8

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين

لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

23
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1427

التاريخ 1427/09/12

جلسات المجموعة(8 جلسة)

التوضيح

تستكشف هذه المحاضرة المعرفة الحقيقيّة الموصلة إلى الله، مقارنةً بمعرفة العوام، ومسؤوليّة العالم الأعظم. تبحث في معنى إجلالاً لشأنه العظيم وصلاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام مقارنة بصلاتنا. كما تؤكد على أهمية الثبات والوثوق بالطريق رغم الابتلاءات، مستشهدةً بقصص ومواقف للعارفين كالسيد الحداد والشيخ الأنصاري، لفهم أعمق لمقام الصلاة وشروط السلوك إلى الله تعالى.

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين

  • لماذا قال النبي الأكرم "أرحنا يا بلال"؟ 

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۷ هـ - الجلسة الثامنة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني

  • قدس الله سرّه

  •  

  •  

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیمِ 

  • بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحیمِ 

  • وصلَّی‌ اللَّهُ عَلَی سیّدنا ونبیّنا أبي ‌القاسم مُحَمّدٍ 

  • صلَّی الله علیه وآله وعلی آله الطّیبین الطّاهرین 

  • واللعنةُ عَلَی أعدائِهِم أجمَعینَ

  •  

  •  

  • «مَعرفَتي يا مَولايَ دَليلي عَلَيكَ، وحُبّي لكَ شَفيعي إلَيكَ، وأنا واثِقٌ مِن دَليلي بِدلالَتِكَ، وساكِنٌ مِن شَفيعي إلى شَفاعَتِكَ». 

  • معرفتي يا مولاي هي دليلي نحوك، ومحبّتي لك هي شفيعي إليك، وأنا مطمئنٌّ إلى أنَّ هذا الدليل لن يقصّر في دلالته، ومرتاحُ البالِ إلى أنَّ شفيعي سيشفع لي عندك بشفاعته.

  • المعرفة ودلالتها على الله وشروطها

  • لقد تقدّم حول مسألة المعرفة أنَّ الأمر يجب أن يكون بحيث يكون الطريقُ إلى المعروف في كلِّ معرفةٍ طريقًا كاملاً. فلا يمكن للإنسان أن يقصدَ مقصدًا وهو يسلكُ طريقًا آخر ويتّجهُ إلى مسارٍ مختلف. فإذا التزم الإنسان بمقصدٍ ما، فمن الطبيعيّ أن يلتزم بلوازم ذلك المقصد والمسار أيضًا، أمّا إن لم يلتزم ولم يؤمن، فحسابه مختلفٌ وأمرُه منفصل. أولئك الذين يقولون إنّ الإنسان لا يصلُ إلى لقاء الله تعالى، فلا يهمّ إن لم يصلّوا صلاة الليل. يقول الإمام العسكريّ عليه السلام: «من استخفّ بصلاة الليل فليسَ منّا»۱. حسنًا، لقد أتمَّ الإمامُ هنا الحجّة وبيّنها. فالذي لا يؤمنُ بلقاء الله يكتفي بأداء ظواهر الأحكام والتكاليف. أمّا أن يأتي ويضع لنفسه برنامجًا وتعاليم ويختار أستاذًا ويهتمّ بطريق خاصٍّ للسلوك إلى المقصود، فلا حاجةَ به إلى كلِّ هذا الكلام، يكفيه فقط أن يصلّيَ في أوّل الوقت متطهّرًا، وألّا يخطئَ في أداء الألفاظ والعبارات، وأن تكون أحكام شكّه صحيحةً، وأن يكون مطّلعًا على المسائل الشرعيّة إلى حدٍّ ما، فهذا المقدار يكفيه لمقصده، لا أكثر.

  • مسؤوليّة العالم أعظم، لماذا؟

  • أمّا الذي يؤمنُ بمقصدٍ مهمٍّ ورفيع، فعذرُه غير مقبول. والذي يؤمنُ بلقاء الله ويستدلُّ بنفسه على هذا الأمر في الأبحاث العلميّة والاحتجاجات والخطب ويحتجُّ على ذلك، فهذا الإنسانُ إذا لم يلتزم بلوازم هذا المقصد، تصبحُ المسألةُ مشكلة لديه. كنتُ أقولُ لأحدِهم ذاتَ مرّةٍ إنّ فلانًا قد انتقل إلى رحمة الله، هذا الإنسانُ عندما كان في خدمة المرحوم العلامة، ربّما كان ينظرُ إلى ما يُلقى إليه في بعض الموارد بعين التردّد والشكّ، ولم يكن يهتمُّ كما ينبغي وما إلى ذلك. فبرّر لي المسألةَ في جوابه بأنّه لو كان مع العلامة بمقدار عُشرِ ما كان عليه، لكان أفضلَ بكثيرٍ من أولئك الذين كانوا معه مئةً بالمئة ولكنّهم لم تكن لديهم معرفةٌ بالمسألة. فهل هذا الجوابُ صحيح؟ وهل هذا يُعدُّ عذرًا له؟ إنَّ مَن له علمٌ بالمسألةِ مسؤوليتُه أكبرُ بكثير، والتكليفُ متوجّهٌ إليه أكثر ممّن لا يعلمُ بالأمر كثيرًا، فما هذا التبرير؟! يُوقَفُ العالمُ يومَ القيامة سبعين عامًا بسبب عملٍ واحد، بينما يُدخَلُ سبعون ألفًا من العوامِّ الجنّة! لماذا؟ لأنّه عالمٌ بالأمور ولم يعمل بها. مشكلتُنا هنا. فمجرّدُ علمِ الإنسان بالمسائل لا يبرّرُ لنا القيامَ بأيّ عملٍ أو أمر، بل يزيدُ المسؤوليّةَ ويؤكّدُ التكليفَ تجاه النفس ويرفعُ درجةَ الالتزام. لهذا، فالذين يقولون إنَّ مراتبَ الإنسان في المعرفة ترتفعُ إلى مراتبَ ومقاماتٍ عُليا دلّت عليها آياتُ القرآن والروايات وأولياءُ الله والأئمّةُ عليهم السلام، إذا كانت المسألةُ بهذه الكيفيّة، فعلى الإنسان أن يفكّرَ بطريقةٍ أخرى لسلوك الطريق وطَيِّ المقدّمات. إذا كان الأمرُ على هذا النحو، فلا يمكن للإنسان أن يأخذَ الأمورَ باستخفاف، ولا يمكنُه أن يقصّرَ فيما طلبه الله تعالى منه، وهذا الأمرُ للجميع. فطالما لم تصلِ المسألةُ إلى مسامع الإنسان، فالحجّةُ ليست تامّةً عليه، ولكن عندما تصلُ المسألةُ إلى مسامعه، فلا فرقَ بين أهل العلم وغير أهل العلم، لأنّه أدركَ الأمرَ، وأدركَ المسألةَ ووصلت إلى سمعه وأدركَ الواقع.

    1. جاء في كتاب الأنوار البهيّة للشيخ عبّاس القمي ، ص: ٣٢۰ ضمن وصيّة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام لعليّ بن بابويه: وعليك بصلاة الليل، فإنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أوصى علياً عليه السلام فقال: يا علي، عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل، ومن استخفّ بصلاة الليل فليس منّا...

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

3
  • أيّ معرفةٍ تُوصلُ إلى الله؟ قصّة العجوز مثالاً

  • لقد تقدّم هذا المعنى وهو ما يريده الإمام عليه السلام من قوله: «معرفتي يا مولاي دليلي عليك» وتهديني إليك، حسنًا، فهل هذه الهداية نحوك تكفي لتحصيل رضاك والوفودِ إلى حرمك أم لا؟ إنَّ لي معرفةً بك، ولي دليل، دليلي يوصلني إليك وينفّرني من غيرك، دليلي هو كيفيّةُ إدراكي لأسمائك وصفاتك، وقد ذكرت للرفقاء بعضَ الأمور حول هذه المسألة، وهي أنّ المعرفة التي يقول الإمام السجاد عليه السلام إنّها توصله إلى الله، ليست هي المعرفةَ الظاهريةَ العاديةَ التي لدى العوامّ، والمقصودُ بالعوامّ ليس فقط غيرَ أهل العلم، بل حتّى أهلَ العلم الذين لا خبرةَ لهم بهذه الأمور، أهلَ العلم الذين يأتون ويقولون: ما شأنُنا بمعرفة الله وعرفانِ الله ومعرفةِ الأسماء والصفات؟! لأنّ العبدَ لا ينبغي أن يكونَ في مقام معرفةِ مولاه، بل يجبُ أن يكونَ في مقام عبوديّته، فمن المعلوم أنّ معرفتَه بالله مثلُ معرفةِ تلك العجوز التي رفعت يدَها عن دولاب الغزل وقالت: كما أنّ هذا الدولاب يحتاجُ إلى يدٍ تُديره، فهذه السماواتُ والأرضُ تحتاجُ إلى يدِ الغيب، وانتهى الأمر. الآن لو سُئلت تلك العجوز: حسنًا، ما هو اسمُ هذا الربّ؟ وما هي قدرتُه وكيف هو علمُه؟ هل علمُه اكتسابيٌّ أم حضوريّ؟ هل كيفيّةُ قدرتِه قدرةٌ خارجةٌ عن الوجود أم أنّها تصرّفٌ في المراتب...؟ تقول: ما هذا الكلام؟! وماذا تقولون أنتم؟! ما هذه المسائلُ التي تقولونها؟! إذن، إدراكُ تلك العجوز للصانع الأوّل وللّهِ تعالى مثلُ إدراكِ بنّاءٍ يبني بناءً، لا أكثر، وعلى أساس هذا القدر من الإدراك، يكونُ توجّهها في صلاتها. وعلى أساس هذا المقدار، تكونُ نيّتها في صومها، وعلى أساس هذا الإدراك، يكونُ الحجُّ الذي تؤدّيه في نفس المرتبة، ولكن هل مرتبةُ حجِّها كمرتبةِ حجِّ الإمامِ عليه السلام؟! هل هما بنفس القدر؟! وهل الإمامُ يفهمُ بهذا المقدار فقط؟! كم هو جميلٌ قولُ الشيخ محمود الشبستري رحمه الله: 

  • «برون آی از سرای ام هانی***بخوان مجمل حدیث لن ترانی» 
  • يقول: اخرج من دار أمّ هاني *** واقرأ حديثَ مجملاً "لن تراني" 

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

4
  • اخرج من دار أمّ هاني، اخرج من أفكار البشر العامّيّة الطفوليّة الساذجة! وحرّر نفسك من سيطرة وهيمنة التخيّلات والأوهام حتّى تتجلّى لك حقيقةُ الأسماء الإلهيّة، وتتّضحَ لك كيفيّةُ علمِ الله، وتتّضحَ لك كيفيّةُ ارتباطِك بربّك.

  • قصّة السيّد الحدّاد وتفسيره لمعنى التوحيد في الصلاة

  • جاؤوا إلى السيّد الحدّاد رحمه الله وقالوا: يا سيّد، سمعنا أنّك قلتَ إنّ الإنسان عندما يصلّي ينبغي أن لا يستحضرَ الله! فما هذا الكلامُ الذي تقوله؟! فهل صدرَ منك مثلُ هذا الكلام؟! فقال: «ليس مقصودي أن لا يكون الله حاضرًا وأنّ الإنسان يريدُ أن يصلّيَ لغير الله، بل المقصودُ هو أنّ على الإنسانَ في مقام التكبير وإقامةِ الصلاة، وعندما يريدُ أن يصلّيَ، أن يشعرَ بوحدةٍ في وجوده مع الله بحيث لا يرى أيَّ اثنينيّةٍ في البين، هذا هو مقصودي، لا أن يضعَ إلهًا أمامه ويعظّمَه، يجبُ على الإنسان في مقام هويّته وحقيقته الوجوديّة أن يعلمَ أنّه لا توجدُ اثنينيّةٌ حتّى يخضعَ أحدُهما للآخر».

  • صلاةُ عليّ عليه السلام وصلاةُ العجوز: هل هما سواء؟

  • انظروا! هناك حقيقةٌ واحدةٌ تحكمُ عالمَ الوجود لا غير، وهو مضمحلٌّ ومنْدَكٌّ وفانٍ في هذه الحقيقة، وليس منفصلاً حتّى يريدَ أن يخضع، فهذا أيضًا نوع من الصلاة، وهناك صلاةٌ لا تهتمُّ إلّا بـ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بحيث تخرجُ الضادُ من قعر المعدة لا من قعر الحلق! هذه صلاة، وصلاةٌ أخرى عندما يقولُ «اللهُ أكبر» لا يفهمُ شيئًا بعدها، يُخرَجُ السهمُ من قدمه ولا يشعرُ بشيء، فهذه أيضًا صلاة. فهل كان أميرُ المؤمنين عليه السلام يضعُ اللهَ أمامه ويعظّمه؟ لو كان الأمرُ كذلك، فلماذا لم يشعر عندما أخرجوا السهم؟ ألسنا نقومُ بالشيء نفسه ونصلّي الصلاة نفسها؟ ألم نصلِّ الليلةَ صلاةَ العشاء؟! كيف كانت؟! لو وخزونا بإبرةٍ لقفزنا، فما بالك بإخراج سهمٍ! تلك الصلاةُ التي يصلّيها عليٌّ عليه السلام ويُخرَجُ السهمُ من قدمه، هل هي مثلُ الصلاةِ التي تصلّيها تلك العجوزُ وتقولُ إنّ هذا البناءَ له بنّاءٌ ـ كانوا يعلّموننا هذا في الصفّ الأوّل، ما زلتُ أتذكّرُ أناشيدَ سنِّ السادسة والسابعة ـ وهذا العالمُ له إلهٌ أيضًا، هل صلاةُ أمير المؤمنين عليه السلام مثلُ صلاةِ تلك العجوز؟! ثمّ يقولون: يا سيّد، فلمن يجبُ على الإنسان أن يصلّيَ؟ يقول: «إجلالاً للشأن العظيم»! عجيب! يا سيّد، ألفُ معجزةٍ لا ترقى إلى مستوى هذا الكلام، هذا بسبب ذلك الشأن العظيم الذي هو فيه الآن، فقد اندكَّ في ذات الربّ، وهذا ليس مقامًا بسيطًا، هذا التوفيقُ الذي ناله... لا أستطيعُ التعبيرَ أصلاً، أبحثُ عن كلماتٍ وعباراتٍ لأتمكّنَ من التعبير عمّا يخطرُ ببالي القاصر، فأجدُ أنّني لا أجدُ عبارةً تفي بالمعنى. لا أعلمُ كيف جاء هذا الكلامُ الليلةَ أصلاً؟

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

5
  • "أرِحنا يا بلال": لماذا اشتاق النبيّ للصلاة؟

  • ذلك المقامُ الذي يشعرُ فيه الإنسانُ بنفسه، كان حتّى الآن في الكثرات، يتحدّثُ مع هذا وذاك ويضحكُ ويأكلُ ويشرب، يخرجُ ويدخل، كان في الكثرات، في العلاقات والمعاشرات، والآن بنداءِ «اللهُ أكبر» يريدُ أن يخرجَ من الكثرة، ألم يكن رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله رسولاً ونبيًّا؟! ألم يكن عملُه حقًّا وفعلُه فعلَ الحقّ؟ ألم يكن حضورُه وآثارُه الوجوديّةُ أسماءً وصفاتٍ جزئيّةً نازلةً من الأسماء الكلّيّة؟ ألم يكن له بقاءٌ بالحقّ؟! كلُّ هذا كان موجودًا، ولكن ما المسألةُ التي كانت تجعلُه عندما يضيقُ ذرعًا بالتعامل مع الناس، يضيقُ صدره، وتتعب أعصابُه، فالنبيُّ صلَّى الله عليه وآله لم يكن حجرًا أو خشبًا، له أيضًا قدرةُ على التحمّل، وله سعةُ صدر، وهو أيضًا يتأذّى وتتعب أعصابُه، لو جاؤوا وجلسوا مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله ستَّ ساعاتٍ وهذا يقولُ وذاك يقولُ والآخرُ يقول، أفلا يتعبُ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله؟! هل يبقى ينظرُ إليهم هكذا وكأنّه حديد؟ لم يكنِ الأمرُ كذلك، إنّه بشرٌ في النهاية، وأيُّ أناسٍ كانوا يأتون إليه؟! لم يكن يأتي إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله ابنُ سينا والفارابيّ. كان الرجلُ ينزلُ من على بعيره بنفس ثيابه الملطّخة بالطين ويأتي إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله ويتمدّدُ ويقول: يا محمّد! حدّثني، اروِ لي قصّةً! إنّك تجيدُ القصص! اروِ لنا حكاياتٍ عن هؤلاء الأنبياء الماضين، بني إسرائيل وهؤلاء! لقد تعبتُ قليلاً من حمل الأثقال، هكذا كان الأمرُ حقًّا. حينها، هذا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله بهذه الأخلاق العظيمة وبهذه السَّعةِ العجيبة للصدرِ ، بدلاً من أن يقولَ للرجل: قم واجلس عَدْلاً، كان يبدأُ بالحديث معه، ويروي له الحكايات، ثمّ يقومُ الرجلُ ويتثاءبُ ويمسحُ لحيتَه ويقول: لم يكن سيّئًا! حسنًا، ليس لديك عملٌ آخر؟! كان يقومُ ويذهبُ ويركبُ حمارَه أو بعيرَه ويذهبُ إلى بيته! هل تظنّون أنّ الذين كانوا يأتون إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله كانوا المُلّا صدرا وابنَ سينا والفارابيَّ وأفلاطونَ وهؤلاء؟! كلاّ يا عزيزي! كانوا هكذا، من هذا القبيل. هذا كان يُتعبُ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله ويؤذيه ويضيقُ به ذرعًا. وعندما يحينُ وقتُ الصلاة ـ لم تكن هناك ساعةٌ حينها لتَرِنَّ وقتَ الصلاة ـ كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله يشعرُ بذلك، كانت حالتُه تتغيّرُ وقتَ الصلاة، عندما تزولُ الشمس، يرى فجأةً أنّ أوضاعَ عالمِ الملكوت قد تغيّرت، فيقول: ها قد حان الآن وقتُ الصلاة. عندما يحينُ وقتُ الصلاة للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله، كان يصرخُ من أعماق قلبه: «يا بلالُ... أرِحنا!»۱ بلالُ، قُم وأرِحني! أرِحني من هذه الكثرات! أرِحني من هذا الانشغال بالدنيا، نحن عندما يحينُ وقتُ الصلاة نقول: يا للهول، لنقم ونصلِّ هذه الصلاةَ أيضًا! نُصابُ بمصيبة عندما يحينُ وقتُ الصلاة، ننظرُ إلى الساعة باستمرار، يا للهول، بقي عشرُ دقائقَ على الصلاة! كم كان جيّدًا لو تأخّرت هذه الساعةُ، أليس كذلك؟! والآن وقد حان وقتُ الصلاة، فلنذهب ونشربَ هذا الشايَ! قبلَ أن يبرُد! لنتحدّث بهذا الحديثِ حتّى لا ينتهيَ، لا ندَعْهُ يبقى في وسطه، لنَدَعْ هذه المسألةَ تنتهي ولنُقِمْ بهذه المعاملةِ حتّى لا يهرُبَ الزبونُ، ألسنا نقولُ هذا؟! كم هو الفرقُ بيننا وبين رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله، لماذا؟ لأنّه وصلَ إلى «معرفتي يا مولايَ دليلي عليك»، نحن لدينا هذا القدرُ من المعرفة وبنفس القدر نهتمُّ بلوازم الطريق، هو أيُّ مرتبةٍ من المعرفة لديه؟ بنفس المقدار. هو أصلاً يقولُ في نفسه: لماذا لا تزولُ الشمسُ أسرع؟ لماذا لا تغربُ الشمسُ أسرع؟ هو يقولُ هذا في قلبه.

    1. صحيح أبي داود ٤٩۸٥: عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ ‌رَجُلٌ ‌قَالَ ‌مِسْعَرٌ: ‌أُرَاهُ ‌مِنْ ‌خُزَاعَةَ ‌لَيْتَنِي ‌صَلَّيْتُ ‌فَاسْتَرَحْتُ، ‌فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه [وآله] وسلم يَقُولُ: يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها.

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

6
  • عندما يأتي هذا الزوال، يرى فجأةً أنّ دعوةَ الله قد جاءت، ومقامَ الاتحاد قد اقترب، كنّا حتّى الآن في الكثرات، نتحدّثُ مع هذا وذاك ـ وإن كان كلامُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله، شئتَ أم أبيتَ، يختلفُ قليلاً عن كلامنا، فأين كلامُه؟ من مقام الطهارة والعصمة والأُنسِ وكلِّ ما تقول، هل يمكنُ التعبيرُ عنه باللسان؟! لو كان الإنسانُ أهلاً لذلك، وجاءَ وجلسَ وقامَ بجانبِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله، لانتهى أمرُه! للحظةٍ واحدةٍ وثانيةٍ واحدةٍ فقط، لا يسلّمُ على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله ولا يسمعُ جوابًا، هل التفتّم؟ فقط يأتي وتقعُ عينُه على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله، فينتهي أمرُه، والباقي عليه أن يذهبَ بنفسه ويقوم به، فقد تمّ الأمر. حينها يأتي هذا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله ويتكلّمُ، ويروي القصصَ والمواعظَ والنصائحَ للناس، وهم يمدّون أرجلَهم وكأنّ شيئًا لم يكن، كأنّه جاءَ راوي قصصِ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ ليروي لهم القصصَ، هذا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله، هذه المعرفةُ التي لديه تقتضي أن يقولَ «يا بلالُ أرِحنا»، هل هو مثلُ السيّد فلان ليقول: يا سيّد! ما المشكلةُ في ألّا يسعى الإنسانُ وراءَ هذه العلوم، والعبدُ يجبُ أن يطيعَ؟ نعم! العبدُ يجبُ أن يطيعَ، ولكن أيَّ طاعةٍ؟ هل الطاعةُ التي تطيعُها أنتَ في صلاتك وذهنُك يسافرُ إلى شرق الأرض وغربها، مثلُ طاعةِ ذلك العبدِ الذي يُخرَجُ السهمُ من قدمه؟! تجولُ في كلِّ الدنيا في صلاتك، وتُراجعُ كلَّ الدرسِ الذي يجبُ أن تُلقيَه غدًا في ذهنك، وتفحصُ كلَّ الإشكالاتِ والأجوبة، وتحلُّ وتفصلُ كلَّ الصفقاتِ في صلاتك، ثمّ تقول: السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه! هذه الصلاةُ لا تتجاوزُ هذا السقفَ! هذه مسائلُ تسبّبُ الضلالةَ وتسبّبُ ضلالَ الآخرين أيضًا، هذه أمورٌ كانت قلوبُ أولياءِ اللهِ تدمى منها. هذه تُعيقُ طريقَ الناسِ وحركتَهم.

  • هل اكتفينا بظاهر الصلاة أم سعينا لجَوْهرها؟

  • هل قلتَ مرّةً واحدةً طوالَ خمسين عامًا من الدرس والتدريس: لنسلُكْ طريقًا بحيث لا يُخرجون السهمَ من أقدامنا! بل لو وخزونا بإبرةٍ في أقدامنا لا نشعرُ بها! هل قلتَ هذا الكلامَ مرّةً واحدةً؟ دَعْ عنكَ إخراجَ السهم، لا نُريدُه! فهذا لعليٍّ عليه السلام وأولاده. أن يُوخزوكَ بإبرةٍ فلا تشعرَ! فقط ألّا تخطرَ ببالك خاطرةٌ واحدةٌ ـ دَعْ عنكَ الإبرةَ الآن! أن تُصلّيَ صلاةً من أوّلِ ما تقولُ «اللهُ أكبر» حتّى تقولَ «السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ» لا تخطرُ ببالك خاطرةٌ واحدةٌ من خواطر الحياة اليوميّة، هل قلتَ هذا الكلامَ للناسِ طوالَ هذه الخمسين عامًا؟ أم أنّك قلتَ فقط عندما تقولُ «السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ»! يجبُ أن تكونَ عينُك جيّدةً وحاؤك جيّدةً وصادُك وضادُك جيّدةً، وأن تحذرَ عندما ترفعُ من الركوع أن تكونَ مستقيمًا تمامًا ورأسُك منتصبًا وقدمُك ثابتةً! ثمّ تذهبُ إلى السجود، نعم! ذلك الدينُ يوصلُ إلى مكان، وهذا الدينُ يوصلُ إلى مكانٍ آخر. ذلك الدينُ يأتي ويُخرَجُ السهمُ من القدم فلا يشعر الإنسان، ويتصدّقُ بالخاتم في الصلاة، فتنزلُ آيةٌ في شأنه، تنزلُ آيةٌ.

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

7
  • "الناقدُ بصيرٌ بصيرٌ": كيف يرى الله أعمالنا؟

  • اللهُ حسيبٌ، لقد قلتُ لكم: «وأخلِصِ العملَ فإنَّ الناقدَ بصيرٌ بصيرٌ»۱ أخلِصْ عملَك، فالناظرُ دقيقٌ يُخرِجُ الشعرةَ من العجين، يُدقّقُ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، ويُخرِجُ كلَّ خصوصيّاتِ النفسِ واحدةً تلوَ الأخرى ويضعُها أمامَ الإنسان بحيث تُبهِرُه وتُحيّرُه، «بصيرٌ بصيرٌ» رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله عندما يريدُ أن يصلّيَ، يرى فجأةً أنّ دعوةَ الحقِّ لاتّحادِ العبدِ والمعبودِ قد جاءت هنا، دعاه: تعالَ اندكّ! تعالَ لنَصِرْ واحدًا وتعالَ نَصِلْ إلى مقام الاتّحاد، الآن وقتُ الظهر، اخرجْ من الكثرة، فما كان يسبّبُ الاثنينيّةَ بيني وبينك هو الكثراتُ التي كنتَ مُبتلىً بها حتّى الآن، تتحدّثُ مع هذا وتتكلّمُ مع ذاك وتقومُ بهذا العمل، الآن أريدُ أن ألطُفَ بكَ، أريدُ أن أجعلَكَ موضعَ عنايتي ورحمتي، ماذا أفعلُ؟ أضمُّكَ إليَّ، هذا يصبحُ مقامَ الصلاة.

  • حقيقةُ الصلاةِ عند العارفين: قصّةُ العلاّمةِ مع السيّد الحدّاد

  • لذلك كان المرحومُ العلامةُ يقولُ إنّه عندما كان ينظرُ إلى وجه السيّد الحدّاد رحمه الله وقتَ الصلاة، كان يرى أنّه لا يوجدُ مُصلٍّ أصلاً، هي حقيقةٌ واحدةٌ تقوم، ونفسُ الحقيقةِ تسجدُ وتقعدُ وتركعُ حتّى تقولَ «السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه»، هذا هو المعنى، فلماذا يجبُ أن تُصلّى هذه الصلاةُ؟ لماذا؟ «إجلالاً لشأنه العظيمِ!» بسبب هذه المكانةِ العظيمةِ التي نالها هذا العبدُ واتّحدَ بالمعبود، الآن يشكرُ تقديرًا لهذا الاتّحاد. ماذا قال أميرُ المؤمنين عليه السلام؟ «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟»٢ فمعناه هو هذا، أن يشكرَ هذا الاتّحادَ والانضمامَ والاقترانَ والفناءَ والانمحاءَ. هناك، الساجدُ والراكعُ والقاعدُ والقائمُ واحدٌ، القارئُ واحدٌ، المخاطَبُ هو نفسُ القارئ، عجيبٌ جدًّا، عجيبٌ جدًّا، هذا هو مقامُ الصلاة. حسنًا، نسألُ اللهَ أن يرزُقَنا ذلك، نحن فقط تكلّمنا عنه ونقلنا أقوالَ الأعاظم، ولا ينبغي أن نيأسَ، كرمُ اللهِ عظيمٌ، عندما نذكرُ هذه الأمورَ، قد يخطرُ ببال الرفقاء: يا عزيزي، ما هذا الكلامُ الذي تقوله؟ أين نحنُ من هذه المسائل؟ لا يا عزيزي! مع الأعاظم، مع الكُرماء، الأمورُ ليست صعبةً. يجبُ على الإنسان أن يهتمَّ. أيّها الرفقاء، لا تستسهلوا الهدفَ ولا تجعلوا هذه الأمورَ الدنيئةَ هدفًا، واللهِ سنُخدَع، لا تجعلوا هذه المسائلَ الدنيئةَ مقصدًا. 

    1. الاختصاص - الشيخ المفيد - الصفحة ٣٤١: في حكم لقمان فيما أوصى به ابنه أنه قال:
      يا بنيّ تعلمت بسبعة آلاف من الحكمة فاحفظ منها أربعة ومر معي إلى الجنة: أحكم سفينتك فإن بحرك عميق، وخفف حملك فإن العقبة كؤود، وأكثر الزاد فإن السفر بعيد، وأخلص العمل فإن الناقد بصير
    2.  بحار الأنوار: ۱٦ / ٢۸۸ : قَالَ الامام عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ( عليه السلام ) : "‌ إِنَّ جَدِّي رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله ) قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَ مَا تَأَخَّرَ، فَلَمْ يَدَعِ الِاجْتِهَادَ لَهُ وَ تَعَبَّدَ بِأَبِي هُوَ وَ أُمِّي حَتَّى انْتَفَخَ السَّاقُ وَ وَرِمَ الْقَدَمُ، وَ قِيلَ لَهُ أَ تَفْعَلُ هَذَا وَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ؟!
      قَالَ: أَ فَلَا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً " 
      صحيح البخاري :٤۸٣٦ قَامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه [وآله] وسلَّمَ حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فقِيلَ له: غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، قالَ: أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا.

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

8
  • «فِكْرِ بهشت وحوري وغِلمان كجا كند***دلداده عاشقي كه نِگارش برابر است» 
  • يقول: أين يفكّرُ عاشقٌ متيّمٌ بحور الجنّة وغِلمانها *** ومَن كان معشوقُه حاضرًا أمامه؟!

  • قصّتان متقابلتان: أمنيةُ الحورِ العين وأمنيةُ لقاءِ الله

  • رحمَ اللهُ أحدَ الأفراد، أحدَ أسلافنا، لم يكن مهتمًّا كثيرًا بالمسائل العرفانيّة وهذا الكلام، وكان يتحدّثُ مع المرحوم العلامةِ في هذا الموضوع ويُناقشُه ويقولُ إنّ هذه الأمورَ خاصّةٌ بالأئمّةِ عليهم السلام ونحنُ في هذه المسائل الدنيئة. فكان المرحوم العلاّمة يقول له: لا! ما المانعُ أن نكونَ نحن أيضًا؟! وعندما كان على وشك الموت، سُئلَ: ما هي رغبتُكَ الآن؟ قال: الآن رغبتي فقط... وكان رجلاً موفّقًا جدًّا ولم تكن حياتُه سيّئةً في الدنيا! نعم! نعم! على ما نُقِل، كان خيرُه يصلُ إلى الجميع! قال: أُمنيتي الوحيدةُ هي أن أجدَ نفسي بجانبِ الحور العين بمجرّدِ أن أضعَ رأسي على الأرض! لقد أرادَ هذا العبدُ أن يتنعّمَ بنعمِ اللهِ كما كان في هذه الدنيا!! بالطبع كان رجلاً متديّنًا وصالحًا وعظيمًا. على كلِّ حال، هذا أحدُهم، وهناك آخرُ عندما يُوضَعُ في القبر ويأتي إليه منكرٌ ونكيرٌ ليسألاه، يقولُ لهما: ما شأنُكما بي؟! لقد قضيتُ حياتي معه وأنتما تأتيان لتسألاني عنه؟! فيصلُ الخطابُ إلى منكر ونكيرٍ: اتركا هذا العبدَ لي، فإنّه لم يلتفت إلى غيري، فأين هذا من ذاك؟! في أيِّ عالمٍ يسيرُ هذا ويتحرّكُ؟! وفي أيِّ أمورٍ يمشي ذاك وفي أيِّ أفكارٍ وخصوصيّاتٍ هو؟!

  • الوثوقُ بالدليل: أيُّ معرفةٍ تُورِثُ الاطمئنان؟

  • الآن هذه معرفتي، يقولُ الإمامُ السجّادُ عليه السلام ـ ما أريدُ أن أذكره لكم هو بسبب الفقرة التالية ـ هذه المعرفةُ هي تلك التي يقولُ عنها الإمام: «وأنا واثِقٌ مِن دَليلي بِدلالَتِكَ»، أنا مطمئنٌّ أنّ هذا الدليلَ سيهديني إليك، أيٌّ من هذين؟ أيٌّ من شِقّيِ المسألة؟ ذاك الذي يقولُه ذلك السيّدُ والذي يفعلُه الناسُ ويتعاملُ به العوامُّ، أم ذاك الذي تفعلُه شخصيّةٌ مثلُ أميرِ المؤمنين عليه السلام عندما يقولُ «اللهُ أكبر» يصيح صيحةً ويسقطُ على الأرض حتّى أنّ أبا الدرداءِ يقول: ذهبتُ فرأيتُ عليًّا عليه السلام ساقطًا كأنّه خشبةٌ يابسة، فجئتُ مُسرِعًا إلى البيت وطرقتُ البابَ، فخرجت فاطمةُ عليها السلام، فقلتُ: أدرِكي عليًّا فقد مات! قالت: كيف؟ فشرحتُ لها الأمرَ. قالت: هذا دأبُ عليٍّ كلَّ ليلةٍ! ولا يختصُّ ذلك بهذه الليلة. فهذه المعرفةُ، وهذا الإدراكُ، يثقُ الإنسانُ بأنّه يوصلُه إلى المقصود، فقد انتهى الأمرُ، ولكن في ذلك الإدراكِ الآخر، هل يثقُ أيضًا؟! كلَّ لحظةٍ يُساورُه الشكُّ، لماذا حدثَ هذا؟ لماذا حدثَ ذاك؟! لماذا حدثَ اليومَ كذا ولماذا أعرضَ هذا عنّي اليومَ ولماذا لم يحضر هذا درسي اليومَ ولماذا لم يسلّم عليَّ ذاك ولماذا لا تسيرُ الأمورُ على ما يُرام؟ لماذا ولماذا ولماذا ولماذا؟ كلُّ الحياةِ تساؤلاتٌ، لماذا؟ لأنّ المعرفةَ التي لديه عن وجوده وعالمِ الوجود وحقيقةِ الوجود هي معرفةٌ طفوليّة، معرفةٌ حسّيّة، معرفةٌ تخيّليّة، معرفةٌ معلولةٌ ومتأثّرةٌ بالمُسبِّباتِ والكثرات، لا معرفةٌ عِلّيّةٌ ومتأثّرةٌ بالأسبابِ والعِلَلِ الكلّيّة، تلك المعرفةُ هي التي يُصاحبُها الشكُّ دائمًا، لم يَعُدْ يرى السببَ الكلّيَّ هو المؤثّرَ الأصليَّ وهو في حالةِ اضطرابٍ دائم، لأرَ هذا ولأرَ ذاك، لأترضّى هذا ولأترضّى ذاك، لأضربَ هذا ولآخذَ ذاك، ولأنصِبَ لهذا فخًّا وشَرَكًا، لماذا؟ لأنّ معرفتَه معرفةٌ في الأوهام، وهذا لم يَعُدْ لديه معرفةٌ بالعِلَلِ الكلّيّة، لم يَعُدْ يرى الأشياءَ من العالم العُلويّ. لم يَعُدْ يُشاهِدُ الحقائقَ متأثّرةً بالمؤثّرِ الواقعيِّ والحقيقيِّ.

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

9
  • قصّةُ مَن يتحدّثُ عن الموتِ وهو يخشاه

  • لذا هو دائمًا في اضطرابٍ وقلق، يقولُ الموتُ جسرٌ ولكنّ الأمرَ لم يستقرَّ في نفسه، حتّى إذا أصابَه صداعٌ ليلةً واحدةً وقيلَ له إنّ الصورةَ التي أخذناها لك تُظهِرُ مسألةً خطيرةً! يسقطُ ويموت! يا سيّد، هذه القضيّةُ التي حدثت لكَ، ليس لديكَ مهلةٌ أكثرَ من شهرين! قبلَ الشهرين، يموتُ قَهْرًا بعد أسبوعين! هو نفسُه الذي كان يتحدّثُ عن الموت، هو نفسُه الذي كان يُنشِدُ الشعرَ الجيّدَ للناسِ حتّى الآن! قيل: أنتَ الذي تُجيدُ حفرَ الأرضِ بالمِجرفة، لماذا لا تحفرُ حديقتَكَ جيّدًا؟ فاذهبْ أوّلاً وأنقِذْ نفسَك، اذهبْ أوّلاً وانظرْ كم صدّقتَ بهذه الأمورِ التي تقولُها؟ هل تُريدُ أن تأخذَ ساعةً من وقتِ الناسِ أم تُريدُ أن ترفعَ التكليفَ عن نفسك؟

  • حالُ المؤمنِ المتوكّلِ عند سماعِ خبرِ الموت: قصّةُ الشيخ الأنصاريّ

  • مَن يؤمنُ بعالمِ الأسبابِ والمُسبّبات، مَن يرى كلَّ المسائلِ من الأعلى، الإنسانُ الذي انفتحَ قلبُه على المسائل الكلّيّة، مَن يرى نورَ الوجود ساريًا في كلِّ الأشياءِ ويشعرُ بإرادةِ اللهِ ومشيئتِه القاهرةِ فوقَ كلِّ شيءٍ، له حالٌ وأجواء أخرى. إذا قيلَ له ستموتُ بعد شهرين، يقول: يا للهول، شهرانِ آخرانِ! لو قلتَ غدًا أو بعد غدٍ كان أفضل، عليّ أن ننتظرَ شهرين! يقولُ أميرُ المؤمنين عليه السلام في وصف المتّقين: «لولا الأجلُ الذي كتبَ اللهُ عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين»۱! لماذا ي يبقون؟! كان الشيخ الأنصاريُّ رحمه الله يقولُ لرفقائه: ما هذا الدعاءُ الكثيرُ الذي تدعونَه لي؟ هل في هذه الدنيا غيرُ المصائبِ لي؟ لماذا تدعون بهذا المقدار؟ لماذا تنذرون بهذا المقدار وتُريدون أن يتأخّرَ الأمرُ؟ لنفترضْ أنّني بقيت ليومينِ إضافيّينِ في الدنيا...، هؤلاءِ كانوا أولياءَ اللهِ وكانوا هم أنفسُهم الذين يُعتبرون مُنحرفين في نظر الكثير من الناس! كانوا يُقدّمونهم على أنّهم خارجون عن الإسلام! نعوذُ بالله! خارجون عن الإسلامِ ومُنحرفون وأفرادٌ...! نعوذُ بالله! حقًّا كنّا نسمعُ أمورًا مُخجِلةً في ذلك الزمان لا نقدِرُ على ذكرِها الآن.

  • هذه المعرفةُ، يقولُ الإمامُ السجّادُ عليه السلام: «وأنا واثِقٌ»، قلبي مُطمَئنٌّ، لديَّ وُثوقٌ، أثِقُ، أقولُ بقطعٍ وجزمٍ إنّ هذه المعرفةَ تُوصِلُني إليك، لا أنّي أشكّ وأتردّد! ولا أدري الآن ما هو مصيري!

    1. نهج البلاغة، الخطبة ۱٩٣

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

10
  • قصّةُ مَن يقولُ "لا أدري" ولا يبحثُ عن العلمِ

  • جاءَ أحدُهم إلى المرحومِ العلاّمةِ في حياته، في السنةِ أو السنتينِ الأخيرتين، كان إنسانًا له مسؤوليّةٌ أيضًا، تحدّثَ معه المرحومُ العلامةُ فتغيّرت حالتُه قليلاً، قال: يا سيّد، ادعُ لنا، «لا ندري أإلى الجنّةِ أم إلى النارِ»؟ لا ندري هل طريقُنا ينتهي إلى الجنّةِ أم إلى النار؟ إن كنت لا تدري فقِفْ يا عزيزي، إن كنت لا تدري فلا تمضي! تقولُ: لا ندري وفي الغدِ تُكرّرُ العمل نفسه؟! فبِمَن تسخرُ؟! بنفسِك؟! إن كنت لا تدري فقِفْ وتابِعِ الأمرَ، لم يُعطَ لكَ ضمانٌ بأنّك ستبقى ما دامتِ السماواتُ والأرضُ، غدًا سيأخذونَك، إمّا أنّكَ تمزحُ فالويل لكَ! وإن كنتَ صادقًا فلماذا لا تُتابِعُ الأمرَ؟ هكذا لا ندري يا سيّد، «أإلى الجنّةِ أم إلى النارِ»؟! هل طريقُنا إلى الجنّةِ أم إلى النار؟! انتهى الأمرُ وذهب؟! وهو أيضًا يبتسمُ ويقول: إن شاءَ اللهُ يوفّقُكَ اللهُ! عندما تكونُ أنتَ هكذا، هو يُجيبُ هكذا، قيل: جوابُ الكلامِ الأعوجِ أعوجُ! أنتَ تقولُ كلامًا هكذا وهو يقول: إن شاءَ اللهُ أخذ اللهُ بيدِ الجميعِ ووفّقُهم، ولكن عندما تقولُ بصدقٍ: يا سيّد، ماذا أفعلُ؟ هو أيضًا لا يقولُ هذا الكلامَ ويقول: قِفْ حتّى أقولَ لكَ ماذا تفعلُ؟ حينها يضعُ أمامَكَ برنامجَ عملٍ ويقول: أوّلاً، يجبُ أن تفعلَ كذا، وثانيًا، افعلْ كذا، وثالثًا، يجبُ أن تفعلَ كذا، فهل أنتَ مستعدٌّ أم لا؟ المسائلُ ليست مِزاحًا. حسنًا، اللهُ وملائكتُه يعلمون ما القضيّةُ، هم على عِلْمٍ بكلِّ نوايانا وهِمَمِنا وإراداتِنا ومِقدارِ إخلاصِنا وصِدقِنا في الأمور، هذانِ المَلَكانِ اللذانِ يُقالُ إنّهما يجلسانِ واحدًا عن اليمين وواحدًا عن الشمال. هما مُطَّلِعان. {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}۱. فأيُّ كلامٍ يخرجُ منّا يُسجّلُه الرقيبُ والعتيدُ ويُدوّنانِه، هل خرجَ هذا الكلامُ من الفمِ بحقٍّ أم بباطلٍ؟ نحنُ لا نفهمُ حقَّه وباطِلَه، ولكن هما يفهمان، لديهم وسائلُ تحتَ تصرّفِهم، لديهم تردّداتٌ وموجاتٌ تمُرُّ عبرَ هذا اللفظِ وتُصوّرُ باطنَه! فهذه الموجاتُ التي لدينا تصطدِمُ بالأُذُنِ فقط ولا تستطيعُ أن تخترقَ اللفظَ والكلامَ وتُصوّرَ ذلك الباطنَ، هذه الموجاتُ لا تستطيعُ إلّا أن تحصلَ على مقدارِ انخفاضِ وارتفاعِ الصوتِ والوزنِ والقافيةِ والسَّجْعِ وجمالِ الألحانِ وعدمِ جمالِها، ولكن تُوجَدُ موجاتٌ أخرى ليست تحتَ تصرّفِنا وهي تحتَ تصرّفِ الملائكة. عندما يستخدمون تلك الموجاتِ، يحصلون على مقدارِ صِدْق أعمالِنا ومعنويّة سُلوكِنا وروحانيّتهما وكُدورتهما، فما مقدارُ الصِّدْقِ في هذا العمل؟ ثلاثةٌ بالمائة، سبعةٌ وتسعون بالمائةِ منه عبثٌ، اكتبوا ثلاثةً بالمائة. وكم هو الإخلاصُ في هذا العمل؟! خمسةَ عشرَ بالمائة، خمسةٌ وثمانون بالمائةِ منه لأجلِ أمورٍ دُنيويّة، هذا العملُ ثلاثون بالمائة وستون بالمائة، يصلُ الأمرُ إلى درجةٍ أنّ الملائكةَ لا يَعُودون قادرين على الكتابة! فمن هو هذا؟ هذا هو الذي عندما يقولُ «اللهُ أكبر» لا يشعر بشيء بعدَه، هناك حتّى موجاتُ الملائكةِ هذهِ لا تلتقِطُ شيئًا، هم أيضًا لا يستطيعون تسجيلَ هذا العمل، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}٢ أولئكَ العبادُ الذين بلغوا مرتبةَ الإخلاص، وصلوا إلى مَقامٍ ومرتبةٍ لم تَعُدِ الملائكةُ قادرةً على الوصولِ إليها وتسجيلِها، تسعون بالمئاة ومائةٌ بالمائة ومائتان بالمائة، هل تستطيعُ الملائكةُ السيطرةَ على الفِعلِ الإلهيِّ؟ هل تستطيعُ الملائكةُ الاستيلاءَ على إرادةِ الحقِّ؟ هل تستطيعُ الملائكةُ أن تجِدَ طريقًا إلى مقامِ الذات؟! «لو دَنَوْتُ أُنْمُلَةً لاحترقتُ!»٣ لو اقتربتُ بمقدارِ رأسِ إبرةٍ لاحترقَ ريشي هناك. المكانُ الذي يقولُ فيه «إجلالاً لشأنه العظيمِ» هو هنا، المكانُ الذي لم يَعُدْ جبرائيلُ قادرًا على تسجيلِ هذه الصلاة هو هنا، لقد قيلَ لنا هذا الكلامُ في النهاية، لو لم يُقَلْ لكنّا معذورين، جاؤوا وقالوا إنّ مثلَ هذه الأمورِ موجودةٌ أيضًا، كيف كنّا نُفكّرُ حتّى الآن وما هو تصوّرُنا للعبادة؟

    1. سورة ق (٥۰) الآيتان ۱۷-۱۸
    2. سورة الصافات (٣۷) الآيتان ۱٥٩-۱٦۰
    3. مرصاد العباد ۱٢۰ و ۱٢۱، ۱۸٤، ٣۷۸، ٣۸۱، رقم‌ ٣۸٩،

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

11
  • هل معرفتُنا كمعرفةِ الإمامِ السجّادِ عليه السلام؟

  • في النهاية، هذا الإمامُ السجّادُ عليه السلام الذي يقولُ بقطعٍ وجزمٍ إنّ معرفتي هي دليلي نحوَكَ وأنا أثِقُ بأنّ هذه المعرفةَ تُوصِلُني إليك، لم يَقُلْ هذا عن هوىً، ويجبُ أن نسألَ الإمامَ السجّادَ عليه السلام: هل تقصِدُ هذه المعرفةِ عينها التي لديَّ أنا وأمثالي؟ فيقول: هيهاتَ! أن تَصِلَ إلينا الأيدي...! أينَ؟ أيُّ معرفةٍ؟ هذه ليست معرفةً. هذه كلُّها جهالةٌ، هذه ضلالةٌ، هذه ليست معرفةً، ذاكَ الذي تتكوّنُ كلُّ كلماتِه من الدعوةِ إلى نفسِه، أيُّة معرفةٍ لديه؟ فلِيَكُنْ على الأقلِّ واحدٌ بالمائةِ من الإخلاصِ في كلامِك، لنقُلْ إنّ لديكَ بعضَ المعرفة، أنتَ الذي لديه مائةٌ بالمائةِ في الجانبِ الآخر، ذاكَ الذي يتكوّنُ كلُّ هدفِه من المادّةِ والمادّيّاتِ والرئاساتِ والأهدافِ والمقاصِدِ الدُّنيويّة، عندما يقولُ «اللهُ أكبر»، هل رأيتَ بعضَهم يلتقطون صُوَرَهم، لو كان في بيته وقيلَ له صَلِّ، لكان قد يلطِمُ رأسَه بالتراب! بمُجرّدِ أن يُريدوا التقاطَ صورتِه، يُغمِضُ عينيهِ هكذا ويقولُ «اللهُ أكبر» بشكل متقن، وبينما يداه موازيتان لشحمة أذنه، تلتقطُ الصورة، حتّى إذا انزاحتِ العباءةُ قليلاً، يُسوّي العباءةَ فورًا ويُنظّفُها لتظهرَ الصورةُ جميلةً، هذه أيضًا صلاةٌ. حينها، هل يمكنُ لهذه المسألةِ أن تَدُلَّنا؟ لا واللهِ.

  • نعمةُ معرفةِ مدرسةِ أولياءِ الله: ماذا كنّا نصنع لولاها؟

  • الحمدُ للّهِ أنّ اللهَ قد أوضحَ لنا طريقَه، الشكرُ للهِ الذي وفّقَنا وعرّفَنا بهذه المدرسة. فلو لم نتعرّفْ عليها، ماذا كنّا سنفعلُ ومَن كنّا سنتبعُ ومَن كنّا سنتّخِذُ أُسوةً؟ أيًّا من هؤلاء؟ أيًّا من هؤلاءِ؟! أولئكَ الذين يُصلّون وتدورُ في رؤوسِهم كلُّ الأشياءِ إلّا اللهُ؟! هل هؤلاءِ أُسوة لنا؟ حقًّا لقد قلتُ للرفقاء، لو لم تكن هذه الأيّامُ القليلةُ ولو لم تكن هذه الأمورُ التي وصلت إلى أسماعِنا وأبصارِنا ولو لم تكن كتاباتُ الأعاظمِ والمرحومِ العلامةِ، فماذا كنّا سنفعل؟ إلى أيِّ نصٍّ كنّا سنرجعُ؟ بأيِّ أمرٍ كنّا نستطيعُ أن نتمسّكَ؟ حسنًا، أقوالُ الأئمّةِ عليهم السلام وآياتُ القرآنِ كلُّها محفوظةٌ في مكانها، لا معنى لكلامٍ فوقَ كلامِ الإمام، نحنُ لم نَرَ الإمامَ والنبيَّ صلَّى الله عليه وآله، وتفصِلُنا عنهم ألفٌ وأربعمائة سنةٍ وألفٌ ومائتَا سنةٍ، فلو لم نَرَ هؤلاءِ الذين تجلّتْ في وجودِهم الولايةُ بالعَيانِ ولم نُشاهِدْ تصديقَ أقوالِهم لأفعالِهم، فماذا كنّا سنفعل؟! لَمَا فهمنا هذا التطابُقَ ولَمَا فهمنا هذا الإحساسَ ولما كانت هذه الحقيقةُ فينا، نعم الأئمّةُ عليهم السلام كانوا موجودين حتّى ألفٍ ومائتَيْ سنةٍ مضت وقالوا أمورًا وأقوالُهم صحيحةٌ وكلُّها موجودة، ولكن من ناحيةِ المُشاهدةِ بالعَيان، لو لم تكن هذه المعاني التي قالها الأئمّةُ عليهم السلام والأمورُ التي جاءتنا من ناحيةِ المعصومين موجودةً في هؤلاء، لكنّا بالتأكيد بعيدين جدًّا عن الأمر، هؤلاءِ همُ الذين بيّنوا لنا تلكَ الحقائق بصورةٍ خارجيّة وعلميّة معًا، سواءً بالصورةِ الخارجيّةِ في قالبِ الأفعالِ والأعمالِ وكيفيّةِ المُعاشَرةِ والعلاقات، أو بالصورةِ العلميّةِ في قالبِ الكُتُبِ والبياناتِ والكتابات، بطريقةٍ أتمّتِ الحُجّةَ علينا.

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

12
  • لذا يمكنُنا نحنُ أيضًا أن نقولَ بقطعٍ وجزمٍ أنّنا نثِقُ بالطريقَ الذي أُرِيناه، وإن كنّا نحنُ أنفسُنا لا نزالُ بعيدين مسافةً كبيرةً عن الإدراكِ الباطنيِّ والإدراكِ الشُّهوديِّ واللَّمْسِ الخارجيّ واللَّمْسِ والمَسِّ الوِجْدانيّ، حسنًا هناك مسافة تفصلنا عن ذلك، ولكن ما وُضِعَ أمامَنا وما قُدِّمَ لنا وما وُضِعَ في مُتناوَلِ أيدينا من سَعة الصَّدرِ هذه وانشِراحِ الصَّدر، يجعلنا نقولُ مثلَ الإمامِ السجّادِ عليه السلام إنّنا نثِقُ تمامَ الثِّقةِ بأنّ هذا يُوصِلُنا إلى المَقصود، يُوصِلُنا قطعًا ولا شكَّ فيه، لماذا؟ لأنّا رأينا بأنفُسِنا وشاهَدْنا. فنحنُ لم نأكلْ خُبزَ القمحِ ولكن رأيناهُ في أيدي الناس! في النهاية، نحنُ لم نَصِلْ إلى هذا الأمرِ بأنفُسِنا ولكنّنا شاهَدْنا بأعيُنِنا صِحّةَ الطريقِ وإتقانَه في وجودِهم واتّضحت لنا المسألة. لذا يقولُ الإمامُ عليه السلام: هذا هو الأمرُ الذي أثِقُ بهِ تمامَ الثِّقةِ من هذه الناحية، انتهى الأمرُ.

  • أهميّةُ الوُثوقِ بالطريقِ حتّى لو خالَفَ الظاهرَ

  • وهذا مهمٌّ جدًّا، وقد قلتُ للرفقاء مرارًا، إذا خطا أحدُهم خطوةً باطلةً ولكنّه خطاها بثقةٍ، فإنّها تُسجَّل صِحيحة وواقعًا، وإذا خطا أحدُهم خطوةً صحيحةً بشكٍّ وتردّدٍ، فلا قيمةَ لها، وعلى الإنسان دائمًا أن يكونَ واثقًا من طريقه، أمّا أنّه لا يعملُ فهذا أمرٌ آخر، سواءً عملَ أم لم يعملْ، اهتمَّ أم لم يهتمّ، فهذا أمرٌ آخرُ وله بحثٌ آخر، ولكن يجبُ أن يكونَ واثقًا من صِحّةِ طريقهِ ومدرستِه ومسارِه، وماذا يعني الوُثوق؟ يعني عندما يقومُ بعملٍ يكونُ مُطمَئنًّا بأنّ طريقه صحيحٌ، وإذا جاؤوا بعد ذلكَ وقالوا: يا فلانُ تفضّلْ! أنتَ الذي كنتَ تقولُ هكذا، الآن رأيتَ كيف أصبحتِ الأمورُ ورأيتَ أنّ الحقَّ كان معنا! حينها لا يتزعزعْ، ولا تدخُل الشُّبهةُ إلى ذهنِه، ولا يطرأُ عليه الشكُّ، ولا يقول: آه! لو كان الطريقُ معنا ولو كان المسارُ معنا لو كانتِ الصِّحّةُ والإتقانُ معنا، لما حصل هذا، فلماذا أصبحَ الأمرُ الآنَ هكذا؟ نحنُ كنّا نرى هذه الفئةَ على باطلٍ وطريقَهم على باطلٍ، والآنَ يبدو أنّ كلامَهم هو السائدُ، فلماذا تحقّقَ مُرادُهمُ الآن؟ ألم تكونوا تقولون إنّ هؤلاءِ ليسوا على حقٍّ وإنّ مسارَهم ليس مسارَ الحقِّ، فلماذا انتصروا في هذه المواجهة؟ ألم تكونوا تقولون هذا الكلامَ؟ ولكن ذاكَ الذي قلبُه قويٌّ، مُنوَّرٌ بنورِ الإيمان يعلمُ أنّه في عالمِ التكوينِ وفي عالمِ التبَدُّلاتِ والتغيُّراتِ والتحوُّلات، لا يسيرُ الزمانُ دائمًا على وتيرةٍ واحدةٍ، أحيانًا يتّجِهُ إلى ذلكَ الجانبِ وأحيانًا إلى هذا الجانب، هو يعلمُ أنّ كلَّ الحوادثِ والأمورِ تنشأُ من جانبِ الله ومشيئتِه، فيومًا ينتصِرُ معاويةُ على عليٍّ عليه السلام ويومًا ينتصِرُ عليٌّ عليه السلام على معاوية، هو يدرك هذا. هو لا ينظرُ إلى أنّ معاويةَ انتصرَ على عليٍّ عليه السلام، إذا كان الأمرُ كذلكَ، فلنُقرِّبِ الأمرَ كثيرًا، لنقُلْ أصلاً إنّ الحقَّ مع ابنِ مُلجَمٍ! ألم يأتِ ويقتُلْ أميرَ المؤمنين عليه السلام وجعله يستشهد؟ في ذلكَ القرارِ الظُّلْمانيِّ والجَاهِلِ والمَشْؤُومِ الذي اتّخذَه أولئكَ الثلاثةُ، أيُّ نتيجةٍ من تلكَ النتائجِ الثلاثِ تحقّقتْ فقط؟ فقط ضربةُ أميرِ المؤمنين عليه السلام. ذهبَ أحدُهم إلى مِصْرَ ليقتُلَ عمرَو بنَ العاصِ، فصادَفَ أنّ عمرَو بنَ العاصِ لم يذهبْ إلى المسجدِ تلكَ الليلةَ وأرسلَ قاضيًا مِسكينًا بائسًا للصلاة، فضربَه السيفُ في رأسهِ وبلغ أجله، وذهبَ آخرُ إلى الشامِ، فالضربةُ التي ضربَها بدلاً من أن تُصيبَ رأسَ معاويةَ أصابتْ قدمَه، ثمّ عالجوهُ بعلاجٍ ودواءٍ ونجا معاويةُ بحياته، من أولئكَ الثلاثةِ، الذي جاءتْ ضربتُه وأصابتِ الهدفَ هو ابنُ مُلجَمٍ الملعونُ الذي جاءَ وقتلَ أميرَ المؤمنين عليه السلام وحقّق شهادتَه. أصابتِ الضربةُ رأسَ أميرِ المؤمنين عليه السلام تمامًا دون مَيْلٍ بمقدارِ مِلِّيمِتْرٍ واحد، في نفسِ المكانِ الذي أصابتْهُ ضربةُ عمرِو بنِ عبدِ وُدٍّ في غزوةِ الخندق، فإذا كان الأمرُ كذلكَ، فالحقُّ مع معاويةَ وأبي سُفيانَ وعمرِو بنِ العاصِ، هم نَجَوْا بحياتِهم وأميرُ المؤمنين عليه السلام قتل بهذه الكيفيّة. كلا، بل ذاكَ السالِكُ الذي جعلَ طريقَه مُتْقَنًا، يجبُ عليه فقط أن يُفكّرَ في المسارِ لا في كيفيّةِ اختلاف الحالات.

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

13
  • قصّةُ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ: كيف يُمْتَحَنُ الوُثوقُ بالنبيِّ صلّى الله عليه وآله؟

  • لعلَّ حكمةَ اللهِ تقتضي أن ينصُرَ جيشَ الكُفّارِ يومًا، مَن قال [يجب أن ينتصر المسلمون دائمًا]؟! قد تكونُ إرادةُ اللهِ قد تعلّقتْ بأن يغلِبَ هذا الجانبُ على ذاكَ الجانبِ الآخرِ اليومَ، وغدًا تتعلّقُ إرادةُ اللهِ بتغييرِ الأمر، كلُّ هذه امتحاناتٌ في عالمِ الامتحانِ والإنسانُ رهينُ هذه التقلُّباتِ التي تُثيرُ الشكَّ والتردُّدَ في قلبه، ولو كانت أحوالُ الزمانِ دائمًا تسيرُ وفْقَ المُرادِ، لكان الجميعُ مُسلمين، لمَا كان هناك كافرٌ ومؤمنٌ. ولو انتصرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله في كلِّ حربٍ وفي كلِّ قضيّةٍ وأشارَ فحدثَ زلزالٌ وابتلعَتهمُ الأرضُ وأشارَ فجاءت ريحٌ وحملتْهم جميعًا إلى الهواءِ، لمَا بقيَ شيءٌ، لا امتحانٌ ولا شكٌّ ولا صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ ولا تشكيكُ عُمَرَ وأمثالِ عُمَرَ ليأتوا إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله ويقولوا: ما شككنا في رسالتِكَ شَكَّنا اليوم۱، يقولُ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله: احلِقوا رؤوسَكم، فيقولون: لم نُؤَدِّ الحجَّ فلن نَحْلِقَ! لماذا تحدثُ هذه الامتحاناتُ؟! كانوا يظنّون أنّه عندما يذهبُ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله يجبُ أن يدعوَ فيتحوّلَ كلُّ المُشركين إلى دُخانٍ ويتطايروا في الهواء، كلاّ! ليسَ الأمرُ كذلكَ. يأتي المُشركون ويَقِفون في وجهِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله أيضًا لا يستطيعُ فعلَ شيءٍ، لماذا؟ لأنّه ليس مأمورًا بإعمالِ القُوى القاهرة، ليس مأمورًا، نفسُ الإلهِ الذي يقول في غزوةِ بَدْرٍ: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلينَ}٢ أرسلنا لكم ثلاثةَ آلافِ مَلَكٍ لنصرِكم وانتصارِكم فدمّروا كلَّ الكُفّارِ وقَضَوْا عليهم، نفسُ هذا الإلهِ يأتي ويقول: قِفوا بجانبِ مكّةَ ويُغلِقُ طريقَ القهرِ والغَلَبةِ والنصرِ، نفسُ هذا الإلهِ يفعلُ هذا. يقول: ألستُ أنا اللهَ؟ أُريدُ أن أفعلَ هذا، ما هو قولُكم؟ أنا في غزوةِ بَدْرٍ أُرسِلُ الملائكةَ ـ كلُّ هذه نِقاطٌ مهمّة، أنا لا أحكي قِصَصًا هنا، أنا أذكرُ الحالاتِ التي قد يُواجِهُها أيُّ إنسان، هذا هو المقصودُ ـ نفسُ الإلهِ الذي يأتي هناكَ وبملائكتِه يُنهي غزوةَ بَدْرٍ لصالحِ المُسلمين، هو نفسُه يأتي في صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ ويقول: قِفوا ولن تستطيعوا وعودوا إلى بُيوتِكم بدونِ قهرٍ وغَلَبةٍ وانتصارٍ، فيقولون: لم نَعُدْ نستطيعُ أن نرفعَ رؤوسَنا أمامَ نسائِنا وأطفالِنا! يقولون: ما شاءَ اللهُ على شَجاعتِكم! ماذا فعلتُم في غزوةِ بَدْرٍ وماذا فعلتُم في غزوةِ أُحُدٍ والأحزابِ؟! ماذا فعلتُم في سائرِ الحُروبِ؟! بمُجرّدِ أن جاءت قضيّةُ فتحِ مكّةَ عُدتُم جميعًا خائبين إلى بُيوتِكم؟! لن نَحلِقَ رؤوسَنا ولن نُقصِّرَ شَعْرَنا، نأخذُ من أظافِرِنا ونَقُصُّ شَعْرَنا، ماذا يفعلُ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله بهؤلاءِ؟ هؤلاءِ هم الذين حاربوا، ليسوا حَديثي إسلامٍ، لا! بل شاركوا في غزوةِ بَدْرٍ وأُحُدٍ والأحزابِ، حاربوا بالسُّيوفِ في كلِّ هذه الحُروب، ولكن ما مِقدارُ معرفتِهم؟ ما مِقدارُ إيمانِهم بكلامِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله؟ حاربوا، حربٌ بدونِ إيمانٍ، هذا هو. حربٌ بدونِ وُثوقٍ بالطريق! لأنّهم لو كانوا واثِقين، فعندما يقولُ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله: احلِقوا، يَحلِقون، لم نفتحْ مكّةَ؟ الأفضلُ ألّا نفتحَها! نعودُ، لا نُصابُ بالسِّهامِ والسُّيوفِ فنكونُ أكثرَ راحةً، فلنَعُدِ الآنَ، لقد قلتُ لزوجتي سأذهبُ وأُحضِرُ لكِ كيلوغرامًا من الذَّهَبِ! نذهبُ إلى مكّةَ ونفتحُ بيتَ أبي سُفيانَ وأبي جَهْلٍ ونُخرِجُ أكياسَ الذَّهَبِ، وكلُّ هذا الذَّهَبِ الذي لم أشترِهِ لكِ حتّى الآن، الآن سأذهبُ وأملأُ كلَّ أكياسي بالذَّهَبِ والمُجوهراتِ والألماس وأُغطّي جَسدَكِ من رأسِكِ إلى قدَمَيْكِ بالذَّهَبِ، والزوجةُ جالسةٌ في المدينةِ تعدُّ الأيّامَ لعودةِ زوجِها وإحضارِه عِدّةَ أكياسٍ من الذَّهَبِ، والآن تراهُ يعودُ، حسنًا ماذا فعلتَ؟ لا شيءَ، ذهبنا إلى هناكَ وبقينا بِضعةَ أيّامٍ وحَكَكْنا لِحانا وحَكَكْنا مُؤخِّرةَ رؤوسِنا قليلاً، ثمّ وقّعوا اتّفاقيّةَ صُلْحٍ وقالوا: عودوا إلى أماكِنِكم، ما شاءَ اللهُ! هل يُقالُ لكم رِجالٌ؟! يضعُ كلَّ هذا في ذهنه! ها! ما هذا؟ وَسْوَسةٌ. يضعُ هذه الأمورَ الواحدة تلوَ الأخرى في ذهنهِ فتتوقّف النَّفْسُ فجأةً! لقد كان الطريقُ مفتوحًا بينَه وبينَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله حتّى الآن، فيُغلَقُ فجأةً، يا للهولِ، ألم يحدثْ لنا هذا من قبلُ؟ يُغلَقُ فجأةً، وعندما يُغلَقُ يأتي النبيُّ صلَّى الله عليه وآله ويقول: احلِقوا، ماذا نَحلِقُ؟! هل نَحلِقُ بهذه السُّهولةِ رؤوسَنا؟! مجموعةٌ ممّن آمنوا يَحلِقون رؤوسَهم، والأمرُ مُفصَّلٌ وقد سمعتُموهُ وقد قلتُه لكم بنفسي، حسنًا الحقُّ مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله أم مع أبي سُفيانَ؟! أبو سُفيانَ يقول: تفضّلوا إن كنتم صادقين تعالَوْا، ألستَ أنتَ رسولَ اللهِ؟ وهو أيضًا يأتي إلى هناكَ ويستعرِضُ قوّتَه ويزيدُ من إغاظتِهم! يقول: أيُّها المُسلِمون! إن كنتم صادقين فتفضّلوا! أنتمُ الذين كنتم تقولون حتّى الآن إنّ الملائكةَ خلفَنا وأمامَنا وعن يَمينِنا وشِمالِنا، فأينَ ذهبتِ الملائكةُ؟!

    1.  الدرّ المنثور ٦ / ۷۷، سبل الهدى والرشاد ٥ / ٥٣: قال عمر والله ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذ 
    2. سورة آل عمران (٣) الآية ۱٢٤.

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

14
  • ولكن ذاكَ الذي هو ثابتٌ، قويٌّ، يقول: لو جئتُم عشرَ مرّاتٍ أخرى، فهذا الكلامُ لا يدخُلُ عقولَنا، لدينا هذا النبيُّ والسلامُ! لو جِئنا مائةَ مرّةٍ وهُزِمنا وصَعِدنا ونزَلنا، فإنّا نضحكُ، أصلاً نُريدُ أن نُهزَمَ، ومَن قالَ يجبُ أن ننتصِرَ؟! أصلاً أصابَنا مَرَضٌ كَرِهْنا معهُ الانتصارَ! النبيُّ صلَّى الله عليه وآله يُريدُ هؤلاءِ وهذا النوعَ من الناس. هؤلاءِ ينفعون النبيَّ صلَّى الله عليه وآله والطريقَ. هؤلاءِ ينفعون للسُّلوكِ. هؤلاءِ ينفعون لهذا الهدفِ، ذاكَ الذي عندما يُهزَمُ يضحكُ أكثرَ ممّا يضحكُ عندما ينتصِرُ، يفرحُ أكثرَ ويقول: ما شاءَ اللهُ، كم كان جيّدًا! هُزِمنا، فلنَعُدِ الآنَ مسرعين إلى بُيوتِنا. لذا قال إنّ المسألةَ ليست بكون النصر حليف هذا الجانبِ أو ذاكَ. 

  • وسيّدُ الشُّهداءِ عليه السلام عندما تحدّثَ مع أصحابهِ في تلكَ الليلةِ الأخيرة، كان حديثُه هذا، قال: أيُّها الرِّفقاء، غدًا لن يُوزِّعوا الحَلْوَى هنا، غدًا هزيمةٌ ظاهريّةٌ وبحسب تقدير عامّة الناس، فماذا قال الأصحابُ؟ قالوا: ماذا تعني الهزيمة؟ أينما كنتَ أنتَ قُلْ لنكُنْ معكَ. سيقتلونكَ! هذا أفضلُ! الآن أولئكَ الذين عليهم دُيونٌ، لو بقيتُ حيًّا لعشرِ سنواتٍ لكنتُ سَدَدتُ الدَّيْنَ، وغدًا سنتخلّصُ من عِبْءِ الدَّيْنِ أيضًا، وذاكَ الذي لديه مُشكِلةٌ مع بيتِه يقول: الحمدُ للهِ! لن أعودَ لأرى هذه الأمورَ الباطلةَ! الجميعُ في تلكَ الليلةِ كانوا مُستمتِعين ويضحكون ويمزَحون، قَتْلٌ! شَهادةٌ! ما هذه المسائلُ؟!

  • المؤمنُ عندما يُريدُ أن يبدأَ طريقًا يجبُ أن يكونَ هذا هو هدفُه، أوّلاً كان المرحومُ العلامةُ يقول: مَن يُريدُ أن يدخُلَ في السُّلوكِ فيجبُ أوّلاً أن يُرسِّخَ الهدفَ في ذهنهِ ثمّ يدخُلَ، لا أن يأتي بِسُرعةٍ. كلّما رسّخَهُ في البدايةِ أكثرَ، وكلّما فكّرَ فيه أكثرَ، وكلّما حلّلَ المسألةَ أكثرَ، وكلّما أخذَ في الاعتبارِ تقلُّباتِ الطريقِ ـ فهي ليست دائمًا حَلْوَى ـ وكلّما تصوّرَ تقلُّباتِ الطريقِ بشكلٍ أفضلَ، كان طريقُه سهلاً، يسيرُ بِسُهولةٍ أكبر. هذا أيضًا من مسائلِ وبرنامجِ الليلةِ وقد مضى الوقتُ.

  • إن شاءَ اللهُ نأمَلُ أن يوفّقَنا اللهُ بأن يَهَبَنا هو بَصيرتَه، ويَهَبَنا هو هِمّتَه، ويأخذَ هو بأيدينا، وهذا المِقدارُ يمكنُنا أن نقولَه للّه، يا الله «آش كَشْكِ خاله ات است...» «مالِ بد بيخ ريش صاحبش!»۱ 

    1. مثلان شعبيّان في اللغة الفارسيّة يعنيان أنّه على أيّ حال أنت مسؤول عن هذا العمل، وأنّ الأمر المنسوب إليك أنت مجبر على رعايته. (م) 

مقام الصلاة في مدرسة أولياء الله: بين معرفة العارفين وظاهر العابدين - لماذا قال النبي الأكرم أرحنا يا بلال؟

15
  • يقول: «هذا حساءُ خالتِكَ فسواء أكلته أم لم تأكله فهو محسوب عليك» فنحن محسوبون عليك على كلّ حال. و«البِضاعةُ الرَّديئةُ تبقى عندَ صاحبِها!» وهو مجبر على الاهتمام بها دون غيره، فلو شئت لما أفهمتنا، والآنَ بعدَ أن أفهَمْتَنا، فعليكَ أن تتحمّلَ عِبْء ذلك! لو شئت لما أفهمتنا، ولكنّك في النهايةِ أفهَمْتَنا! في النهاية، هذا الطعامُ الشَّهيُّ والمطلوبُ أنتَ أعددتَه لنا، وهذا البُستانُ أنتَ أريتَناهُ، وهذه النِّعَمُ أنتَ أظهرتَها لنا، وهذه الألطافُ أنتَ فعلتَها بنا، وأنتَ سمّيتَ نفسَكَ كريمًا، وحاشا لكرمِكَ أن تُخيِّبَ عبدَكَ عن بابِكَ. فإن شاءَ اللهُ نأمَلُ أن يأخذَ هو نفسُه بأيدِينا في ظِلِّ مقامِ ولايتِه، وبِكرَمِه وعظمتِه يغفِرَ عُيوبَنا ونقائِصَنا بِقلمِ العفوِ والغُفران، ويتعاملَ معنا بِفضلِه وكرَمِه لا بِعدْلِه وقضائِه. وأن يجعلَنا دائمًا شاكرين لهذه النِّعَمِ. 

  •  

  • اللَّهُمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ.