المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير و النظام الاجتماعي
التوضيح
ما هي التعهّدات الإلهيّة الماليّة؟ وما آثار عدم الالتزام بها؟
تبيّن هذه المحاضرة أنّ التعهّدات الإلهيّة الماليّة على قسمين:
الأوّل: هو الأموال التي يجب دفعها عند تحقّق شروط معيّنة كالخمس والزكاة والكفّارات والنذور والنفقات الواجبة.
الثاني: هو الأموال التي يجب تحصيلها ودفعها على كلّ حال كنفقات الحجّ وما يسمّى بالاستطاعة.
ويجب الالتزام بدفع الأموال من القسم الأوّل والاهتمام به تمامًا كما نسعى إلى سدّ الديون التي علينا أو تأمين لوازم الاستشفاء، ونتيجة ذلك هي الحركة والتقدّم والنشاط، كما أنّ نتيجة ذلك هي التوقّف والكسل واختلاط المال الحلال بالحرام.
كما يجب السعي إلى تحصيل الاستطاعة ولو بالاقتراض لأنّ الحجّ ثابت في ذمّة الجميع بلا شرط، والاستطاعة شرط للواجب لا للوجوب. وهو من أهمّ الواجبات وما ورد في شأنه لم يرد في شأن غيره.
وقد استشهدت المحاضرة بالكثير من الشواهد والقصص من سيرة أولياء الله وكلماتهم.
هو العليم
التعهّدات الإلهيّة في الأمور المالية
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٦۸
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين
قال إمامنا الصادق عليه السلام: [حقيقة العبوديّة] أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا، لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به؛ ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا.
تقدّم بعض الكلام في الجلسات السابقة حول كيفيّة ترتيب الأمور على أساس مسلك الشرع ومسلك العرفان الحقيقيّ الذي هو عين الشرع، والشرع هو عين العرفان وهذان الاثنان لا ينفصلان ولا ينفكّ أحدهما عن الآخر.
تنقسم الأعمال والأمور التي يقوم بها الإنسان والتي يجب عليه أن يقوم بها في هذه الدنيا إلى قسمين:
الاكتساب أو بعبارة أخرى كيفيّة ارتباط الإنسان مع الناس في خارج المنزل.
والقسم الآخر: الأمور الشخصيّة، والأمور التي في المنزل أو ما يرتبط بالإنسان نفسه ولو كان خارج المنزل.
خلاصة ما سبق
وفيما يرتبط بالأمور الخارجيّة وكيفيّة العمل والاشتغال تقدّم أنّه لا بدّ أن يكون العمل بما لا يؤدّي إلى إتعاب الذهن والسيطرة على كافّة شؤون الإنسان، وطبعًا ما ذكر حول هذه المسألة كان قليلاً، وكان أكثر الكلام حول التعهّدات والوعود بين الناس والآخرين، وأنّه رغم ما هو معروف من أنّ الشروط والتعهّدات الملزمة هي التي تكون في عقد لازم كالبيع والزواج، ولكن بناء على القاعدة الصحيحة والمحكمة وخصوصًا وفق مبنى العرفان الفقهيّ أو الفقه العرفاني، فإنّ مسألة التعهّد والالتزام لا تختصّ بما كان ضمن العقود اللازمة، وكلّ تعهّد بين إنسان وآخر وكلّ شرط يشرطه الإنسان مع آخر ولو كان تعهّدًا ابتدائيًّا ولم يكن ضمن عقد وضمن معاملة، فمثلاً: أنا سآتي إلى منزلكم، غدًا سأنجز لك هذا العمل، هذا الأمر في عهدتي، القيام بهذه الأمور هو في عهدتي... ففي كافّة هذه الموارد يجب شرعًا على الإنسان أن يفي بما تعهّد به. نعم لو حدث في وقت من الأوقات مانع شرعيّ، فهذا أمر آخر. ولكنّ الشروط الابتدائيّة وغيرها لا يختلف أيّ منها من ناحية الإلزام والتعهّد الشرعيّ.
وانطلاقًا من ذلك، فإنّ من الأمور التي رأيت أنّه ينبغي الحديث حولها قليلاً، التعهّدات الإلهيّة في الأمور الحقوقيّة.
تقدّم في الجلسة السابقة أنّ الإمام المجتبى عليه السلام يقول:
واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدًا.۱
كن لدنياك كأنّك تعيش فيها إلى الأبد، لا تغتمّ لفقدان شيء تبحث عنه، فمن كان يعيش في الدنيا أبدًا هل يحزن على خسران شيء اليوم؟ يقول: إن كنت خسرت اليوم ففي الأسبوع القادم أعوّض. بل حتّى لا أقول تعيش أبدًا. افترض أنّ لك عمر الخضر عليه السلام. فمنذ أن ولد الخضر عليه السلام لا يزال موجودًا في هذه الدنيا، وسيبقى إلى زمان ظهور الإمام ويدركه، وهناك ثلاثة من الأنبياء أحياء:
الخضر عليه السلام وحياته مسلّمة.
إلياس عليه السلام حيث ورد في بعض الروايات أنّه حيّ.
والثالث عيسى عليه السلام فهو حيّ أيضًا، غاية الأمر أنّ حياة عيسى تختلف عن حياة الخضر وإلياس. فلعيسى حياة هي بين الحياة الماديّة والحياة المثاليّة والملكوتيّة. ولكنّ الخضر وإلياس حياتهما ظاهريّة مثلنا، فكما نعيش الآن على الكرة الأرضيّة هما أيضًا كذلك. ولكنّهم يأتون جميعًا في زمان ظهور الإمام بقيّة الله أرواحنا فداه، ويكونون معه، ويعينونه.
افترضوا أنّ لأحد الناس حياةَ الخضر، نعم ألفي عام، فلا أقول تعيش أبدًا. كلاّ فلو علم إنسان أنّ الله أمضى له ألفي عام يعيشها في الدنيا، فلن يحزن بعد ذلك؟ لم نقم بهذه المعاملة اليوم، لا بأس بعد شهر نقوم بها. سنعيش في هذه الدنيا حتّى ينعدم هذا البيت فكيف بأصحابه؟! إنّهم سيموتون تباعًا وسيورّثون أعمارهم إلى ورثتهم، ونحن نبقى في مكاننا، نحن باقون. حينها لن يحزن الإنسان. لن يفوته شيء، سيكون مطمئنّ البال على رغباته وطموحاته. لن يسمح يومًا للحزن أن يتسرّب إلى قلبه، وللهمّ أن يخطر في باله، وللتشويش أن يصل إلى قلبه، أن هل سيتحقّق هذا الأمر أم لن يتحقّق. يقول الإمام: كن بالنسبة إلى أمور الدنيا وتعلّقاتها هكذا. وهذا المعنى يقرّبنا إلى كلام الإمام الصادق عليه السلام: ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا ويوضّح لنا المعنى الذي يعطيه.
أمّا بالنسبة إلى أمور الآخرة، أي التعهّدات الشرعيّة سواء التعهّدات التي لدينا مع الناس، أو مع الله فكلاهما داخل تحت مسائل الآخرة، ففيما يرتبط بمسائل الآخرة: كأنّك تموت غدًا. غدًا ستموت، انظر كم للمسألة من أهميّة، التعهّدات التي مع الناس... فنحن نقوم بالتعهّدات التي ترتبط بنا أمّا التي ترتبط بالناس فكأنّ شيئًا لم يكن. بالنسبة للتعهّدات الماليّة كأنّ شيئًا لم يكن. بالنسبة إلى التعهّدات الأخلاقيّة والعمل الذي يجب أن نقوم به للآخرين، الشرط الذي قطع، الأمر الذي اتّفقنا عليه، كلّ هذا لا يخطر في بالنا أصلاً، ولا نقوم له بأيّ عمل. في حين أنّ الإمام المجتبى عليه السلام يقول: عليك بالنسبة إلى أمور آخرتك أن لا تضع رأسك على الوسادة ليلاً مؤجّلاً العمل إلى الغد، لا تضع رأسك على الوسادة ليلاً، حتّى لو لم تستطع في ذلك الوقت، يجب أن يسلبك الاضطراب والقلق النوم.
قصّة الرجل الحزين في المسجد
لقد تذكّرت الآن أمرًا، فقلت أذكره لكم حتّى يكون هناك اهتمام أكبر بالأمور الأخلاقيّة والالتزامات. في إحدى الليالي في العهد السابق حيث كان عمري ما يقارب أربع عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة، وبعد جلسة التفسير للمرحوم العلاّمة في مسجد القائم، حيث كان لديه تفسير بشكل يوميّ، كنت جالسًا جانبًا مع أحد هؤلاء الأصدقاء نتحدّث. رأيته حزينًا بعض الشيء، فقلت له: لماذا أنت حزين يا فلان؟ ألا تجيبني؟ فقال: غدًا صباحًا عليّ دين، ولم أحصّل شيئًا لسدّه. فقلت: كم هو؟ وكان آنذاك عليه ما يقرب من ثلاثمائة تومان، والأمر يعود إلى ثلاثين سنة مضت، ولم يكن لديّ مال، فقط كنت أستمع. فسألني المرحوم العلاّمة: ماذا كنت تتحدّث مع فلان؟ ولم يسبق أن سألني قبل ذلك اليوم مع أنّي كنت أتحدّث، ولكنّه في خصوص ذلك الأمر قال لي: ماذا كنت تتحدّث مع فلان؟ فقلت: سيّدنا لقد قال هذا الكلام، أنا سألته لمَ أنت حزين؟ لأيّ شيء؟ فقال: لديّ هذه المشكلة، عليّ دين بهذا المقدار للغد. فقال: تعال بسرعة، اذهب إلى بيتي وأحضر هذا المبلغ بسرعة قبل أن يذهب وقدّمه له.
فذهبت برفقة المرحوم العلاّمة إلى المنزل ـ وبين المنزل والمسجد ما يقارب السبع دقائق من السير على الأقدام، فأخذت المبلغ منه وأحضرته لأعطيه للرجل، جئت إلى المسجد فوجدت الرجل قد ذهب، لم يكن موجودًا. فذهبت إلى أحد الأصدقاء في شارع سعدي وقلت له خذ هذا المبلغ وأعطه لفلان ليسدّ به دينه غدًا. فأعطيته له، ورجعت إلى المنزل، فقال المرحوم العلاّمة: ماذا فعلت؟ قلت ذهبت إلى المسجد فلم أجده، فأعطيته لفلان وقلت له أن يوصله إليه. قال: هل قلت له أن يعطيه إيّاه الليلة؟ قلت: لا. قال: لماذا لم تقل؟ لماذا لم تقل لكي يضع هذا الرجل رأسه الليلة على الوسادة مطمئنًّا؟ هل التفتّم؟ لماذا لم تقل له أن يدفعه إليه الليلة ليذهب إلى منزله ويضع رأسه على الوسادة مطمئنًّا ولا يبقى مشوّش البال حتّى الصباح؟!
في حين أنّ المرحوم العلاّمة لم يكن قد تعهّد مع أحد، لم يكن مدينًا لهذا الرجل، ولكنّه يقول هذا لأجل من؟ يقوله لأجلنا. يقوم به لأجلنا. يقوم به لأجلنا. فعلى الإنسان أن يلتزم بتعهّداته فإذا قال إنسان لآخر: سآتي إلى مكان معيّن، فلا بدّ أن يحضر إلى هذا المكان. إذا حصل أمر ومشكلة فلا بدّ أن نخبره كيلا يبقى منتظرًا. لا بدّ من إخباره بوسيلة ما، لا أن نقول: نحن سنأتي، ثمّ ننسى الأمر كليًّا. إذا قلنا سأخبرك بأمر ما في وقت معيّن فلا بدّ من إخباره به في هذا الوقت. إذا كان من المقرّر أن تتّصل بأحد في وقت معيّن، وتقول له أمرًا ما، فلا تقل: لا بأس بعد ساعة أو ساعتين أتّصل. كلاّ، فإنّ هذا الرجل الآن ينتظر، وقد نظّم أعماله على أساس كلامك، وبعده لديه عمل آخر.
قصّة زيارة بعض العلماء للمرحوم العلاّمة
ذات يوم، جاء عدد من العلماء من إحدى المحافظات لزيارة المرحوم العلاّمة في مشهد، كنت حاضرًا عنده، فجاء رجل وقال إنّ هؤلاء يريدون أن يأتوا لزيارتك. فقال المرحوم العلاّمة له: أنا في الساعة كذا موجود في المنزل. ثمّ رأيت أنّه ذهب ولبس ثيابه ووضع العمامة على رأسه وجلس في تلك الغرفة التي كان من المقرّر أن يأتي إليها السادة، وجلس بانتظارهم. مضت نصف ساعة ولم يأتوا، مضت ثلاثة أرباع الساعة ولم يأتوا، مضت ساعة تقريبًا وكان المرحوم العلاّمة يريد الذهاب إلى الحرم، فجاؤوا، فقال: لقد صبرت ساعة ولم يأتوا وأنا أريد الذهاب إلى الحرم. فتح باب المنزل وخرج، وما إن وصل إلى وسط الزقاق جاء هؤلاء العلماء والذين كان بعضهم من بعض المحافظات وكان بينهم رجل طاعن في السنّ وكان من وجوه البلاد.
فقال المرحوم العلاّمة: لقد تأخّرتم ساعة وأنا أذهب إلى الحرم. لم يكونوا يتوقّعون أمرًا كهذا. إنّهم يتصوّرون أنّ المرحوم العلاّمة يجلس في البيت مثلهم ويتناول النارجيلة واضعًا رجلاً على أخرى، سواء جاء أحد أو لم يأت، طرق الباب أو قرع الجرس! كلاّ فللمرحوم العلاّمة حياة، لديه عمل، لديه برنامج. فقال: أنا ذاهب إلى الحرم. تعجّبوا كثيرًا. ثمّ قال: حسنًا يمكنني أن أبقى لربع ساعة تفضّلوا. رأى أنّهم احترموه كثيرًا وإلا فقد كنّا نتوقّع منه أن يمضي. هل التفتّم؟ في حين أنّه لم يكن هناك أيّ عذر لهم، لأنّه لو كان لديهم عذر لقالوا لقد حصل هذا الأمر ولم نستطع أن نأتي.
قصّة طريفة للمحاضر
ذات يوم وعدت واحدًا وعدًا ـ وسأنقل هذه القصّة للترويح عن النفس ـ كان مريضًا، طبعًا لم يكن مريضًا ولكن نصف مريض، أصابه زكام، والزكام ليس مرضًا، فالأطبّاء يعتقدون أنّ الزكام ليس مرضًا! وكنّا نريد الذهاب لزيارته برفقة أحدهم، وعندما أردنا أن ننطلق ناداني المرحوم العلاّمة وقال لي: اذهب إلى المكان كذا وقم بذاك العمل. ورأيت أنّ أمره أهمّ من زيارة ذلك الرجل. فقلت لأحد أن يخبره بأنّا يمكن أن نتأخّر. ولكنّه لم يقل، اعتقد أنّه إذا تأخّرنا قليلاً فلا إشكال، وليس الأمر مهمًّا.
فذهبنا وقمنا بذلك العمل ورجعنا فكان قد مضى ثلاثة أرباع الساعة. وعندما ذهبنا رأينا ذلك الرجل واقفًا عند الباب: السلام عليكم. قلنا عليكم السلام. قال: لقد انتظرتكم ثلاثة أرباع الساعة ولم تأتوا. قلنا: نعم، فهل تسمح لنا بالدخول أم نرجع؟ قال: لا تفضّلوا. قلنا: حسنًا. ودخلنا وجلسنا. بدأ بمهاجمتنا. ولكلّ هجوم دفاع، فقلت: أولاً: لم تسألنا عن سبب عدم مجيئنا، فلتسأل في النهاية: هل كان هناك تساهل وتكاسل وتهاون أم أنّ هناك أمرًا ما قد حصل؟ فهذا أولاً لا جواب عليه. ثانيًا: لقد ذهبنا إلى عمل هو باعتقادك ووفق معتقداتك أنت أهمّ من المجيء إلى زيارتك، والسبب هو أنّا قمنا بتنفيذ أمر والدنا، وأنت أيضًا تقبل بأنّه عندما يتعارض المجيء والأمور البسيطة مع إطاعة الأب وخصوصًا أب كهذا، يقدّم ذاك الجانب. هذا ثانيًا. ثالثًا: كم كنت تريد أن تعطينا من وقتك؟ فمثلاً قال ساعة، قلت: لا نقول ساعة لنقل نصف ساعة، كان علينا أن نبقى هنا نصف ساعة، فقد تأخّرنا نصف ساعة، لم نتأخّر ثلاثة أرباع الساعة أنا أخطأت، كنّا نريد البقاء لنصف ساعة، اعتبر أنّا أتينا تلك النصف ساعة وشربنا العصير وفي أمان الله. ألم تكن تريد أن ترانا لنصف ساعة؟ هكذا يرى بعضنا بعضًا. فافترض أنّا أتينا نصف ساعة، تأخّرت عن نومك، تأخّرت عن عملك! فها نحن ذاهبون. قال: لا، لا، لا يمكن. قلت: كلاّ نحن كنّا نريد أن نبقى نصف ساعة، فهذه نصف ساعة بقيناها هنا ونحن ذاهبون. أنا أنقلها لمجرّد التفكّه.
على كلّ حال إنّ رعاية الالتزامات ورعاية المواعيد بين الناس واجبة شرعًا، وعلى الناس أن يلتزموا بها. ويجب الاستمرار على ذلك في جميع الأمور وبشكل جادّ، وكما تقدّم في الجلسات السابقة، فإنّ القيام بهذه الأمور والالتزام بها يحدث حركة وتغييرًا وتبديلاً في نفس الإنسان، له أهميّة كبيرة لثبات الإنسان في الطريق. والذين لا يهتمّون بالأمور المتعهّد بها فيما بينهم لن تكون لهم حركة أبدًا على صعيد السلوك. والذين لا يلتزمون بالأمور التي بينهم بشكل جادّ لن يكون لهم أيّ ترقّ في المسائل السلوكيّة.
الالتزام بالتعهّدات الإلهيّة الماليّة
الأمر الآخر هو التعهّدات الإلهيّة، فللإنسان من حيث التكاليف الشرعيّة تعهّدات تجاه الله. لكلّ إنسان تعهّد، لكلّ فرد تعهّد. فلصاحب المهنة تعهّداته الإلهيّة، وللطبيب تعهّداته الخاصّة، وللتاجر تعهّدات تختصّ به، وبالطبع بيّنا إلى حدّ ما هذا النوع من التعهّدات وبقي مقدار لم نبيّنه. فقسم من هذه التعهّدات شرعيّ وإلزاميّ، وقسم أخلاقيّ. فطالب العلوم الدينيّة وعالم الدين لديه من التعهّدات الإلهيّة ما يخصّه، ولا بدّ من القيام بتلك التعهّدات. وعلى الجميع أن يقوموا بتلك التعهّدات الإلهيّة سواء الماديّة أم غير الماديّة.
من جملة التعهّدات التي هي لدى الناس تجاه الله الأمور الماليّة. وأرى من المناسب أن نتحدّث قليلاً حول هذا الأمر؛ لأنّي أشعر أنّ هذا الأمر لم يأخذ موقعه المناسب كما ينبغي له بيننا نحن المسلمين وأتباع مدرسة أهل البيت.
فالأمور المالية تنقسم إلى:
أمور إلزاميّة كالخمس والزكاة والكفّارات والصدقات الواجبة، والإنفاق الواجب كالنذر أو غيره. فالتعهّدات الإلهيّة هي أمور يجب على الإنسان المسلم أن يقوم بأدائها بكامل الدقّة والاهتمام. فمن كانت في ذمّته حقوق ماليّة إلهيّة فلا يجوز له شرعًا تأخيرها وهو محرّم. فالتأخير في دفع هذه الحقوق له آثار تكوينيّة في الحياة وضيق في النفس وكدورة وضيق في المعيشة وأمور تكوينيّة أخرى في النفوس وفي العائلة واختلاط للحلال بالحرام.
يعتقد الناس أنّه إذا تعلّق حقّ شخصيّ بأموالهم، فهذا حقّ خارج محيط الحياة. فيديرون الحياة بأيّ طريقة بكمال الهدوء والراحة و الرفاهيّة، يسافرون إلى حيث يريدون، ويشترون ما يريدون ويهيّئون لأنفسهم ما يرغبون من وسائل النقل والذهاب والإياب، بحيث تكون حياتهم على النحو المطلوب، ولو حصل في المستقبل أن جاءت الريح بمال وكان كلّ شيء مؤمّنًا حينها يدفع الإنسان ولا يكاد! كلاّ ليس الأمر هكذا. فمن تعلّقت بذمته الحقوق عليه أن يؤدّيها ويجب أن يكون اهتمامه بها أشدّ من اهتمامه بالخبز الذي يأتي به إلى منزله. لماذا؟ لأنّ هذه الحقوق سواء كانت زكاة أو كفّارات أو نذرًا، أو حقًّا للإمام عليه السلام، فهي أموال لها مصارفها الخاصّة، ولا بدّ أن تصرف في تلك الموارد الخاصّة التي يراها المجتهد. والتصرّف فيها بدون رأي المجتهد الجامع للشرائط هو حرام شرعًا.
عدم حقّ المكلّف في تحديد مصارف الحقوق الشرعيّة
يشاهد أنّ بعضهم يقولون: هذه أموال وحقوق ونحن نريد أن نصرفها في المورد كذا! عبثًا تصرفها في ذلك المورد! أنت لا تملك حقّ التصرّف! يمكنك أن تصرف من جيبك المبارك في ذلك المورد الذي تريده، ولا أحد يمنعك، وهو عمل جيّد جدًّا وصالح. ولكن لماذا تتدخّل في عمل الإمام؟ لماذا تضيّق من خياراته؟ هو يريد أن يلقي بهذا المال في مجرى المياه فما شأنك أنت؟ هو يريد أن يلقي هذا المال في البحر فما شأنك أنت؟! هو يريد أن يصرفه في هذا المورد، في هذا المستشفى. كلاّ ليس هناك أمر كهذا.
جاء بعضهم يسألون: سيّدنا قرب منزلنا تبنى حسينيّة ويطلب منّا أن نتبرّع لها، فهل يمكن أن ندفع من هذا المال؟ فقلت: كلاّ، لا يمكن أن تدفعوا. قالوا: ماذا نصنع؟ قلت: ادفعوا من جيبكم المبارك. ما الإشكال في ذلك؟ ينذرون زيت المصباح المراق على الأرض لضريح حفيد الإمام۱! بما أنّ هذا المال خارج على كلّ حال فلنجعله في الحسينيّة. بناء الحسينيّة مستحبّ ولكنّ دفع الحقوق واجب.
إن كنت تريد أن تساعد الإمام الحسين فادفع من جيبك، وعليك أن تشكر الإمام الحسين على أن وفّقك لهذه النعمة والثواب، لا أن يشكرك الإمام الحسين كلاّ. ليس هناك كلام كهذا.
أو يقولون: لقد حدث أمر ما، فهل تسمح لنا بأن ندفع؟ كلاّ لا أسمح. ليس الأمر في يدي لأسمح أو لا أسمح. لقد قام فلان بعمل ما وتحطّمت سيّارته فهل ندفع له؟ إن كان رفيقك، وقلبك يحترق من أجله فادفع له من جيبك! لماذا تريد أن تدفع له من جيب...؟
هذه الأمور أذكرها لأنّها لا تصل إلى أسماعكم فأنا مضطرّ لذكرها، وإلاّ فإنّ ذكر هذه الأمور مشكل حتّى بالنسبة إليّ. هل صار الأمر واضحًا؟ من كان في ذمّته سهم للإمام أو زكاة أو حقوق أخرى لا يمكن أن يعيّن للمجتهد تكليفًا في مصرفها. اصرفها في المورد كذا، اصرفها في المورد كذا. كلاّ لا حقّ له في ذلك.
تذكّرت الآن أمرًا، ففي العهد السابق كان بعض الناس وبعض العلماء يستشكلون في استعمال بعض الأماكن للاستفادة منها في بعض الدروس ـ وبالطبع هذا الأمر يرتبط بالعهد السابق والآن صار هذا الأمر أقل وإن لم ينعدم ولكنّه صار قليلاً للغاية ـ هذه المدرسة بنيت من أموال الإمام عليه السلام، ولا بدّ أن يكون فيها هذا النوع من الدروس، وغيرها ليس منظورًا، والذين يأتون بهذه الأموال ليصرفوها في مصارف الإمام عليه السلام يمليون إلى أن تصرف في هذا النوع من العلوم، وفي هذا النوع من الدروس، وفي هذا النوع من المسائل والمطالب والمباني والعقائد دون غيرها. وقد قالوا هذا الأمر للمرحوم العلاّمة الطباطبائي رضوان الله عليه وذكروا هذه الأمور حول تدريس الفلسفة حيث كان في الزمان السابق نوع من التحجّر وضيق النظر بالنسبة إلى هذه الأمور. فأجاب المرحوم العلاّمة الطباطبائي: هل هؤلاء الذين يأتون بهذه الأموال مجتهدون أم مقلّدون؟ حتمًا هم ليسوا بمجتهدين لأنّ المجتهد يمكن بنفسه أن يصرف هذه الأموال في المورد الذي يرى فيه مصلحة، فإذن هم مقلّدون، وما داموا مقلّدين فكيف يجيزون لأنفسهم أن يعيّنوا لمجتهدهم ومرجعهم التكليف ويلزموه. فليس صحيحًا أن تقدّم هذه الأموال ليستفاد منها في هذا المورد.
وانطلاقًا من هذا، يجب شرعًا على من تعلّقت في ذمّته الحقوق أن يهتمّ بشكل جادّ بدفعها جنبًا إلى جنب مع معيشته واستمرار حياته، وإلا فإنّ كلّ يوم يمضي فهو يرتكب فيه حرامًا ولا بدّ أن يجيب عنه. إن أمكنه أن يقترض فلا بدّ أن يقترض ويدفع الحقوق التي عليه شيئًا فشيئًا، كيف إذا ابتلي الإنسان بمرض، أو ابتلي بمشكلة، أهله أو هو إذا مرض وترتّب عليه مليونان أو ثلاثة للمستشفى أو أصيب منزله بمشكلة ولا بدّ من إصلاحه ألا يذهب ويقترض أم يصبر حتّى يموت؟ نعم؟ يذهب ويقترض ويعطي هذا المبلغ لصاحبه شيئًا فشيئًا ولا يصبر حتّى يموت. القلب الذي يقولون إن لم تجر له عمليّة سيتوقّف لا يصبر الإنسان حتّى تأتي الريح بمال ليصرفه في هذه الأمور. على الإنسان أن يكون هكذا في حقوقه الشرعيّة. عليه أن يذهب ويقترض ويدفع وشيئًا فشيئًا يدفع هذا الدين لصاحبه.
لماذا نقوم بذاك العمل ولا نقوم بهذا؟ لأنّا نرجّح البدن على ديننا، نرجّح حياة الجسم على حياة الروح. نرى فرقًا بين الآخرة والدنيا، تمامًا كما قال الإمام المجتبى عليه السلام فنحن نعمل للآخرة كأنّنا نعيش أبدًا، ولدنيانا وسلامتنا والأمور العابرة من حولنا كأنّك تموت غدًا، نعمل وكأنّنا نموت غدًا، وهذا خطأ، مخالف للشرع من جهة، ومخالف للوصايا السلوكيّة. ولكنّ الإمام عليه السلام لا يفعل ذلك. وعلى أتباعه أن يلتفتوا إلى هذه النقطة، ويهتمّوا بها.
لقد كانوا يأتون سابقًا والآن هم أيضًا موجودون! فنحن لا يمكننا أن نخدع أنفسنا. نحن لم نأت إلى هنا لنبيّن بعض الأمور ولا نبيّن بعضها الآخر. نحن لم نأت لنضع ستارًا على بعض الأمور، ونكشف الستار عن بعضها الآخر.لا بدّ من بيان الأمور كما هو رأي أولياء الدين وأعاظم الدين، وكما بُيّنت وقيلت بصراحة، فلا بدّ أن تبيّن بصراحة.
قصّة توبة أحد عمّال بني أميّة
وهذه المسألة كما ترتبط بالإمام الصادق عليه السلام ترتبط أيضًا بالإمام السجّاد عليه السلام، جاء أحد أصحاب الإمام السجّاد لزيارته في المدينة وأخذ يشكو إليه حال جاره ـ والذي كان من أصدقائه ومن عمّال بني أميّة ـ أنّ حاله سيّئة للغاية، وأوضاعه مضطربة جدًّا، أصلا لا يعرف الليل من النهار، ولا قدرة لديه، سيطر عليه اليأس، واختلّت حياته، فيقول الإمام: كيف؟! لقد كان هذا الرجل في النظام الحاكم وأمورِه، كان يقوم ببعض الأعمال، ومن يكون عاملاً للحكومة فإنّ وظيفته ثقيلة جدًّا! كيف وهي حكومة بني أميّة والتي تقوم من أصلها وأساسها على الفساد والغصب والظلم والإجحاف بالناس وعلى ترجيح العلاقات والروابط على القوانين والضوابط، وعلى غصب أموال الناس وأخذ الحقوق والقضاء على كافّة الالتزامات والقيم على أساس التعلّقات والتخيّلات الماديّة ومجرّد تقدّم الحكومة. وهذا أمر صعب. والدخول في حكومة كهذه أمر عظيم. الدخول في حكومة كهذه له عواقب وخيمة. لقد دخلتَ في حكومة بني أميّة في حكومة معاوية، في حكومة يزيد، في حكومة بني مروان، وأنت تخدمها، تجبي الخراج والأموال، تلقي هذا في السجن، تعدم ذاك، لا أدري ماذا تصنع لهذا وماذا تصنع لذاك، نعم؟! أظننت أنّ هذه الدنيا لن تنتهي يومًا ما؟! لن تنقضي؟! أفيمكنك أن تقضي على وجدانك؟!
يقول ذلك الرجل للإمام السجّاد إنّ كامل حياته قد اختلّت، وقد ترك الدنيا ويرى نفسه من أهل جهنّم، جلس في بيته، ويرى رحمة الله قد أغلقت عنه، ولا يرى قلبه مستعدًّا لرحمة الله. فيقول الإمام: كلاّ، بل له طريق. فالإمام عليه السلام طبيب، الإمام عليه السلام طبيب، يعطي برنامجًا، وبرنامجه يهب الحياة، ينجي، يخرج من الجهل، يخلّص من مشكلات النفس، يحيي، محيٍ.
هل تقول لي ماذا عليّ أن أصنع؟ ماذا تقول ماذا تأمر؟ يقول الإمام: اذهب إليه وقل له فليعِد الأموال التي أخذها من الناس كاملة، كلّ ما أخذه فليعده، ومن تحتمل أنّك قتلته فادفع ديته، وإن لم يقبلوا منك الدية فألقها في منزلهم وابتعد. حتّى تحصل على رضا جميع الناس. فإن فعلت ذلك فإنّك تخرج من تلك المسؤوليّة الثقيلة، وتنجو من ذلك الوزر والوبال الذي كسر ظهرك وأغلق عليك رحمة الله، تخرج من ذلك.
جاء ذلك الرجل إلى رفيقه وبشّره أنّي ذكرت أحوالك عند الإمام وقد أمرك بهذا الأمور ـ وشبيه هذه الحادثة أيضًا وقع مع الإمام الصادق عليه السلام باختلاف يسير ـ فيقوم الرجل مسرعًا من مكانه، إنّه أمرُ الإمام في النهاية، إنّه يعلم أنّ كلّ ما سلف قد انتهى، فيزيد قد ذهب، ومعاوية قد ذهب، وعبد الملك بن مروان قد ذهب، ومروان قد ذهب، هؤلاء كلّهم قد ذهبوا. والباقي هو الإمام السجّاد وهو باق. لو كان أولئك هم الأصل فلماذا الأسى والحزن؟ فاذهب إلى ذلك العالم وخذ بتلابيبهم. لو كان هؤلاء هم الأصل وكان الأمر بيدهم فلماذا أنت حزين؟ فإذن من المعلوم أنّ كلّ ذلك مجرّد فقّاعات فوق الماء، كلّ ذلك زبد، أرأيتم في البحر يأتي الموج فيعلو الزبد، انتظر بضع ثوان لترى أن لا شيء منها. فماذا حصل؟ كلّ ذلك فقّاعات. لقد ربطت نفسك بهذه الفقّاعات وأنست بها والآن لا وجود لها، فاذهب والتقطها!
الذي هو موجود والذي هو باق هو الإمام السجّاد عليه السلام، هو يبقى. هو الإمام الصادق عليه السلام فهو يبقى. أمّا الفقّاعات فإنّها تأتي الواحدة تلو الأخرى ثمّ تزول. والذي يبقى هو إمام الزمان عليه السلام الذي هو باق على الدوام. بقاؤه ببقاء الله. بقاء إمام الزمان عليه السلام هو ببقاء الله. نحن جميعنا نذهب. نحن نموت وأنتم تموتون، اطمئنّوا، هل تريدون أن أوقّع لكم أنّنا سنموت جميعًا؟! لا يحتاج إلى توقيع، إنّه واضح في النهاية. وإن شاء الله نموت سعداء على ولاية إمام الزمان عليه السلام. هذا هو المهمّ. على الإنسان أن يفارق هذه الدنيا بمحبّة إمام الزمان عليه السلام. حينها سيكون ذلك الموت موتًا لا بكاء عليه. موت يوجب الضحك والسرور والأنس والعيش الرغيد. وعلى حدّ تعبير المرحوم العلاّمة يحتاج إلى دفّ وأمثاله... فعندما كان في المستشفى قال لي: إذا ما متّ فلا تبكوا، ولا تصنعوا ما يصنع على الموتى، فما هذا الكلام؟ بالدفّ والضرب خذوني! ثمّ قال: يا فلان أنا سعيد، أنا سعيد. انظر ما هي الحال التي أنا عليها، إذا رأيتني حزينًا متأذيًّا فاضرب أنت على رأسك ـ هذا أنا أقوله وأضيفه ـ إذا رأيتني أغادر حزينًا باكيًا صارخًا فاضرب أنت على رأسك، وإذا رأيتني أغادر بالدف والزفّ فأنت أيضًا لا تبكِ! صحيح؟
هذا الأمر مهمّ جدًّا! أن يكون هناك إنسان حاله حالة سكر وسرور ورغد ورَوح ورضوان كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في أوصاف المتّقين، أم يكون بحيث يحتاج إلى جرّ؟ وهل يمكن؟! يأتون بحبل فيمزّقه، يأتون بسلسلة حديديّة فيقطها، قويّ جدًّا، أقوى من الملائكة. لماذا؟ لأنّ تعلّقاته أكثر. كلّ تعلّق لديه بحجم سلسلة حديديّة بهذه الغلظة. السلسلة التي يجرّون بها السفينة، فأيّة سلسلة هي؟! ليست حبلاً. ولكن لا يمكن سحبه. وهنا يأتي عزرائيل عليه السلام وماذا يصنع به؟ الله يعلم. يريد أن يفكّه من هذه التعلّقات الواحدة تلو الأخرى فلا ينفكّ. التعلّق بالمال، التعلّق بـ... لقد صارت النفس عصيّة، لا يمكنها أن تمضي، لقد تجمّعت النفس، لقد تعلّقت فلا يمكنها أن تمضي. وتترك هذه الأمور.
كان المرحوم العلاّمة يقول: كانوا يأتون إلينا ويقولون: كم تبلغ الحقوق الشرعيّة لهذا المبلغ؟ فيقول: تبلغ هذا المبلغ مثلاً. فيبدؤون بالمماكسة: ألا يمكن سيّدنا أن تقلّلوا منها شيئًا ما؟ هل يمكن أن تسامحونا بهذا المقدار؟ لقد ذهبنا إلى السيّد فلان وسامحنا بالثلث. فكان يقول: ما علاقتي أنا فهو الذي سامحكم؟! فلتذهبوا إليه! سيّدنا فلان يسامح بالنصف. فلان يسامح بالثلث. فلان يسامح بكذا. فأمثال هذه الأمور موجودة. نبيح هذا المقدار ونحلّه! وهذا المقدار نأخذه من إحدى يديك ونسلّمه للأخرى، ولا أدري منذ متى فتح باب المداورة هذا؟ وهذا المقدار نفعل به كذا! كلاّ كان المرحوم العلاّمة يقول: جاءني أحدهم وقال لي ذلك. فقلت: له يا سيّد فلان أنا أتعاون معك في هذه الدنيا وفي ذلك العالم إلى حافّة جهنّم، وعند حافّة جهنّم أعتذر. أنت وحدك عليك أن تذهب. فهذا ما لم يسمح لي به الطبيب أن أدخل إلى جهنّم! إن كان مزاجك مناسبًا فهذا شأنك. أنا آتي معك إلى حافّة باب جهنّم. السيّد فلان سامحك بذاك المبلغ ربّما يريد أن يأتي معك إلى جهنّم! ما المشكلة في ذلك؟ فلان يريد أن يكون مكانه دافئًا ناعمًا، ولكن نحن لا نريد، لا نريد أن يكون مكاننا في ذلك العالم حارًا هكذا. نريد مكانًا معتدلاً! هذه هي القضيّة يا سيّد!
ينبغي الاهتمام الكامل بالأمور. الذين يأتون ويريدون أن يدفعوا الحقوق الشرعيّة بالتقسيط المملّ عليهم أن يعلموا بأنّهم بقدر ما تطول المدّة فإنّ الحقوق تزداد، ليس الأمر هكذا. بعضهم يظنّ أنّه مهما تأخّر يبقى المبلغ كما كان. كلاّ، بل عليه أن يدفع المال إضافة إلى التضخّم أيضًا. ألسنا نفعل ذلك في هذه الدنيا؟! ألا يفعلون ذلك الآن؟ بالأمس كان أحد الأصدقاء يقول أنّه في إحدى القضايا في مكان ما، كان يريد مبلغًا يقارب مائة ألف تومان من رجل. فواجهت هذه المائة ألف مشكلة وبعد خمسة عشر أو عشرين يومًا طالب بها فأضافوا عليها ثمانية آلاف أو أكثر لأنّه تأخّر خمسة عشر يومًا. أليس كذلك؟ هؤلاء يفعلون ذلك. ولكن نحن علينا أن نهتمّ ونلتفت فإنّ المسألة أهمّ من ذلك بكثير، وعلى الإنسان أن يراعي كامل الدقّة في هذه الأمور ليخرج الإنسان من عهدة هذه الأمور. بناء على ذلك يمكن أن يقال إنّ أداء الحقوق واجب كأداء أكثر أمور الحياة ضروريّة في عهدة الإنسان، فلو كان في ذمّة إنسان حقّ من الناحية الشرعيّة، ويريد من جهة أخرى أن يزوّج ابنته فلا يمكنه أن يشتري جهازًا، عليه أوّلاً أن يدفع الحقّ الشرعيّ ثمّ يذهب ليشتري جهازًا. من كان في ذمّته حقّ شرعيّ لا يمكنه أن يسافر، لا بدّ أولاً أن يدفع الحقّ الشرعيّ، إلاّ بذلك المقدار الذي يراه المجتهد حيث يمكن أن يعيّن له مهلة وفق ظروفه وظروف حياته والتعدّي عن هذه المهلة حرام. فقط يمكنه أن يتأخّر هذه المدّة المحدودة، وذلك بإجازة المجتهد أيضًا لا من نفسه. وإن لم يؤدّ ذلك فهناك عواقب موبقة للإنسان.
الحجّ واحد من الحقوق الإلهيّة
كنت أريد الآن أن أنقل أمرًا عن المرحوم العلاّمة ولكن سؤؤجّله. ومن هذه الأمور موضو ع الحجّ، فالحجّ واحد من الحقوق الإلهيّة، وللأسف نحن نتعامل معه بتراخ. هل جاءت هذه التأكيدات التي وردت في الروايات حول هذا الموضوع حول أدنى مسألة؟ ليس لدينا في الروايات في أيّ أمر أنّه إذا تركت قيل لصاحبها عند الاحتضار أنت لم تمت على دين النبيّ، تخيّر بين النصرانيّة واليهوديّة.۱ فهذه المسألة مهمّة إلى هذا الحدّ. فمن وجب عليه الحجّ وهو مستطيع فعليه أن لا يؤخّر يومًا واحدًا. ومن الاشتباهات التي نقع بها نحن أنّا نسجّل في هذه الظروف أسماءنا للحج ووفق هذا التسجيل نذهب إلى الحجّ بعد عدّة سنوات. ولكن من كان يستطيع أن يذهب إلى الحجّ ولو بدفع مبالغ أكثر ولو مائة مليون فلا يمكنه أن يؤخّر إلى سنة أخرى وعليه أن يذهب في نفس السنة. لقد منعوا المستطيع ووقفوا أمامه، وهذا حرام شرعًا. يجب أن يذهب المستطيع مهما كلّف الأمر. عليه أن يؤدّي الحجّ الواجب، نحن نظنّ أنّ الحجّ كالزكاة وأمثالها إن حصل لدينا مال ندفع وإن لم يحصل لم ندفع.
من الأخطاء المهمّة جدًّا التي ترتبك في المسألة الفقهيّة الآن هي أنّا لم نصل إلى مسألة الاستطاعة بمفهومها ومصداقها الشرعيّين كما ينبغي... أتعلمون ما معنى (ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه...)۱ التعهّد الذي أخذه الله من الناس من كلّ إنسان مستطيع أن يحجّ. فبماذا نفسّر المستطيع نحن الآن؟ إذا حصلنا على مال ما وجاء به الريح، وأنفقت جميع ما تريد إنفاقه، وقضيت حياتك برفاهية، وبلغت ما تريد منها، وسافرت إلى حيث تريد من الدنيا، وهيّأت جميع الأمور، وجهّزت جميع بناتك للزواج، وهيّأت المال لتزويج جميع أبنائك، واشتريت لهم ما يحتاجون من وسائل، ثمّ بقي شيء بعد ذلك ولم يصرف ذلك المال قبل أن تحين أشهر الحجّ، شهر شوّال، ولم يحدث حدث يوجب صرف هذا المال، حينها يصبح الحجّ واجبًا! كلاّ ليس الأمر كذلك يا سيّدي.
المفهوم الصحيح للاستطاعة
{من استطاع إليه سبيلاً} بالنسبة إلى الحجّ تعني أنّه من استطاع ولو بأن يقترض فليذهب، من الذي قال أنّه حتمًا لا بدّ أن يكون لديه مال؟ فمن كان بإمكانه أن يقترض ثمّ يسدّ المال شيئًا فشيئًا خلال السنة فعليه أن يحجّ هذه السنة. وليس من الضروريّ أن يكون هناك مال زائد جانبًا، لقد أطلقت الاستطاعة في الروايات على حصول الزاد والراحلة، فمن كان عنده زاد للسفر وراحلة ومركب يركبه فهو مستطيع، وليس لدينا أيّ دليل على أنّ هذه الزاد والراحلة لا بدّ أن يكونا موجودين بالفعل. من كان يمكنه أن يحصّل، من كان لديه مال، من كان بإمكانه أن يقترض ويسدّد خلال السنة في الشهر خمسين ألفًا مثلاً، فهناك الكثيرون يقرضون، لديهم مال وليست لديهم حاجة، فيقترض الإنسان من صديقه، أو يؤمّن الظروف بنحو يقلّل فيه من ذلك الإسراف، ومن ذلك البذخ، ومن تلك الأسفار ويحجّ. زيارة الإمام الرضا عليه السلام مستحبّة، أمّا لو أدّت هذه الزيارة إلى العجز عن الحجّ فيجب أن لا يذهب إليها، يجب أن يحجّ، الحجّ واجب. الإمام نفسه عليه السلام يقول: يجب أن تحجّ.
ولن أقول لكم الآن ما قاله بعض الأعاظم حول الحجّ الواجب، أقتصر الآن على القول بالإجمال بأنّ الحجّ مهمّ إلى درجة أنّي لو قلت لكم كم هو مهمّ لذهبتم مشيًا على الأقدام. له هذا الأثر. ثمّ بعد ذلك نسمع في بعض الموارد أنّ فلانًا السيّد فلان رغم ما هو عليه من الشأن لم يحجّ؟ لماذا لم يحجّ؟ لم يكن مستطيعًا. من قال إنّه لم يكن مستطيعًا، كان مستطيعًا أن يبني ذلك المبنى... نعم؟ ألم يكن مستطيعًا؟ ما هذا الكلام؟ من يقول ذلك لم يصل إلى مفهوم الشرع وحاقّ الدين وتلك الحقائق التي في باطن الأحكام الشرعيّة والأوامر والنواهي الإلهيّة، وينظر إلى الأمور من مجرّد منظار ظاهريّ، وظاهر أيضًا جامد فيرى هذا الرأي.
أمّا ذلك العارف الذي اطّلع على الحقائق الباطنيّة وتلك القيم وتلك الدرر الثمينة التي جعلها الله خلال الأحكام الإلهيّة لأجل تربية النفوس، وأشرف على هذه الحقائق والأمور الواقعيّة بوجدانه وقلبه وضميره ولمس حقيقة هذه الأمور بروحه، فهو يعلم ما هي الخسارة وما هو الضرر اللذين يصاب بهما أولئك الذين ينظرون إلى هذه الأمور نظرة بسيطة وإجماليّة وجامدة وسطحيّة! ذلك العارف الذي له إشراف على الحقائق الباطنيّة والأحكام الشرعيّة الأدلّة الشرعيّة والمراجع والمستندات الشرعيّة من خلال جانبين: جانب الباطن وجانب الظاهر معًا، هو الذي يمكنه أن يكشف الستار عن هذا السرّ هو الذي يمكنه أن يبيّن هذا الأمر هو الذي يمكنه.
موضوع الحجّ موضوع مهمّ جدًّا، كيف إذا حدث للإنسان حادث ما ـ كما ذكرت في القضيّة السابقة ـ يمكن أن يواجه، فيمكن للإنسان أن يقترض ثمّ يدفع خلال مدّة، فإن لم يكن بإمكانه أن يقترض فهذا أمر آخر، وله تكليف آخر. أمّا لو استطاع أن يقلّل من بعض الأمور، من بعض الإسراف، من بعض جوانب حياته، فمثلاً لو كان مصروفه في حياته مائتي ألف تومان في الشهر، إن لم يكن ثلاثمائة ألف تومان، فلتكن مائة ألف منها للحجّ وليجعل مائتين لحجّه، فما المشكلة في ذلك؟! لماذا؟ هل يجب حتمًا أن تكون الوجبات الثلاث للإنسان بنحو معيّن؟ أين ورد ذلك؟ من قال ذلك؟ كيف ولذلك ضرر كبير أيضًا؟! إذا تحدّثنا إن شاء الله لاحقًا في الفصول الآتية والجلسات الآتية حول كيفيّة التغذية فسنرى أنّه يمكننا أن نجعل أنفسنا بحالة أخرى، يمكن أن نجعل أنفسنا بنحو آخر.
حجّ الإمام الحسن عليه السلام ماشيًا
الإمام الحسن المجتبى عليه السلام الذي ذهب من مدينة إلى مكّة خمسًا وعشرين مرّة وبعض هذه الأسفار إن لم يكن أغلبها ـ أنا شاكّ ـ كان مشيًا على الأقدام والركائب تساق بين يديه. ۱ النوق والمراكب تساق بين يديه. لم يأت الإمام الحسن ليؤمّن حياته وعياله وكلّ شيء بشكل منظّم ثمّ يذهب بعد ذلك. كلاّ بل نفس تلك الحياة المتعارفة التي كانت، إذا صار وقت الحجّ كان يقول فيها تفضّلوا لنذهب. بنفس تلك الحياة المتعارفة، هي بنفسها هناك. كلاّ لم يكن الأمر كذلك. الأعاظم عندما كانوا يذهبون إلى الحجّ لم يكونوا كذلك، هل كانوا ينزلون في فنادق كذا وكذا ؟ كلاّ فمكّة لم تكن سابقًا هكذا. فكم منزلاً كان في مكّة سابقًا؟ كان الجميع في الخيم. كما هو الحال الآن في عرفات ومنى، فكلّ الحجّاج كانوا قبل ذلك في السنوات السابقة أي قبل مئات السنوات، ولم يكن هذا الحال الذي نراه الآن من الأبراج الطويلة وما شابه. وحين لم تكن هذه الأمور، فأين كان هؤلاء؟ كانت لهم خيام يجلسون تحتها، ثمّ يأتون إلى المسجد الحرام، ثمّ يرجعون إلى خيامهم وينامون. هكذا كانت الأحوال. فكما هم الحجّاج الآن في عرفات ومنى بل لم يكونوا على هذه الدرجة من الخيام ذات المكيّفات ويبرّدون أجواء المنطقة بالماء وأمثال ذلك. كلاّ بل خيمة وبضعة حبال يربطونها بالأرض فكان سيّد الشهداء عليه السلام مثلاً ينام تحت هذه الخيمة، وكان الإمام الصادق عليه السلام ينام تحت هذه الخيمة. هكذا كان الحال في مكّة، خيمة لا أكثر. ثمّ كانوا يذهبون، ومحلّ سكنهم وفندقهم وغرفتهم هذه الخيمة. يذهبون إلى المسجد الحرام ويزورون ويطوفون ثمّ يرجعون إلى فندقهم هذا ينامون فيه! هكذا كانت مكّة سابقًا.
الآن نحن جعلنا حجّنا بنحو آخر، فأوّلاً ليس لدينا اهتمام بالحجّ كما هو حقّه، ونعتبر الحجّ فريضة مثل [الزكاة والخمس] يعني نعتبر شرط الاستطاعة [شرطُ وجوب]، حتّى هناك كلام حول أنّ الاستطاعة شرطُ وجوبٍ أو شرطُ واجبٍ۱؟ فبعضهم يرون أنّ الاستطاعة شرط واجب لا شرط وجوب. يعني لا يعتبرون الحجّ كالصلاة لا تجب قبل زوال الشمس وصيرورتها في وسط الظهر، فصلاة الظهر ليست واجبة أصلاً قبل ذلك، بل إذا زالت الشمس وجبت الصلاة، فإذا وجبت الصلاة صارت الطهارة شرطًا للواجب لا شرطًا للوجوب، فالوضوء شرطُ واجبٍ، فبما أنّ الصلاة قد وجبت، فلا بدّ من تحصيل الطهارة لها، لا بدّ من الوضوء لها. بعض الأفراد يرون الاستطاعة شرط واجب، وأهل العلم يعرفون والأصدقاء يعرفون أنّ مسألة الحجّ مهمّة إلى درجة أنّ وجوب الحجّ كأنّه مستقرّ على ذمم الجميع، وعلى الناس أن يسعوا لتحصيل هذه الاستطاعة، لا أن ينتظروها لتدخل بنفسها إلى بيوتهم، لا أن يصبروا حتّى يروا الاستطاعة قادمة. كلاّ بل على الناس أنفسهم أن يسعوا إليها، وبالطبع لا من أيّ طريق وبأيّ نحو وكيفيّة، كلاّ، بل شيئًا فشيئًا يجعل الإنسان مقدارًا من المال جانبًا ويجتمع لديه مبلغ بالتدريج. لا بدّ أن تكون مسألة الحجّ في الذهن كمسألة أداء الدين، وتستقرّ بهذا النحو، حينها يسعى الإنسان إلى تحصل الاستطاعة، ويبحث عنها، وشيئًا فشيئًا يدّخر حتّى يوفّق. حينها يكون هذا الحجّ حجًّا يتّبع فيه الإنسان النبيّ إبراهيم عليه السلام، فكيف كان النبيّ إبراهيم يأتي إلى الحجّ؟ هل كان يأتي بطائرة من طابقين وبمقاعد من النوعية الفاخرة؟ لقد جاء النبيّ إبراهيم من فلسطين من بعد ثلاثمائة فرسخ وركب على مركبه وجاء إلى مكّة وبنى البيت، هكذا كان. وعندما كان الناس سابقًا يسافرون إلى الحجّ كان يستغرق أحيانًا ستّة أشهر في الطريق فقط، أمّا نحن الآن فلو لم تكن هناك طائرة فلا يكون الحجّ واجبًا عندنا. بالسيّارة؟! أفيمكن أن نذهب بالسيّارة؟! لا، نتعب! هل يمكن أن نسير لثلاثة أيّام وأربعة أيّام؟! ولا بدّ أن يأتي يوم تصبح هذه الطائرة أيضًا متعبة وتصبح الرحلة خمسة دقائق أو ستّة دقائق حينها يجب الذهاب! هذا لا يصحّ! الأمر بنحو آخر. ونتيجة هذه الحالة هي أن نُحرم من هذه النعمة، ولا نبلغها ولا تتحقّق تلك الفعليّات التي جعلها الله مترتّبة على ظهور الاستعدادات. أن لا تتحقّق فينا تلك الحقائق. كان هذان موضوعين كنت أريد أن أذكّر بهما الرفقاء.
أمّا بالنسبة إلى أصل الموضوع فأعتقد أنّ الأمر طال قليلاً وثقل. سأنقل حكاية عن المرحوم العلاّمة وإن شاء الله ما تبقّى من الكلام والذي يرتبط بالأمور الشخصيّة يبقى للجلسة اللاحقة. فالتعهّد والالتزام بالأمور وخصوصًا الماليّة هو أحد المحاور الأساسيّة لحركة السالك. فالسالك الذي لا تعهّد لديه ليس سالكًا. ليس سالكًا أبدًا، وعدم التعهّد في هذه الأمور والتقصير فيها يؤدّي شيئًا فشيئًا إلى أن يشعر الإنسان في نفسه بالثقل، ويفقد تلك الحالة التي كانت له سابقًا، سيّدنا لا أدري لماذا لم تعد لي تلك الحالة السابقة؟ لا أدري لمَ أنا كسول؟ لا أدري لم أنا هكذا؟ لماذا لا أتقدّم؟ لا أدري لماذا أنا هكذا؟ لماذا؟ اذهبوا لنتأمّل قليلاً حتّى نعلم. سيّدنا لا ندري لماذا نفسنا لديها تعلّق بالأمور، سابقًا كنت أعفو، والآن لست كذلك. لا بدّ أن أعرف أين السبب؟ إن كنت سابقًا لا أهتمّ ببعض الأمور فالآن عدم الاهتمام بها صعب جدًّا وله عواقب وخيمة أكثر. الآن جئنا ونعدّ أنفسنا في هذا الطريق وفي الوقت نفسه نخالف. سابقًا لم نكن نعلم شيئًا لم نكن نلتفت والآن رغم الالتفات هناك آثار سلبيّة وآثار سيّئة. ثمّ وشيئًا فشيئًا ينتهي الأمر إلى أن نشعر أنّ بيننا وبين الواقع حجابًا، نجد أنفسنا مغلقة.
قصّة الابن الذي هاجر وترك مساعدة والده
لقد نقل لنا المرحوم العلاّمة هذه الواقعة مرّتين أو ثلاث وكان يقول: كان أحد أقاربنا في إيران تلميذًا ذكيًّا جدًّا ودخل الجامعة فرع الطبّ ثمّ تخصّص في الجراحة. لم يكن والده رجلاً مرفّهًا وصاحب ثروة، كان له دكّان في العهد السابق في باحة إعدام طهران، كان له دكّان موادّ غذائيّة وأرزّ وسكّر وشاي وكافّة اللوازم، وأنا بنفسي كنت أذهب برفقة الوالد رحمه الله إليه وكان عمري أربع أو خمس سنوات، فكان كلّما أراد أن يصل رحمه ـ لأنّه كان من أقاربه المقرّبين ـ كان يأخذنا معه، كان عمري أربع أو خمس سنوات، وكان هذا الرجل على كبر سنّه وبصعوبة يلاطفنا كثيرًا وأحيانًا كان يقدّم لنا السكّر النباتي والحلوى، وكان في ذلك الزمان حلوى تصنع من الجبن والسكّر ذات لون أبيض كان يقدّم لنا منها. وكنّا نفرح كثيرًا، في كلّ أسبوعين أو ثلاثة كنّا نقول للوالد: ألا نذهب لزيارة أقاربك؟ فكان يأخذنا وكان يلاطفنا كثيرًا. كان رجلاً طاعنًا في السنّ ومحترمًا جدًّا، زاهدًا جدًّا، عابدًا مستقيمًا صحيح العمل، صحيح العمل جدًّا وصادقًا جدًّا ومحلّ ثقة الجميع. كان رجلاً عجيبًا فمن ناحية العمل كان يعمل وفق أحكام الشرع وأحكام الإسلام. لم نعد نرى أمثال هذه الأحوال إلا في النوم، نعم سابقًا كان الكثير من الناس هكذا، والآن اختلف الأمر، فلم يعد الأخ يرحم أخاه، ولا الأب يرحم ابنه، ولا الابن أباه، فما بالك بالآخرين؟ كلّ شيء صار ماديًّا، وكلّ النظرات صارت ماديّة، وللأسف لم يبق لحقيقة الدين التي يجب أن تكون ثابتة على الدوام وسببًا للألفة والوحدة مجال أبدًا، وإن لم أقل أبدًا فللأسف لم يبق لها إلا القليل.
كان هذا الرجل يعمل رغم حاله هذا، ويساعد ابنه الذي في الجامعة لمتابعة الدراسة، إلى أن أصبح هذا الابن شيئًا فشيئًا طبيبًا وجرّاحًا في الجراحة العامّة، ويقال أنّه كان يقوم بعمليّات مميّزة وكان قد بدأ يذيع صيته ويشتهر بعمله وسائر الأمور التخصصيّة وكان يبدو أنّ له مستقبلاً. إلى أن سافر إلى الخارج إلى أميركا وساعده والده هذا بتلك الطريقة وبواسطة دكّانه المتواضع وأرسل إليه مصاريف الدراسة هناك، حتّى أصبح من أفضل وأمهر الأطبّاء المعروفين هناك. ويبدو أنّه صار في الجراحة البلاستيكيّة الرجل الأوّل أيضًا أو من الأوائل. وشيئًا فشيئًا حصل على ثروة، والآن لا أدري ما إن كان لا يزال على قيد الحياة أم مات. ويبدو أنّه في إحدى زياراته في عهد الشاه التقى بالمرحوم العلاّمة، وكان لا يزال في طهران ولم يكن قد انتقل إلى مشهد بعد، ثمّ رجع من جديد إلى أميركا. وهناك تزوّج بامرأة أجنبيّة. وفي أواخر عمره شعر بالندم وتحدّث لأصدقائه وإخوانه الذين كانوا هناك وكانوا على قيد الحياة عن حياته التي تلفت وضاعت. فكان يعتقد بصورة عامّة أنّ حياته قد تلفت وضاعت عبثًا، وكان يبدي أسفه على ذلك. وكان رفيقًا جيّدًا للمرحوم العلاّمة عندما كان يدرس في المعهد الفنّي والجامعة، فقد كانا معًا صديقين حميمين.
المهمّ أنّه عندما بلغ إلى الثروة والمقام أصبح أبوه عاجزًا ولا يمكنه بعدها أن يرسل إليه بالمال، لقد صار مقعدًا، وهو أيضًا صار مستغنيًا وقد تغيّرت الأحوال بشكل كامل. فأبوه صار مقعدًا ومريضًا ويحتاج إلى معالجة، ومن الناحية الأخرى لا يمتلك تلك الإمكانيّات ليدفع تكاليف ذلك. واللطيف أنّ أخاه أرسل إليه رسالة يقول له فيها أن يا فلان إنّ أبانا قد أوصلك إلى ما أنت فيه وهو بهذه الحالة، والآن هو محتاج، حياته، منزله وضعه.. وأنت يمكنك أن تساعد، شيء يسير جدًّا لا يعدّ شيئًا أصلاً قران واحد، تومان واحد، وإذا ما ساعدت بهذا المقدار في هذه المدّة فإنّك تصلح معيشته وحياته.
أتعلمون ماذا قال في جوابه؟ قال: أتظنّ أنّا حصلنا على هذه الأموال بالمجّان؟! هل تلتفتون؟! فكم ينبغي أن يصل الإنسان إلى نهاية الدناءة والرذالة والذلّة والبهيميّة، وقد أوصله بذلك النحو من العمل إلى ذلك الموقع، حتّى تمكّن من الوصول إلى تلك المرتبة من المقام والشهرة العالميّة ولكن نجد أنّ التوغّل والتعلّق والارتباط بالمادّيّات وعدم الالتفات إلى الأصول الإنسانيّة، عدم الالتفات إليها يجعل هذه الأموال شيئًا فشيئًا تتكدّس وكلّما ازدادت ازداد تعلّق البدن بها.
التفتوا! فالأمور التي ينقلها الأئمّة عليهم السلام والأعاظم ليست مزاحًا! فللنفس خصوصيّة كهذه. وهذا معنى ما كان المرحوم العلاّمة يؤكّد عليه من وجوب المراقبة والمراقبة والمراقبة. لا تسمحوا أن يصل الأمر إلى هذا الحدّ. لا تسمحوا للنفس أن تصل إلى هنا. هذا بالنسبة إلى الأمور الماديّة، والأمر نفسه يجري في الأمور الأخرى، الرئاسات وسائر التعلّقات. ففي جميع المواضع وفي كلّ مرتبة تريد أن تتوجّه النفس إليها وتتعلّق بها فإنّها تصل شيئًا فشيئًا إلى حيث لا يمكن اقتلاعها. لن يمكن اقتلاعها، هنا لا يمكن لتلك السلاسل الحديديّة الضخمة أيضًا أن تقتلعها. حينها يأتي عزرائيل وينظر كيف يمكن اقتلاعها؟ وحينها ترتفع الصيحة إلى السماء.
وهنا كان يحذّر المرحوم العلاّمة الناس من التصدّي لبعض المناصب ويقول: قبل وصول الإنسان إلى منصب معيّن تكون له حال مختلفة من التعلّق بذلك المنصب. ويمكن أن يرفض في البداية: كلا أنا لست أهلاً، أنا لست من أهل الدنيا، أنا كذا، وهذا ليس لي. وهو صادق في ذلك، صادق لا يكذب. لأنّه لم يرد بعد إلى هذه الجماعة، لم يدخل بعد في هذا الموقع. ولكن إذا دخل، فإنّه في اليوم الأوّل يختلف بمقدار ميليمتر واحد عن اليوم السابق. وفي اليوم الثاني بمقدار ميليمترين اثنين، وفي الثلاث بمقدار ثلاثة سانتيمترات. ثمّ يرتفع ويتصاعد وفي اليوم الرابع متر، وفي اليوم الخامس... وبعد ستّة أشهر يرى أنّه يختلف عمّا كان عليه ما بين الثريّا والثرى. هنا لا يمكن اقتلاعه، يقولون: حسنًا تفضّل واترك، ألم تكن تقول في البداية أنا لست أهلاً؟
ماذا؟ تفضّل؟! لا يمكن هكذا، ماذا يعني تفضّل؟ أفبهذه البساطة تفضّل؟! لا يمكن. لقد قلت ذلك أنت بنفسك في اليوم الأوّل، وهذا تسجيل صوتك وهذا كلامك، ألم تقل أنا لست أهلاً، فالآن أنت لست أهلاً أيضًا.
ما هذا الكلام؟ لقد جئنا نحن إلى هذا المكان وصنعنا لأنفسنا موقعيّة ومكانة.
هنا يقول المرحوم العلاّمة: لا بدّ للمتصدّي أن يكون متّصلاً بإمام الزمان عليه السلام، لأجل هذا، ليأتيه المدد في كلّ يوم من هناك. في كلّ يوم تأتيه المساعدة من هناك، في كلّ لحظة يلقى في قلبه، وفي كلّ لحظة يأتي من جانب الولاية ما يمنعه من التعلّق. يحافظ على ذلك الميليمتر الواحد الذي كان في البداية. من قِبَل من كُلّف مالك الأشتر بالحكومة؟ من قِبَل المولى أمير المؤمنين عليه السلام. وهذا الذي أمره إضافة إلى البرنامج العمليّ الذي هو عهده إلى مالك الأشتر، إضافة إليه هو يرعاه أيضًا، ما إن يخطر خطور... أليس متّصلاً؟ ما إن يأتي خطور للخطأ يأتي ويردّه.ما إن يريد أن يقوم بعمل فإنّه يعدّ له الظروف للامتناع، ولو قام به يأتي أمر أنّك خالفت فتب. هكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام.
وفي حكومة إمام الزمان الأمر كذلك أيضًا. فعندما يحكم إمام الزمان أتظنّون أنّه يحكم هكذا [عبثًا بغير دقّة ورعاية]؟ إنّ كلّ من يحكم من قبل الإمام مرتبطون به من ناحية الباطن، جميعًا. جميعهم تحت نظر الإمام، هذا سوى المراقبة التي يقومون بها هم بأنفسهم. سوى ذلك التوجّه الذي لديهم في كلّ لحظة، الأمر هو هكذا. إن لم تكن لدينا مراقبة فمن الممكن أن نصل إلى مرحلة التثبيت في [الختم] فالله يقول: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة}.۱ لقد ختم عليها ولم يعد بالإمكان فتحها. معاذ الله، أعاذنا الله من هذه الورطة ومن هذا الوادي وحفظنا منه دائمًا، ولا جعلنا نصل إلى هذه المرتبة.
إن شاء الله، نأمل أن نكون دائمًا تحت ظل مقام الولاية وأن تكون أمورنا مرضيّة عنده.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.