المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1426
التاريخ 1426/09/28
التوضيح
كيف تكون معرفة الله هي الدليل إليه ومحبّته هي الشفيع؟ وما هي مراتب هذه المعرفة؟ لماذا لا يُحبّ الله مشارطة العبد له؟ يُجيب عن هذه الأسئلة وغيرها آية الله السيد محمّد محسن الحسيني الطهراني في هذه المحاضرة القيّمة من محاضرات أبي حمزة الثمالي.
هوالعليم
عاملان أساسيان في الوصول إليه
لماذا لا تكفي المعرفة وحدها، وما هو دور المحبة كشفيع إلى الله؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي ـ سنة ۱٤٢٦ هـ ـ الجلسة الثالثة عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیمِ
بِسمِ اللَهِ الرَّحمَنِ الرَّحیمِ
و صلَّی اللَهُ عَلَی سیّدنا و نبیّنا أبیالقاسم مُحَمّدٍ
و علی آله الطّیبین الطّاهرین
و اللعنة عَلَی أعدائِهِم أجمَعینَ
المعرفة والمحبة: دليل وشفيع إلى الله
«مَعرِفتي یا مَولاي دَلیلي عليکَ وَ حُبّي لَکَ شَفیعي إليک.» إنّ معرفتي بك يا مولاي هي دليلي إليك، فهي تهديني إليك لا إلى غيرك. ولأنني أمتلك هذه المعرفة بك، فإنّها تميّزني عن غيرك وتوجّهني نحوك وحدك. وقد سبق أن عرضتُ على الرفقاء بعض الأمور المتعلّقة بهذه الفقرة. ثمّ يقول الإمام عليه السلام: «وَ حُبّي لَکَ شَفيعي إليک». أي إنّ محبتي لك هي شفيعي إليك. فلماذا تكون المحبّة شفيعًا؟ وما السرّ في كونها شفيعًا؟ وما الدليل على أنّ الإنسان يحتاج أصلًا إلى شفيع؟ وما وجه الحاجة إلى الشفيع؟ ومن هو الله وما هي حقيقته ومكانته حتى يحتاج الإنسان إلى شفيع للوصول إليه؟ ألم يقل هو نفسه في آيات القرآن: {قُلْ يٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُۥ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}۱ أو «يا رحمة الله الواسعة وسعت رحمته كل شيء، إنّ الله هو التواب الرحيم»؟ إنّ الله يغفر، وبابه مفتوح دائمًا للقادمين، مفتوح دائمًا. فكيف يحتاج الإنسان إلى شفيع؟ ورد في القرآن الكريم: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُۥ إِلَّا بِإِذْنِهِ}٢. فمن ذا الذي يستطيع أن يشفع عند الله بدون إذنه؟ إنّ مسألة الشفاعة مسألة واسعة النطاق، والدخول في بحثها والحاجة إلى الشفاعة ومَن تشملهم الشفاعة، كل هذه أمور كثيرة جدًّا. وقد كثر فيها الكلام والبحث والمناقشة بين المتكلمين وغير المتكلمين من مختلف الفرق كالأشاعرة والمعتزلة وغيرهم.
لن نتوسع كثيرًا في الحديث عن المغفرة الظاهريّة للذنوب، بل سنركّز حديثنا على موضوعنا الأساسيّ وهو الوصول إلى الله وبلوغ تلك المراتب العالية وانفتاح الطريق وكشف أسرار العالم الربوبي في ذلك النطاق.
أهمية المعرفة في السير إلى الله: لماذا لا يمكن التحرك بلا وجهة؟
لقد ذكرنا أنّ المعرفة ضروريّة للحركة، فبدون معرفة لا معنى للحركة. فأن تركب وسيلة نقلك دون أن تحدّد وجهة أو يكون لديك عنوان، وتتجوّل هكذا في الشوارع، فهذا عمل عبثيّ لا طائل من ورائه. وأن تقول: سأركب وأتجوّل في الشوارع ولعلّ شيئًا ما يحدث، حتّى لو تجوّلت لمدّة شهر، فلن تصل إلى مقصدك، وستظلّ تتنقل من شارع إلى آخر، هائمًا على وجهك. لماذا؟ لأنّ الوجهة غير محدّدو.
قصّة التائهين في البحث عن الحقيقة: من مجالس قم إلى مسجد القائم
في زمن المرحوم العلامة، كان البعض يأتون إليه ويحضرون مجالسه ليلاً، وأحيانًا كانوا يتحدّثون معه ثمّ يذهبون ويعودون بعد عام ليزوروا هذا المكان وذاك المكان، ويتفقدوا مكانًا ثالثًا. كانوا يريدون أن يزوروا كلّ مكان ويحضروا في كلّ مجلس، فكانوا يذهبون إلى مجالس مختلفة ومحافل متنوّعة، وإذا سنحت لهم الفرصة كانوا يزورون مسجد القائم أيضًا. هذا تمامًا كمن ركب سيّارته وظل يدور في شوارع قم هكذا دون هدف. يسألونه: يا هذا، إلى أين تريد أن تذهب؟ فيقول: أريد أن أشتري خبزًا، أريد أن أُعِدَّ طعامًا. فيقولون له: حسنًا، هل تعرف من أين ستشتري؟ فيقول: لا. فيقولون: هذا خطأ، هل لديك مكان معيّن في ذهنك؟ هل لديك متجر خاصّ في بالك؟ هل لديك عنوان؟ أريد أن أرى فلانًا. حسنًا، أين عنوان منزله؟ لا حاجة للعنوان، سنبحث حتّى نجده. فحتّى لو بحث لمدّة شهر، فذلك الإنسان لم يقف في الشارع ليراك ويقول لك ها أنا ذا، بل هو جالس في بيته. وأنت لا تعلم الغيب. تريد أن تبحث وتجده، هؤلاء لو فعلوا ذلك طوال عمرهم، فلن يتقدّموا بمقدار سنتيمتر واحد، سنتيمتر واحد. لو بحثوا هكذا طوال عمرهم وذهبوا هنا وهناك وحضروا هذا المجلس وذاك، وحضروا مجلس توسّل هناك واستمعوا، وجاءوا إلى مكان آخر لحضور دعاء الجوشن، وذهبوا إلى مكان آخر لدعاء السمات، فلن يزيد ذلك من معرفتهم وسيرهم مقدار سنتيمتر واحد. لن يزيد. لماذا؟ لأنّهم لا يملكون معرفة أصلًا بما يريدون فعله. عليهم أن يوضّحوا موقفهم أولًا: هل تريدون الوصول إلى الله أم إلى آثار الله؟
تحديد الوجهة: هل تريد الله أم آثاره؟
فأوّلاً، حدّد موقفك، فإن أردت الوصول إلى الله، فعليك أن تذهب إلى مكان، وإن أردت آثار الله، فعليك أن تذهب إلى مكان آخر. إن كنت تريد الأمور الظاهريّة والكشف والأمور الغريبة وهذه الأمور غير المتعارفة، ومن هؤلاء الأفراد الذين رأينا منهم الآلاف، سابقًا أيضًا بين الذين كانوا على صلة بالمرحوم العلامة في السابق، كان هناك الكثير من هؤلاء، من أهل طيّ الأرض وما شابه ذلك، كانوا يأتون ويذهبون، ولم يكن يُعيرهم أيّ اهتمام. بل في ذلك الوقت، كنّا نرى بعض الذين كانوا معه يُولونهم اهتمامًا، كانوا مع المرحوم العلامة نفسه، كانوا من رفقائه، من رفقاء المرحوم الشيخ الأنصاري رحمه الله، لكنّنا كنّا نرى بعضهم يُولونهم اهتمامًا، وبعضهم لم يكن كذلك! كنّا نرى أنّهم لا يُولونهم اهتمامًا، وهؤلاء ظلوا على حالهم، أي حتى نهاية عمرهم، هؤلاء المساكين، على حد علمي، ظلّوا على حالهم! نذهب من هنا إلى هناك، ليلة السبت هناك مجلس، هناك مجلس للتوسّل، وهناك مجلس عزاء. فالسبت هناك، والأحد في مكان والأربعاء في مكان آخر، فهنا يقرأون شعر حافظ، وهناك يقرأون مجلس عزاء، وهناك يقرأون دعاء الجوشن وهكذا... فلنذهب إلى كلّ مكان ولنزر كلّ مكان، من هذا الأسبوع إلى ذاك الأسبوع، إلى ما بعده. والآن أرى بعضهم، وأجدهم على حالهم، نفس حالهم قبل أربعين عامًا، لا يزالون في تلك الأجواء.
قصة أهل العرش وأهل الفرش: من يصعد ومن ينزل؟
في أحد الأيام، أحد أصدقاء المرحوم العلامة، لا أعرف هل هو على قيد الحياة أم لا، كان رجلًا صالحًا، ولكن على أيّ حال، كان على هذا النحو من الاهتمام بالخوارق، وكان لديه متجر في شارع ناصر خسرو، فكان المرحوم العلامة ونحن أيضًا نمرّ به أحيانًا، وبحكم موقعه منّا، كانت لدينا علاقة به حتى وقت متأخّر. فذهب أحدهم إليه وأظهر الكثير من المحبّة وما إلى ذلك. وقال: أبلغ سلامي للسيّد، السيّد محمد حسين، وقل له: سيّدنا، أنتم من أهل العرش ونحن من أهل الفرش. فانظروا نظرة إلى أهل الفرش. أتذكر أنّنا كنّا جالسين، وعندما قال ذلك الإنسان هذا الكلام، قال المرحوم العلامة: «اذهب وقل له: حسنًا، ساكن العرش لا يأتي أبدًا إلى الفرش، هو دائمًا في العرش، وساكن الفرش لا يرغب في أن يأتي إلى العرش، إذًا نحن في العرش، وأنتم دائمًا في الفرش». بصراحة تامّة، نحن في عرشنا وأنتم في فرشكم. أنا لن أنزل، بل أنت اصعد. أنا الذي بذلت كلّ هذا الجهد وصعدت إلى الأعلى، فهل أعود الآن كلّ هذا الطريق إلى الأسفل؟ العاقل لا يفعل ذلك أبدًا، بل ساكن الفرش هو الذي يجب أن يصعد. النبيّ صلّى الله عليه وآله الذي ذهب إلى هناك، إلى ذلك المقام، لا يعود مرة أخرى إلى أبي سفيان وأبي جهل، ليكون معهم. يا عزيزي، لقد بذل جهدًا، لقد تعب، ذهب إلى غار حراء كلّ هذه المرّات، واختلى كلّ هذه الخلوات، تجاوز الحُجُب واحدًا تلو الآخر، ثمّ يقولون: لا تبق هكذا! عُدْ إلينا! عُدْ واعتنق أفكارنا. في النهاية، لا يقولون عُدْ، حسنًا، لا يتركونه! عُدْ إلى أفكارنا، اسجد لهذه الأصنام مرّة أخرى. حسنًا، النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يكن يسجد منذ البداية، كان هذا كلامهم. تعالَ واسجد. تعالَ وكُنْ معنا، نحن نرحّب بك، نحن نُكرمك، تعالَ واسجد لهذه الأصنام. تعالَ لنتحدّث هذه الأحاديث معًا، ولنعقد هذه الجلسات والمجالس معًا، وأمور أخرى و... وهو يقول هذا: يا عزيزي، لقد أمضينا عمرًا وصعدنا وتجاوزنا، تركنا هذا جانبًا، تركنا ذاك جانبًا، تركنا أنفسنا جانبًا، تجاوزنا كلّ هذا، والآن بدأنا نشعر بشيء، فتقولون: لا، عودوا إلى مكانكم الأوّل. عودوا إلى هنا معنا كونوا معنا.
فمَنْ أنت؟ أنت إنسان، صباحك ومساؤك في المعصية، وليلك ونهارك في المعصية، غيبة وبهتان وما إلى ذلك... حسنًا، أبناء الدنيا هكذا هم! أبناء الدنيا، ما هو عملهم؟ إما غيبة أو بهتان، وإن لم يرتكبوا الكثير من الذنوب، فإنّهم يتحدّثون بكلام فارغ وتافه. فاذهبوا واجلسوا الآن وانظروا، قوموا واذهبوا إلى مجلس، وخذوا معكم مسجّلاً، وسجّلوا لمدّة ساعتين، وانظروا ماذا يقولون؟ هذا قال كذا، وذاك قال كذا، وذاك صرخ، والرئيس الفلاني فعل كذا، وذاك فعل كذا، والآن ماذا يفعلون في الدنيا، يفعلون يا سيدي ما يفعلون، فما شأني أنا بما يفعلون؟! ألف عمل مخالف، إن لم تكن ذنوبًا، فهي على الأقل لغو، أعمال لغو.
دعوة الصعود: لماذا لا يصعد أهل الفرش إلى أهل العرش؟
وها قد حاز أحدهم على حال جيّد، ووجد جوًّا مناسبًا. فيقولون له: لا يا سيّدي! انزل أنت. فيقول: تعالَ أنت، أنا أنزل؟ حسنًا، أنت اصعد. لماذا أنزل أنا؟! وأنت أيضًا لا تصعد. بابنا مفتوح لك، فلماذا لا تأتي؟! أنت الذي تقول: يا سيّدي، أنتم من أهل العرش ونحن من أهل الفرش، هل أقول لك إنّني لا أسمح لك بالدخول؟ حسنًا، تعالَ أنت أيضًا وكُنْ من أهل العرش! اترك قليلًا من حالك وجوّك. اترك قليلًا من علاقاتك، اترك قليلًا من مجالس اللهو واللعب وإضاعة الوقت والتعلّقات الفارغة، ثمّ تعالَ وانظر هل تصبح من أهل العرش أم لا، إن لم تصبح، فاعترض حينها. إن لم تصبح منهم. فنحن لن ننزل، وأنتم لن تصعدوا، فما هذا الطلب؟ ما هذا المطلب والرغبة؟ أنتم في مكانكم. هذا السيد نفسه جاء بعد مدة إلى المنزل، كنتُ في البهو، خارج الغرفة، سمعتُه يتحدّث مع المرحوم العلامة، كان صوتهما مرتفعًا. كان الباب مفتوحًا أيضًا، وكان المرحوم العلامة يقول: «يا فلان، ما لم تقطع تعلّقك بهؤلاء الذين من حولك، فلن تستطيع أن تجد طريقًا. هذا هو المسار».
هل يمكن أن يجتمع في القلب حُبّان متناقضان؟
لا يمكن أن يجتمع في قلب واحد صديقان مختلفان. نعم! يمكن للإنسان أن يضع في قلبه صديقين، ثلاثة أصدقاء، لا بأس في ذلك، صديق، صَدُوق، أفراد يشتركون في المسار، لا بأس أن يكون في قلب الإنسان واحد أو اثنان أو ثلاثة أو عشرة أو مائة، لأنهم جميعًا يشتركون في المسار. أما أن يُحِبَّ الإنسان اثنين لهما طريقان مختلفان، أحدهما من أهل الدنيا والآخر من أهل الآخرة! فهذا يعني أنّ هناك خللًا في الأمر، يجب أن يُعالج نفسه. أين الخلل؟ القلب لا يستطيع أن يضمّ قطبين مختلفين ويتعلّق بهما ويُحبّهما معًا. لا يستطيع أن يفعل ذلك. إذا كان الأمر كذلك، فمن الواضح أنّ هذا مجاز. يتخيّل أنّها محبّة، وليست محبّة. يتخيّل أنّه تعلّق، وليس تعلّقًا. أحيانًا تخدع النفسُ الإنسانَ أيضًا. تخدع الإنسان. التعلّقات وما إلى ذلك، لدى مولانا قصّة، وكان المرحوم العلامة يقولها أيضًا، وقد رآها الرفقاء.
قصة الأم وابنتها والبقرة: حقيقة المحبّة عند الامتحان
كانت هناك أم تُدلّل ابنتها كثيرًا، وتقول لها: أفديكِ بنفسي، أُضحّي بحياتي من أجلكِ. كانت تُردّد هذه العبارات مرارًا وتكرارًا. حتّى مرضت ابنتها ذات ليلة، وكانت حالتها سيّئة. وفي منتصف الليل، انفلتت البقرة التي كانت مربوطة في الحظيرة وذهبت لتشرب الماء، فأدخلت رأسها في قِدْر، ولم يَعُد القِدْر يخرج من رأسها. فحملت القِدْر برأسها هكذا، ولم تكن ترى شيئًا، فهي في منتصف الليل والقِدْر يحجب رؤيتها، فدخلت هكذا إلى غرفة هذه السيّدة النائمة، وفجأة نظرت إليها وتخيلت أنّ عزرائيل جاء ليقبض روحها، فصرخت. وقالت: «يا أبي، أنا لستُ المريضة، المريضة في تلك الغرفة. ابنتي هناك. يا ملك الموت، لستُ أنا المقصودة، أنا مجرّد عجوز بائسة. المقصودة هناك، تلك الفتاة النائمة». هي نفسها التي كانت تقول: «أُضحّي بحياتي من أجلكِ»! هي نفسها التي كانت تقول: «أفديكِ بنفسي»! هي نفسها...! عجيب جدًّا! يجب على الإنسان أن يُدقّق في هذه الأمور واحدة تلو الأخرى، ويُحاسب نفسه، ويُحاسب نفسه، ويُدرك طبيعة العلاقات.
متى يجب أن نفكر في العلاج؟ ازدواجية المحبة في القلب
تأتي النفس لتخدع الإنسان. إذا رأينا أنّ في قلوبنا قطبين، قطبًا يتّجه نحو الأمور الظاهريّة، والعناوين الظاهريّة، والعلاقات الظاهريّة، والأفراد الذين هم غارقون في الماديّات والشهوات، وفي هذه الأمور، إذا كانت هذه كلّها في قلوبنا، وفي نفس الوقت نحمل محبّة الأولياء. ليس الأمر أنّنا لا نملكها، لا! بل نملكها، ونريد أن نكون معهم أيضًا، وأن نجلس معهم ونقوم معهم، هكذا. إذا كان الأمر كذلك، فيجب أن نفكّر في العلاج. هذه المسألة، لا أريد أن أقول إنّ هؤلاء في النار وفي جهنّم، لا! أيُّ جهنم أكبر من أن يفوت الإنسان الفيض؟ هؤلاء ليسوا في جهنّم ولكنّهم لا ينالون نصيبًا أيضًا؟ أيَّ نصيب ينالون؟ عندما كان الأفراد يأتون إلى السيد الحداد رحمه الله وهم يُظهرون المحبّة ولكنّ قلوبهم كانت في مكان آخر مع أفراد يُعارضونه ويُعادونه، فكيف كان ينظر إليهم؟ كيف كان ينظر إليهم؟ كان يقول في نفسه: «أتظنّ أنّني لا أعرف أين كنت الآن؟ في أيّ مجلس كنت؟ والآن جئت إلى هنا لتُظهر لي الولاء وأنا أيضًا لا ألتفت؟! أتظن أننا مثلك أو مثلهم؟ أنا الذي أعرف أين كنت قبل ساعة، أنا الذي أعرف أين كنت قبل نصف ساعة؟» لا يقول له شيئًا من ذلك! بل يستقبله ويضحك ويمزح معه ويتحدّث معه، ثمّ يقوم الطرف الآخر ويذهب إلى شأنه، حسنًا، هذا كلّ ما في الأمر!
المعرفة الحقيقيّة: تواصل بلا تعلق
هذه هي النقطة، أنّ المعرفة تدلّ عليه بمعنى أنها تُخرج غيره من القلب. الإنسان يتواصل ولكن لا يتعلّق، يجالس ولكن يكون قلبه في مكان آخر، حسنًا، لا بأس في ذلك. فالإنسان في هذه الدنيا يجب أن يتواصل مع الأفراد في نهاية المطاف، يذهب إلى القَصَّاب، يذهب إلى الخَبَّاز. يذهب إلى البَقَّال، تتعطّل معاملته في مكان ما، يذهب إلى مؤسّسة، ماذا يفعل؟ يقوم بهذه الأعمال كلّها. ولكن في هذا الحدّ فقط، يذهب إلى البَقَّال يأخذ الحِمّص ويأتي به إلى المنزل، ولا يسأله كيف حالك وكيف حال أهلك وأسرتك وكم أنجبوا وكم في الطريق وأمثال ذلك، لا يسأله عن هذه الأمور. يا سيدي، أعطني كيلو من الحِمّص ودعني أذهب! هذا كلّ ما في الأمر. هؤلاء الذين يتّجهون نحو الله يتعاملون مع أهل الدنيا بهذه الطريقة، هذا كلّ شيء! البَقَّال، القَصَّاب، هذا كلّ شيء! القلب في مكان آخر، الفكر في مكان آخر، الحواسّ في مكان آخر، الحواسّ لا تأتي إلى هذه الأشياء، الحواسّ لا تلتفت إلى هذه المسائل الدنيويّة وهذه الجوانب الظاهريّة وهذه العلاقات وهذه الأمور. الحواسّ لا تلتفت إلى هنا. الحواسّ في مكان آخر، والحركة وفقًا لتلك الحواس.
ثمرة المعرفة: التوجّه الخالص إلى الله
إذًا يقول الإمام عليه السلام: «يا إلهي، معرفتي أخرجت غيرك منّي. "معرفتي يا مولاي دليلي عليك"»، معرفتي بك جعلتني أهتدي إليك، وأُلقي رَحْلي عليك، ويكون فكري معك، وسِرِّي متوجهًا إليك، وضميري متوجهًا إليك. هذا بسبب ماذا؟ هذا بسبب معرفتي. ولأنني بلغتُ في المعرفة الحدَّ التام، فلم يَعُد هناك مكان فارغ لي لأذهب إليه، لم يَعُد هناك مكان فارغ ليأتي أحد ويملأه. لقد عرفتك معرفة جعلت كلّ شيء آخر يتنحّى جانبًا. عندما يشكّ الإنسان في أمرٍ ما، يكون هناك أفراد آخرون في قلبه. لا يعرف هل يختار هذا الأستاذ للدرس أم ذاك الأستاذ أم أستاذًا ثالثًا؟ يذهب هنا ويذهب هناك. هناك أفراد مختلفون في رأسه، ولكن عندما يفهم أنّ هذا الأستاذ هو الوحيد الذي يُفيده، ينتهي الأمر، ويتنحّى الباقون جانبًا، حتّى لو كان هناك ألف أستاذ آخر، وألف معلّم آخر. حسنًا، ليكن من يكون. ليكونوا فهم لأنفسهم. عندما يكون الإنسان مريضًا، يكون هناك مائة طبيب في رأسه أولًا، الدكتور فلان، الدكتور فلان، الدكتور...، هكذا هم جميعًا، ثمّ شيئًا فشيئًا تزداد المعرفة بالمرض وبالطبيب، وتزداد المعرفة، ويقلّ عدد أولئك الذين في قلبه، كانوا مائة طبيب أوّلاً، والآن وصلوا إلى سبعين، ذهب ثلاثون جانبًا، وبعد أسبوع آخر ذهب أربعون آخرون جانبًا، وبعد أسبوع آخر ذهب ثلاثون آخرون، وبعد شهر من البحث عندما يصل إلى النهاية، تزداد المعرفة. لم يَعُد هناك سوى طبيب واحد في قلبه. هذا فقط يمكنه علاج مرضي بأفضل طريقة ولا يوجد أفضل منه. لماذا أصبح الأمر كذلك؟ لأنّ المعرفة ازدادت. سابقًا لم تكن هناك معرفة، وكان هناك مائة طبيب في القلب، هذا، هذا، ذاك، ذاك، والآن شيئًا فشيئًا يزداد الأمر وضوحًا، فينحصر الطبيب في واحد! وحال الإنسان أيضًا هي هكذا.
مراتب المعرفة بالله: من الخالق المنفصل إلى الحقّ الظاهر في كلّ شيء
يقول الإمام السجّاد عليه السلام إنّ معرفتنا بك يا إلهي متفاوتة، ولها درجات مختلفة. فيا إلهي، كنّا نعتقد أنّك خلقتنا ثمّ ذهبت وشأنك، فهذا مستوى. وهذا ما يعتقده عامة الناس تقريبًا الآن، إذا أعطيناهم بعض الفضل، فإنهم يعتقدون بالله بهذه الطريقة، أنّه خلقنا ثمّ ذهب لشأنه، ولا نعرف ماذا يفعل الآن. نحن وأنفسنا، نحن وأنفسنا ونفعل ما نريد. حسنًا، هذا مستوى. ومستوى آخر هو أننا لا نعتقد بالله بهذه الطريقة، بل نعتقد أنّ الله خلقنا وساعدنا في كثير من الأحيان، لنكن منصفين ولا ننكر الحقّ، لقد ساعدنا بعض الشيء، ورفع عنّا بعض المصائب، وشفى بعض الأمراض، لقد فعل هذه الأشياء أيضًا. ولكن في النهاية، هذا كلّ ما في الأمر! هذه فئة أخرى، حسنًا، يصبح الالتفات إليه أكثر قليلًا. ثمّ تزداد معرفتنا قليلًا فنرى أنّه ليس فقط هكذا! فهناك عالم وهناك ملائكة، وهم أيضًا يقومون بأعمال، وهم أيضًا يتواصلون، وذلك الاتصال بين الإنسان وبين الله لا ينقطع، وإشراف الله على الإنسان لا يزول، وهذا خاص بالخواص.
المرتبة الأعلى للمعرفة: رؤية الله في كلّ شيء
ثمّ نرتقي مرتبة أعلى من ذلك، وهي أن نرى أنّ كلّ ما في العالم هو ظهورات للحقّ. فتصبح مسألة الملائكة والرزق والواسطة والوسيلة وكلّ هذه الأمور تحت ظلّ هذه الحقيقة، وهي أنّ عالم الوجود بأسره هو بروز وظهور للحق، وهو عين إرادته وعين مشيئته وعين ما يريد أن يظهر في الخارج. والآن، ماذا تفعل الملائكة في هذا السياق؟ إنها تندرج في هذا الإطار ويتم تبرير وجودها هكذا. فهذه المعرفة لمن؟ هذه المعرفة هي للخُلَّص. والآن! يصل الأمر إلى هنا. إذا أردنا أن ننظر إلى الأفراد العاديين، فهم يواجهون مشكلة فيبحثون عن نذر أو ما شابه، قبل ذلك لا يعنيهم الأمر! ولا يتوجّهون إلى الله أصلًا، بل يتّصلون مباشرة بالطبيب ويذهبون إليه. يا عزيزي، أين إلهك؟ لا داعي للبحث عنه، ولا شأن لنا به حاليًا، فلنرَ ما إن كان هذا الطبيب يستطيع فعل شيء، فإن فعل فلا يصل الدور إلى البحث عن الله، ولن نُثقل على الله، سنذهب إلى الطبيب وهو أيضًا يُحمّله عبئًا، ويطلب منه صورًا وتحاليل من الأعلى والأسفل، ويطلب منه ألف طلب، وفي النهاية يقول: سنفعل هذا، وفي النهاية يقول: نعم! هذا مرض غير معروف، ظهر مؤخّرًا، تناول هذه الأدوية إن شاء الله، وراجعني مرّة أخرى وما إلى ذلك. فيتناول المريض الأدوية ويرى أنّ الأمر ازداد سوءًا. فيقول لنفسه: يا هذا، ليس هنا الطبيب الذي تريد، فاذهب إلى هناك، مثلًا في البلد الفلاني طبيب آخر وما إلى ذلك. فيذهب إليه وهو أيضًا يطلب منه أشياء مشابهة، وفي النتيجة لا يحصل على شيء، ويعود خالي الوفاض. وعندما تنقطع كل آماله، يتذكّر هذا الإله.
متى يتذكّر الإنسان ربه؟ قصة المريض والأطباء
لماذا يتذكّر الله؟ لماذا؟ لأنّ معرفته ازدادت قليلًا، بسبب ماذا ازدادت؟ بسبب هذه التجربة. فعندما ذهب إلى هذا، وجد الباب مغلقًا، وعندما ذهب إلى ذاك، وجد الباب مغلقًا. فذهب إلى الله، ولو لم يكن هذا الباب مغلقًا، لما ذهب أبدًا إلى الله. ولو كان صداعه قد زال منذ البداية بحبّتي أسبرين وفيتامين وغير فيتامين، وحبّتي دواء ما، وزال ألم معدته أو غيرها لما كان هناك شيء! لم يكن ليتذكّر الله في ذهنه ولو لثانية واحدة. لا مكان للّه ما دام الآخرون موجودين، والله أيضًا لا يأتي، فهو لديه غيرة، يقول: «لماذا آتي؟ ما دام السيّد الطبيب والسيد فلان في رأسك، فلماذا آتي؟ أنا لا آتي». وعندما يعجزون، تزداد معرفته قليلًا، ليست معرفة حقيقيّة، بل معرفة نابعة من العجز، والآن إلى مَنْ ذهب؟ إلى القوى الغيبيّة، لم تستطع القوى الظاهريّة فعل شيء، لا، أنتم راحلون، نعم! حقًا، نعم! لم يَبْقَ لكم سوى شهرين، عندما تصلون إلى هنا، يكون أمركم قد انتهى! تقول: بوضوح، لم تنجح القوى الظاهريّة، لا في إيران استطاعوا فعل شيء، ولا في الخارج استطاعوا فعل شيء، ذهب إلى أوروبا ولم ينجح، ذهب إلى أمريكا ولم ينجح، ثمّ أرسلوه إلى هنا خالي الوفاض، والآن جاء إلى هنا، فيُفكّر بأنّ لدينا إلهًا أيضًا، فيبدأ بالدعاء، والآن يذهب إلى أبي الفضل عليه السلام، وإلى الملائكة، ويقول: أغيثوني، ويُقيم الموائد والمآتم وما إلى ذلك... أين كنت حتّى الآن يا أخي؟ أين كان أبو الفضل عليه السلام هذا حتّى الآن؟ نعم؟ الآن جئت؟ يُقيم الموائد وينذر ويُقدّم النذور، وفي الوقت الذي قيل له: يا عزيزي، أدخل الله في حياتك أيضًا، لا يكن الأمر هكذا! كان سكرانًا بشبابه ودنياه وغروره ورئاسته وشهوته وماله وعزّته واعتباراته، سكرانًا تمامًا، لا يفقه شيئًا.
عبرة القبر: هل فكرت في هذه الساعة؟
لقد ذهب كل ذلك، وفي الليلة الأولى من القبر عندما يُوضع الميّت في قبره، ورد في الرواية أنّه ينظر إلى يمينه فلا يرى أحدًا، وينظر إلى شماله فلا يرى أحدًا، وينظر إلى الأعلى فيرى ـ يا إلهي ـ الحجارة والتراب والطين فوق رأسه، ولا يوجد أحد والجميع قد ذهبوا، الجميع قد ذهبوا. يُشرف على الدنيا فيرى أنّهم يتقاسمون، يتقاسمون الإرث، يجلسون، هذا يقول هذا نصيبي، وذاك يقول ذاك نصيبي، هذا يقول أنا الأكبر، وذاك يقول أنا الأصغر، وهناك فجأة يأتي الخطاب: «هل فكّرت في مثل هذه الساعة؟ عندما جاء الإنذار والوعيد، وجاء الأنبياء، وقالوا، كنت سكرانًا، لم تستمع، كنت تسخر، فما هذا الكلام؟ هذا كلام منذ ألف وأربعمائة عام، ما هذا الكلام؟ لقد وَلَّى. هذا كان في ذلك الوقت عندما لم يكن الناس يفهمون شيئًا، الآن الحمد للّه تطوّرت العقول، الآن كلّ عقل يزن خمسمائة كيلوغرام، في ذلك الوقت لم يكن العقل هكذا.
إنّ عقل الفيل لا يزن هذا القدر يا عزيزي! ومع ذلك تقول أنّ العقل الآن صار يزن خمسمائة؟! كم يزن العقل؟ كم كيلوغرامًا؟ يقولون حوالي كيلوغرام واحد وثلاثمائة أو أربعمائة غرام، والآن كم أصبح؟ الآن تطوّر الناس، فأصبح خمسين كيلوغرامًا، مائة كيلوغرام. تغيّرت خلاياه، تغيّرت كُريَّاته، هذا الكلام كان في ذلك الوقت، حسنًا! عندما جاء الأنبياء، لماذا لم تصغ؟ الآن فهمت، الآن أدركت».
عودة مؤقّتة إلى الله: هل يدوم الانقطاع بعد الشفاء؟
والآن يبدأ بالتوسّل، فيذهب إلى أبي الفضل وعليّ الأصغر عليهما السلام والملائكة، واحدًا تلو الآخر، وينذر لهذا وينذر لذاك، ويُساعد الأيتام. نذر وقضاء حاجة وما إلى ذلك، ودعاء توسّل، ويدعو هذا السيّد وذاك السيّد إلى منزله، لماذا؟ لكي يشفى المريض. والآن بعد أن شُفي مريضك، هل ستترك هؤلاء مرّة أخرى؟ ستتركهم مرّة أخرى، ستتركهم مرّة أخرى. بعد مدّة، سيعود الأمر كما كان. لقد رأينا ذلك بأعيننا. نرى، عشرات الحالات، مئات الحالات. عندما تَحُلُّ حالة الاضطرار، يتغيّر حال الإنسان، ينقطع، يتغيّر، يتغيّر وضعه. ولكن عندما تتغيّر تلك الحالة، شيئًا فشيئًا، يرى الإنسان أنّه لا يهتمّ ويتّجه نحو الأفول. قَلَّتْ تلك الحالة من الانقطاع. الأحاديث تتغيّر، الكلام يتغيّر، عندما يتغيّر الكلام، يتغيّر الفكر والقلب.
قصّة المريض الذي يئس منه الأطبّاء: انقطاع مؤقّت ثمّ عودة إلى العبث
ذات مرة ذهبتُ مع المرحوم العلامة لزيارة مريض كان الأطباء قد يئسوا من شفائه. فكان يتحدّث بكلام جيّد جدًّا، وكانت حالته قد تحسّنت كثيرًا. كلّ هذا كان بسبب أنّهم يئسوا منه. رحم الله آباء هؤلاء الأطباء. على الأقل يخلقون أحيانًا حالة من التوكّل عند الإنسان. كانوا قد يئسوا منه، وعندما خرجنا قال المرحوم العلامة: «كانت لديه حالة انقطاع جيّدة، ليتها تبقى». وبالفعل، شُفي ذلك الرجل وعاد إلى ما كان عليه. وبعد مدّة، رأينا أنه قد تغيّر، وبدأ مرّة أخرى يتحدّث بتلك الأحاديث الفارغة والتافهة السابقة، كان يتحدّث بكلام سخيف وكلام لا معنى له أصلًا. يجب أن يكون الإنسان هكذا وأن يكون كذا. قال المرحوم العلامة: «أرأيتم ما قلت. هذه هي الدنيا، هذه هي الدنيا». عندما يحدث الانقطاع للإنسان، وتنقطع كلّ الأسباب، وكلّ تلك الأشياء التي كان الإنسان يستطيع الاعتماد عليها، مُرتكزات وجود الإنسان وحياته الظاهريّة، عندما يفقد تلك المُرتكزات الواحدة تلو الأخرى، ويبقى وحيدًا، تحدث حالة الانقطاع، ويتغيّر كلامه. يتغيّر حديثه. ويا ليت هذه الحالة تبقى في الإنسان. ولكن البعض ليسوا هكذا، فإن كانوا في مرض، فإنّهم يتوجّهون إلى مكان واحد فقط. وإن كانوا في صحّة، فإنّهم يتوجّهون إلى مكان واحد، وإن كانوا في رخاء، فإنّهم يتوجّهون إلى مكان واحد، وإن كانوا في شدّة، فإنهم يتوجّهون إلى مكان واحد، وإن كانوا في ضيق، فإنّهم يتوجّهون إلى مكان واحد، وإن كانوا في يُسْر، في كلّ حال لا يخرج الفكر والتوجّه عن ذلك المكان. لا يخرج عن المبدأ، لماذا؟ لأنّه وصل إلى هذه النقطة، يعتبر أنّه في حالة اضطرار الآن.
كُنْ مضطرًا الآن: لماذا تنتظر الغد؟
أنت الذي ستصبح مضطرًا غدًا وتصل إلى هذه الحالة، كُنْ كذلك من الآن. من الآن. أنت الذي ستفقد غدًا كلّ مُرتكزاتك، حسنًا، فكِّر في هذه المسألة من الآن. لماذا تتركها للغد؟ فكِّر من الآن حتى تجني فائدتها من الآن أيضًا.
لذلك يقول الإمام عليه السلام: «معرفتي يا مولاي دليلي عليك»، معرفتي لم تترك أحدًا غيرك. أخرجت الجميع من قلبي وضميري. أخرجت الشريك، أخرجت الجار، أخرجت أفراد الحي، أخرجت القوم والعشيرة، أخرجت الأخ والأخت، أخرجت الابن، أخرجت الزوجة والأولاد، أخرجت الأب والأم والأقارب والصديق، أخرجت الجميع. أبقتك وحدك فقط. هذه معرفتي هي معرفة بك. فالإمام السجّاد عليه السلام يدعونا إلى هذه المعرفة. يجب أن نحصل على هذه المعرفة وألاّ نخلطها، لا ينبغي أن نتنازل عن هذه المسألة. «عليك بها صرفًا»، يُشير إلى هذه المسألة في أشعار ابن الفارض عليه الرحمة.
هل تكفي المعرفة وحدها للوصول؟ أم نحتاج إلى المحبة أيضًا؟
والآن، هل هذه المعرفة بك تُنهي الأمر؟ هل لدينا الآن معرفة بالله أم نريد شيئًا آخر؟ هنا يقول الإمام السجاد عليه السلام: لا، المعرفة ليست كافية، يجب أن تكون هناك محبّة أيضًا. المعرفة وحدها لا تُوصلني إليك، أنا الآن لديَّ معرفة بك. يا إلهي، أنت وحدك الموجود وكلّ ما سواك باطل. حسنًا، فهمنا هذا، والآن متى أصل إلى هذه النقطة؟ فهمنا هذا. استطعتُ تثبيت هذا في ذهني. استطعتُ أن أُدرك هذه المسألة تمامًا في ذهني. تجاوزتُ الموانع، تجاوزتُ تلك الأقوال التي يقولها الطلاّب. تجاوزتُ أولئك الذين يقولون إنّ هذا الطريق لا يُفيد أحدًا ولا يستطيع أحد الوصول، تجاوزتُ هذا الكلام، تجاوزتُ أولئك الذين كانوا يُصبحون سدًّا ومانعًا، يا سيدي، ابتعد، يا سيّدي، ستفقد حياتك. ستفقد دنياك، ألم يقولوا ذلك؟! الذين يأتون إلى هنا يفقدون دنياهم، يفقدون حياتهم. ألم يكن الأمر كذلك في زمن السيد الحداد رحمه الله؟ لقد تجاوزتُ كلّ هذا الكلام. نصائح الناصحين غير المُشفقين، أخذتُها من هذه الأذن وأخرجتُها من تلك الأذن. الشفقة العامية التي هي في غير محلها، تركتُها جانبًا، المحبّة [التي في غير محلّها تركتها أيضًا].»
قصة أب وابنته والتدخل في طريق السلوك
منذ فترة، أعطاني أحدهم رسالة، سيدنا، أنا هكذا، وابنتي هكذا، وكذا وكذا. ما الأمر، موهبتها هكذا، هذا هو الأمر، كذا وكذا. الآن لا تُواصل دراستها وما إلى ذلك...، وبهذا العمل أضاعت كلّ آمالنا، وهي لا تستمع إلا لكلامك، أرجوك تعالَ ولا تدع الجهود التي بذلناها من أجلها تذهب سُدًى، وأمثال هذا الكلام. فما علاقتي بذلك؟ فكلّ إنسان يسلك طريقه، أنا لا أقول لأحد أن يذهب إلى مكان ولا أقول لأحد ألاّ يذهب. أقول: كل مَنْ يذهب إلى هنا ويكون مضرًّا له، فقد خسر. فإن كنتم ترون أنه غير مضرّ، فأنتم أدرى، ما علاقتي بذلك؟ لا أستطيع أن أتخلّى عمّا أقوله، ولا أستطيع أن آمر أحدًا أمرًا مخالفًا للصواب. غدًا ستأتي ابنتكم هذه وتُوقفني. يا سيّدي، الذهاب إلى هنا كان مضرًّا لي، فلماذا قلتَ لي اذهبي؟ فقد أطعتك! والآن يتوسّلون إلينا لنأتي ونأمر الأفراد بأوامر باطلة. كيف يمكنني أن أفعل مثل هذا؟ هل التفتّم! حسنًا، لقد ترك كلّ هذا جانبًا. كم هم الذين يأتون وينصحون بجهل. احذر يا عزيزي، وافعل كذا، يا عزيزي وافعل كذا، ماذا تفعل؟
قصّة القريب الذي تراجع عن السلوك: هل نتبع نصائح أهل الدنيا؟
أحد هؤلاء الأفراد، كان من الأقارب المقرّبين أيضًا. كنت أتحدّث معه منذ فترة وما إلى ذلك، وكان هذا قبل عامين أيضًا، فتحسّنت حالته قليلًا ووجد ميلًا وتوجّهًا، ثمّ بعد مدّة ذهب إلى مكان ما، وقيل له: إذا فعلت هذا فستهلك، وإذا فعلت كذا فستهلك. وهؤلاء مجموعة من الدراويش يفعلون هذا. لقد أحاطوا به، وأفسدوا ذهنه، فانتهى كلّ شيء، وترك هذه المسائل جانبًا وعاد إلى تلك الأجواء السابقة. ومَنْ فعل هذا به؟ جماعة من النساء اللواتي لا يفهمن شيئًا سوى الدنيا والتزيُّن والاعتبارات الماديّة وهذه الأمور التافهة. فهل يجب أن يكون الإنسان ضعيفًا إلى هذا الحدّ؟ هل يجب أن يكون بلا هويّة إلى هذا الحدّ؟ بلا استقامة؟ بلا قيمة ليأتي ويستمع إلى كلام مجموعة لا تُميّز بين الهِرِّ والبِرِّ، ويجلسون ويُحيطون به ويكلّمونه بكذا وكذا، ويقولون: لقد صرت نحيفًا! لقد أخطأت عندما صرت نحيفًا، بإمكانك مثلاً ألاّ تصوم، فمَنْ قال لك صُمْ؟ لقد أوصى أولياء الله بأن: صوموا ثلاثة أيام في الشهر، ومَنْ أراد أن يزيد قليلًا فهو أفضل، وبأنّ ارتكاب المعاصي ليس صحيحًا. ستفقد دنياك، تلك الدنيا التي ستكون مليئة بالمشاكل والهموم وحرب الأعصاب، لا يريدها الإنسان أبدًا. تلك الدنيا التي يريد الإنسان فيها أن يزيد رأسماله في البنك ويَسعد بأنّ رأسماله قد زاد، يا عزيزي، ما الخبر؟ لقد انفجرت، كفى. اركض من الصباح إلى المساء، ومن المساء إلى الصباح، من الصباح إلى المساء، ومن المساء إلى الصباح، يا عزيزي، لديك ما يكفي لتعيش! فما هذه الأعصاب المتعبة؟ ثمّ فجأة! يتوقّف عقله عن العمل. يتوقّف كبده عن العمل، يتوقّف قلبه عن العمل، ويأخذونه إلى المستشفى، إلى وحدة العناية المركّزة، إلى هنا وهناك، لماذا؟ من أجل لا شيء، لا شيء، ثمّ حسنًا، تفضّلوا اذهبوا، حسنًا، كلّ هذا الجهد الذي بذلوه يأتي آخرون ويستفيدون منه. فهل هذه هي القضيّة؟ حسنًا، هذا نوع واحد.
المعرفة الحقيقية والثبات على الطريق: لماذا يتراجع البعض؟
أما الذي وجد المعرفة، فلن يتخلّى عنها. تلك المعرفة لا تدع الإنسان يتراجع، إذا وُجدت تلك المعرفة الحقيقيّة، فإنّ رأي أحدهم، قال السيد الحداد رحمه الله: «عجيب جدًّا هؤلاء يأتون إلينا، تصبح لديهم حال جيّدة، يصبحون في أجواء أخرى، تتغيّر وجوههم، تتغيّر أفكارهم، تتغيّر أعمالهم. كان يقول: لا أعرف ما هذه المسألة، فبمجرد أن يذهبوا إلى مكان آخر وبيئة أخرى وتفاعلات أخرى، ينسون كلّ المسائل تمامًا وكأنّ شيئًا لم يكن، يُغيّرون طريقهم، يُغيّرون مسارهم، ثمّ يعودون إلى تلك الأجواء الخاصّة بهم، إلى تلك القضيّة الخاصّة بهم». هؤلاء أيضًا، أولياء الله أيضًا، كما قلتُ في الليالي الماضية، ليس من المفترض أن يصنعوا المعجزات، لا! ليس هذا هو المطلوب، لا يصنعون المعجزات. يُبيّنون الطريق والتأييد من الناحية الإلهيّة واهتمام الفرد نفسه. نحن أيضًا لا نستطيع أن نخدع أنفسنا أيّها السادة، ليس هذا هو الأمر.
ألم البطن وألم الروح: هل نهتمّ بروحنا كما نهتمّ بأجسادنا؟
إذا آلمتنا بطونُنا الآن، إذا آلمتكم بطونُكم قليلًا، فإنّكم تقومون من مجلسي هذا وتذهبون إلى الطبيب، أليس كذلك؟ من هنا، أمام عيني تقومون، وتقولون: بطني تؤلمني، يجب أن أذهب لآخذ دواء، يجب أن أذهب لأُعالجها، أتفعلون ذلك أم لا؟ نفعل ذلك، ولا مزاح في الأمر. أمّا عندما يتعلّق الأمر بالله، فنقول: سيّدنا نحتاج أن يُوفّقنا الله، وأن يُعيننا الله، وأن يُؤيّدنا الله، لا بدّ أن يفعل الله كذا. كلاّ يا عزيزي، لا يُؤيّد الله ولا يُعين ولا شيء، والأمر تمامًا كألم البطن. والمسألة هي مسألة ألم البطن. التأييد هو أنّكم جئتم ووصل الكلام إلى أسماعكم، هذا هو التأييد. والباقي يجب أن تُشمّروا عن سواعدكم، لا أن تجلسوا وتقولوا: لا بد أن يُؤيّدنا الله. أُقسم بحياتكم الكريمة وحياتي، لو جلستم حتّى يوم القيامة، فلن يكون هناك تأييد. أقولها لكم بصراحة: لا وجود لهذه الأمور. تأييد ماذا؟ ما هذا الكلام؟ نحن نلعب بأنفسنا ونُحاول بطريقة ما أن نخادع، نحن نُحاول أن نفعل شيئًا ما. تأييد الله كان أن يأتي إنسان مثل المرحوم الوالد المرحوم العلامة، ويبذل وقته وحياته وعمره من أجلنا، ويحتمل ألف ألم ومرض، ويُقطع جسده، وتتكسّر عظامه الواحد تلو الآخر، لماذا؟ لكي يُوصل إلينا الأمر. هذا هو تأييد الله.
قصّة ألم الظهر والتضحية من أجل إيصال العلم: ما هو التأييد الحقيقي؟
كان يقول: «عندما كنتُ أكتب ـ حسنًا، لم أكن أريد أن أقول هذا، لم يكن يجب أن أقوله، ولكنّني قلته، فهذا الظهر الذي آلمه، كان يقول ـ فكأنّهم وضعوني تحت الساطور وكانوا يُقطّعونني من هذا الظهر، وفجأة قال لي: يا فلان، البارحة في منتصف الليل استيقظتُ لأُجدّد وضوئي من النوم، فبقيتُ ساعتين فقط في الفراش أتقلّب لأستطيع الجلوس، ولم أستطع.» مع أنّه كان يتحمّل الألم كثيرًا، كثيرًا، كثيرًا، فهذه عناية الله، تفضّلوا! وهذه كتبه وأحاديثه وأشرطته، كلّها الآن حيَّة وحاضرة. أخبروني عن مشكلة من مشاكل السلوك لا تجدون لها حلًّا في كتبه وأشرطته. ثمّ قولوا الآن واكتبوا لي رسالة أنّنا لا نريد أن نعمل! هذا هو تأييد الله. هذه مرتبة المعرفة، ماذا تفعل؟ عندما يعمل الإنسان، يرتفع، يرتفع، يرتفع.
المحبة: الشفيع الذي لا غنى عنه بعد المعرفة
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: «المعرفة وحدها وإن كانت دليلًا عليك، لكنّها ليست كافية. تحتاج إلى شيء آخر هنا، وهو مسألة المحبّة. مسألة المحبّة». يقولون: سيّدنا، نحن ـ هناك البعض يقولون سيّدنا، قمنا بهذا العمل فلماذا لم نرَ أثره؟!
ـ فعلتَ هذا العمل فلماذا لم ترَ أثره؟! ماذا تتوقّع من الله؟ ماذا تطلب من الله؟
ـ سيّدنا، جئنا لمدّة عامين ولم نرَ شيئًا، سيدنا، جئنا لمدّة ثلاث سنوات، فماذا حدث؟! نحن هنا منذ أربع سنوات، فماذا حدث؟! حالة المُطالبة، حالة المُطالبة تختلف عن حالة المحبّة. المُحِبُّ لا يطلب أبدًا من المحبوب. المُحِبُّ يرى شيئًا واحدًا فقط، يرى رضا المحبوب فقط، هذا كلّ شيء. فعلتُ هذا من أجلك، فلماذا لا تفعل أنت هذا؟ هذا لا مكان له في نظام المحبّة. هذه معاملة، هذه تجارة.
قصة الرسالة إلى الشيخ الأنصاري رحمه الله: هل نبيع سَلَفًا لله؟
كان المرحوم العلامة يقول: «عندما كنتُ في النجف، بالطبع هذه رسالة، وكان يقولها أحيانًا، رسالته موجودة وقد رأيتُها. كتب للمرحوم الشيخ الأنصاري رحمه الله: مولانا لا أرى تغييرًا في حالي، فما حقيقة الأمر؟ أين الخلل في الأمر؟ لا خبر، لم يحدث شيء! كذا.
فيُجيب الشيخ الأنصاري رحمه الله، وكان مَرِحًا ولطيفًا، مَرِحًا ولطيفًا جدًّا، فيقول: يا عزيزي، أنت لم تدفع سَلَفًا للّه حتّى تُطالب الآن بالسلعة ـ وبيع السَلَف هو أن يشترى مُسبقًا منتجات شركة أو زراعة ويُدفع ثمنها، ثمّ تقدّم تلك الشركة أو المصنع أو الأرض أو المزرعة ذلك المنتج لاحقًا في وقته المحدّد، عندما تنضج الثمار، وعندما يظهر ذلك المنتج ـ فكان يقول له: أنت لم تدفع سَلَفًا للّه حتّى تطالبه، فهذا أولًا، وثانيًا ـ بالطبع كان هناك مزاح في ذلك أيضًا ـ أنت تعلم أنّ كل شيء يحتاج إلى اجتهاد، وأنت لم تجتهد في هذا الطريق، فكيف تقول إنّ عناية الله ولطفه لم يشملك؟ ثمّ يقول له بعض الأمور». سيّدنا، نحن هكذا منذ عدّة سنوات، سيّدنا نحن كذلك منذ عدّة سنوات ولا خبر!
ـ فماذا تريد أن يحدث يا عزيزي؟! أيَّ خبر تريد؟ هل نحن الذين ندّعي وَصْل الله نُطالب الله؟ وهل الله مُلزَم بأن يقضي حاجاتنا؟ مَنْ قال مثل هذا الكلام؟ مَنْ أوجب على الله أن يأتي ويقضي حاجاتنا حتمًا؟! مَنْ قال ذلك؟! {لَا يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ}۱. لا يمكن سؤال الله عن فعله.
عبادة مشروطة: هل يقبل الله صلاة مَنْ يشترط عليه؟
ـ يا إلهي، نحن نُصلّي لك بشرط أن تكشف الحجاب!
ـ لا! لا وجود لمثل هذا الكلام. لا وجود لمثل هذا. إن كنت لا تريد أن تصلّي، فلا تُصَلِّ! هل تريدني أن أكشف الحجاب؟ هناك آخرون يكشفون الحجاب. نحن لا نعرف كيف نكشف الحجاب!!
ـ يا إلهي، لقد صُمتُ لك شهر رمضان لكي يُرفع الحجاب عنّي.
ـ كان بإمكانك أن لا تصوم. بصراحة، يقول بصراحة: لو أردتَ لما صُمت.
ـ يا إلهي، لقد حججتُ لك لكي أرى إمام زمانك في الحج!
ـ هل إمام الزمان عليه السلام واقف لينظر جنابُكم إلى وجهه الشريف؟! هل هو فارغ إلى هذا الحدّ ليأتي ويضع نفسه تحت تصرّفنا، إمام الزمان عليه السلام؟
ـ يا إلهي، لقد دفعتُ الخُمْس من أموالي، ودفعتُ الزكاة، ودفعتُ الكفارة!
ـ أموال، أيُّ أموال؟! لو لم يأتِ الزبون إلى مصنعك، فمن أين كانت ستأتي هذه الأموال؟! كانت كلّ بضاعتك ستفسد وتذهب هباءً. فعن أيّ أموال تتحدّث؟! تقول إنك دفعت الزكاة؟! لو لم أُرسل المطر من الأعلى، فمن أين كان سينبت هذا النبات؟! لو لم يكن هناك ماء من هذا البئر، لكانت نباتاتك هذه قد جَفَّتْ وأصبحت كالعشب. تأتي آفّة واحدة إلى زراعة واحدة، فتقضي على كلّ هذه الزراعات من أوّلها إلى آخرها. يُرسل الله موجة من الجراد إلى هذه الزراعات، فمن الصباح إلى المساء تجتاح هذه الزراعة بأكملها، ثمّ تطير وتذهب لتأكل رزقها في مكان آخر، انتهى الأمر. فمَنْ فعل هذه الأشياء؟! والآن تقول: دفعتُ الزكاة؟ أتَمُنُّ عَلَيَّ؟ مِنَّةُ ماذا؟
العمل من أجل الله أم من أجل المقابل؟
العمل بهذه الطريقة هو عمل مُطالبة، والله لا يُحبّه، لا يُحبّه، ولا يفعل شيئًا. إذا أردتم أيّها الرفقاء أن تُجرّبوا، فجرّبوا. ستأتون وتقولون: لقد أخطأتَ أيّها السيّد الطهرانيّ! لقد فعلنا كذا، وحصلنا على نتيجة.
نقول: حسنًا، على أيّ حال، سنُعيد النظر، إن كان الأمر كذلك. ولكن حتّى الآن، خلال هذه الخمسين عامًا التي مرّت من عمري، لم أعِد النظر في هذه الأمور، وإن شاء الله سيكون الأمر كذلك من الآن فصاعدًا. فالله لا يُحب الإنسان المُطالب الذي يأتي ويقول: أفعل هذا من أجل هذا. هذا ليس من شِيَم المحبّة. لا مكان لهذه المسألة في عالم المحبّة.
عندما يأتي إنسان إلى منزلك، ويُحضر لك هديّة، كيلوغرامين من الفاكهة، أو عُلبَتي فواكه موضّبة إن كنت مريضًا، أو مُجلَّدَيْن من الكتب، أو زجاجة عطر، ثمّ يقول: باختصار، أعطني شيئًا في المقابل، ألا تتفاجأ؟ آه! أحضرتَ كتابين والآن ماذا تريد؟! هل تريد ثمنهما أيضًا وتقول: أعطني شيئًا أيضًا يا عزيزي؟ أحضرتَ كيلوغرامين من الفاكهة، عُلبة حلوى، ثمّ ما هذا الأسلوب في الحديث؟ ما هذا الطلب؟
الصلاة الخالصة: ماذا يريد الله من عبده في الصلاة؟
عندما يريد الله أن يقف عبده أمامه للصلاة، يريد فقط أن يقول عبده: «الله أكبر»، ولا يكون في ذهنه شيء آخر، هذا كلّ شيء، «الله أكبر، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد للّه»، أي يا إلهي، أفديك بنفسي، أُضحّي بحياتي من أجلك، أنت هكذا، كلّ الحمد لك، كلّ النعم منك. يجب أن نأتي إليك فقط، خُذْ بيدي، أنا بائس، أنا مسكين، أنا...، انظروا! {ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ}، كل هذا لماذا؟ كل هذا من وادي المحبّة.
تقول عائشة إنّها قالت للنبيّ صلّى الله عليه وآله ـ رأته يُصلي كثيرًا، يعبد كثيرًا ـ تقول إنّها قالت: «يا رسول الله، أتُصلّي كلّ هذه الصلاة؟ هل يجب عليك أيضًا أن تُصلّي مثلنا؟ هل تحتاج أيضًا إلى الصلاة؟ هل أنت أيضًا مثلنا؟!» فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله عبارة: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!» وهي عبارة عجيبة جدًّا. يقول: «أفلا أكون عبدًا شاكرًا أيضًا؟!» لا أقول إنّ الله أوجب هذا عَلَيَّ، لأنّ صلاة الليل كانت واجبة على النبيّ صلّى الله عليه وآله. لو لم يُوجبها الله على النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولو لم يأتِ الأمر، ولو تركه حرًّا حقًّا، وقال: مَنْ شاء فليفعل ومَنْ شاء فلا يفعل، ولكن في مثل هذا الوضع، حقًا أيّها الرفقاء يجب أن نأتي ونُفكّر مع أنفسنا ألم يكن هناك مجال لنقوم ونعبد؟ أم أننا نفعل ذلك لأنّ الله قال: صَلُّوا؟ لأنّ الإمام الحسن العسكري عليه السلام يقول: «ليس منا مَنْ ترك صلاة الليل» مَنْ يترك صلاة الليل فليس منّا. هل نُصلّي لهذا السبب؟ بسبب كلام الإمام الصادق عليه السلام عندما أمر أهله وعشيرته بالحضور عند احتضاره وقال: «لن تنال شفاعتنا المُستخِفّ بالصلاة»، أو «لن ينال شفاعتنا»، مَنْ استخفّ بالصلاة فلن ينال شفاعتنا أهل البيت. أو لهذا السبب؟ حسنًا، نحن نسمع هذا. سمعنا هذا من الإمام الصادق عليه السلام، وسمعنا ذاك من الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وسمعنا ذاك من موسى بن جعفر عليه السلام، وسمعنا ذاك من الإمام الحسين عليه السلام، ورأينا آيات القرآن هذه، والآن لو لم تكن هذه موجودة، أي لو لم يكن هذا الكلام موجودًا. لو كنّا نعرف فقط أنّ الله يُحبّ في علاقته بعبده أن يُصلّي العبد، فماذا كنا سنفعل؟! نجلس ونُفكر. كنّا سنقول: يا إلهي، ما دام الأمر كذلك، فلنتركه ولنذهب!. لقد استرحنا، لقد رُفعت هذه العصا عنّا. فلنتركه، ولنسترح منه!
متى نصل إلى كلام الإمام السجاد عليه السلام؟ الشعور بالارتباط بالله دون أمر أو تأكيد
كلّما وصلنا إلى هذه النقطة وإلى هنا، وأن نشعر بعلاقتنا مع الله بدون أمر وبدون تأكيد، ونعمل بمقتضى ذلك الشعور، نكون قد وصلنا إلى كلام الإمام السجاد عليه السلام حيث يقول: «معرفتي دليلي عليك»، ولكنّ هذه الدلالة تحتاج إلى شفيع، وذلك الشفيع هو المحبّة، وبدون محبّة لا يتمّ العمل.
مجلس تمام گشت و به آخر رسید عمر | *** | ما همچنان در اوّلِ وصفِ تو ماندهایم |
يقول:
انتهى المجلس ووصل العمر إلى نهايته *** وما زلنا في بدو وصفك حائرين»
لا يزال هناك الكثير ليُقال حول هذه المسألة. وإن شاء الله إذا وُفِّقنا في الليالي المتبقّية، فهي الليالي الأخيرة، سنكون في خدمة الرفقاء.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ