ المرحومَ العلامةَ والمرحومَ السيِّدَ السَّبزواريَّ، وغفَرَ اللهُ للرُّفَقاءِ الماضينَ. كانوا يذهبونَ عصر الجُمُعةِ خارجَ هَمَدانَ، وقد نقلَ لنا السيِّدُ السَّبزواريُّ رحمه الله هذهِ القصَّةَ عن ذلك، فقالَ: ذاتَ مرَّةٍ كنَّا نذهبُ من هنا، وكان معنا رجل ـ وهو حيٌّ الآنَ، ولن أذكُرَ اسمَهُ، فهو إنسانٌ مُحتَرَمٌ جدًّا وجليلٌ ولكنَّهُ بسيطٌ جدًّا، ومن رُفَقاءِ المرحومِ العلامةِ السابقينَ ولا يزالُ كذلكَ وهو حيٌّ ورجُلٌ صالِحٌ جدًّا وقلبه صافٍ جدًّا ـ قالَ السيِّدُ السَّبزواريُّ رحمه الله: لقد كنّا ذاهِبينَ باتِّجاهِ بُستانٍ ونحن في الطريق وصَلنا إلى تقاطع طريقين، فذهبنا من أحد الأطراف، ومضى الأمرُ. وبعدَ أُسبوعٍ أو بِضعةِ أيَّامٍ، صادفَ طريقُنا هذا المكان مرّة أخرى، فجِئنا حتى وصَلنا إلى رأسِ هذا المُفترَقِ، فبدأنا بالذهابِ من نفس الطَّرَفِ، فقالَ هذا الرجل: الطريقُ منَ اليسارِ. قُلنا: يا عزيزي نحنُ من أهلِ هَمَدانَ، ماذا تقولُ أنتَ؟! قالَ: لا، أنا أقولُ الطريقُ من هذا الطَّرَفِ. قُلنا: يا عزيزي، رحِمَ اللهُ أباكَ وأُمَّكَ، نحنُ من هنا. ومهما قُلنا له كان يصرّ ويقول: لا، الطريقُ هناكَ. قُلنا: حسنًا، ما دليلك على ما تقولُ؟ قالَ: الأُسبوعَ الماضي عندما كنَّا قادِمينَ، كانَ هناكَ زوجانِ منَ الحَمامِ يطيرانِ فوقَ رؤوسِنا، والآنَ هذا الحَمامُ يذهبُ من هذا الطَّرَفِ! ـ وكانَ يقولُ ذلك جادًّا! ـ والحَمامُ لا يُخطِئُ طريقه إلى عُشِّهِ. قُلنا: حسنًا جدًا، تعالَ الآنَ لنذهب من هذا الطَّرَفِ، فإن لم يكن هو، فنعودُ. 

  • الآنَ لو ذهبتَ في الصَّحراءِ وقيلَ لكَ الطريقُ من هذا الطَّرَفِ، ورأيتَ قطيعًا منَ الأغنامِ يسيرُ من هذا الطَّرَفِ، هل تسيرُ خلفَها؟ وتقولُ: ما شاءَ اللهُ على هذهِ الأغنامِ! كلُّ واحدةٍ ثمانونَ كيلو غرام ومِئةُ بقرةٍ تسيرُ خلفَها كحِراسةٍ، إذًا يجبُ أن نذهبَ من هذا الطَّرَفِ! أيُّها السادةُ، أهلُ الدُنيا هكذا، أولئكَ الذينَ تركوا عليًّا عليه السلام وذهبوا خلفَ قطيعِ الأغنامِ، هل فهمتُمُ الآنَ؟ لماذا حدث ذلك لهم؟ لأنّهم نظروا إلى الكثرةِ. ألم ينهض ذلكَ الإنسانُ في سقيفةِ بني ساعِدةَ نفسِها ويقولُ: يا قومِ، أينَ عليٌّ في هذا الأمرِ؟ أنتم تُعيِّنونَ خليفةً، فأينَ عليٌّ؟ هل سمِعَ الجميعُ أم لم يسمَعوا؟ كم إنسانًا اهتمَّ بالأمرِ؟ لم يهتمَّ أحدٌ بالأمرِ. ذلكَ الذي يسمعُ هذا الكلامَ ولا يهتمُّ بهِ، هل هو إنسانٌ؟! هل هو بَشَرٌ؟!

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

17
  • قصَّةُ السيِّدِ الحدَّادِ في تقييمِ إيمانِ الناسِ

  • عندما التقى المرحومُ السيِّدُ الحدَّادُ رحمه الله بالمرحومِ العلامةِ وقالَ لهُ: على الإنسانِ أن لا يتجاوَزَ التكليفَ الذي عليهِ، وعندما قالَ المرحومُ العلامةُ في الجوابِ: إذا لم نفعل هذا فسيُصبِحُ الناسُ بهائيِّينَ! هل تعلمونَ ماذا أجابَ؟ قالَ: يا سيِّدَ مُحمَّد حُسين، هل تظُنُّ هؤلاءِ الناس مُسلمين؟! لا يعني أنَّ الناسَ بهائيُّونَ، كلاّ! فالناسُ يؤمنونَ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وبالأئمةِ عليهم السلام والإسلامِ والتشيّع والمعادِ، ولكن يُريدُ السيِّدُ الحدَّادُ رحمه الله أن يُفهِمَنا هذا: ما هو مِقدارُ اعتقادِ هؤلاءِ بالإسلامِ ومبادئه ؟ صباحًا يذهبونَ ويقولونَ: يحيا مُصدِّقٌ، وعصرًا يقولونَ: يحيا كاشاني۱، هؤلاءِ الناسُ بأعيانهم! صباحًا يقولون: يحيا فُلانٌ، ومساءً يسقُط فُلانٌ! نفسُ "يحيا" تُصبِحُ "يسقُط"! صباحًا إقبالٌ ومساءً إدبارٌ، صباحًا بوجهةٍ ومساءً بوجهةٍ أُخرى. كنتُ في قُم في أوائِلِ الثورةِ، وكانت هناكَ مجموعات أجنبيَّة جاءت وأحدثت فوضى، لا أعرفُ هل جاؤوا من تبريزَ أو غيرِها، ولم أكُن موجودًا وقت الحادثة، فقد كنتُ في طِهرانَ. وعندما جِئتُ إلى قُم ظُهرًا، رأيتُ أنَّ هذا الشارِعَ مقلوبٌ رأسًا على عقِبٍ، فَردةُ حِذاءٍ هنا وأخرى هناك.... فتحيَّرتُ ووقفتُ بجانِبِ متجرٍ، وسألته: لماذا الشارِعُ هكذا؟ قالَ: ألم تكن في قُمَّ؟ قُلتُ: لا! لم أكُن. قالَ: ألا تعلَمُ ماذا حدَثَ؟ قُلتُ: ماذا حدَثَ؟ قالَ: جاؤوا وفعلوا كذا وضرَبوا و... وتلكَ الأحداثُ التي وقعت في تبريزَ وتلكَ الأحزابُ الكَذائيَّةُ وأولئكَ الذينَ جاؤوا ووقفوا ضدَّ المسائلِ وفعلوا ما فعلوا وأحدثوا ما أحدثوا من مَفاسِدَ، وقد تعجبت كثيرًا مّما رأيت! قالَ: تعالَ لأقولَ لكَ شيئًا. قالَ: أنتَ شابٌّ وأنا عجوزٌ ـ كانَ رجلًا عجوزًا لديهِ بقالةٌ عندَ مُفترَقِ المُتحَفِ ـ قالَ: مرَّ عليَّ يومٌ، وفي هذا الشارِعُ نفسِه الذي تراهُ، صباحًا جاؤوا وقالوا: يحيا كاشاني أو مُصدِّقٌ ـ قالَ: كنتُ بنفسي في المتجرِ وأعرِفُهم ـ بعدَ الظُّهرِ، وبصَحنٍ منَ الأُرزِ بالزَّعفرانِ وبعضِ المالِ، جاؤوا وقالوا: الموتُ لفُلانٍ! قالَ: هؤلاءِ هم هكذا. ثمَّ التفتَ إليَّ وقالَ: أيُّها الشابُّ، لا تنخدِع! فقد ترى هذهِ الأشياءَ وهذهِ الأمورَ. قُلت: حسنًا، هذهِ عِبرةٌ لنا لينتبِهَ الإنسانُ قبلَ فواتِ الأوانِ، منَ الجيِّدِ أن ينتبِهَ الإنسانُ، لا أن ينتبِهَ في وقتٍ لم يبقَ فيهِ من عُمرِهِ شيءٌ.

    1. محمّد مصدّق هو رئيس الوزراء الإيراني سنة ۱٩٥٢ ـ ۱٩٥٣. وكان خصمه السيّد أبو القاسم الكاشاني. 

الحبّ شفيع الإنسان إلى الله لا العمل - الفرق بين معرفة الله ومعرفة الأحكام والعلوم

18
  • الوقتُ يقترِبُ من ساعتينِ، يبدو أنَّنا سنقضي السَّحورَ في خِدمةِ الرُّفَقاءِ! نأملُ إن شاءَ اللهُ أن يُوفِّقَنا اللهُ ويزيدَ فهمَنا لطريقِنا، وفهمًا مَتينًا، وعزمًا راسِخًا، وهِمَّةً عاليةً، وبصيرةً نافِذةً، إن شاءَ اللهُ.

  •  

  • اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.