المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1426
التاريخ 1426/10/01
التوضيح
هل يتوقّف السير إلى الله تعالى على الخلوّ من المشاكل؟ ما هي الحِكمَةُ من الهَزيمَةِ في سِيرَةِ الأولياءِ؟ أيّ شيءٍ ينبغي على الموحّد الاهتمام به؟ ما هو مَنهَجُ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام في التَّعامُلِ مَعَ الخُصومِ؟ لِماذا قالَ الإمامُ فُزتُ ورَبِّ الكَعبَةِ؟ هل ينبغي أن يكون العَمَلُ لِأجلِ الجَزاءِ أم لِأجلِ المَحبوبِ؟ ما هو الدور الذي يلعبه العشق في حركة السالك؟ كَيفَ يَكونُ الأئِمَّةُ عليهم السلام شُفَعاؤُنا؟ هي تساؤلات سعى سماحة السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله سرّه للإجابة عنها في هذا المحاضرة التي عقدها لشرح فقرة «مَعرِفَتي يا مَولايَ دَليلي عَلَيكَ» من حديث عنوان البصريّ.
هوالعليم
دور المحبّة والعشق في السير إلى الله تعالى
نظرة العرفاء للنصر والهزيمة
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي ـ سنة ۱٤٢٦ هـ ـ الجلسة الرابعة عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللَه الرَّحمَنِ الرَّحيم
و صلَّى اللَه عَلَى سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم مُحَمَّدٍ
وعلى آله الطيّبين الطّاهرين واللعنة عَلَى أعدائِهِم أجمَعينَ
هل يتوقّف السير إلى الله تعالى على الخلوّ من المشاكل؟
«مَعرِفَتي يا مَولايَ دَليلي عَلَيكَ وحُبّي لَكَ شَفيعي إلَيكَ».
مَعْرِفَتِي بِكَ يَا مَوْلاَيَ، هِيَ دَلِيلِي عَلَيْكَ، وَهِيَ التي تهديني إِلَيْكَ. وَمَحَبَّتِي لَكَ هِيَ شَفِيعِي إِلَيْكَ.
بيّنتُ لَيلَةَ البارِحَةِ لِلرُّفَقاءِ أيّة مَعرِفَةٍ هيَ تِلكَ الَّتي يَقصِدُها الإمامُ السجَّادُ عليه السلام، وأنَّها المَعرِفَةُ التي تجعل الإنسان مكتفيًا بالله تَعالى، ولا تترُك أيَّ فَراغٍ في فِكرِه وضَميرِهِ تجاهَ هذا الأمرِ، بحيث يقول: «اللهُ تعالى بِالإضافَةِ إلى فُلانٍ، اللهُ تعالى بِالإضافَةِ إلى المالِ، اللهُ تعالى بِالإضافَةِ إلى الحَياةِ الطيِّبَةِ، اللهُ تعالى بِالإضافَةِ إلى الوَضعِ الجَيِّدِ». فيُقالُ لأحدهم: «يا هذا، لِماذا لا تَتَحَرَّكُ؟ لِماذا لا تَفعَلُ شَيئًا؟»، فَيَقول: «إنَّ وَضعي كَذا، وأنا أعاني من المشاكل، وعَلَيّ دُيونٌ، وحياتي مليئة بالمتاعب». فما مَعنى هذا؟ مَعناهُ أنَّ الحَرَكَةَ نَحوَ اللهِ تَعالى مُتَوَقِّفَةٌ عَلى حَياةٍ مُريحَةٍ خالِيَةٍ مِنَ المَتاعِبِ، مَعَ تَوَفُّرِ جَميعِ الوَسائِلِ والإمكاناتِ والظُّروفِ، سَواءٌ مِنَ النَّاحِيَةِ الخارِجِيَّةِ أم مِنَ النَّاحِيَةِ الدَّاخِلِيَّةِ، بحيث إذا كانَتِ الأمورُ عَلى ما يُرامُ مِن كُلِّ النواحي، حينَئِذٍ إذا أرادَ جَنابُكُمُ المُعَظَّمُ صاحِبُ المَناقِبِ والفَضائِلِ أن يَتَكرّم، فإنّه سيَتَحَرَّكَ نَحوَ اللهِ المُتَعالِ! هذا هوَ مَعناهُ.. ألَيسَ كَذَلِكَ؟ وإلاّ، إذا كانَتِ الأوضاعُ الخارِجِيَّةُ مُتَأزِّمَةً، وكانَ هُناكَ ابتِلاءٌ وضيقٌ ومَشَقَّةٌ، فَلا! لن يكون لنا شَأنٌ بِاللهِ تَعالى، بل سنكون مَشغولينَ بِالأمورِ الخارِجِيَّةِ فقط! وإذا كانَ هُناكَ مِنَ النَّاحِيَةِ الدَّاخِلِيَّةِ نِزاعٌ وشِجارٌ، وعُبوسٌ وتَقطيبٌ، وأمثالُ هَذِهِ الأمورِ، فَلا أيضًا! لا شَأنَ لَنا بِاللهِ تَعالى! يا هذا، أيُّ دُنيا هَذِهِ؟! أيّة حَياةٍ هَذِهِ؟! أيّة حالةٍ هذه؟! النَّاسُ سُعَداءُ، النَّاسُ كَذا، ونَحنُ مُبتَلونَ، ونَحنُ كَذا وكَذا!
قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذي اشتَرَطَ عَودَةَ زَوجَتِهِ لِلسَّيرِ إلى اللهِ
كان المَرحومُ العَلاَمَةُ يقول إنّ أحَدُ رُفَقائِهِ في ذَلِكَ الوَقتِ ـ وهُوَ المَرحومُ الدولابِيُّ الَّذي كانَ حالُهُ جَيِّدًا عِندَما كانَ مَعَ المَرحومِ العَلاَمَةِ ـ قال ذاتَ يومٍ: ذَهَبنا مَرَّةً مع جماعةٍ إلى تَبريزَ إلى مَنزِلِ شَخصٍ يُمكِنُ القَولُ إنَّهُ مِنَ الأصدِقاءِ تَقريبًا، فَرَأينا أنَّ هذا المسكينَ أعزَبُ في بيته، وزَوجَتُهُ المَخَدَّرَةُ المُكَرَّمَةُ المُجَلَّلَةُ المُتَعالِيَةُ قَد تَرَكَتهُ وذَهَبَت، حيث غَضِبَت فذَهَبَت إلى مَنزِلِ أبيها. وعَلى كُلِّ حالٍ، كان هذا المسكين جالِسًا وَحيدًا في زاويَةِ العُزلَةِ، حَزينًا، مُطرِقَ الرَّأسِ، مُتَفَكِّرًا في مَصيرِهِ البائِسِ كما يقول الخواجَة سَعدي. قالَ: ذَهَبنا عنده هُناكَ، فتَوَدَّدنا إلَيهِ قَليلاً، وجَلَسنا معه، ولا بدّ أنّه كان قد سَمِعَ عنّا أشياء وأدركها، فكُنَّا نُريدُ أن نَتَحَدَّثَ مَعَهُ لِنُعيدَ إلَيهِ نَشاطَهُ وسُرورَهُ، ونقول له: «يا عَزيزي، هَذِهِ الأمورُ لا قيمَةَ لَها، ولم يحصل شَيءٌ، فأمامَنا أمورٌ أهَمُّ، ولَدَينا مَسائِلُ أعظم»، ولكن، كُلَّما حاوَلنا معه، كانَ يَقولُ: «يا حاجّ، إذا أرَدتَ أن تَفعَلَ لي شَيئًا، فَاذهَب وأعِد لي زَوجَتي! وأمَّا بالنسبة لله تعالى، فَسَأُصلِحُ أمري مَعَهُ، وسَأتَفاهَمُ مَعَه؛ فإذا كُنتَ تَستَطيعُ فِعلَ شَيءٍ، أو بِعِبارَةٍ أُخرى، إذا كانَت لَدَيكَ القُدرَةُ، فَاذهَب وأعِد لي زَوجَتي!». حَسَنًا، بَعضُ النَّاسِ هم هَكَذا في طبعهم، فكُنَّا نَقولُ لَهُ مِرارًا: «يا عَزيزي، سَتُحَلُّ الأمورُ، سَيَحدُثُ كَذا، وفي النِّهايَةِ، حَتَّى لَو لَم تُحَلَّ، فَيُمكن علاجها بِطَريقَةٍ أُخرى، فلا تَحزَن؛ إذ لَم يَتَوَقَّف أحَدٌ عَندَ هَذِهِ القَضِيَّةِ، بينما أنتَ قَدِ انهارَتِ الدُّنيا عَلى رَأسِكَ إلى هذا الحَدِّ!». لا يا عَزيزي! رَأينا أنَّهُ أصَرَّ عَلى كَلامِهِ حَتَّى النهايَةِ؛ فكان يقول: «يا حاجّ، اذهَب أوَّلاً وأصلِح هذا الأمرَ، جَزاكَ اللهُ خَيرًا، أطالَ اللهُ عُمرَكَ، وأمَّا بالنسبة لله تعالى، فَسَأصلِحُ أمري مَعَهُ».
لا، لا يُمكِنُ أن يَكونَ الأمرُ هَكَذا. فحينَما تَكونُ كُلُّ الأمورِ مُرَتَّبَةً ومُنَظَّمَةً، ولا يَكونُ لَدَينا أيُّ هَمٍّ وغَمٍّ، ولا شَيءَ، حينَئِذٍ نَتَذَكَّرُ اللهَ تَعالى، ونُريدُ أن نَتَحَرَّكَ، ونَشعُرَ بِأنَّ هُناكَ إلَهًا أيضًا، لا! فهذا الإلَهُ سيَقولُ بدوره: «حَسَنًا جِدًّا، لَقَد وَضَعتُموني في آخر القائمة! فينبغي أن تمشي أمورك الحياتيّة، وتَكونُ أوضاعُكَ مُرَتَّبَةً، ولا يَكونُ لَدَيكَ قَلَقٌ في الخارِجِ، وتَكونُ الأمورُ الدَّاخِلِيَّةُ عَلى ما يُرامُ، وكُلُّ شَيءٍ جيّدًا، ثُمَّ تَتَذَكَّرُنا بعد ذلك!!». فهذا نوعٌ [من التعامل مع الله تعالى].
المَعرِفَةُ الحَقَّةُ: اللهُ أوَّلاً وأخيرًا
وهناك نوعٌ آخر يقع على العكس من ذلك! كَما يَقولُ الإمامُ عليه السلام: أن نَستَحضِرَ اللهَ تَعالى في أذهانِنا، ونُفَكِّرَ فيهِ، ونَتَأمَّلَ بِشَأنِهِ، بِحَيثُ يَملأُ هوَ وَحدَهُ كُلَّ وُجودِنا وقَلبِنا. وحينئذ، إذا أُصْلِحَتِ شؤوننا الخارِجِيَّةُ، فَبِها ونعمت، وإذا لَم تُصلُح، لا يهمّ! فما شَأنُنا بِذَلِكَ؟ وما عَلاقَتُنا بِه؟ اليَومَ لَم يَبِعِ المَصنَعُ شيئًا، فَما شَأني أنا؟ هَل أنا هو المَصنَعُ؟ هَل أنا هو الآلَةُ؟ هَل أنا هو مُنتَجاتُ هذا المَصنَعِ؟ فاليَومَ لَم تُبَع منتجاتُ هَذِهِ المَزرَعَةُ أو هذا البُستانُ، حسنًا، فليكن ذلك، إنّما منتجات تلك المزرعة أو البُستان هي التي لَم تُبَع، ولست أنا كي أحزَنَ بأنّه لِماذا لَم تَتَغَيَّر بِضاعَةُ دُكَّاني اليَومَ؟ لماذا لَم تَنقُص؟ هَلِ انتَبَهتُم إلى ما أُريدُ قوله؟ لَم يَكُنِ الأمرُ عَلى ما يُرامُ اليَومَ، حَسَنًا، فليكن ذلك! المهمّ هو أن أرى: ما هي الوضعيّة التي يُمكِنُ أن تكونَ لي هُنا في هذا المقام؟ وأيّة مَكانَةٍ يُمكِنُ أن تَكونَ لي هُنا؟ فإذا لم يُصغِ فُلانٌ اليَومَ إلى كَلامي، هَل يَنبَغي لي أن أفقدَ صَوابي، وأن أرى شَخصِيَّتي وكأنّها تُداسُ بِالأقدامِ، وأنّها تَضمَحِلُّ؟! إنّما يرجع هذا إلى ضعف النفس، وسَبَبُهُ ضَعفُ النَّفسِ. وإذا لَم يَعمَل فُلانٌ اليَومَ بِما قُلتُهُ، هَل يَنبَغي أن أكونَ اليَومَ حَزينًا؟! وهَل يَنبَغي أن يَنصَرِفَ فِكري وخَيالي اليَومَ إلى تِلِكَ الحالة؟! وهَل يجب أن تَختَلِف صَلاتي وصيامي عَنِ الأمسِ؟! وتختَلِفُ تلاوتي للقُرآنُ عَنِ البارحة؟ لا! هذا فَراغٌ للشَّخصِيَّةِ، وفَراغٌ للهُوِيَّةِ؛ في حين أنّ هُوِيَّةُ الإنسانِ وشَخصِيَّتُهُ أسمى مِن هذا.
في هذا الزمان، عندما يتبّع الناسُ كَلامَ شخصٍ، يَقفِزُ دَرَجَةً إلى الأعلى! [ويقول:] «ما شاءَ اللهُ! انظُروا، لَقَدِ استَمَعوا إلى كَلامي، فقد قُلتُ شَيئًا واحِدًا، فاستجاب له ألفُ شَخصٍ»، لكن، في الغد، عندما لا يَستَمِع إلى كَلامه أيّ أحد، بحيث مَهما صَرَخ فَكَأنَّ شَيئًا لَم يَكُن، فإنّه يلطِمُ عَلى رَأسه أنْ: «يا إلَهي، ماذا حَدَثَ؟ لقد انهارَتِ الدُّنيا وسَقَطَتِ السَّماءُ عَلى رَأسي!»، لكن، لِأيّ سبب؟ لِأنَّ النَّاسَ لا يَستَمِعونَ إلى كَلامي!! فليكن ذلك، بل دعهم لا يَستَمِعونَ لمدّة قرن! فلِماذا أهلَكُ أنا؟ ولِماذا تنهار شَخصِيَّتي؟ ولِماذا أُضَيِّعُ نَفسي؟ ولِماذا أُضَيِّعُ أصالَةَ ذاتي.. تِلكَ الأصالَةَ الَّتي هيَ أسمى مِن كُلِّ شَيءٍ؟
أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام: مِثالُ الثَّباتِ عَلى المَبدَأِ
انظُروا إلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام، كيف أنّه لم يكن يعبأ بشيء. فقد جاءَ يَومًا في حَربِ الجَمَلِ، وقَضى عَلى أربَعَةِ آلافِ شَخصٍ، وهَزَمَ جَيشَ عائِشَةَ؛ لكن، انظُروا إلى حالِهِ بَعدَ هَذِهِ الحادِثَةِ، حيث جاءَ إلى عائِشَةَ وقالَ: «يا عائِشَة، ماذا فَعَلتِ؟». فهَل جاءَ لِيَتَفاخَرَ ويَرفَعَ السَّيفَ أمامَ عائِشَةَ، ويَقولَ: «هل رأيتِ؟! تَعالي إلى هنا؟ مَن صاحب القدرة والجبروت هُنا؟ هَل تَرفَعينَ عَلَيَّ السَيفَ؟!». لا! بل بالعكس، حَتَّى إنَّهُ لَم يَذهَب بِنَفسِهِ لِيَتَحَدَّثَ مَعَ عائِشَةَ، بَل أرسل أخاها مُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ الَّذي كانَ يَقولُ: «ادعوني بمُحَمَّد بنُ عَلِيٍّ»، فكانوا يَقولونَ لَهُ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ، فكَم كانَ هذا الرَّجُلُ عَظيمًا! كَم كانَ هذا الرَّجُلُ...! حَتَّى إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام كانَ يَقولُ: «هذا ابني أنا!»، أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام كانَ يَقولُ هذا. فأرسَلَ أخاها وقالَ له: «اذهَب إلى أُختِكَ وانظُر ماذا تَقولُ؟ قُل لَها: ما هذا الَّذي فَعَلتِهِ؟». فجاءَ إلى أُختِهِ، ولَمَّا أرادَ أن يَفتَحَ البابَ قالَت: «لا يَدخُل أحَدٌ إلى هَذِهِ الخَيمَةَ، لا يَنبَغي لِأحَدٍ أن يَنظُرَ إلى زَوجَةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله!»، فقالَ: «اصمتي ـ نعم أخوها، أخوها هو الذي قال ذلك! ـ لَيتَني مِتُّ ولَم أرَ يَومًا كَهَذا! أنتِ زَوجَةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله، لكنّكِ جَيّشتِ جَيشًا ـ أجل، الجنرال عائشة مع كلّ رتبها العسكريّة ـ وحَشَدتِ الرِّجالَ والنِّساءَ من كُلِّ قَريَةٍ وبلد، و...! والآنَ تَقولينَ: لا يَدخُل أحَدٌ الخَيمَةَ! لا يجب أن تَقَعَ عَينُ أحدٍ عَلى زَوجَةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله!». ثُمَّ دَخَلَ، وقال لأخته كلَّ ما خرج من فمه وخطر بباله… ألا تَستَحينَ؟ لَم أرَ أحقَرَ مِنكِ، لَم أرَ أقَلَّ حَياءً مِنكِ، لَم تُبق لَنا ماءَ وَجهٍ، بل لا شَيءَ، وكذا وكذا…! وقالَ: أهَذِهِ كانَت وَصِيَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله لَكِ في ذَلِكَ اليَومِ الَّذي ناداكِ فيهِ، وقالَ: «يا عائِشَةُ، كَيفَ حالُكِ عِندَما لا أكون، وأنتِ تُقاتِلينَ وتُواجهينَ خَليفَتي بِلا فَصلٍ.. عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام؟»، فقالت: «يا رَسولَ اللهِ، هَل سَيَأتي يَومٌ كَهَذا؟ لا قَدَّرَ اللهُ!»، فقالَ [محمّد بن أبي بكر]: «هَل تَذكُرينَ ذلك؟». حينَئِذٍ، أطرَقَت رَأسَها، وقالَت: «بلى، الآنَ تَذَكَّرتُ». قالَ لها: «الآنَ استَحَييتِ؟ فماذا تَتَوَقَّعينَ أن يَفعَلَ عَلِيٌّ بِكِ؟». كانت عائِشَة تَعرِفُ عَلِيًّا، فقد كانت داهيةً، وتفهم ذلك. أ فهل كان هناك مَن لا يَعرِفُ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام؟ وهَل كانَ عُمَرُ لا يَعرِفُهُ؟ وهَل كانَ مُعاويَةُ لا يَعرِفُهُ؟ وهَل كانَ يَزيدُ لا يَعرِفُهُ؟ مَن هذا الذي لَم يَكُن يَعرِفُ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام حَقًّا؟ مَن ذا الذي لا يَعرِفُ الشَّمسَ؟ مَن الذي لا يَعرِفُها؟ سَواءٌ أكانَ عَدُوَّ الشَّمسِ أم صَديقَها، مَن شاءَ فَليَكُن؛ ففي نهاية المطاف، هوَ يَرى، والَّذي يُعطي النورَ الآنَ هي هذه الشمس، والسَّماءُ لَيسَت لَدَيها قُدرَةٌ مِن نَفسِها، بل الَّذي يُعطي النّورَ لِهَذِهِ الأرضِ الآنَ هي الشَّمسُ. قالَت: «أنا أعرِفُ عَلِيًّا». وفي المقابل، ماذا فَعَلَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام؟ كَأنَّ شَيئًا لَم يَحدُث! قالَ: «عائِشَةُ زَوجَةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله؛ ولهذا، فإنّ نَفس الحُرمة الأولى التي كانَت لها في زَمَنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله مَوجودةٌ الآنَ أيضًا، وحِسابُها مَعَ اللهِ تَعالى ورَسولِهِ، وأنا لن أَتَدَخَّل في ذلك!». انظُروا، هذا هو الذي يُقالُ لَه: رجلٌ أحوالُه على منوال واحد. فعِندَما يَنتَصِرُ أمير المؤمنين عليه السلام ويَفوزُ في الحَربِ، هل عليه أن يَأتي، ويَفرَحَ، ويَتَفاخَرَ، ويَتَغَيَّرَ لَحنُ كَلامِهِ، ويُصبِحُ حينئذٍ فاتِحًا، فَيَقومُ ويَرتَجِزُ قائلاً: «لقد رَأيتُم الآنَ كَيفَ أذَقناكُمُ الأمرَّينِ، وكَيفَ فَعَلنا بِكُم كَذا وكَذا!»؟ بل بالعكس، يَقولُ: «لا تَقتُلوا الجَرحى، داووهُم، إنَّهُم مُسلِمونَ. والَّذينَ فَرُّوا لا تُلاحِقوهُم، ولا تَدخُلوا بُيوتَ أهلِ البَصرَةِ، إنَّهُم مَحفوظونَ، وحِسابُهُم مُنفَصِلٌ. والَّذينَ قُتِلوا ادفِنوهُم، ثُمَّ بعد ذلك تَحَرَّكوا نَحوَ المَدينَةِ».
حِكمَةُ الهَزيمَةِ في سِيرَةِ الأولياءِ
فهذه حالة، والحالة الأخرى حدثت في حَربِ صِفِّينَ عندما هُزِمَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام، حيث نجد أنّه في كِلتي الحالتين هو نفسه ولم يتغيّر. وهَكَذا يَأتي اللهُ تَعالى لِيُظهِرَ لنا الأمور، ويَقولَ: «لا تَظُنُّوا أنَّ أوليائي هَؤلاءِ عَمَلُهُم دائِمًا مِن جانِبٍ واحِدٍ، وأنّي دائِمًا أُرسِلُ جِبرائيلَ لِحمايتهم، كلاّ! ففي عَمَلِهِم فَتحٌ ونَصرٌ ظاهِرِيٌّ، وفي عَمَلِهِم هَزيمَةٌ أيضًا». وهَذا يكون حُجَّة بالنسبة إلينا، وهنا تكمن حَقيقَة التَّوحيدِ وسِرّه. لَو كانَ أولياءُ اللهِ يعيشون الفَتح والنَصر على الدوام، لَضَلَّ النَّاسُ وقالوا: «كلاّ يا عَزيزي، هَؤلاءِ بِالتَّأكيدِ لَدَيهِم طلسمٌ أو علم الرمل والإسطِرلاب، فلا يُمكِنُ مُواجَهَتُهُم»؛ كَما لَو أنَّ بَلَدًا يَمتَلِكُ قُنبُلَةً ذَرِّيَّةً، هَل يُمكِنُ مُواجَهَتُهُ؟ لا يُمكِنُ! وحينئذ، إذا جُنّ شخصٌ وقالَ: «فلندع الأمور عَلى اللهِ تعالى، ولنُمَرِّر [قنبلة ذريّة] واحِدَةً الآنَ لِنَرى ماذا سيَحدُثُ!». فهنا، لا يُمكِنُ فِعلُ شَيءٍ لَهُا! في حال أنّ الصَّاروخُ يُمكِنُ فِعلُ شَيءٍ له، والدَّبَّابَةُ يُمكِنُ فِعلُ شَيءٍ لها، وكذلك البُندُقِيَّةُ، والقُنبُلَةُ اليَدَوِيَّةُ، ولَكِنَّ القُنبُلَةَ الذَّرِّيَّةَ لا يُمكِنُ فِعلُ شَيءٍ لها، حيث تَأتي فَجأةً، وتُدَمِّرُ مَدينَةً بِأكمَلِها.
فلَو كانَ أولياءُ اللهِ أيضًا ـ على سبيل المثال ـ يُحالفهم الفَتحُ والنَّصرُ دائِمًا، لَبَقِيَت مَسألَةُ التَّوحيدِ وحَقيقَةُ التَّوحيدِ حينَئِذٍ مَجهولَةً، ولَما عادَ أحَدٌ يَتَوَجَّهُ إلى اللهِ تَعالى بصفته المَبدَأ لِجَميعِ الأشياءِ والمَصدر لِجَميعِ الأمورِ. حينَئِذٍ، كُنَّا سنَنظُرُ إلى اللهِ تَعالى فَقَط مِن خِلالِ نافِذَةِ الفَتحِ والنَّصرِ، ولَيسَ مِن خِلالِ نافِذَةِ التَّكليفِ والعَمَلِ بِالواجِبِ. وسيكونُ الإلَهُ المَقبولُ لَدَينا هوَ الإله الَّذي يَكونُ مَعَهُ الفَتحُ والنَّصرُ دائِمًا، فهذا هو الإلَهُ الذي سيكون مَقبولاً لَدَينا دائِمًا... وللأسف هَذِهِ هيَ المُشكِلَةُ الَّتي ابتُلِيَ بِها النَّاسُ والأُمَمُ بسبب الضَّعفِ الثَّقافِيِّ والضَّعفِ العَقائِدِيِّ؛ فعِندَما يَرَونَ مَكانًا يَكتَسِبُ سُمعَةً، يَتَوَجَّهُونَ إلَيهِ جَميعًا، وعِندَما يَرَونَ مَكانًا يَضعُفُ، يُديرونَ ظُهورَهُم لهم جَميعًا، وعِندَما يَرَونَ مَكانًا فيهِ فَتحٌ ونَصرٌ، تَتَوَجَّهُ الأنظارُ والأفكارُ جَميعًا إلى ذَلِكَ المَكانِ، ويَحدُثُ ضَجيجٌ، [يقولون:] «ما شاءَ اللهُ، لقد كانت يَدُ اللهِ تعالى فوق رؤوسنا، لقد ساعَدَنا اللهُ تعالى، وفَعَلَ كَذا»، ولَكِن عِندَما نُهزَمُ في مَكانٍ ما، يقع كُلُّ اللَّومِ عَلَى الآخَرين! [نقول:] «لَو لَم تَفعَلوا كَذا لَما حَدَثَ كَذا». ففي هذه الحالة، لا نَقول: «إنّ الله هو الذي فعل ذلك»، بل نقول: «لَو عَمِلتُم بِالشَكل صَحيحٍ لَما حَدَثَ كَذا، ولَو عَمِلتُم بِوظيفتكم لَما وَقَعَ هذا الأمرُ». انظُروا! لقد أصبَح الأمر اثنَينِ! فبهذا، لا يصبح الأمر تَوحيدًا، وهذا لَيسَ تَوحيدًا. التَّوحيدُ هوَ أن يَرى المُوَحِّدُ الفِعلَ فِعلَ اللهِ، وأن تكون علاقته مع خلق الله في طول فِعلِ اللهِ، وهذا يُصبِحُ تَوحيدًا.
النَّصرُ والهَزيمَةُ: كلاهما مِن عِندِ اللهِ تعالى
فأحيانًا، قد تَتَعَلَّقُ إرادَةُ اللهِ تَعالى بِالفَتحِ والنَّصرِ، وحينئذ، ينبغي القول: «حَسَنًا، أنا لَم أفعَل ذلك». فيا عَلِيّ، إن كان الفَتحُ والنَّصرُ في حَربِ الجَمَلِ قد تمّ بِقُوَّتِكَ وساعِدِكَ، وليس بإرادَةِ اللهِ ومَشيئَتِه، فتَفَضَّل: لِماذا لَم يَحدُث ذَلِكَ في حَربِ صِفِّينَ؟! ولِماذا حدث هذا الأمرُ في حَربِ الجَمَلِ؟! لِماذا؟
يا رَسولَ اللهِ، إذا كانَ الفَتحُ والظَّفَرُ مَعَ المُسلِمينَ في حَربِ بَدرٍ، فأسَرتُم سَبعينَ شَخصًا، ثُمَّ أخَذتُمُ الغَنائِمَ والفِديَةَ وأطلَقتُم سَراحَهُم، إذا كانَ ذَلِكَ بِيَدِكُم، فَلِماذا هُزِمتُم في حَربِ أُحُدٍ؟ مع أنّ عَتادُكُمُ العَسكَرِيُّ في أُحد كان أضعافَ ما كانَ في حَربِ بَدرٍ، وكُنتُم مِن حَيثُ القُوَّةُ العَسكَرِيَّةُ أقوى بِأضعافٍ. فلِماذا هُزِمتُم هُناكَ؟! ولَكِن أ ليس رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله رجلاً مُوَحِّدًا؟ فهو يَعلَمُ هَذِهِ الأمورَ؛ ولهذا، سيَقولُ: «لقد كانَت حَربِ بدرٍ بِيَدِ الله تعالى، وكذلك حَربِ أُحُدٍ». نَعَم، بِحَسَبِ الظَّاهِرِ والتَّكليفِ، فإنّهم عَصَوا أمرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله، وتَرَكوا ذَلِكَ المَضيقَ، وجاءوا، فَلَمَّا رأى خالِدُ بنُ الوَليدِ هَذِهِ الثَّغرَةَ مَفتوحَةً، دَخَلَ مِن هُناكَ، وبَدَأ هُجومَهُ، وألحَقَ بِالمُسلِمينَ هَزيمَةً نَكراءَ! حَقًّا كانَت هَزيمَةً عَجيبَةً جِدًّا، وحَقًّا لَو لَم تَكُن شَجاعَةُ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام وتَضحِيَتُهُ، لَقُتِلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله في تِلكَ الحَرب يقينًا، ولا شَكَّ في هذا الأمرِ.
ولَكِن، لِنَنظُر إلى باطِنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله، وإلى باطِنِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام، لا الأشخاصِ الآخَرينَ، وكذلك إلى باطن سلمان أيضًا ـ مع أنّه لم يكُن مَوجودًا في ذَلِكَ الوَقتِ حيث أنّه جاءَ لاحِقًا، لكن لو فرضنا أنّه كان على الوضع الذي كان عليه في النهاية ـ؛ فإذا نَظَرنا إلَى هَؤلاءِ الَّذينَ تَنَوَّرَت قُلوبُهُم بِنورِ التَّوحيدِ، ماذا كان يخطر في بالهم؟ هَل كان يخطر فيه الحُزنُ؟ وهَل كانوا سيَلطِمونَ عَلى رُؤوسِهِم ويَشعُرونَ بِالهَمِّ والغَمِّ لِأنَّهُم هُزِموا؟ أم لا، جَلَسوا حَتَّى يَأتيَ إليهم التَّكليفُ التَّالي، [يقولون] حَسَنًا يا إلَهي، لَقَد رَأينا هذا الفيلمَ أيضًا، وشاهَدنا هذا السِّيناريو أيضًا، ورَأينا [المَشهَدَ] السَّابِقَ الذي كانَ خاصًّا بِبَدرٍ، رَأيناهُ، ورَأينا هذا أيضًا، فكلاهما رائعان، سلمت يداك! فلِنَرَ الآنَ ما هوَ الثَّالِثُ؟ الثَّالِثُ، حَقًّا! الآنَ، هَل سَنَستَشهِدُ في الثَّالِثِ، هَل سَنَنتَصِرُ، ماذا سَيَحدُثُ لَنا؟ الثَّالِثُ الَّذي كانَ هوَ حَربُ الأحزابِ الَّتي كانوا يَعتَبِرونَها حَربًا دَولِيَّةً، وكانوا يَعدّونها أُمَّ المَعارِكِ، حيث إنَّ جَميع الأحزابِ تَجَمَّعَت لِيَأتوا إلى المَدينَةِ، ويَقضوا عَلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله، وعلى المُسلِمينَ؛ فَأنهى أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام الأمرَ بِقَتلِ عَمرِو بنِ عَبدِ وُدٍّ. حسنًا، دَعنا الآنَ نَأتِ ونرى التَّالي. فإذا نظرنا، سنَرى أنَّ الأمرَ في الباطِنِ لا يَتَزَعزَعُ، وأنّ سِرَّهُم وباطنَهم ساكنٌ وهادِئٌ.
هَمُّ المُوَحِّدِ: أداءُ التَّكليفِ ورِضا الله تعالى
إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام مهتمٌّ فَقَط بِشَأنِ كَيفِيَّةِ أدائِهِ لِتَكليفِهِ تجاهَ أمرِ رَبِّهِ، فَقَط يَبحَثُ عَن هذا. فعِندَما ضُرب أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام في المِحرابِ بسَيف عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ مُلجَمٍ المُرادِيِّ ، قالَ هُناكَ: «فُزتُ، الآنَ انتَهى عملي». يَعني أنّني كُنتُ دائِمًا قَلِقًا بِشَأنِ وَضعي أمامَ إلَهي، ولَم أكُن أبحَثُ عَمَّا يَحدُثُ في الخارِجِ. كُلُّ ما يَحدُثُ، ما شَأني بِهِ؟ ما شَأني؟ مُعاويَةُ الآنَ في السُّلطَةِ، ما شَأني؟ فمُعاويَةُ في نهاية المطاف هو أيضًا أحَدُ عِبادِ اللهِ، ألَيسَ كَذَلِكَ؟ كُلُّ ما يَفعَلُهُ اللهُ بِهِ، فَليَفعَلهُ، ما شَأني أنا؟ مُعاويَةُ حالِيًا في السُّلطَةِ، حَسَنًا، ماذا أفعَلُ؟ لَقَد قُمت بِعَمَلِي، وبَذَلتُ قُصارى جُهدِي، وحَرَّضتُ النَّاسَ، لَكِن، تَبَيَّنَ أنَّهم مُنافِقونَ، حَسَنًا، ماذا أفعَلُ أنا؟ حينئذ، هَل ألطِمُ عَلى رَأسي لِأنَّ مُعاويَةَ مَوجودٌ؟ هَل أنا أرحَمُ وأعطَفُ وأحَبُّ وأوَدُّ بِالنَّاسِ أمِ اللهُ؟ أيُّهُما؟ لا يُمكِنُنا إنكارُ هذا. أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام لَيسَ أوَدَّ [من الله]، وإن كانَ وُدُّه عليه السلام هو نَفسُ ودّه تعالى، هو نَفسُه لا يختَلِفُ، غاية الأمر أنّ هذه المسألة [أي الاختلاف بين الوُدّين] توجَدُ في مَرتَبَةِ البَقاءِ، وأمَّا في مَرتَبَةِ الوِلايَةِ والفَناءِ فَهُما واحِدٌ، بل في الأساس، لا توجَدُ مَحَبَّةٌ هُناكَ، حيث تُصبح الأمورُ في ذلك المقام بِطَريقَةٍ أُخرى. ودَعنا الآنَ من هذه المرتبة، ولنقتصر حالِيًا على مَرتَبَةِ البَقاءِ ومَرتَبَةِ التَّكليفِ ومَرتَبَةِ العَمَلِ بِما أرادَهُ اللهُ المُتَعالِ مِن أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ومِنَ الأئِمَّةِ عليهم السلام ومِنَ الأولياءِ. ففي هَذِهِ المَرتَبَةِ، يَقولُ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام: «أنا قَلِقٌ بِشَأنِ هذا»، ولهذا، يقول للنبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله: «يا رَسولَ اللهِ، أ في سَلامَةٍ مِن ديني؟»؛ وذلك عِندَما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم له [ما معناه]: «سَيَفعَلونَ بِكَ كَذا وكَذا، وكَأنّي بِكَ وأنتَ تُصَلّي في المِحرابِ، فينبعَثُ أشقى الأوَّلينَ والآخِرينَ، فَيَضرِبُكَ ضَربَةً تُخضَبُ بِها لِحيَتَكَ. فأنا أراك في المِحرابِ في هذا الشَّهرِ، فيَتَحَرَّكُ أشقى جَميعِ أُمَمِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، ويَأتي، ويَضرِبُكَ ضَربَةً عَلى رَأسِكَ، بِحَيثُ تُخضَبُ لِحيَتُكَ بِدَمِ رَأسِكَ، ويُغَطّي هذا الدم كُلَّ لِحيَتِكَ». أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام لا يَقولُ هناكَ: «حَسَنًا يا رَسولَ اللهِ، ماذا سَيَحدُثُ؟ هل سَيَحدُثُ كَذا؟»، بل ينطق بكلامٍ واحِدٍ، فيقول للنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله: «أ في سَلامَةٍ مِن ديني؟ هَل ديني سَليمٌ في ذَلِكَ الوَقتِ أم لا؟ يَعني: هَل أنا عَلى الطَّريقِ أم لا؟». قالَ: «نَعَم، في سَلامَةٍ»، قالَ: «لا توجد مُشكِلَةَ». ما مَعنى هذا؟ معناه أنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام قَلِقٌ بِشَأنِ تَكليفِهِ، قَلِقٌ بِشَأنِ حالِهِ، قَلِقٌ بِشَأنِ ارتِباطِهِ، قَلِقٌ بِشَأنِ عَلاقَتِهِ، قَلِقٌ بِشَأنِ تَعَلُّقِهِ، قَلِقٌ بِشَأنِ ذلك المحور الذي يرتكز عليه وجوده، وهَل أنّه يتَحَرَّكُ أم لا؟ فيَرى أنّه لا! وهَل تِلكَ العَلاقَةُ مَوجودَةٌ أم لا؟ فيَرى أنَّها مَوجودَةٌ، ويرى أنّ ذَلِكَ التَّعَلُّقَ والارتِباط وَالاتِّحادَ والعُبودِيَّةَ المَحضَةَ مَوجودَةٌ وفي مَكانِها، فَيَقولُ: «لا بَأسَ. فَإذَنْ لا أُبالي بِالمَوتِ، كُلُّ ما يُريدُ أن يَحدُثَ فَليَحدُث». فلتَأتِ ضَربَةٌ واحِدَةٌ أو عَشرُ ضَرَباتٍ. مُعاويَةُ في السُّلطَةِ، حَسَنًا، فَليَكُن مُعاويَةُ في السُّلطَةِ. كَم مِنَ الأفرادِ كانوا في التَّاريخِ مِنَ الطُّغاةِ والظَّالِمينَ! فكانَ هُناكَ العديد من أمثال نَيرون والبِيزَنطِيّينَ، والعديد من أمثال جَنكيز والتَتار؛ فهَؤلاءِ كانوا مَوجودينَ، حَسَنًا، فمُعاويَةُ هو أحدهم؛ وفي نفس هذا السياق، فَليَكُن مُعاويَةُ واحِدًا مِنهُم أيضًا. فكان هناك فُسَّاق وظلمة، وحَتَّى الآنَ هُم مَوجودونَ، فالآنَ، كَم مِن حُكَّامِ الظُّلمِ يَحكُمونَ في الدُّنيا؟ فهَل نَأتي الآنَ، ونَجلِسُ هُنا، ونَحزَنُ على أنّه: لِماذا حاكِمُ البَلَدِ الفُلانِيِّ ظالِمٌ وطاغِيَةٌ؟ يا عَزيزي، اهتَمَّ بِأمرِكَ الآنَ، لِماذا تَحزَنُ؟! حَسَنًا، هَل حُزنُكَ سَيُطيحُ بِهِ ويَأتي بِحاكمٍ عادِلٍ؟ لا! فَلِماذا تَحزَنُ؟ فنَجلِسُ الآن، ونَحزَنُ لِأنَّ هَذِهِ الأعمالَ تُرتَكَبُ في البَلَدِ الفُلانِيِّ، فيَضرِبونَ، ويَقتُلونَ، ويَقومونَ بِالقَتلِ والنَّهبِ! يا عزيزي، إنّ سِجِلّ التاريخِ مَليءٌ كلّه بِهَذِهِ الأمورِ، حيث يَرحل واحِدٌ ويَأتي آخَرُ، ويَذهَبُ ذاكَ. كانَ هُناكَ كورَشُ وداريوش وخَشايارُ، فكانوا يحشدون الجُيوشَ. ومِنَ الجانِبِ الآخَرِ، كانَ هُناكَ الرومانُ، وكانوا بدورهم يُجيّشون العساكر؛ فهذا يَقتُلُ وذاكَ يَقتُلُ، حيث يَأتي الإسكَندَرُ ويَفعَلُ كَذا، ويَأتي خَشايارُ مِنَ الجانِبِ الآخَرِ ويَفعَلُ بِمَقدونِيا كَذا، فيَحرِقُها بِتِلكَ الطَّريقَةِ، وذاكَ أيضًا يَقومُ ويَأتي إلى باسارغادَ۱ وكَذا، ويَحرِقُ كُلَّ شَيءٍ ويَفعَلُ ما يَفعَلُ انتقامًا. وحينئذ، هَل نَلطِمُ عَلى رُؤوسِنا، يا وَيلَتاهُ حَدَثَ كَذا، يا وَيلَتاهُ حَدَثَ كَذا؟ هَل نَجلِسُ ونَقضي عُمرنا وفِكرَنا ووَقتَنا في أخطاءِ الماضي؟ لقد جاءَ الأقدَمونَ وارتَكَبوا خَطَأً، فَهَل نَأتي الآنَ ونَلطِمُ عَلى رُؤوسِنا لِأنَّ الأقدَمينَ فَعَلوا كَذا؟ هَذِهِ حَماقَةٌ كَبيرَةٌ جدًّا، جِدًّا... .
مَنهَجُ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام في التَّعامُلِ مَعَ الخُصومِ
أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام لا يَبحَثُ عَن سَبَبِ وُجودِ مُعاويَةَ، بل يَبحَثُ عَن أن يَتَصَرَّفَ بِشَكلٍ صَحيحٍ في عَلاقَتِهِ مَعَ مُعاويَةَ، هذا هوَ الأمرُ. قُلتُ ذاتَ يَومٍ لِلرُّفَقاءِ في إحدى الجَلَساتِ: عِندَما جاءَ مُعاويَةُ وقَطَعَ الماءَ... مع أنّ قَطع الماءِ بطبيعة الحال عَمَلٌ غَيرُ رُجولِيٍّ وغَيرُ مُنصِفٍ؛ فإذا كانَت لَدَيكَ القُوَّة، فَاستَخدِم قُوَّتَكَ، لِماذا تَقطَعُ الماءَ؟ أتَرَونَ؟ إنّ كُلَّ حَرَكاتِ السلاطين والسياسِيّينَ وأفكارِهِم مَبنِيَّةٌ عَلى الاِعتِباراتِ والمادِّيَّاتِ، وَالانتِصارِ بِأيِّ شَكلٍ وبِأيِّة طَريقَةٍ، شَيطانِيَّةٍ كانت أم غَيرِ شَيطانِيَّةٍ، فلا فَرقَ لَدَيهِم. فبِمُجَرَّدِ أن يَتَغَلَّبوا بِأيِّ شَكلٍ كان، يَنتَهي الأمرُ! حَسَنًا، هذا عَمَلُ مُعاويَةَ. وفي مُقابِله أمير المُؤمِنينَ عليه السلام، حيث جاؤوا عنده، وقالوا: «يا سيّدي، لَقَد قَطَعوا الماءَ»، فَقالَ عليه السلام: «لَقَد قَطَعوا الماءَ، حَسَنًا، اذهَبوا وخُذوهُ، اذهبوا واسترجعوه!». هَل تَعلَمونَ مَن ذَهَبَ وأخَذَ هذا الماءَ؟ إنّه الإمامُ الحُسَينُ عليه السلام برفقة مجموعة، حيث ذهبوا واستولوا على الماءَ، فكان قائِدُ الجَيشِ الَّذي أخَذَ الماءَ في حَربِ صِفِّينَ هو الإمامُ الحُسَينُ عليه السلام. وعِندَما أخَذوا الماءَ... ولا يخفى أنَّ الإمامَ عليّ عليه السلام قالَ: «سَيَأتي يَومٌ، ويقطع هَؤلاءِ الأشخاصِ بعينهم الماء عن الَّذي ذَهَبَ وفَتَحَ لَهُمُ هذا الماءَ، وعَن زَوجَتِهِ وأطفالِهِ!». هذا الكَلامُ قالَهُ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام في ذَلِكَ اليَومِ. فذَهَبَ الإمامُ الحسين عليه السلام وأخَذَ الماءَ. حَسَنًا، أخَذوهُ، فَقُطِعَ الماءُ عَن مُعاويَةَ وجَيشِه، فَوَقَعَ مُعاويَةُ في القَلَقِ وَالاِضطِرابِ! قالَ عَمرُو العاصِ: «لا تَقلَق، نَحنُ نَعرِفُ عَلِيًّا!». انظُروا! قالَ: «نَحنُ نَعرِفُ عَلِيًّا!». فجاءوا إلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام، وجاءَه الأشعَثُ بنُ قَيسٍ وقالَ: «يا عَلِيّ، اقطَعِ الماءَ عَنهُم، ودَعنا نُضَيِّقُ عَلَيهِم». لقد كانَ مُنافِقًا عَجيبًا جِدًّا، حيث كانَ يُريدُ أن يَنفُذَ مِن كُلِّ جانِبٍ إلى أمورٍ مُختَلِفَةٍ، فكُلَّما رأى شَيئًا يَتَّجِهُ نَحوَهُ، وكانَ رَجُلاً عَجيبًا جِدًّا، كما كانَت عائِلَته مُبارَكَةً جِدًّا! هوَ نَفسُهُ جاءَ مَعَ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ مُلجَمٍ المُرادِيِّ ووردان، فجاء هؤلاء الثَّلاثَة مَعًا، وكانَ الأشعَثُ نَفسُهُ أحَدَ الأفرادِ الَّذينَ ساعَدوا ابنَ مُلجَمٍ في تِلكَ اللَّيلَةِ عَلى قَتلِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام. كما أنّ ابنه مُحَمَّدُ بنُ الأشعَثِ جاءَ مَعَ ثَلاثَةِ آلافِ مُقاتِلٍ إلى كَربَلاءَ لِقِتالِ الإمامِ الحُسَينِ عليه السلام، وابنَتُهُ أيضًا ـ وهيَ جَعدَةُ زَوجَةُ الإمامِ الحَسَنِ ـ تَسَبَّبَت في تَسميمِه عليه السلام وقَتلِه. عَلى كُلِّ حالٍ، لَدَيهِم مِثلُ هذا السجِلِّ في تاريخِ الإسلامِ. فجاءَ [الأشعث]، وقالَ: «يا عَلِيّ، لِنَقطَعِ الماءَ عليهم، ولِنمنع وصوله إلَيهِم، فالآنَ وبَعدَ أن حَدَثَ هذا، نَحنُ أيضًا لِنَقطَعِ الماءَ عَنهُم»، فَقالَ الإمامُ عليه السلام: «لا! هذا عَمَلٌ غَيرُ شهم! هَذِهِ لَيسَت حَربًا». [قال الأشعث:] «يا عَلِيُّ، لَو فَعَلنا هذا، لانهزم مُعاويَةُ، وكُلُّ هذا المَجيءِ والذَّهابِ وحشد الجُيوشِ، كُلُّ هذا سَيَنتَهي الآنَ». فَقالَ الإمامُ عليه السلام: «لا! لَقَد جِئنا إلى هُنا عَلى أساسِ مذهبيّ، ولا يُمكِنُنا أن نخالفه»، فنحن لَم نَأتِ إلى هُنا لِنَهزِمَ مُعاويَةَ، لا! لَقَد جِئنا إلى هُنا لِنُبيِّنَ لِلعالَمِ مَدرَسَتَنا، وأنَّ مَدرَسَتَنا هيَ مَدرَسَةُ الحُرِّيَّةِ، ولَيسَت مَدرَسَةَ الخِسَّةِ. إذا كان العَدُوُّ في أيدينا، نَترُكُهُ، وإذا كانت لَدَينا قُوَّةٌ، نُقاتِلُه. إنّ الحَقُّ مَعَنا، وفي القتال، إمَّا نَنتَصِرُ وإمّا نُهزَمُ، ولَكِنَّنا لا نَأخُذُ العَدُوَّ بِالخِسَّةِ، فهذا مُخالِفٌ لِذَلِكَ... وحينئذ، ماذا يصبح هذا الإنسان؟ يصبح موحِّدًا، هذا يصبح موحِّدًا. فهكذا يَكونُ الَّذي لا دخالة له في عَمَله وفِعله، ولا يَرى نَفسَهُ فيهِ، ولا يَرى الظَّاهِرَ، بَل ماذا يَرى؟ يَرى اللهَ هُناك. فالله يُريدُ الآن أن يَكونَ مُعاويَةُ، حَسَنًا، فهو تعالى الذي يُريد ذلك، فَليَكُن! تَعالَ، فنَحنُ سنُساعِدُك أيضًا إذا أرادَ، حَسَنًا، يُريدُ الله تعالى ذلك، فليكن! واللهُ تعالى يُريدُ الآنَ أن يَكونَ يَزيدُ، حَسَنًا فَليَكُن، اللهُ يُريدُ الآنَ أن يَكونَ المُتَوَكِّلُ، فَليَكُن، اللهُ يُريدُ أن تَكونَ الحُكومَةُ حُكومَةَ إمامِ الزَّمانِ عَجَّلَ اللهُ تَعالى فَرَجَهُ الشَّريفَ، فَلتَكُن. واللهُ يُريدُ أن نَرى ظُهورَ الإمامِ في زَمانِه عَجَّلَ اللهُ تَعالى فَرَجَهُ الشَّريفَ إن شاءَ اللهُ، فَليَكُن. واللهُ يُريدُ أن يَأخُذَنا مِن هَذِهِ الدُّنيا قَبلَ ظُهورِ الإمامِ عليه السلام، فَليَكُن، ما الفَرقُ؟ لا فَرقَ أبَدًا. نَعَم، نَحنُ نُريدُ بِالطَّبعِ أن نَرى ظُهورَ الإمامِ عليه السلام، ولَكِن لَيسَ بِحَيثُ تَقِفُ هَذِهِ الإرادَةُ في وَجهِ إرادَةِ اللهِ، فَهَذا خَطَأٌ.
لِماذا قالَ الإمامُ "فُزتُ ورَبِّ الكَعبَةِ"؟
لِماذا قالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام: «فُزتُ ورَبِّ الكَعبَةِ»؟ لِماذا؟ لِأنَّهُ رأى أنَّ مَلَفَّهُ قَد وُقِّعَ عَلَيهِ. لَقَد وَقَّعوا عَلى عُبودِيَّتِهِ بِضَربَةِ ابنِ مُلجَمٍ المُرادِيِّ. ومِنَ الآنَ فَصاعِدًا، لَم يَعُدِ اللهُ تعالى يُريدُ شَيئًا مِن عَلِيٍّ، لَقَد جاءَتِ الضَّربَةُ وأُغلِقَ المَلَفُّ، ووُقِّعَ على تلك العُبودِيَّةِ وعلى ذلك التَّوحيدِ وعلى تلك العَلاقَةِ وعلى ذلك الوُجودُ في هَذِهِ الدُّنيا. فهَذِهِ المَعرِفَةُ هي التي يَقولُ الإمامُ السَّجَّادُ عليه السلام عنها: «ابحَثوا عَنها واكتَسِبوها»، وأمَّا المَعارِفُ الَّتي لَها دَرَجاتٌ ومَراحِلُ، وإن كانَت هيَ نَفسُها تُرشِدُ الإنسانَ شَيئًا فَشَيئًا، ولَكِن، إذا كان الإنسانُ يَستَطيعُ الوصول إلى تِلكَ المَعرِفَة [العالية]، ويَضَعُ قَدَمَهُ في مَكانٍ ما إلى أقصى حَدٍّ مُمكِنٍ، فَلِماذا عليه أن يُقَصِّرَ؟ والمراد منها المَعرِفَةُ الَّتي لا تُبقي لِلإنسانِ إلاَ اللهَ، وتُخرِجُ غَيرَه تعالى مِن نافِذَةِ القَلبِ والضَّميرِ، لَيسَ إخراجًا بِحَيثُ لا يُفَكِّرُ الإنسانُ فيهِم، لا! بَل ألاّ يَكونَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِم. هذا هوَ المُهِمُّ، وذلك حينما يَفقِدَ الإنسانُ زِمامَ الأمورِ بِفَقدانِ أيّ واحد مِن هَذِهِ التَّعَلُّقاتِ. فما حقيقة هذا النَّحوُ مِنَ المَعرِفَةِ؟ هذه المعرفة تُصبِحُ "دَليلي عَلَيكَ"، وتدُلُّني عَلَيكَ أنتَ، وتأتي، وتجعلني أُركّز عَلَيكَ أنتَ.
فهَذِهِ المَعرِفَةُ ـ كَما ذكرنا ـ شَرطٌ لِحَرَكَةِ الإنسانِ، وبِدونِها لا يقدر على ذلك؛ لأنّها شَرطٌ لِلحَرَكَةِ. ولكن، يبقى الكلام هُنا حول: ما هوَ الالتزام الَّذي أُعطِيَ هُنا بِأنَّهُ إذا أرادَ أحَدٌ أن يَتَحَرَّكَ، فَإنَّ حركته ستكون مَقبولَةٌ؟ ما هوَ الالتِزامُ المَوجودُ هُنا؟ مَنِ الَّذي جاءَ وَالتَزَمَ بِأنَّنا إذا جِئنا وقُمنا بِعَمَلٍ ما، فَإنَّ هذا العَمَلَ مَقبولٌ ومَرضِيٌّ؟ ولِيَنتَبِهَ الرُّفَقاءُ جَيِّدًا لِيَرَوا ما أُريدُ أن أقولَ، فالله تعالى إنّما يُجازي كُلَّ عَمَلٍ ويُكافِئُ عَلَيهِ عَلى أساسِ عَدلِهِ ورَأفَتِهِ ورَحيمِيَّتِهِ.
العَمَلُ لِأجلِ الجَزاءِ أم لِأجلِ المَحبوبِ؟
وحينئذ، إذا جاءَ أحَدٌ وصَلَّى، وكانَت صَلاتُهُ مِنَ النَّاحِيَةِ القَلبِيَّةِ لِكَي يَدخُلَ الجَنَّةَ، ولِأنَّه قيل: «إنَّ مُقابِلَ الصَّلاةِ ثَوابٌ»، هذا فَقَط، ولَكِن لَيسَ لَدَيهِ أيُّ شُعورٍ بِالتَّعَلُّقِ بِاللهِ، ولا يَرى أيَّة عَلاقَةٍ بَينَهُ وبَينَ اللهِ، ويُصَلّي فَقَط لِكَي...، تَمامًا مِثلَ شَخصٍ يَذهَبُ إلى المؤسّسة، ويَعمَلُ، لِماذا؟ لِكَي يَأخُذَ راتِبَهُ، فهوَ ليس عاشِق لهذه المؤسّسة، ولا هو يُريدُ أن تكونَ مَوجودةً بتاتًا، بل فَقَط لأنّهم يَقولونَ: «يا هذا، قُم وتَعالَ، واجلِس خَلفَ المَكتَبِ واخَدِمِ العُمَلاءَ، وفي نِهايَةِ الشَّهرِ، سَنُعطيكَ مثلاً مائَةَ ألفِ تومانٍ»، فَإنّه، يَقومُ ويَذهَبُ مُكرَهًا، حَتَّى لا يَجوعَ أطفالُهُ وزَوجَتُهُ، فيَقومُ ويَذهَبُ ويَعمَلُ. وكُلَّ يَومٍ يَقولُ: «يا إلَهي، اقتَلِع هذا الأساسَ مِن جُذورِهِ، وأعطِنا راتِبَنا دُفعَةً واحِدَةً، ودَمِّر جُدرانَ هذا المَكانِ تَمامًا»، يَقولُ هذا.. ألَيسَ كَذَلِكَ؟! حَسَنًا، فإنّ رَئيسِ المؤسّسة يَعلَمُ ما هيَ نِيتُهُ، وهو أيضًا له رأيه الخاصّ بخصوص هذا الرَّئيسِ وكَذا، ولَكِن لا أحَدَ مِنهُما له علاقة بالآخر، لِماذا؟ لِأنَّ ذاكَ يَرى أنَّ هذا يَقومُ بِالعَمَلِ، ولا يُسَبِّبُ لَهُ مَشاكِلَ، ولا يُخَرِّبُ، ولا يُقَصِّرُ، وذاك أيضًا يَعلَمُ أنَّهُ طالَما أنَّ هذا الرَّئيسَ في مَنصِبِهِ، فَإنَّ راتِبَهُ مَضمونٌ. فهوَ يَعلَمُ هذا، ولَكِن لَدَيهِ مِنَ البُغضِ والكَراهِيَةِ تُجاهَ هذا الأمر، ما يَجعَلُهُ يَتَمَنَّى ألاّ تكون هَذِهِ المؤسّسة وهذه الإدارة وهذا المَصنَعُ وهَذِهِ الأرضُ وهذا البُستانُ مَوجودًا لَحظَةً واحِدَةً. وحينئذ، ما هوَ مِقدارُ اهتِمامِ هذا الرَّئيسِ أو هذا المَسؤولِ بِذلك الشخص؟ إنّما هو بمقدار أن يُعطِيَهُ راتِبَهُ في نِهايَةِ الشَّهرِ فقط، ثُمَّ يَقولَ له: «يا هذا، جَزاكَ اللهُ خَيرًا، اذهَب». فيُعطيهِ راتِبَهُ في نِهايَةِ الشَّهرِ التَّالي، ويَقولَ: «اذهَب»، ولَيسَت لَدَيهِ أيّة عَلاقَةٍ بِهِ أكثَرَ مِن هذا المِقدارِ، ولَيسَت لَدَيهِ أيّة مَوَدَّةٍ لَهُ أكثَرَ مِن هذا المِقدارِ. فهَل يَدعوهُ إلى بَيتِهِ؟ وهَل يَدعوهُ إلى مَجالِسِهِ؟ وهَل يَتَحَدَّثُ مَعَهُ؟ كلاّ! فلا أحَدَ مِنهُما يُريدُ أن يَرى الآخَرَ.
وفي هذه الحالة، إذا كانَ العَمَلُ الَّذي نَقومُ بِهِ عَلى هذا النَّحوِ، أي أنَّنا نَقومُ بِهَذا العَمَلِ عَلى أساسِ أنّ مُقابِلَه الجَنَّةُ، أو رِضوانُ اللهِ تعالى، أو الوُصولُ إلى نُقطَةٍ محدّدة، أو الحصولُ على حالٍ معيّن، أو الظفرُ بشَيءٍ ما، فَإنَّ اللهَ سيُعطينا ذلك، حيث إنّه تعالى ضمِن لنا هذا الأمر. يَعني: مَن يُصَلّي لِكَي يَجِدَ مَكانًا في الجَنَّةِ، مع أنّه لا يَكون قد ارتكب عَمَلاً حَرامًا، ولم يُذنب، فَإنَّ اللهَ تعالى سيَقولُ له: «حَسَنًا جِدًّا، في يَومِ القِيامَةِ، لَن نُدخِلَكَ جَهَنَّمَ، وصَلاتُكَ هَذِهِ لَها هَذِهِ المَرتَبَةُ، وسنُعطيكَ هَذِهِ المَرتَبَةَ فَقَط، ولن نُعطيكَ أكثَرَ مِن هذا، وحَقُّكَ هذا القَدرُ فَقَط، هذا، مع أنّنا تَساهَلنا مَعَكَ كَثيرًا».
أحيانًا، لا! يَأتي شَخصٌ، ويَعمَلُ في مؤسّسة أو مَصنَعٍ، وبِالإضافَةِ إلى عَمَلِهِ، تكون لَدَيهِ مَحَبَّةٌ لِصاحِبِ هذه المؤسّسة أو صاحِبِ ذَلِكَ المَصنَعِ؛ وحينئذ، عِندَما يَرى أحد الأسلاك يَحتَرِقُ هُنا، يَأتي فَورًا ويُخبِرُ المَسؤولَ، ولا يَقولُ: «ما شَأني؟ فلأقعد في مَكاني، فهذه لَيسَت وَظيفَتي، دَعهُ يَحتَرِقُ، دَعهُ يَخسَرُ مِليونَينِ، دَعهُ كَذا». لا! يَأتي فَورًا ويُخبِرُه: «يا سيّدي، هذا السِّلكُ يَحتَرِقُ الآنَ هُنا، وإذا وَصَلَ إلى هُناكَ فَقَد يَتَسَبَّبُ في خَسارَةٍ». هذه لَيسَت وَظيفَتُهُ، فلِماذا يَفعَلُ هذا؟ لِأنَّ لَدَيهِ مَحَبَّةً، ويَشعُرُ بِالواجِبِ. فبَعدَ أن وَظَّفَهُ هذا المسؤول، وسعى إلى التَكَفُّلِ بِهِ، وبَعدَ أن جاءَ، ومدَّ لَهُ يَدَ العَونِ، فَإنَّ شُعورًا بِالواجِبِ وشُعورًا إنسانِيًّا يَنشَأُ في ضَميرِهِ تجاهَ صاحِبِ هذا المَكانِ، شاءَ أم أبى. وحينئذ، عِندَما يَرى صاحِبُ هَذِهِ المُؤسَّسَةِ مِثلَ هذا الحالِ مِن هذا الفرد، فَإنَّهُ يُفَرِّقُ قَليلاً بَينَه وبَينَ الفَردِ الأوَّلِ، ألَيسَ كَذَلِكَ؟ قَليلاً...! يَرى أنَّ هذا يَختَلِفُ، وأنّ لَدَيهِ قَليلاً مِنَ المَحَبَّةِ. فبِالإضافَةِ إلى أنَّهُ يَقومُ بِعَمَلِهِ، لَدَيهِ قَليلٌ مِنَ المَحَبَّةِ.
ذُروَةُ العِشقِ: الفَناءُ في المَحبوبِ
وتارةً، يكون هناك شَخصٌ أعلى مِن هذا، فيَأتي ويَعمَلُ لِلإنسانِ، ويَقولُ: «أنا لا أُريدُ راتِبًا، ولا أُريدُ مَزايا، ولا أُريدُ مالاً، لَقَد وَهَبتُ نَفسي لَكَ طَواعِيَةً، فلا أُريدُ شَيئًا».
ـ مِن أينَ تَوفّر أمورك المعيشيّة؟
ـ مِن أيِّ مَكانٍ كانَ.
ـ مِن أينَ تَكسِبُ المالَ؟
ـ مِن أيِّ مَكانٍ كانَ.
ـ ما هو الذي يدفعك نحو هذا الأمر؟
يَقولُ: «أنا في الأساس أُحِبُّكَ، ولَدَيَّ مَوَدَّةٌ لَكَ، وأُريدُ في الأساس أن أكونَ مَعَكَ، فإذا قُلتَ لي: "اعمَل"، سأعمَلُ». فيأتي ذَلِكَ الشَّخصُ، ويَختَبِرُهُ ويَمتَحِنُهُ ويُقَلِّبُهُ ويُقَيِّمُهُ سَنَتَينِ أو ثَلاثَ سَنَواتٍ أو عِدَّةَ سَنَواتٍ، فَيَرى أنَّهُ لا! هوَ هَكَذا حقًّا. فهو لا يَتَوَقَّعُ مِنهُ شَيئًا بتاتًا، وهو في الأساس... . وبحقّ، أيّ شُعورٍ سيمتلكه ذَلِكَ المَسؤولِ تُجاهَ هذا الشخص؟ هَل سيُعطيهِ فَقَط مِائَةَ ألفِ تومانٍ كراتِب؟ أم لا، سيُقَرِّبُهُ إلَيهِ، ويَجعَلُهُ مَوضِعَ مَحَبَّتِهِ، ويُدخِلُهُ بَيتَهُ، ويُعطيهِ مِفتاحَ المَصنَعِ، ويُطلِعُهُ عَلى أسرارِه، ويجعل المكتب والسجّلات تحت يده، ويضعُ مثلاً أعمالَ الناس والمُوَظَّفينَ وكل هَذِهِ الأمورَ تَحتَ تَصَرُّفِهِ، ويَرى أنَّ حِسابَ هذا الشخص في الأساس مُختَلِفٌ. فما حقيقة هذا الأمرُ؟ إنّه يَعودُ إلى المَحَبَّةِ؛ لأنّ المَحَبَّةُ تَجلِبُ الاِتِّحادَ.
المَحَبَّةُ شَرطُ الحَرَكَةِ
يَقولُ الإمامُ السَّجَّادُ عليه السلام: عَلى الرَّغمِ مِن أنَّ لَدَيَّ مَعرِفَةً بِكَ يا إلَهي، وهَذِهِ المَعرِفَةُ لم تُبقِ في قَلبي أحَدًا غَيرَكَ، ولَكِن بِدونِ مَحَبَّةٍ، لا أستَطيعُ أن أتَحَرَّكَ نَحوَكَ. مَتى تَجذِبُ مَعرِفَتي وعَمَلي نَظَرَكَ؟ عِندَما تَشعُرُ أنَّ هذا العَمَلَ الَّذي أقومُ بِهِ مِن أجلِكَ هوَ لِأنّي أُحِبُّكَ. فلِأنَّني مُحِبٌّ وأُحبّكَ، وأرى وجود عَلاقَةً بَيني وبَينَكَ، سعيتُ للقيام بِهَذا العَمَلِ. هُنا، يَنقَلِبُ نَظَرُ اللهِ تجاهَ هذا العَبدِ. عندما يَقولونَ إنَّ الجَذبَةَ ضَرورِيّةٌ في السُّلُوكِ إلى اللهِ، هذا هوَ مَعناهُ. فالسَّالِكُ المَجذوبُ هوَ السَّالِكُ الَّذي بِالإضافَةِ إلى أنَّهُ يُطَابقُ نَفسَهُ مع ذَلِكَ الطَّريقِ مِن خِلالِ العَمَلِ بِالتَّعليماتِ والبَرامِجِ [السلوكيّة]، فَإنَّ حالَةَ الجَذبِ والمَحَبَّةِ والعِشقِ والمَوَدَّةِ لِلهِ تَعالى هيَ الَّتي تُحَرِّكُهُ وتَدفَعُهُ نَحوَ ذَلِكَ الاِتِّجاهِ. فإذا لَم تَكُن حالَةُ العِشقِ هَذِهِ مَوجودَةً، فَإنَّ العَمَلَ لن يُؤثّر أبدًا. ولهذا، كانَ المَرحومُ العَلاَمَةُ يَقولُ: «في الطَّريقِ إلى اللهِ، لا تَنظُروا إلى أعمالكم، بل انظُروا كَم أصبَحَت مَوَدَّتُكُم لِلطَّريقِ؟ وكَم هوَ عِشقُكُم لِطَريقِكُم، وكَم َ هي مَحَبَّتُكُم لِمَدرَسَتِكُم، وما هو مقدار استِقامَتُكُم وثَباتُكُم.. انظُروا إلى ذَلِكَ». فكانوا يَسألونَهُ أحيانًا: «يا سيّدي، في بَعضِ الأوقاتِ نَحسّ بِالتَّعَبِ، أو نَشعُرُ بِالكَسَلِ والرُّكودِ، فلا نَستَطيعُ أن نُؤَدِّيَ أعمالنا كَما يَنبَغي أن نؤدّيها»، فَكانَ يَقولُ: «كلاّ! لَيسَ هذا هوَ المِعيارُ، انظُروا: هَلِ ازدادَت مَوَدَّتُكُم عَنِ العامِ الماضي أم نَقَصَت؟ هَلِ ازدادَت مَحَبَّتُكُم لِلهِ أم نَقَصَت؟ هَل تَبذُلونَ المَزيدَ مِن أجلِ اللهِ أم الأقَلَّ؟». بوسع الإنسان أن يَختَبِرَ نَفسَهُ، ألَيسَ كَذَلِكَ؟ فهَل تَستَطيعونَ أن تبذلوا المزيد من العفو مِن أجلِ اللهِ أم أنّ ذلك صار أقلّ؟ يَستَطيعُ الإنسانُ أن يَشعُرَ بِهَذا الأمرِ. حَسَنًا، حالاتُ الإنسانِ مُختَلِفَةٌ. فلنفترض أنّ الإنسانَ في وَضعٍ خاصٍّ، حيث يَحدُثُ أحيانًا أن تَختَلِفَ حالاتُ الإنسانِ.
جاءَ أحدهم عند رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله وقالَ: «يا رَسولَ اللهِ، لماذا عِندَما نَكونُ في محضرك، يَكونُ حالُنا ومِزاجُنا مُختَلِفين تَمامًا، وكَأنَّه لَيسَ لَدَينا زَوجَةٌ ولا وَلَدٌ ولا تَعَلُّقٌ ولا دُكَّانٌ ولا مُلكٌ ولا شيءٌ آخر. ففي الأساس، عِندَما نَكونُ مَعَكَ نَكونُ مُختَلِفينَ تَمامًا، بحيث نتمكّن أن نُعطِيَ كُلَّ ما في جُيوبِنا بِسُهولَةٍ جِدًّا، ونَمُدُّ أيديَنا إلى جُيوبِنا بكلّ يُسرٍ، ونُنفِقُ بسهولةٍ بالغةٍ، وبِسُهولَةٍ جِدًّا نَستَطيعُ أن نَتَجاوَزَ التَّعَلُّقاتِ عِندَما نَجلِسُ مَعَكَ؛ ولَكِن، بِمُجَرَّدِ أن نَخرُجَ من عندك، ونقضي ساعَةً أو ساعَتَينِ مَعَ هذا وذاكَ، لا يَبقى لَدَينا هذا الحالُ؛ وحينئذ، عِندَما نُريدُ أن نَمُدَّ أيديَنا إلى جيبِنا، فَإنَّها تَدخُلُ إلى هذا الجَيبِ بِصُعوبَةٍ بَعضَ الشَّيءِ!». فَقالَ النبي صلّى الله عليه وآله [ما معناه]: «لَو بَقيتُم عَلى هَذِهِ الحالَةِ أربَعينَ يَومًا لَرَأيتُم مَلَكوتَ السَّماواتِ والأرضِ».۱
حَسَنًا، أنتَ تُشارِكُ في مَجلِسِ عَزاءِ سَيِّدِ الشُّهَداءِ، وتحضر مَجلِسِ مُصابه عليه السلام، فيُغَيِّر اسمُه وحالُهُ حالَكَ؛ ففي ذَلِكَ الوَقتِ، إذا جاءك شَخصٌ وقالَ: «يا سيّدي، أُريدُ قَرضًا بِخَمسينَ ألفَ تومانٍ»، فَإنَّكَ تُعطيهِ إيّاه فَورًا. ولَكِن، بِمُجَرَّدِ أن يَمُرَّ يَومانِ، وتذهبُ إلى هُنا وهُناكَ، فإنّك تَقولُ: «دَعني أُفَكِّرُ الآنَ، لِأرى هَل أستَطيعُ ذلك!». حَسَنًا، حالاتُ الإنسانِ مُختَلِفَةٌ، وبوسعه أن يَختَبِرَ نَفسَهُ. كانَ المَرحومُ العَلاَمَةُ يَقولُ: اختَبِروا أنفُسَكُم، وانظُروا: هَلِ ازدادَ عِشقُكُم ومَوَدَّتُكُم لِلهِ تعالى ولِطَريقِه عَنِ العامِ الماضي، أم نَقَصَ؟ هَل هوَ أكثَرُ مِنَ الشَّهرِ الماضي، أم أقَلُّ؟ هَل هوَ أكثَرُ مِن سِتَّةِ أشهُرٍ مَضَت، أم أقَلُّ؟ اختَبِروا أنفُسَكُم، وامتَحِنوها؛ فإذا رَأيتُم لا! في العامِ الماضي كُنتُم تَستَطيعونَ تخطّي الأمورِ بِشَكلٍ أفضَلَ، وكُنتُم تقدرون على تَجاوُزَ المَوانِعِ بِشَكلٍ أحسن، وكُنتُم تَتمكّنون من مُواجَهَة المَوانِعِ والعوائق بِنحوٍ أفضَلَ، وأمّا الآنَ، فلا، فَفَكِّروا في ماذا حَدَثَ في هذا العامِ، وراجِعوا أعمالَكُم، وادرُسوا حالاتِكُم، لِماذا؟ لِأنَّ المِعيارَ في المتناول، حيث وَضَعوا هذا المِعيارَ في أيدينا.
المَحَبَّةُ إكسيرُ الحَياةِ ومُحَوِّلَةُ النُّحاسِ ذَهَبًا
تَقولُ الآيَةُ الشَّريفَةُ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.٢ إذا أرَدتُم أن تُحِبُّوا اللهَ فَاتَّبِعوني، يَعني أنّ المَحَبَّة وَالاِتِّباع مُتَلازِمانِ وتوأمان؛ فمَن يُحِبُّ أحَدًا يَتبَعُه، ويَطلُبُ رِضاه. وحينَئِذٍ، إذا تحقّق ﴿فَاتَّبِعوني﴾، سيتحقّق ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾. ومن هما، فإنّ المَحَبَّةَ لازِمَةٌ لِلطَّريقِ، وبِدونِها لا يُطوى هذا الطَّريقُ.
وهَذِهِ المَحَبَّةُ إكسيرٌ، يَعني: عِندَما تُلامِسُ أيَّ شَيءٍ تُحَوِّلُهُ إلى ذَهَبٍ، فتُحَوِّلُ نُحاسَ وُجودِ الإنسانِ إلى ذَهَبٍ. هذا، وتوجد لَدى مَولانا جلال الدين الرومي أشعارٌ بخصوص هذا الموضوع، وكذلك لَدى حافِظٍ والعظماء؛ نظير المَرحومُ القاضي، والمَرحومُ السَّيِّدُ الحَدَّادُ، حيث تُطرح هُنا الكَثيرُ مِنَ الأمورِ الدَقيقَة والحَسَّاسَة جِدًّا. وبِالجُملَةِ وفي الجُملَةِ، فإنّ هذا الأمر بأجمعه يُلخَّص في نُقطَةٍ واحِدَةٍ: على الإنسان أن يَزيدَ مِن تَعَلُّقِهِ بِاللهِ تعالى مهما استطاع، وأن يُدخِلَه أكثَرَ في قَلبِهِ، ولَيسَ ذلك بِأن يَذكُرَ اللهَ ويُفَكِّرَ فيهِ بِاستِمرارٍ، كلاّ! فهذا تقليدٌ كَالبَبَّغاءِ. فمثلما أنَّهُ فَتَحَ في قَلبِهِ مَكانًا لِلأشياءِ الخارِجَةِ عَن نِطاقِهِ، وقَسَّمَ قَلبَهُ، ووَضَعَ في كُلِّ قِسمٍ منه تَعَلُّقًا خاصًّا، حيث وضع الزَّوجَةَ في مَكانٍ، ووضع الوَلَدَ في مَكانٍ، ووضع الأقارِبَ في مَكانٍ، ووضع الشَّريكَ في مَكانٍ، ووضع المالَ في مَكانٍ، ووضع المَنزِلَ في مَكانٍ، ووَضَعَ شَخصِيَّتَهُ في كُلِّ هَذِهِ الأمورِ، إذا استَطاعَ أن يُخرِجَ هَذِهِ الأشياءَ باستمرار، ويَضَعَ اللهَ تعالى في محلّها، فَليَفعَل؛ إذ بِمقدار ما تَخرُجُ التَّعَلُّقاتُ مِنَ القَلبِ، ويَحِلُّ مَحَلَّها التَعَلُّقُ باللهِ، يحصل الاتِّحادُ والمَعِيَّةُ مَعَهُ تعالى. وحينَئِذٍ ماذا يصير ذلك؟ يصير شَفيعًا. إذَنْ، الشَّفيعُ هو تِلكَ القُوَّةُ المُحَرِّكَةُ الَّتي توصِلُ الإنسانَ إلى ذَلِكَ المَبدَأِ وتِلكَ الغايَةِ المنشودة.
كَيفَ يَكونُ الأئِمَّةُ عليهم السلام شُفَعاؤُنا؟
لِماذا يَكونُ الأئِمَّةُ عليهم السلام شُفَعاءَنا يَومَ القِيامَةِ؟ لأنّهم هُمُ القُوَّةُ المُحَرِّكَةُ الَّتي تَعبُرُ بِنا يَومَ القِيامَةِ، بِواسِطَةِ ماذا؟ بِواسِطَةِ المَحَبَّةِ لَهُم. فالشِّيعِيُّ يُحِبُّ إمامَهُ.. ألَيسَ كَذَلِكَ؟ فبِقَدرِ ما تَكونُ هَذِهِ المَحَبَّةُ أقوى، تَكونُ الشَّفاعَةُ هُناكَ أقوى. أجل، يبقى أنّ لِلمَحَبَّةِ لَوازِمُ ومُستَلزَماتٌ. فمَن لَدَيهِ مَحَبَّةٌ حَقيقِيَّةٌ، يُوَحِّدُ نَفسَهُ مَعَ مَنهج المَحبوبِ.
جاءَ رَجُلٌ مِن أهلِ خُراسانَ إلى الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام، فَقالَ له [ما مفاده]: «ما أخبارُ أهلِ تِلكَ الدِّيارِ؟». قالَ: «يا ابنَ رَسولِ اللهِ، إنّ أصدِقاءنا والأفراد الَّذينَ نَراهُم يَدَّعونَ التَّشَيُّعَ والمَحَبَّةَ لَكُم، ولَكِنَّنا نَجدهم يَحتسون الخَمرَ في مَجالِسِهِم، ويَشرَبونَ الفُقاعَ، ويَلعَبونَ القِمارَ والشَّطرَنجَ»، فَقالَ الإمامُ عليه السلام [ما مضمونه]: «اذهَب وأبلِغهُم سَلامي ـ انظُروا، فالإمامُ يَقولُ لهم: سَلامٌ ـ وقُل لَهُم: مَن يُحِبُّ مَحبوبًا، لا يَفعَلُ ما يُخالِفُ رِضا هذا المَحبوب». عِندَما عادَ هذا الرجل مِنَ الحَجِّ وذَهَبَ إلى خُراسانَ، جاءَه أصدِقاؤُهُ، فقالَ لهم: «التَقَيتُ في المَدينَةِ بِالإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام، فأمرني أن أُبلّغَكُم سَلامه، وأقولُ لَكُم: مَن يُحِبُّ مَحبوبَهُ ـ أنا إمامُكُم، فهل حقًّا تُحِبّونَني؟ - لا يَفعَلُ ما يُخالِفُ رِضاه»؛ فانهَمَرَتِ الدُّموعُ مِن عُيونِهِم، ولَطَموا عَلى رُؤوسِهِم، وتابوا، وتَرَكوا كُلَّ تِلكَ الأمورِ جانِبًا. ما هذا؟ هَذِهِ هيَ تِلكَ المَحَبَّةُ. فالإمامُ نَبَّهَهُم إلى هذا الأمر: إذا كنتم تَدَّعونَ مَحَبَّتي، فَلِماذا تعصون؟ عودوا إلى أنفُسِكُم، واستفيدوا من المَحَبَّةِ، ولا تَدَعوها تَفلِتُ مِن أيديكُم، فهي إكسيرٌ لا يُعطى لِأيِّ أحَدٍ، حيث نجد الكَثيرينَ يَسخَرونَ، وحَتَّى الآنَ يَسخَرونَ، ويقولون: «يا هذا، ما هَذِهِ الأمورُ؟». فهَذِهِ المَحَبَّةُ تُصبِحُ ماذا؟ تُصبِحُ شَفيعًا.
انظُروا، عِندَما لفت الإمامُ عليه السلام انتباه هَؤلاءِ إلى هَذِهِ المَحَبَّةِ، فقد أرسَلَ إليهم شَفيعًا، فجاءَ هذا الشَّفيعُ ودَخَلَ قُلوبَهُم، وقلبها رأسًا على عقب، وغَيَّرَها، فأصبَحَ عَمَلُهُم مُطابِقًا لِماذا؟ مُطابِقًا لِتَركِهِمُ الذَّنبَ، حيث تركوا المَعصِيَةَ، وأصغوا لِكَلامِ الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام. وحينئذ، لَو لَم تَكُن لَدَيهِم المَحَبَّة، ماذا كانَ سَيَحدُثُ؟ حَقًّا، لَو لَم تَكُن لَدَيهِم المَحَبَّة، وكانَ الإمامُ الصَّادِقُ عليه السلام قد ذكر كلامه ذاك، لَقالوا: «أجل، إنَّهُ ذَنبٌ، ولَكِن دَعنا الآنَ نُفَكِّرُ في الأمرِ، حَسَنًا، سنرى بعد ذلك!». [ولكن] لا! لِأنَّ لَدَيهِم المَحَبَّة، فقد دَخَلَ الإمامُ الصَّادِقُ عليه السلام مِن نافِذَةِ المَحَبَّةِ تِلكَ وأعادَهُم.
لا تشيّع من دون محبّة
يوجد الكَثير مِنَ الشِّيعَةِ الذي هم شيعَة بالاسم، ولَكِنّه مجرّد ادّعاء؛ إذ لَيسَت لَدَيهِم مَحَبَّة، لِماذا...؟!
أحَدُ هَؤلاءِ الذين كانوا يدّعون التشيّع توفّيَ، وكانَ مُعَمَّمًا ومن السادة أيضًا، حيث توفّيَ مُنذُ وَقتٍ طَويلٍ. كانَ المَرحومُ العَلاَمَةُ يَقولُ: كُنتُ في مَنزِلِ المَرحومِ العَلاَمَةِ الأمينِيِّ، وكانَ ذلك الرجل موجودًا أيضًا هُناكَ، فكانَ يَعتَرِضُ عَلى المَرحومِ العَلاَمَةِ الأمينِيِّ [قائلاً]: «يا شيخ، إذا لَم تكُن الآنَ لَدى أحَدهم مَحَبَّةٌ لِأبي الفَضلِ عليه السلام، فَفي أيّ شيء سيَضُرُّ ذلك دينَهُ؟». وأنا أشير هنا إلى نَفس القَصّة الَّتي رَواها، ولابُدَّ أنَّ الرُّفَقاءَ يَعرِفونَها ويَتَذَكَّرونَها، حيث كانَ العلاّمة الأمينيّ مستلقيًا ومَريضًا، فَقامَ غاضِبًا، وأوداجُ عُنُقِهِ منتفخة، وقالَ: «واللهِ، إن لَم تَكُن لَدَيكَ مَحَبَّةٌ لرِباط حِذائي أنا الخادِمُ لأبي الفَضلِ عليه السلام، لَوقعتَ عَلى وَجهِكَ في نارِ جَهَنَّمَ،.. رِباطُ حِذائي!». ولقد قالَ ـ بحقّ ـ كَلامًا عَجيبًا، فهوَ كَلامٌ عَجيبٌ حقًّا! يَقولُ المَرحومُ الأمينِيُّ: أنا خادِمُ أبي الفَضلِ عليه السلام، وخادِمُ الإمامِ الحُسَينِ عليه السلام؛ ولذلك، فإنّ لي قيمَةٌ، ولحذائي قيمَةٌ، ولرباط حِذائي قيمَةٌ؛ وكُلُّ هَذِهِ الأمورِ تقع في طريق أبي الفَضلِ عليه السلام.
فمَن يَدَّعي التَّشَيُّعَ، هَل يُمكِنُه ألاّ يَكونَ عاشِقًا لِأبي الفَضلِ عليه السلام؟ هَل يُمكِنُه؟ إنَّهُ يَكذِبُ، يَكذِبُ! لقد كان ذلك السَّيِّدُ شيعِيًّا ـ ودَعنا الآنَ مِنَ الأمورِ الَّتي كان يذكرها، و"الترّهات" الَّتي كانَ ينطق بِها ـ ، لكن، لم تكن لديه وِلايَةٌ. فيُصَلّي، ولَيسَت لَدَيهِ وِلايَةٌ، ويَصومُ ولَيسَت لَدَيهِ ولاية، وأينَ تَظهَرُ ثمرة ذلك؟!
ماءُ الوِلايَةِ لا يَشرَبُهُ إلاَ أهلُ المَحَبَّةِ
رَحِمَ اللهُ جَدَّنا الحاجّ مُعينَ الشِّيرازِيّ، فقَد رَوى لي القصّة التالية مَرَّتَينِ: مَرَّةً في محضر المَرحومِ العَلاّمَةِ، ومَرَّةً أُخرى كَذا، فقال لي بأنّه ذَهَب ذات سنةٍ إلى مَكَّةَ، بِرُفقَةِ صِهرِه الَّذي لا يَزالُ عَلى قَيدِ الحَياةِ، وبِرُفقَةِ شَخصٍ أوِ اثنَينِ مِن أولَئِكَ الأفرادِ الَّذينَ كانوا في مَسجِدِ القائِمٍ وتوفّوا أيضًا رَحِمَهُمُ اللهُ، وكانوا أُناسًا طَيِّبينَ، فقال: «ذات يوم، حيث كانَ الجَوُّ حارًّا في أواخِرَ الرَّبيعِ، وفي أيَّامَ الحَجِّ، ذَهَبنا إلى غارِ ثَورٍ»، وهو الغارِ ذاته الَّذي لَجَأ إلَيهِ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وآله في طَريقِهِ إلى المَدينَةِ عِندَما خَرَج في تِلكَ اللَّيلَةِ بِرُفقَةِ أبي بَكرٍ. ثمّ قال: «صَعِدنا [الجبل] لِمُدَّةِ ساعَةٍ». وأنا أيضًا ذَهَبتُ إلى سَفحِ ذَلِكَ الجَبَلِ ولَكِنّني لَم أصعَده، ورُبَّما يَستَغرِقُ الأمرُ حَوالَي ساعَتَينِ أو ساعَةً ونِصف عَلى الأقَلِّ حَتَّى يَصِلَ الإنسانُ إلى ذَلِكَ الغارِ، وطَريقُهُ شَديدُ الانحِدارِ، وقد ذَهَبتُ إلى أسفَلِهِ. فكانَ يَقولُ: «صَعِدنا لِمُدَّةِ ساعَةٍ تَقريبًا، والجَوُّ حارٌّ، حيث كانَ وَقتَ ما بَعدَ الظُّهرِ.. السَّاعَةَ الثَّالِثَةَ أوِ الرَّابِعَةَ بَعدَ الظُّهرِ، فغَلَبَ عَلَينا العَطَشُ لِدَرَجَةِ أنَّنا فَقَدنا قِوانا، وجَلَسنا هَكَذا، أي جَلَسنا نَحنُ الأربَعَةُ». وكانَ أحَدُ هَؤلاءِ الأربَعَةِ ذلك السيِّدَ، نَفسُ السيِّدِ الَّذي قالَ للمَرحومِ العَلاَمَةِ الأمينِيِّ: «ما المُشكِلَةُ إذا لَم تَكُن لَدَينا مَحَبَّةٌ لِأبي الفَضلِ عليه السلام؟».. أحَدُهُم كانَ هوَ. قال [الحاج معين الشيرازيّ]: «لَقَد فَقَدنا قِوانا، ولَم نَعُد قادِرينَ عَلى الحَرَكَةِ مِن شِدَّةِ العَطَشِ، ولَم نَكُن نَعلَمُ ماذا نَفعَلُ، فالماءُ الَّذي كانَ لَدَينا نَفِدَ، حيث كنّا قد وَضَعنا ثَلجًا في مُبَرِّدٍ وحَمَلناهُ مَعَنا، فذابَ هذا الثَّلجُ بِسَبَبِ شِدَّةِ حَرارَةِ الشَّمسِ، وشَرِبناهُ، ونَفِدَ، حيث ذابَ الثَّلجُ في هَذِهِ الأوعِيَةِ ونَفِدَ، وفَقَدنا قِوانا. فَجأةً، انتَبَهنا، فَرَأينا عَلى مَسافَةِ خَمسينَ مِترًا مِنَّا شابًّا عَرَبِيًّا جالِسًا وفي يَدِهِ شَيءٌ، فالتَفَتَ إلَينا وضَحِكَ. لقد كانَ عَرَبِيًّا فَرَأيناهُ يَتَحَدَّثُ الفارِسِيَّةَ أو كانَ يَتَحَدَّثُ العَرَبِيَّةَ، لا! عَفوًا، كانَ يَتَحَدَّثُ العَرَبِيَّةَ. قالَ: "أنتُم إيرانِيّونَ؟". تَعَجَّبنا. قالَ: "يَبدو أنَّكُم عُطاشى، ويَبدو أنَّ العَطَشَ قَد أضعَفَكُم، تَعالَوا إلى هُنا، فلَدَيَّ ماءٌ"، هذا، مع أنّنا لَم نَرَهُ، فلَم نَرَ هذا الشَّخصَ من قبل، وقد كُنَّا نَسيرُ في هذا الطَّريقِ! فقُمنا، وكانت تفصل بيننا وبينه خَمسونَ مِترًا، لكن، كَأنَّ قُوَّةً قَد دَبَّت فينا، فجِئنا وجَلَسنا عِندَهُ، وكُنَّا جَميعًا قَد فَقَدنا قِوانا ـ انتَبِهوا ـ». قالَ [الحاجَّ آقا مُعينَ الشِّيرازِيَّ]: «كانَ لَدَيهِ وِعاءٌ مُحاطٌ بِالحَصيرِ وأمثال ذلك، ففَتَحَهُ وسقانا منه، فسقاني أنا أوَّلاً فَشَرِبتُ. ولَم أشرَب في حَياتي ماءً كَذلك الماء، ثمّ قالَ ذلك الشابّ: "اِشرَب عَلى وَلايَةِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ". فشَرِبنا، فَكَأنَّنا طِرنا، بل وأصبَحنا في حالٍ عَجيبٍ، وصار لَدَينا حالٌ ومِزاجٌ آخَرُ، ثمّ سقى صِهرَي الشَّخصَ التَّالي، وقالَ له: "اِشرَب عَلى وَلايَةِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ"، فَشَرِبَ هوَ أيضًا. وهكذا سقى الثَّالِثِ، إلى أن وصل إلى الرَّابِعِ الذي قال: "أنا لا أريد!". عَجَبًا! قالَ: "أنا لا أريد!" قالَ له: "ألا تَشرَبُ؟". قالَ: "لا، أنا مُرتوٍ!".. نفس ذلك الرجل الَّذي كانَ قَد فَقَدَ قِواهُ!! فقالَ ذلك الشابّ بدوره: "لا تُريدُ، حَسَنًا جِدًّا"، فأغلَقَ الوعاء، وودّعنا، ونَزَلَ إلى الأسفل».
لِماذا لَم يَشرَب ذلك الشَّخصُ من هذا الماءَ؟ [لأنّ] هذا الماءُ يَجِبُ أن يَشرَبَهُ مَن لَدَيهِ وِلايَةٌ، ومَن لَيسَت لَدَيهِ وِلايَةٌ لا يُسقى منه. فكُن الآنَ سَيِّدًا، أو مُعَمَّمًا، أو محصِّلاً، فكُلُّ ما فَعَلتَهُ قد فَعَلتَهُ لِنَفسِكَ! هُنا يُوجَدُ حِسابٌ، وكُلُّ شَيءٍ هُنا يخضع للحساب، ولا يُعطى أيّ شيء بِدونِ حِسابٍ.
المَحَبَّةُ زادُ الطَّريقِ
فبِالمَحَبَّةِ يُمكِنُ سُلوكُ هذا الطَّريقِ، وبِدونِها لا يَستَطيعُ الإنسانُ أن يَفعَلَ ذلك. حَسَنًا، لقد وَصَلَ بنا الكلام إلى هذا المقام، وأظنّ أنَّ هذه اللَّيلَةَ هيَ اللَّيلَةُ الأخيرَةُ. وعَلى كُلِّ حالٍ، إلى أن نَرى ما سَيَكونُ عَلَيهِ الأمرُ لَيلَةَ الغَدِ، فإنّنا أنهَينا البحثَ في شَهرِ رَمَضانَ هذا بِنَفسِ الجُملَةِ الأولى لِلإمامِ السَّجَّادِ عليه السلام، وإذا كانَ هُناكَ ـ إن شاءَ اللهُ تعالى ـ مَجالٌ وحَياةٌ وتَوفيقٌ وتَقديرٌ إلَهِيٌّ لِاستِمرارِ هَذِهِ المَجالِسِ في العامِ القادِمِ، فإنّنا سَنَتَحَدَّثُ ـ إذا بقينا أحياءً ـ عَن حَقيقَةِ المَحَبَّةِ وتَأثيرِها وكَيفِيَّتِها، وعن مسألة: في الأساس، ما هيَ المَحَبَّةُ؟ حيث إنّ بَعضُ النَّاسِ لا يَفهَمونَ في الأساس ما هي المَحَبَّةَ، فيُسَمّونَ كُلَّ شَيءٍ مَحَبَّةً وإن كانَ يُؤَدّي إلى ألفِ مَسألَةٍ باطِلَةٍ، وستبقى هذه الأبحاث دينًا في عنقي تجاه الرُّفَقاءِ.. إن شاء الله تعالى..
أيُّها الرُّفَقاءُ، كُلُّ مَن لَدَيهِ مَجالٌ وفُرصَةٌ لَيلَةَ الغَدِ إن شاءَ اللهُ تعالى لِرُؤيَةِ الهِلالِ، فَليَحصُل عَلى مَعلوماتٍ مِن أيِّ مَكانٍ يَستَطيعُ الوُصولَ إلَيهِ، حَتَّى نَرى كَيفَ سَيَكونُ وَضعُنا؟ إن شاءَ اللهُ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ