المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1422
التاريخ 1422/09/28
التوضيح
ما هو المعنى الحقيقيّ لرجاء الله وانتظار الفرج؟ هل يقتصر على الدعاء والطقوس، أم أنّه منهج حياةٍ كامل؟ ما هو السرّ الذي جعل أمير المؤمنين عليه السلام يبلغ ما بلغ من العظمة؟ وهل كانت عبادته هي السبب الوحيد، أم أنّ هناك بُعدًا آخر يتعلّق بالتسليم المطلق والصبر على ما لا يُطاق؟ كيف ينبغي للمؤمن أن يعيش حياته اليوميّة ليكون منتظِرًا حقيقيًّا ومستعدًّا للقاء الإمام المهديّ عليه السلام في أيّ لحظة؟ ولماذا قد يأمر المربّي العارف تلميذه بترك المستحبّ أحيانًا؟ يُجيب سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ في هذه المحاضرة العميقة عن هذه الأسئلة، مُقدّمًا رؤية عرفانيّة أصيلة لمعنى السير والسلوك إلى الله.
هوالعليم
الانتظار الحقيقيّ للفرج
ما الذي جعل عليًّا عليًّا عليه السلام؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٢ هـ - الجلسة الرابعة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيم
وصلَّى اللهُ عَلَى سيّدنا ونبيّنا أبي القاسمِ ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرين
واللَّعنةُ الدائمةُ عَلَى أعدائِهِم أجمَعينَ.
حقيقة الرجاء: هل يكفي الأمل للوصول؟
«وَأعلَمُ أَنَّكَ لِلرَّاجِينَ بِمَوضِعِ إِجَابَةٍ، وَلِلمَلهُوفِينَ بِمَرصَدِ إِغَاثَةٍ».
أي أنّ توصّلتُ إلى هذه الحقيقة يقينًا، وهي أنَّك يا ربّ قد جعلتَ للراجين مقامًا للإجابة، وأنَّك ستغيث الذين استولى عليهم اليأس وخبت فيهم شعلة السعي نحو المطلوب.
لقد بيّنا للرفقاء في الليالي الماضية بعض المسائل حول حقيقة الرجاء، وأنّها تلازم الطلب والسعي؛ فالذي يرجو شيئًا ولا يسعى في طلبه ليس براجٍ، بل هو كاذب في ادّعائه. فالذي يأمل أن يتشرّف بزيارةٍ ما، ينهض ويسعى لتهيئة مقدّماتها، أمّا إذا ما جلس في منزله وقال: «إن شاء الله، قسم الله لنا ما فيه الخير»، حسنًا، لقد قسم الله لك الخير، فانهض واخرج من بيتك. ولكنّه يعود ليقول: «لا! سأنتظر ما يقسمه الله لي!»، فهذا لا يملك رجاءً حقيقيًّا.
ولكنّ هذا الإنسان نفسه، لو أراد تحصيل ألفي تومان، لما جلس في بيته قائلًا: «سيقسم الله لي رزقي»، بل ينهض ويخرج من بيته. ولو جلس يومين في بيته ورأى جيبه قد فرغ، ففي اليوم الثالث، سيضطرّ للخروج من بيته مُكرَهًا وهو يتذمّر ويصرخ ـ لا قدّر الله لأحدٍ ذلك ـ نعم، سيخرج كالبرق وهو يصرخ ويولول: «يا ويلتاه! ليس لدينا خبز! يا ويلتاه! ليس لدينا لحم! يا ويلتاه! ليس لدينا مال!»، وهناك من يقول له: «أهكذا يكون الرجال؟ ألا تخجل من نفسك؟... لماذا تزوّجت أصلًا؟»، من هذه الكلمات التي تُنقل إلينا بين الحين والآخر! إن شاء الله يكون كلّ هذا من باب المزاح لا الجدّ! لكنّه لو استمرّ في الجلوس في بيته قائلًا: «سأجلس، وإن شاء الله سيرزقني الله»، فلن يحصل على شيء، هنا سيُرغم على الخروج من بيته بأيّ شكلٍ من الأشكال، فالإجبار يخرج الإنسان من حالته تلك في نهاية المطاف، ولا مفرّ من ذلك.
غربة العرفان في الحوزة
لقد تذكّرتُ الآن قضيّة، ولا أدري هل ذكرتها للرفقاء أم لا. عندما كان المرحوم العلامة في النجف، كان له وضعٌ خاصّ؛ إذ لم يكن يتقاضى راتبًا شهريًّا من مراجع النجف، لم يأخذ منهم درهمًا واحدًا. وفي تسجيل صوتيّ له، قال فيه: «في ذلك الوضع الذي كنت فيه، وقد اشتهرت بالعرفان والذّكر وأمثال ذلك، لو كنت آخذ الراتب الشهريّ من المراجع لقطعوه عنّي يقينًا»، هذا نصّ كلامه وهو موجود حاليًا، فهل اتّضح الأمر؟! أي بتهمة اتّباع العرفان، والاشتغال بالنفس، فهذه جريمة! لو أنّ امرءًا قضى ليله ونهاره في الهراء والثرثرة والغيبة والبهتان، لكان الأمر عاديًا... نعم، كان المرحوم الوالد يلتزم الصمت كثيرًا في ذلك الزمان... فلا مشكلة لو مرّت عدّة أشهر في البهتان والغيبة والنميمة، والسعي بالوقيعة بين الناس، والعمل بخلاف الشرع، فكلّ هذا لا إشكال فيه، وسهم الإمام عليه السلام يكون في هذه الحالة أحلّ من حليب الأمّ.
ولكن، لو أراد إنسانٌ أن يشتغل بنفسه، بذكره وبفكره وبمراقبته، وألاّ يجلس مع أيّ كان، وألاّ يتكلّم مع أيّ شخص، وأن ينشغل بأموره الخاصّة، وألّا يقضي أوقاته في البطالة، فهذا الإنسان صوفيّ، ودرويش، ومهدور الدّم، ويجب قطع راتبه، وطرده، وتطهير الحوزة من وجود أمثاله. هذه الأمور التي أذكرها لكم هي قضايا وقعت فعلًا فلا تتعجّبوا منها، والحمد للّه.
في النهاية، هناك أميرٌ للمؤمنين عليه السلام يصبر يومًا أو يومين، لكن عندما ينفد صبره، فبالسيف نفسه الذي شطر به عمرو بن عبد ودّ نصفين، وبالسيف نفسه الذي أردى به مَرْحَبًا الخيبريّ، بذلك السيف نفسه يضرب حوزة النجف ويقلبها رأسًا على عقب، ولا يُبقي فيها ديّارًا. إلى متى؟ إلى أن يأتي هو بنفسه بتلامذة من الذين يريدهم، ومن الذين يرضى عنهم، ومن الفضلاء والتلامذة الذين يأتون ليروّجوا لأمير المؤمنين عليه السلام لا لأهواء النفس. يأتون ليشرحوا للناس عن أمير المؤمنين عليه السلام بقدر سعتهم وفهمهم. فمن ذا الذي يستطيع أن يشرح عن عليٍّ عليه السلام؟ من يستطيع أن يبيّن حقيقة أمير المؤمنين عليه السلام؟ لا يبقى للإنسان شيءٌ سوى الحسرة والخسران. تظلّ الحسرة تلازم الإنسان ويتساءل: هل هذا ممكن؟ هل هذا ممكن؟
ما الذي جعل عليًّا عليه السلام عليًّا؟
منذ فترة، جاءني أحدهم يشكو من بعض مشاكله العائليّة... قائلًا إنّ روحه قد بلغت الحلقوم، ونفد صبره. وفي أثناء حديثي معه، قلت له: «انظر يا عزيزي، على قدر ما تدفع من مال، تأخذ من طعام. إن كنت تتوقّع أن تجلس على ضفّة نهر، على أريكة مريحة، وتحيط بك الملائكة المقرّبون والغلْمان والحور العين يهفُّون عليك بالمراوح، وكلّ بضع دقائق يقدَّم لك إناءٌ من شرابٍ لذيذ، ويُكرمونك بأصناف الفواكه، وفي الوقت نفسه تصلّي صلاة الليل، وتذكر الله بـ "يا الله" و "يا هو" وذكر السجدة اليونسيّة وغير ذلك، وتظنّ أنّك ستصل بهذه الطريقة، فهذا لا يكفي». قلت له: «لقد سمعنا بأمير المؤمنين عليه السلام، ولكنّنا لم نسمع كيف أصبح هذا الأمير عليًّا، أو سمعنا ولكن لم نلتفت». قلت: «هل تعلم لماذا أصبح أمير المؤمنين عليه السلام عليًّا؟».
لا أريد أن أتحدّث عن صلواته ونحيبه وبكائه في بساتين النخيل، والتي يروي عنها أبو الدرداء فيقول: «جئتُ ليلاً فسمعتُ صوتًا في بستان النخيل، فتحرّكتُ وخرجتُ، وواصلتُ المسير حتّى رأيتُ أنّه عليٌّ عليه السلام يصلّي ويناجي ربّه، ويتضرّع إليه. وفجأةً، صاح صيحةً وسقط مغشيًا عليه، فذهبتُ إليه فوجدتُ جسده باردًا كقطعة خشب يابسة لا يتحرّك. فأتيتُ عند طلوع الفجر إلى باب بيته، وطرقتُ الباب فخرجت فاطمة الزهراء عليها السلام، فقلتُ لها ما حدث، فقالت: هذا دأبه كلّ ليلة، وليس الأمر مقتصرًا على هذه الليلة»۱. لا أريد أن أقول إنّ هذه الأمور لم تكن مفيدةً لأمير المؤمنين عليه السلام.
هذه الأمور محفوظة في مقامها، ولكن ما جعل عليًّا عليًّا لم يكن مجرّد هذه الصلوات وحدها. ما جعل عليًّا عليًّا هو أن يجلس ويرى زوجته تُقتَل أمام عينيه، ولا يكون مأمورًا باستلال السيف، بل مأمورًا بالسكوت. هذا هو الذي يصنع عليًّا. ذاك عليٌّ الذي أمسك برقبة خالد بن الوليد بإصبعين لا أكثر، هذين الإصبعين فقط، وكاد أن يخنقه في مسجد المدينة، هذا نفسه يرى أولئك الاثنين يأتيان إلى باب بيته ويضرمان النار فيه، فما قيمتهما؟ ما مكانتهما؟ فجلس صامتًا ولم يقل شيئًا. ليس هذا فحسب، بل وضعوا الحبل بعد ذلك في عنقه وجرّوه. فهل يمكنكم أصلًا تصديق هذا؟! هل يمكنكم تصديق أمرٍ كهذا، أن يأتوا ويفعلوا ذلك وهو ينظر إليهم هكذا؟
يا رجل، افعل شيئًا! لا، لم يكن مأذونًا له. ولكن في الموضع المناسب، يختلف الأمر. فعندما توفّيت السيّدة الزهراء عليها السلام، استيقظ فجأةً عرقُ التديّن والقرابة من رسول الله صلّى الله عليه وآله في عمر، وتذكّر أنّه من أقرباء النبيّ، وأنّه حمو رسول الله... فقال: «ماذا حلّ بفاطمة؟»، قيل له: «لقد دفنّاها وانتهى الأمر». فقال: «ماذا؟ دفنتموها دون إذني؟ كان يجب عليّ أن آتي وأصلّي عليها». أنت الذي ضربتها وقتلتها، والآن تقول سآتي لأصلّي عليها؟!
جاء إلى قبرٍ وهميٍّ كانوا قد أعدّوه في مقبرة البقيع، وقال للناس: «احفروا هذا القبر وأخرجوا الجنازة، فأنا خليفة المسلمين وأريد أن أصلّي عليها! لقد دُفنت خطأً، وهذه الأمور لا تجوز، هل تُدفن ابنة رسول الله صلّى الله عليه وآله ونحن لا نصلّي عليها؟!». فجاء أمير المؤمنين عليه السلام ووقف هناك، ووضع سيفه على الأرض وقال: «من كان يستطيع فليأتِ وليخرجها». فكم فردًا تقدّم؟ تراجع الجميع. فلماذا لم يفعل الشيء نفسه عند باب بيته؟ قال: «من يستطيع فليأتِ ويحفر هذا القبر». أو عندما أرادوا أن يأخذوا منه البيعة، لماذا لم يأتِ بسيفه ويضعه عند باب مسجد المدينة ويقول: «فليأتِ من يستطيع أن يدخل هذا المسجد»؟ كان يستطيع، لا أنّه لم يكن يستطيع، بل كان يستطيع ولكنّه لم يفعل. هذا هو الذي جعل عليًّا عليًّا. هل اتّضح الأمر؟
لو أصابنا جزءٌ من مليار جزء ممّا أصابه، لحاولنا أن نقلب العرش والكون والملك كلّه رأسًا على عقب. ولقلنا: ماذا فعلنا نحن؟! أيّ شيءٍ صدر منّا؟! وأيّ أمرٍ تحقّق على أيدينا؟!
ثمّ كانت هناك أمور أخرى، ومسائل الأخرى، وأعمال أخرى، وهي أمورٌ لا يمكن للناس استيعابها ولا تصديقها، بل إنّهم من شدّة العجب وعدم التصديق، يرفضون الحقيقة التاريخيّة من أصلها!
قصّة زواج أمّ كلثوم: قمّة التسليم الإلهيّ
إنّهم يرفضون القضايا من أصلها. جاء عمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وكم كان عمره آنذاك؟ كان في الستين من عمره، رجلٌ في الستين، وفي ذلك الوضع وتلك الظروف، جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقال: «يا علي، يجب أن تزوّجني ابنتك أمّ كلثوم». رجل في الستين من عمره، بلحية بيضاء ـ ودع عنك سائر أموره ـ يقول: «يجب أن تعطيني ابنتك هذه». تلك الابنة التي قتل هذا الرجل أمّها! هل يمكن تصديق شيء كهذا أصلًا؟ فقال له الإمام عليه السلام: «إنّ هذا لا يمكن أن يحدث، كيف أعطيها لك؟ هي لا تقبل أصلًا». فقال: «لا أفهم هذا الكلام، يجب أن تقنعها». قال الإمام: «وماذا لو لم ترضَ؟». فقال: «رضيت أم لم ترضَ، إمّا أن تزوّجني إيّاها، وإلّا سأتّهمك بالسرقة غدًا، فتقطع يدك»۱.
وهنا، ما الذي حدث؟ نشأت قضيّة أخرى. كان بإمكان أمير المؤمنين عليه السلام مجدّدًا، عندما يعلن عمر ذلك غدًا، أن يستلّ سيفه ويضعه على الأرض ويقول: «حسنًا، فليتقدّم الآن من يريد أن يقطع يدي». هل كان يستطيع ذلك أم لا؟ حينها، دعنا نرَ من كان سيجرؤ على مجرّد النظر إليه شزرًا، ناهيك عن التقدّم! كانوا سيقومون ويذهبون للمراقبة من على بعد كيلومتر واحد بالمنظار، ولن يجرؤوا على الاقتراب خوفًا... ولكنّ أمير المؤمنين عليه السلام هنا كان يجب عليه أن يصمت.
هذه القضيّة من الغرابة والوقاحة والعار بمكان، بحيث إنّ الناس اليوم لا يستطيعون قبولها، فيقولون: «هذه القضيّة كاذبة». إنّها قضيّة تاريخيّة. وسمعتُ أنّ الكثيرين ممّن لا يستطيعون إنكارها يقولون: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام حوّل جنّيّة إلى صورة ابنته وزوّجه إيّاها». جنٌّ وجنّيّة! أن يحوّل جنّيّة ويزوّجها ليس بُطولة، هذا ليس فنًّا. أن يأتي بجنّيّة ويزوّجها له ليس بطولة. أصلًا، كان بإمكان أمير المؤمنين عليه السلام أن يخلق إنسانًا ويقول له: «خذها». فماذا نعرف نحن؟ أو أن يتصرّف بألف طريقة، أو أن يمحو هذه القضيّة من ذهن هذا الرجل، ألم يكن قادرًا على ذلك؟! هذا أقلّ ما يمكنه فعله، فالجميع يفعلونه. حتّى صبيان هذا الطريق يستطيعون فعل ذلك، فهذا ليس بالأمر المهمّ. أن يُخرج محبّةً أو يَنزع ميلًا من شخصٍ ما، لهو أمرٌ بسيط جدًّا. ولكنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يجب عليه أن يصمت هنا، وأن يرى ما يحدث... نعم، يأتون ويأخذونها، ويأتون ويقطعون يده لو لم يعطه أمّ كلثوم. وقد تزوّجها وأنجبت منه ولدًا اسمه زيد، زيد بن عمر، وهو حفيد أمير المؤمنين عليه السلام نفسه.
نحن نسمع شيئًا فنقول: «ما شاء الله، كم كان عليٌّ عظيمًا! كم كان متفانيًا! كم كان طيّبًا!». ولكن لو أردنا أن ندخل في صلب الموضوع قليلًا ونتقدّم في المسألة، لقلنا: «يا سيّدي، لا نريد هذا أصلاً، لا نريد أن نقترب من هذه القضيّة ولا أن نتقدّم فيها».
ما هو المعنى الحقيقيّ لانتظار الفرج؟
فالرجاء يجب أن يكون مقرونًا بالعمل، وهما متلازمان. فالإنسان الذي يرجو، هو من يسعى وراء مطلوبه. لماذا ورد في الروايات أنّ في انتظار الفرج ثوابًا عظيمًا؟ أو في بعض الروايات: «أَفضَلُ أَعمَالِ أُمَّتِي انتِظَارُ الفَرَجِ»۱. إنّ أفضل عمل يمكن لشيعيٍّ أن يقوم به في زمن الإمام المهديّ عليه السلام هو انتظار الفرج. فما معنى انتظار الفرج؟ هل هو أن نقيم دعاء كميل ليالي الجمعة ونقول: «يا بن الحسن، عجّل على ظهورك»؟ هل هذا هو؟ ثمّ عندما نخرج من المسجد، نسير في الشوارع ونفعل ما يحلو لنا؟ هل هذا هو انتظار الفرج؟ هل انتظار الفرج هو أن نذهب صباحًا لنقرأ دعاء الندبة ونرفع أصواتنا بالبكاء والنحيب: «يا بن الحسن! عجّل على ظهورك! يا حجّة بن الحسن! أين أنت؟ تعال وانظر إلى عشّاقك كيف يضجّون»؟ ثمّ عندما نذهب إلى أعمالنا، نتّهم هذا وذاك بألف تهمة؟ فهل هذا هو انتظار الفرج؟ هل انتظار الفرج هو أن نأمل بمجيء إمام الزمان عليه السلام، ويبقى هذا الأمل مجرّد خاطرة في أذهاننا لا تترك أيّ أثر في أعمالنا؟
لقد قلتُ مرارًا لهؤلاء الرفقاء والأصدقاء، عندما يأتون ونعقد لهم عقد الزواج، ويطلبون منّي ـ إن كنتُ في حالٍ تسمح بذلك ـ أن أقدّم لهم نصيحة لبضع دقائق حول حياتهم، كنتُ أقول لهم هذا الكلام وما زلت أقوله للجميع: «رتّبوا حياتكم بحيث لو جاء إمام الزمان عليه السلام الآن، وضغط على جرس بابكم وقال: "السلام عليكم، أريد أن أدخل لأشرب الشاي لبضع دقائق"، أن تكونوا في وضعٍ يسمح لكم باستقباله». لا أن يكون التلفاز مشتعلًا وصوت الموسيقى يملأ المكان، ثمّ ندعوه قائلين: «تفضّل، اجلس واشرب الشاي مع هذه الموسيقى». إنّ إمام الزمان عليه السلام لن يضع قدمه في مثل هذا البيت ولو بعد مائة عام. لا أن يدخل المنزل فيرى بساط الشطرنج مفروشًا وهم يلعبون القمار، ثمّ يقول الإمام: «سأشارككم وأكون اللاعب الثالث»، أليس كذلك؟ الحمد للّه، كلّ شيء أصبح على ما يرام.
لنفعل ما يجعلنا إذا جاء وقال: «أريد أن آتي...، لقد اشتاقت نفسي اليوم لزيارة منزلكم». أليس كذلك؟ كيف حالكم؟ يريد أن يأتي ويزوركم، ويسألكم: «ماذا تدرسون؟ مع من تباحثون؟ متى تنامون؟ متى تستيقظون؟ ماذا تأكلون؟». فقد يشاء إمام الزمان عليه السلام ذلك في أيّ وقت، ولا يمكن ردّه، أليس كذلك؟ يجب أن نكون في وضعٍ لا نخفض فيه رؤوسنا خجلًا، بل نقول له: «تفضّل، البيت بيتكم، شرّفونا، فدخولكم يبارك المنزل، تفضّلوا».
تذكّرتُ الآن قصّة... لئلّا أنسى هذه القضيّة التي أردتُ قولها، فأحيانًا أنسى ما أريد قوله في مكان ما.
قصّة السيّد القاضي ورسالة أمير المؤمنين عليه السلام
كان المرحوم الوالد يروي أنّ الشيخ عباس القوجاني، أستاذه، كان يقول: «في أحد أيّام النجف الحارّة، كان الجوّ حارًّا جدًّا، وكان المرحوم السيّد علي القاضي في منزله. وكان المرحوم القاضي حسّاسًا جدًّا من الحرّ، وكان دائمًا يخرج بملابس خفيفة جدًّا، فقد كان الحرّ يزعجه كثيرًا. وبينما هو جالس حوالي الساعة الواحدة ظهرًا، سمع فجأةً طرقًا على بابه. فذهب الرجل العجوز ليفتح الباب، فرأى الحاج رجب علي الخيّاط ـ والذي كُتبت عنه كتب، وكان رجلًا صالحًا، من أهل الذكر والمراقبة... لكنّه لم يكن من أهل العرفان ـ وقد أتى مستعجلاً. فقال له: «تفضّل، تفضّل». فسأله: «ما الأمر؟ ما الخبر يا حاج رجب علي؟» ـ وكان الحاج رجب علي يزور المرحوم القاضي أحيانًا ـ فقال: «كنتُ الآن في الحرم، وقد دعاك أمير المؤمنين عليه السلام إلى هناك، إنّه يريدك في الحرم، وقد أتيتُ الآن لأبلغك». فقال المرحوم القاضي: «وهل يخرج أحد في هذا الحرّ؟ اذهب وقل لأمير المؤمنين عليه السلام إنّ الجوّ هناك حارّ جدًّا، فليتفضّل هو بالمجيء إلى هنا، فلدينا سرداب ومكان بارد وماء للشرب. فاذهب وقل لأمير المؤمنين عليه السلام أن يأتي». فوقف الرجل مبهوتًا يتساءل: «ماذا يقول هذا؟». فقال السيّد القاضي: «قلتُ لك اذهب وأبلغه! ألم تأتِ برسالة؟ فاذهب وأوصل رسالتي أيضًا، قل له: يا عليّ، هنا أبرد من هناك!». فذهب الرجل المسكين».
ما هو انتظار الفرج؟! أتعلمون ما هو انتظار الفرج؟ انتظار الفرج هو أن نتصوّر أنّ إمام الزمان عليه السلام يسير بجانبنا في كلّ خطوة نخطوها. من يجلس بجانبي الآن؟ يجلس فلان عن يميني، وفلان عن يساري، وأمامي يجلس الرفقاء والأصدقاء جميعًا. انتظار الفرج هو أن أعلم، وأنا أتحدّث معكم الآن، أنّني أقول هذا الكلام بحضور إمام الزمان عليه السلام وبجانبي. هذا هو انتظار الفرج. لا أن أتكلّم بما يحلو لي عندما يكون الإمام غائبًا، ولكن بمجرّد حضوره أجلس بأدب وأغيّر طريقة خطابي...
في أحد الأيّام، كنّا في حضرة المرحوم الوالد العلامة الطهراني، وكنّا ـ كما تعلمون ـ قليلي التربية، لا نملك شيئًا، والله يتوقّع من كلّ امرئٍ بحسبه، وإن شاء الله يغفر لنا. كنّا نجلس تحت كرسيّ التدفئة۱، وجرى الحديث عن الظهور وأمثال ذلك. فالتفت إليّ المرحوم الوالد وقال: «لو ظهر إمام الزمان عليه السلام، كيف ستتعامل معه؟». قلت: «تمامًا كما أتعامل معكم الآن، وكما أجلس هنا سأجلس هناك بنفس الطريقة». نحن قليلو التربية كما قلت! فضحك المرحوم الوالد بصوتٍ عالٍ، ولم يجبني بشيء، لا أدري هل أيّدني أم لم يؤيّدني؟ ماذا فعل؟ حسنًا، هكذا كنت أعتقد، وهكذا أعتقد الآن. نحن قليلو الأدب ومتجاسرون، وكلّ إنسان يجب أن يراعي الأدب.
إنّ شيعة إمامِ الزمان هم الذين لا يختلف عندهم الذهاب إلى الفراش، أو الاستيقاظ للصلاة، أو الذهاب إلى الدرس، أو الذهاب إلى المكتب، أو الذهاب إلى الحجرة، أو الذهاب إلى السوق، أو الذهاب إلى الشارع. هذه هي المسألة. فلو كان إمام الزمان عليه السلام في منزلك الآن، أو قال إنّه يريد أن يأتي إلى منزلك، بل قال: «لقد أخذتُ إجازة لمدّة شهر مع زوجتي وأطفالي وأريد أن آتي وأقيم في بيتكم». هل تقولون له: «تفضّلوا»؟ فيقول الإمام: «أين نذهب؟». تقولون: «تفضّلوا هذه الغرفة وهذه احتياجاتكم، تفضّلوا بالإقامة هنا...». هل بوجود إمام الزمان عليه السلام الذي نراه في بيتنا وبجانبنا، نفتح المذياع على موسيقى صاخبة؟ هل نفعل ذلك حقًّا أم لا؟ نقول: «لن نفعل ذلك بعد الآن».
أم هل ـ على سبيل المثال ـ نصرخ ونطلق العنان للصياح في المنزل في غير محلّه، وننخرط في أمور باطلة؟ هل نصرخ دون سبب ـ لا سمح الله؟ هل نتعدّى على الآخرين دون وجه حقّ ـ لا سمح الله؟ هل نفعل ذلك؟ لا نفعل ذلك. أو على سبيل المثال، بالنسبة للصلاة، هل نؤخّرها ونقول: «لا يزال هناك بضع دقائق حتّى شروق الشمس...»، أم نقول: «لا، إمام الزمان عليه السلام في هذه الغرفة، إنّه يرانا، فلننهض بسرعة»؟ ألا نقول ذلك؟! بلى، نقول ذلك، فهو في الغرفة المجاورة، ولن نقول إنّه لا يرانا، بل على العكس نقول: «إن شاء الله لا ترانا!» لا، بل نحن نقبل بهذا القدر، ونحترم إمام الزمان عليه السلام بهذا المقدار، ونقول إنّ ما يفصلنا عنه هو جدار واحد فقط.
الإمام الحقيقيّ أم الإمام المزيّف؟
إنّ جهلنا وسذاجتنا تكمن في أنّنا نقبل بإمام زمانٍ لا يكون محترمًا عندنا إلّا إذا كان حاضرًا في بيوتنا ببدنه. هذا هو جهلنا. إنّ غباءنا هو أنّنا نقبل بإمام زمانٍ يجب أن يكون بجانبنا حتمًا لنخشاه ونحسب له حسابًا. هذا الإمام ليس بإمام زمان حقيقي، بل هو إمام مزيّف. إمام الزمان الحقيقيّ أقرب إليّ ـ وأنا أتحدّث ـ من نفسي، لا أنّه بجانبي فحسب. ذاك هو إمام الزمان. لا أن يكون الإمام بجانبنا فحسب، بل هو أقرب إلينا من أنفسنا، وحيثيّتنا الوجوديّة رهينة حيثيّته الوجوديّة.
حسنًا! هذا الإمام... أليس انتظار الفرج بهذا المعنى الذي عرضته الليلة هو أفضل الأعمال؟ بهذا المعنى! من ينتظر الفرج، ماذا يعني؟ يعني أنّه يتوقّع أن يقبل إمام الزمان عليه السلام عندما يظهر، لا أن يقول له: «حسنًا، اذهب الآن وقف جانبًا حتّى ننظر في ملفّك لاحقًا». الإمام لا يقتل كلّ الناس، بل يقتل فئة من المخالفين والمعاندين وأمثالهم، ويترك البقيّة وشأنهم. ولكن، من هم الأفراد الذين يقبلهم، ويولّيهم المسؤوليّات؟ إنّهم الذين ينتظرون الفرج.
وما هو انتظار الفرج؟ إنّه هذه المراقبة التي يتحدّث عنها العرفاء. هذه المراقبة هي انتظار الفرج. عندما يستيقظ الإنسان صباحًا، يجب أن يشارط الله قائلًا: «إلهي، أسألك ألّا يصدر منّي اليوم فعلٌ قبيح، أو قولٌ قبيح، أو فكرٌ قبيح، وألّا تخطر ببالي فكرة أو قول أو فعل يخالف رضاك». هذه هي المشارطة. وخلال اليوم، يجب أن يراقب هذا الشرط الذي وضعه في البداية. لقد شرط للّه في الصباح شرطًا، فهل يتركه؟ لا، بل يجب أن يتابع هذا الشرط. فإذا لم يتابعه، فذلك يعني أنّ مشارطته كانت فاسدة، كانت بنسبة عشرين بالمائة، أو خمسة وعشرين بالمائة، أو أربعة وثلاثين بالمائة، وذلك بحسب مقدار ما بذله من نيّة في مشارطته الأولى. لأنّه كلّما كانت النيّة أقوى، كان العمل اللاحق والأفعال المترتّبة عليه أصحّ وأقوى وأكثر متانة واستقامة.
وماذا يتبع هذه المشارطة؟ يتبعها المراقبة، ففي كلّ عمل نريد القيام به، نسأل أنفسنا: «لقد شرطتُ هذا الشرط مع الله، فهل أقول هذا الكلام أم لا؟ وهل أفعل هذا العمل أم لا؟». فإذا فعلتُه، أقول: «حسنًا، دع عنك هذا الأمر، لا بأس به هذه المرّة، سأحاول في المرّة القادمة». مهلًا! هذا لا يجوز. لو جاء الله في تلك اللحظة وقال لك: «ألم تقل لي؟». فتقول: «متى قلتُ؟». فيقول: «قلتَ لي صباحًا، قلتَ لي إنّك لن تفعل، ألم تقل ذلك بنفسك؟».
وهذه مسألة مهمّة جدًّا! إنّها تمرينٌ للنفس، تمرينٌ على حفظ المكانة والشخصيّة والتعهّد والتخيّل. حيث يأتي الإنسان ويفرض نفسه تعيش تلك الحقائق التي قد يواجهها في عالم الظاهر، ويضع نفسه في تلك المواقف في عالم النفس. وبعد فترة، يشعر أن نفسه تعيش في ذلك الواقع. هذه المسألة هي تمرينٌ نفسيٌّ على حقائق يقبلها الإنسان في ذهنه أولًا، ويقبل بالمباني في ذهنه. حينها، وبشكل تدريجيّ، يصل الإنسان إلى النتيجة التي كان من المفترض أن يصل إليها من خلال الأحداث والظواهر الخارجيّة التي تؤثّر فيه إيجابًا، وتخرجه من التعلّقات بالنفس والمادّة، وتقوّي فيه جانب التجرّد والتوحيد، يصل إلى هذه النتيجة دون الحاجة إلى المرور بتلك الأحداث في الخارج.
ولهذا يقال: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيرٌ مِن عِبَادَةِ سَبعِينَ سَنَةً»۱. إنّ ساعة من الجلوس والتفكّر أفضل من سبعين سنة من العبادة، بل أقول أنا: أفضل من سبعين ألف سنة. ولعلّ الإمام عليه السلام قال سبعين سنة حتّى لا يتعجّب الناس، فالأمر أعظم من ذلك. لماذا؟ لأنّ العبادة عمل، والعمل إذا لم يكن مقرونًا بتلك الظاهرة النفسيّة وذلك التفكّر العقليّ الصحيح، فإنّه سيتحوّل هو نفسه إلى عادة غير مناسبة وحجاب، وسيتحوّل ـ كما يقال ـ إلى عمليّة قبيحة. أي أنّ هذا العمل يدخل في وجود الإنسان ويتحوّل إلى عادة، وكلّما مرّ الزمن، ازدادت عادة النفس على هذا العمل، ويا ليته ينقطع مبكّرًا. فكلّما صلّى أكثر، ابتعد أكثر، وكلّما صام أكثر، ابتعد أكثر، وكلّما أطاع أكثر، ابتعد أكثر. لماذا؟ لأنّ هذا العمل لا يقع في موضعه الصحيح المقرون بالتفكّر، فلا يقطع التعلّقات. إنّه عملٌ قبلته النفس لنفسها.
لماذا قد يأمرك المربّي بترك العبادة؟
وهنا يأمر مربّو الأخلاق ومهذّبو النفوس تلامذتهم أحيانًا بما يخالف طريقتهم وسيرتهم المعتادة، وذلك لرفع هذه المشكلة. يريد التلميذ أن يصلّي صلاة الليل، فيقولون له: «لا تصلِّ». فيضطرب وضعه فجأةً. يقولون له: «لا حاجة لأن تصلّي». فيقول: «يا سيّدي، صلاة الليل!». فيقولون: «كلّ هذا التأكيد وكلّ هذه الفضائل لك، ولكن ليس لك الآن، أنت لا تصلِّ». فماذا يحدث؟ في الليلة الأولى لا يصلّي، فيقول: «يا إلهي، أيّ شيء فعلت! لقد سُلب منّي توفيق، لماذا حدث هذا؟». فيذهب إلى شيخه ويقول: «يا سيّدي، هل فعلتُ شيئًا حتّى أخذتَ منّي هذا التوفيق؟».
لو كنّا نحن لقلنا: «يا سيّدي، زد لنا في الصلاة وأطلها». وفي الليلة الثانية يقول: «لا يمكن... الجميع يقومون يصلّون صلاة الليل، ويرى رفقاءه في أيّ حال من التوجّه والانقطاع، وهو يجب أن يجلس وينظر...». يا إلهي! وهكذا حتّى يصل إلى مرحلة... وقد ذكرتُ لكم مرّةً أنّي كنت أرى نظائر هذه المسائل كثيرًا. كان أحدهم يريد، على سبيل المثال، أن يأخذ ذكرًا جديدًا من المرحوم الوالد بعد أن ينتهي من ذكره، ولكنّي لم أكن أوفّق في سؤال العلاّمة عن ذلك، فلم تكن الظروف مهيّأة. فكانت حياته كلّها تضطرب كأنّه إن لم يقم بالذكر ليلة واحدة، يأتي ويقول: «يا سيّدي، لم أقم بالذكر البارحة». فأقول له: «لم تقم به، حسنًا، هذا أفضل». فيقول: «هل هذا ممكن يا سيّدي؟». أقول: «الآن أصبح ممكنًا». فيقول: «هل تمزح معي؟!». فأقول: «حسنًا، سواء كان مزاحًا أم جدًّا، في النهاية، ليس من الضروري دائمًا أن تقوم بالذكر». فهل اتّضح الأمر؟ في اليوم الثاني، والثالث، والرابع، يصل إلى طريق مسدود. طبعًا، قد يتحمّل البعض هذه المسألة ويتنبّهون ويتجاوزون هذا الأمر، والبعض الآخر يضربون بكلّ شيء عرض الحائط... على أيّ حال.
هذه الطريقة وهذا الطريق يقطعان تعلّق النفس بالمتعلّقات، أيًّا كانت، حتّى العبادات. فالعبادة يجب أن تُؤدّى له، لا لرغبة النفس وسرورها. فالعبادة التي تُؤدّى لسرور النفس لا فائدة منها. يرى الإنسان أنّ عمره قد بلغ سبعين عامًا، وهو يقوم ويصلّي صلاة الليل لساعتين، ولكنّك تنظر إلى وجهه فترى الظلمة عليه. لماذا لم تستطع صلاة الليل هذه أن تغيّره؟ لأنّ قيامه في منتصف الليل وصلاته هو من أجل هذا الأمر، ولهذا السبب يقوم بهذا العمل. ولو قلتَ له في وقت صلاة الليل نفسه: «يا فلان بدلًا من أن تصلّي صلاة الليل، خذ هذه الرسالة وأوصلها إلى فلان». لقال: «سيّدنا، دعني أذهب غدًا صباحًا وأعطيها له». وقد وقعت هذه الأمور! يقولون له: «بدلًا من أن تصلّي صلاة الليل، اذهب الآن وأعطِ هذه الرسالة». فيقول: «لا يا سيّدي، اسمح لي أن أصلّي صلاة الليل وأقوم بهذا العمل، ثمّ لدينا وقت في الصباح لنذهب ونعطيها». في حين أنّ الذي يقول له: «أعطِ هذه الرسالة»، هو نفسه يريد أن تصل الرسالة غدًا صباحًا، فهو لن يقوم في منتصف الليل ليذهب ويسلّم رسالة في منزل شخص آخر. ولكنّه يريد أن يخرج هذا التلميذ من حالته تلك. الرسالة ستصل غدًا صباحًا، ولكنّ هذا يجب أن يخرج من حالته الآن. فيقول: «لا!».
لماذا؟ حينها نبدأ في اختلاق الحيل. نأخذ الرسالة ونعود إلى الداخل ونقول: «حسنًا، إن شاء الله، أشعر بصداع قليل الآن، وربّما الجوّ بارد قليلًا، نعم، قد لا يكون مناسبًا... وسأذهب غدًا في الصباح الباكر. نعم، فلنصلِّ صلاة الليل الآن أو نفعل شيئًا آخر...». فنبدأ بالمماطلة والتسويف. ونقول: «قطعًا لم يكن هذا قصده، بل لا بدّ أنّه... فالناس الآن نيام، وطرق أبواب الناس في هذا الوقت فيه إشكال شرعيّ، والمسألة فيها شبهة». فتبدأ النفس في العمل، وتستمرّ حتّى...
قصّة ذي النون المصري والرجل الذي طلب الاسم الأعظم
يُنقل أنّ رجلاً جاء إلى ذي النون المصريّ، وكان من العرفاء، فقال له: «أريد الاسم الأعظم، علّمني الاسم الأعظم». فقال له: «وماذا تريد أن تفعل بالاسم الأعظم؟». قال: «أريد أن أقرأه لتُرفع عنّي المصائب، ويُرفع الظلم عن المظلومين، ونقلب كلّ ظالم رأسًا على عقب... ونفعل كذا وكذا». فقال له ذو النون: «اذهب الآن». وكلّما أصرّ عليه، قال له في أحد الأيّام: «حسنًا، تعالَ غدًا». فذهب إليه في اليوم التالي، فقال له: «خذ هذا الصندوق واذهب به إلى مدينة كذا، وسلّمه إلى فلان، وهذا هو عنوانه». فأخذ الرجل الصندوق ومضى. وفي الطريق، بدأ يتساءل: «ماذا في هذا الصندوق؟ إنّه خفيف وليس ثقيلًا جدًّا». وبعد أن سار قليلاً، قال لنفسه: «لا، لا يجوز خيانة الأمانة». ثمّ سار قليلًا أخرى، وقال لنفسه: «حسنًا، سأفتح غطاءه خلسة، فهو ليس مقفلًا بقفل أو مزلاج». ثمّ قالت له نفسه مرّة أخرى: «احذر أن يُعدّ هذا عملًا مخالفًا...».
استمرّ في السير، وبعد ساعة أو ساعتين، شعر بحركة داخل الصندوق، فقال: «لأرَ ما هذا؟ ما هذا الشيء المهمّ في هذا الصندوق؟». قال: «سأفتحه، فهو لم يقل لي ألاّ أفتحه». ثمّ قال: «سأفتحه». ففتحه فقفز منه فأر وهرب. فقال: «آه! أرسلني لأوصل فأرًا؟ أحمل فأرًا وأوصله إلى مكان كذا؟». فرجع إلى ذي النون وهو غاضب جدًّا وقال: «هل تسخر منّي؟ تعطيني فأرًا في صندوق لأوصله؟». وقبل أن يتكلّم، قال له ذو النون ـ الذي كان يرى ما حدث ـ: «أنت لم تستطع أن تحفظ نفسك في حفظ صندوق، فكيف تريد أن تحفظ الاسم الأعظم الذي سأعطيك إيّاه؟ أنت لم تستطع أن تحفظ صندوقًا وتوصله إلى وجهته، ثمّ تريد منّي أن أعطيك الاسم الأعظم لتفعل به ما تشاء؟».
الاستقامة هي الطريق: لا تبحث عن ثغرات!
يبدأ الإنسان في التأويل والتبرير، ثمّ ماذا يحدث؟ لا يقوم بذلك العمل، وإذا لم يقم به، بقي في مكانه. ما أجمل أن يكون الإنسان صريحًا ومستقيمًا! حين يُقال له: «افعل هذا العمل»، يذهب ويفعله بكلّ صراحة، دون أن يلفّ ويدور، أو يبحث عن محملٍ له، أو يجد له ثغرة، أو يستحضر له قانونًا استثنائيًّا ومادّة إضافيّة. فمن الذي يتضرّر؟ هو نفسه من يتضرّر. وكلّما قيل له شيء لا يوافق طبعه، وأحيانًا يخالف نفسه، كأن يُقال له: «شارك في المجلس الفلانيّ»، وهو لا يريد المشاركة لأنّ ذلك يخالف نفسه، يبدأ في البحث عن مخرج. تبدأ النفس في الدوران، «شارك! اذهب وشارك، أنقذ نفسك من هذه النفس، لماذا تؤذي نفسك؟».
إنّ الذي يفعل ذلك يؤذي نفسه، يؤذي فكره، يشغل أوقاته، ويترتّب على ذلك تبعات. «يا سيّدي، اذهب وشارك في هذا المجلس». وهو لا يرغب في المشاركة، فيبدأ في البحث والدوران ليرى هل هناك ثغرة يمكن أن يفتحها ويضع من خلالها مادّة إضافيّة في وسط القضيّة، فيقول: «سيّدنا، إذا شاركتُ في هذا المجلس، يضيق صدري، فهل تسمح لي ألاّ أشارك؟ يا سيّدي، إذا شاركتُ في هذا المجلس، فمن الأفضل أن يكون لي مجلسي الخاصّ، فهل تسمح لي أن يكون لي مجلس آخر؟ يا سيّدي، هناك بعضهم لا يستطيعون الحضور، هل تسمح لهم أن يكون لهم مجلسهم الخاصّ هناك؟ يا سيّدي، بعضهم حالهم كذا، وبعضهم حالهم كذا، وبعضهم يمينيّون، وبعضهم يساريّون، وبعضهم في الأعلى...». ما هذا؟ كلّ هذا تعطيل وتأخير.
لقد مررنا بهذه المراحل في زمن المرحوم العلامة الطهراني؛ حيث كان يُقال لنا: «افعلوا هذا العمل»، فكنّا نلفّ وندور ونقلّبه رأسًا على عقب. من الجيّد أن يكون الإنسان مستقيمًا. فالمنفعة من هذا العمل الذي يُطلب القيام به لا تعود إليّ ولا إلى أيّ شخص آخر، لا أحد يحصل على شيء، بل هي منفعة تعود إلى العامل نفسه. فإذا قبل هذا الأمر، فقد نال المنفعة، وإن لم يقبل، فلن يحدث شيء، ولن يتغيّر أيّ شيء، والله تعالى سيبقى في مكانه، فلا يتصوّرنّ أحدٌ أنّه إن لم نقم بهذا العمل، فإنّ النظام الإلهيّ سيتعطّل. كلاّ يا سيّدي، النظام الإلهيّ لا يتعطّل، فلا النظام الشيطانيّ يتعطّل ولا النظام الإلهيّ، لكلّ منهما زبائنه. وعلينا أن نعرف أين نضع أنفسنا. ولا نشفقنّ على الشيطان أبدًا، فزبائنه كثر، ولا نشفقنّ على الله، فله عباده. ورد في الآية الشريفة: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾۱. فإ، أردتم أن تخالفوا، فإنّ الله سيأتي بقوم آخرين مؤمنين يأخذون المسألة بجدّيّة واستقامة حتّى النهاية، ويصلون إلى المطلوب، ويتابعون الأمر ويعملون به، ويصلون إلى غاية القضيّة. إنّ الله يبدّلهم ويأتي بآخرين بدلاً منهم.
فهل اتّضح الأمر؟ يجب ألّا نضع تعقيدات في عملنا وفعلنا... لا نعقّد القضيّة، بل ننجز ما هو مطلوب ونتقدّم. حينها، تعود المنفعة والمطلوب إلى الشخص نفسه. فهل اتّضح الأمر؟
المنتظِر الحقيقيّ هو جنديّ الإمام الآن
هذا ما يسمّى الرجاء، والأمل، والانتظار، وانتظار الفرج، كلّها بمعنى واحد. لذا، ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «من انتظر قائمنا كان معه»۱، سواء أدرك ظهوره أم لم يدركه. وهذا هو المعنى نفسه الذي ذكرته. من ينتظر ظهور إمام الزمان عليه السلام...، وماذا يعني الانتظار؟ هل هو أن يقول: «إن شاء الله سيظهر إمام الزمان»؟ لا، ليس كذلك. من ينتظر ظهور إمام الزمان عليه السلام، يعني أنّه يعدّ نفسه الآن جنديًّا لإمام الزمان عليه السلام، الآن، ويرى نفسه مأمورًا بأوامره. ألا نخجل؟
سأضرب مثالًا: لو جاء إمام الزمان عليه السلام الليلة إلى أحدنا وقال له: «يا سيّدي، أنت من الغد مأموري بين الناس، وعليك أن تبلّغهم رسائلي». واحد منّا. ألن يختلف صباحنا التالي عن سائر الأيّام؟ كلّما أردنا أن نرتكب مخالفة، نقول: «يا إلهي، أنا اليوم مأمور إمام الزمان، ومأمور إمام الزمان لا يرتكب المخالفات». أنقول ذلك أم لا؟ «لقد أصبحنا من اليوم نوّاب إمام الزمان، لقد أصبحنا من اليوم أبوابًا بين الناس وإمام الزمان، لقد أصبحنا من اليوم وسيلة، ومحلًّا للتردّد». تمامًا مثل النوّاب الأربعة: عثمان بن سعيد، ومحمّد بن عثمان، والحسين بن روح، وعلي بن محمّد السمريّ، أليس كذلك؟ هؤلاء الأربعة كانوا نوّاب إمام الزمان عليه السلام، وقبورهم في بغداد.
حسنًا، لو جاء إمام الزمان عليه السلام وأراد أن يجعل أحدنا النائب الخامس، هل في صباح اليوم التالي نفتح المذياع ونستمع إلى الموسيقى؟ أم نخجل من أنفسنا؟ ألا نخجل من أنفسنا؟ هل نذهب ونغتاب شخصًا آخر؟ هل نقضي أوقاتنا في اللهو واللعب؟ هل نسعى بالنميمة ونرتكب سائر الآثام؟ في هذه الحالة، نشعر بأنّ هذه النيابة التي فُوّضت إلينا هي نيابة مقدّسة وذات قيمة. فإذا فعلتُ هذا العمل الآن، وذهبتُ ليلًا إلى إمام الزمان عليه السلام لأتلقّى أوامر الغد، فبأيّ نظرة سينظر إليّ؟ يجب أن أذهب إلى محضره مرفوع الرأس، لا خافضه. انتظار الفرج يعني هذا، يعني أن يجد الإنسان نفسه في مكانة يحضر فيها إمام الزمان عليه السلام.
حينها، وفي مثل هذا الوضع، يكون الإنسان محشورًا مع إمام الزمان عليه السلام قطعًا، أي أنّه في معيّته مئة بالمئة، سواء أدرك ظهوره أم لم يدركه، لا فرق في ذلك. لذا يقول الإمام الصادق عليه السلام إنّه مع الإمام سواءٌ أدركَ الظُّهورَ أم لم يُدرِكْه.
لماذا قال العرفاء: "لا تبحثوا عن الظهور بل عن الباطن"؟
وهذا هو المعنى نفسه الذي كان يقوله المرحوم العلامة والسيّد الحدّاد، وهو أنّ الإنسان لا ينبغي أن يبحث عن الظهور، بل يجب أن يبحث عن الوصول إلى الباطن. هل رأيتم الآن كم هو معنى منطقيّ؟ قولهم: «إنّ الإنسان لا ينبغي أن يبحث عن الظهور» يعني أنّ الظهور أمرٌ ظاهريّ، أمرٌ تطلبه النفس، «لنرَ ماذا سيحدث عندما يأتي إمام الزمان هذا؟ آه، سيضرب بسيفه ويقطع هذا من هنا وذاك من هناك، ويقسم البلاد نصفين، والأرض أربعة أقسام، ويلقي بفئة في البحر وأخرى في البئر! لنرَ ماذا سيحدث؟».
لماذا نبحث عن هذا؟ لماذا لا نبحث عن ظهور إمام الزمان عليه السلام في قلوبنا؟ ليظهر الإمام في قلوبنا، فما شأننا بما سيفعله إمام الزمان عليه السلام بأمريكا؟ ربّما يأتي ويتصالح معهم، فماذا لدينا نحن؟ نقول: «أمريكا الشيطان الأكبر»، لا! ربّما أفرادها وشعبها ـ ونحن لا نتحدّث عن حكومتها التي هي حكومة باطلة وظالمة ـ هم أناس عاديّون، هم بشر ولهم فطرة ووجدان وعقل وصدق... هناك الكثير من الناس الطيّبين، لكنّهم أمريكيّون، وهذا لا يعني أنّ كلّ من كان أمريكيًا يُختم على جبهته بختم الشيطان بحيث لا يستطيع إمام الزمان عليه السلام إزالته، لا!
لا! أو على سبيل المثال، الصين أو أفريقيا أو بريطانيا أو أستراليا، كلّها، فرنسا، كلّ هذه البلدان فيها أناس طيّبون وأناس سيّئون. وهل نحن شعب إيران كلّنا سلمان الفارسيّ مائة بالمائة؟ هل كلّنا أبو ذرّ الغفاريّ حتّى ننتقد الآخرين ونقول: «هناك كذا وهناك كذا»؟
قال حافظ، كما تذكرون:
| خوش بود گر محک تجربه آید به میان | *** | تا سیه روی شود هرکه در او غش باشد۱ |
يقول:
«حبّذا لو وُضِعَ محكُّ التجربة في الميدان *** حتّى يسودَّ وجهُ كلِّ من كان فيه غشٌّ»
لا أحد يعلم بأحوال الآخر، ولكن عندما يأتي محكّ التجربة، حينها يتّضح ما الخبر. ما هذا الباطن؟
| ظاهرش چون گور کافر پر خلل | *** | باطنش قهر خدای عزّوجلّ |
| ظاهرش چون بوذر و سلمان بود | *** | باطنش همچون ابوسفیان بود۱ |
يقول:
ظاهره كقبر الكافر مليء بالخلل *** وباطنه قهر الله عزّ وجلّ.
ظاهره كأبي ذرّ وسلمان *** وباطنه كأبي سفيان
لا أحد يعلم بباطن الآخر. تنظر فتقول: «ما شاء الله، كم هو إنسان نورانيّ! كم هو جيّد!». ولكن عندما يوضع في الموقف المناسب، ويرى أنّ الأمور تتعارض مع نفسانيّاته ومصالحه، يكون مستعدًّا لارتكاب كلّ الفجائع ليجلس على كرسيّه، ومستعدًّا لارتكاب كلّ الجرائم لئلّا يتراجع عن كلامه. لماذا؟ لأنّ النفس قد أشرقت، ولا تسمح له بأن يسقط أرضًا، «فإذا سقطتُ انتهى الأمر». لا يا عزيزي، أين انتهى الأمر؟ أنت كغيرك من الناس، ما الفرق؟ حسنًا، لقد سقطنا، فماذا حدث؟
الطريق الإلهيّ لا يتوقّف على الأفراد
كنّا نظنّ أنّ المرحوم العلامة هو نهاية المطاف، والعارف الفلانيّ، وأنّه إذا رحل، سيُغلق طريق الله، وستُغلق أبواب العرفان، ولكنّنا رأينا أنّ الأمر ليس كذلك! لقد رحل المرحوم الوالد والله باقٍ في مكانه، وطريق الله باقٍ في مكانه، والمدرسة باقية في مكانها، من أراد أتى، ومن لم يُرد لم يأتِ، لم يتغيّر شيء. لو تذكرون، في الليلة الثالثة لوفاته ـ لا أدري إن كان بعضكم حاضرًا أم لا ـ كنتُ أتحدّث إلى الرفقاء في مشهد وقلت: «يا إخوان! المرحوم الوالد قد دُفن تحت التراب، ولكنّ الله لم يُدفن، الله باقٍ في مكانه». كان الرفقاء حزينين جدًّا، وكانوا يظنّون أنّ الأمر قد انتهى، وأنّ المسألة كلّها... لا يا إخوان، لم ينتهِ شيء. كم من أمثال المرحوم الوالد قد أتوا، وكم سيأتون. هناك من يغلو غلوًّا لا يعجب الإنسان، فيقولون: «لم يأتِ مثل المرحوم الوالد ولن يأتي». فقلت: «ومن أين لك أن تعلم أنّه لم يأتِ ولن يأتي؟ هل لديك علم الغيب حتّى تقول ذلك؟». لماذا لا يمكن؟ يمكن. من قال لا يمكن؟
يجب على الإنسان أن يفكّر بشكل صحيح. كان والدي رحمه الله رجلًا عظيمًا، وأنا كنتُ أقرب إليه منكم جميعًا لأنّني ابنه ـ ليس من الناحية المعنويّة، فمن الناحية المعنويّة أنتم أقرب ـ ولكن من الناحية الظاهريّة أنا ابنه. وكان المرحوم الوالد رجلًا عظيمًا وكان وليًّا، كان قد بلغ إلى مرتبة البقاء وطوى مراتب الفناء، وأنا أعترف بهذه المسألة، نقول هذا إذا قلنا أقصى ما لدينا وما تصل إليه عقولنا، ولكن في الوقت نفسه، لسنا ممّن يقول: «لن يأتي أحد مثله». لا! فقد يأتي من هو أفضل منه، فمن قال ذلك؟! لا، ليس الأمر كذلك. لماذا هذا الجمود؟ لماذا ننظر إلى القضيّة بعاطفيّة؟
يعلم الجميع أنّني كنتُ أرى والدي رحمه الله أعلم علماء زمانه، وما زلت أراه كذلك. وقد قلتُ هذا لرفقائي في السابق، وكان لديّ دليل على ذلك، ولم يكن الأمر عاطفيًا. سواء في المسائل الفلسفيّة، أو في مسائل العرفان النظريّ، أو في المسائل الفقهيّة، أو في مسائل تفسير القرآن وغيرها. فنحن أيضًا لسنا من خارج هذا الميدان، بل نحن من أهله، ونفهم هذه الأمور. لقد تحدّثتُ مع أفراد متعدّدين، وعاشرتُ أفرادًا متعدّدين، ومع أفراد لهم ادّعاءات. وما قلته للرفقاء هو خُمس ما في قلبي وما مرّ بي من علاقات، لم أقله بعد، ولا أحد يعلم به. فعندما كنّا نذهب إلى رجل كهذا، كنّا نرى أنّه يختلف عن الآخرين، وفرقه عنهم كبعد المشرقين. نحن نقبل بكلّ هذا، ولكن في الوقت نفسه، كيف يجب على الإنسان أن يفكّر؟ يجب أن يفكّر بشكل صحيح. القول بأنّه لن يأتي أحد مثل المرحوم الوالد، هو خطأ، بل قد يأتي، وربّما يأتي ألفٌ مثله. إذا كان الله هو الذي يأخذ بيد الإنسان، فإنّه سيأتي ويأخذ بيده. فما وجه الاستبعاد في أن ينحصر هذا الأمر في شخص واحد؟ هذا يُظهر عجز الله عن إيصال عباده إلى مراتب الكمال التي قدّرها لهم. وهل الله عاجز؟ الله ليس بعاجز. هل اتّضح الأمر؟
لا ينبغي أن تكون المسألة بهذه الكيفيّة وبهذا النحو. كنّا نظنّ أنّه عندما يرحل المرحوم الوالد، فإنّ المسألة ستنتهي، ولكنّنا رأينا أنّها لم تنته! فقد رحل ولم يتغيّر شيء، الهداية نفسها، التربية نفسها، النور نفسه، الإدراك نفسه، البصيرة نفسها، انفتاح الطريق نفسه. أنتم ترون ذلك بأنفسكم، وتشعرون به بأنفسكم. هناك أفراد لم يروا المرحوم الوالد، ولم يسمعوا باسمه، ولا بمدرسته، ولكنّنا نراهم يأتون ويسيرون، ويتقدّمون، ويصلون إلى مراتب، ويطّلعون على مفاهيم لا تصل إليها عقولنا. فما سبب هذا؟ سببه أنّ تلك الحقيقة حيّة، وأنّها لم تكن متّكئة على المرحوم الوالد، بل هي متّكئة على إمام الزمان عليه السلام وأرواحنا فداه. ومقام الولاية ذاك هو مفتاح الأبواب في كلّ الأحوال، وهو فاتح السبل والطرق، وهو يأتي في كلّ برهة من الزمن في ظهورات مختلفة ومظاهر متنوّعة، ويقوم بعمله. نعم!
ابحث عن الحقيقة في نفسك
يجب أن نصحّح فكرنا، يجب أن نجعله مستقيمًا. هذا المعنى هو نفسه الذي كان يسعى إليه الأعاظم. كانت هناك الكثير من المدارس، وكلّ مدرسة قدّمت أفكارًا. أمّا الفكرة التي قدّمتها هذه الطريقة وهذا المسلك وهذا المنهج، فهي وجود الحقّ وتحقّقه في جميع المراتب وفي جميع المجالات، سواء وُجد له مظهر أم لم يوجد. هذا هو أصل وأساس مدرسة المرحوم العلامة ومدرسة العرفان. هذه هي القضيّة. فمن أدرك هذا الأمر، فهو مع إمام الزمان عليه السلام، ومع الله، ومع النبيّ صلّى الله عليه وآله، ومع أمير المؤمنين عليه السلام. من يصل إلى هذه المسألة... لا ينتظر مسألة ظاهريّة، ولا ينتظر حدوث ظاهرة، ولا ينتظر وقوع قضيّة، أو ظهور مظهر ما يميل إليه.
ما تريده اطلبه في وجودك، وما تبحث عنه ابحث عنه في نفسك، لا أن تضع نفسك جانبًا وتبحث عن مظاهر أخرى. هذا فصلٌ للنفس عن الحقائق. لماذا؟ لأنّ وجود كلّ إنسان يقوم ويتحقّق من خلال ارتباطه هو بذلك المبدأ. لقد وضعنا ذلك الارتباط جانبًا ونبحث عن هذا وذاك. فما هو ذلك الارتباط؟ إنّه ارتباط الإنسان بإمامه، ارتباط الإنسان بإمام زمانه، ارتباط الإنسان بهذه الوسيلة التي هي وسيلة الفيض وواسطة الخير. لقد نسينا هذه المسألة، واستخففنا بها، ولم نولِها الاهتمام الكافي. لذا، بقينا في هذه المراتب الدنيا، في هذه المراتب المتدنّية من حيث السير والفكر.
نسأل الله تعالى أن يشملنا بلطفه أكثر فأكثر، وأن يجعلنا عارفين وبصيرين بوليّنا إمام الزمان عليه السلام.
اللَّهُمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد