المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1427
التاريخ 1427/09/09
التوضيح
تُجيبُ هذهِ المحاضرةُ عن أسئلةٍ جوهريّةٍ ثلاث: هل للمَعرفةِ قيمةٌ دونَ عمل؟ وما الفرقُ بينَ الأوامرِ الإلهيّةِ المَولويّةِ والإرشاديّة؟ ومَن هُم أُولو الأمرِ حقًا بينَ الشيعةِ وأهلِ السنّة؟ كما تستعرضُ الوصايا الثلاثَ للسائرينَ إلى اللهِ (الزادُ، السفينةُ، الإخلاصُ) من خلالِ قصصٍ وتأمّلاتٍ حولَ ضرورةِ الإيمانِ الصادقِ، وخطرِ العِنادِ والهوى، وأهميّةِ الثباتِ على الحقِّ وإخلاصِ العملِ للهِ تعالى.
هو العليم
المعرفة والعمل بمقتضاها
ثلاثُ وصايا للمسافر إلى الله: الزادُ والسفينةُ والإخلاصُ
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۷ هـ - الجلسة السادسة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدس الله سرّه
أعوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیمِ
بِسمِ اللَهِ الرَّحمَنِ الرَّحیمِ
وصلَّى اللَهُ عَلَى سیِّدنا ونبیِّنا أبیالقاسمِ مُحَمَّدٍ
وعلى آلِهِ الطَّیِبینَ الطّاهِرینَ
واللَعنةُ عَلَى أَعدائِهم أَجمَعینَ
«مَعْرِفَتِي يَا مَوْلَايَ دَلِيلِي عَلَيْكَ وَ حُبِّي لَكَ شَفِيعِي إِلَيْكَ وَ أَنَا وَاثِقٌ مِنْ دَلِيلِي بِدَلَالَتِكَ وَ سَاكِنٌ مِنْ شَفِيعِي إِلَى شَفَاعَتِكَ»
هل للمَعرفةِ قيمةٌ بِلا عَمَل؟
تقدّم للرفقاءِ أنَّ المعرفةَ لا معنى لها بدونِ عملٍ. وبشكلٍ عام، فإنَّ الالتزامَ بعقيدةٍ ما يعني ترتيبَ الأثرِ على أصول تلكَ العقيدةِ ولوازمِها وملزوماتِها وآثارِها الماهويّةِ، وإلا فلا يمكنُ للالتزامِ أن يكونَ لهُ معنى. إذا كانَ عملُ إنسانٍ ما ومِهنتُهُ التجارةَ، ويقتاتُ من خلالِها، فلا يمكنُهُ الجلوسُ في المنزلِ واعتبارُ نفسِهِ مُلزمًا بهذهِ المهنةِ فحسب؛ بل يجبُ عليهِ أن يتحرَّكَ. يأتي ويُشمِّرُ عن ساعديهِ، ويدخل السوقَ، ويعمل بالبيعِ والشراءِ، وينتبه لئلا يُخدَعَ، وينتبه لئلا تُبدَّدَ أموالُهُ وتُهدَرَ، ويُدقِّقُ في تفاصيلِ هذهِ المسألةِ الدِّقَّةَ الكافيةَ، ويكونُ ذا نظرةٍ مستقبليةٍ. فهذهِ الأمورُ بمجموعِها أمورٌ يجبُ على التاجرِ أن يُدقِّقَ فيها. وهكذا كلُّ مَنْ يعتقدُ بمسألةٍ ما، يجبُ أن يلتزمَ بالأمورِ المتعلِّقةِ بها، وهذا الالتزامُ مسألةٌ فطريّةٌ لا تحتاجُ إلى توصيةٍ.
نوعانِ مِنَ الأوامِرِ الإلهيّة: المَولويّةُ والإرشاديّةُ
في الآيةِ الشريفةِ التي ذُكِرَت ليلةَ أمسِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}۱، تُسمَّى هذهِ الأوامرُ بالأوامرِ الإرشاديّةِ، لا الأوامرِ المَولويّةِ. الأوامرُ المَولويّةُ هيَ الأوامرُ التي تنشأُ حُجِّيتُها وإلزامُها من جهةِ الآمِرِ، وقبلَ صدورِ الأمرِ من جهةِ الآمِرِ، لا يكونُ للمأمورِ بهِ أيُّ حُجِّيةٍ؛ مثلًا: الصلاةُ، والصومُ، والزكاةُ، والحجُّ، وأمثالُ ذلكَ. هذهِ الأمورُ قبلَ أن يأمرَ بها الشارعُ المقدَّسُ لم يكن لها أيُّ إلزامٍ. فلو لم يكن أحدٌ يُصلِّي، لم يكن يترتَّبُ عليهِ ذنبٌ. ولو لم يكن أحدٌ يحجُّ قبلَ نزولِ آيةِ وجوبِ الحجِّ، لم يكن قد ارتكبَ ذنبًا. أو الصومُ، فإنَّ وجوبَ الصومِ يأتي بعدَ صدورِ حكمِ الصومِ من جهةِ الشارعِ، أمّا قبلَ ذلكَ فلا؛ لا لزومَ لهُ.
ولكنَّ الأوامرَ الإرشاديّةَ هيَ الأوامرُ التي يحكمُ العقلُ نفسُهُ بإلزامِها حتّى بدونِ النظرِ إلى صدورِ ذلكَ الأمرِ. فمثلًا، لنفترض طاعةَ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله؛ هذا لا يحتاجُ إلى أن يقولَ اللهُ: «أطيعوا رسولي». سواءٌ قالَ أم لم يقل، يجبُ على الإنسانِ أن يُطيعَ. حتّى لو لم تكن لدينا في القرآنِ آيةٌ واحدةٌ بشأنِ طاعةِ النبيِّ صلّى الله عليه وآله، فإنَّ نفسَ المسألةِ والموضوعِ والحكمِ في القضيّةِ يكفي للالتزامِ بهذهِ المسألةِ؛ يكفي. لا حاجةَ لحكمٍ خاصٍّ وصدورِ أمرٍ خاصٍّ من جهةِ الشارعِ. أو مثلُ وجوبِ الصِّدقِ وحُرمةِ الكَذِبِ. وجوبُ الصِّدقِ مسألةٌ لا تحتاجُ إلى أن تأتيَ من جهةِ الشارعِ. فِطرةُ الإنسانِ وعقلُهُ يحكمانِ بهذهِ المسألةِ. حتّى لو لم تكن لدينا في الشرعِ روايةٌ أو آيةٌ بأنَّ الصِّدقَ واجبٌ والكَذِبَ حرامٌ، فإنَّ نفسَ هذهِ المسألةِ تكفي، وإدراكُ هذهِ المسألةِ يكفي لكي يلتزمَ الإنسانُ بهذا الأمرِ. وتُسمَّى هذهِ بالأوامرِ الإرشاديّةِ.
لماذا يُفسِدُ التفكيرُ الزائدُ في الأوامِرِ الإلهيّةِ صفاءَها؟
الآنَ، في هذهِ الآيةِ الشريفةِ التي تقولُ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}، يقولُ اللهُ تعالى: يا أيُّها الناسُ، يجبُ عليكم طاعةُ اللهِ لا غيرِ اللهِ. يجبُ أن تضعوا اللهَ نُصبَ أعيُنِكم في جميعِ أمورِ حياتِكم. لا تخلطوا اللهَ بغيرِ اللهِ. فعندما يأتي أمرٌ من جهةِ النبيِّ صلّى الله عليه وآله أو اللهِ، فلا تجلسوا تُفكِّرونَ فيهِ وتتأمَّلونَ وتُقلِّبونهُ ظَهرًا لِبَطنٍ: حسنًا، كيفَ أُنفِّذُ هذا الآنَ؟ وبأيِّ شكلٍ أُنفِّذُهُ لئلا يمسَّ أحدًا بسوءٍ؟ كيفَ أُنفِّذُهُ بحيثُ لا ينكسِرُ قلبُ فلانٍ المُرتبطِ بهذهِ القضيّةِ؟ عندما يأتي أمرٌ من جهةِ اللهِ، فلا تُفكِّروا فيهِ هكذا، بل دعوهُ يأتي ويجري كما هو. إذا فكَّرتُم فيهِ، أفسدتُموهُ. أذهبتم صفاءَه، وأفسدتم لُطفَهُ وظرافتَهُ وروحانيّتَهُ ورَوحَ انتسابِهِ إلى ربِّهِ. وإن نفَّذتُموهُ لاحقًا كما هو مُرادُ اللهِ ورضاهُ، فإنَّ فائدتَهُ قليلةٌ. ليسَ أنَّهُ عديمُ الفائدةِ، لكنَّهُ لا يعودُ يحمِلُ ذلكَ اللُّطفَ الأوَّلَ.
السَّالِكُ والطَّاعةُ الفوريّةُ: كيفَ تكونُ الاستِجابةُ المُثلى؟
يحسن بالسالكِ عندما يُقالُ لهُ أمرٌ ألا يُفكِّرَ فيهِ، وألا يُقلِّبَهُ ظَهرًا لِبَطنٍ، وألا يزيدَ أو يُنقِصَ فيهِ، كأن يقولَ: حسنًا، أأقولُ هذا الآنَ.... حسنًا، في بعضِ المواردِ تكونُ المسألةُ لا علاقةَ لها بالإنسانِ أصلًا، فيتصرَّفُ الإنسانُ فيها بشجاعةٍ وجُرأةٍ بالغةٍ ويقولُ. وهو بذلك لم يأتِ بمُعجزةٍ؛ لأنَّ القضيّةَ لا تخصُّهُ. يُقالُ لهُ: يا سيِّدُ، اذهب وقُل الأمرَ الفُلانيَّ لِفُلانٍ. حسنًا، هذا لا علاقةَ لهُ بهِ ولا أيُّ ارتباطٍ، فيذهبُ ويقولُ. لم يأتِ بمُعجزةٍ، لقد قامَ بعملٍ عاديٍّ. وأحيانًا يُقالُ لهُ أمرٌ بحيثُ يكونُ هو نفسُهُ والأمورُ المُتعلِّقةُ بهِ مُرتبطةً بهذا الأمر. فهناكَ، الرجلُ هوَ الذي لا يتريّث في الطاعة. يُقالُ لهُ: اذهب، فينطلِقُ، ولا يتمهَّلُ هكذا؛ يُشغِّلُ المُحرِّكَ وينطلِقُ. توقَّف! كيفَ أقولُ؟ لأقُل بطريقةٍ ما! أأقولُ بنفسي الآنَ؟ أأقولُ لآخرَ؟
قصّةُ الرَّجُلِ الذي لم يُنفِّذ وَصيّةَ العَلّامةِ بِدِقّةٍ: ما الدَّرسُ المُستَفاد؟
ذاتَ يومٍ، قالَ لي المرحومُ العلامةُ: اذهب وقُل لِفُلانٍ كذا، وأعطاني رسالةً، ظَرفًا، وقالَ: اذهب وأعطِ هذا لِفُلانٍ وقُل لهُ أن يُوصِلَهُ إلى أُمِّهِ، يُوصله إلى يدِ أُمِّهِ. فأعطيتُ الظرفَ لهُ وقلتُ: يقولُ سماحتُهُ أن تُعطيَ هذا لوالدتِكَ، فاذهب وأعطِهِ لها وقُل مثلًا: فُلانٌ أعطاهُ. مرَّ يومانِ أو ثلاثةٌ على هذهِ القضيّةِ، وذات ليلةٍ رأيتُ ذلكَ الرجلَ، فقلتُ له: حسنًا، هل أعطيتَها الظرف؟. قالَ: أعطيت الظرف، ولكن ليسَ بنفسي! أعطيتُهُ لِأحد آخرَ ليأخُذهُ.
فقلتُ: حسنًا، ألم يكن يستطيعُ سماحتُهُ أن يُعطيَهُ لآخرَ ليُسلّمهُ هو. لم يتأثَّر ذلكَ الرجلُ كثيرًا بكلامي هذا، وقالَ: مقصودُ سماحتِهِ أن يصِلَ هذا الأمرُ إليها.
قلتُ: لا، أنتَ مُخطئٌ! مقصودُ سماحتِهِ أن تأخُذَ أنتَ هذا الظرفَ بيدِكَ وتُعطيَهُ لأُمِّكَ، لأنَّ بينَكَ وبينَ أُمِّكَ كُدورةً، وأرادَ سماحتُهُ بواسطةِ هذهِ القضيّةِ أن يُنشِئَ نوعًا من الارتباطِ بينكُما، وأنتَ بتصرُّفِكَ هذا تسبَّبتَ في عدمِ تحقُّقِ مقصودِ سماحتِهِ. لكنَّهُ لم يقبَل، أي كانَ في وضعٍ لم يقبَل فيهِ، وقالَ: لا، تشخيصُنا كانَ هكذا. فلا ينبغي للإنسانِ أن يُقلِّبَ المسألةَ ظَهرًا لِبَطنٍ. عندما يقولونَ: اذهب وأعطِ، فليذهب هو نفسُهُ ويُعطِ. وعندما يقولونَ: افعَل هذا العملَ، يجبُ على الإنسانِ أن يقومَ هو نفسُهُ به.
المؤمنُ الكَيِّسُ: كيفَ يُحقِّقُ الاطمِئنانَ القلبيَّ في الطَّاعةِ؟
المؤمنُ الفَطِنُ الكَيِّسُ هوَ المؤمنُ الذي يُريدُ في مقامِ الطاعةِ أن يُؤدِّيَ العملَ بالكيفيّةِ نفسِها التي يحصُلُ لهُ بها الاطمئنانُ القلبيُّ بأنَّهُ مَرضيٌّ للّه، وإن أخطأَ. لا بأسَ، لا إشكالَ، حتّى لو أخطأَ فلا بأسَ. حسنًا، الخطأُ أمرٌ طبيعيٌّ، طبيعيٌّ أن يُخطِئَ الإنسانُ في التشخيصِ. ولكن أن يأتيَ الإنسانُ ويخلِطَ ذلكَ اللُّطفَ والروحانيّةَ والظَّرافةَ لنُزولِ إرادةِ اللهِ ومشيئتِهِ بالكثُراتِ المُدَّخَرةِ في النفسِ - لقد خلطنا كثراتٍ كثيرةً في أنفُسِنا، فيها خَلطٌ كثيرٌ، خلطنا الكثيرَ من الأهواءِ والرَّغباتِ المُبعِدةِ عن الحقِّ وقُربِ الحقِّ في دواخِلِنا، لدينا الكثيرُ من هذهِ الرَّغباتِ والآمالِ المُتراكِمةِ في النفسِ - فهل يجبُ أن تبقى على هذا المِنوالِ أم تخرُجَ يومًا ما؟ إذا كانَ يجبُ أن تبقى، فلماذا نأتي ونُصلِّي ونصومُ؟ لماذا نأتي ونعبُدُ؟ ولماذا نُطيعُ؟ إذا كانَ المُقرَّرُ أن تبقى هذهِ الآمالُ في النفسِ ونُفارِقَ الدنيا بهذهِ الكيفيّةِ أيضًا، فلماذا نُعذِّبُ أنفُسَنا؟ لماذا نُضيِّقُ على أنفُسِنا قليلًا؟ فلنُنهِ الأمرَ تمامًا إذن، ولنضرِب كلِّ شيءٍ عرضَ الحائِطِ، ونفعَل ما يحلو لنا في هذهِ الدنيا، وبأيِّ وضعٍ...
ظُلُماتُ العِنادِ: لماذا يبدو كلامُ البَعضِ مُظلِمًا؟
كنتُ ذاتَ مرَّةٍ أُفكِّرُ بشأنِ هؤلاءِ الأفرادِ في مذاهِبِ العامَّةِ وأمثالِها. حسنًا، يمكنُنا أن نقولَ عن عامَّتِهم إنَّهم مُستضعفونَ وجاهلونَ بالأمورِ. ولكن هؤلاءِ العُلماءُ منهم الذينَ هم مُطَّلِعونَ جدًّا على الأمورِ، وعلى الرِّواياتِ...، فمنهم مُطَّلِعونَ جيِّدًا على الرِّواياتِ. كنتُ أجلِسُ أحيانًا في المسجدِ النبويِّ، وبعضُ هؤلاءِ الذينَ كانوا يتحدَّثونَ ويُجيبونَ، كنتُ أرى أنَّهم مُطَّلِعونَ جيِّدًا على رواياتِهم ومسائلِهم وأحكامِهم. إنَّهم أفرادٌ مُطَّلِعونَ. كنتُ أُفكِّرُ في نفسي أحيانًا...، ولكن عندما كانَ هذا يتحدَّثُ، كنتُ أقولُ: لماذا يحمِلُ كلامُهُ كلَّ هذهِ الكُدورةِ؟ لماذا كلُّ كلمةٍ يقولُها فكأنَّما تخرُجُ ظُلمةٌ من فمِهِ وتترُكُ أثرًا ظُلمانيًّا في نفسِ الإنسانِ؟. حسنًا، أحدُ الأسبابِ هوَ أنَّ هؤلاءِ أهلُ عِنادٍ، وبِمقدارِ ما يقوى فيهم العِنادُ، تتراكَمُ طبعًا كُدورةُ النفسِ وكُدورةُ الكثراتِ في نُفوسِهم، خاصّةً أولئكَ الذينَ تقدَّمَ بهمُ السِّنُّ، فهذهِ المسألةُ مهمّة جدًّا.
آثارُ جمالِكَ في عينِ كلِّ مُؤمِنٍ | *** | آياتُ جلالِكَ في صَدرِ كلِّ كافِرٍ |
عندما يتحدَّثُ هؤلاءِ، يتَّضِحُ تمامًا أنَّ جلالَ اللهِ قد نزلَ عليهم وأبعدَهم عنهُ وطرَدَهم، وترَكَهم في ظُلُماتِ النفسِ الأمَّارةِ والعِنادِ والاستِكبارِ...! إنَّهم عجيبونَ جدًّا.
قصّةُ الشَّيخِ مُغنيّةَ مَعَ المُعتَرِضِ في المَسجِدِ النَّبَويِّ: إلى أيِّ حَدٍّ يصِلُ العِناد؟
قرأتُ قِصّةً قبلَ فترةٍ في كتابٍ للشيخِ جواد مُغنيّة رحمه الله، كانَ رجلاً صالحًا، كاتِبًا، مُحِبًّا لأهلِ البيتِ عليهم السلام، أهلَ روايةٍ وما إلى ذلكَ، كانَ رجلاً صالحًا. وكانَ قلمُهُ أيضًا قلمًا جيِّدًا وسَلِسًا جدًّا. قالَ: كنتُ ذاتَ مرَّةٍ في المسجدِ النبويِّ أزورُ، فتحدَّثَ معيَ أحدُ أولئكَ الموجودينَ هناكَ من مأموريهم، من طُلّابِهم، من جماعةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المُنكَرِ الذينَ يقِفونَ ويُوجِّهونَ الناس حسبَ مذهَبِهم. اعترضَ على أحدهم، فاعترضتُ أنا، فدخلَ معي في حديثٍ. ثمَّ في أثناءِ الحديثِ، وصلَ بهِ التَّطاوُلُ إلى حدِّ أن قالَ: لو أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وآله حَيِيَ الآنَ وخرجَ من هنا وقالَ: كُفَّ عن عُمَرَ، فلن أكُفَّ! ـ يا لهُ من رجلٍ جاهِلٍ حقًّا! ـ قالَ الشيخُ مُغنيّة رحمه الله: فلمَّا سمِعتُ هذا الكلامَ، رفعتُ يدي وصفعتُهُ صَفعةً قويّةً على أُذُنِهِ، بقوّةٍ! فسقَطَ. ووصلَ أمرُنا إلى المَحكَمةِ والقاضي وما إلى ذلكَ. حسنًا، هناكَ قالَ القاضي: لماذا فعلتَ هذا؟! جاءَ ذلكَ الرجلُ ونسَبَ إليَّ أكاذيبَ كثيرةً، فقلتُ: لا! أُقسِمُ أنَّ هذا وقَفَ هنا وقالَ هذا الكلامَ، وحُكمُهُ الإعدامُ، وهوَ مُرتَدٌّ ويجبُ إعدامُهُ. القاضي هناكَ لم يقُل بالإعدامِ، ولكنَّهُ التفتَ إليهِ وقالَ: لقد أخطأتَ بقولِكَ مِثلَ هذا الكلامِ! لو خرجَ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وقال اترك عمر لما تركته. أي انظُروا إلى هذا العِنادِ! وبرَّؤوا الشيخَ مُغنيّة رحمه الله وخُلاصةُ الأمرِ أنّ المشكلة لم تتطوَّر إلى أبعدَ من ذلك. والآنَ انظُروا إلى أيِّ حدٍّ يصِلُ هذا العِنادُ؟! تأتي النفسُ وتعاند، أفتظُنُّونَ أنَّ هؤلاءِ الذينَ وقفوا في وجهِ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام كانوا غير هؤلاء؟! كانوا هؤلاءِ أنفُسَهم. فهذا الأحمَقُ نفسُهُ لو أعدتَهُ ۱٤۰۰ سنةٍ إلى الوراءِ، لكان هوَ نفسُهُ الذي دفع البابَ ومزَّق جسَدَ الزَّهراءِ عليها السلام وقتَلها، هو نفسه. هذا الذي يخرُجُ الآنَ ويقولُ: لو قالَ النبيُّ صلّى الله عليه وآله كُفَّ عن عُمَرَ، فلن أكُفَّ، هوَ نفسُهُ يفعل ذلك، ولكنَّهُ جاءَ بعدَ ۱٤۰۰ سنةٍ. حسنًا، ماذا يحدُثُ للإنسانِ لكي يصِلَ في مقامِ العِنادِ والغَرَضِ إلى حدِّ أن يتجرَّأَ بمِثلِ هذهِ الجُرأةِ؟ حشَرَ اللهُ هذا الرجلَ معَ وليّه.
قصّةُ المُحاوَرةِ مَعَ الرَّجُلِ الآخَرِ في الحَرَمِ: عِنادٌ أم جَهلٌ؟
ذاتَ مرَّةٍ، كنتُ واقِفًا بجوارِ حَرَمِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله أُصلِّي، فجاءَ أحدُ هؤلاءِ وتحدَّثنا. قُبَيلَ الظُّهرِ، فقلتُ: سأدعو دُعاءً وأنتَ قُل آمين. قالَ: ماذا؟. قلتُ: أدعو اللهَ أن يحشُرَني يومَ القيامةِ معَ عليٍّ عليه السلام، ويحشُرَكَ معَ عُمَرَ نفسِهِ. قالَ: اللهمَّ آمين. قلتُ: وأنا أقولُ ألفَ آمين!. ألفَ مرَّةٍ آمين! حسنًا، هذهِ المسألةُ، هذهِ القضيّةُ تستحِقُّ الدِّراسةَ، تستحِقُّ الدِّراسةَ لكي يحذَرَ الإنسانُ وينتبِهَ لئلا يصِلَ الأمرُ -لا قدَّرَ اللهُ- إلى هذا الحدِّ. النفسُ إذا أرادت أن تظهَرَ وتُخرِجَ ما في نِيَّاتِها، فإنَّها تقِفُ حتّى في وجهِ أعلى مقامٍ، وتُريدُ أن تطرَحَ مسألتَها.
كَلامُ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام: مِعيارُ الحَقِّ وعَدَمُ الظُّلمِ المُطلَقُ
حسنًا، نحنُ نقولُ ذلكَ عن غيرِ المُتديِّنِ المُرتَدِّ الفُلانيِّ الذي قالَ ذلكَ الكلامَ هناكَ. الأمرُ كذلكَ في كلِّ مكانٍ، الأمرُ كذلكَ في كلِّ مكانٍ. مُراعاةُ الحقِّ ورؤيةُ الحقِّ وسُلوكُ الحقِّ وعدمُ التَّعدِّي موجودٌ في كلِّ مكانٍ. مَنْ يفهَمُ هذا الأمرَ؟ هذا الأمرُ قد وصلَ إليهِ أميرُ المؤمنينَ عليه السلام. يقولُ عليه السلام: «وَ اللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ»۱. هذا كلامٌ يجبُ الاهتمام بهِ ودِراستُهُ. فلماذا يقولُ أميرُ المؤمنينَ عليه السلام مِثلَ هذا الكلامِ؟ لماذا؟ لأنَّ إعطاءَ الأقاليمِ السَّبعةِ أمرٌ اعتِباريٌّ؛ يُعطى الإنسانِ يومًا ويُؤخَذُ منهُ في يومٍ آخرَ. أمّا أخذُ حبّةٍ بغيرِ حقٍّ من فمِ نملةٍ، فهذا أمرٌ واقِعيٌّ، أمرٌ حقيقيٌّ، وظُلمٌ. والظُّلمُ ظُلمٌ، لا صغيرَ لهُ ولا كبيرَ. الظُّلمُ ظُلمٌ، لا صغيرَ لهُ ولا كبيرَ. هذا هوَ رجُلُ الحقِّ. هذا هوَ الذي لم يعُد فيهِ هوًى، ولم يعُد فيهِ هَوَسٌ.
مَنْ هُم أُولو الأمرِ الحَقيقيّونَ؟ بَينَ رؤيةِ الشِّيعةِ وأهلِ السُّنّةِ
الآيةُ الشَّريفةُ التي تقولُ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}٢، ذُكِرَ أنَّها من الأوامِرِ الإرشاديّةِ. أي لا تحتاجُ إلى أن يقولَ اللهُ: أطيعوني، وأطيعوا النبيَّ صلّى الله عليه وآله وأُولي الأمرِ. إنَّها مسألةٌ بَديهيّةٌ. حسنًا، فعندما يعتقِدُ الإنسانُ باللهِ والصَّانِعِ الأوَّلِ والخالِقِ والمُديرِ والمُدَبِّرِ، فمِنَ الطبيعيِّ أن يُوجِبَ على نفسِهِ طاعتَهُ. ولأنَّ الرسولَ صلّى الله عليه وآله قد جاءَ من قِبَلِهِ، فمِنَ الطبيعيِّ أن تكونَ طاعةُ الرسولِ صلّى الله عليه وآله هيَ طاعةَ اللهِ. ولأنَّ أُولي الأمرِ قد جاؤوا من قِبَلِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله، فمِنَ الطبيعيِّ أن تكونَ طاعةُ أُولي الأمرِ هيَ طاعةَ الرسولِ صلّى الله عليه وآله، وطاعةُ الرسولِ صلّى الله عليه وآله هيَ طاعةُ اللهِ. هذهِ مسألةٌ واضِحةٌ كوُضوحِ اثنينِ زائد اثنينِ يُساوي أربعةً.
مَفهومُ الأمرِ في القُرآنِ: تَكوينيٌّ أم تَشريعيٌّ؟
أُولو الأمرِ يعني الذينَ بأيديهم زِمامُ أمورِ الشَّرعِ. طبعًا، إذا أردنا أن نُعطيَ معنًى أسمى لهذهِ الآيةِ، فإنَّنا نعتَبِرُ مسألةَ الأمرِ هيَ مسألةَ الأمرِ التَّكوينيِّ نفسِها، كما في {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}۱. فمسألةُ الأمرِ هيَ مسألةُ عالَمِ المَشيئةِ وعالَمِ إرادةِ الذَّاتِ، والخَلقُ عِبارةٌ عن ظُهورِ تلكَ المَشيئةِ والإرادةِ. ولكن سمِعتُ بعضَ المُعاصِرينَ قد فسَّروا الأمرَ بالجوانِبِ الاعتِباريّةِ والتَّشريعيّةِ، وظنُّوا أنَّ الأمرَ هوَ هذهِ الأوامِرُ والنَّواهي العاديّةُ والظَّاهِريّةُ.
ولكن سواءٌ كانَ ذلكَ المعنى أو هذا المعنى، فإنَّ أُولي الأمرِ، طِبقًا لنصِّ رواياتِ أهلِ البيتِ عليهم السلام، عِبارةٌ عن الأربعةَ عَشَرَ مَعصومًا. هؤلاءِ هم أُولو الأمرِ، أيّ الأفرادُ الذينَ بأيديهم زِمامُ التَّشريعِ. همُ الذينَ لهمُ القَيُّوميَّةُ على التَّشريعِ، والتَّشريعُ قائِمٌ بهم؛ إمَّا بالوَحيِ مِثلَ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله، وإمَّا بالتَّبيينِ والتَّوضيحِ مِثلَ الاثنَي عَشَرَ مَعصومًا والاثنَي عَشَرَ إمامًا الذينَ بأيديهم توضيحُ وتَبيينُ الوَحيِ. الإمامُ عليه السلام وحدَهُ هوَ الذي يستطيعُ بيانَ الأحكامِ. أنا وأمثالي لا نستطيعُ البيانَ. يجبُ علينا أن نرى ما يقولُهُ الإمامُ عليه السلام ونُطيعَ، لا نُنقِصُ ولا نزيدُ، ولا نُفسِّرُ من عندِ أنفُسِنا، ولا نُوجِّهُ بالرَّأيِ والاعتِقادِ. ما يأتي من جهةِ المَعصومِ عليه السلام، هذا يُسمَّى أُولي الأمرِ.
أُولو الأمرِ عِندَ أهلِ السُّنّةِ: مُفارَقاتٌ تاريخيّةٌ مُحرِجةٌ
الآنَ، أهلُ السُّنَّةِ يقولونَ عن أيِّ إنسانٍ أُولي الأمرِ! كانوا يقولونَ عن خُلَفاءِ بني أُمَيَّةَ أُولي الأمرِ! كانوا يقولونَ عن الخُلَفاءِ الفاسِقينَ الفاجِرينَ أُولي الأمرِ! كانوا يقولونَ عن خُلَفاءِ بني العبَّاسِ أُولي الأمرِ! أي الذينَ بأيديهم زِمامُ الحُكمِ. أيُّ خُلَفاءَ؟ ما شاءَ اللهُ، الواحِدُ منهم أحسَنُ من الآخَرِ! ما شاءَ اللهُ، الواحِدُ منهم أحسَنُ من الآخَرِ! حقًّا، يخجَلُ الإنسانُ حتّى من أن يتلفَّظَ بأنَّ اللَّقَبَ نفسَهُ الذي أعطاهُ اللهُ تعالى للنبيِّ صلّى الله عليه وآله ولأميرِ المؤمنينَ عليه السلام، ينسِبُهُ أفرادٌ لأنفُسِهم قضَوا ليلتَهم حتّى الصَّباحِ يشرَبونَ الخَمرَ لدرجةِ أنَّهم كانوا على وشكِ الانفِجارِ من شِدَّةِ الخَمرِ! هكذا كُتِبَ في التَّاريخِ! وقضَوا ليلتَهم حتّى الصَّباحِ معَ نِساءٍ فاجِراتٍ، ثمَّ في حالةِ السُّكرِ ألقَوا العَباءةَ على رأسِ امرأةٍ فاجِرةٍ، وأخَذوها بِعِمامَتِهِ إلى المسجِدِ لإقامةِ صلاةِ الجَماعةِ! هؤلاءِ هم أُولو الأمرِ! ما شاءَ اللهُ! ما شاءَ اللهُ! حقًّا، يتعجَّبُ الإنسانُ، ألا يخجَلُ أهلُ السُّنَّةِ هؤلاءِ من أنفُسِهم؟
حسنًا، ماذا تقولُ الشِّيعةُ؟ الشِّيعةُ تقولُ: يا عزيزي، أُولو الأمرِ هؤلاءِ الذينَ قالَ عنهمُ اللهُ مُحدَّدونَ؛ أوَّلُهم أميرُ المؤمنينَ عليه السلام، ثمَّ الإمامُ الحسَنُ المُجتَبى عليه السلام، والإمامُ الحُسَينُ عليه السلام، والإمامُ السَّجَّادُ عليه السلام، حتّى آخِرِهم إمامُ الزَّمانِ عليه السلام. هذا تاريخُهم، وهذا كِتابُهم، وهذهِ مسائلُكم أنتم، فاذهَبوا وشاهِدوا، وهذا ما عندَنا.
وأنتم ماذا؟ تفضَّلوا؟ أُولي الأمرِ عندَكم يزيدُ بنُ مُعاويةَ! ما شاءَ اللهُ! ما شاءَ اللهُ! لاعِبُ الكِلابِ، لاعِبُ القِمارِ، لاعِبُ الشِّطرَنجِ، شارِبُ الخَمرِ، الجاني، الفاسِقُ، قاتِلُ ابنِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله، و...! ضَع نِقاطًا إلى ما لا نهاية...! هذا واحِدٌ! ومَنْ غيرُهُ؟ الوَليدُ بنُ يزيدَ، وهِشامُ بنُ عبدِ الملِكِ، وعبدُ الملِكِ بنُ مَروانَ، مَروانُ! حقًّا! وذاكَ هارونُ الرَّشيدُ وليالي بَغدادِهِ، وكذا وكذا، والمأمونُ، والمُتوَكِّلُ الذي...! أحدُ أُولي الأمرِ هوَ هذا المُتوَكِّلُ الذي صرَّحوا بأنَّ لفظَ أُولي الأمرِ ينطَبِقُ على جَنابِ المُتوَكِّلِ هذا! المُتوَكِّلُ الذي خرَّبَ قبرَ سيِّدِ الشُّهَداءِ عليه السلام عِدَّةَ مرَّاتٍ، وكانَ يقتُلُ الذينَ يذهَبونَ للزِّيارةِ! جَنابُ المُتوَكِّلِ هذا نفسُهُ! لَهوُهُ بالنِّساءِ مَشهورٌ في التَّاريخِ، وشُربُهُ للخَمرِ، ولَهوُهُ بالنِّساءِ، وكذا! جعَلَ سامَرَّاءَ بيتَ دَعارةٍ لنفسِهِ ولِحاشِيَتِهِ وجُنودِهِ! وما فعَلوا بالأئمَّةِ عليهم السلام، فذلكَ أمرٌ آخَرُ! تلكَ لها مسائلُها! المُتوَكِّلُ من جُملةِ الذينَ هم لدى أهلِ السُّنَّةِ نصٌّ على أنَّهم من أُولي الأمرِ! حقًّا، ماذا يُجيبونَ التَّاريخَ؟! هل فكَّروا حقًّا؟!
مَنْ هُم أُولو الأمرِ عِندَ الشِّيعةِ؟ وضُوحٌ ودِقّةٌ
حسنًا، الشِّيعةُ تقولُ: أولو الأمرِ عندَنا هؤلاءِ. أُولو الأمرِ عندَنا اثنا عَشَرَ وليًّا فقط. حسنًا، النبيُّ صلّى الله عليه وآله وفاطِمةُ عليها السلام مَعصومانِ، وفاطِمةُ الزَّهراءُ عليها السلام التي لها مَقامُ العِصمةِ، معَ هؤلاءِ يُصبِحونَ أربعةَ عَشَرَ مَعصومًا. كِتابُهم مُحدَّدٌ، وتاريخُهم وسيرتُهم وأحوالُهم مُحدَّدةٌ. اذهَبوا أنتم وانظُروا. اذهَبوا أنتم وانظُروا أحوالَ الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام. لماذا نقولُ نحنُ؟ اذهَبوا أنتم وانظُروا أحوالَ موسى بنِ جَعفَرٍ عليهما السلام، اذهَبوا أنتم وانظُروا أحوالَ الإمامِ الرِّضا عليه السلام. لا تسمَعوا مِنّا أصلًا. يعني حقًّا، ألا يخجَل هؤلاءِ؟ ماذا لديهم ليُجيبوا بهِ العالَمَ اليوم؟ إذا سألَهُمُ العالَمُ، سألَهم نَصرانيٌّ، سألَهم يَهوديٌّ: أنتمُ الذينَ كنتم تقولونَ للمُتوَكِّلِ والوَليدِ بنِ يزيدَ "أُولي الأمرِ" كما تقولونَ للنبيِّ صلّى الله عليه وآله، ذلكَ الوَليدُ الذي لمَّا تفاءَلَ بالقُرآنِ جاءت هذهِ الآيةُ: {... وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}۱، غَضِبَ وقالَ: القُرآنُ يقولُ لي جَبَّارٌ عَنيدٌ!. ثمَّ قالَ شِعرًا! قالَ:
أتُوعِدُ كلَّ جَبّارٍ عَنيدٍ | *** | فهَا أنَا ذاكَ جَبّارٌ عَنيدُ |
إذا ما جِئْتَ ربَّكَ يومَ حَشرٍ | *** | فقُل يا ربِّ مَزَّقَني الوَليدُ |
وضَعَ القُرآنَ على الحائِطِ ثمَّ أخَذَ قَوسَهُ ونُشَّابَهُ وضرَبَهُ بهِ، وضرَبَ هذا القُرآنَ حتّى مَزَّقَهُ! هذا جَنابُهُ من أُولي الأمرِ! يعني هل تتصوَّرونَ؟ أحدُ الذين لديهم نصٌّ على أنَّهم من أُولي الأمرِ - لأنَّهم يقولونَ لدينا اثنا عَشَرَ من أُولي الأمرِ، على نفسِ سِياقِ الرِّوايةِ التي سمِعوها عن رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله: «إنَّ أئِمَّتي كلَّهم من قُرَيشٍ وهمُ اثنا عَشَرَ» - جاؤوا واختاروا اثنَي عَشَرَ. حسنًا، هؤلاءِ أكثَرُ، بِضعةٌ وعِشرونَ نَفرًا. جاؤوا واختاروا من جُملةِ هؤلاءِ نُخبةً! صَفوةَ الخُلَفاءِ هؤلاءِ. من جُملةِ هذهِ الصَّفوةِ، هذهِ الصَّفوةُ بالذَّاتِ هم جَنابُ الوَليدِ بنِ يزيدَ وجَنابُ المُتوَكِّلِ وأمثالُهم! هؤلاءِ همُ الجَميلونَ وخُلاصةُ الأمرِ همُ المُستَقيمونَ! يعلَمونَ كلَّ هذا، الشِّيعةُ تقولُ: أُولو الأمرِ همُ المَعصومونَ فقط، لا الفَقيهُ، ولا الوَليُّ الفَقيهِ، ولا الحاكِمُ، ولا المَرجِعُ، ولا العالِمُ. لا أحدَ من هؤلاءِ هوَ من أُولي الأمرِ.
أُولو الأمرِ يعني الأربعةَ عَشَرَ مَعصومًا، والسَّلام! هذا ما تقولُهُ الشِّيعةُ. وهم مُحدَّدونَ، أفرادٌ مُحدَّدونَ، تاريخُهم أيضًا مُحدَّدٌ، والجميعُ يعلَمونَ. الآنَ، بينَنا وبينَ اللهِ، لو جاءَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وصَرَّحَ بِولايةِ وخِلافةِ الأئِمَّةِ المَعصومينَ عليهم السلام، حسنًا، لم يعُد بِحاجةٍ إلى أن يأتيَ ويقولَ: تعالَوا الآنَ وأطيعوا هؤلاءِ. حسنًا، الأمرُ واضِحٌ. {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}۱يعني هؤلاءِ. حسنًا، فماذا يكون هذا؟ هذا عمل قيّم. العَمَلُ يعني الانقِيادَ والطَّاعةَ. مَنْ يستهينُ بعَمَلِ مَدرَسةٍ ما، يعني أنَّهُ لا يُؤمِنُ بتلكَ المَدرَسةِ. هذا هوَ المَعنى. الإيمانُ شيءٌ والعِلمُ شيءٌ آخَرُ. الإيمانُ! القَبولُ! التَّسليمُ! هذانِ شيئانِ.
الإيمانُ والعَمَلُ: لماذا يتكاسَلُ البَعضُ عَنِ العِبادةِ؟
كانوا يأتونَ إلى المرحومِ العلامةِ ويقولونَ: يا سيِّدُ، نحنُ هنا مُنذُ مُدَّةٍ، وهُناكَ أمورٌ وأشياءٌ، لا نعلَمُ لماذا، خُلاصةُ الأمرِ ليسَت لَدينا تلكَ الهِمَّةُ؟ ليسَ لَدينا تلكَ الرغبة؟ ليسَت لَدينا تلكَ القيمةُ؟ ليسَ لَدينا ذلكَ الاهتِمامُ؟ فماذا يحدُثُ؟!
كانَ المرحومُ العلامةُ يقولُ: لأنَّكم لا تُؤمِنونَ. لو آمَنَ أحدٌ بِحقَّانيَّةِ طريقٍ ما، لم يعُد بِحاجةٍ إلى تذكيرٍ، لا يحتاجُ إلى تنبيهٍ، لا يحتاجُ إلى تنبيهٍ. كيفَ أنَّكم في الأمورِ المُتعلِّقةِ بِمَسائلِ الدُّنيا تُدقِّقونَ فيها لِدرجةِ أنَّ أيَّ ناقِدٍ لا يستطيعُ المُحاسَبةَ بِهذهِ الدِّقَّةِ؟ لماذا؟ لأنَّنا نُؤمِنُ بالدُّنيا، نُؤمِنُ بِعالَمِ المادَّةِ، نُؤمِنُ بالأهواءِ النَّفسيّةِ، نُؤمِنُ بالأمورِ الدُّنيويّةِ والشَّهوانيّةِ. عَجيبٌ جدًّا، حقًّا المسألةُ عَجيبةٌ جدًّا، كيفَ أنَّنا نُبدي كلَّ هذهِ الدِّقَّةِ في المسائلِ الدُّنيويّةِ!
قصّةُ الرَّجُلِ الذي خالَفَ وَصيّةَ العَلّامةِ في زَواجِ ابنَتِهِ: كَيفَ يَكشِفُ المَوقِفُ حَقيقةَ الإيمانِ؟
سمِعتُ أمرًا قبلَ فترةٍ، أزعَجَني كثيرًا، ساءَ حالي كثيرًا، وتأثَّرتُ جدًّا، وأرسلتُ رِسالةً أن اذهَبوا وتحدّثوا حول هذا الأمر. فقد سمِعتُ أنَّ أحدَ المُنتَسِبينَ إلى المرحومِ العلامةِ، عندما حدَثَت قضيّةُ زواجٍ، جاءَ ذلكَ الرجلُ وقالَ: رأيُ المرحومِ العلامةِ هوَ مَهرُ السُّنَّةِ، فلماذا لا تُطبِّقونَ مَهرَ السُّنَّةِ على ابنَتِكم؟! فقالَ هذا المُنتَسِبُ بِكلِّ صَراحةٍ وكَذِبٍ: لا! لم يكن رأيُهُ مَهرَ السُّنَّةِ، وهذهِ الأقوالُ تُنسَبُ إليهِ، ويجِبُ أن يكونَ هذا المَبلَغُ من العُملاتِ الذهبيّةِ - كانَ مَبلَغًا كبيرًا -. ومَهما قالَ له ذلكَ الرجلُ: لكِنَّنا سمِعنا أنّ رأيه هو هكذا، قالَ: لا! هذا كَذِبٌ، ولم يكن رأيُهُ هذا، ويجِبُ أن يكونَ الأمرُ هكذا. والأهَمُّ من كلِّ هذا، تلكَ الشُّروطُ الموجودةُ في عَقدِ الزَّواجِ والتي كانَ المرحومُ العلامةُ يقولُ: بِهذهِ الشُّروطِ لا أعقِدُ أبَدًا، أصَرَّ هوَ لِدرجةِ أنَّ ذلكَ الرجلَ اضطُرَّ إلى التَّوقيعِ على الشُّروطِ! هذا هوَ الرجلُ نفسُهُ الذي كانَ يأتي في زمَنِ المرحومِ العلامةِ ويقولُ: يا سيِّدُ، لماذا نحنُ مُتكاسِلونَ في أداءِ العِباداتِ؟! حسنًا، أيُّها الكاذِبُ! أنتَ تُريدُ أن تُزوِّجَ ابنَتَكَ هذهِ بِهذهِ الشُّروطِ، فلِماذا تنسِبُ الأمرَ إلى المرحومِ والِدِنا؟! لماذا تكذِبُ؟ لماذا تتَّهِمُ؟ لماذا تدوسُ على كلِّ القِيَمِ تحتَ قدَمَيكَ من أجلِ مَسائلِ الدُّنيا؟! قُل: يا سيِّدُ، كانَ رأيُهُ هكذا، وأنا لا أُريدُ أن أُزوِّجَها هكذا!. حسنًا، جيِّدٌ جدًّا، مَهما يكن! أنتَ الذي تأتي، وذلكَ الرجلُ قد تحقَّقَ من هُنا وهُناكَ... عندما أخبَرَني أحدُهم بِهذهِ المسألةِ قبلَ أيَّامٍ قَليلةٍ، ساءَ وَضعي كثيرًا! كثيرًا! والتفَتُّ إلى ذلكَ الرجلِ وقلتُ: من الآنَ فصاعِدًا، قطعتُ عَلاقَتي بهِ وانتَهى الأمرُ. إلا أن يرجِعَ ويَتوبَ ويذهَبَ ويُعلِنَ في عائِلَتِهِ أنِّي اتَّهَمتُ المرحومَ العلامةَ وطبَّقتُ رأيي الخاصَّ، ويُعيدَ الأمرَ إلى ما كانَ عليهِ رأيُهُ. وإلا فإنِّي لن أكلّمه معَهُ بعدَ الآنَ حتّى آخِرِ عُمري، مُطلَقًا. أنتَ الذي كنتَ تقولُ ذلكَ الكلامَ في زمَنِ المرحومِ العلامةِ، فلماذا تقولُهُ؟ لأنَّكَ - كما قالَ لكَ المرحومُ العلامةُ - لا تُؤمِنُ، لم تُؤمِن! تأتي وتذهَبُ إلى الجَلسةِ، إلى الذِّكرِ ليلًا ونَهارًا، وكذا وكذا، ولكِنَّهُ مُجرَّدُ مَجيءٍ وذَهابٍ، مُجرَّدُ حَرَكةٍ. إلى أيِّ حدٍّ التزمت بهذه القواعد، وعقدتَ هذهِ العقائد في قلبِكَ، وعشت بها؟! أي تعيشُ بِهذهِ القواعد، لا أنَّها مُجرَّدُ أفكارٍ في ذِهنِكَ.
كانَ هُناكَ سيِّدٌ، رجُل صالِح، وكانَ يقولُ كلامًا جيِّدًا وأمورًا جيِّدةً. إلى أيِّ حدٍّ نعيشُ نحنُ بِتلكَ الأمورِ؟ هذا ما سَنُسألُ عنهُ. على أيِّ أساسٍ تقومُ حياتُنا؟! على أيِّ أساسٍ يقومُ بَيعُنا وشِراؤُنا؟ على أيِّ أساسٍ تقومُ مُعاشَرَتُنا؟ هذا! هذهِ هيَ المسألةُ. أنتَ الذي تقولُ ذلكَ، كيفَ في مَسائلِ الدُّنيا هذهِ...؟ لماذا؟ لأنَّها الآنَ ابنَتُكَ؟ حسنًا، لو كنتَ تُريدُ أن تُزوِّجَ ابنَكَ أيضًا، هل كنتَ سَتقولُ هذا الكلام؟ فانظُروا! اللهُ يُمسِكُ بِمِعصَمِ الإنسانِ جيِّدًا، يُمسِكُ بِمِعصَمِ الإنسانِ بِشكلٍ جَميلٍ ويُنَبِّهُهُ إلى أيِّ عالَمٍ خَطيرٍ وأيِّ مُستَنقَعٍ وَقعنا فيهِ ونحنُ نتخَبَّطُ! قلتُ لِذلكَ الرجلِ: اذهَب وقُل لِزَوجَتِكَ وأيضًا في العائِلةِ أنِّي تحدَّثتُ معَ فُلانٍ وقالَ فُلانٌ: كلُّ هذهِ الأمورِ هي تُهَمٌ، وهذهِ خِلافُ الواقِعِ. حسنًا، المسألةُ واضِحةٌ، أمرٌ يعلَمُهُ الجَميعُ، يعلَمُهُ جَميعُ رُفَقائِهِ، يعلَمُهُ جَميعُ أصدِقائِهِ، ليسَت مسألةً تختَصُّ بِنا فقط لأنَّنا أبناؤُهُ، لا.
ثلاثُ وَصايا للمُسافِرِ إلى اللهِ: الزَّادُ والسَّفينةُ والإخلاصُ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}۱. لا بدّ من العَمَلُ، ولا فائِدةَ بِدونِ عَمَلٍ. ومَنْ يدَّعي السَّيرَ نَحوَ اللهِ بِدونِ تَرتيبِ آثارِ العمل، فإنَّهُ يُراوِحُ مَكانَهُ، يَدورُ حَولَ نفسِهِ، يُسلِّي نفسَهُ بالمَجيءِ والذَّهابِ إلى المَجالِسِ؛ مَجلِسٌ أذهَبُ إليهِ نَهارًا، ومَجلِسٌ أذهَبُ إليهِ ليلًا، ومَجلِسٌ أذهَبُ إليهِ في لَيالي شَهرِ رَمَضانَ، ويُسلِّي قلبَهُ بِهذهِ الأمورِ! ولا فائِدةَ. وَرَدَ في الحَديثِ القُدسيِّ خِطابُ من اللهِ لِبَني آدَمَ: «يَابْنَ آدَمَ! أَكْثِرْ مِنَ الزَّادِ فَإِنَّ الطَّرِيقَ بَعِيدٌ بَعِيدٌ»٢. أو: فَإِنَّ الْمَسَافَةَ بَعِيدة بَعِيدة. أكثِر من زادِكَ، فماذا يعني ذلك؟ يعني دَقِّق، لا تُقصِّر في مَقامِ العَمَلِ وفي مَقامِ أداءِ التَّكاليفِ. أدِّ واجِباتِكَ على أحسَنِ وَجهٍ. مَنْ يُريدُ أن يقطَعَ مَسافةً بَعيدةً ويتحَرَّكَ، سَيُفكِّرُ أيضًا في مُقتَضَياتِ تلكَ المَسافةِ.
يجِبُ على الإنسانِ أن يُكثِرَ من الزَّادِ ، لأنَّ الطَّريقَ بَعيدٌ بَعيدٌ. طريقُكَ طَويلٌ جدًّا، سَتَموتُ بعدَ يَومَينِ، ويَبدأُ الطَّريقُ للتَّوِّ بعدَ يَومَينِ. «فَإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَئُوداً»٣. العَقَبةُ هيَ تلكَ المُنعرَجاتُ التي يجِبُ على الإنسانِ أن يَجتازَها الواحِدةَ تِلوَ الأُخرى، وهُناكَ خَطَرُ السُّقوطِ والدُّخولِ في المَهلَكةِ ومَسائلَ أُخرى و و... مَسائلَ أُخرى. يجِبُ أن تأخُذَ هذا العَمَلَ من أجلِ ذلكَ العالم، وإلا فإنَّ يَومَي الدُّنيا سَينتَهيانِ. لا يُمكِنُ مُقارَنَتُها أصلًا، هذهِ السِّتُّونَ سَنةً منَ الحياةِ والسَّبعونَ سَنةً التي أُعطِيَت للإنسانِ، مُقابِلَ ذلكَ العالم، لا تُحسَبُ حتّى بِمِقدارِ رأسِ إبرةٍ. «وَ جَدِّدِ السَّفِينَةَ فَإِنَّ الْبَحْرَ عَمِيقٌ عَمِيقٌ». أصْلِح سَفينَتَكَ دائِمًا، أصْلِح نِقاطَ ضَعفِها ونَقصِها. لماذا؟ لأنَّ البَحرَ بَحرٌ هائِجٌ وعَميقٌ، والدَّوَّامةَ دَوَّامةٌ عَميقةٌ. فاجعَل تلكَ العَقائِدَ وتلكَ المُكتَسَباتِ التي رَكِبتَ عليها وتحَرَّكتَ بها على البَحرِ، اجعَل تلكَ المُكتَسَباتِ مُكتَسَباتٍ خاليةً من النَّقصِ والعَيبِ. اجعَل تلكَ الاعتِقاداتِ اعتِقاداتٍ خاليةً من النَّقصِ والعَيبِ. اجعَل إيمانَكَ إيمانًا مُتَكامِلًا، لا إيمانًا مُصاحِبًا للنَّفسِ. إذا سَلَّمتَ رأسَكَ لِشَخصٍ، فاعلَم لِمَنْ تُسلِّمُهُ، لأنَّ البَحرَ عَميقٌ. إذا كنتَ تَبني دينَكَ ودُنياكَ على أساسِ عَقيدةٍ ما، فاعلَم أيَّةَ عَقيدةٍ هيَ، لأنَّ البَحرَ مُتَلاطِمٌ، لأنَّ أمواجَ الفِتَنِ تأتي الواحِدةَ تِلوَ الأُخرى وتُفقِدُكَ القُدرةَ على إدراكِ هذهِ الأمواجِ وهَضمِها. إذًا، إذا رَكِبتَ سَفينةً، فاركَب سَفينةً مُطمَئِنَّةً.
لماذا يتَذبذَبُ البَعضُ في الفِتَنِ؟ قِصّةُ تَلاميذِ العَلّامةِ وتَقلُّباتُهم
في بعضِ هذهِ المَسائلِ التي وَقَعَت، الرُّفَقاءُ الذينَ يتذَكَّرونَ هذهِ المَسائلَ يعلَمونَ أيَّةَ قَضايا كانت تقَعُ في تلكَ الأوقاتِ، وأيَّةَ أمورٍ كانت تحدُثُ في تلكَ الأزمنةِ، لِدرجةِ أنَّها أثَّرَت حتّى على كثيرٍ من تَلاميذِ سَماحَتِهِ. لماذا؟ لأنَّهم لم يُجَدِّدوا سَفينَتَهم، لم يُؤسِّسوا اعتِقاداتِهم على أساسٍ مَتينٍ ومُتقَنٍ، كانوا في حالةِ تَذَبذُبٍ، كانوا في حالةِ شَكٍّ، كانوا يَميلونَ يَمينًا ويَسارًا. عندما كنّا نتحدَّثُ معَهم، كانَ يُلاحَظُ الاضطِرابُ في عِباداتِهم، وكانت تظهَرُ في عِباراتِهم المَسائلُ والأحداثُ التي كانت تجري في نُفوسِهم. لم يكن اعتِمادُهم على المرحومِ العلامةِ اعتِمادًا مُحكَمًا إلى ذلكَ الحدِّ. والمَسائلُ التي كانت تقَعُ، بما أنَّها كانت تتوافَقُ معَ أمورِ النَّفسِ، كانت تحظى بِجاذِبيّةٍ أكبَرَ بالنِّسبةِ إليهم. وماذا كانت النَّتيجةُ؟ رُكوبُ هذهِ الأمواجِ كانَ يأخُذُهم إلى هذا الطَّرَفِ، وإلى ذاكَ الطَّرَفِ، وإلى هذا الطَّرَفِ. كانت تقَعُ قضيّةٌ تتوافَقُ قَليلًا معَ النَّفسِ، فنَرى أساريرَهم قد انفَرَجَت. كانت تقَعُ قضيّةٌ مُخالِفةٌ، فنَرى الحَواجِبَ مَقطوبةً والشِّفاهَ مُتدَلِّيةً. ثمَّ بعدَ غَدٍ تقَعُ قضيّةٌ تتوافَقُ معَ مَسلَكِهم، فنَرى اللَّهجةَ والعِبارةَ قد تغَيَّرَت، ما شاءَ اللهُ، ما شاءَ اللهُ، اليومَ مُفعَمٌ بالحَيَويّةِ جدًّا. كانت تقَعُ قضيّةٌ تُصيبُهم في الصَّميمِ، فنَراهُم قد جاؤوا مُطَأطِئي الرُّؤوسِ. حسنًا، يا عزيزي، ارفَع رأسَكَ دائِمًا، كُن على حالٍ واحِدةٍ دائِمًا. لماذا تذهَبُ يَمينًا وشِمالًا وتُغيِّرُ شَكلَكَ كلَّ يَومٍ؟! لماذا؟! لأنَّ هؤلاءِ لم يَركَبوا على سَفينةٍ مُمهَّدةٍ وسَهلةِ السَّيرِ. ماذا كانت سَفينَتُهم؟ كانت الأهواءَ والآراءَ النَّاقِصةَ، الرُّؤى النَّاقِصةَ. الرُّؤيةُ النَّاقِصةُ. الآراءُ غيرُ المَدروسةِ.
الوَليُّ وثَباتُهُ في الأمواجِ المُتلاطِمةِ
وأمّا وَليَّ اللهِ والذي يَرى، فهوَ ليسَ في تَلاطُمٍ لِكي يكونَ اليومَ بِشَكلٍ وغَدًا بِشَكلٍ آخَرَ. إنَّهُ يَنظُرُ هكذا. لماذا؟ لأنَّهُ يَرى شيئًا آخَرَ. بالنِّسبةِ لهُ، تقَلُّباتُ عالَمِ المادَّةِ لها جانِبُ المَعلوليّةِ والتَّأثُّرِ، لا جانِبُ التَّأثيرِ والسَّبَبيّةِ، لِذا فإنَّ حالَهُ دائِمًا واحِدٌ. إنَّهُ يَنظُرُ ويَرى كيفَ تأتي مَشيئةُ اللهِ؟ اليومَ تأتي هكذا، وغَدًا بِشَكلٍ آخَرَ. أميرُ المؤمنينَ عليه السلام، لا يُبالي أبَدًا. يذهَبُ إلى مَعرَكةِ الجَمَلِ ويَنتَصِرُ، ويَنظُرُ هكذا. يذهَبُ إلى مَعرَكةِ صِفِّينَ ويُهزَمُ، ويَنظُرُ هكذا أيضًا. يأتي مرَّةً أُخرى ويَنتَصِرُ في مَعرَكةِ النَّهرَوانِ، ويَنظُرُ هكذا. لا تَرى أيَّ فَرقٍ في مَلامِحِهِ. عندما يَنتَصِرُ، هل يُصدِرُ بيانًا يُصِمُّ آذانَ الفَلَكِ؟ وعندما يُهزَمُ، هل يُصدِرُ بيانًا أيضًا، ماذا أقولُ! نعم؟ لا! لا يُصدِرُ بيانًا في ذلكَ الطَّرَفِ، ولا يُصدِرُ بيانًا في هذا الطَّرَفِ. لهُ مَسارٌ خاصٌّ. هذا هوَ وَليُّ اللهِ. هذهِ هيَ السَّفينةُ التي لا تضطَرِبُ في أمواجِ الفِتَنِ، تَسيرُ في طريقِها بِسُهولةٍ وتَجتازُ هذهِ الأمواجَ الواحِدةَ تِلوَ الأُخرى.
أمّا الأفرادُ العاديّونَ، أيًّا كانوا، وفي أيِّ مُستَوًى ومَرتَبةٍ، بِمُجرَّدِ ألا يكونوا أولِياءَ للهِ، فأيًّا كانوا بعدَ ذلكَ. فإنّهم اليومَ يتبَعونَ تيَّارًا، وغَدًا يتبَعونَ تيَّارًا آخَرَ. اليومَ يتبَعونَ قضيّةً، وغَدًا يتبَعونَ قضيّةً أُخرى. اليومَ يحزَنونَ، وغَدًا يفرَحونَ. اليومَ يلطِمونَ رُؤوسَهم، وغَدًا يضحَكونَ! ما هذا؟ هذا بِسَبَبِ أنَّهم يَنظُرونَ إلى حَوادِثِ ووَقائِعِ الدُّنيا بِنَظرَةِ الكَثرَةِ، لا بِنَظرَةِ الوَحدةِ. لأنَّ النَّظرَةَ هيَ نَظرَةُ الكَثرَةِ، فهم في تغَيُّرٍ وتَبَدُّلٍ دائِمٍ معَ الكَثراتِ. الكَثرَةُ كَثرَةٌ. اليومَ جيِّدونَ معَ الإنسانِ، وغَدًا يَنقَلِبونَ عليهِ. يا عزيزي، كنتَ جيِّدًا مَعنا بالأمسِ، فلماذا عَبَستَ في وَجهِنا الآنَ؟. أنَنظُرُ إلى عُبوسِكَ أم نَنظُرُ إلى ضِحكَتِكَ؟ يصِلُ الإنسانُ إلى مَرحَلةٍ لا يَنظُرُ فيها إلى عُبوسِ النَّاسِ، عندما يَكتَسِبُ التَّجرِبَةَ ويَرى أنَّ لا عُبوسَهم عُبوسٌ ولا ضِحكَهم ضحك. لا حربهم مَبنيّة على حِسابٍ، ولا صلحهم مَبنيّ على مِعيارٍ. كلُّهُ قائِمٌ على الاعتِباريّاتِ. إذا اقتَضَتِ المَصالِحُ، يَضحَكونَ في وَجهِ الإنسانِ. وإذا لم تقتَضِ المَصالِحُ، يَذهَبونَ لِشأنِهم، لا يَعتَنونَ بالإنسانِ أصلًا، لا يَعتَنونَ.
«وَأَخْلِصِ الْعَمَلَ فَإِنَّ النَّاقِدَ بَصِيرٌ»
«وَ جَدِّدِ السَّفِينَةَ فَإِنَّ الْبَحْرَ عَمِيقٌ عَمِيقٌ». ثالِثًا: «وَ أَخْلِصِ الْعَمَلَ فَإِنَّ النَّاقِدَ بَصِيرٌ بَصِيرٌ». هذا مُهِمٌّ جدًّا. أخلِص عَمَلَكَ، أخلِص عَمَلَكَ، فإنَّ الذي يُحاسِبُ، يا وَيلَتاه! بَصيرٌ بَصيرٌ! يُميِّزُ الشَّعرةَ من العَجينِ بِدِقَّةٍ بالِغةٍ. هذا الذي أقوله لكم، كلُّهُ مُقدِّمةٌ لِكَلامِ الإمامِ السَّجَّادِ عليه السلام. كيفَ أنَّ الإمامَ السَّجَّادَ عليه السلام - كما ذَكَرتُ ليلةَ أمسِ - من بَينِ كلِّ هذهِ الأشياءِ قالَ: «أجعَلُ حُبَّكَ شَفيعي»، ولم يَقُل عَمَلي. بَينَما على أساسِ القاعِدةِ، يجِبُ أن يكونَ العَمَلُ هوَ الشَّفيعَ؛ الإنسانُ بِعَمَلِهِ، العَمَلُ هوَ المِلاكُ. عَدَمُ العَمَلِ وتَركُ العَمَلِ يَدُلُّ على التَّساهُلِ، يَدُلُّ على اللامُبالاةِ! هذا هو! عَدَمُ الاكتِراثِ بالمَباني وأمثالِها. في الآياتِ أيضًا الأمرُ كذلكَ، وفي الرِّواياتِ أيضًا الأمرُ كذلكَ، والجَميعُ يُؤكِّدونَ على العَمَلِ، ويجِبُ أن يكونَ كذلكَ، والتَّوصِيةُ أيضًا على هذا. «وَأَخْلِصِ الْعَمَلَ فَإِنَّ النَّاقِدَ بَصِيرٌ». أخلِص عَمَلَكَ، فهُناكَ لا يَشتَرونَ العَمَلَ غَيرَ الخالِصِ. العَمَلُ الذي هوَ لِغَيري - يقولُ اللهُ - ما نَفعُهُ؟ يَومُ القِيامةِ يَومي، ولا يُمكِنُ أن يُعرَضَ هُنا إلا العَمَلُ الذي لهُ انتِسابٌ إليَّ. والعَمَلُ الذي لم أكن فيهِ، ليسَ لهُ انتِسابٌ إليَّ، فلا وَزنَ لهُ يَومَ القِيامةِ، لا ثِقَلَ لهُ. الثِّقَلُ في العَمَلِ عِبارةٌ عن الإخلاصِ. الإخلاصُ. حسنًا، نحنُ الذينَ نقومُ بِهذا العَمَلِ، نحنُ الذينَ نَبذُلُ هذا الجُهدَ، نحنُ الذينَ نَفعَلُ هذا الشَّيءَ، فلِماذا لا نُخلِصُهُ؟ لماذا لا نَفعَلُهُ للهِ؟ لماذا نَحرِمُ أنفُسَنا من هذهِ النِّعمةِ التي أتَت؟ نَحرِمُ أنفُسَنا من هذهِ النِّعمةِ؟ وبالالتِفاتِ إلى مَسائلَ أُخرى وخُصوصيّاتٍ أُخرى، لا يكونُ ذلكَ العَمَلُ لائِقًا بالعَرضِ على اللهِ.
لقد حانَ الوَقتُ تَقريبًا، ونحنُ أيضًا، حسَبَ وَعدِنا للرُّفَقاءِ، يأذَنونَ لنا إذن بأن نُرجِئَ تَتِمَّةَ المَوضوعِ إن شاءَ اللهُ للجَلسةِ القادِمةِ إذا أرادَ اللهُ. الكلام كثيرٌ جدًّا، حقًّا، الليلةَ عندما أردتُ أن آتيَ لِخِدمةِ الرُّفَقاءِ، لم يكن في ذِهني أيٌّ من هذهِ الأمورِ التي قُلتُها أصلًا، كنتُ أُريدُ أن آخُذَ البَحثَ إلى مَكانٍ آخَرَ، جِئتُ وجَلَستُ هُنا فذَهَبَ كلُّ شيءٍ! ذَهَبَ إلى مَكانٍ آخَرَ وإلى أقسامٍ أُخرى وأشياءَ من تلكَ الأمورِ! على كلِّ حالٍ!
قصّةُ الشَّيخِ دَستغيبَ رحمه الله مَعَ الشَّريطِ النَّاقِصِ: الإلهامُ لا التَّحضيرُ
رَحِمَ اللهُ السيّد دَستغيبَ، رَحِمَهُ اللهُ، من الأفرادِ الصَّالِحينَ جدًّا كانَ السيّد دَستغيب رحمه الله. كانَ أحدُ الرُّفَقاءِ، أحدُ الأصدِقاءِ يقولُ: كنتُ أُسَجِّلُ أشرِطةَ السيّد دَستغيب رحمه الله. كانَ من خاصَّتِهِ المُقَرَّبينَ جدًّا، من حَواريِّي السيّد دَستغيب رحمه الله، ولعَلَّهُ الوَحيدُ أيضًا الذي يَمتَلِكُ أشرِطَتَهُ بِهذا القَدرِ. قالَ: في ليلةٍ، هذا المُسَجِّلُ الذي أخَذناهُ، لا أدري، أخطَأنا أم ماذا حدَثَ، لم يُسَجِّل نِصفَهُ، لم يحدُث هذا الآنَ، وذَهَبنا إلى المَنزِلِ ورأَينا أنَّهُ سَجَّلَ نِصفًا ولم يُسَجِّل النِصف الآخَرَ. في اليَومِ التَّالي رأَيتُ السيّد دَستغيب رحمه الله وقُلتُ: يا سيِّدُ، هل يُمكِنُ الليلةَ أن تقولَ ذلكَ النِّصفَ الآخَرَ، ذلكَ النِّصفَ الآخَرَ الذي كنتَ تتحدَّثُ عنهُ ليلةَ أمسِ، شَريطُنا هذا لم يُسَجِّلهُ!. فضَحِكَ ضِحكةً وقالَ: يا فُلانُ، أنا نَفسي لا أعلَمُ ماذا سَأقولُ عندما أصعَدُ المِنبَرَ؟ يأتي من نفسِهِ، أنا لا أعلَمُ. الآنَ أذهَبُ إلى هُناكَ، إن جاءَ فقد جاءَ، وإن لم يأتِ فالأمرُ ليسَ بِيَدي!. رَحِمَهُ اللهُ. نحنُ لا نُقارِنُ أنفُسَنا أبَدًا بِمِثلِ هؤلاءِ الأعاظِمِ، أرَدنا فقط أن نُبَيِّنَ أنَّ مَوضوعَنا في هذهِ الليلةِ كانَ مِثلَ هذهِ القضيّةِ. إن شاءَ اللهُ نأمَلُ.
قصّةُ استِماعِ العَلّامةِ لِشَريطِ السيّد دَستغيبَ رحمه الله وشَهادَتُهُ فيهِ
وتذَكَّرتُ هذا الآنَ، فذاتَ ليلةٍ، كانَ المرحومُ العلامةُ قد جاءَ إلى قُم وذلك في زمَنٍ قَديمٍ جدًّا، في ذلكَ الزَّمَنِ الماضي، زمَنِ حُكمِ الشَّاهِ الماضي وأمثالِهِ،. كانَ لَدَيَّ شَريطٌ للسيّد دَستغيب رحمه الله، شَريط كنتُ قد اشتَرَيتُهُ من السُّوقِ. كنتُ مُولَعًا جدًّا بِكَلامِهِ، والآنَ أيضًا كذلكَ، مُولَعٌ جدًّا. أرى وأشعُرُ بِخِفَّةٍ ورُوحانيّةٍ كبيرةٍ في كَلامِهِ. كانَ الشَّريطُ، على ما يَبدو، دُعاءَ كُمَيلٍ لهُ، كنتُ قد اشتَرَيتُهُ. وكانَ المرحومُ العلامةُ قد جاءَ في أيَّامِ النَّوروزِ هذهِ، في العُطلةِ، كانَ قد جاءَ، وتشَرَّفَ بِزيارة قُم. وذات ليلةٍ دارَ الحَديثُ، فقالَ: أحضِرهُ لأستَمِعَ أنا أيضًا! كانَت ليلةَ الجُمُعةِ بالمُصادَفةِ، فوضَعنا الشَّريطَ في المُسَجِّلِ وذَهَبنا نحنُ أيضًا. كانَ سَماحَتُهُ قد استَمَعَ وعادَ، وكانَ واضِحًا أنَّهُ كانَ مَسرورًا جدًّا بِهذهِ المَسائلِ. ثمَّ قالَ لي جُملةً: أولئكَ واللَهِ نورُ اللَهِ في ظُلُماتِ الأَرضِ. قالَ هذا عنهُ، وأنَّ هؤلاءِ هم نورُ اللهِ في ظُلُماتِ الأَرضِ. نأمَلُ أن يُوَفِّقَنا اللهُ نحنُ أيضًا لأن نَقضِيَ أيَّامَ الدُّنيا هذهِ القَليلةَ وما تبَقَّى من العُمرِ بِولايةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام، وبالتَّأسِّي بِسيرةِ الأولِياءِ وأعاظِمِ بابِهِ.
اللَّهُمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّدٍ.