المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1422
التاريخ 1422/09/02
التوضيح
كيف يمكن لشهادة الإمام الحسين عليه السلام أن تكون عين المصلحة والجمال؟ وما هو الفرق الجوهريّ بين الفعل ذاته والنيّة الكامنة وراءه؟ وكيف ينبغي أن ندعو الله ونحن نسلّم الأمر لمشيئته؟ تجيب هذه المحاضرة التي ألقاها آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني في شرحه لدعاء أبي حمزة الثماليّ عن هذه الأسئلة، مبيّنةً أنّ قيمة الأعمال تكمن في صفاء النيّات لا في ظواهرها.
هوالعليم
قيمة الأعمال في صفاء النيّات لا في ظواهرها
كيف ننظر إلى جمال عاشوراء لا إلى قبحها؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٢ هـ - الجلسة السابعة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
وصلَّى اللهُ على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسمِ محمدٍ
وعلى آلهِ الطيّبينَ الطاهرينَ
واللعنةُ على أعدائِهم أجمعينَ
ما هو الرجاء المذموم؟
«وَأعْلَمُ أَنَّكَ لِلرَّاجِينَ بِمَوْضِعِ إِجَابَةٍ، وَلِلْمَلْهُوفِينَ بِمَرْصَدِ إِغَاثَةٍ». إلهي، إنّي أعلمُ أنّ الذين يرجونكَ لا يعودونَ خائبين، وأنّ رجاءَهم يتحقّق، وأنّكَ خيرُ ملجأٍ ومُغيثٍ للذين استولى عليهم اليأسُ وعَرَضَ لوجودِهم الانكسار.
لقد أشرت في الليالي الماضية إلى أنّ للرجاء والأمل في قضاء الحوائج صورًا مختلفة. فهناك الرجاء المتعلّق بأمور الدنيا؛ وليس المقصودُ بأمور الدنيا مجرّدَ جمعِ الأموالِ والتمتّعِ بمظاهرِ العالمِ الظاهريّ، بل المقصودُ هو كلُّ طلبٍ وكلُّ أملٍ يُرادُ له أن يتحقّق على خلاف رضا الله، وعلى خلاف سنّته السنيّة؛ كأن يطلبَ الإنسانُ من اللهِ أن يقضيَ على شخصٍ ما، أو أن يطلبَ من اللهِ أن يُنزلَ البلاءَ والمرضَ بشخصٍ ما، أو أن يطلبَ من اللهِ ألاّ يوفّقَ شخصًا ما، أو أن يطلبَ من اللهِ أن يفشلَ أفرادٌ في بعض المراتب.. هذه كلّها أدعيةٌ وآمالٌ ذاتُ صبغةٍ شيطانيّةٍ ونفسانيّة.
وبطبيعة الحال، فإنّ الله تعالى ـ الذي لا تربطه بالناس علاقةُ قرابةٍ شخصيّة، وعنايتُه بمخلوقاته هي عنايةٌ علّية، وعنايةٌ تربويّةٌ، وهي عناية الخالق بجميع مخلوقاته ـ لا يمكنه أن يحقّق هذه الآمال، ولا يمكنُ أن يرتّبَ أثرًا على هذه الأدعية؛ لأنّه تعالى حكيمٌ، وهذا الرجاءُ والأملُ رجاءٌ غيرُ حكيم، والفعلُ والعملُ غيرُ الحكيمِ لا يصدرُ عن الحكيم؛ هذا من جهة.
ومن جهةٍ أخرى، فإنّ هذا الأملَ وهذا الرجاءَ، لمّا كان يدورُ على خلاف مصالح الإنسان، ومنبعثًا من هواه وخصائصه النفسانيّة، فإنّ له صبغة الكدورة، وتلك الصبغةُ المكدّرةُ لا يمكنُ أن تكونَ ممضاةً من قبل الله تعالى.
الفرق بين "الفعل" و"النيّة"
إنّ نفسَ العملِ موضوعٌ، ورغبة الإنسانِ في هذا العملِ موضوعٌ آخر. فأن ينجحَ الإنسانُ في قضيّةٍ أو يفشل، هذه مسألة. ففي النهاية، حينما يتبارى شخصانِ في أيّة واقعة، فإنّ أحدَهما سيفوزُ والآخرُ سينهزم، وهذه مسألةٌ بديهيّة. وعندما يُقدم الإنسانُ على أمرٍ ما، فإمّا أن يوفّقَ فيه أو لا يوفّق، وهذا أمرٌ بديهيٌّ. وحينما يُقدمُ الإنسانُ على مهنةٍ ما، فإمّا أن ينجحَ فيها أو لا ينجح، وهذا أمرٌ بديهيٌّ. أي إنّ كلا الجانبينِ قد أُدرجا في نظام الخلق: النجاحُ في مهنةٍ ما وعدمُ النجاح فيها. فالأمرُ سهلٌ جدًّا، وليست هذه مسألةً تستدعي السؤال. فالإنسانُ يريدُ أن يأتي ليشتري شيئًا من السوق، فإمّا أن يجدهُ في السوق أو لا يجده، وهذه كلّها أمورٌ بديهيّةٌ ولا مجالَ للكلام فيها.
ولكن في بعض الأحيان، نريدُ نحنُ ألاّ يوجدَ أمرٌ ما، ونريدُ ألاّ يوفّقَ الشخصُ في العملِ الذي يشرعُ فيه، ونريدُه ألاّ يصلَ إلى نتيجةٍ في المسألةِ التي يتابعها؛ أي إنّ هذه النقطةَ كامنةٌ في نيّتنا، وهي ألاّ يتمَّ هذا الأمرُ لذلك الشخص. كأن يريدُ أن يُقدمَ على زواج، فنقول: «إن شاء الله لا يتمّ هذا الزواج»، حيث تكون لدينا معه عداوةٌ وخصومة، فنقول: «إن شاء الله لا يوفّق، وترفضه الفتاة». أو نقول مثلاً بالنسبة لهذه الفتاة، «إن شاء الله لا تجدُ زوجًا مناسبًا»، لأنّ العائلتينِ مثلاً ليستا على وفاقٍ تامٍّ. أو يريدُ أحدهم أن يشتغلَ بعملٍ ما، والإنسانُ له معه مشكلة، فنقول: «إن شاء الله يرتطمُ رأسُهُ بالحجر، ويتحوّلُ ما يلمسُهُ من ذهبٍ إلى رماد»، وكلام من هذا القبيل. أو يريدُ أن يدرس، فنقول: «إن شاء الله لا يوفّقُ في هذه الدراسة ويرسب».
هذا الطلبُ وهذه النيّةُ نيّةٌ شيطانيّة ونيّةٌ بغيضة، وهذا الهوى وهذه الإرادة إرادةٌ بغيضةٌ ووقحة. أمّا نفسُ ذلك العمل، ففي النهاية إمّا أن يتمّ أو لا يتمّ، ونفسُ العملِ لا إشكالَ فيه. النيّةُ هي التي تُفسدُ العمل. والعجيبُ أنّه قد أُشيرَ إلى هذه المسألةِ في آيات القرآن الكريم، وهي آياتٌ في سورة الفرقان جاء فيها: ﴿وَٱلَّذِينَ لَا يَدعُونَ مَعَ ٱللَهِ إِلٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقتُلُونَ ٱلنَّفسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَهُ إِلاّ بِالحَقِّ وَلَا يَزنُونَ وَمَن يَفعَل ذٰلِكَ يَلقَ أَثَامًا * يُضٰعَف لَهُ ٱلعَذَابُ يَومَ ٱلقِيٰمَةِ وَيَخلُد فِيهِۦ مُهَانًا﴾۱. أو مثلاً، الآية التي تتحدّث عن الميزان والكيل والعلاقات والكذب وغيرها، وبعد كلّ ذلك يقول اللهُ تعالى: ﴿كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكرُوهًا﴾٢ فهذا الموضعُ جديرٌ بالانتباه جدًّا. انظروا، تارةً، يُقال إنّ العملَ الفلانيّ مكروه؛ فالزنا مكروه، وقتلُ النفسِ المحترمةِ مكروه، والسرقةُ مكروهة، والكذبُ مكروه، والبهتان مكروه. فتارة، نطرحُ الأمرَ بهذا النحو، وتارةً أخرى، نقولُ: إنّ «قُبحَ» هذا العملِ هو المكروهُ عند الله، لا نفسُ العمل، وكلُّ الكلامِ يدورُ حول هذه النقطة.
قضية عاشوراء: كيف نفهم حُسن الشهادة وقُبح الفعل؟
فما هي حقيقة قتلِ النفس؟ هل قتلُ النفسِ مكروهٌ أم لا؟ القتل، أن يُقتَل، أن يُقتَل مؤمنٌ، هل قَتْلُ مؤمنٍ بصفته مؤمنًا أمرٌ سيّئ؟ أقصدُ نفسَ القتلِ بحدّ ذاته. من كان لدينا في هذه الدنيا أفضلُ من الإمامِ الحسين عليه السلام؟ لم يكن هناك من هو أفضلُ من الإمامِ الحسين عليه السلام، أليس كذلك؟ كان إمامًا، وابنَ النبيّ صلّى الله عليه وآله، وإمامًا، وله كلّ تلك المقامات؛ فهل كان نفسُ مقتلِ الإمامِ الحسين عليه السلام أمرًا سيّئًا؟ لو كان سيّئًا، فلماذا قدّرهُ الله؟ لماذا قدّرهُ الله؟ يعني نفسُ القتل، لماذا كان يجبُ أن يُقتَل الإمامُ الحسين عليه السلام؟ هذا ظلمٌ. فقد يقولُ الإمامُ الحسين عليه السلام: «أريدُ أن أبقى حيًّا، أريدُ أن أبقى حيًّا لأصلّي وأدعو وتزداد مراتبي ودرجاتي». وكما نقول نحن: ندعو لنغرسَ شجرةً في الجنّة، ونقرأ سورة الإخلاص مرّةً فنغرس شجرة. هناك بعض الأعمال التي يقال إنّها غرسُ أشجار، وبعضها بناءُ قصور، وبعضها جنّاتٌ تجري... خلاصة القول، هناك الكثيرُ من الأعمال التي يُمكن للإنسان أن يقوم بها ويُعمّر بها آخرته. أجل، «العاقلُ تكفيه الإشارة»، فالعملُ كثير. وطبعًا، هناك بعض الأعمال التي لا ينبغي لنا أن نقوم بها فنُخرّبَ ما بنيناه. كأن نضعَ قنبلةً أو ديناميتًا فينهدمَ البناء، هل تلتفتون؟ أو أن تأتي صاعقةٌ فتحرقَ كلّ الأشجار. بغيبةٍ واحدةٍ منّا تحترقُ كلُّ الأشجار، وبنيّةٍ غيرِ لائقةٍ تجاه أخٍ مؤمنٍ ينهارُ البناء. كلّ هذه الأمورِ موجودةٌ، وقد أُثبتت هذه المسألةُ نقلاً وشهودًا.
قد يقولُ الإمامُ الحسين عليه السلام: «أريدُ أن أبقى في هذه الدنيا كالبقيّة، ما مشكلتي؟». ألم يعش إمامُ الزمانِ عليه السلام الآن أكثر من ألف عام؟ لم يقتل أحدٌ إمامَ الزمان عليه السلام. فيقولُ الإمامُ الحسين عليه السلام: «أنا أيضًا أريدُ أن أبقى، وأريدُ أن أعيش ألفَ عام، أو ألفي عام، وأقولُ لا إله إلا الله باستمرار، وأعبدُ اللهَ دائمًا، فتزدادُ مراتبي بطبيعة الحال».
فهل كان نفسُ مقتلِ سيّد الشهداء عليه السلام سيّئًا؟ هل كان هو بحدّ ذاته سيّئًا؟ كلاّ! من يقولُ إنّه كان سيّئًا؟! لو لم يكن مقتلُ سيّد الشهداء عليه السلام في مصلحته، فلماذا حدث؟ لماذا كان يجبُ أن يحدث؟ لقد نالَ سيّدُ الشهداء عليه السلام بهذا المقتلِ مراتبَ لم يكن لينالَها لو لم يُقتل. وهذا عينُ العبارة التي قالها عليه السلام حين رأى رسولَ الله صلّى الله عليه وآله في المنام: «إِنَّ لَكَ عِنْدَ اَللهِ دَرَجَةً لَنْ تَنَالَهَا إِلاّ بِالشَّهَادَةِ»۱. لديكَ درجةٌ عند الله يا بُنيّ. يأتي النبيُّ صلّى الله عليه وآله في منام الإمامِ ويقول: «يا بنيّ! لديك درجةٌ عند الله لن تبلغَها إلاّ بالشهادة».
حسنًا، فهل يمكنُ أن تكونَ هذه الشهادةُ سيّئة؟ لو كانت سيّئةً، لما أوصلتهُ إلى هذه المنزلة. إذن، ما حقيقة هذه الشهادة؟ إنّها جيّدةٌ جدًّا، إنّها رائعةٌ جدًّا! فشهادةُ سيّد الشهداء عليه السلام، التي نعيشُ جميعًا ببركتها، وحياتُنا مدينةٌ لشهادة سيّد الشهداء؛ لا أقصدُ الحياةَ الماديّة! فالماديّة لا شيء، بل حياتُنا المعنويّة، ونموّنا، وتكاملُنا، وتكاملُ الشيعة، وتكاملُ شيعةِ سيّد الشهداء، كلّه بفضل هذه الشهادة. وكلُّ الذين يصلون إلى الكمال والفناء والعرفان، إنّما يصلون ببركة الإمامِ الحسين عليه السلام، ولا شكَّ في هذه المسألة أبدًا. هل هذا واضح؟!
إذن، فنفسُ شهادةِ سيّد الشهداء عليه السلام في حدّ ذاتها هي عينُ المصلحة، وعينُ الحقّ، وعينُ الواقع، وعينُ الكمال، وعينُ اللطف، وعينُ... ألسنا نقرأ أنّه في يوم عاشوراء، لمّا رأت الملائكة ـ وهم متفاوتون في إدراك مراتب فعليّة البشر، وخاصّة الإمام، وبالأخصّ سيّد الشهداء عليه السلام، فهم ناقصون من هذه الجهة ـ تلك الأوضاعَ وذلك الحال، خاطبوا اللهَ وقالوا: «إلهنا، ما هذا الذي يجري؟ هذا أفضلُ خلقك!». فقال لهم: «انظروا». فنظروا، فأراهم اللهُ لمحةً يسيرةً وذرّةً ممّا أعطاه لسيّد الشهداء عليه السلام بواسطة هذه الشهادة، فطأطؤوا جميعًا رؤوسهم. هل هذا واضح؟! ثمّ يُباهي اللهُ تعالى به ويقول: «يا ملائكتي، انظروا إلى عبدي هذا كيف يقدّمُ كلَّ كيانه في سبيلي ويُفني كلَّ شيءٍ فيّ». إنّ اللهَ يفاخرُ الملائكةَ بشهادة سيّد الشهداء عليه السلام ويقولُ لهم: «تعالوا وانظروا ماذا يفعل».
إذن، فالشهادةُ ليست سيّئة. هل هذا واضح؟! وشهادةُ سيّد الشهداء عليه السلام هي عينُ مراتبه الكماليّة، وتحقُّقُ جميع ظهورات التوحيد في مختلف مظاهر عالم الكثرة.. هذه هي قضيّة يوم عاشوراء.
أين يكمن القُبح في عاشوراء؟
فماذا كان السيّئ في هذه القضيّة إذن؟ أين كان القبحُ فيها؟ أين كانت الوقاحةُ في يوم عاشوراء؟ كانت الوقاحةُ تعودُ إلى نيّاتهم، إلى نيّةِ عمرَ بنِ سعد. فلتكن نيّتك لله، حتّى لو قتلتَ الإمامَ الحسين عليه السلام، فلا بأس، لكن لتكن نيّتُك لله! لا تُدخلْ نيّةَ مُلكِ الريّ في الأمر. فإذا أدخلتَ نيّةَ مُلكِ الريّ، فَسدَ الأمرُ؛ وحينها، كما قال الإمامُ الحسين عليه السلام، لن تنالَ حتّى حبّةَ قمحٍ واحدةٍ منه. اذهب، فلن يكون لك نصيبٌ من قمح الريّ.
كان عمرُ بنُ سعد قد أخذ صكًّا بأنّه سيُعطى مُلك الريّ ـ أي طهران الحالية، مع أنّ طهران كانت قريةً آنذاك، وكانت الريّ الحالية واسعة جدًّا ـ إذا قتلَ الإمامَ الحسين عليه السلام. ويُنقل أنّ طولَ وعرضَ مدينةِ الريّ هذه كان يبلغ آنذاك فرسخين في فرسخين على الأقلّ، أو أكثر. فلمّا جاء إلى ابنِ زياد وقال له: «عليك الوفاءُ بالعهد، لقد قتلتُ ابنَ بنتِ النبيّ، فأعطني مُلكَ الريّ»، قال له ابنُ زياد: «هل أنا أمرتُك بذلك؟ من قال؟ متى قلتُ لك؟». قال: «لقد أعطيتني صكًّا بخطّ يدك». قال: «أعطني هذا الصكّ لأرى». فأخذه ومزّقه ورماه جانبًا وقال: «من أمرك بذلك؟». هذا كلّ ما في الأمر! مزّقه أمام عينيه.. هل التفتّم؟!
حسنًا أيّها الأحمق، إنّ الإمامَ الحسين عليه السلام يرى هذا التمزيق، ويرى أنّك ستأتي وتُريه هذا الصكّ، فيمزّقه هو ويرميه في سلّة المهملات؛ لأنّ تمزيقه ليس بالأمر الصعب. أو حتّى لو لم يمزّقه، لقال له: «لن أعطيك، فما عساك أن تفعل الآن؟». الإمامُ يرى ذلك.
قصّة عمر بن سعد: كيف أضاع النقد بالنسيئة!
والعجيبُ هنا أنّ عمر بن سعد قال للإمامِ الحسين عليه السلام: «لا أتركُ النقدَ وآخذُ النسيئة»، حيث قال له الإمام عليه السلام: «تعالَ، أنا أضمنُ لك الجنّة». فيأتي هذا الجاهلُ ويقول: «إنّ جنّتك هذه نسيئة». فما يقوله الإمامُ الحسين عليه السلام نسيئة، وأمّا ما يقوله ابنُ زياد ـ الذي كان في حالة سُكرٍ، ولا يُعلَم أكان مخمورًا أم نائمًا أم مستيقظًا أم واعيًا ـ بأنّه سيعطيه مُلكَ الريّ يصبحُ هو النقد!
كلُّ معاييرنا، أيّها السادة، وبدون مجاملة، هي على هذا النحو. لقد غيّرنا مواضعَ النقدِ والنسيئة، وبدّلنا أماكنَ الحالِ والمستقبل. يقولُ الإمامُ الحسين عليه السلام: «أنا الآن أعطيك الجنّة»، فيضعها في كفّ يدك الآن، ويُعطيك إيّاها في هذه اللحظة، من دون أن يتأخّر ثانيةً واحدة. فعندما يقول: «الجنّة لك»، يعني أنّ الأمر قد تمّ وانتهى! ولكن، لأنّ الشقاءَ لا بدّ أن يصيبَ شخصًا ما، والخسرانَ لا بدّ أن يعرضَ لشخصٍ ما، فإنّه يأتي ويفترضُ كلامَ الإمامِ الحسين عليه السلام نسيئة، وكلامَ ابنِ زياد، شاربِ الخمر والزاني والمقامر ومربّي الكلاب، ماذا يفعل به؟ يعتبره نقدًا!
حسنًا، تفضّل الآن واذهب إلى نقدك. مزّقَ الصكَّ ورماه أمامه، وقال له: «اذهب الآن حيثما شئت». فجُنّ ذلك الرجل، وفقد عقله، حيث كان يذهب إلى بيته ثمّ إلى الحمّام، ثمّ يخرج من الحمّام ويعود إلى بيته، ثمّ يخرج من بيته ويعود إلى الحمّام، يفعل ذلك عدّة مرّات في اليوم.. لقد جُنّ! وبقي على هذا الحال إلى زمن المختار حينما ثار، فأرسل من قتله في منزله.
الوجهان المتباينان لكربلاء
هذه النيّةُ الباطلةُ جعلت واقعةَ كربلاء تكتسبُ صورتين ووجهين: وجهٌ قبيحٌ، بشعٌ، كريه، فاجعٌ ومؤلم. لماذا؟ بسبب هذه النيّاتِ الخبيثة التي أتت، فوضعت الرحمنَ موضعَ الشيطان، والشيطانَ موضعَ الرحمن، وجعلت يزيد خليفةً، وأزاحت الخليفةَ المستحقَّ والمحقَّ الذي هو سيّدُ الشهداء عليه السلام.
كان يزيدُ رجلاً مربّيًا للكلاب ومقامرًا. كان يزيدُ مقامرًا ولاعبَ شطرنج. قال الإمامُ السجّاد عليه السلام: «لَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ نَظَرَ إِلَى الشِّطْرَنْجِ وَلَمْ يَلْعَنْ يَزِيدَ»۱. نعم، يبدو أنّ الأمر قد اختلف الآن!! كان مربّيًا للقرود، وكان يجلسُ وبجانبه قرد. بالله عليكم، انظروا من الذي ذهب ومن الذي حلّ محلّه؟ ذاك نبيُّ اللهِ الذي كان يشيرُ إلى القمرِ فينشقُّ نصفين٢، وشهدت بحقّه الحصى والأحجار٣، وغير ذلك! ذهب هو، وجلس مكانه من يلعبُ مع قرد! حقًّا، إنّنا لنتعجّب، إنّه لأمرٌ عجيبٌ حقًّا، حفظَ اللهُ الإنسان! فهؤلاء العُجول الذين كانوا بجانب يزيد، أكانوا يسمّون أنفسهم مسلمين أم لا؟ حسنًا، اذهب وقل صراحةً: «يا سيّدي، ليس لدينا دين»، فلماذا تقولُ: «نحن مسلمون»؟! لماذا تقول: «نحن نصلّي ونصوم»؟! ماذا؟! كلُّ هذا الصومِ والصلاةِ كان للتغطيةِ على النفسِ والشعورِ بالسكينةِ الكاذبة. هل تلتفتون لما أريدُ قوله أم لا؟ إنّه شعورٌ بالطمأنينة الكاذبةِ في مواجهةِ الحقّ. فهؤلاء أيضًا لديهم ضمير، ويرون أنّ هذا يزيد، ويزيدُ يشربُ الخمرَ كالماء، كأنّه شرابُ السكنجبين، فيشربه باستمرار.
ـ لا أعرفُ ما طعمه؟ هل لدى أحدٍ من الرفقاء علمٌ بذلك؟
ـ إنّه مُرّ.
ـ ماذا يا سيّدي؟ نعم؟
ـ يقولون إنّه مُرّ.
ـ حسنًا، لعلّكم لم تحصلوا على النوعِ الحلو منه!!
ـ يقولون إنّهم يأكلون شيئًا حلوًا بعده.
ـ هاه؟ حسنًا جدًّا. كلّ هذا لماذا؟ لكي تتمكّن النفسُ في مواجهةِ الحقيقةِ من أن تضعَ على نفسها ستارًا من الاطمئنانِ الكاذب. فإذا فعلت ذلك، فقد انتصرَ الشيطان، وإذا لم تفعل، فإنّ الأمر سينكشفُ في النهاية ويستفيقُ الإنسانُ وينتبه... ونسألُ اللهَ ألاّ يقعَ الإنسانُ في هذا الاطمئنانِ الكاذبِ الذي لا يعودُ له منه مفرّ.
السالك المزيّف وخطر الاطمئنان الكاذب
هذا الاطمئنانُ الكاذبُ أمرٌسيّئٌ جدًّا. هذا هو الذي يُعبّرُ عنه بالجهل المركّب، وهذا هو الذي يُعبّرُ عنه بالعناد، وهذا هو الذي يُعبّرُ عنه بالتحجّر والتعصّب. كلّ هذه الأمورِ لا فرقَ فيها بين أن يكونَ الإنسانُ يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مسلمًا أو شيعيًّا أو سالكًا، لا فرقَ أبدًا. السالكُ المزيّف موجودٌ بكثرةٍ لا تُحصى، حيث نجده يضعُ نفسهُ تحتَ ماذا؟ تحتَ الاطمئنانِ الكاذبِ والتحجّرِ الكاذبِ والتعصّبِ الكاذب. تلك الحالةُ من الاطمئنانِ والطمأنينةِ الكاذبةِ تجعلُ أيَّ كلامِ حقٍّ لا يدخلُ في أذنه، إلى درجة أنّه لو جاء أميرُ المؤمنين عليه السلام لنحّاه جانبًا، نعم، يُنحّيه جانبًا ويبدأُ بالتبرير والتأويل، ويُنحّيه جانبًا تمامًا، ويغلقُ على نفسه جميعَ نوافذِ الحقّ. فما حقيقة هذا الاطمئنان؟ إنّه كاذب! ﴿سَنَستَدرِجُهُم مِّن حَيثُ لَا يَعلَمُونَ﴾۱. فهذه مصيبة، وذلك بأن يضعَ اللهُ الإنسانَ في موقعٍ كاذبٍ بحيث لو جيء بجميع مطارقِ العالَمِ وضُربت على رأسه، لما استطاع أن يستفيق. الاستدراجُ هو الدخولُ في مرتبةِ الكذب، فنرى الإنسان يهبطُ شيئًا فشيئًا، ثمّ يقعُ في موقعٍ يرتضيه لنفسه.
حسنًا، هذا السيّد عمر بن سعد، ماذا يفعل؟ إنّه يضعُ كلامَ الإمامِ الحسين عليه السلام جانبًا. إذن، ما حقيقة ذلك الجانب من القضيّةِ الذي يمثّلُ قبحَ عاشوراء؟ إنّه النيّاتُ الفاسدة، وقتلُ ابنِ بنتِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله، والقضاءُ على الحقّ. فلم يُقلّل الإمامُ الحسين عليه السلام من الاستدلال والاحتجاج في يوم عاشوراء، حيث إنّه من الأمور التي قالها عليه السلام في يوم عاشوراء، والتي جعلت الجميعَ يُطأطؤون رؤوسهم ـ لم يخجلوا، بل أنزلوا رؤوسهم ـ قال: «هذه الرسائلُ، وهي أربعةُ آلافِ رسالةٍ الآن، من كتبها لي؟ هل أنا كتبتُ هذه الرسائلَ بخطّ يدي؟ أم أنتم كتبتموها؟». وقال عليه السلام لأحد أصحابه، وهو الصيداويّ: «اذهب وأحضر ذلك الكيس». فجاء وأفرغ تلك الرسائلَ أمام ذلك الجيش.. أربعةُ آلافِ رسالة. أحد هؤلاء هو عبد الله بن حجر أو أبجر، والذي كان قد جاء مع أربعةِ آلافِ رجلٍ وسدَّ شريعةَ الفرات، حيث كان من بين الذين كتبوا إلى الإمام، فقال له عليه السلام: «يا عبد الله، أو يا عبيد الله، ألستَ أنتَ الذي كتبتَ إليّ؟ والآن تأتي وتقفُ أمام الشريعةِ تمنعنا من شرب الماء؟ ألم تكتب أنتَ إلينا؟ هذه رسالتُك». فماذا قالوا؟ تعالوا أجيبوا، أجيبوا الإمامَ الحسين عليه السلام. فهذه الرسائلُ لم يخترعها الإمامُ الحسين عليه السلام من عنده، بل هي رسائلُهم هم. هل هذا واضح؟!
هنا تظهرُ مسألةُ خُبثِ الباطنِ وخبثِ الطينة. فهذا الجانبُ من القضيّةِ يُصبحُ هو القبحَ والوقاحةَ. وهذا هو بُعد فاجعةَ يومِ عاشوراء من منظورِ الالتفاتِ إلى الكثرةِ والاهتمامِ بعالمِ الكثرات، حيث كانت النيّاتُ في يوم عاشوراء ـ في الجانب المقابل ـ كلّها نيّاتٍ شيطانيّة.
حسنًا، وماذا عن الجانبِ الآخر؟ جانبُ البهاءِ والبهجةِ والسرورِ والفرحِ والضحكِ والابتهاج. فنجد مسلمُ بنُ عوسجة، في ليلة عاشوراء، يمازحُ للمرّة الأولى بعد عمرٍ طويل، فيمازحُ هذا وذاك، وكان عمرهُ سبعينَ عامًا. «وهل هذه الليلةُ وقتٌ للمزاح؟ اذهب وصلِّ ركعتين». «يا عزيزي، لقد صلّيتَ صلواتِك كلّها، تعالَ نضحكُ هذه الليلة». أنا أقولُ هذا، ولكنّه كان يقولُ ما معناه: «إذا لم نمزحْ هذه الليلة، فمتى نمزح؟». لقد كان مسلمُ بنُ عوسجة من الأعاظم، ومن شيوخ أصحاب الإمامِ الحسين عليه السلام، حيث قال: «ما شاء الله! ألا تعلمونَ ماذا سيحدثُ غدًا؟ غدًا، بمجرّد أن نُقتَل، سنذهبُ مباشرةً إلى الحور العين». أنا لم أقلْ هذا، هو الذي قاله. ولعلّ كلامهُ هذا كان مزاحًا أيضًا، فهو لم يكن يسعى لهذه الأمور، ولكن، لعلّ هذا المسكينَ لم يكن له حظٌّ كبيرٌ في هذه الدنيا، فقال: «لم نحصلْ على شيءٍ هنا، فلننهضْ ونذهبْ لنرى ما الخبرُ في الجانب الآخر؛ لأنّ الإمام الحسين وعدنا بالكثير من الأشياء!».
على كلّ حال، نحن أيضًا نمزح. نعم، كان هناك سرورٌ، وبهجةٌ، وصلاةٌ، وقرآنٌ، وتلاوةُ كتابِ الله، ومناجاةٌ، وبهاءٌ، ونورٌ، وروحانيّةٌ، وعظمةٌ، وجلالٌ، وهيبةٌ، وكبريائيّةُ سيّد الشهداء عليه السلام. فماذا كان كلّ هذا؟ كان هو الجانبُ الآخر من القضيّة. حسنًا، لو كان ذلك القتلُ في الغد أمرًا قبيحًا، فلماذا جرت كلّ تلك الترتيبات؟ لماذا توجّب أن يكونَ كلّ هذا؟ لماذا حصلت كل تلك الأمور؟
وصيّة العارفين: كيف تنظر إلى عاشوراء؟
هنا، يأتي مصداقُ كلامِ المرحومِ السيّد الحدّاد فيما يتعلّقُ بهذا الجانبِ من القضيّة. فهو لا شأنَ له بالجانبِ الآخر، بل ينظرُ إلى هذا الجانبِ وهذه النقطة، ويريدُ أن يقول: حينما يريدُ الإنسانُ أن ينظرَ إلى هذه الواقعة، فلماذا لا يوجّهُ نظرهُ فيها إلى الحُسنِ بدلاً من القُبح؟ وأنتَ الذي تريدُ أن تفتحَ عينيك الآن، هناك شخصانِ يجلسان هنا: الإمامُ الحسين عليه السلام في هذا الجانب، وفي الجانب الآخر يجلسُ عمرُ بنُ سعد. فما دامت صورةٌ ما ستدخلُ إلى عينيك، فلماذا لا تكونُ هي صورةَ الإمامِ الحسين عليه السلام؟ لماذا تكونُ صورةَ عمرَ بنِ سعد؟ لماذا؟ حينما يُرادُ للإنسانِ أن يلتفت، فلماذا يقومُ ويلتفتُ إلى عمرَ بنِ سعد؟ ليقمْ ويلتفتُ إلى الإمامِ الحسين عليه السلام.
كان المرحومُ العلامةُ يقول للناس الذين يأتون إليه ويريدون الذهابَ إلى مكّة... فمن الأمور التي كان يقولها لهم... أتذكّرُ مرّةً كنتُ عنده فسألوه: «يا سيّدنا، أين [قبرُ] أبي بكر وعمر؟». فقال: «أنتَ حين تذهبُ إلى المدينة، لا حاجة لك في الذهاب من أجل عمرَ وأبي بكر، بل اذهب من أجل النبيّ صلّى الله عليه وآله. وأمّا أبو بكر وعمر، فسواءٌ دُفنا في حرم النبيّ أم في البقيع أم رُميا في الصحراء، فما شأنك؟». حين يدخلُ الإنسانُ المسجدَ النبويّ ويدخلُ حرمَ النبيّ صلّى الله عليه وآله، لا ينبغي بتاتًا أن يخطرَ عمرُ بباله، ولا ينبغي أن يخطرَ أبو بكر بباله. فخطورُ أبي بكر وعمر في الذهن أثناء الزيارة ـ وأنا أقول هذا للرفقاء ـ يُفسدُ روحَ الزيارة، ويُفسدُ ذلك الدعاء، وذلك التوجّه. حينما يوفّقُ اللهُ الرفقاء إن شاء تعالى، ويذهبون إلى مكّة والمدينة، وعندما يريدون دخولَ مسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله، يجبُ أن يروا رسولَ اللهِ فقط لا غير. وأمّا أن يرى الإنسان من يرقدُ هناك، ومن هو مستيقظ، فهو أمر لا أساس له! يجبُ على الإنسانِ أن يذهبَ لزيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله وألاّ يخطرَ بباله أبدًا... يشهدُ اللهُ أنّني في كلّ مرّةٍ وفّقني اللهُ فيها للتشرّف بالزيارة، لم يخطرْ ببالي مرّةً واحدةً في المسجد النبويّ أين يرقدُ أبو بكر، لأرى أين قبره، أو أين عمر. أليس من غير اللائق أن يأتي الإنسانُ لزيارة عظيمٍ مثلِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ بدلاً من أن يفكّرَ به، يبدأُ بالتساؤل: «لنرى أين استراح أبو بكر بجانبك؟ وأين فلان؟ وأين قبره؟ وأين عمر؟». كلّ هذه انشغالات تشغلُ الذهن، فينشغلُ هذا الذهنُ بأمورٍ غيرِ واقعيّة وغيرِ حقيقيّة، وتضيعُ تلك الحقيقةُ وتضعفُ وتفقدُ صلابتَها.
هذا الموضوعُ الذي نريدُ أن نلتفتَ إليه في يوم عاشوراء من خلال كلامِ السيّد الحدّاد، هو أنّنا يجبُ أن ننظرَ إلى تضحيةِ سيّد الشهداء عليه السلام، وننظرُ إلى تضحيةِ حضرةِ أبي الفضل عليه السلام، وننظرُ إلى تضحيةِ حضرةِ عليّ الأكبر عليه السلام، وننظرُ إلى تضحيةِ هؤلاء الأصحاب، وننظرُ إلى نيّاتهم، وننظرُ إلى أحوالهم، وننظرُ إلى أوضاعهم. وبهذا النظرِ وهذا التوجّه، نتقدّمُ شيئًا فشيئًا، حتّى نشعرَ بأنفسنا في تلك البيئة. أمّا إذا كنّا نُلقي نظرةً إلى الإمامِ الحسين عليه السلام ونظرةً إلى الشمر، ونقول: «آهٍ، هذا الشمرُ فعلَ كذا وكذا، وانظر ماذا فعل! ومن تلك الجهة عمرُ بنُ سعد، ومن تلك الجهة فلان!»؛ إذا كان التوجّهُ إلى هذا وذاك باستمرار، فإنّ نصيبَنا من هذه المسألةِ سيكونُ قليلاً.
كيفيّة التعامل مع كلّ من جانبي التبريّ والتولّي
أنا لا أريدُ أن أقولَ إنّه لا ينبغي للإنسانِ أن يكونَ له جانبُ التبرّي. فمن فروعِ ومبادئ مذهبنا الشيعيّ هو جانبُ التبرّي، وبالتبرّي يستطيعُ الإنسانُ أن يجدَ الطريق. فالشيعةُ لديهم البُعدان معًا: بُعدُ التولّي، أي الارتباط، وبُعد التبرّي، أي بُعد دفع مخالفي أهل البيت عليهم السلام وإبعادهم. ويجبُ أن يوجدَ كلا البُعدين في الإنسان، ولكن بُعد التبرّي يجبُ أن يكونَ باطنيًّا، ولا ينبغي للنفسِ أن تلتفتَ إليه بعد ذلك. فالتبرّي موجود، لكن أن يأتي الإنسانُ ويقضي ساعاته الواحدة تلو الأخرى ليرى ماذا فعلَ هذا؟ وماذا قال ذاك؟ وماذا أجاب هذا؟ وماذا قال عمرُ بنُ سعد؟ إنّ السؤالَ والجوابَ باقيانِ إلى يوم القيامة. تعالَ وانظرْ ماذا قال الإمامُ الحسين عليه السلام؟ لننظرْ إلى أجوبةِ سيّد الشهداء عليه السلام، ولننظرْ إلى أسئلةِ وأجوبةِ حضرةِ أبي الفضل عليه السلام، ولننظرْ إلى الكلامِ الذي قالوه والمواضيعِ التي طرحوها. هل هذا واضح؟! إذا أراد الإنسانُ أن يقوّي هذا البُعد في نفسه، فإنّ نفعهُ سيكونُ أكبر.
حسنًا، هذا ما يخصّ مسألةُ شهادةِ الإمامِ الحسين عليه السلام. إذن، شهادةُ الإمامِ الحسين عليه السلام وقتلُه في حدّ ذاتهما لا إشكالَ فيهما، بل هما أمرانِ جيّدانِ جدًّا ورائعانِ جدًّا، وتترتّبُ عليهما مسائلُ عظيمة. الشيءُ الفاسدُ هنا هو النيّاتُ التي أوجدت هذه القضيّة، تلك النيّاتُ فاسدة. تلك النيّاتُ التي دفعت ثلاثينَ ألفَ رجلٍ للنهوضِ ومحاربةِ ابنِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله، تلك هي الفاسدة. كلُّ تلك النيّاتِ شيطانيّة، ولولا هذه النيّات، لقال الإمامُ الحسين عليه السلام: «أنا مستعدٌّ أن تقعَ لي هذه القضيّةُ ولو سقطَ حجرٌ من السماء على رأسي». لو لم تكن هذه النيّاتُ موجودة، لقال مثلاً: «كنتُ مستعدًّا أن أسقطَ من على صهوةِ جوادي فأموت، أو أن يصيبني حجر...». إذا كان لا بدّ من الشهادة، فكنتُ مستعدًّا أن تأتي المصائب بطريقةٍ أخرى وبأيّةِ كيفيّةٍ كانت. ففي النهاية، هذا مقامٌ يمنحهُ اللهُ للإمامِ الحسين عليه السلام بواسطة الشهادة: «إِنَّ لَكَ عِنْدَ اَللهِ دَرَجَةً لَنْ تَنَالَهَا إِلاّ بِالشَّهَادَةِ». حسنًا، ما دامت هناك شهادة، وليست بهذه الكيفيّة، فلنفترض أنّ جميعَ الناسِ في زمن الإمامِ الحسين عليه السلام أصبحوا صالحين، فسيقول الإمامُ الحسين عليه السلام: «ماذا نفعلُ الآن لنُقتَل؟ ليأتِ أحدٌ ويفعلُ بنا كذا... ماذا نفعل؟ فهؤلاء كلّهم أناسٌ طيّبون». هل هذا واضح؟! ولكن لا؛ لأنّ هذه النيّةُ صالحةٌ وتلك النيّةُ فاسدة؛ وبسبب تلك النيّةِ الفاسدةِ، يصبحُ هذا العملُ مؤلمًا وموجعًا، وهذه الشهادةُ تصبحُ شهادةً موجعة. لماذا؟ بسبب هذه النيّات.
القُبح بين العمل والنية
إذن، في قضيّةِ عاشوراء، وطبقًا للآيةِ القرآنيّة، ما هو الذي كان مرضيًّا عند الله وما هو الذي كان غيرَ مرضيٍّ عنده؟ الذي كان مرضيًّا عند الله هو نفسُ شهادةِ سيّد الشهداء عليه السلام.. ذلك كان مرضيًّا عنده، وقد تمّ. فشهادةُ الإمامِ الحسين عليه السلام وأصحابه كانت مرضيّةً عند الله، وترتّبت عليها مراتبُ عظيمة، وهذا أيضًا قد تمّ. فما الذي كان غيرَ مرضيٍّ عنده؟ تلك النيّاتُ الخبيثة والفاسدة، وتلك الأهدافُ والآراءُ الشيطانيّة. إذن، ﴿كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكرُوهًا﴾۱. سيّئتُهُ هي المكروهةُ عند ربّك، لا هو نفسه. فنفسُ شهادةِ الإمامِ الحسين عليه السلام لم تكن «عند الله مكروهة»، بل كانت «عند الله محبوبة». كانوا يقتلون الإمامَ الحسين عليه السلام، واللهُ في الأعالي يفاخرُ به الملائكة. هكذا هي القضيّة! هكذا نُقل! كانوا يقتلون الإمامَ الحسين عليه السلام، والله تعالى يقول: «تعالوا وانظروا ماذا يفعلُ عبدي؟». ولكن من الجانب الآخر، تلك النيّاتُ «عند الله مكروهة»، تلك الأهدافُ «عند الله مكروهة». ما هو ذلك الهدف؟ إنّه هدفٌ شيطانيّ.
ما هي حقيقة السرقة؟ السرقةُ عملٌ قبيح. حسنًا، ما هو القبيحُ فيها؟ هل أخذُ المالِ والذهابُ به قبيح؟ أن يأخذَ الإنسانُ مالاً ويذهبُ به ويُنفقه. هذا ليس قبيحًا؛ كأن يأخذُ الإنسانُ مالاً من مكانٍ ما، وينتقلُ هذا المالُ إلى مكانٍ آخر. هذا ليس قبيحًا. فبدلاً من أن يكونَ هذا الكوبُ في هذه النقطة، آخذهُ وأضعهُ في هذه النقطة الأخرى، وأسمّي هذا سرقة. هل هذا قبيح؟ هذا ليس قبيحًا. بدلاً من أن يكونَ هذا المالُ في جيبِ حضرتك، يأتي إلى جيبي أنا. أين القبحُ في هذا؟ لا قبحَ فيه أبدًا، بل هو جيّدٌ جدًّا ولا إشكالَ فيه!! ففي بعض الحالات، أجاز الشارعُ السرقة، كما في الحالات التي تكونُ فيها حياةٌ في خطر، ويتوقّفُ حفظُ هذه الحياةِ على بذلِ المال، ولكنّ الشخصَ لا يملكه، في حين أنّ شخصًا آخرَ يمكنه أن يعطيه. في هذه الحالة، يجبُ على الإنسانِ أن يأخذَ المالَ ويذهبَ لإنفاقه، فالحياةُ في خطر. وقد وردت هذه المسألةُ حتّى بالنسبة للحيوان، فما بالك بالإنسان.
الشيءُ الباطلُ في هذه السرقةِ هو نيّةُ السوء والعُدوان، والاعتداء على المال والحقّ.. هذا هو ما يجعلُ السرقةَ مسألةً قبيحة. أمّا إذا كانت النيّةُ صالحة، فلن تكونَ هذه سرقةً بعد ذلك، لكن، بشرط أن تكونَ النيّةُ صالحة؛ أي أن تكونَ مطابقةً لأمر الشرع، ومطابقةً للتكليف، وفي الحالات التي حدّدها الشارع. لا أن يقولَ الإنسانُ من عند نفسه: «ما دامت نيّتنا خيّرة، فلنهاجمْ ونسلبْ ونأخذْ أموالَ الجميع». لا، كلّ هذا باطل.
فكلّ ما يكتسبُ صفةً وجوديّة، فإنّه يكون ـ بمقتضى أنّ «الوجود خيرٌ كلُّه وخيرٌ مصداقُه» ـ في أصل وجودِه ومصاديقَه خيرٌ، ولا يكون مكروهًا، بل إنّ تلك النيّاتُ هي التي تؤدّي إلى وقوع هذه الأمور، ﴿كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ﴾، أي جانبُ السوءِ فيها، ﴿عِندَ رَبِّكَ مَكرُوهًا﴾. حسنًا جدًّا.
ومن هنا، ففي الرجاءِ الذي يقصدُ الإنسانُ من خلاله أن يطلبَ شيئًا من الله، فإنّ جانبهُ النفسانيّ هو الذي يفسدُ الأمر.
سرّ تحريم بعض الأشياء كالسحر
لماذا السحرُ حرام؟ لأنّ له جانبًا نفسانيًّا. السحرُ والشعوذةُ حقيقةٌ واقعة؛ فإذا وُضع هذا السحرَ والشعوذةَ في مسار المصلحة، فلا إشكالَ فيه؛ وأمّا إذا وُضعَ في مسار المفسدة، فهو حرام؛ كأن يلجأ إليه للتفريقِ بين شخصين، أو للتفريقِ بين أفراد العائلة، أو لجلبِ المشاكلِ للناس. فهذه الأمورِ موجودةٌ ولها حقيقة، وكلّها ستنقلب على فاعلها لاحقًا. ويمكنُ استخدامُ هذه الأمورِ لهذه الأغراض.
نقلَ أحدُهم في مجلسٍ كنّا فيه ـ أتذكّرُ أنّ هذا كان قبل وقتٍ طويل، ربّما قبل ثلاثينَ عامًا، وهذا الشخصُ قد توفّي الآن، وكان شيخًا كبيرًا آنذاك ـ فقال: «كان لي أخٌ ضليعٌ في مسائلِ السحرِ والطلاسمِ والأمورِ العجيبةِ والغريبة. وفي يومٍ من الأيّام، جاءني خبرٌ أنّ أحدَ إخوتي، وكان أكبرَ منّا سنًّا بقليل، قد سقطَ من على سطحِ المنزلِ أثناءَ تنظيفِ الثلجِ وتوفّي. ذهبنا وكنّا في مراسمِ التشييعِ والدفن، فجاءني أخي الآخر، وهو الأصغرُ منّا، وقال: "يا أخي". قلتُ: "ماذا؟". قال: "أتعلمُ أنّني قتلتهُ في النهاية؟". قلتُ: "ماذا؟ أنت قتلته؟". قال: "قلتُ له أعطني مالاً أريدُ أن أفعلَ كذا وكذا، فقال: لن أعطيك. فقلتُ له: إن لم تعطني سأقتلك. فقال: اقتلني. وفي النهاية قتلته". قلتُ: "ماذا فعلتَ أيّها اللعين، يا مُهدّم البيوت؟". كنتُ أعلمُ أنّه يفعلُ مثلَ هذه الأمور. قال: "لا شيء، دخلتُ غرفتي وأغلقتُ البابَ لمدّة أسبوع، وبدأتُ بالأوراد والأذكار والطلاسم، وبعد أسبوع، قتلتهُ في النهاية"». وتبيّن أنّ هذا الرجلَ قد لجأ إلى هذه الأمور، وبعد أن انتهى من عمله، كان ذلك المسكينُ سيّئُ الحظِّ ينظّفُ الثلجَ على سطحِ المنزل، فانزلقت قدمهُ فجأةً وسقطَ على رأسه. وتبيّن أنّ هذا قد دبّر له الأمر. طبعًا، هو نفسه قال: «بما أنّني قتلته، فسأموتُ أنا أيضًا بعد أسبوع». وقد حدث ذلك. فما هذا العمل؟ إنّه حقًّا جنون! وبعد أسبوعٍ مات هو أيضًا. وقال ذلك الأخُ الذي كان يروي القصّة إنّ أخاهُ الذي فعلَ ذلك قد توفّي.
ما هذا العملُ حقًّا؟ أيُّ نفسٍ هذه؟ وأيّةُ نيّةٍ هذه التي تأتي وتقومُ بمثلِ هذه الأعمال؟ هذا هو الشقاءُ بعينه، والحسدُ بعينه، والكدورةُ والظلمةُ.
إنّ علّةَ حرمةِ السحرِ هي لهذا السبب. لأنّه يقعُ في أيدي أناسٍ غيرِ صالحين. فلأنّ النفوسَ شيطانيّة، ومختلطةٌ بالمسائل الشيطانيّةِ والهوى النفسانيّ، فإنّها تأتي وتستغلُّ هذا السحرَ استغلالاً سيّئًا وتُفسد الحياة؛ ولهذا السبب، يُصبحُ حرامًا، حيث وردت تصريحاتٌ في القرآن الكريم بشأن هذه المسألة.
كيف ندعو الله دعاءً صحيحًا؟
بناءً على هذا، يجبُ أن تكونَ النيّةُ صالحةً في رجاءِ الإنسانِ وأمله؛ أي: عندما يكونُ لدى الإنسانِ أملٌ ورجاءٌ في الله، يجبُ عليه أوّلاً أن يُصلحَ نيّته في ذلك الأملِ وذلك الرجاء، قدرَ المستطاع، ثمّ يطلبُ من اللهِ تلك الرغبة وتلك المسألة. يجبُ عليه أوّلاً أن يغوصَ في أعماق نفسه ويتفحّصَ نيّته ونفسه ليرى هل للمسائل النفسانيّة حضورٌ في هذه النيّةِ أم لا. وعندما يرى ـ طبعًا قدرَ المستطاع، لا نريدُ أن نقولَ... فبعضهم يقول: "يا سيّدي، كيف نصلُ إلى هذا؟ ما زلنا نشكّ!" ـ لا، قدرَ المستطاع، فكلُّ إنسانٍ مكلّفٌ بالقدر الذي يستطيعه. فعندما يرى أنّ نيّته في تلك المسألةِ هي لله، حينها يطلبُ منه تعالى.
اختبار النية في الدعاء للمريض
هذه النيّةُ التي ينويها الإنسانُ الآن، مثلاً لشفاءِ مريض، لا ينبغي له أن يقفَ عند هذه النقطةِ فقط ويريدها بأيِّ نحوٍ وبأيّةِ كيفيّةٍ وبأيِّ شكلٍ كان. لماذا؟ لأنّه قد لا تكونُ مصلحةُ الشفاءِ موجودةً هنا. وإذا أراد الإنسانُ أن يقول: «لا! أنا أريده أن يُشفى»، فإنّ الله سيقولُ له حينئذ: «هل هذه النيّةُ التي لديك بأن يُشفى، تريدها له أم تريدها لنفسك؟». هنا يُكشفُ أمرُ الإنسان. إذا كانت مصلحتهُ في الرحيل، فهل تبقى تطلبُ له الشفاءَ من الله أم لا؟ هنا، يجبُ على الإنسانِ أن يختبرَ نفسه؛ وذلك إذا كانت المصلحةُ في الرحيل. أم أنّك تريده لنفسك؟ لماذا تريده لنفسك؟ لأنّك حيٌّ في هذه الدنيا. قل لي، لو كنتَ أنتَ في ذلك العالمِ ورحلتَ من هذه الدنيا ونظرتَ من ذلك العالمِ إلى هذه الدنيا ورأيتَ هذا المريض، فهل كنتَ ستطلبُ من اللهِ أيضًا أن يشفيه؟ أم لا؟ كنتَ ستريده أن يأتي إليك. إذن، من الواضح أنّك تريده أن يكونَ معك. لو قيل لك: «يا سيّدي، مريضُك سيُشفى، ولكنّك أنتَ ستموتُ غدًا». لقلتَ: «آه، وما الفائدةُ لنا في ذلك؟». ما الذي حدث؟ «نحنُ نشفي مريضَك، ولكن على حضرتك أن تشرّفَنا بالرحيل غدًا». فيقول: «حسنًا يا إلهي، أنتَ أعلمُ بالمصلحة، الأمرُ بيدك». كيف لم تقلْ هذا حتّى الآن؟! لماذا لم تقلْ هذا حتّى الآن؟ ما الذي تغيّر؟! هنا يجبُ على الإنسانِ أن يختبرَ نفسه، فهذه عبارة عن امتحانات.
لو كنتَ في ذلك العالم، فإنّ من يذهبُ إليه يطّلع على المصالح، طبعًا إلى حدٍّ ما. عندما يذهبُ إلى ذلك العالمِ يرى ويقول: «آه، عجيب! المجيءُ إلى هنا... يا إلهي، أين كنّا؟». يقولون إنّ الطفلَ حين يكونُ في بطنِ أمّه، لا يريدُ أن يخرج، بل يقول: «يا لهُ من مكانٍ جيّد ودافئ وناعم! فطعامُنا يصلُنا، ولا توجدُ بطاقاتُ تموين، والفيضُ دائم». فدمُ الأمّ يصلُ إلى الطفلِ باستمرار، فيعتادُ على تلك البيئة. ليس له عينان، مسكينٌ لم يرَ شيئًا، عيناهُ كانتا في ظلامٍ دامس ﴿فِي ظُلُمَٰتٍ ثَلَٰثٍ﴾۱. لا يريدُ الخروج. وحين يحلُّ الشهرُ التاسع، يُقال له: «يا سيّدي، اخرجْ، لتنظر ما هي الأخبار؛ فهنا سماءٌ وأرضٌ وأصدقاءٌ وأقارب». فيقول: «لا، هذا المكان جيّد». ومهما قيل له، فإنّ الملائكةَ ترى أنّه لا فائدة من ذلك؛ لأنّه لا يخرج؛ فيتقدّمونَ ويأخذونهُ من أذنه ويضربونهُ ضربةً ويقولون له: «اخرجْ». ويقولون في الروايةِ إنّ البكاءَ الذي يبكيه الطفلُ بعد خروجه هو بسبب تلك الضربة التي تلقّاها سابقًا. بعضهم لا يخرجون أيضًا فيصلُ الأمرُ إلى الجراحة، وكأنّ ضربَ الملائكةِ لم يكن مجديًا. كانوا يقولون إنّ الجنَّ في ذلك الزمانِ كان يفرُّ من "بسم الله"، أمّا جنُّ هذا الزمان، فحتّى لو قرأتَ آيةَ الكرسيّ فإنّه يقفُ ولا يتحرّك!!
قضيّتُنا نحنُ هي كذلك. فنحنُ أيضًا في هذه الدنيا ننظرُ إلى أنفسنا ومصالحنا وأوضاعنا، ونتخيّلُ أنّ الأمرَ هو هذا. ولكن لو ذهبنا إلى ذلك العالمِ وانفتحت أعينُنا هناك، فهل كنّا سنريدُ لأطفالنا أن يبقوا في هذه الدنيا، أم لا؟ كنّا سنقول: «كلاّ! يا إلهي، أرسلهُ ليأتي، ليأتي إلينا هنا». إذن، فما علّةُ طلبِنا للشفاء؟ إنّها من أجلِ أنفسنا، لأنّنا نريدُ أن نأنسَ بذلك المريض، ولا ننظرُ أبدًا إلى مصلحته، وماذا قدّر اللهُ له؛ فلعلّ مصلحتهُ في الارتحال إلى ذلك العالم، فلا توجد أيّة مشكلة في موته. لكن، لأنّنا في هذه الدنيا، ونريده أن يأنسَ بنا، ويكونَ مأنوسًا بنا، ونكونَ حوله، فإنّنا نقول: «يا إلهي، اشفهِ»، فننذرُ، ونقيمُ الموائد، ونفعلُ كذا وكذا. فيقولُ الله تعالى: «يا عزيزي! أنتَ ترى جانبًا واحدًا من المسألة، وتُشاهد جزءًا يسيرًا من كٌلٍّ كبير. مصلحةُ هذا الشخصِ نفسه هي في الرحيل». فنقول: «لا يا إلهي، يجبُ أن يبقى...». «حسنًا جدًّا، سنبقيه، ونأخذُك أنت». واحدٌ من هذين الاثنين. فنقول: «يا إلهي، لم تنجحْ خطّتنا، هذا الإلهُ لا يريدُ أن يتوافقَ معنا». حينها نبدأُ بالدعاء: «يا إلهي، افعلْ كذا، وافعلْ كذا».
قصّة السالك الذي أغنته الدنيا فأعرض
أحدُ أقاربنا، رحمه الله، كان على صلةٍ بالمرحومِ العلاّمة ومن تلامذته. وطبعًا، أصبحَ تلميذًا له مرّتين أو ثلاثًا ثمّ انفصل عنه؛ أي أنّه أصبحَ سالكًا، واستقال مرّتين أو ثلاثة تقريبًا. فكلّما ساءت أوضاعهُ قليلاً أصبحَ سالكًا، وعندما تتحسّن أوضاعهُ يستقيل. حتّى جاء في المرّةِ الأخيرة، وهي الثالثة، وقال: «أنا كذا وكذا، وأراكَ كذا، وأنتَ كذا وكذا». وكان المرحومُ العلامةُ يضحكُ من كلامه. وقد قال لي لاحقًا: «في نفس الوقت الذي كان يقولُ فيه هذا الكلام، كنتُ أرى أنّه لم يأتِ بعدُ بصدق، وأنّ فيه أشياءَ أخرى، ولكنّني قبلتهُ على أيّة حال». ولسنواتٍ، كان حالهُ جيّدًا، إلى أن أقبلت عليه الدنيا مرّةً أخرى على ما يبدو؛ وبمجرّد أن أقبلت عليه، نسيَ المرحومَ العلاّمةَ أيضًا، وأصبحَ يحضرُ الجلساتِ مرّةً ويغيبُ أخرى.
في أحد الأيّام، وكان هذا الرجلُ قد أنشأ مزرعةَ دجاج، فقال له المرحومُ العلاّمة: «يا فلان، لماذا لا تشاركُ في جلساتنا عصرَ يومِ الجمعة؟». فقال: «يا سيّدي، إذا جئتُ، ستموتُ الدجاجاتُ من الجوع». فقال له المرحومُ العلامةُ بحزم: «فلتمتْ دجاجاتُك»، ولكنّه لم يتنبّه. ولمّا انفصل تدريجيًّا، مع أنّ هذا الانفصال لا يبقى على حاله، فبعضُهم ينفصلون، فيتوقّفون عند تلك المرحلة، ولكنّ بعضهم ـ والعياذ بالله ـ عندما ينفصلون، يصبحونَ شيئًا آخر. المهمّ، أنّ أمورهُ في هذه الدنيا ازدهرت، وصارت له ثروةٌ لا نهائيّة، وارتبط ببعضِ الجهات، نعم، هذه من الأسرارِ التي لا تُقال! فوصلَ به الغرورُ والفخرُ والتبخترُ والتفرعنُ تدريجيًّا إلى مرتبةِ الكمال في البروز والظهور، إلى أن ابتُليَ هذا المسكينُ بمسألةٍ.
كانت والدتهُ، التي كانت على صلةٍ وثيقةٍ جدًّا بالمرحومِ العلاّمة وتربطها به قرابة، تتّصلُ باستمرار وتقول: «ادعُ له، افعلْ كذا». وكان المرحومُ العلامةُ يقول: «نرجو الله تعالى أن يختار له الصلاح، ويختار له كذا». والقضايا هنا مفصّلةٌ جدًّا، إلى أن توفّيَ ذلك الشخصُ في النهاية. وباختصار، لقد توفّي. كنتُ في الغرفة، فقال لي المرحومُ العلاّمة: «اتّصلْ بوالدته، فأنا أريدُ أن أقدّمَ لها التعازي». كان ذلك في أواخرِ عمرِ المرحومِ العلاّمة. اتّصلنا بها، فبدأ يتحدّث معها، وكان واضحًا ـ مع أنّني لم أكن أفهمُ شيئًا ممّا يُقال على الهاتف ـ أنّ والدتهُ كانت تُظهرُ جزعًا وحزنًا شديدين. وفي إحدى الجملِ التي ذكرها المرحومُ العلاّمة، قال: «فلانة، هل كنتِ سترضين لو كان ابنُك حيًّا ويعصي الله، أم أنّكِ راضيةٌ الآن وقد رحلَ عن الدنيا، وإن شاء الله يكونُ محلَّ غفرانِه ورحمته؟ أيُّ الأمرينِ تريدينه؟». لم تستطعْ أن تقولَ له شيئًا بعد ذلك. وكما بدا، قال لها: «اعلمي أنّه لو كان حيًّا لما كفَّ عن معصيةِ الله، فكانت مصلحته في أن يأخذهُ الله تعالى».
ومضت هذه القضيّة، وفي يومٍ من الأيّام، دعا المرحومُ العلامةُ زوجةَ ذلك الرجلِ وبناتِه ـ وكان مَحرَمًا لهنّ جميعًا ـ إلى مشهد. وأتذكّرُ أنّه كان شهرُ رمضان، ودعاهنّ على الإفطار، وكان هناك بعضُ الأقاربِ الآخرين. كنّا نجلسُ في غرفة الاستقبال الخارجيّة، وكانت عائلةُ ذلك المرحومِ تجلس في القسم الداخليّ من المنزل. ذهب المرحومُ العلامةُ ليتفقّدهنّ، وبقي معهنّ حوالي نصفِ ساعةٍ أو ثلاثةِ أرباعِ الساعةِ وتحدّث معهنّ، ثمّ عاد. وكان صهرُ ذلك المرحومِ حاضرًا في ذلك المجلسِ أيضًا. فلمّا عاد، كان غارقًا في التفكير ورأسهُ مطأطئ. وبعد فترة، رفع رأسهُ وقال: «عجيبٌ جدًّا، عجيبٌ جدًّا، عجيبٌ جدًّا. لا يستطيعُ الإنسانُ أن يدركَ مصالحَ اللهِ يا سيّدي. كنتُ أفكّرُ في أنّه لو كان هو حيًّا، لما انعقد مجلسُنا هذا الليلةَ أبدًا. عجيبٌ جدًّا». هل هذا واضح؟!
وحينها، نأتي نحنُ، وننظرُ في الأمورِ من نافذتنا الخاصّة، ومن تلك الدائرةِ الضيّقةِ لفكرنا الناقص، ونبدأُ بالإصرار والإلحاح، ونُتعبُ الناس: «يا سيّدي، ليكنْ كذا، يا سيّدي، ليكنْ كذا، ليكنْ الدعاءُ هكذا». لا يا سيّدي! ليأخذِ الإنسانُ المسألةَ ببساطةٍ ويوكلَها إلى الله، وليكنْ في ضميره ونيّته مصلحةُ الله.
إذن ماذا نفعل؟ من جهة، نحنُ مأمورونَ بالدعاء... يخاطبُ اللهُ تعالى نبيّه موسى على نبيّنا وآله وعليه السلام قائلاً: «يَا مُوسَى، سَلْنِي حَتَّى مِلْحَ طَعَامِكَ»۱. وكان عليه السلام قد مرضَ، ولم يتناولْ الدواء، مُنتظِرًا أن يشفيه الله. فقال له تعالى: «لو جلستَ هكذا إلى يوم القيامةِ لما شفيتُك. فلماذا وضعتُ حكمتي في هذه النباتات؟ انهضْ واذهبْ وكُلْ من هذه الأعشابِ لتُشفى». وتناول هذه العقاقير؛ أي النباتاتُ الطبيّةُ التقليديّة؛ إذ لم تكن هناك كبسولاتٌ وبنسلين في ذلك الوقت. أتذكّرُ أنّه حينما كنّا أطفالاً ونمرضُ وترتفعُ حرارتُنا، كان ارتفاع حرارتنا مصيبة، ومصيبةُ الأدويةِ التي كان يعطينا إيّاها والدي مصيبةٌ أخرى. لا أراكم اللهُ يومًا سيّئًا! فكانوا يعطوننا مغليّ الأعشاب.. هل شربتموهُ من قبل؟ لا بدّ أنّ كبارَ السنّ قد شربوه. كان مرًّا، وسيّئ الطعم، وكنّا نشعرُ بالغثيان وننسى حرارتَنا. فعندما ترتفعُ حرارتُنا، كنّا نقول: «لقد ابتُلينا مرّةً أخرى بمغليّ والدنا». أتذكّرُ، ولن أنسى أبدًا، أنّني عندما جئتُ إلى قمّ في السابعة عشرة من عمري، أُصبتُ بالحمّى في الشتاء الأوّل. وطبعًا، لم يكن المرحومُ الوالدُ بجانبي ليعطيني مغليّ الأعشاب، فقلتُ في نفسي: «الحمدُ لله، أُصبتُ بحمّى لذيذة بدون مغليّ أعشاب». تناولتُ بعضَ الأقراص؛ وبعد أن ذهبتُ وقصصتُ عليه الأمر، ضحكَ حتّى سقطَ على ظهره. قلتُ له: «يا سيّدي، لقد تخلّصنا من مغليّ أعشابك حينما ذهبنا إلى قمّ». فالآن، أصبحت هناك حقنٌ وكبسولاتٌ وأقراصٌ.
نعم! هكذا يخاطبُ اللهُ حضرةَ موسى عليه السلام. ولدينا كلّ هذه الآيات. فماذا يجبُ أن نفعل؟ مع الانتباه إلى ما سبق، أظنُّ أنّ الرفقاءَ قد فهموا الموضوع: إنّ اللهَ يحبُّ أن يطلبَ منهُ عبدُهُ المؤمن. لكن، يجبُ علينا في عينِ الدعاءِ الذي نطلبهُ منه، أن نجعلَ محور النيّةِ والقلبِ والفكرِ يدور حول اختياره هو. «إلهي، نحنُ نريدُ هذا، ولكنّكَ أعلمُ بمصلحتنا منّا. إلهي، نحنُ نريدُ هذا، ولكنّكَ تعلمُ ما هو خيرٌ لنا منّا. إلهي، نحنُ نريدُ هذا، ولكنّكَ أعلمُ بمآلنا. إلهي، نحنُ نريدُ هذا، ولكنّ اختيارَكَ يرجحُ على اختيارنا». لا تفقدوا هذه المحوريّةَ أبدًا.
إن شاء الله، نأمل... ويبدو أنّ الساعةَ قد أصبحت التاسعة، أليس كذلك؟ حسنًا، لقد تأخّر الوقتُ كثيرًا. نرجو أن يبصّرَنا اللهُ ـ إن شاء تعالى ـ أكثرَ فأكثرَ بمبادئه الحقّةِ وبما ورد عن أهلِ البيتِ عليهم السلام فيما يخصّ التوجّهِ إليه وطلبهِ والنيّاتِ التي نحملها تجاهَ المسائل، وأن يرضّيَنا بما يقدّرهُ لنا ويختاره، وأن يحقّقَ فينا اختيارَه وتقديرَه بحلاوةٍ وسعادةٍ وبهجة.
اللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ