1

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

15
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1427

التاريخ 1427/09/03

جلسات المجموعة(8 جلسة)

التوضيح

ما هي علّة الحاجة إلى دليل في السير إلى الله تعالى؟ أيّ نوع من الطرق الخفيّة يتسلّل منها الشيطان إلى النفس؟ ما هو المراد من التزيين الشيطانيّ؟ ما هي المهمّة التي يضطلع بها دليل الطريق في مساعدة الإنسان على مواجهة الشيطان؟ ما هي خطورة الوصفات الذاتيّة في علاج النفس؟ كيف نحرم أنفسنا من توفيق الله تعالى؟ ما هي أهمّية البحث عن المرشد والدليل؟
هي تساؤلات سعى سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي ألقاها في ضمن سلسلة محاضرات لشرح دعاء أبي حمزة الثماليّ.

/۱۲
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۷ هـ - الجلسة اللأولى

  •  

  • محاضرة القاها

  •  

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني

  • قدس الله سرّه

  •  

  •  

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

  • و صلَّى‌ اللَّهُ عَلَىٰ سيّدنا و نبيّنا أَبِي القَاسِمِ مُحَمَّدٍ

  • و عَلَىٰ آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ

  • وَ اللَّعْنَةُ عَلَىٰ أَعدَائِهِم أَجمَعِينَ

  •  

  •  

  • علّة الحاجة إلى دليل في السير إلى الله تعالى

  • «مَعْرِفَتِي يَا مَوْلَايَ دَلِيلِي عَلَيْكَ وَ حُبِّي لَكَ شَفِيعِي إِلَيْكَ وَ أَنَا وَاثِقٌ مِنْ دَلِيلِي بِدَلَالَتِكَ وَ سَاكِنٌ مِنْ شَفِيعِي إِلَى شَفَاعَتِكَ» يا لها من فقرةٍ عجيبةٍ حقًّا، لو تحدّثنا شهرًا عنها ـ وطبعًا هذا ليس بمقدورنا بل بمقدور أهل الاختصاص ـ لكان قليلاً حقًّا. ويبدو أنّه جرى الحديث في العام الماضي ـ ولا أذكر الآن بدقّة ـ عن فقرة «مَعْرِفَتِي...»، لكن، بسبب الارتباط القائم بين هذه الفقرة والفقرة الأخرى التي تقول: «وَ حُبِّي لَكَ شَفِيعِي إِلَيْكَ»، علينا أن نقوم الآن بمراجعة يسيرة لهذا الموضوع مرّة أخرى.

  • يقول الإمام السجّاد عليه السلام: معرفتي بك يا إلهي ويا مولاي هي دليلي عليك ومرشدي إليك. فالدليل يعني المرشد والهادي وفاتح الطريق وموضّح السبيل، حيث يُقال: على الإنسان أن يبحث في سفره عن دليل، أي عن مرشد. ففي السابق، عندما كانوا يسافرون مع القوافل والحملات في رحلات بعيدة في الصحاري، وكانت هذه الصحاري غير مجهّزة بطرق، وكانت الرياح تنقل الرمال من هنا إلى هناك، كانوا يقولون: يجب اختيار دليل للطريق. ومن هنا، أطلق أعاظم الطريقة أيضًا لقب "الدليل" على المرشد وأستاذ الطريق، حيث نجد أنّ كلّ ما ذكره هؤلاء الأعاظم في كتبهم بخصوص التوصية بالدليل في طريق السلوك إلى الله أخذوها من دلالة الطريق هذه؛ وفي الواقع، فإنّ استعمال الدليل هناك أولى منه في الأمور المادّية والدنيويّة. 

  • طی این مرحله بی همرهی خضر مکن***ظلمات است بترس از خطر گمراهی 
  • يقول: لا تَطْوِ هذه المرحلة دون رفقة الخضر *** إنها ظلماتٌ فاحذر خطر الضلالة 

  • خضرُ الطريق يعني دليلَ الطريق والإنسان الذي يُمَيِّزُ الطريق من البئر. فكلاهما فيه "اه"، سواءً البئر (چاه)، أو الطريق (راه)، لكنّ الفرق بينهما كالفرق بين الأرض والسماء. وهو أيضًا ذلك الذي سلك الطريق واطّلع على مخاطر فخاخ الأبالسة والشياطين، وميّز الموانع، وأحسّ بالمصالح ومسّها ولمسها بروحه وقلبه، ثمّ جاء ليُمسك بيد الإنسان ويحرّكه، فنراه في بعض المواضع يأمر بالسرعة، وفي بعضها الآخر يأمر بالتوقّف حينما يكون الأمر مجهولاً بالنسبة للإنسان. فلماذا قال هنا: «قف، لا تتحرّك، ولا تفعل كذا»؟ ولماذا قال هناك: «افعل كذا»؟ ولماذا قال هذا الكلام؟ ولماذا قال هنا: «قم بهذا الإجراء»، وقال هناك: «لا تقم به»؟ حيث يكون بعضُ هذه الموارد كريهًا بالنسبة للنفس وبعضها الآخر مُحَبَّبًا لها؛ لأنّ دليل الطريق لا يعمل دائمًا وفق هوى هذه النفس، بل أحيانًا يأخذ الإنسان في صعود، وأحيانًا ينهاه عن الانحدار، وأحيانًا يأمره بالتوقّف؛ لأنّه يعلم بما يكمن وراء القضايا والحوادث الظاهريّة من مسائل، وبما يترتّب من آثار على كلّ عمل يقوم به الإنسان.

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

3
  • الطرق الخفيّة التي يتسلّل منها الشيطان إلى النفس

  • يتقدّم الشيطان بدقّة ولطف وظرافة، ويقلب لك الحقيقة بحيث لا يخطر ببالك أبدًا أنّ الطريق الذي تسلكه خاطئٌ، فيدخل من طريق الله. فالشيطان ليس لديه فخٌّ واحدٌ فقط، ولا تقتصر حبائله على القمار والشطرنج والسرقة والزنا وأمثال ذلك؛ لأنّها تختصّ بالأفراد العاديين وأهل الأسواق والشوارع. إنّه ينصب حبائل وفخاخ لو فكّر الإنسان فيها إلى يوم القيامة لما استطاع أن يكشفها.. لماذا؟ لأنّ أفق معرفته بالطريق وموانعه أعلى من أفق تفكيرنا وتخيّلنا وأوهامنا بالنسبة له؛ فهو قد سلك هذا الطريق، وقطع هذا المسير، وأصبح أستاذًا في الفنّ، فلا يستطيع أيّ أحد أن ينجو من حِيَله وحبائله. فمَنْ يقدر على ذلك؟ ومَنْ يستطيع الخلاص من هذه الحبائل؟ ومَنْ يُطيق عبور هذه الموانع؟ 

  • فهو يأتي باسم الدين وحمايته، وباسم الدفاع عن الإسلام والله والإمام والنبيّ صلّى الله عليه وآله ! لكنّنا نجد في الباطن أنّ القضيّة تدور حول حماية الذات وشؤونها، والدفاع عن الشخصيّة والأنانيّة؛ فمَنْ بوسعه استيعاب هذا الأمر؟ ومَنْ يستطيع تمييزه؟ 

  • أ تظنّون أنّ ما يُحكى عن المهالك والأودية الموبقة والظلمات وهذه الأمور هي مسائل خياليّة ووهميّة، وأنّها من باب الأمور الاتّفاقية نظير سقوط حجر من السماء يومًا ما أو حدوث قضية معيّنة؟! ماذا؟ لا يا عزيزي! إنّ الشيطان يدخل من أيّ طريق يرى أنّه يستطيع السيطرةَ من خلاله على قوام الإنسان ومحوره، وعندما يسيطر على ذلك، فإنّنا نجد أنّ جميع الأعمال التي يقوم بها هذا الإنسان تدور حول هذا المحور وذلك القوام، فيُصلّي ويصوم ويُبَلِّغُ الدين ويُمارس الطبّ ويقوم بالأعمال الخيريّة لله اعتمادًا على هذا المحور. لماذا؟ لأنّ الشيطان جاء وسيطر على نقطة ضُعف هذا الإنسان، فتسلّل إليه بكلّ دقّة. ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾۱، فنراه يقول في هذه الآية: يا إلهي، لا تظنّ أنّي أفتقر إلى الخبرة، بل إنّي تعلّمت! فقد كنت مع هذه الأرواح في عالم المثال، وكنت معها في عالم الملكوت، وكنت معها في عالم المعنى، فكنت جليسًا وقرينًا لكلّ واحدة منها في تلك العوالم؛ ولهذا، فإنّني آتي الأفراد التافهين والعاديين، وأتسلّل إليهم من عالم المثال والملكوت الأسفل، وأزيّن لهم من هناك الأمور الدنيويّة التي ترتبط بالمعيشة والأكل والشرب والشهوات واللذائذ والتسليات؛ وعندما لا يستطيعون الوصول إليها بالطرق الصحيحة والمعقولة، أرشدهم إليها وأوصلهم إلى تلك المُغريات عن طريق غير شرعيّ. وإذا كان الرفقاء يتذكّرون، فقد تحدّثنا عن مسألة الشيطان في عدّة جلسات، حيث تبيّنت هناك الحكمةُ التي جعلها الله تعالى في خلق هذا الموجود الملعون والمنبوذ في كلّ الآيات القرآنيّة والمذموم والمنتقد في الروايات، والذي يُحذّر الجميعُ وينذرون من التوجّه إليه والاقتراب منه، فكلّ ذلك صحيح، والواقع هو بهذا النحو!

    1. سورة ص، الآية ۸٢.

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

4
  • فيأتي الشيطان بهذه القوّة والسيطرة ويُجَمِّلُ الأمور للإنسان، لكن، ماذا يعني: يُجَمِّلُ؟ يعني: يُظهِرُ ويُبرز للإنسان مسائل يمكن أن تقع كأداة له في طريق إغوائه لهذا الإنسان. ففي الحروب التي اندلعت بين أمير المؤمنين ومعاوية، حارب عليه السلام هذا الأخير لمدّة ۱۸ شهرًا؛ في حين أنّ هذا المعسكر كانوا يُصلّون وذلك المعسكر كانوا يُصلّون، حيث كان يتواجد في المعسكر الآخر معاويةُ ورفيقه عمرو العاص؛ فكانوا يؤمّون الصلاة، ويضعون العمائم، ويُدخلون طرفها تحت الحنك أيضًا ليعملوا بالمستحبّ؛ إذ يُستحبّ للإنسان الذي يضع العمامة على رأسه أن يتحنّك للصلاة؛ فكانوا يتحنّكون أيضًا، فيُشاهدهم الناس ويقولون: ما شاء الله! إنّه يصلّي، فانظروا كيف يلتزم بمخارج الحروف؛ فهو ينطق حرف العين بغلظة شديدة إلى درجة أنّ الصوت يخرج من مكان آخر! وينطق الضاد من مخرجها بحيث يخرج الصوت من دماغه بدلاً من أسنانه! فهو يُؤدّي هذه المخارج بشكل جميل جدًّا إلى درجة أنّه حينما ينظر إليه الناس، فإنّهم يرونه يُصلّي. ومن جهة أخرى، [يقول معسكر معاوية:] لقد انتصرنا اليوم على عليّ عليه السلام في الحرب، وعندما هجمنا عليهم، تراجعوا قليلاً وهربوا، ولنر ماذا سيحدث غدًا؟ حسنًا، لو كان الحقّ معهم، فلماذا تراجعوا؟ انظروا! هذا هو: ﴿وَلَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ﴾۱، سأجمّل لهم العمل، وأزيّن لهم الأمور. ولو كان من المقرّر أن ينتصر أمير المؤمنين عليه السلام كلّ يوم، لانتُزعت وسيلة التزيين من الشيطان، وبقي هذا المسكين من دون وسيلة؛ ولهذا، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام لا يريد أن يبقى الشيطان بلا وسيلة، بل يريد أن يكون الطرفان متساويين دائمًا. انتبهوا جيّدًا لما أقول؛ لأنّها نقطة دقيقة جدًّا أريد أن أطرحها على الرفقاء؛ هذا، مع أنّها واضحة، والرفقاء سمعوا هذه الأمور كثيرًا وهم أهل اطّلاع، لكنّني أعرضها من باب التذكير. حسنًا، اليوم انتصرنا، ولو كان عليّ عليه السلام على حقّ فلماذا انهزم؟ وغدًا أيضًا سيتعادلان. فاستمرّ الأمر ثمانية عشر شهرًا، ممّا يدلّ على أنّ الأمر لم يكن مزاحًا؛ ففي كل يوم من هذه الثمانية عشر شهرًا، كانت هناك حرب.. حرب في الليالي، وحرب في الأيّام، حيث كانت تجري الحرب في كثير من الليالي. ألم تكن لدينا ليلة الهرير؟! ففي تلك الليلة العجيبة، كان هؤلاء يُصلّون، ويقولون: الله أكبر، فيرتفع صوت تكبيرهم،؛ إذ كان العسكر في جيش معاوية يُصلّون ويصدحون بالتكبير، بل لربّما كانوا يفعلون ذلك بنحو أجمل، فيُعيّنون لهذه المهمّة أفرادًا حسني الصوت قليلاً، وما أقوله هنا جادّ وليس مزاحًا! يقولون: لنضع أفرادًا حسني الصوت ليؤذّنوا جيّدًا ويقرأوا القرآن بلحن جميل، فيقول الناس: «يا للعجب! يا لهم من قرّاء جاؤوا بهم! ويا لهم من مؤذّنين أتوا بهم ليُؤذّنوا!»، فيزدادون ثباتًا على موقفهم الباطل، ويحصلون على مرتكز يتّكؤون عليه في طريقهم ومسيرهم الباطل، وتسكن قلوبُهم ويطمئنّ بالُهم. فما أقوله هو أنّنا نحتاج إلى شهر رمضان كامل من أجل توضيح عبارة الإمام السجاد عليه السلام هذه: «مَعْرِفَتِي يَا مَوْلَايَ دَلِيلِي عَلَيْكَ»، وبيان ما الذي يُريد الإمام عليه السلام أن يقوله هنا؛ لأنّ كل ما هنالك هو في المعرفة فقط، والباقي كله خواء وفراغ وفقاعات ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾٢. فيأتي الخطيب، ويصعد المنبر، ويقول: «يا أيّها الناس، تعالوا للدفاع عن دين النبي صلّى الله عليه وآله»؛ مع أنّه ينتمي إلى جيش معاوية نفسه! جيش معاوية نفسه! فلا يقول: تعالوا وادعموا أبا سفيان؛ لأنّه لو قال ذلك، لقالوا له: «من عساه أن يكون أبو سفيان لندعمه!». فالشيطان لا يذكر اسم أبي سفيان بتاتًا، ولا يُشير إليه أبدًا، ولا يقول: «تعالوا وادعموا أبا سفيان»، ولا يقول: «تعالوا وحاموا عن هُبل والعُزّى»، ولا يقول: «تعالوا ودافعوا عن الأصنام والأوثان»، وإلاّ، لما جاء أيّ أحد، ولفرّ الذين اجتمعوا حول معاوية، وقالوا: «ماذا؟! لقد جاء بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله ليقول لنا: تعالوا، واتّبعوا هُبل والعُزّى والأصنام وبيت الأصنام وأمثال ذلك». فلا يُمكنه أن يذكر ذلك بتاتًا، وإلاّ، لأغلقوا ملفّه، ووضعوه جانبًا. فإذن، ماذا يقول؟ يقول: «تعالوا ودافعوا عن الله تعالى، فقد ضُيّع، كما ضيّع النبيّ صلّى الله عليه وآله، وهُدم دينه وتعرّض للدمار، وقُتل عثمان! فيا أيّها الناس، لقد قتلوا خليفة المسلمين، وانظروا، فإنّ قتل الخلفاء قد انتشر بين الناس؛ ولو لم نوقف الأمر، فسيأتي غدًا دور البقيّة، ولن يبقى شيءٌ من النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولن يظلّ شيءٌ من الدين!». فيقول مثل هذا الكلام، ثمّ يرفع قميص [عثمان] ليُظهره، فيرى الناس أنّه يقول الصدق، ويقولون: «لقد أمسكوا بخليفة المسلمين وقتلوه، فعلى أيّ أساس قاموا بذلك؟! وطبقًا لأيّ حساب؟! ومع أنّه كان يقرأ القرآن، إلاّ أنّهم أمسكوا به، وضربوه وقتلوه!». لكنّهم لا يعلمون أنّ الذي كان يقرأ القرآن هو نفسه الذي سُفكت بيده وبأمره دماء كثيرة. فالناس لا يعلمون لماذا لم يستمع الذي كان يقرأ القرآن لكلام أمير المؤمنين عليه السلام، ولماذا قسّم بيت مال المسلمين بين أقاربه وعشيرته والمقرّبين منه، ولماذا سلّط الحكّام الفجرة الفسقة الزناة على أموال الناس وأعراضهم. ماذا؟ إنّه يقرأ القرآن! لكن، هل قال له القرآن: تعال وأقدم على هذا العمل؟! وهل قال لك القرآن: تعال وقم بهذه التعدّيات؟! وهل قال القرآن: اضرب عمّار بن ياسر على ظهره واكسر صدره واكسر عظامه؟! هل قال القرآن ذلك؟ 

    1. سورة الحجر، الآية ٣٩.
    2. سورة النور، الآية ٣٩. 

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

5
  • معنى التزيين الشيطانيّ

  • لكنّ الشيطان يأتي، ويزيّن للإنسان؛ كما أنّ الأمور تحدث في هذه الدنيا بطريقة يصعب على العقول الضعيفة إدراك حقيقتها، لا أنّها غير قابلة للفهم والتحليل أبدًا؛ وكلّ إنسان في هذه الدنيا مسؤولٌ بمقدار عقله وقدرة فهمه، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول: «كنت في بيئة سُلبت منّي فيها القدرة على الاختيار والتفكير»، ولو كان الأمر كذلك، فسيكون هكذا إنسان مستضعفًا ولن يُعاني من أيّ إشكال. فالمشكلة هي أن نأتي دائمًا، ونخلق لأنفسنا تبريرات لأفعالنا وأعمالنا؛ وبمجرّد أن نسعى للإتيان بتبرير، فإنّ الله تعالى سيأتي ويُعيننا، ويضع أمامنا تبريرًا آخر! هل تسعى للتبرير؟ ألا تريد أن تستخدم عقلك بشكل صحيح؟! ألا تريد أن تأخذ العبرة من هذه المسألة؟! ألا تريد أن تجعل طريقك صحيحًا ولو كان ذلك في ضدّك؟! حسنًا جدًّا، سنأتي نحن أيضًا لمساعدتك، ومَنْ هو المساعد؟ إنّه الشيطان! فنرسل إليك هذا الشيطان؛ وحينئذ، إذا تمكّن عقلُك من التوصّل إلى تبرير واحد، سيأتي الشيطان ويضع بجانبه اثنين آخرين، ليصبح المجموع ثلاثة، وإذا توصّل عقلك إلى تأويل واحد، سيأتي الشيطان بتأويل أفضل وأدقّ وأعمق، وإذا بك تنظر فجأةً، فترى: «أجل يا سيّدي! إنّ المسألة في الأساس بهذا النحو!». فمَنْ الذي وضع «أجل يا سيّدي» هذه في رأسك؟ ومَنْ الذي ألقى بهذه الشرارة في دماغك؟ ومَنْ الذي وضع هذا التأويل والتبرير المخالف في ذهنك؟ هل تعلم؟ إنّه صديقك الشيطان! فتقول: «نعم، نعم، إنّ المسألة في الأساس بهذا النحو، ولا ينبغي أن تكون القضيّة هكذا، بل يجب أن تكون بهذه الكيفيّة، ولقد أخطأوا بفعلهم هذا، باعتبار هذا الدليل وذلك الدليل». فلماذا صار يستدلّ بهذا الدليل وذاك الدليل؟ ولأيّ شيء هذا الاستدلال بهذا وذاك؟ لأنّه لم يسع منذ البداية لسلوك السبيل الصحيح، وانحرف عن الطريق، فيأتي الشيطان من الجانب الآخر ليُساعده، وهذا هو معنى ﴿أُزَيِّنَنَّ﴾؛ أُزَيِّنُ يعني: آتيهم بتبريرات وأدلّة، وأفتحهم لهم الطريق الباطل.

  • فإذا انهزم جيش الإسلام في أحد الأيّام، يقول المشركون: «انظروا! أ رأيتم؟! إنّ الحق معنا إذن، ولو لم يكن الحقّ معنا، فلماذا انهزموا؟». وأمّا إذا انتصر جيش الإسلام في يوم آخر، وأثيرت ضدّهم شبهة، فإنّهم سيقولون: «لا يا عزيزي، كان ذلك بسبب القضيّة التي حدثت هناك، ونحن الذين قصّرنا في ذلك الموضع، أو: كان يجب أن نحافظ على ذلك النطاق، وكان علينا الدفاع عن ذلك الخندق، وكان يجب أن نذهب ونعوّض أخطاء الماضي في المعركة التالية». لكن، من الذي يأتي، ويصنع عبارات من قبيل: «نُعوّض»، «نتشاور»، «نُنسّق»، «نصلح الخطأ»، ويلقيها إليكم؟ إنّه الشيطان الذي يأتي بها. فتجدنا هنا نُبرّر، وهنا نسدّ نقائص الماضي، وهنا نلجأ للاستعدادات اللازمة للمسائل الماضية، ونضع المسائل الفلانية واحدة تلو الأخرى للحيلولة دون وقوع الأمر الفلانيّ، فنؤيّد هذا، ونهدر ماء وجه ذلك، ونقدّم هذا، ونؤخر ذاك؛ في حين أنّ كل هذه التمهيدات إنّما يضعها الشيطان أمام الإنسان ليقيمه على الباطل، وهذا هو معنى «أُزَيِّنَنَّ»؛ أي: أُجَمِّلُ.

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

6
  • فإذا لم يكن للعمل الحرام جاذبيّة، فلماذا سيسعى الإنسان لارتكابه؟ ولماذا يرتكب الناس كلّ هذه الذنوب؟ لأنّ لها جاذبيّة. فلو لم تكن للسرقة جاذبيّة ولم تكن مستحسنة، لما وُجِدَ سارقٌ، ولما عاد هناك أيّ سارق في هذا العالم. فنجده يلتذّ عندما يذهب إلى بيوت الناس ويأخذ أموالهم؛ ولو علم أنّه لو أراد أن يذهب إلى بيوت الناس، فإنّه ـ علاوةً على أنّه لن يحصل على أيّ شيء ـ سيُمسَك هناك ويُضرب ضربًا مبرحًا، لما أقدم على هذا العمل أبدًا؛ أ فهل هو أحمق حتّى يقوم بذلك؟! فلماذا سيسعى للقيام بذلك؟ وكذلك الشأن بالنسبة للذي يأتي ويلعب القمار، فإنّه يفعل ذلك لينتصر على الخصم ويحصل على المال، والحصول على هذا المال زينة ﴿لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ﴾. ولو علم شخصٌ يقينًا أنّه سيخسر في القمار الذي سيذهب ليلعبه الليلة، فهل سيفعل ذلك؟ سيكون مجنونًا حينئذ! اللهمّ إلاّ إذا كان له غرضٌ آخر، كأن يسعى مثلاً إلى أن يظهر أمام شخص ما...! وكذلك الحال فيما يخصّ العمل الحرام الذي يذهب الإنسان لفعله بسبب المسائل الشهوانيّة التي زُيِّنَتْ له، وجُمِّلَتْ له، وهي مستحسنةٌ لديه؛ فلو علم الآن ما يكمن وراء هذا العمل الحرام من عقوبات وعذابات، ورآها بعينه، لما أقدم على ارتكابه. هذا هو معنى ﴿لَأُزَيِّنَنَّ﴾

  • تخيّلوا أن تأتي نفس هذه الزينة في المسائل النفسانيّة والمسائل المرتبطة بالأنانيّة والشخصيّة والرئاسة وأمثال ذلك، عندها، ستبلغ الأمور ذروتها وتصبح دقيقة ورقيقة؛ وهناك، يجب اللجوء إلى الله، وإلاّ فإنّ الخمر والكذب والبهتان والسرقة وغير ذلك ـ مع أنّ الكذب والبهتان ونظائرهما أعلى بكثير ـ هي مسائل يتوب منها الإنسان، وإن كان عليه حقّ للناس يُؤدّيه إليهم، وأمّا تلك الذنوب والآثام، فيجب على الإنسان أن يلجأ فيها إلى الله؛ وإلاّ فماذا عساه أن يفعل فيها؟! 

  • مهمّة "دليل الطريق" في مساعدة الإنسان على مواجهة الشيطان

  • ويُقال "دليل الطريق" لمَنْ لديه اطّلاعٌ على تلك المنافذ النفسانيّة التي يتسلّل منها الشيطان؛ فيسعى هذا الشيطان إلى الدخول من ذلك المنفذ، لكنّ ذلك الدليل يفطن به، فيسدّ عليه الطريق. فنجد [الشيطان] يدخل من طريق الإنفاق، فيقول [الدليل]: «لا تُنْفِقْ». ماذا؟! إنّ الإنفاق يحظى في الإسلام بأهمّية كبيرة، وجرى التأكيد عليه كثيرًا! فيقول [الدليل]: «مع أنّه مؤكّد، لكن لا تفعله أنت، فما دخلك في ذلك؟». فينزعج ذلك الشخص! لكن، لماذا انزعجت؟! وما الذي حدث؟! أ فهل يجب على الإنسان أن ينزعج إذا لم يُنفق؟! وهنا، يتّضح أنّ شيئًا ما آلمه. وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة لإمامة الجماعة؛ فقد دعاني المسجد الفلانيّ مثلاً لإمامة الجماعة هناك، وطلب منّي المؤمنون ذلك، وكتبوا رسالة مفادها أنّه ليس لديهم إمام جماعة. فيقول [الدليل]: «لا يا سيّدي، لا داعي لأن تكون إمام جماعة، صلِّ في منزلك فرادى». [فيقول ذاك:] لقد تمّ التأكيد كثيرًا في الإسلام على إمامة الجماعة، حيث إنّ ثواب ركعة واحدة تُؤدّى جماعة تساوي كذا، ولدينا في رواية أنّ جميع المأمومين يُعطون ثواب صلاتهم لإمام الجماعة. أ لم تُشاهدوا في بعض الأماكن كيف يُجاملون بعضهم في مسألة التقدّم لإمام الجماعة، ويقول كلّ واحد منهم: «لا يا سيّدي، تقدّم أنت»؟! إنّ هؤلاء لا يعلمون أيّ ثواب يفوتهم! يا سيّدي، إنّ المكان الفلانيّ يفتقر إلى إمام جماعة! [فيقول الدليل:] «كلاّ! اذهب أنت إلى منزلك، وصلِّ هناك فرادى». وفجأةً، ينزعج هذا الإنسان! لا يوجد ما يدعو للانزعاج؛ فلماذا انزعجت؟ لماذا؟ وماذا حصل حتّى ننزعج؟! فإذا لم يصبح الإنسان إمام جماعة، هل سيدعوه ذلك للانزعاج؟ وذلك نظير أن يُقال له: «يا سيّدي، لا تذهب من هذا الشارع، بل اذهب من ذلك الشارع»، فهل هذا يدعو للانزعاج؟ حسنًا، فليذهب من ذلك الشارع، فهذا ليس فليس بشيء ذي بال!

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

7
  • وهكذا الحال بالنسبة للمنصب الفلانيّ، كأن يصبح الإنسان رئيس منظّمة معيّنة، أو رئيس جامعة، أو رئيس مؤسّسة، أو رئيس كذا، فيقول: «يا سيّدي، إنّ في ذلك خدمةً للناس وخدمة للإسلام وخدمة لكذا»، [فيقول الدليل:] «لا يا سيّدي لا داعي لأن تشغل أنت هذا المنصب، فإذا قمت بوظيفتك الخاصّة، سيكون أفضل من...! ». فيهتزّ الإنسان قليلاً! لكن، لماذا حصلت له هذه الهزّة؟ وما هو مصدرها؟ ولنغضّ الطرف هنا عن أولئك الذين يرتفع صراخهم إلى السماء، ولا يوجد شيء إلاّ ويفعلونه! فلا علاقة لنا بهؤلاء، ولنقتصر الآن على أنفسنا نحن بالنسبة لـ....! فما هي علّة هذه الهزّة التي نشعر بها؟ علّتها أنّ اليد قد وُضِعَتْ على نفس المكان الذي يدخل منه الشيطان؛ فهو يتسلّل من ذلك الموضع، وقد وُضِعَتِ يده هناك.. في تلك النقطة نفسها.

  • لأمير المؤمنين عليه السلام كلامٌ يتعلّق برسول الله صلّى الله عليه وآله، وهو كلامٌ ينطبق على جميع أساتذة الطريق، وكافّة أولياء الله تعالى.. ألا يتعلّق بأمير المؤمنين عليه السلام نفسه؟ فمع أنّه كان يتحدّث آنذاك عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، إلاّ أنّ ذلك كان من باب التواضع وكسر النفس؛ لأنّه عليه السلام لم يكن يرى نفسه شيئًا في مقابل النبيّ، ولهذا، يقول في الوصف الذي وصفه به صلّى الله عليه وآله: كان يشخّص المرض بدقّة، ويضع أداة الكيّ على موضع المرض نفسه، حيث كانوا يلجؤون في السابق إلى الكيّ. فكان يضعه هناك بالضبط، من غير أن ينحرف إلى هذا الجانب أو ذاك ولو بمقدار مليمتر واحد، ومن دون أيّ إفراط أو تفريط. ووَلِيُّ الله تعالى هو بالنحو ذاته؛ إذ يُشخّص المرض ويقول: يا عزيزي، لا داعي لأن تحمل همَّ الإسلام، فالإسلام له وَلِيٌّ، ووليّه حَيٌّ منذ ۱٢۰۰ عام، وحياته ليست بهذه الأقراص والأدوية والشراب، كلاّ، فهو نفسه يعلم ماذا يفعل وكيف يحافظ على حياته، ولا يحتاج إلى طبيب. فلا حاجة لأن تحمل همَّ الله، ولا حاجة لأن تحمل همَّ الإسلام....، ولا داعي لأن تحرق قلبك على الإسلام. ولو كنت صادقًا، فعليك أن تفعل العمل الفلاني. هل تريد أن تقول: «أريد أن أُبَلِّغَ، وأذهب إلى الجامعة من أجل التبليغ، وأذهب لأبلّغ في المؤسّسة الفلانية، ليكون لديّ تلاميذ»؟ كلاّ، يا سيّدي! فلأجل مَنْ تريد أن تبلّغ؟ لأجل الله تعالى؟ بدلاً من الذهاب والقيام بهذا العمل، اخلع هذا اللباس، والبس لباس النبي صلّى الله عليه وآله، وضع العمامة على رأسك. وفجأةً، نرى صراخه يصل إلى العرش الأعلى، ويقول: «يا ويلي، هل هذا ممكن؟!». إنّ [وليّ الله] يُشخّص الألم بدقّة، ويقول: يا سيّدي، هذه هو مصدر ألمك، سواء صعدت أم نزلت. ولو مارست الأذكار سبعين عامًا، لبقيت على ما أنت عليه، بل حتّى لو ذكرت الله سبعمائة عام، لظللت على ما أنت عليه، ولما تحرّكت من مكانك، إلاّ إذا تراجعت، وعملت بما أُمرت به.

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

8
  • وبدلاً من تتلفّظ بالذكر اليونسيّ أربعمائة مرّة، تلفّظ به أربعة آلاف مرّة، وليبارك الله تعالى في ذلك! بل ردّده أربعين ألف مرّة؛ فاللسان يدور، ولا يوجد أيّ بأس في ذلك، وكلّما تعبت، ضع قطعة سكّر نبات في فمك وحبّة من أقراص الفيتامينات لتتقوّى قليلاً، ويدور لسانك أربعة آلاف أو أربعين ألف مرّة. لكن، ما مقدار تأثير ذلك؟ وهل يُمكن لترديد الذكر اليونسيّ أن يزيل ذلك الألم؟ لا والله، لا يمكنه ذلك! وهل يُمكن لقول لا إله إلا الله عشرة آلاف مرّة يوميًّا أن يُرمّم تلك الزاوية، وتلك الثغرة؟ لا والله، لا يمكنه ذلك! فما الذي من شأنه الإصلاح والترميم؟ أن تكفّ عن عملك ذاك، وتسعى للقيام بهذا العمل.. هذا وحسب. ففي ذلك الحين، سيقولون لك بأنفسهم: «ردّد الذكر اليونسيّ كذا مرّة، وقل لا إله إلا الله كذا مرّة»، وسيسعون بأنفسهم لدعمك ومساندتك، من دون أن تحتاج لترديد الذكر أربعة آلاف مرّة، فلا تُتعب نفسك كثيرًا يا عزيزي!

  • خطورة الوصفات الذاتيّة في علاج النفس

  • فنحن نُدرك أنّ لدينا ألمًا، لا أنّنا لا نُدرك ذلك، غير أنّنا نسعى لمعالجة هذا الألم بأنفسنا، ووصف الدواء والعلاج من عند أنفسنا؛ ولهذا، لو مرّت مائة ألف سنة، لبقينا متألّمين. هل تظنّون أنّ الذين ابتلوا بالانحراف في الطريق، وظلّوا ثابتين في موقعهم ذاك، كانوا أفرادًا عاطلين؟ بل كانوا يذكرون الله أكثر منّا، ويردّدون الأوراد أكثر منّا، ويُصلّون أكثر منّا، ويصومون أكثر منّا، ويقرأون القرآن أكثر منّا، وكانوا من الذين يختمون القرآن كلّ ثلاثة أيّام، فأيُّ واحدٍ منّا يفعل هذا؟ ختمة قرآن كلّ ثلاثة أيّام! وأنا أعرف بعضهم كانوا يختمون القرآن كلّ يوم! حسنًا، ما ثمرة كلّ ذلك؟ هي هذا! فهذا الختم وهذا الورد وهذا التسبيح إنّما يؤثر إذا كان في سياق علاج الألم، لا أن يكون طريق الإنسان في اتّجاه [خاطئ]، ثمّ يسعى هذا الإنسان لتلاوة القرآن باستمرار!

  • كان الخوارج يقرأون القرآن أيضًا، وكان الحجّاج بن يوسف الثقفيّ يحفظ القرآن عن ظهر قلب، وكان معاوية يحفظ القرآن أيضًا عن ظهر قلب، لكن، ليس كلّ القرآن، بل أكثره. وكان الخليفة الثالث عثمان يقضي معظم وقته في النهار في قراءة القرآن.. عثمان نفسه! لكن، ما فائدة ذلك؟ وأيّة نتيجة تترتّب على هذه الأمور؟ لا شيء! فهو عبارة عن مجرّد التذاذ نفسانيّ و ﴿لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ﴾، هذا فقط. فما المراد من: يُزيّن لهم؟ يعني: لا تظنّوا أنّ عثمان لم يكن يتلذّذ بقراءة القرآن تلك، كلاّ، بل كان يتلذّذ حقًّا بقراءة القرآن، غير أنّ هذه اللذّة أشدّ ظلمةً من الليل الحالك ألف مرّة، وأشدّ كدورة وعفونة ألف مرّة من كل شيء مكدّر ومتعفّن، فقد كان هؤلاء يتلذّذون [أيضًا].

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

9
  • يُحكى عن هؤلاء الخوارج ـ الذين كانوا يُصّلون صلاة الليل ـ أنّ أحدهم ذهب إليهم، ليلتقي بأحد أقاربه الذي كان ينتمي إليهم؛ وكان قد سمع أنّهم أفراد انفصلوا عن أمير المؤمنين عليه السلام وعن حكومة الإسلام، وشكّلوا لأنفسهم عصابة وجماعة، وقاموا ضدّ حكومة الإسلام. وكان أحد أقاربه بين الخوارج، فذهب إمّا ليأخذ بيده، أو ليزوره، وعندما اقترب من تلك القبيلة وتلك المنطقة، بدأ جسده يرتجف من صوت مناجاتاهم بالقرآن في جوف الليل، وهو يتساءل: «هل هؤلاء هم الخوارج؟! ـ والقضيّة ليست مزاحًا ـ هل هؤلاء هم الذين سمعنا عنهم؟! هل هؤلاء هم الذين يُقال عنهم إنّهم مهدورو الدم؟! هل هؤلاء هم الذين يُقال عنهم إنّهم كذا؟! هل هؤلاء هم الذين قاموا ضدّ حكومة العصر؟! هل هؤلاء هم الخوارج؟!». لكن، إلى أيّ مدى نفذ هذا القرآن في قلوبهم؟ 

  • على أيّ حال، إنّ القرآن كلام إلهيّ، ولكن ﴿وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاّ خَسَارًا﴾۱، فهذا القرآن نور للمؤمنين، ولكنّه لغير المؤمنين شقاء على شقاء، وخسارة على خسارة، وظلمة على ظلمة.. لماذا؟ لأنّهم كلّما قرأوا القرآن أكثر، ثبتوا في موقعهم الباطل أكثر؛ فيا ليتهم لم يقرأوا القرآن من البداية! ويا ليتهم تلوا الشعر بدلاً من القرآن! ويا ليتهم طالعوا الصحف والمجلاّت عوضًا عن القرآن! ويا ليتهم قرأوا القصص والروايات بدلاً من القرآن! ولكنّ هذا القرآن يتّصف بالغيرة والعزّة، ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ﴾٢؛ فالمطهّرون هم الذين يجب أن يكون لديهم تماسّ مع القرآن، والقرآن يقول: عندما تفتحونني، افتحوني بِنِية طلب الطريق. وحينما تفتحه للقراءة، افتحه بِنية أن تهتدي إلى الطريق، لا بِنِية أن ينقضي مجلس العزاء عندك، ولا بِنِية أن ينقضي هذا المجلس إلى أن يأتي الواعظ، ولا بِنِية التلاوة لبضع دقائق، حتّى تسخن الأجواء في المجلس ويجتمع المؤمنون! ففي هذه الحالة، أيّ فارق سيكون بين القرآن وبين الرواية والقصّة؟ إنّ للقرآن عزّة، وله غيرة؛ أ فهل هو مجلّة؟! كلاّ!

  • كيف نحرم أنفسنا من توفيق الله تعالى؟

  • فعندما تريدون أن تفتحوا القرآن في شهر رمضان المبارك أو في أيّام أخرى للانهماك في قراءته، بأيّة نية تفتحونه؟ لأجل هذا فقط: أنّه عبارة عن آيات جاءت من عند الله، ويُعطى عليها ثوابًا، بحيث كلّ مَنْ يقرأ القرآن يُعطى ثوابًا، فنتلوه، لنكون قد قرأنا جزءًا واحدًا يوميًّا في شهر رمضان، وننال الثواب أيضًا؟! هذا فقط؟! حسنًا، ما الفرق بينه حينئذ، وبين "جلستان سعدي"؟ وهل يوجد فارق بينه وبين الجريدة، سوى أنّ الجريدة ليس فيها ثواب وهو فيه ثواب؟! فعندما نفتح القرآن، يجب أن نعلم أنّ الله يُنَزِّلُ علينا هذه الآيات في نفس ذلك الحين. فكما كان جبرائيل عليه السلام يأتي إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله في غار حراء والمنزل والمسجد، ويُنَزِّلُ هذه الآيات على نفسه المباركة، فإنّه عليه السلام يُنَزِّلُ القرآن عليكم عندما تفتحونه. وحينئذ، هل نستطيع القول إنّ القرآن له ثوابٌ فقط؟! وهل سنكتفي بقراءة جزء واحد يوميًّا لنكون قد قرأنا ثلاثين جزءًا في رمضان، ثمّ نقول: فيه ثواب؟! كلاّ! فهنا، يجب التعامل مع القرآن بطريقة أخرى، وهنا، يجب فتح القرآن بنظرة أخرى، وهي نظرة الهداية، فتقرأ آية، ثمّ تقول فجأة: «يا للعجب، إنّ هذه الآية تنطبق عليّ! يا للهول، ماذا عليّ أن أفعل الآن؟! وكيف يجب أن أتعامل الآن مع هذا الأمر؟! حسنًا، لنتجاوزها الآن!». كلاّ، توقّف! فبدلاً من أن تقرأ جزءًا من القرآن، توقّف هناك، وصفّ حسابك مع هذه الآية، ثمّ انتقل بعد ذلك إلى آية أخرى؛ لأنّ هذه الآية تخاطبني الآن، وتتحدّث عن ألمي الآن، وقد وضعت يدها بالضبط على موضع ضعفي ونقصي وكدورتي وجهلي ونفسي وعيبي. وحينئذ، اتّخذ قرارًا واحدًا ـ بارك الله فيك ـ واجعل هذه الآية نبراسًا لك.

    1. سورة الإسراء، الآية ۸٢.
    2. سورة الواقعة، الآية ۷٩.

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

10
  • فلو قُمت بهذا العمل منذ اليوم، ستأتي الشرارة التالية أيضًا! ولكن، إن لم تقُم به، وقلت: «لأتجاوزها الآن، ولأعمل على قراءة الجزء الذي التزمت به، وإنهائه بسرعة؛ لأنّ الملائكة ينتظرون، ليُسجّلوا، ويذهبوا لشأنهم، فلأقرأ بهذه الطريقة»، وفعلتَ هذا الأمر، فإنّ للقرآن غيرة، وما معنى ذلك؟ يعني أنّه سيأتي، ويصدّك عن التوفيق التالي، حيث كان من المفروض أن تقدح شرارة في وقت آخر.. بعد عشر دقائق أو ساعة، غير أنّ عملك هذا أدّى إلى أن يأتي القرآن، ويمنع تلك الشرارة، فتأتي هذه الشرارة في ساعة أخرى وتذهب من دون أن تصيبك أنت، بل تصيب شخصًا آخر؛ وهذا هو معنى الغيرة؛ لأنّ القرآن لا يتعامل بالهزل؛ ولهذا، فإنّ هؤلاء يصبحون قُسَاةً في الباطل، وأين تظهر نتيجة ذلك؟ 

  • أ لم تقرؤوا القرآن؟ ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾۱، يا حضرات السادة الخوارج، ألم تقرؤوا هذه الآية: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾٢؟ أم أنّكم قرأتموها؟ أجل، لقد قرأتموها، لكن، ماذا حدث عندما جاء أمير المؤمنين عليه السلام في حرب النهروان، ووقف أمامكم، وأقام عليكم الحجّة، من دون أن تقدروا على الردّ؟ فلماذا جابهتم؟! اقرأوا الآن ما شئتم من القرآن، فإنّ نتيجة ذلك ستظهر حينها، وسيبرز الخبث وتبدو الكدورة في ذلك الحين.

  • أجل، كان هناك ثمانية آلاف نفرٍ يتّسمون بصفاء أكثر، ولم يكن في قلوبهم كلّ ذلك الحقد والحسد، وعندما جاء أمير المؤمنين عليه السلام، كانت بعض المنافذ لا زالت باقية في قلوبهم، وكانوا قد احتفظوا بأماكن فارغة لإدراك الحقيقة، ولم تكن قلوبهم قد امتلأت تمامًا بالنفاق والشقاق؛ ولهذا، حينما جاء أمير المؤمنين عليه السلام ونصحهم، تراجع ثمانية آلاف من الاثني عشر ألفًا، حيث قالوا: عليٌّ يقول الصدق، فقد أراد أن يحارب ونحن الذين منعناه، فما ذنبه هو؟ هو نفسه قال: ارموا المصاحف بالسهام، ونحن جئنا وقلنا: يا عليّ لو فعلت هذا لقطّعناك بسيوفنا الآن، فنحن الذين فعلنا ذلك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ألم تقولوا أنتم ذلك؟! يا للهول، لقد وقعنا في ورطة، يا عزيزي، أنا قلت: لنحارب، والآن تقولون: لا حكم إلا لله؟! فتأتون إلى الذنب الذي ارتكبتموه أنتم، وتلقونه على عاتقي أنا؛ وبهذه التهمة، تحاكمونني وتُنفّذون حكم إعدامي؟! وحينما فكّروا، رأوا أنّ عليًّا عليه السلام يقول الصدق؛ فجاء ذلك الصفاء الذي بقي فيهم بنحو إجماليّ، وأنجاهم؛ ولهذا، لجئوا إلى الاعتزال.

    1. سورة الزمر، الآية ۱۷.
    2. سورة الزمر، الآية ۱۸.

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

11
  • [لكن بقي] أربعة آلاف من صناديدهم، من الذين كانوا يختمون القرآن كلّ يوم.. هم أنفسهم! أولئك الذين كانوا يُردّدون الذكر اليونسيّ أربعة آلاف مرّة كل يوم، والذين كانوا يقولون لا إله إلا الله عشرة آلاف مرّة كلّ يوم، فهم بأنفسهم الذين وقفوا في مواجهة أمير المؤمنين عليه السلام، وهم بأنفسهم الذين جاءوا! فأمير المؤمنين عليه السلام لم يقُل كلامين [مختلفين]، بل قال كلامًا واحدًا سمعه الجميع، وأصغى إليه اثنا عشر ألفًا، وهم ليسوا كُثُرًا، كما أنّه عليه السلام لم يتكلّم بأسلوبين، بل تكلّم بأسلوب واحد، وقال كلامًا واحدًا، والذين وقفوا في وجهه عليه السلام هم المعاندون الذين لَا يَزِيدُهُمْ هذا القرآن وهذه العبادة إِلاّ خَسَارًا. حسنًا، عندما يقول أحدهم: «إنّ الأمر هو هذا ولا يُمكن أن يكون غيره»، فما هو الحلّ حينئذ؟! الحلّ هو الإعدام. وعندما يقول شخص: «اثنان واثنان سبعة، هكذا هي!»، فماذا علينا نقول له حينما نعود إليه؟! فكم هي نتيجة جمع اثنين واثنين؟ يبدو أنّها كانت إلى هذه اللحظة أربعة! ومع ذلك، فإنّ جمع اثنين واثنين سبعة، شئت أم أبيت! انتبهوا، يوجد الآن أيضًا بعض الأفراد الذين [يقولون] اثنان واثنان سبعة! وحينئذ، ما الذي يُمكن فعله حيال ذلك؟! رأى أمير المؤمنين عليه السلام أنّه لا يوجد هنا أيّ حلّ؛ فعندما يقف الإنسان، ويقول: «أنا هكذا، يعني: أنا لا أريد أن أقبل بالكلام، ولا أريد الاعتراف بالحقّ، والكلام كلامي أنا، لا كلام المنطق والعقل، فمن عساكم أن تكونوا أنتم؟! اذهبوا لحال سبيلكم!»، وعندما يتنحّى المنطق والعقل وحقيقة القرآن جانبًا، لا تبقى سوى تلك الأنانية.

  • أهمّية البحث عن المرشد والدليل

  • ولهذا السبب، قالوا: على الإنسان أن يبحث أوّلاً عن دليل، أو ما عُبِّرَ عنه أيضًا بالرفيق.. ألم يقولوا: «الرفيق ثمّ الطريق»؟ كما جاء في بعض العبارات أيضًا: الدليل ثمّ الطريق! فيجب البحث أوّلاً عن الدليل والمرشد؛ وهذا هو المراد من تأكيد الأعاظم الشديد على أنّه لو قضى شخصٌ نصف عمره أو ثلثاه لكي يصل إلى المرشد، لما خسر شيئًا. واعلموا أيضًا أيها الرفقاء أنّ الأمر لا يُحَلُّ بزيادة العلم، لماذا؟ لأنّ الموانع أرَقُّ وأَظْرَفُ بكثير من أن ينجح الإنسان بإزالتها عن طريق هذه العلوم. أجل، إذا كانت يد الإنسان في يد الولاية، فإنّ من شأن هذه العلوم أن تُعينه.. هذه هي حقيقة المسألة.

ضرورة الأستاذ الكامل في طريق السير والسلوك

12
  • حسنًا، لقد قرّرنا ألاّ نأخذ من وقت الرفقاء في هذا الشهر المبارك أكثر من ساعة واحدة، ويبدو أنّها قد انقضت، فنترك تتمّة الموضوع للجلسة القادمة إن شاء الله تعالى.

  •  

  • اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ.