2

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب

قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

18
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1422

التاريخ 1422/09/04

جلسات المجموعة(8 جلسة)

التوضيح

ما هو المعنى الحقيقي لـالرجاء الذي لا يُردّ، كما ورد في الأدعية الشريفة؟ وهل يكفي الأمل القلبيّ للوصول إلى الله؟ كيف يسرق الشرك الخفيّ، مثل حب الرئاسة وكسب المريدين، حقيقةَ هذا الرجاء؟ وما هو الموقف العمليّ الذي اتخذه العارفون بالله كالعلامة الطباطبائي والعلامة الطهراني تجاه هذه المزالق؟ تجيب هذه المحاضرة التي ألقاها سماحة السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ في شرح فقرة «وَأَعْلَمُ أَنَّكَ لِلرَّاجِينَ بِمَوْضِعِ إِجَابَةٍ» من دعاء أبي حمزة الثماليّ عن هذه الأسئلة وأسئلة أخرى عبر قصص واقعيّة ومواقف تربويّة دقيقة.

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

1
  •  

  • هوالعليم

  •  

  • الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب

  • قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٢ هـ - الجلسة الثانية

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

2
  •  

  •  

  • أعوذُ باللهِ منَ الشَّیطانِ الرَّجيمِ

  • بسمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ

  • وصلَّى اللهُ على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسمِ محمّدٍ

  • وعلى آلهِ الطيّبينَ الطاهرينَ

  • واللعنةُ على أعدائِهم أجمعينَ

  •  

  •  

  • «وَأَعْلَمُ أَنَّكَ لِلرَّاجِينَ بِمَوْضِعِ إِجَابَةٍ، وَلِلْمَلْهُوفِينَ بِمَرْصَدِ إِغَاثَةٍ، وَأَنَّ فِي اللَّهْفِ إِلَى جُودِكَ وَالرِّضَا بِقَضَائِكَ عِوَضًا مِنْ مَنْعِ الْبَاخِلِينَ، وَمَنْدُوحَةً عَمَّا فِي أَيْدِي الْمُسْتَأْثِرِينَ».

  • ما معنى أن يكون الرجاء حتميّ التحقّق؟

  • يُمكن القول إنّ هذه الفقرات تحمل معنىً واحدًا وسياقًا واحدًا تقريبًا: «حقًّا إنّي لأعلم، والمسألة هي كذلك بنحو مؤكّد، أنّك «لِلرَّاجِينَ بِمَوْضِعِ إِجَابَةٍ»؛ أي إنّك بالنسبة للراجين في مقام الإجابة، وأنت للذين يرجونك في موضع الاستجابة.

  • يقول الإمام عليه السلام هنا: إنّ المسألة، بالتأكيد، هي أنّ من يرجوك لا يمكن أن يُردَّ؛ هذا هو كلام الإمام عليه السلام. فعبارة «بِمَوْضِعِ إِجَابَةٍ» تعني أنّ طلبه لا يُردُّ. فمن كان يرجوك، فإنّ هذا الرجاء سيُستجاب له حتمًا، وإلاّ، لو كان الله يستجيب لهذا الرجاء تارةً ولا يستجيب له تارةً أخرى، لما قال الإمام عليه السلام: «بِمَوْضِعِ إِجَابَةٍ». تُقال عبارة «بِمَوْضِعِ إِجَابَةٍ» للموقف الذي يتحقّق فيه ذلك الرجاء حتمًا، لا أنّه يتحقّق أحيانًا ويُرفض أحيانًا أخرى، كأن يُجيب متى شاء، وإن لم يشأ يقول: «لا أريد أن أفعل، ومن ذا الذي يستطيع أن يعترض؟!». لا، ليس الأمر كذلك، فالإمام يقول: «أَعْلَمُ»، أي أنا أعلم. ومن القائل؟ إنّه الإمام السجّاد عليه السلام، ولستُ أنا من يقول ذلك، وكلام الإمام لا يُردّ. أمّا كلامنا نحن، فيُحتمل فيه الردّ؛ نعم، فنحن نقول: «سيحدث هذا الأمر قطعًا»، ولكنّه لا يحدث، ونقول: «ستنتهي القضيّة إلى هذا المصير حتمًا»، ولكنّها لا تنتهي إليه، ونقول: «ستكون الأوضاع كذا وكذا، كونوا على يقين واطمئنان»، ولكننا نرى أنّ شيئًا من ذلك لم يحدث. لكنّ الإمام عليه السلام يقول: «أَعْلَمُ»، ولا يقول: «أَظُنُّ» أنّك في موضع إجابة. أو «أَتَخَيَّلُ» ذلك. إنّ قوله «أَعْلَمُ» مسألة مهمّة لنا، فالأمر ليس مزحة. عندما يقول الإمام السجّاد عليه السلام «أَعْلَمُ»، أي أنا أعلم، وفوق ذلك أتى بـ «أَنَّ» للتأكيد، فقال: «أَنَّكَ لِلرَّاجِينَ بِمَوْضِعِ إِجَابَةٍ»، أي للذين يرجونك.

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

3
  • كلّ النكتة تكمن هنا، فلو قضينا نصف عمرنا لنفهم معنى هذا الرجاء، لما فعلنا شططًا.

  • قصة الشابّ الباحث عن مرجع التقليد

  • كنّا في أحد الأيّام في محضر المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ رضوان الله عليه، حيث كان يعقد مجلسًا في قمّ كلّ يوم خميس، وكان عبارة عن جلسة سؤال وجواب. لم يكن الحضور كثيرًا؛ إذ لم يكن يتجاوز سبعة أو ثمانية أو عشرة أشخاص، أو ربّما خمسة عشر شخصًا؛ أي أنّ الجلسة لم تكن معروفة ومشهورة. وكنّا نشارك فيها ونستمع، ولم تكن لدينا أسئلة؛ لأنّ الجاهل جهلاً محضًا ليس لديه سؤال، فمن أين له أن يسأل؟! وعن أيّ قسم سيسأل؟! فكنّا نستمع ونستفيد، وكانت الأسئلة عادةً أسئلة فلسفيّة أو عرفانيّة أو تفسيريّة، يطرحها السادة المُدرّسون في الفلسفة ونحوها، حيث كانوا يأتون، ويطرحون إشكالاتهم الفلسفيّة.

  • ذات يوم، جاء شابّ من طهران، وكان شابًّا عاديًّا، وسأل: «هل هذا منزل العلاّمة الطباطبائيّ؟»، قيل له: «نعم»، وسُمح له بالدخول، فجلس. تعجّب جميع الحاضرين من مجيء هذا الشخص العادي، وتساءلوا عمّا يمكن أن يكون سؤاله. التفت الشابّ إلى العلاّمة وقال: «يا سيّدي! ما هي الشروط التي يجب أن تتوفّر في مرجع تقليدنا؟» تفاجأ الجميع.. ما هذا السؤال؟ يأتي الناس إلى هنا بأسئلة فلسفيّة وتفسيريّة عميقة، وهو يسأل عن شروط مرجع التقليد!

  • شرع المرحوم العلامة في بيان شروط مرجع التقليد، فقال إنّه يجب أن يكون قد تخطّى نفسه، وأن يكون منزّهًا عن الهوى، وأن يكون بصيرًا، وألاّ يقتصر علمه على كتابين... لقد تناول المسألة من جذورها.

  • منهج الأعاظم في التربية: الجواب الجذريّ الذي ينفع الجميع

  • إنّ أحد الأمور التي نلاحظها في أعاظمنا، وقد كان المرحوم الوالد العلاّمة الطهرانيّ كذلك أيضًا، أنّه إذا سأله أيُّ شخص أيَّ سؤال، كان يُجيب جوابًا جذريًّا؛ أي لم يكن يجيب جوابًا سطحيًّا ليُنهي المسألة، بل كان يُقدّم جوابًا يستفيد منه جميع الحاضرين على اختلاف مستوياتهم، لا السائل وحده.

  • استمرّ العلامة في الحديث، فقال الشابّ: «يا سيّدي، أين نجد شخصًا بهذه المواصفات التي تذكرها؟ قد نحتاج للبحث سنتين لنجد فردًا كهذا». وكان مُحقًّا في كلامه، فهذه الشروط التي ذكرها سماحته لا تجدها في شخص يُقابلك بمجرّد خروجك من باب بيتك إلى الشارع، بل يجب أن تبحث في قمّ ومشهد وكاشان وأصفهان، بل في كلّ إيران والعراق وسائر الأماكن؛ فالأمر ليس بهذه البساطة. قال الشابّ: إنّنا نحتاج للبحث سنتين لنجد مثل هذا الشخص.

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

4
  • فبماذا أجابه العلاّمة؟ انتبهوا لهذا الجواب. قال: «هل يستحقّ الأمرُ أن تبحث عنه؟». إذا كان يستحقّ، فاذهب وابحث، لا سنتين فقط، بل قل عشر سنوات! إذا كان يستحقّ العناء، اذهب وابحث لسنتين، وإن لم يكن يستحقّ، فاذهب واختر عشوائيًّا، أجرِ قُرعةً، فإمّا أن تقع العُملة على هذا الوجه، أو الوجه الآخر، وخذ أيّة رسالة عمليّة، واعمل بها على غير هدى.

  • حقيقة الرجاء: هل هو مجرّد أمل أم سعي وعمل؟

  • إنّ مسألة الرجاء والأمل هي أهمّ مسألة يجب على السالك أن يلتفت إليها، فيلتفت إلى ماذا يريد من الله تعالى؟ هذا هو المهمّ: ما هو أمله؟ [هل هو أن يقول فقط:] «يا ربّ أوصلنا»؟ فيقول له تعالى: «حسنًا، سأوصلك». إن كان الأمر بمجرّد القول، فهذا هو الجواب. أو يقول: «يا ربّ، إنّا قادمون إليك». فيقول تعالى: «أهلاً بك، تعال»! هذا ليس أملاً.

  • أتذكّر في زمن المرحوم الوالد العلاّمة الطهرانّي، ولكي لا تتصوّروا أنّني مستثنى من هذه القاعدة، لا، كنّا نحن أيضًا كذلك، ولنقلها بصراحة تامّة، وإنّما أذكر ذلك من باب عدم الخيانة في نقل المسألة، فنقول الأمر كما هو بصراحة، لعلّ أحدهم يقول: «لقد نجحنا بالصدفة»، أو يقول آخر: «نحن نعمل بما يُقال لنا»، حسنًا جدًا، كنّا نحن أيضًا كذلك. كان المرحوم والدي يبذل جهدًا بليغًا جدًّا في دعوة الناس والشباب إلى المسجد وتربيتهم، حيث كان يحرص على أن يذكر للناس الأبعاد التربويّة والدقائق السلوكيّة في مختلف المواضع إشارةً وكنايةً وتصريحًا، فقد كان هذا دأبه.

  • منهجان في التعامل مع الآخرين

  • ذات مرّة، تحدّثت مع شخص عن رجل آخر، وكان ذلك الرجل عظيمًا أيضًا، وقد توفّي رحمه الله، وكان عالمًا ومتهجّدًا وتقيًّا وفاضلاً ومدرّسًا، ورجلاً نافعًا جدًّا على كلّ حال. قلت لذلك الشخص: «أتعرف ما هو عيب فلان؟ عيبه أنّه لو بقي شخص معه عشر سنوات، لصار ناضجًا من الناحية الفكريّة والعقليّة، لكنّه لن يتغيّر من الناحية التربويّة»؛ أي أنّه لا يهتمّ بالجانب التربويّ للشخص، ولا يسعى لتغيير خصائصه الأخلاقيّة وسلوكه وهيئته ولباسه وتفاصيل حياته ومعاشراته ومظهره وأمثال ذلك، ولا طريقته في العبادة وتنظيم علاقاته. لا يهتمّ بهذه الأمور، فليكن الشخص كما هو.

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

5
  • ولكنّ المرحوم الوالد العلاّمة الطهرانيّ كان عمله هو التربية؛ أي أنّه كان يضع الفرد نصب عينيه من زوايا مختلفة، وبأيّ حال وخصوصيّات ودقائق كان يفعل ذلك! ولذا، كان الإنسان بعد فترة يشعر بأنّه تغيّر، وأنّ تحوّلاً قد طرأ على وضعه.

  • قصة التنبيه اللطيف: كيف يربّي العارف بالإشارة؟

  • أتذكّر أنّنا كنّا في محضرسماحته يومًا، ويبدو أنّ المرحوم الشيخ مطهّري كان قد عاد من سفر، ولا أدري من أين، هل من كربلاء؟ هل من زيارة العتبات؟ فذهبنا لزيارته، وكان ذلك في أيّام الصيف، أواخر شهر خرداد في زمن الشاه. عندما أردنا الذهاب، أبدى أحد أصدقاء المرحوم الوالد ـ كانت له علاقة بالشيخ مطهّري ـ توقّعه بأن يُدعى هو أيضًا للمجيء. فعندما أردنا ركوب السيّارة، جاء ووقف في حالة انتظار أن يقول له سماحته: «تفضّل اركب معنا». ليس من الضروري أن يُدعى، فإن لم يدعُه، فما المشكلة؟ هل يجب أن يدعوه حتمًا؟ يُمكنه الذهاب في اليوم التالي، فربّما يريد سماحته أن يذهب بمفرده.

  • رأى سماحته أنّه واقف في حالة انتظار، فقال له: «إنّنا ذاهبون إلى هناك، فهل تريد أن تتفضّل معنا؟». فجاء وقال: «هل آتي أنا أيضًا؟». فكّر سماحته قليلاً ثم قال: «تفضّل». ذهبنا وجلسنا، وبعد ربع ساعة أو عشرين دقيقة أو نصف ساعة من الحديث، طُرحت بعض المسائل.

  • في ذلك الوقت، كانت قد وقعت أحداث في مدينة قمّ، وهي أحداث ۱٥ خرداد، حيث كانت قمّ مضطربة في زمن الشاه، وكانوا يعتقلون بعض الطلبة ويأخذونهم إلى الخدمة العسكريّة، ويهجمون على مدرسة الفيضيّة. ففي العديد من السنوات التي كنّا فيها هناك، كانت مدينة قمّ تضطرب كثيرًا في ذكرى ۱٥ خرداد، حيث كان المرحوم الوالد قد أتى إليها في ذلك الوقت، وبعد أن اضطربت الأوضاع في تلك السنة، كنّا نتوقّع أن تعتقِلنا الحكومة أيضًا، فمكثنا في المنزل يومين لا نخرج. كان هذا الشخص قد أتى إلى قمّ في ذلك الوقت، ورأى أنّ المرحوم العلاّمة موجود في قمّ، فجاء.

  • عندما دار الحديث، قال سماحته فجأة في وسط كلامه: «نعم، كنّا هناك، وجاء هذا السيّد أيضًا إلى قمّ دون أن يأخذ إذنًا منّا». ثم انتقل فجأة إلى حديث آخر. لقد قال هذا الكلام في وسط حديثه، ثمّ أكمل. قلنا في أنفسنا: «يا لها من غلطة ارتكبناها بمجيئنا». هذه هي طريقة الذين وصلوا إلى الحقيقة، ويريدون ألاّ تضيع حياة من معهم سدى؛ أمّا الآخرون، فلا. كان هناك آخرون يذهبون دون اكتراث، وكان من يُخالطونهم على أيّة شاكلة شاءوا، بحيث لو حلق أحدهم لحيته عشر سنوات، لما قال له: «يا سيّد، لماذا حلقت لحيتك؟». بل كان يقول: «تفضّل، أهلاً وسهلاً». لكنّ المرحوم العلاّمة لم يكن كذلك.

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

6
  • الرجاء في القرآن: دعوة للعمل لا للتمنّي

  • في القرآن الكريم، لدينا آيات كثيرة حول مسألة الرجاء، مثل: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾۱، و ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾٢. من يرجو، أي من يُريد... كنت أريد طرح مسألة معيّنة، ثمّ حدث شيء ما، لكن، لا بأس، سوف أتحدّث عنها.

  • ذكرتُ أنّ المرحوم الوالد كان يولي اهتمامًا كبيرًا... وقد قُلت [في نفسي]: ربّما يُطبّق بعض الرفقاء الأمر على [بعض الأشخاص]، ولكن سأبيّن الأمر بطريقة يكون معها هذا التطبيق بعيدًا بعض الشيء. أتذكّر أنّه كان يأتي ليالي الثلاثاء من منزله في الأحمديّة بتلك الحالة إلى مسجد القائم، وبعد الصلاة، كان هناك درس في القرآن، حيث كانوا يجلسون ويضعون المصاحف على الرِّحال، وكان هو بنفسه يُصحّح الإعراب والتجويد، ثم يُلقي تفسيرًا لمدّة نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة، ويتناول مسائل أخلاقيّة، ويشرح الأحاديث القدسيّة، كالأحاديث السبعة عشر في بحار الأنوار التي تبدأ بـ «يا أحمد» أو «يا عيسى»، فكان يشرحها ليالي الثلاثاء، ولكن للأسف لا يوجد تسجيل أو تدوين لها.

  • عندما كان يأتي ويتحدّث بهذه الطريقة وهذه الكيفيّة، كنّا نرى البعض يأتون في منتصف حديثه، فيسأل أحدهم: «لماذا لم تأتِ؟». فيقول: «يا سيّدي، جاء زبون ولم يتركني، وكلّما أردت المجيء لم يتركني، فتأخّرت». حسنًا، هذا واحد. ويأتي آخر، على سبيل المثال، وقد تأخّر أيضًا، فيقول: «يا سيّدي، علقنا في زحمة السير». مع أنّه لم تكن هناك زحمة سير! وكان البعض يأتي، وما إن يبدأ حديث المرحوم العلاّمة لخمس أو ستّ دقائق، حتّى تبدأ عيونُهم تُغمض شيئًا فشيئًا، وبعد قليل يرتفع صوت الشخير. وكان أحدهم يذهب من البداية ويُجهّز مكانه، فيستند إلى عمود ليستريح جيّدًا، ويستمتع بهمهمة السيّد كأنّها تهويدة٣، فينام نومًا هنيئًا، ليعود إلى منزله نشيطًا. فهذه الأمور كانت تحدث.

  • في أحد الأيّام، كنّا في سفر إلى همدان برفقة المرحوم الوالد، وكان يتحدّث عن هذه القضايا في مجلس يضمّ عشرة أشخاص أو عشرين شخصًا، منهم بعض الأصدقاء من همدان، حيث كنّا نذهب إلى منزل المرحوم الحاجّ بيات رحمه الله مع بقيّة الرفقاء الذين كانوا في ذلك الزمان، وقد تُوفّي معظمهم، وبقي البعض منهم، فكان المرحوم العلاّمة يتحدّث أحيانًا في الليل عن ضرورة أن يكون للإنسان همّة وعمل؛ وحينما أنهى حديثه، جاء ذلك الرجل الذي كان يشخر وجلس بجانبه وقال: «السلام عليكم». فردّ عليه السلام. ثم قال: «يا سيّدي، لديّ سؤال». كنّا أصدقاء نضحك ونتمازح. قال: «يا سيّدي، كم سنة مرّت منذ أن جئنا إليك؟». قال سماحته: «انظروا كم سنة وأخبروه». «عشر سنوات». قال: «حسنًا، ماذا أصبحنا في هذه السنوات العشر؟». كنت جالسًا هناك، فقلت له: «تعال إليّ لأجيبك». لم يقل سماحته شيئًا، بل صمت وأطرق رأسه. قلت له: «تعال لأجيبك. ماذا تريد أن تُصبح؟ لقد أتيتَ عند سماحته بشخيرك طوال عشر سنوات، هل تذكر؟ كنت تذهب وتجلس أمام العمود وتشخر، وفجأة يقول لك السيد: "يا فلان، هل أنت بخير؟" فتطرق رأسك. هل تذكر؟ لو بقيت على هذا الحال مائة عام أخرى، فلن تتقدّم خطوة واحدة. هل أنت راجٍ؟ هل هذا هو حال من يرجو؟ أن يأتي ويستند إلى عمود ويشخر أمام السيّد؟». كلّنا نكذب.

    1. سورة العنكبوت (٢٩) الآية ٥.
    2. سورة الكهف (۱۸) الآية ۱۱۰.
    3. أغنية لإرقاد الأطفال. المعرّب

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

7
  • كيف يربط القرآن الرجاء بالعمل الصالح؟

  • المسألة ليست بهذا النحو. ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾، ماذا تقول الآية بعدها؟ «فَـ...»، ما هذه الفاء يا أهل اللغة العربيّة؟ إنّها فاء التفريع والنتيجة. ﴿فَلْيَعْمَلْ﴾. يجب أن تعمل. «أنا لديّ أمل، أنا سالك»... أنعم به وأكرم! «نحن نأمل أن نصِلَ». تعال، لنرى متى ستصل. لا، هذا لا يجوز. ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو﴾: الذي يرجو. فالمريض الذي يرجو الذهاب إلى الطبيب، ماذا يفعل؟ ما إن يستيقظ صباحًا، حتّى يفتح الباب ويخرج [ويذهب عند الطبيب] قبل أن يذهب لشراء الخبز. هذا الذي أقوله لكم، فقد رأيت أفرادًا بهذه الكيفيّة التي أصفها.

  • لقد رأيت ذلك الرجاء الذي يتبعه ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا﴾، لكنّنا نحن لم نكن كذلك، لذا أقول: نحن نمزح، لم نكن كذلك، فلماذا نكذب؟ نحن على ما نحن عليه. إن شاء الله نأمل أن يصلح الله رجاءنا. ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا﴾، فيجب أن يقوم بالعمل الصالح، وإلاّ، فهو عبارة عن: لا يرجو لقاء ربّه، لا يرجوه. ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ... فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾. ألاّ يشرك. فأنت الذي تقول: «جاء الزبون ومنعني من المجيء»، لقد أشركت، لقد اتّخذت شريكًا. وحينما جاء الزبون، كان عليك أن تُغلق باب المحلّ وتنهض وتأتي. فلو جاءك أحدهم في تلك اللحظة وقال لك: «سيّدي، زوجتك تريدك عند الباب»، هل كنت ستقف أم ستجري؟! ولو قيل لك: «إنّها تريد أن تأخذ ولدك إلى الطبيب»، ماذا كنت ستفعل؟ هل كنت ستبقى لتخدم الزبون، أم كنت ستقول: «طرأ أمر مهمّ»؟ وأمّا الآن، ومن أجل المجيء إلى مجلس السيّد، نجدك تقول: «لقد تأخّرتُ يا سيّدي، عفوًا، لم أوفّق». وأنا أيضًا أعلم أنّك لم توفّق. وتقول: «لم يكن لديّ توفيق»؛ أجل، الأمر هو كذلك. ثمّ نأتي ونقول: «ماذا نفعل يا سيّدي لكي يُحالفنا التوفيق؟». فهل كنّا نقوم بذلك؟ كلاّ، لم نكن نقوم به.

  • ﴿فَلْيَعْمَلْ... وَلَا يُشْرِكْ﴾؛ يجب ألاّ يشرك، ألاّ يشرك في الأفعال، وألاّ يشرك في المبادئ، وألاّ يشرك في النيّة، وألاّ يشرك في القلب، وألاّ يشرك في السرّ.. كلٌّ بحسب مراتبه. فهذا الشخص هو الذي ﴿يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِۦ﴾، وهذا الشخص هو الذي لديه أمل ورجاء؛ فالرجاء ليس كما هو مصطلح بيننا. ما هو الرجاء؟ هو الذي يدفع من يُريد لقاء الله إلى أن يعمل عملاً صالحًا، وألاّ يشرك، وأن يترك الشرك في جميع مراتبه. أمّا إذا قلنا: «نأمل أن تشملنا رحمة الله»، فسيقول تعالى: «حسنًا، ابقَ على أَمَلِكَ حتّى يأتي وقته». أو قلنا: «نأمل أن يأخذ الله بيدنا»، فسيقول تعالى: «اذهب لحال سبيلك، أنت تكذب، وليس لديك أيّ أمل!».

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

8
  • قصص التائبين: كيف يكون الرجاء الصادق سببًا في ضمان الجنّة؟

  • جاء أحدهم إلى المرحوم الوالد العلاّمة وقال: «يا سيّدي، لا ندري ما هو وضعنا، وهل أعمالنا تؤدّي بنا إلى الجنّة أم إلى النار؟». إنّك تكذب، لقد جئت لتخدع السيّد بهذا الكلام، وتريد أن تُظهر نفسك متواضعًا أمام معلّم أخلاق! أ إلى الجنّة أم إلى النار؟ ما هذا الكلام؟ «يا سيّدي، لا نعلم، ادعُ لنا». ندعو لك؟ قدّم استقالتك غدًا، وتنحّ جانبًا، وأنا أضمن لك الجنّة.

  • جاء رجل إلى الإمام السجّاد عليه السلام وقال: «يا سيّدي، لي جار كان من بلاط بني أميّة وبني مروان، والآن قد استولى عليه اليأس تمامًا، ويقول إنّه لا يستطيع النجاة، فقد قُتل الناس بأمره، وصادر الأموال، وأيَّد الظلمة، وكان في بلاطهم». فقال الإمام عليه السلام: «لا، لقد جعل الله سبيلاً». الطبيب هو الإمام السجّاد عليه السلام، وهو وحده من يعرف الطريق ولا أحد غيره. سأله الرجل: «ماذا يفعل؟». قال الإمام: «ليذهب ويردّ الأموال إلى أصحابها الذين يعرفهم، ويدفع الدية لمن يجب عليه دفعها». فقال له: «وإن لم يرضوا؟». قال الإمام عليه السلام: «ليرمِ المال في منازلهم ويأتي». ثمّ قال: «إذا فعل ذلك، فأنا أضمن له الجنّة».

  • فعندما يضمن الإمام السجّاد عليه السلام، فلا يجرؤ ملك من الملائكة أو غيره أن يعترض. ولا يخفى أنّ نظير هذه القصّة حصلت مع الإمام الصادق عليه السلام أيضًا. فجاء ذلك الرجل وفعل ما أُمر به، وردّ جميع أمواله حتّى موارد الشبهة.۱

  • لقد كان صادقًا، وهذا هو معنى ﴿يَرْجُو﴾، وهذا هو الراجي... «إِنَّكَ لِلرَّاجِينَ بِمَوْضِعِ إِجَابَةٍ»، وهذا هو حال الراجين. إن كنت راجيًا، فعلى بركة الله تعالى، انهض وتحرّك، ولا تجلس في بيتك وتقول: «إن شاء الله سيكشف الله الكروب»؛ إذ لن يكشف الله كربتك أبدًا [بهذا النحو].

  • جاء الرجل إلى الإمام السجّاد عليه السلام، فأعطاه وصفة، فذهب ونفّذها، حتّى لم يبقَ له سوى سروال وقميص، والسلام! وقد رأيت نظير هذه القصّة من المرحوم الوالد العلامة الطهرانيّ، وهناك في هذا المجلس من يشهد على ما أقول. فعندما كان يقول: «يجب أن تفعلوا كذا وكذا»، لم يكن يبقى في يد ذلك الشخص شيء في النهاية، فيقول له: «الآن أهلاً بك، تفضّل إن أردت المجيء». وذلك الشخص ذهب وفعل ما أُمر به، ولم يأتِ ليضع استثناءات، ويقول: «لعلّه لم يقصد كذا، بل قصد كذا. حتمًا لم يكن يقصد أن أفعل هذا، فكيف يعقل أن يقول مثل هذا الكلام؟!». اجلس، واخدع نفسك، وإلاّ، فمن تُريد أن تخدع؟! أو يقول: «من المؤكّد أنّه كان يقصد شيئًا خاصًّا من هذا الأمر، ومن المحتّم أنّه إذا أمرني بمنح هذه الأموال لذلك الشخص، فإنّه كان يُريدني أن أساعده قليلاً، وليس بالضرورة أن يكون بذلك المقدار، من المحتّم...». فماذا ستفعل بنا هذه «من المحتّم»؟ في نهاية المطاف، ستجعل الإنسان بائسًا ومسكينًا.

    1. لا يخفى أنّنا لم نعثر على القصّة المرتبطة بالإمام السجّاد عليه السلام؛ ولهذا، اقتصرنا على نقل الحكاية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام في الكافي، ج ٥، ص ۱۰٦:
      علي بن محمد بن بندار، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد الله بن حماد، عن علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني أميّة فقال لي: استأذن لي عن أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت له عليه فأذن له، فلمّا أن دخل، سلّم، وجلس، ثمّ قال: «جُعلت فداك، إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالاً كثيرًا، وأغمضت في مطالبه». فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «لولا أنّ بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفئ ويُقاتل عنهم و يشهد جماعتهم، لما سلبونا حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم، ما وجدوا شيئًا إلاّ ما وقع في أيديهم». قال: فقال الفتى: «جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟». قال: «إن قلت لك تفعل؟».
      قال: «أفعل»، قال له: «فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم؛ فمن عرفت منهم، رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدّقت به، وأنا أضمن لك على الله عز وجل الجنّة»، قال: فأطرق الفتى رأسه طويلاً ثم قال: «قد فعلت جعلت فداك»، قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئًا على وجه الأرض إلاّ خرج منه حتّى ثيابه التي كانت على بدنه. قال: فقسمت له قسمة، واشترينا له ثيابًا، وبعثنا إليه بنفقة قال: فما أتى عليه إلاّ أشهر قلائل حتّى مرض، فكنّا نعوده قال: فدخلت عليه يومًا وهو في السوق، قال: ففتح عينيه ثمّ قال لي: «يا علي، وفي لي والله صاحبك»، قال: ثمّ مات، فتولّينا أمره، فخرجت حتّى دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، فلمّا نظر إلي قال: «يا علي، وفينا والله لصاحبك»، قال: فقلت: صدقت جعلت فداك هكذا والله قال لي عند موته.

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

9
  • كلّ ما أصابنا جاء من هذا الـ «من المحتّم». أمّا ذلك الرجل، فقد ذهب ونفّذ، والإمام السجّاد عليه السلام وفى بعهده. وحينئذ، ماذا سيصير ذلك الرجل؟ سصير من الراجين. فالراجي هو من يأمل ويطلب ويسعى وراء مقصوده، وإلاّ لو تنازلنا عن هذه المرتبة، فما دونها لا يُسمّى رجاءً.

  • لماذا يخطئ من ينكر لقاء الله؟

  • للمرحوم الحاجّ الميرزا جواد آقا الملكي التبريزيّ رسالة بعنوان «رسالة لقاء الله»، وهي رسالة متينة ومفيدة جدًّا، وتحتوي على مطالب متقنة ومحكمة، وقد بيّن فيها مسائل واضحة جدًّا، وهي تحكي عن قلب مليء بالشوق ومتّصل، وعن سرّ مرتبط وعلم نافع ونورانيّ. فالعلم إذا كان نورانيًّا، ظهر بين ثنايا الكلمات، وأمّا إذا كان مظلمًا، فإنّ الإنسان عندما يقرأه لا يستقرّ في قلبه، بل يكون ثقيلاً عليه. هذه الرسالة اسمها «رسالة لقاء الله»، وقد ذكر فيها مسائل كثيرة حول الرجاء والهمّة والرغبة۱، فليقرأها الرفقاء، فإنّها مفيدة جدًّا.

  • هل هناك فرق بين لقاء الله ولقاء الربّ؟

  • ذات يوم، كنّا في مجلس مع المرحوم الوالد، وكان قد بدأ بقراءة «رسالة لقاء الله»، وكان في المجلس حوالي أربعين شخصًا من أئمّة جماعات طهران، كلّهم من المُسنّين. وكان الحديث عن معنى الرجاء بلقاء الله، وما معنى الأمل؟ وهل يمكن في الأساس رؤية الله؟ وهل يأمل الإنسان بذلك؟ وأنّ الرجاء هو أن يسعى الإنسان للوصول إلى نعم الله، ونعم الله في الآخرة معروفة، وجوهرها الذي نرغب فيه جميعًا هو التفاح والكمّثرى وأشياء أخرى يرغب البعض فيها أكثر، لا سيّما العزّاب أو ربّما العكس، فماذا عساي أن أقول؟! قيل: «خُذْ من الجائع وأعط للشبعان».٢ ولا أعلم إلى أيّة درجة يصحّ هذا القانون! 

  • فجأة، اعترض أحد السادة وقال: «هذا السيّد الذي كتب رسالة لقاء الله، نحن في الأساس ليس لدينا في القرآن لقاء الله، وكلّ ما لدينا هو لقاء ربّه، ﴿يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ﴾». حسنًا، حتّى لو لم يكن لدينا لقاء الله، فهل هناك فرق بين الله والربّ؟ فإن كنت تريد أن تستشكل، ولا تريد أن تعمل، بل تريد أن تُبقي الناس في الجهل، وتتظاهر بالنوم والصمم والعمى، فهذا كلام آخر. ولكن حتّى لو لم يكن لدينا لقاء الله، فإنّ "لقاء ربّه" هو "لقاء الله" نفسه. لم يتكلّم أحد، وفجأة، قال المرحوم الوالد وهو جالس: ﴿مَن كَانَ يَرجُو لِقَآءَ ٱللَهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَهِ لَأٓتٍ﴾٣. هؤلاء الأربعون أو الخمسون شخصًا لم يكونوا قد قرأوا هذه الآية في القرآن! فسكت الجميع. فهذا السيّد كان يُكثر الكلام قائلاً: «ليس لدينا لقاء الله، فلماذا كتب هذا رسالة لقاء الله؟ وما معنى لقاء الله؟ هذه أقوال الصوفيّة وبدعهم». أي أنّ الصوفيّة هم من أتوا بها، فنحن ليس لدينا لقاء الله، بل لدينا لقاء ربّه. أيّها الأخرق! ما الفرق بين لقاء ربّه ولقاء الله؟ هل تريد أن تُمارس الألاعيب؟ هل درستَ لكي تُمارس الألاعيب؟ حينئذ، سيقول: «لنفرض أنّه لدينا أيضًا لقاء الله، لكنّني لا أفهم المراد من هذا الكلام». أ لا تفهمه؟ لا ينبغي عليك أن تفهمه! وفي الأساس، من تكون أنت، حتّى تفهمه؟! فهذا الذي يُقال عنه: التظاهر بالنوم! أي أن يتظاهر أحدهم بالنوم، ولا يرغب في الاستيقاظ.

    1. راجع: معرفة الله، ج ٢، ص ۷٣، الهامش.
    2. ترحمة حرفيّة لمثل فارسيّ معناه أنّه بعض الأغنياء تجدهم حريصين أكثر من الفقراء، ويسعون لزيادة ثرواتهم عن طريق سلب أموال المحتاجين. المعرّب
    3. سورة العنكبوت (٢٩) الآية ٥.

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

10
  • نعم يا سيّدي، لدينا لقاء الله: ﴿مَن كَانَ يَرجُو لِقَآءَ ٱللَهِ﴾، لقاء الله وليس لقاء الربّ؛ لأنّ الربّ هو الله نفسه، ولكن في مراتب تربيته. فاللقاء الذي يحصل في مراتب الأسماء والصفات هو لقاء الربّ. وأمّا لقاء الله، فيعني [لقاء] نفس الذات. ومن هنا، فمن يرجو الوصول إلى الذات وعبور مراتب الأسماء والصفات، ﴿فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَهِ لَأٓتٍ﴾، سيأتي وقته، ولكن بشرط أن ﴿يَرْجُو﴾، فيكون لديه رجاء لا يُشبه رجاءنا نحن.

  • شروط لقاء الله: العمل الصالح وترك الشرك

  • ﴿فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَليَعمَل عَمَلاً صَٰلِحًا وَلَا يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾۱. من يريد أن يصل إلى لقاء الله تعالى، يجب أن يعمل عملاً صالحًا، وينبغي أن يكون على يقين من صحّة الخطوة التي يخطوها. فبمجرّد أن يتردّد: «هل أضع قدمي أم لا؟»، فهنا يدقّ جرس الإنذار. «هل أفعل هذا العمل أم لا؟»، هنا يدقّ جرس الإنذار، فهذا العمل ليس عملاً صالحًا. ﴿فَليَعمَل عَمَلاً صَٰلِحًا﴾، و ﴿وَلَا يُشرِك﴾، أي ألاّ يُدخل غير الله في عمله، وأن يجعله وحده نصب عينيه، وألاّ يفكّر في المصالح والمنافع، فيقول: «هنا سأفقد مصالحي، فلأتنازل قليلاً»، فهذا كلّه شرك. وإذا فعلنا ذلك، فلن ننال لقاء الله، بل لقاء نعم الله، وقد تكون نقمًا لا نعمًا.

  • سيحصل اللقاء، ولكنّه لقاء الرئاسة، ولقاء الدنيا، ولقاء الغرق في الكثرات، وهي كلّها مظاهر، ولكنّها مظاهر لم يتعامل معها هذا الشخص من جانب الحُسن، بل من جانب البعد. إنّه يرجو، ولكن ماذا يرجو؟ إنّه يرجو الدنيا، والله يعطيه إيّاها. يقول له: «أنت تقول "الله"، ولكنّك تقصد من ورائه الرئاسة؟ سأعطيك الرئاسة، فاذهب وانظر إلى أين ستصل». تقول "الله"، ولكنّك تقصد المريدين؟ أن يكثر مريدوك؟ أن يأتوا إلى درس أخلاقك لا إلى درس فلان؟ وتقول: «ذاك فلان كذا وكذا، وقد كتب في كتابه كذا وكذا، وكتابه من كتب الضلال، فلا تشتروه ولا تقرأوه، وتعالوا إلى درس أخلاقي أنا، فلدينا كتب أيضًا». لقد قيلت هذه الأقوال، وأنا لا آتي بها من عند نفسي! فيقول الله تعالى: «حسنًا، قل هذا الكلام وسنزيدك بعض المريدين». فيقول الناس: «إنّه يُحسن الكلامَ، ويذكر مسائل نافعة، ويروي حكايات عن الأعاظم، ومجلسه ممتع جدًا». فيرى أنّ أعداد الحاضرين قد زادت، فأصبحوا خمسين ثمّ مائة. لقد خُدع تمامًا! لماذا؟ لأنّه أشرك مع الله الذي كان يدعوه. وما هو الشريك؟ إنّه المريد والمحراب والرئاسة والمحبوبيّة. إنّني أتحدّث بهذا النحو [العامّ]، حتّى لا يمسّ كلامي شخصيّة معيّنة. فإذا لم يكن ذلك الرجل في مدينتك، ولم يكن يضرّ مصالحك، هل كنت ستقول عنه نفس الشيء، أم لا؟ أ فلأنّه جاء إلى مدينتك، وهو صاحب منصب، فإذا أردت أن تتكلّم عنه، فإنّ ذلك سيصل إلى مسامعه، وقد يُسبّب لك في المستقبل مشكلةً؛ ولهذا، فإنّك تمتنع عن الإفصاح عن ذلك الجانب؟! يا سيّدي، عليك أن تتكلّم؛ إذ لو كنت عالمًا بذلك الأمر، لوجب عليك الإفصاح عنه. وحينما يرحل ذلك الرجل، يبدأ الإنسان في الكلام: «أجل، لقد كان فلان كذا وكذا، وكان يُعاني من هذه المشاكل والنقائص وكذا وكذا». حسنًا، لقد كان موجودًا هنا حتّى الأمس، فلماذا لم تقل ذلك؟ فما هي حقيقة هذا الأمر؟ 

    1. سورة الكهف (۱۸) الآية ۱۱۰.

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

11
  • الشرك الخفيّ: كيف يجرّنا حبّ الذات إلى أن نسوق الله إلينا؟

  • إنّ كلّ هذه المسائل تدور حول حفظ المرء لمكانته وشخصيّته. فهو يتأوّل ألف إشكال لو صدر من أحد مريديه، ولكنّه يُكبّر إشكالاً واحدًا لو صدر من غيره حتّى يجعله كالجبل. ويتجاوز من خلال التأويل والتوجيه عن ألف مسألة باطلة إذا صدرت من المقرّبين منه، ولكنّه ما إن يشمّ رائحة الباطل من خصمه حتّى يذيعه في الأبواق. وماذا حدث؟ فهل نزلت السماء على الأرض حينما حصلت تلك المسألة؟ 

  • هذا، مع أنّهم يتحدّثون كلّهم عن الله تعالى، وعن هذا الإله المسكين الذي ألقوا حبلاً حول عنقه؛ فهذا يجذبه إلى هنا وذاك إلى هناك. إنّهم يجرّون إلههم إليهم، مع أنّه لا يُجرّ، ولا أحد يستطيع أن يلقي حبلاً حول عنقه. إنّهم يلقون الحبال حول أعناقهم هم، ويجرّون أنفسهم يمنةً ويسرةً.

  • دائمًا او پادشاه مطلق است‌***او در مقام عزّ خود مستغرق است 
  • او به سر ناید ز خود آنجا که اوست***کی رسد علم و خرد آنجا که اوست۱ 
  • يقول: 

  • هو الملك المطلق دائمًا *** وهو في مقام عزّه مستغرقٌ 

  • لم يزل قائماً بذاته حيثُ كان *** فأنّى للعلم والعقل أن يصلا حيث هو!

  • أنّى لتخيّلاتنا هذه أن تصل إليه، إلى حيث هو! وأنّى أن تصل إليه خيالاتنا وقدراتنا وجذباتنا؛ فترانا نسعى لجذب الله إلى هنا وهناك؛ [فنقول:] هذا هو الإسلام، وهذا هو حفظ الإسلام، وهذا هو الواجب. ثم ينقلب الأمر غدًا، فيصبح ضدّه هو الإسلام. لقد سمعت بنفسي، وقد قلت ذلك للرفقاء مرارًا، أنّ أحد الأشخاص الذين تعرفونهم جميعًا قال في أسبوع: «إنّ هجوم إيران على العراق وتخطّي حدوده حرام». ثم في الأسبوع التالي، جاء نفس الشخص وقال: «إنّه واجب. لقد رأوا المصلحة في ذلك الوقت في دخول الأراضي العراقيّة!». هذا هو جرّ الله، فنلقي الحبل ونجذب. اليوم نجرّه إلى هذا الاتّجاه، وغدًا تقتضي المصلحة أن نجرّه إلى اتّجاه آخر.

  • هؤلاء ليس لديهم رجاء، ليس لديهم رجاء بالله. فنأتي ونتحدّث مع الناس، ونعتلي المنابر ونصرخ: «يا ويلتاه، يجب أن نفعل كذا، الإسلام كذا، عليٌّ عليه السلام كان مظلومًا، لقد حلّ بالإسلام كذا»، ثمّ في أعمالنا وسلوكنا وعلاقاتنا، نفعل عكس ما قلناه على المنبر تمامًا. 

    1.  منطق الطير، بداية الكتاب، اجتماع الطير.

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

12
  • ثمّ نجد أحدهم يقول: «يجب على الإنسان أن يكون صادقًا مع الناس، وألاّ يُبرّر، وألاّ يقول الباطل»، ولكنّ هذا السيّد نفسه يأتي بألف تبرير ليُثبّت أمرًا باطلاً.. نفس هذا السيّد الذي يضع عمامة على رأسه! فما سبب ذلك؟ سببه أنّ الحقيقة التي تقولها على المنبر لا تطرحها كأصل، بل كوسيلة لكسب المال وتمشية أمورك المعيشيّة، فتطرح هذه الأمور بعنوان رفع التكليف. وحتّى لو كان لديك ضمير ووجدان، لقلت كحدّ أقصى: «لقد أمروني بطرح هذه الأمور!»، لكن، إذا لم تطرحها، فما الذي سيحصل؟ يا عزيزي، إذا كنت تتحدّث بهذا الكلام من على المنبر، وجاء عندك أحد من الحضور، وسألك: «هل ستذهب أنت أيضًا؟»، فبماذا ستُجيبه؟ فهل تعمل أنت أيضًا بما تقوله؟ أو يبدأ أحدهم يقول: «على الإنسان أن يصدق في نيته، ولا يكون لديه في ذلك شيء آخر غير الله تعالى، وعليه أن ...» . حسنًا، هذا كلام جيّد، لكن، إن دارت المسألة بين مصالحك ومصالح الغير، هل ستبقى ثابتًا على هذه المسألة، أم ستبدأ نفسُك فجأة باللفّ والدوران، وتبدأ بالتأويل والتبرير؟ وحينما يطرح أحدهم إشكالاً، نسعى للهروب والفرار، لكيلا يبقى أيّ مجال للإشكال؛ لكن، ما هي حقيقة ذلك؟ إنّه كذب بأجمعه، وباطل كلّه!

  • غلام همّت آنم كه زير چرخ کبود***ز هرچه ...
  • يقول:

  • أنا عبدُ همّةِ ذلك الذي تحت هذه القبّة الزرقاء *** من كلّ ما ...

  • ويا له من شعر عجيب حقًّا! رحمة الله تعالى عليه!

  • غلام همت آنم که زیر چرخ کبود***ز هرچه رنگ تعلّق پذیرد آزاد است‌ ۱
  • يقول: 

  • أنا عبدُ همّةِ ذلك الذي تحت هذه القبّة الزرقاء *** من كلّ ما يقبل لون التعلّق متحرّرٌ

  • إنّه متحرّر من كلّ ما يريد أن يربطه بغير الله، ومن كلّ ما يريد أن يوجد نوعًا من الارتباط بين الإنسان والكثرات. إنّه متحرّر من كلّ ما يريد أن يوجّه انتباه الإنسان ولو قليلاً إلى الكثرات، فيقطعه من البداية. وهذا لا يعني أنّه لا يملك شيئًا، غاية الأمر أنّ قلبه غير متعلّق؛ ولهذا، إذا أراد الرحيل، فإنّه سيرحل فورًا، ويقول: «وداعًا، لقد رحلت!»؛ إذ ليس لديه تعلّق. ولو أعطوه الدنيا كلّها، فليعطوها. ولو أخذوا منه الدنيا كلّها، فليأخذوها. ولهذا سبب، لكنّنا سنترك الحديث عن هذا السبب لليلة الغد إن شاء الله إن وفّقنا تعالى.

    1. ديوان حافظ، الغزل ٣۷.

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

13
  • لماذا هو هكذا؟ هل هو مجنون؟ هل ليس لديه إحساس؟ هل الأفكار الموجودة لدى الآخرين ليست لديه؟ هل ليس له قلب أو عواطف أو عقل؟ فالخير خير والجمال جمال والمنافع منافع والمضارّ مضارّ. ولكن لماذا هو هكذا؟ يقول حافظ رحمه الله: أنا عبدُ همّةِ ذلك الذي تحت هذه القبّة الزرقاء، متحرّرٌ من كل شيء يقبل لون التعلّق، ومتحرّر من كلّ ما يأتي ويعمل على فصله، ولو قليلاً.

  • هروب الأولياء من التصدّي للمناصب والمسؤوليّات

  • يقول المرحوم العلاّمة: «ذهبت إلى النجف في أواخر حكومة هويدا ـ رئيس وزراء الشاه ـ عندما عُقد صلح بين إيران والعراق، حيث كان الناس يذهبون لمدّة أسبوعين لزيارة العراق. وبما أنّه كانت لديّ إقامة في العراق، فقد استطعت البقاء هناك أكثر من شهر، فذهبت إلى هناك للحديث مع السيّد الخوئيّ حول مسألة الهلال واتّحاد الأفق. فقيل لي إنّه في الكوفة في منزله، ويبدو أنّ ذلك كان في الصيف. ذهبت إلى هناك، فرأيت أنّه لا يمكنني الحديث معه؛ فهو أوّلاً ليس في حال يسمح له بالحديث، وثانيًا، وصلته رسائل كثيرة جدًا حتّى إنّه كان ضائعًا بينها، ينظر إلى هذه الرسائل وتلك المسائل. جلست، فرفع رأسه وقال: "أهلاً يا سيّد محمد حسين، السلام عليكم. أين أنت لتأتي وترى حالنا؟ لقد ذهبتَ وارتحتَ"». ثمّ يقول المرحوم الوالد: «رأيت أنّه لا يمكنني الحديث معه في هذه القضيّة، فذهبت إلى السيّد علي السيستانيّ، حيث كنّا زملاء في المباحثة، وقلت له: "اذهب أنت وناقش معه هذه القضيّة"».

  • ثمّ قال: «عندما خرجت من منزل السيّد الخوئيّ، ذهبت إلى مسجد الكوفة، ووقفت في المحراب الذي ضُرب فيه أمير المؤمنين عليه السلام، وصلّيت ركعتين وقلت: "يا ربّ، إذا كان مقدّرًا لي أن تُصيبني بهذه البليّة في آخر عمري، فاقبض روحي الآن"». حسنًا، هذا لكي لا نتصوّر أنّنا نبدأ في التبرير، ونقول: «هذا عمل بالتكليف، وهذا تصدٍّ للجواب عن أسئلة المسلمين»، فلا نخدع أنفسنا. هل ذلك الشخص الذي هو الآن مشغول بهذه المسائل، هل علاقته بالمبدأ [أي الله تعالى] قائمة؟ لو كانت قائمة، لما قال: «يا سيّد محمد حسين، لقد ذهبت وارتحت، ونحن ابتُلينا بهذه البليّة». وذلك السيّد الذي ذهب إلى مسجد الكوفة وصلّى ركعتين، فَهِم القضيّة؛ إذ لم يكن طفلاً ولا رجلاً عامّيًا، بل كان عارفًا، والعارف يفهم حقيقة المسألة.

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

14
  • كيف يقابل الله رجاء الصادقين وخداع الكاذبين؟

  • فإذا كان لهذا الشخص هكذا رجاء، فإنّ الله أيضًا سيكون له «بِمَوْضِعِ إِجَابَةٍ». لماذا؟ لأنّه يقول الصدق، ويثبت على كلامه. فما دمت تثبت على كلامك، فنحن أيضًا سنثبت على كلامنا، وإن كان لديك رجاء، فسيكون لدينا أيضًا موضع الإجابة. وأمّا إن لم يكن لديك رجاء، فسنوقعك في الفخّ، وكلّما وضعت قبّعة على رأسك،۱ وضعنا فوقها قبّعة أخرى، وأعطيناك القدرة على تحمّل ثقل هذه القبّعات، وهذا هو المثير للاهتمام! فهذه القبّعات ثقيلة وتهدّ الظهر، ولكنّه يعطيك القدرة على تحمّلها حتّى لا تتخلّى عن الحمل وتوصله إلى مبتغاه.

  • ثمّ يضع قبّة أخرى على رأسه، ويتقلّد منصبًا آخر، فيمنحه القدرة على التحمّل، ثمّ يتقلّد منصبًا أخر، فيُعطيه مرّة أخرى القدرة على التحمّل.. هل تُصدّقون ذلك؟ فيا لها من نفس يمتلكها! حيث نجده يتقلّد ستّة مناصب، ومع ذلك يبحث عن ثمانية مناصب أخرى! ما الخبر يا عزيزي؟ فنراه يقول: «كلاّ، ينبغي العمل بمقتضى التكليف!»؛ أجل، سوف تموت وأنت تقول: «ينبغي العمل بمقتضى التكليف!». لماذا حينما يتعلّق هذا المنصب بشخص آخر، فإنّك تسعى لاستخراجه من حلقومه، لكن، حينما يصل الدور إليك، تقول: «ينبغي العمل بمقتضى التكليف!»؟! حينئذ، سيقول الله تعالى: «لا بأس، سوف نعطيك القدرة على التحمّل»، ومع كلّ تحمّل يعطيه، يُلقي غفلة فوق غفلة. فلو لم يكن لديه تحمّل لانتبه ورنّ جرس الإنذار، ولكنّ الله يعطيه التحمّل وجاذبيّته، فتأتي الغفلة فوق الغفلة، وفجأة يرى الإنسان أنّه لا يستطيع الخروج [من ذلك المنصب]. ومع كلّ هذا، لو وفّقه الله، لاستطاع الخروج، ولكنّه يسلب منه هذا التوفيق، فيبدأ بالتبرير: «لم يعد ممكنًا يا سيّدي، لقد فات الأوان بالنسبة لنا، فأدرك نفسك أنت».. ما معنى «أدرك نفسك أنت»؟! أدرك أنت أيضًا نفسك! فما معنى: «لقد فات الأوان»؟!. 

  • لقد بقي من عمر الحُرّ ساعة واحدة، وماذا فعل في تلك الساعة؟ أدرك نفسه! لكنّك تعمل على خداع نفسك، وتخدع نفسك في هذه اللحظة بعينها، وتقول: «لقد فات الأوان بالنسبة لنا، فأدرك نفسك»، فتكذب؛ إذ لا معنى لهذا الكلام. فلو بقيت من عمرك دقيقةٌ واحدة، فإنّ الله لا يزال موجودًا في تلك الدقيقة، وستّون ثانية هي لك من الله في هذه الدنيا، في حين أنّ ثانية واحدة تكفي يا عزيزي، وستّون ثانية هي كثيرة جدًّا!

    1. وضع القبّعة على الرأس كناية في اللغة الفارسيّة على الخداع؛ ومراده هنا: كلّما خدعتَ نفسَك. المعرّب

الرجاء الصادق: بين العمل الصالح والأمل الكاذب - قصص من حياة العارفين في مواجهة الشرك الخفيّ والتسويف

15
  • نأمل أن ينبّهنا الله ـ إن شاء تعالى ـ إلى تكاليفنا، وأن يأخذ بأيدينا، وألاّ يتركنا في وادي الجهل.

  •  

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد