3

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها

أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

52
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1426

التاريخ 1426/09/05

جلسات المجموعة(9 جلسة)

التوضيح

متى يكون الجهل بالتَّكليف عذرًا؟ وما هي الأمور التي فيها سعة والأمور التي فيها دِقَّة؟ ما هو دور الذكر والصلاة في السير والسلوك وما دور المراقبة؟ وما مقدار تأثير كلّ منهما؟ ما هو أثر عدم المراقبة في العلاقات الاجتماعيّة كسوء الظنّ على السلوك إلى الله؟ ما مقدار الاعتماد على الاستخارة وما هي الطريقة الأفضل لها؟ وهل يجب أن يختار الله لنا ما فيه مصلحتنا الماديّة؟ تتناول هذه المحاضرة هذه الموضوعات بالبحث والتحليل مستشهدةً بأمثلةٍ وقصصٍ من حياة الأولياء وتجاربهم.

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

1
  •  

  • هوالعليم

  •  

  • وجوب معرفة التكاليف والعمل بها 

  • أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي ـ سنة ۱٤٢٦ هـ ـ الجلسة الثالثة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیمِ

  • بِسمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحیمِ

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سیِّدنا و نبیِّنا أبی‌القاسمِ محمَّدٍ

  • و علی آلهِ الطَّیِّبینَ الطَّاهرینَ

  • و اللَّعنةُ عَلَى أعدائِهِم أجمَعینَ إلی یومِ الدِّینِ

  •  

  •  

  • «مَعرِفَتي يا مَولايَ دَليلي عَلَيكَ وَ حُبّي لَكَ شَفیعي إلَيكَ وَ أنا واثِقٌ مِنْ دَليلي بِدَلالَتِكَ وَ ساكِنٌ مِنْ شَفیعي إلی شَفاعَتِكَ»

  • تأثير المعرفة على الإنسان: هل نهرب من الالتزام من خلال ترك المعرفة؟

  • تقدّم للرفقاء في اللَّيلة الماضية أنَّ المعرفة تستوجب الالتزام للإنسان؛ فمَن لديه معرفةٌ لا يمكنه أن يُخرج نفسه من دائرة الالتزام؛ فهذا جمعٌ بين المتنافيين. وما لم تكن لدى الإنسان معرفةٌ، فسيكون لديه تكليفٌ واحدٌ، وإذا حصل على المعرفة، يختلف تكليفه. يقول البعض: حسنًا، نحن من البداية لا ينبغي أن نسعى للمعرفة حتَّى لا تتعقَّد أمورنا! أليس كذلك، إنَّ المعرفة تستوجب الالتزام، حسنًا، فمن البداية لا نبحث عن الأمر، من البداية لا نسعى للفهم حتَّى لا يكون هناك التزامٌ. هل رأيتم النَّاس يقولون: يا هذا، لماذا تسأل عن الأمر؟! ما دمتَ لا تعلم، فلا أحد يطالبك بشيءٍ، وعندما تسأل، تتعقَّد أمورك! النَّاس هكذا يقولون. ما دمتَ لا تعرف الحكم، لا أحد يطالبك بشيءٍ، وعندما تعلم، يصبح الأمر صعبًا، يجب عليك حينها أن تعمل به! ولكنَّ المسألة ليست كذلك! ذلك في محلِّه وهذا في محلِّه.

  • تسامح الشَّارع المقدَّس في بعض الموضوعات: متى لا يجب البحث والتَّدقيق؟

  • في معرفة الموضوعات وترتُّب الأحكام عليها، يشعر الإنسان في بعض الموارد أنَّ الشَّارع المقدَّس قد تساهل وتسامح. لم يدقِّق كثيرًا. مثلًا، إذا اطَّلعتَ على هذا الحكم، فيجب عليك أن تفعل كذا، وإذا اطَّلعتَ على هذا الموضوع، فيجب عليك أن تفعل كذا؛ وإذا انتبهتَ إلى أنَّ هذا المكان نجسٌ، فيجب عليك تطهيره بالماء؛ ولكنَّ الشَّارع لم يقل: اذهب وابحث لترى هل هذا نجسٌ أم طاهرٌ؟ لم يقل هذا الكلام. إذا شعرتَ أنَّ هذا الأمر مشتبهٌ، فيجب عليك الإمساك! ولكنَّ الشَّارع لم يقل: عندما تذهب إلى منزل أيِّ أحدٍ، اسأله: يا هذا، هل تدفع خُمسك أم لا؟! يا هذا، هل الأموال الَّتي تحصل عليها ربويَّةٌ أم لا؟! يا هذا، هذا المال الَّذي حصلتَ عليه اليوم، هل سرقتَه من جيوب النَّاس أم أنَّك حصلتَ عليه من مالٍ حلالٍ؟! لا! لم يُطلب منَّا هذا. لم يُطلب منَّا هذا. نعم، إذا احتمل الإنسان الشُّبهة ـ وذلك أيضًا احتمالاً عقلائيًّا، وليس مجرَّد احتمالٍ في عالم الخيال والاعتبار ـ فبذلك الاحتمال العقلائيِّ، يتعلَّق به تكليفٌ مناسبٌ له.

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

3
  • موارد إجراء الأصول العمليَّة: هل نطبِّقها على كلِّ شكٍّ؟

  • هناك نوعان من الاحتمال. ففي أصول الفقه، لا يُرتَّب الأثر على كلِّ احتمالٍ. لقد وضع الشَّارع المقدَّس الأصول العمليَّة۱ للاحتمالات غير المتعارفة وهي الَّتي يُرتِّب عليها العُرف الأثر؛ أمَّا تلك الاحتمالات الَّتي لا يُرتِّب عليها العقل أثرًا ما لم تصل إلى مرتبة اليقين ـ ولو على نحو الوهم ـ فالشَّارع لا يُرتِّب عليها أثرًا. أصلًا لا يأخذها بالحسبان، حتَّى يُجري عليها الأصل. الآن، هذا الكوب من الماء الذي أمامي، هذا الكوب طاهرٌ. من الواضح أنَّه طاهرٌ. والماء الَّذي فيه أيضًا طاهرٌ. من الواضح أنَّهم جاؤوا وملأوا هذا الإناء من ماء الصُّنبور، ثمَّ وُضع هذا الكوب هنا. فمسار هذا الإناء من الماء الَّذي أمامنا هو بهذه الكيفيَّة. وأنا أيضًا، دون أن أنتبه أصلًا لهذه القضيَّة، الآن بحضوركم ـ وبعد إذنكم ـ لأنَّني عطشانٌ! ودون إجراء أصلٍ عمليٍّ أو أصل الطَّهارة٢، أشرب قليلًا من هذا الماء. في الوقت الَّذي أشرب فيه هذا الماء الآن، هل أفكِّر للحظة واحدة في أنَّه من المحتمل عقلائيًّا أن يكون هذا نجسًا، وبما أنَّ هذا الاحتمال موجودٌ، فبمقتضى الأصل العمليِّ الَّذي هو أصل الطَّهارة٣، يجب الحكم بطهارته؟! سأنسى شرب الماء أصلًا إذا أردتُ التَّفكير في هذه المسائل.

  • قصّة طريفة حول تطبيق الأصول في غير محلّها: طالب العلم وعروسه

  • يُروى أنَّ أحدهم تزوَّج بمخدَّرةٍ مكرَّمةٍ مجلَّلةٍ، وفي اللَّيلة الأولى لزواجه ـ وكان طالب علمٍ قد درس شيئًا من أصول العقائد وشرح الباب الحادي عشر، ففي شرح الباب الحادي عشر، وردت مثل هذه الأمور، ولكنّها ليست لهذا الموضع، بل لموضعٍ آخر! ـ قال: لنرَ هل زوجتي من حيث العقائد، عقائدها صحيحةٌ؟! وباختصار، توحيدها، نبوَّتها، معادها، هذه الزَّوجة التي اتَّخذناها، كيف هي في النِّهاية؟ لم تشرع حياتهما الزوجيّة بعد فقال: تفضَّلي بإثبات الصَّانع بالأدلَّة العقليَّة والنَّقليَّة. 

  • قالت: ماذا تقول؟! 

  • قال: قلتُ تفضَّلي بإثبات الصَّانع بالأدلَّة العقليَّة والنَّقليَّة!

  • أجابت العروس: مَن هو الصَّانع؟ 

  • قال: عجبًا! عجبًا! ظننتُ أنَّكِ مسلمةٌ! الصَّانع، الصَّانع الأوَّل، هو الباري تعالى، كيف تثبتينه بالأدلَّة العقليَّة؟ أنتِ تصلِّين، أليس كذلك؟! 

    1. الأصول العمليّة اصطلاح في علم أصول الفقه يعني تلك القواعد التي وضعها الشارع لتحديد الوظيفة العمليّة عند الشكّ وعدم وجود دليل شرعيّ، والمتعارف عند الأصوليّين أنّها عبارة عن أصالة البراءة وأصالة الاحتياط وأصالة التخيير والاستصحاب. (م)
    2. وهي تعني أنّ كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه نجس.(م) 
    3. رغم أنّ أصل الطهارة يعدّ قاعدة فقهيّة باعتباره حكمًا فقهيًّا كليًّا، ولكن ربّما عبّر عنه المحاضر بأنّه أصل عمليّ من باب أنّه يحدّد وظيفة عمليّة وهو تطبيق لأصل البراءة، فهو يعني براءة الذمّة عن التطهير قبل الأكل أو قبل الصلاة. (م) 

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

4
  • قالت: واللهِ ظننت أنَّها اللَّيلة الأولى من عُرسنا، ولم أكن أعلم أنَّها اللَّيلة الأولى في القبر وسؤال نكيرٍ ومنكرٍ!.

  • فإذاً لكلِّ شيءٍ محلٌّ، فإذا أردتَ أن تُجري الأصل على هذا المورد مثلًا كأصالة الطَّهارة والحِلِّيَّة والإباحة، فستنسى العطش أصلًا. هل حدث يومًا أن شرب أحدٌ هذا الكوب من الماء وأخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار؟! لا! يا هذا، بل نأخذ هذا الماء ونشربه ونضعه في مكانه، ليس لدينا مثل هذه الأقوال! الشَّارع لم يجعل أصل الطَّهارة هذا لهذه الاحتمالات غير المتعارفة أصلًا! لم يجعله هنا أصلًا. أصلًا لا يجري الأصل هنا! إذا أراد أحدٌ أن يُجري الأصل، فهو مجنونٌ، مخبَّلٌ! إجراء الأصول العمليَّة هو للموارد الَّتي يكون فيها احتمال النَّجاسة احتمالًا عقلائيًّا. فمثلًا، افترض أنَّك تعلم قطعًا بوجود طفلٍ هنا، وافترض أيضاً أنّك تشعر برطوبة ما عليه، والطفل عندما يشعر بالرطوبة فإنّه يضع يده عليها وعلى رأسه ووجهه، كما أنّه ليس واضحاً ما هو مصدر هذه الرطوبة، ثمّ جاء هذا الطفل ولمس الماء صدفة؛ فهنا ينشأ احتمالٌ عقلائيٌّ: هل أنّ هذه الرُّطوبة الَّتي تشاهدها الآن بنفسك وقد وجدت على الطِّفل ، هل سرت هذه الرُّطوبة أم لا؟ هنا يأتي أصل الطَّهارة. وليس في ذلك الاحتمال الأوَّل.

  • معنى الاستخارة ومكانتها: طلب الخير أم المنفعة؟

  • كان بعضهم يأتون إلى المرحوم العلَّامة لأيِّ شيءٍ كان. وكان المرحوم العلَّامة يقول: يا عزيزي، الاستخارة فقط للأمور المهمَّة. وذلك أيضًا دأب الأعاظم وأهل التَّوحيد على عدم الاستخارة. وأمّا طَّريقة الاستخارة فهو ما نقلوه: أن يصلِّي الإنسان ركعتي صلاة الاستخارة، ثمَّ بعد الصَّلاة يسجد ويقول مائة مرَّةٍ "أستخيرُ اللهَ برحمته"، ويفوِّض أمره حقًّا وقلبًا إلى الله، فهذه هي الاستخارة. هذا المعنى هو معنى الاستخارة. فالاستخارة تعني طلب الخير، لا طلب المنفعة الدنيويّة. طلب ما يريده الله للإنسان من الخير. لأنَّ الله أحيانًا لا يريد خير الإنسان من خلال المنفعة الدنيويّة.

  • استخارة الإمام الصَّادق عليه السلام: قصّة وعبرة في معنى الخير الحقيقيّ

  • لا أدري هل ذكرت هذه القصّة للرُّفقاء أم لا؟ يبدو لي أنَّني ذكرتُها في إحدى جلسات عنوان البصري ـ فهذا ما أذكره الآن ـ فقد جاء رجل إلى الإمام الصَّادق عليه السَّلام وقال: أريد أن أسافر، فاستخر لي هل أذهب أم لا أذهب؟ فاستخار له الإمام؛ أمَّا كيفيَّة ذلك فليست مذكورة في الرِّواية. ولكنَّ الإمام قال في جوابه: لا تسافر! فهذا السَّفر ليس جيِّدًا لك. ولكنّ الرجل سافر، وبالصُّدفة تاجر وأخذ معه بضاعةً وباعها بضعف سعرها الأصليِّ، وعاد إلى وطنه بمالٍ كثيرٍ. فجاء إلى الإمام الصَّادق عليه السلام وقال: سيِّدي، أنت قلتَ إنَّ الاستخارة سيِّئةٌ، وقد ربحت كلَّ هذا، أصلًا ربحت مائةً بالمائة وعدت. فقال الإمام عليه السلام: هل تتذكَّر في يوم كذا عندما تساقط الثَّلج في الطَّريق واضطررتَ إلى الاستيقاظ مبكِّرًا من النَّوم لتلحق بالقافلة، فرأيتَ أنَّ الشَّمس تشرق وأنَّك لا تستطيع أن تصلِّي صلاتك إذا ما أردت اللحاق بها، ولأجل هذا صارت صلاتك قضاء لتلحق بالقافلة؟ قال: نعم. فسوء الاستخارة كان لأجل ذلك اليوم. 

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

5
  • فهل الاستخارة للمنفعة فقط؟! فاتت عليك صلاةٌ واحدةٌ، بطَل سفرك هذا. الآن اذهب واكسب مئة ضعفٍ، كدِّس الأموال فوق بعضها. هل كان المال خيرًا لك أم ما استقرَّ في نفسك وهو الآن معك هو الخير لك؟! هذا المال منفصلٌ عنك، بينكما مسافة مترين. الآن حتَّى لو وصل إلى السَّقف، حسنًا، في النِّهاية بينكما مسافةٌ. تقولون: لا ليس منفصلًا عنَّا! يأتي اثنان ويُخرجان السِّكِّين، يُخرجان السِّلاح ويقولان: يا هذا، نريد أن نأخذ كلَّ هذا! حسنًا الآن إذا استطعتم فاحتفظوا به. لا شيء، يأخذون كلَّ شيءٍ ويذهبون. ألا يأخذونه؟! إذن، ما هذه السَّرقات الَّتي تحدث؟ يأتون ويهدِّدون، يا هذا، أعطِ كلَّ ما في جيبك، أعطِ كلَّ ما في متجرك، أعطِ كلَّ ما تريد أن تفعله! إذن، من الواضح أنَّ هذه الأشياء ليست خيرًا للإنسان!

  • المعنى الحقيقيُّ للخير والشرِّ: ما يبقى معك لا ما يفارقك

  • ما هو الخير؟ هو ذلك الشَّيء الَّذي يكون مع الإنسان، والشَّرُّ هو ذلك الشَّيء الَّذي يكون مع الإنسان وله معيَّةٌ معنا، وفي هذا المكان الَّذي نجلس فيه له معيَّةٌ، وإذا خرجنا أيضًا له معيَّةٌ، وله اتِّحادٌ معنا، كما قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله: 

  • تَخَیَّر خَلیطًا مِنْ فِعالِك إنَّما***  قَرینُ الفَتی فی القبرِ ما کانَ یَفعَل۱
  • فالنبيّ صلّى الله عليه وآله يريد أن يقول إنّ الخير والشَّرُّ عبارةٌ عن تلك الملكات والصِّفات والأعمال الَّتي فعلتها وهي معك ولا تتركك. هذا يُسمَّى خيرًا وشرًّا! فإذا كان العمل خيرًا، فمكانك في الخير، وإذا كان العمل سيِّئًا، فمكانك في الشَّرِّ، أمّا أن تكسب مالًا، فليس خيرًا، لأنَّه غدًا يأتي اللِّصُّ ويسرقه، غدًا يأتي ويسرقه!

  • قصّة سرقة المال من الحقيبة: هل المال خيرٌ دائمٌ؟

  • كنَّا مرَّةً قد ذهبنا إلى مكانٍ ما مع رفيقٍ أو رفيقين من الأصدقاء، وفي طريق العودة كان مع أحدهم مبلغٌ من المال من هذه العملات الأجنبيَّة ونحوها، فقال: إذا أراد أن يركب الطَّائرة، فأين يضع المال الآن؟ وكيف ينقله؟ من الممكن أن يأخذوه منه، من الممكن أن يسبِّبوا له مشكلةً. فقال له أحدهم: يا هذا، ضعه في الحقيبة. عندما تذهب هذه الحقيبة، فلا أحد ينظر إليها. وكان المبلغ كبيرًا أيضًا، فوضعه في الحقيبة. وعندما وصلنا إلى البلد الذي كنّا نريد، وجدنا باب الحقيبة مفتوحًا! فشحب لونه! عجبًا! الحقيبة كان لها قفلٌ أيضًا. فتحوا القفل، وفتحوا الباب السُّفليَّ جيِّدًا. الآن، لا بدَّ أنَّهم رأوا ما بداخل الحقيبة بهذه الأجهزة الحديثة الَّتي تكشف ما بداخل الحقيبة. لقد كان باب الحقيبة مفتوحًا، وأخذوا كلَّ المبلغ حتَّى آخر فلس منه. لقد وضعوا بقيَّة الأوراق في مكانها جيِّدًا. وكأنهم يقولون: أخذنا ما يفيدنا، فهو خيرٌ لنا ولم يكن خيرًا لكم، أخذناه. وتلك الأوراق والأشياء الَّتي ليست خيرًا لنا وهي خيرٌ لكم، تركناها لكم. حسنًا، فهذه الحادثة هي من هذا القبيل. وقد كسبتَ ضعف ما كسبتَ وعدتَ، فماذا فعلتَ؟! تقول للإمام الصَّادق عليه السلام ذهبنا وتاجرنا بكلّ هذا، فلماذا كانت الاستخارة سيِّئةً؟! حسنًا، تفضَّل! جيِّدٌ ورائعٌ! فلماذا كانت الاستخارة سيِّئةً؟! قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله: الخير ما يبقى مع الإنسان، والشَّرُّ ما يبقى مع الإنسان. تلك الأشياء الَّتي لا تتعلَّق بالإنسان، ليست خيرًا له، وليست شرًّا أيضًا. إذن، يجب أن نفكِّر ما الذي نرتضيه لأنفسنا وما الذي لا نرتضيه. نميِّز بين الخيرات والشُّرور العرفيَّة وبين الخيرات والشُّرور الحقيقيَّة! نميِّز بين الخيرات الاعتباريَّة وبين الخير الحقيقيِّ!يجب أن نفرِّق، أن نكون أذكياء. 

    1.  معرفة المعاد، ج‌٣، ص: ۱۷٥: يروي الصدوق في «الأمالي» ص ٣ بسنده المتّصل عن العلاء بن محمّد بن فضل، عن أبيه، عن جدّه قال: قال قيس بن عاصم: وفدتُ مع جماعة من بني تميم إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله، فدخلتُ و عنده الصلصال ابن الدلهمس، فقلت: يا نبيّ الله عظنا موعظة ننتفع بها فإنّا قومٌ نعبر في البرية.فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «يَا قَيْسُ، إِنَّ مَعَ الْعِزِّ ذُلًّا، وَ إنَّ مَعَ الْحَيَاةِ مَوْتاً، وَ إِنَّ مَعَ الدُّنْيَا آخِرَةً، وَ إِنَّ لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ حَسِيباً، وَعَلَي كُلِّ شَيْ‌ءٍ رَقِيباً، وَ إِنَّ لِكُلِّ حَسَنَةٍ ثَوَاباً، وَ لِكُلِّ سَيِّئَةٍ عِقَاباً، وَ لِكُلِّ أجَلِّ كِتَاباً، وَ ِنَّهُ لَابُدَّ لَكَ يَا قَيْسُ مِنْ قَرِينٍ يُدْفَنُ مَعَكَ وهُوَ حَيُّ، وَتُدْفَنُ مَعَهُ وَأنْتَ مَيِّتٌ. فَإِنْ كَانَ كَرِيماً أكْرَمَكَ، وَإِنْ كَانَ لَئِماً أسْلَمَكَ؛ ثُمَّ لَا يُحْشَرُ إِلَّا مَعَكَ، وَ لَا تُبْعَثُ إِلَّا مَعَهُ، وَلَا تُسْألُ إِلَّا عَنْهُ؛ فَلَا تَجْعَلُهُ إِلَّا صَالِحاً. فَإِنَّهُ إِنْ صَلُحَ أنَسْتَ بِهِ، وَ إِنْ فَسَدَ لَا تَسْتَوْحِشُ إِلَا مِنْهُ، وَ هُوَ فِعْلُكَ.»فقال (قيس): يا نبيّ الله احبّ أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفخر به على من يلينا من العرب و ندّخره، فأمر النبيّ صلّى الله عليه و آله من يأتيه بِحسّان (بن ثابت)، قال (قيس): فَأقبلتُ أفكّر فيما أشبه هذه العظة من الشعر فاستتبّ لي القول قبل مجي‌ء حسّان، فقلتُ: يا رسول الله قد حضرتني أبيات توافق ما تريد، فقلتُ:
      تَخَيَّرْ خَلِيطاً مِنْ فعَالِكَ إِ نَّمَا***قرِينُ الْفَتَي في الْقَبْرِ مَا كَانَ يَفْعَلُ‌
      وَ لَابُدَّ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ أ نْ تُعِدَّةُ***لِيَوْمِ يُنَادَي الْمَرءُ فِيهِ فَيُقْبلُ‌
      فَإِنْ كُنتَ مَشْغُولًا بِشي‌ءٍ فَلَا تَكُنْ***بِغَيْرِ الذي يَرْضَي بهِ اللهُ تَشْغَلُ‌
      فَلَنْ يَصْحَبَ الإنْسَانُ مِنْ بَعْد مَوْتِهِ***وَ مِنْ قَبلهِ إِلَّا الذي كَانَ يَعمَلُ‌
      ألَا إنَّمَا الإنْسَانُ ضَيفٌ لإهْلِهِ***يقيمُ قَلِيلًا فِيهمُ ثُمَّ يَرْحَل‌

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

6
  • لقد جعل الشَّارع أصولاً لهذه الموضوعات وهذه الموارد إذا كان الاحتمال عقلائيًّا. أمَّا إن لم يكن عقلائيًّا، فلا حاجة أصلًا للأصول، وإجراء الأصل فيها لا فائدة منه؛ أي لا محلَّ له من الأساس. الآن، في بعض الموارد مثل مسألة الطَّهارات ومسألة النَّجاسات أو مسألة الشُّبهة وأمثال ذلك، يقول الشَّارع: إن لم تكن تعرف الموضوع، فلا بأس! ولا تُشغل فكرك، لا تُشغل فكرك بالطَّهارة والنَّجاسة، لا تُشغل فكرك بالشُّبهة. إشغال الفكر بالطَّهارة والنَّجاسة يمنع الإنسان من الوصول إلى اللُّبِّ وإلى الحقيقة.

  • كفاية الحدود العرفيَّة في التَّكاليف والاجتناب عن الوسواس: أين نضع تركيزنا؟

  • ذلك الذي يصلِّي و يتوجَّه ذهنه في صلاته إلى هذه المسألة ،يقول الحمد للّه ثيابي طاهرةٌ وأصلِّي بهذه الثِّياب، فكره ونظره ليس على الله، بل على الثِّياب! ذلك الَّذي يسعى لمراعاة مثل هذه الأمور، ماذا يستخدم ليكون حلالاً هذا الإنسان يمتنع عن الوصول إلى اللُّبِّ وإلى الحقيقة. بالطَّبع ليس المقصود ألَّا يبحث الإنسان عن الحرام والحلال، لا! بل عليه أن يراعي الحدود العرفيَّة في تحصيله لا ما هو أكثر منها، فالوسواس الزائد، والدقَّة الزائدة، والتأمُّل الزائد، والقلق الزائد لم يرد في الشَّرع. على الإنسان أن يقوم بعمله وأن يوجِّه فكره ونظره إلى حقيقة الأمر وحقيقة المسألة و في الوقت نفسه لا يهمل الناحية الظاهريَّة.

  • الفرق بين السُّهولة في الشَّريعة واللَّامبالاة: خطٌّ رفيعٌ

  • الإهمال هنا بمعنى اللَّامبالاة، لا بمعنى عدم المراعاة! أي، أحيانًا يكون الإنسان لا أباليًّا بالنسبة للقضيَّة، فيقول أصلًا ليس لدينا طهارةٌ ولا نجاسةٌ، وهذه الأحكام لا معنى لها، فهذه هي اللَّامبالاة بعينها. وأحيانًا لا يكون كذلك ولكنّ الاهتمام بالأمر ليس مهمًّا بالنِّسبة إليه، لا أنَّه لا ينتبه! بل ينتبه. فالاهتمام يعني أن يركّز فهمه وكامل دقَّته ووسواسه، ويتابع دائمًا، ويحقِّق من هذا، ويحقِّق من ذاك، فهذه الأعمال تمنعه من الوصول إلى المقصود. تسير القافلة وهو يبقى نائمًا ويبحث عن هذه الوسيلة وعن هذه المقدِّمة، فيفوته ذو المقدِّمة، ويجب التَّفريق بين هذين الأمرين. بناءً على ذلك، فالموارد التي يقولون فيها لا تسأل هي هذه الموارد. والموارد الَّتي يعلم فيها الإنسان أنَّ بناء الشَّرع على التَّسامح، وبناء الشَّرع على التَّسهيل، وبناء الشَّرع على المضيّ لا على التَّوقُّف! مثل الطَّهارات ومثل النَّجاسات ومثل الوسوسة في المال وأمثال ذلك؛ بالنِّسبة لهذه المسائل، لا ينبغي للإنسان أن تكون لديه تلك الدِّقَّة والوسواس.

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

7
  • عدم تسامح الشَّارع في بعض الموضوعات: متى يجب السُّؤال والتَّحقيق؟

  • أمَّا بالنِّسبة لبعض المسائل، فلا! في الأعراض، في النُّفوس، في المسائل المتعلّقة بعِرض المؤمن وماء وجهه، في المسائل المتعلِّقة بالأموال، في المسائل المتعلِّقة بحقوق الآخرين، في المسائل المتعلِّقة بالقصاص والدِّيات، في مثل هذه المسائل يجب على الإنسان أن يسأل ويجب على الإنسان أن يعلم؛ يجب على الإنسان أن يعلم بالنِّسبة للمعاملات هل هذه المعاملة باطلةٌ أم صحيحةٌ؟! بالنِّسبة للأمور المتعلِّقة بماء وجه المؤمن، يجب أن يسأل! شيءٌ يسمعه من أحدهم، فلا ينبغي أن يُرتِّب عليه أثرًا فورًا ويقول: فلانٌ قال مثل هذا الكلام! مع أنَّه لم يحتمل بعد أنَّه فعل هذا يقول: فلانٌ فعل هذا، ثمَّ يخبر البقيَّة؛ يقول: يا هذا، هذا الإنسان فعل كذا، ويذهب بماء وجه المؤمن! لا يجوز هذا! فما يتعلَّق بعِرض المؤمن، هو أمر مهمّ جدًّا، والله لا يتجاوز عن هذه القضايا. وهنا يجب حتمًا أن يسأل؛ يجب حتمًا أن يفهم الموضوع؛ يجب حتمًا أن يحقِّق إلى درجة يحصل له اليقين معها هل قيل هذا الأمر أم لم يُقل؟! ما هو الغرض من هذه القضيَّة؟! هل ما فهمه هو كان صحيحًا؟! هل كانت هناك نيَّةٌ سيِّئةٌ وراء هذه القضيَّة أم من الممكن أن تكون النِّيَّة حسنةً ولكن الفهم خاطئٌ؟! وهكذا فأن يأتي الإنسان ويتناول أمرًا ويمشي به دون أن يحقِّق فيه ليس صحيحًا. إذ هذه كلُّها من الأشياء الَّتي يُسأل عنها الإنسان! هذه يجب على الإنسان أن يسأل عنها حتَّى يفهم الموضوع تمامًا.

  • لزوم حسن الظَّنِّ بالمؤمنين: كيف نحمي قلوبنا من سوء الظَّنِّ؟

  • قال النَّبيُّ الأكرم صلَّى الله عليه وآله: «ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ.»۱ احمل أمر أخيك دائمًا على المحمل الصَّحيح؛ أنَّ هذا العمل الَّذي فعله كان لمراعاةٍ ما، لجهةٍ حسنةٍ ما فعل هذا العمل. إذا قال كلامًا، اتَّخذ إجراءً، ذكر أمرًا، فعل شيئًا، لا تقل فورًا: يا للهول! هذا أيضًا ظهر هكذا، يا للهول! فماذا حدث إذًا؟! ثمَّ بناءً على هذا القول يا للهول، تذهب أنت بنفسك وتضيف مائة يا للهول أخرى إلى القضيَّة. لا تقل فورًا: لا! لقد أخطأ بفعل هذا! سأذهب وأفعل كذا، لقد توهَّم! سأؤدِّبه حتَّى لا يفعل مثل هذه الأعمال مرَّةً أخرى! لا يا عزيزي، يجب التَّأمُّل، الصَّبر، عدم الغضب بسرعةٍ، عدم الانفعال بسرعةٍ، هل نحن "سماورٌ"٢ ما إن نوصلُه بالكهرباء حتّ يغلي؟! السَّماور يوصل بالكهرباء فيغلي بعد فترةٍ، ولكنَّ الإنسان ليس كذلك؛ يمكن للإنسان أن يتأمَّل، أن يفكِّر، وأن يكون هادئًا.

    1. الكلينيّ، الكافي، ج ٢، ص ٣٦٢، باب التُّهمة وسوء الظَّنّ، ح ٣.
    2. إناء كبير كهربائي أو نفطي يوضع فيه الماء ويستفاد منه لصنع الشاي، يتسخدم في إيران والعراق. (م)

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

8
  • الحلُّ الأساسيُّ لمواجهة سوء الظَّنِّ في النَّفس: خدعةٌ بسيطةٌ وفعَّالةٌ

  • أوَّل شيءٍ يجب على الإنسان أن يأخذه بعين الاعتبار في مثل هذه الموارد هو أنَّه منذ البداية يقول لنفسه إنّه لم يسمع هذا الأمر! فبمجرَّد أن نسمع مثل هذا، أوَّل عملٍ نقوم به فورًا، ما هو؟! أن نباغت أنفسنا. المباغتة هي أن نقول: أصلًا لم يحدث مثل هذا و لم يصل إلى مسامعنا. بمجرَّد أن تنشأ فينا مثل هذه الحالة، فجأةً نرى أنَّ نفوسنا قد هدأت. نفوسنا قد هدأت! فهذا ما يُسمَّى بالمباغتة. بالطَّبع، هناك طرقٌ أخرى أيضًا. هذه هي الطَّريقة العاميَّة وأقلُّ شيءٍ يعرفه أيّ واحدٍ منّا، ويستطيع فعله كلُّ واحدٍ منّا. هل سمعتَ هذا من قبل؟ لم تسمعه. الآن، لنفترض أنَّه في السَّاعة التَّاسعة وخمس وعشرين دقيقة، ليلة الأربعاء أو الخميس؟ الخميس، يأتي أحدهم ويقول: يا هذا، كنَّا في مجلس كذا وقال فلانٌ عنك مثل هذا الكلام. إن قلتُ: قال عنِّي كلامًا؟! وأنّي فعلت مثل هذا العمل؟! فجأةً ترى أنَّني أغلي مثل السَّماور! السَّماور أيضًا يستغرق خمس دقائق ليغلي، ولكن هذا لا تمضي ثانيةٌ واحدةٌ حتَّى يغلي. فجأةً يريد الإنسان أن ينفجر. يا هذا، اصبر! أوَّل عملٍ يفعله الإنسان، بمجرَّد أن يسمع مثل هذا هو أن يقول: حسنًا، أنا لم أسمع حتَّى الآن، أفترض أنَّه لم يكن مثل هذا الشَّيء! يقول: لا! ربَّما لم تكن مثل هذه المسألة! إذا قال ذلك الإنسان: يا هذا، أنا سمعتُ بنفسي! يقول له: لا! ربَّما لم يكن ذلك. فجأةً ترى النَّفس تهدأ، هذا يفيدنا. هذا يفيدنا في هذه المرحلة وفي المراحل اللَّاحقة. هذا يرفع الإنسان. هذا يكمّل الإنسان.

  • ضرر سوء الظَّنِّ والتَّحقيق الفوريّ في كلام الآخرين: كيف نخسر رصيدنا الرُّوحيّ؟

  • أمَّا إذا لم تكن لدى الإنسان هذه الحالة، فمنذ أن يسمع هذا ـ حتَّى لو افترضنا أنَّه ذهب ليحقِّق ـ فإلى أن يحقِّق، يكون قد خسر من كيسه. لقد صلَّى ـ أيُّها الرُّفقاء، أقول لكم بصراحةٍ ولكن كلُّ الصَّلوات تذهب أدراج الرِّياح! تمامًا مثل كيسٍ اشتريتَ فيه خمسة كيلوغرامات من الأرزِّ، وأنت ذاهبٌ إلى البيت، يأتي إنسان ويثقبه من الأسفل ولكنَّك لا تنتبه، وعندما تصل إلى البيت ترى عجبًا، هذه الخمسة كيلوغرامات لم يبقَ منها الآن سوى مكيالين صغيرين. تقول: يا لخفَّة يدي! تنظر فترى أنَّه لا شيء في الكيس، لا شيء! تعود للخلف لتجمع حبَّات الأرزِّ، فترى أنَّ النَّمل قد أخذ كلَّ الأرزِّ إلى جحوره. لقد كان رزقها. هذا أيضًا هكذا! هذان اليومان والثَّلاثة أيَّام والأسبوع والّتي تمضي حتَّى يحقِّق، تذهب صلواتك، تذهب صلواتك في الليل، تذهب تلاواتك للقرآن في شهر رمضان، يذهب ذكرك، كلُّه يذهب، فماذا يبقى لك؟ صفر! الآن أصبحتَ نظيفًا، نظيفًا! يجب أن تبدأ من جديد. ومرَّةً أخرى وبخبرٍ آخر، نصبح نظيفين مرَّةً أخرى. وكلّ ما نكسبه يذهب! مرَّةً أخرى بخبرٍ آخر نصبح نظيفين، وفجأةً يأتي جناب عزرائيل ويقول: يا هذا، لقد نظَّفتَ كلَّ شيءٍ حتَّى الآن! لم يعد للبقاء في هذه الدُّنيا فائدةٌ، كنتَ تعمل دائمًا ثمَّ تصبح نظيفًا مرَّةً أخرى، الآن قم واذهب إلى العالم الآخر! فهذا لا يُسمَّى عملًا. أن يتعب الإنسان دائمًا ثمَّ فجأةً ينظِّف كلَّ شيءٍ. رحم الله مولانا، لقد أتى بمعجزةٍ حقًّا حين يقول: 

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

9
  • جان همه‌ روز از لگدکوب خیال*** و ز زیان و سود و ز خوف زوال
  • نی صفا می‌ماندش، نی لطف و فر*** نی به سوی آسمان راه سفر
  • يقول: 

  • ترزح الرُّوح تحت ركلات الخيال *** والربح والخسارة وخوف الزَّوال

  • فلا صفو لها أو لطفٌ أو بهاءٌ *** لا ولا معراج نحو السَّماء 

  • عذاب تربية بغض المؤمن في القلب: نارٌ تأكل الحسنات

  • ركل الخيال هو هذا فعندما يقولون: يا هذا، فلانٌ قال عنك كذا يقول الإنسان: اللعنة على أبيه، اللعنة على أمِّه، اللعنة على زوجته وأطفاله، اللعنة على عائلته، اللعنة على عمله، اللعنة على كسبه. في حين أنَّ مثل هذا الشَّيء لم يكن صحيحاً أصلًا، والإنسان يربِّي بغض مؤمنٍ في قلبه دائمًا دون أيِّ وجه حقٍّ، وهذا هو أشدُّ العذاب وأعظم النِّقمة الَّتي تحصل للإنسان في هذه الدُّنيا، وتُذهب كلَّ رؤوس أموال الإنسان هباءً. تُذهبها كلَّها هباءً. عندما تحصل للإنسان مثل هذه الحالة، حينها بعد ساعةٍ فكِّرْ في نفسك وقارنْها بما قبل ساعةٍ، لترى كم اختلفتَ؟! جرِّبوا لتروا كم اختلفتم؟! كم اختلف حالكم؟! كم اختلف هدوؤكم؟! كم تغيَّر ذلك السُّكون والطُّمأنينة لديكم؟! ذلك الهدوء الَّذي كنتم تجلسون بواسطته تقرؤون الشِّعر، تصلُّون، تقرؤون شعر حافظ، تقرؤون القرآن، تقرؤون الدُّعاء. ذلك هدوؤكم ماذا حدث له؟ الآن افتحوا القرآن واقرؤوا لتروا أيَّ حالٍ لديكم؟! هل تستطيعون القراءة؟! هل يعمل لسانكم؟ كأنَّ أحدًا يمسك لسانكم وتريدون أن تقرؤوا آيةً من القرآن بصعوبةٍ! فماذا حدث؟! هذا هو العذاب بعينه. ذهبت كلُّ الآثار و بقي لنا شرُّها؛ شرُّ هذه القضيَّة يمسك بتلابيبنا الآن؛ لم يعد هذا القرآن قرآن ما قبل ساعةٍ. لم يعد هذا الشِّعر شِعر ما قبل ساعةٍ، والآن حتَّى يعود شيئًا فشيئًا إلى مساره، يحتاج إلى وقتٍ! مرَّةً أخرى يأتي خبرٌ آخر! إذن يا عزيزي، تعالَ واقطع هذه الأذن من البداية!

  • ز دست دیده و دل هر دو فریاد***که هر چه دیده بیند دل کند یاد
  • بسازم خجری نیشش ز فولاد***زنم بر دیده تا دل گردد آزاد

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

10
  • يقول: 

  • آه من اليد والعين والقلب *** فكلَّما تراه العين يتذكَّره القلب

  • سأصنع خنجرًا نصله من الفولاذ *** أضرب به العين حتَّى يتحرَّر القلب 

  • فبابا طاهر عليه الرَّحمة حلَّ المسألة هكذا، يقول: يا هذا، بما أنَّ هناك ارتباطًا بين هذا الظَّاهر والباطن، فماذا يجب أن نفعل؟! لا يمكن الخلاص من أيدي هؤلاء النَّاس. اليوم يأتون ويقولون للإنسان شيئًا، وغدًا يأتون ويقولون له شيئًا آخر. من البداية قل: يا هذا، لا أريد أن تقول. قل: هل تريد أن تقول إنَّ فلانًا تحدَّث عنِّي؟! حسنًا، من البداية لا أريد أن أسمع. إذا قالوا: يا هذا، لقد قال عنك، أريد مصلحتك. قل: أنا لا أريد هذه المصلحة. هل ستنطبق السَّماء على الأرض؟! الآن، إذا لم أسمع هذا، هل سيحدث زلزالٌ؟! لا يا هذا! القمر والشَّمس والنُّجوم كلُّها تدور في فلكها بشكلٍ جميلٍ ولا يحدث شيءٌ أبدًا! أنا المسكين الَّذي سأتعذَّب. فمن الأفضل ألَّا أسمع من البداية. الآن، جاء وتشيطن ذاك وقال هذا! والآن، بعد أن قاله، لماذا تنقلب رأسًا على عقبٍ يا عزيزي؟! افترض أنَّه لم يقل. افترض أنَّه ليس هناك مثل هذا الكلام من الأساس! قل: الآن يجب أن أذهب بنفسي في وقتٍ مناسبٍ لأرى. وذلك الوقت المناسب ليس بعد ساعةٍ أخرى، بل اتركه أصلًا، دعه يمضي أسبوعٌ، يمضي أسبوعان، يمضي ثلاثة أسابيع، يمضي شهرٌ. عندما يصبح الأمر بالنِّسبة لك سواء كان أم لم يكن، قيل أم لم يُقل، حينها اذهب وقل: أحقًّا وقعت مثل هذه المسألة التي تتعلَّق بي؟! أحدثت مثل هذه القضيَّة؟! وذلك أيضًا لرفع سوء التفاهم، وهو ما يكون ضروريًّا أحيانًا. لا أن تمسك سمَّاعة الهاتف فورًا وتصل شرق العالم بغربه لتكتشف ما قيل! هل اتَّضح الأمر؟! هكذا قال الأعاظم. ألا يريد الإنسان أن يعمل؟! ألا يريد أن يصل من النَّقص إلى الكمال؟! الوصول من النَّقص إلى الكمال ليس طريقه هذا؛ ليس هذا! لكلِّ شيءٍ طريقٌ.

  • اتِّحاد كلام أولياء الله مع كلمات أهل البيت عليهم السلام: مصدرٌ واحدٌ للحكمة

  • هذه الكلمات الَّتي قالها الأولياء، قالها المعصومون عليهم السلام، وهذه الكلمات قالها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله. أقسم بالله لقد قالها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله، أقسم بالله لقد قالها أمير المؤمنين عليه السلام، أقسم بالله لقد قالها الإمام الحسن عليه السلام، أقسم بالله لقد قالها الأئمَّة عليهم السلام، لم يأتوا بها من عند أنفسهم. النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله عندما يقول: «ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ».۱ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله بهذا الكلام يفكِّر في سلوكنا، لا في ظاهر إسلامنا، يفكِّر في سلوكنا، يفكِّر في طريقنا. «حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ» حتَّى تتَّضح لك أمورٌ لاحقًا تغيِّر الأمر، حينها تقول: لا، لم يعد هنا محلٌّ للحمل على الصِّحَّة. أي أن تكثر القرائن والشَّواهد إلى درجةٍ، وتسأله أنت بنفسك مباشرةً، لا غيابيًّا: فلانٌ قال، وهو قال كذا. ربَّما كان الكلام الذي قاله لفلانٍ يقصد به شيئاً آخر. لقد فهم شيئًا ما. يا هذا، بعد كلِّ هذه التجارب التي مررنا بها، ما زلنا لم نتأدَّب! الإنسان يجرِّب مرَّةً واحدةً فيفهم! نحن جرَّبنا ألف مرَّةٍ وفهمنا أنَّ الكلام كان خاطئًا، ومع ذلك في المرَّة الواحدة بعد الألف نظلُّ كما كنَّا. فهذا لا يجوز! فلنشعر ببعض التَّغيير؛ على الأقلِّ في المرَّة الواحدة بعد الألف نحمل على محملٍ آخر؛ ضعوا لها محملًا احتماليًّا قليلًا. لا نعمل بذلك الكلام الأوَّل بعد الآن. ماذا اختلفنا عن سنِّ العاشرة بعد أربعين سنةً وخمسين سنةً؟! ماذا اختلفنا عن سنِّ العشرين؟! هل مضى عمرنا فقط؟ «حَتَّى يَأْتِيَكَ» يعني تأتيك أمورٌ تكون يقينيَّةً مثل هذا المصباح! بالنِّسبة لي شخصيًّا، الأمر واضحٌ، بالنِّسبة لي شخصيًّا، الأمر مجرَّبٌ، سمعتُ بنفسي أمورًا حملتها قطعًا على مواضع سوءٍ، ثمَّ عندما سمعتُ التَّوضيح من الطَّرف الآخر، تغيَّر رأيي مائةً وثمانين درجةً. رأيتُ ماذا قالوا لنا وماذا قال هذا حقًّا! أيَّ نيَّةٍ كانت لديه، ولكن أيَّ فهمٍ فهم هو؟! لقد حدث لي شخصيًّا. و بالطَّبع الأمر كذلك للجميع. «وَلا تَظُنَّنَّ بِکَلمةٍ خَرَجَتْ مِنْ أخیك سُوءًا مادُمْتَ تَجدُ لَها فی الخیرِ مَحْمِلًا.»٢

    1.  المصدر السابق نفسه 
    2. الكلينيّ، الكافي، ج ٢، ص ٣٦٢، باب التُّهمة وسوء الظَّنّ، ح ٣.

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

11
  • سبب الاختلاف في الأحكام القضائيَّة: هل نحكم على القول أم على القائل؟

  • عجيبٌ جدًّا، عجيبٌ جدًّا! يمكن للإنسان أن يقارن هذا في تلك الأحكام الَّتي تعرض له أحيانًا بين أفرادٍ منتسبين إليه ومن رفقائه، وبين أفرادٍ لا ينتنسبون إليه وليسوا من رفقائه؛ يرى أنَّ كيفيَّة حكمه بالنِّسبة لهؤلاء تختلف. فإذا تفوّه أحدهم بكلام وكان صديقاً، ثمّ يأتي من يقول لك: يا هذا، إنّ فلاناً قال مثل هذا الكلام؛ فبما أنَّ القائل صديقٌ، تبحث له عن محملٍ و تبرِّره بطريقةٍ ما. أليس كذلك؟! أمَّا إن لم يكن من الرفقاء، فمع أنّه أيضًا قال الكلام نفسه، قال الكلام نفسه تمامًا! فأنت لا تبحث عن محملٍ فحسب، بل تحمله على المحمل السَّيِّئ وتقول: انظروا يا قوم ماذا قال فلانٌ عنَّا؟! حسنًا، لقد كان كلامًا واحدًا. ولكن قاله اثنان، أحدهما كان صديقك والآخر لم يكن صديقًا؛ ولكنَّه كان كلامًا واحدًا، لم ينقص أو يزد حتَّى واوًا واحدةً! فلماذا هذا السُّلوك؟! إنّه لهذا السَّبب! لأنَّنا لا نعمل وفقًا لما هو عليه الواقع. سواءٌ تكوينًا أم تشريعًا، تكوينًا بيننا وبين الله، وتشريعًا أيضًا في مقام التَّربية، في مقام التَّربية، ما أمِرنا أن نعمل به، لا نعمل به. في الظَّاهر نقول: نعم، نعم، على العين والرَّأس، على العين والرَّأس، ولكن عندما يصبح الأمر ًفعليّا، نغضب، ننفعل، نفعل كذا ونقول: قالوا كذا! قالوا كذا. في حين أنَّه في مقام التَّربية أيضًا الأمر كذلك! الإمام عليه السلام يقول: «ما دمتَ تجد محملاً» فما دمتَ تجد طريقًا، وتجد له محملًا، فلماذا تظنُّ السُّوء؟! هذا الظَّنُّ السَّيِّء، شرُّه الأوَّل يعود إلينا! يقلب قلوبنا، يقلب نفوسنا، يثير الاضطراب وبالتَّالي لم تعد صلاتنا صلاةً، ولم يعد قرآننا إلَّا لقلقة لسانٍ. لم تعد صلاة الليل عندنا إلَّا انحناءً وركوعًا، ولم يعد ذكرنا إلَّا عادةً. مجرَّد عادةٍ! تمضي عشر سنواتٍ ولا خبر أبدًا! لا شيء! لماذا؟! لأنَّا لم نعمل بما أمرنا به، لم نعمل به!

  • السُّلوك يعني المراقبة: هل الذِّكر وحده كافٍ؟

  • قلتُ ألف مرَّةٍ وسمعتُ أكثر من ألف مرَّةٍ من الأعاظم أنَّهم قالوا: السُّلوك ليس مجرَّد ذكرٍ يا عزيزي! السُّلوك ليس صلاة ليلٍ، السُّلوك ليس قرآنًا. السُّلوك يعني المراقبة. هذا النَّوع من السُّلوك تجاه الأفراد هو المراقبة. الذِّكر وصلاة اللَّيل والورد والقرآن وأمثال ذلك تأتي لتثبِّت المراقبة. تثبِّت. ذلك الَّذي يذكر ويفتخر بأنَّه من أهل الذِّكر وأهل الصَّلاة وأمثال ذلك، عندما يسمع خبرًا من مكانٍ ما، دون أن يرى صاحب ذلك الخبر، قبل أن يلتقي به، يقوم ويذهب هنا وهناك وينقل الأمر. أوَّلًا، هو نفسه يغلي مثل السَّماور بدل المائة درجةٍ، سبعمائة درجةٍ، ثمَّ يقوم ويذهب إلى هنا وهناك وينقل أنّ فلانًا قال هذا من وراء ظهري ، فلانًا قال هذا من وراء ظهري، فلانًا قال هذا الأمر ضدِّي في ذلك المجلس، ثمَّ عندما يتَّضح فجأةً أنَّ مثل هذا الأمر كان كذبًا محضًا وافتراءً محضًا، تفضّل الآن اجلس واذكر، فبدل أربعمائة مرَّةٍ من ذكر السجدة اليونسيّة، قل أربعة آلاف مرَّةٍ، قل أربعين ألف مرَّةٍ، قل أربعمائة ألف مرَّةٍ، «لا إله إلَّا الله» قلها ألف مرّة قلها مليون مرّة في اليوم! ماذا حدث؟! لا شيء! لذلك نرى أنَّه لا فائدة منه أبدًا. مَن لا يكلِّف نفسه عناء اتِّصالٍ هاتفيٍّ واحدٍ ويتحدَّث دون أن يكون لديه اطِّلاعٌ دقيقٌ، فذكره لا فائدة منه. إذن، لمن هذه التَّعليمات؟! لماذا هذه التَّعليمات حقًّا؟

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

12
  • ارتقاء فهم السَّالك أهمُّ من كثرة الذِّكر: ميزانٌ دقيقٌ

  • ذات مرَّةٍ كنَّا في مجلسٍ، فجاء أحدهم وطرح مسألةً ـ قبل عدَّة سنواتٍ ـ فقال: الحمد لله، هؤلاء الذين كانوا في وضعٍ معيَّنٍ وخاصٍّ وفي ظروفٍ خاصَّةٍ عباداتهم أصبحت جيِّدةً جدًّا، وذكرهم أصبح جيِّدًا جدًّا، يراقبون كثيرًا، هم أهل ذكرٍ كثير. فالتفتُّ إليه وقلتُ: رحم الله أبانا، كان يقول كم ازداد فهمهم؟! بمجرَّد أن قلتُ هذا، شحب لونه واحمرَّ، قلتُ: كم ازداد فهم هؤلاء؟! الذِّكر ليس مهمًّا! افتحوا المسجِّل و ضعوا شريطًا مدَّته ستُّ ساعاتٍ، سيذكر لكم ستَّ ساعاتٍ، ولن يتعب أبدًا؛ ما دام محرِّكه لم يسخن ولم يحترق والبطَّاريَّة والكهرباء متَّصلةٌ، فهذا الشَّريط أيضًا يدور ويخرج من سمَّاعته صوت الذِّكر. بل المهمُّ أن نرى كم ازداد فهمه؟! كيف أصبح ردُّ فعله في القضايا؟! كيف أصبحت علاقته بالمجتمع والاجتماعيَّات؟! هل يكثر من الذِّكر؟! أنا أيضًا سأجلس من الآن حتَّى الصَّباح وأذكر لكم باستمرار، أعطوني مسبحةً! هذا يُسمَّى أخذ للقشر وترك للُّبِّ والحقيقة. هذا ما يُقال. الخوارج كانوا هكذا! هل هناك أهل ذكرٍ أكثر من أنَّهم كانوا يعلِّقون القرآن ليكون معهم دائمًا! كانوا يجلسون فوق الحمير و يقرؤون القرآن فوق الحمير! وهم يسيرون كانوا يقولون: «بسم الله الرَّحمٰن الرَّحیمِ» ثمَّ هؤلاء أنفسهم، كانوا يهجمون على أطراف الكوفة و يذبحون شيعة أمير المؤمنين عليه السلام ويبقرون بطن المرأة الحامل ويُخرجون الجنين! هؤلاء الخوارج! والقرآن معلَّقٌ في أعناقهم! هؤلاء أنفسهم! فبماذا اختلفتم عن أولئك الذين جاؤوا لمحاربة الإمام الحسين عليه السلام وقتلوا طفله ذا الأشهر الستَّة؟! كلُّكم واحدٌ! الخوارج كانوا يسألون الناس: «هل أنت محبٌّ لعليٍّ أم لا؟» فعندما كان النَّاس يقولون: «نعم، أنا كذلك». كان الخوارج يقولون: إذن أنت كافرٌ! أنت كافرٌ، ونجسٌ، وذلك الجنين الَّذي تحمله أيضًا مثلك، فلنذبحه، ولنبقر بطن المرأة. كانوا يفعلون هذه الأعمال! فلو لم يفعلوا هذه الأعمال، لما ذهب أمير المؤمنين عليه السلام إليهم. الإمام رأى أنَّ هؤلاء يرتكبون الشُّرور. حسنًا الآن ذهبتم، فلتذهبوا إلى جهنَّم! تنحّيتم بأنفسكم، فإلى جهنَّم، اذهبوا لشأنكم، لا أريد أن أرى وجوهكم أصلًا، حسنًا لكن لماذا ترتكبون الشُّرور؟! لماذا تقتلون النَّاس؟! لماذا تهجمون على القرَّاء؟! ما هذه الأعمال الأخرى؟! لماذا تقطعون الطَّريق على القوافل؟! قاموا بهذه الأعمال بحيث قال الإمام عليه السلام: هؤلاء مفسدون ويجب دفع الفساد. ثمّ جاء واستأصل شأفتهم. الآن، لنجلس باستمرار ونذكر، لنجلس باستمرار ونتهجَّد ونُسعد قلوبنا بهذه الأشياء، فلا فائدة من ذلك، فالذِكر يأتي ويُضفي بريقًا على ذلك العمل الَّذي قام به الجصَّاص والمعماريُّ والبنَّاء. قبل أن تدهن هذا الجدار، إذا علمتَ أنَّ هذا الجدار رطبٌ، فمهما دهنتَ ترى أنَّه لا فائدة. أوَّلًا يجب معالجة رطوبة الجدار؛ أوَّلًا يجب إصلاح هذا الباطن؛ يجب أن تقوموا بوضع المادّة العازلة و يجب أن تزيلوا الرُّطوبة؛ عندما يجفُّ و تتأكَّدون، حينها ابدؤوا بالصبغ. حينها يُضفي هذا على الغرفة بريقًا وتكتسب جمالًا وتصبح جميلةً وتختلف من النَّاحية الظَّاهريَّة. أمَّا إن لم تصلحوا الباطن، وجئنا نصبغ باستمرار، فغدًا يتساقط الصبغ مرَّةً أخرى؛ وبعد غدٍ نصبغ مرَّةً أخرى فيتساقط مرَّةً أخرى! قضيَّة الذِّكر أيضًا كذلك. كلَّ ما نعمله في اللَّيل، نصلِّي، نذكر، سيُمحى كلُّ ذلك صباحاً مثل المدحلة. هذه التي تدحل الطُّرق تمحو كلَّ شيءٍ وتذهب. مرَّةً أخرى في اللَّيل نقوم ونذكر، نسجد، نتحمَّل السّهر ولكن مرَّةً أخرى في النَّهار في التَّعامل مع هذا وذاك، الهواجس نفسها والخواطر نفسها والمسائل نفسها، فمرَّةً أخرى ننادي المدحلة: تعالَي يا هذه، فتمحو كلَّ شيءٍ وتذهب. ومرَّةً أخرى بعد غدٍ ليلًا وبعد غدٍ ليلًا وهكذا يستمرُّ الأمر. ينتهي شهر رمضان وهو نظيفٌ، ونحن أيضًا نظيفون، تعادلنا، لم نصعد ولم ننزل الآن لا شأن لنا بالنُّزول في النِّهاية نحن متساوون وقد مضى وانتهى الأمر. ولكنّ هذا ليس صحيحًا! الأعاظم كانوا يرون طريق السُّلوك شيئًا آخر وكانوا يرون الفتوحات للإنسان في هذه الموارد. الانكشافات كانت للإنسان في هذه الموارد. الفتوحات كانت في هذه الموارد. انفتاح القلب واتِّصال نافذة النَّفس بعالم القدس كان في هذه الموارد. في الموارد الَّتي يأتي فيها الإنسان ويتَّصف قلبه بتلك الصِّفات والملكات الرَّبوبيَّة. لا أن يجلس ويذكر لأنَّه بالذِّكر لا يتَّصل. الذِّكر في محلِّه، والقرآن في محلِّه، كلُّ هذه الأمور في محلِّها ولكن ما هو الأصل؟! الأصل هو المراقبة. هذا هو ما قالوه.

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

13
  • لزوم التَّحقيق في الأمور المهمَّة: متى يكون السُّؤال واجبًا؟

  • بناءً على ذلك، هذا القول بأنَّه لا تسألوا، لا يتعلَّق بهذه الأمورالتيٍ يهتمُّ بها الشَّارع، ففي هذه الأمور يجب السُّؤال. في يوم القيامة سيأتون ويسألون الإنسان: «هَلَّا عَمِلْتَ؟»۱ وهو يقول: «أنا لَمْ أَعْلَمْ.» فيُقال له: «هَلَّا تَعَلَّمْتَ؟» لماذا لم تعمل؟! قال: «أنا لا أعلم». قالوا: «لماذا لم تسأل؟!» مجرَّد "لا أعلم، لا أعلم" لا تكفي. لماذا لم تسأل؟! أحيانًا لا يخطر ببال الإنسان أصلًا أن يسأل عن مسألةٍ ما، أصلًا لا يخطر بباله! لا يخطر فلا بأس، هذا لا يحاسب الله عليه. وأحيانًا يسأل الإنسان نفسه ما هو حكم هذه القضيَّة؟ كيف يجب أن أفكِّر بخصوص هذه القضيَّة؟ ماذا يجب أن أفعل بخصوص هذه المسألة الشَّرعيَّة؟ فهذا لا يستطيع أن يقول: لا أعلم، لأنَّه يستطيع أن يذهب ويسأل. عدم السُّؤال والمضيّ هكذا يعني اللَّامبالاة. بكلِّ صراحةٍ! فمَن يستطيع أن يسأل ولا يسأل يقال له لا أباليّ. «هَلَّا تَعَلَّمْتَ؟!» لماذا لم تتعلَّم؟! لماذا لم تفهم؟! لو ذهبتَ، حتَّى لو التقيتَ بشخصٍ غير مناسبٍ، لتجاوز الله عنك! وإذا التقيتَ بأهل العلم، لأوصل لك الله الحكم. ولعرّفك الطَّريق. حقًّا لو كنتَ صادقًا لأوصلك الله وأفهمك!

  • قصّة الحجَّاج الذين أرادوا التهرّب من حلق الرَّأس: هل يجوز التَّساهل في الواجبات؟

  • كنَّا قد تشرَّفنا بالحجِّ مع المرحوم العلَّامة، وكان عمري سبعة عشر عامًا تقريبًا في ذلك السَّفر الأوّل، وفي يوم منى، بعضهم كانوا يأتون ويقولون: سيِّدنا هل يمكن ألَّا نحلق رؤوسنا؟ ألَّا نقصِّر شعورنا إمَّا أنَّهم لم يكونوا يرغبون بأنفسهم أو أنَّهم تعرَّضوا لضغوطٍ وانتقاداتٍ وإشكالاتٍ من قِبَل الطرف الآخر! أي من زوجاتهم كان الأمر كذلك! فكنَّا نرى بأعيننا أنَّهنَّ لم يدعنَ الرجال يحلقون رؤوسهم. يا هذه، ما شأنكِ برأسه؟! حسنًا، يحلق شعره ثمَّ ينمو مرَّةً أخرى! لن يحدث شيءٌ! كانت إحدى النساء تقول لزوجها: لا، يا فلان، لا تحلق! كنتُ أسمعها بنفسي تقول: لا تحلق! وذلك المسكين أيضًا كان يضعف، والآن لمراعاة المصالح وكسب قلب المؤمن أو المؤمنة، وهو ما لا محلَّ له أصلًا في هذه المواضع، لم يكن يحلق رأسه. كانوا يأتون دائمًا إلى المرحوم العلَّامة يقولون: سيِّدنا هل هناك أحدٌ من هؤلاء السَّادة المراجع يسمح بألاّ نحلق ونكتفي بالتَّقصير؟ فكان جوابه: أنا لستُ مطَّلعًا على رأي المراجع، يجب الحلق، وحلق الشَّعر واجبٌ. فكانوا مرّة أخرى يقولون: سيِّدنا سمعنا أنَّ السَّيِّد فلانًا في النَّجف يشكل على هذا [الحكم بوجوب حلق الرأس] ؟

    1. بحار الأنوار، ج ٢، ص ٢٩

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

14
  • فكان جواب المرحوم العلَّامة: لا علاقة لي بذلك. حلق شعر الرَّأس واجبٌ! والسَّلام! كانوا يذهبون إلى هنا وهناك باستمرار. حتَّى كنَّا نرى في النِّهاية أنّهم كانوا يقولون: نحن بخصوص هذه القضيَّة غيَّرنا مرجعنا إلى فلانٍ ورجعنا إلى السَّيِّد فلان، يبدو أنَّهم كانوا يقولون أنّ مثل السَّيِّد الخوئيِّ يجوّز عدم الحلق وأنَّ وجوب حلق الرَّأس احتياطٌ فرجعنا إلى ذاك وقلَّدناه. هذا أيضًا أصبح دين النَّاس! هذا يُؤتى به يوم القيامة ويُقال له: لماذا لم تحلق رأسك؟! مَن الَّذي قال لك؟! حينها ماذا سيقول؟! هناك لا يستطيع أن يلعب مع الله! الآن هنا يستطيع أن يقول: حسنًا، قلنا ربَّما إذا حلقنا شعر الرَّأس، تسطع الشَّمس قليلًا على رؤوسنا وتسبِّب مشكلةً حسنًا، ضع قبَّعةً على رأسك أو مثلًا ربَّما نتأذَّى وقد تتأذَّى العين، ومن هذه الألاعيب وهذه الأشياء. ولكن هناك لا يستطيع أن يخدع الله! فالله يقول: أتخدعني؟! نحن أيضًا نعرف ماذا نفعل! يُؤتى به ويُذهب به إلى جانب جهنَّم، فيصرخ: إلى أين تأخذونني؟ فيُقال له: سنأخذك إلى مكانٍ دافئٍ، سنأخذك إلى مكانٍ ناعمٍ، ذاك المكان جيِّدٌ جدًّا، ومزدحمٌ جدًّا. رفقاؤك كلُّهم هناك. اذهب وتحدَّث معهم واضحك، المكان دافئٌ، جيِّدٌ؛ ما فائدة الجنَّة؟ أصلًا لا حرَّ فيها ولا برد! يُذهب به ويُلقى به هناك على أمّ رأسه. مَن خدعتَ؟! مَن تخدع؟! هذه الأقوال لم تعد تفيد شيئًا، كأن يقول: فلانٌ هو المانع! ذلك الآخر يمنع ويقول لا تفعل! زوجتك تقول! طفلك يقول! ابنتك تقول! ابنك يقول! كنّتك تقول! مَن الذي يقول لك؟! هل هم المانعون؟ الآن ليأتوا ويُخرجوك من جهنَّم! ألم تفكِّر في هذا؟! فرضاً يقول: يا هذا، من أجل الحليلة الجليلة الجميلة فعلنا هذا. حسنًا الآن، لتأتِ حليلتك الجليلة تلك وتُخرجك! فليقوموا ويُخرجوك. يقول: من أجل ذلك ارتكبنا معصية، من أجل ذلك أخذنا رشوةً، من أجل ذلك ارتكبنا هذه الكذبة، من أجل ذلك راعينا هذه المصلحة من أجله. فيقول الله أيضًا: لم تفعل ذلك من أجلي، كان من أجله، فالآن أنا سأُلقيك في جهنَّم وليأتِ هو ويُخرجك! سأُلقيكما معًا في مكانٍ واحدٍ، جيِّدٌ، كنتما معًا في تلك الدُّنيا، فكونا معًا هنا أيضًا. ما رأيكم؟! مقتضى العدالة هو هذا. الله لا يأتي ويفرِّق بين الزَّوج والزَّوجة، ليس جيِّدًا. نحن جئنا للوصل! كنتما معًا في تلك الدُّنيا، وهنا أيضًا نُلقيكما بجانب بعضكما حتَّى تشتعلا وتصرخا {يَٰحَسرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ}۱ وتعلوَ أصواتكما. تقولون: يا ليتنا كنَّا منتبهين هناك؛ يا ليتنا لم نستمع لكلام هذا وذاك؛ يا ليتنا لم نراعِ هذه المصالح؛ يا ليتنا فكَّرنا في يومنا هذا أيضًا؛ يا ليت هذه المظَّاهر لم تخدعنا! "يا ليت، يا ليت" هذه و"يا حسرتا، يا حسرتا" هذه موجودة هناك! و"يا حسرتا" تعني يا ليتنا! يا ويلتاه! يا للأسف! هذه الأمور تكون في ذلك الوقت. حسنًا يا عزيزي! فلنتذكَّر الآن "يا حسرتا" هذه، ولماذا نتركها للغد؟! غدًا لن يكون لها فائدةٌ! حسنًا لماذا يجب أن يكون الإنسان غافلًا إلى هذا الحدِّ؟! «هَلَّا تَعَلَّمْتَ؟!» لماذا لم تذهب لتتعلَّم؟! إذن، هذا القول بأنَّه: ليس من الضَّروريِّ أن يسأل الإنسان، لا يتعلَّق بهذه المسائل. يتعلَّق بتلك الموارد الَّتي لم يضع الشَّارع فيها أساس السُّؤال. إذا اطَّلعتَ، يجب عليك أن تعمل بمقتضى الاطِّلاع، وإذا لم تطَّلع، فنحن في فسحةٍ من العمل بالنِّسبة لتلك المسألة، هنا يجب أن نقول هذا.

    1. سورة الزمر (٣٩) الآية ٥٦.

وجوب معرفة التكاليف والعمل بها - أين تساهلت الشريعة وأين تشدّدت؟

15
  • حسنًا، لقد قرَّرنا إن شاء الله إذا وُفِّقنا ألَّا نتجاوز السَّاعة العاشرة، لأنَّ البارحة تأخَّرنا كثيرًا، وعلى كلِّ حالٍ يجب على الإنسان أن يأخذ جميع الجوانب بنظر الاعتبار أيضًا! على الرغم أنَّنا مع الرُّفقاء في مجلس أنسٍ، ولكنّ كون الليالي ليالي شهر رمضان ولا بدّ من الرَّاحة في وقتها والاهتمام بمقتضيات هذا الشَّهر من الأذكار وقراءة القرآن والسَّهر ونحو ذلك، فكلّ ذلك يقتضي أيضًا ألَّا يُطول الكلام أكثر من هذا في هذه اللَّيالي.

  •  

  • اللَّهُمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّدٍ.