المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير و النظام الاجتماعي
التوضيح
هو العليم
علاقات الإنسان بالعمل خارج المنزل
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٦۷
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين
لا يدبّر العبد لنفسه!
قال إمامنا الصادق عليه السلام: لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا.
على العبد أن لا يفكّر في تدبيرٍ من عنده في الأمور التي يشتغل بها.
كان البحث حول كيفيّة علاقة الإنسان وارتباطه النفسيّ والروحيّ بالأمور والقضايا الاجتماعيّة والعمل والتعاطي مع الأحداث التي يواجهها خارج محيط المنزل.
وأمّا حول الأمور الشخصيّة والعلاقات الداخليّة فهناك أمور سنذكرها تباعًا للرفقاء والأصدقاء إذا وفّقنا الله.
بين الفقه والعرفان
حديثنا الآن هو حول كيفيّة العمل وكيفيّة تعاطي الإنسان مع الأمور اليوميّة على أساس النظرة العرفانيّة إلى الأمور الاجتماعيّة والفقهيّة. أي كيف يحكم العرفان في هذه العلاقات وكيف يبيّن الطريق ويوضّحه؟ وإن كانت المصادر والمستندات الفقهيّة تنشأ من مصدر يعدّ واحدًا من مصادرنا العرفانيّة. وبعبارة أخرى فإنّ المصادر الفقهيّة تنشأ من نزول الأحكام الإلهيّة على قلب وليّ الزمان الذي هو عبارة عن الإمام المعصوم عليه السلام. لذلك وبالالتفات إلى هذا الأمر، فإنّ الرؤية العرفانيّة الواقعيّة والحقيقيّة يمكن أن يقال إنّها رؤية ونظرة قلب الإمام المعصوم عليه السلام المنوّر والمتّصل إلى الأمور الاجتماعيّة. أمّا كيف نصل نحن إلى ذلك فهذا ما يرتبط بمقدار قربنا من قلب إمام الزمان عليه السلام ومقدار اتّصالنا بمنبع الفيض والعين النضّاخة لنزول الأحكام الإلهيّة. ولذلك فإنّ هناك تبادلاً بين الرؤيتين العرفانيّة والفقهيّة، وهما أمران لا ينفكّ أحدهما عن الآخر ولا ينفصلان، ويمكن القول إنّ من لا نصيب له من العرفان لا نصيب له من الفقه.
وبالنظر إلى هذا الأمر فإنّ بحثنا هو حول كيفيّة علاقة الإنسان خارج محيط البيت، والأمر المهمّ الذي جعلناه محور جميع أبحاثنا هو محوريّة التوحيد والعبوديّة التي هي اللبّ والروح والسرّ في رواية عنوان البصريّ الشريفة. فعلى أساس هذا الأمر نحن طرحنا القواعد السياسيّة ومبادئ الحكومة الإسلاميّة. وعلى أساس هذا الأمر تتبلور مبادئ وقواعد العلاقات الاجتماعيّة للإنسان. وعلى هذا الأساس يمكن أن تتحقّق الأمور الشخصيّة والأسريّة. وعلى هذا الأساس يمكن أن تتشكّل رؤية الإنسان إلى الوجود. كلّ ذلك يرتكز إلى محوريّة التوحيد ومحوريّة حقّانيّة الحقّ، في كلّ زوايا عالم الوجود سواء تكوينًا أو تشريعًا، وسواء في عالم الخارج أو في عالم التربية.
محوريّة التوحيد في العلاقة مع النفس
فعلينا أن نعثر على هذا ونصل إلى هذه النقطة. علينا أن نصل إلى هذه النقطة، وهي أنّه في العلاقة مع النفس أيضًا نحن عباد لله، ولا يمكننا أن نقوم بما يحلو لنا في أنفسنا، ولا يمكننا أن نتلف أوقاتنا كيفما نشاء، لا يمكننا أن نقضيها كيفما اتّفق. التصرّف في أمورنا تصرّفًا في غير موضعه، والتدخّل في أمور الآخر تدخّلاً في غير موضعه، هما تدخّل في ملك المولى. يقول الله يوم القيامة: أأنت خلقت الخلق أم أنا؟ لا يمكننا أن نقول نحن خلقنا الخلق.
يقول: ما دمت أنا خلقتك فأنا أولى بك منك. لماذا صرفت هذا الخلق الذي خلقته أنا بغير الطريق الذي عيّنتُه؟ حينها لن يكون لدينا جواب. وحينها لن تكون للأعذار والأمور الشخصيّة وفلان قال وفلان قال ولأجل هذا ولأجل ذاك لن تكون لها أيّة فائدة يا عزيزي. لن تكون أيّة فائدة لها! كلّ إنسان سجلّه على عاتقه، ويتتبّع ما كتب فيه. لا الأب يمكن أن يدافع هناك عن الولد، ولا الولد يمكن أن يدافع عن الأب۱. لا الزوجة يمكن أن تدافع عن الزوج، ولا الزوج يمكن أن يدافع عن الزوجة٢، هناك الإنسان هو وربّه وسجلّه الموضوع في يده ليفتحه ويعلم بما فيه، هذه هي النقطة التي يجب علينا أن نفكّر فيها كثيرًا، فقد وضعت يدي على الجرح وبيّنت لبّ القضيّة.
هذه المحوريّة هي محوريّة التوحيد. وبناء على ذلك واستنادًا إلى هذه القاعدة فإنّ جميع أمورنا يجب أن تكون على هذا الأساس. أي أن لا نعدّ أنفسنا مالكين لأنفسنا بحيث نقول كلّ ما يحلو لنا، لا نعدّ أنفسنا مالكين لأنفسنا فنفعل كلّ ما يحلو لنا، لا نعدّ أنفسنا مالكين لأنفسنا لنترك للنفس ما تشاء من التدخّل والتصرّف. كلاّ فنحن لا يمكننا أن نتدخّل ونتصرّف في أنفسنا، فكيف بالأمور التي ترتبط بالآخرين.
كيفيّة بدء يوم العمل عند الخروج من المنزل
يجب أن يكون محور عمل الإنسان خارج محيط البيت على أساس التوحيد. ماذا يقول هو؟ عندما نريد أن نخرج من البيت صباحًا يجب قبل أن نركب السيّارة وقبل أن نتقدّم خطوة نحو الشارع ونحو وسائل النقل أن نقف دقيقة أمام باب البيت ونفكّر ماذا نريد أن نفعل اليوم؟ إلى أين نذهب؟ مع من سنتحدّث؟ هل العمل الذي نريد القيام به مطابق لرضا الله أم لا؟ علينا أن نقف قليلاً، نصف دقيقة، لا يأخذ وقتًا.
كان هناك رجل له أخلاقه الخاصّة وطباعه، وقد تحدّثت معه مرارًا، وكان يبدي المحبّة، وعلى كلّ حال كان الأمر يُنسى. قلت له: بِعني ساعة من النهار عندما تكون في البيت، أي أنّي أملكك لساعة، وما أقوله لك تفعله حينها، وساعة واحدة ليست كثيرة، افترض أنّك في صالة الاستقبال، ساعة تعمل في التجارة، تعمل، في مكتبك، في مكتبتك، في غرفة الدراسة، لا أريد منك أكثر من ساعة، وباقي الأوقات لك! فقبل ووعد ووفى، وتحسّنت أحواله، بساعة واحدة.
والآن عندما نخرج أريد نصف دقيقة فلا نخرج سريعًا، عندما نضع المفتاح في الباب لفتحه فلنقف، ولننظر ماذا نريد أن نفعل اليوم؟ نصف الدقيقة هذا مؤثّر في كامل النهار! فقط نصف الدقيقة الأولى هذا. فهذا ما كان المرحوم العلاّمة يدعوه بالمشارطة، فمن شروط السلوك والحركة في طريق الله المراقبة، ولها ثلاث أقسام:
أحدها المشارطة. وهي تعني أنّ الإنسان إذا ما قام من فراشه صباحًا فلا يقوم بسرعة ليجدّد الوضوء ويصلّي وأمثال ذلك، لا بل فليقل أولاً: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور.۱ الحمد مختصّ بالله الذي أحياني بعد أن أماتني لا بعد أن أنامني، أماتني، ولدينا آية في القرآن تفيد أنّ النوم نوع من الموت٢. فهل للنائم إرادة؟ لا إرادة له. لذلك فإنّ من يتكلّم أثناء النوم لا يمكن الاعتماد على كلامه. فلو قال إنسان أمرًا أثناء النوم وقيل له أنت أقررت في نومك بهذا الأمر! فإنّه يقول: لقد كنت نائمًا، ربّما رأيت منامًا فأقررت! أثناء النوم قد يضرب الإنسان يده فيكسر كوب ماء أو إبريقًا، فلا غرامة عليه لأنّه لا اختيار له، فمن الموارد التي لا غرامة فيها هذا المورد، لأنّ الإرادة شرط في الغرامة، ولا يشترط غير الإرادة، لا يمكن أن يكون غيرها دخيلاً. فالنائم مثل الميّت، مثل المغمى عليه، عندّما يخدّر الإنسان فإنّه ينام هكذا على تخت العمليّات الجراحيّة ولا يمكنه حتّى أن يحرّك جفنه، فما هذا؟ إنّه ميّت، ويحكم عليه بأحكام الميّت.
يقول الله: النوم موت. نحمد الله على إحيائنا بعد إماتتنا. فلو لم نقم وبقينا في النوم ماذا كنّا سنختلف عن الموتى؟ بعضهم لا يستيقظون من حالة التخدير بعد العمليّة، الرئة لا يمكنها أن تعمل وتقوم بأعمالها بشكل طبيعيّ. فيدخل في حالة الكوما حتّى يموت. والنوم هو هكذا. فلو لم نستيقظ، لبقينا نائمين إلى الأبد، فمن الذي أيقظنا؟ من الذي فصل هذه النفس عن البدن وقلّل من تعلّقاتها، ومن الذي أعادها من جديد؟ إنّه الله.
لذلك عندما نستيقظ من النوم فعلينا أن لا نقوم مسرعين توقّف قليلاً! اصبر! إلى أين أنت ذاهب على عجل؟ توقّف! فكّر ماذا كنت وماذا صرت؟ أين كنت وإلى أين جئت؟ لذلك فإنّ أوّل كلام نقوله هو التوجّه إلى المبدأ. ما إن أقومُ من النوم حتّى يقول الله لي: اذكرني! إلى أين أنت ذاهب؟ اصبر لا تستعجل! أعطني من وقتك نصف دقيقة. قل: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور.۱ فاحمَدِ الله أوّلاً، بعدها ستدرك كم يختلف القيام بعد ذلك عنه بدونه! ما إن تقول هذا الكلام حتّى يأتي نور. لقد كنت في ذكر الله! ما إن قمت من النوم ذكرتني. فذكر الله هذا يبدأ ببثّ النور حتّى النهاية.
الشرط الأوّل للمراقبة قالوا إنّه المشارطة، أن يعاهد الإنسان الله ويشارطه، فنحن نعاهد كثيرين: يا فلان افعل لي هذا. ونحن نفعله. وإن لم يفعله نيأس. وإذا كنّا منصفين فإنّا نلتزم، في النهاية للإنسان وجدان، يلتزم، إذا قام بعمل ما نراه ملتزمًا.
كنت قد اتّفقت أمس الخميس أن يأتي صديقنا الكريم برفقة أهله إلى منزلنا، وعند الصباح التفتُّ إلى هذا الأمر، ومهما حاولتُ أن أخبره قبل ليلة أنّي لست موجودًا حيث كنت أمس في طهران، لم أجد وسيلة. ثمّ عندما رجعت رأيت أنّه اتّصل وجاء، وأحرجت كثيرًا واقعًا! ولمت نفسي أن لماذا لم أخبره قبل يوم حتّى أجده؟ هذا خطأ. فلو كان الإنسان ملتزمًا بأمر فعليه أن يفكّر فيه، ولا يمكن أن يكون كما شاء.
وعلى الإنسان أن يلتزم بالوعود التي يعطيها للآخرين، إلاّ أن يمنع مانع. والآن على الإنسان أن يعد الله، ما هو الوعد الذي يعده للّه؟ يقول: إلهي أنت أنعمت عليّ اليوم بنعمة الوجود. أعطيتني مجالاً ليوم حتّى أتقدّم نحوك ـ هذه أمور لها حقيقة، وما أقوله لكم سأُسأل عنه يوم القيامة كلمة كلمة، كلّ كلمة! ـ لقد أحييتك ليوم وكان بإمكاني أن أميتَك، فلا تقومَ من نومك بعد ذلك، انتهى الأمر، ألم يحدث ذلك؟! لقد رأيت بنفسي أناسًا لم يستيقظوا عند الصباح وماتوا. مات ليلاً ولم يُعلِم أحدًا. أثناء النوم أصيب بسكتة قلبيّة ولم يجد مجالاً لكي يصرخ ويخبر أحدًا. فهذا هو في النهاية، هذا هو معنى الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني. أي إنّ الله يقول: أجعلك تنام ومن السهل أن أرسل إليك سكتة قلبيّة، انغلاق شريان.
فكوننا قمنا الآن من النوم، معناه أنّ الله أنعم علينا بنعمة يوم جديد، يوم يمكن أن نعتمد عليه. هذا ما أعطانا الله، وسيطلب منّا شيئًا في المقابل: لا تقم بما يخالف رضاي في هذا اليوم! لقد أعطيتك هذا اليوم، وهذه هي نتيجته في المقابل! اعمل عملاً أنت أيضًا لأجلي! فالعهد لا يكون من طرف واحد! والمشارطة لا تكون من طرف واحد. فأنت أيضًا لا تقم بما يخالف رضاي هذا اليوم! الشرط هو بين طرفين، يقول الله: لقد رضيت. فلا تخالف رضاي أنت أيضًا، وأنا سأرتقي بك درجة في هذه الدنيا، أراض أنت؟ حسنًا فلنُمض المعاملة، ولنبدأ.
تمضي ساعة من الصباح، تمضي ساعتان، علينا أن نراقب على أساس تلك المشارطة، فهذا هو القسم الثاني، يجب أن يكون لدينا مراقبة.
والقسم الثالث: أن نجلس في الليل وندقّق في أعمالنا! أن ندقّق في ما قمنا به. أيّ الأعمال التي قمتُ بها اليوم كان صحيحًا، وأيّها كان خاطئًا؟ فلا نذهب هكذا إلى النوم ونغطّي رؤوسنا باللحاف، كلاّ! وطبعًا لنا كلام حول النوم والأمور الشخصيّة، وهو أنّه قبل أن نصل إلى التعب علينا أن نذهب إلى الفراش، لا أنّه يجب أن يكون هناك تعب، لا أن تستنفد كافّة الطاقة على اليقظة فيذهب الإنسان إلى النوم، كلاّ هذا ليس صحيحًا، فلكلّ أمر وقته الخاص وحالته الخاصّة، فلا نذهب إلى النوم هكذا، كلاّ، فالنوم أيضًا هو مرتبة من المراتب. فالآن تريد أن تنام وتريد أن تتحرّك نفسك نحو عالم الملكوت والبرزخ والمثال، فلذلك برنامج، لا أنّا نمنا هكذا، لقد سهرنا وسهرنا حتّى فرغت بطاريّتنا وسقطنا، كلاّ ليس الأمر كذلك! على الإنسان أن يترك بطاريته تفرغ فيسقط، علينا أن نصبر قليلاً، أن نترك مجالاً لبضع دقائق نبقى فيها مستيقظين، عشر دقائق، خمس دقائق، أن نذهب إلى النوم مع توجّه، فذلك المضيّ والذهاب إلى النوم بتوجّه وبطريقة معيّنة يختلف معه الأمر، فلكلّ شيء حسابه الخاص، والكلام طويل. وإن شاء الله إذا وفّقنا الله في المستقبل سنتحدّث حول هذه الأمور بمقدار الوسع والمعرفة والقدرة.
معنى عدم تدبير العبد لنفسه في شؤون العمل خارج المنزل القيام بالعمل لأجل الله
فهذه القاعدة هي قاعدة التوحيد. فوفق قاعدة التوحيد تسير الأمور على محوريّة العبوديّة. والتكليف الذي يريد الإنسان أن يقوم به خارج محيط المنزل هو لا يرتبط به شخصيًّا، فهنا هو الأمر المهمّ، التكليف لا يرتبط به هو. وهنا نريد أن نقترب شيئًا فشيئًا من كلام الإمام الصادق عليه السلام، فما معنى أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا؟ نحن نقترب شيئًا فشيئًا من هذا القسم، فوفق مبادئ العرفان الفقهيّة أو مبادئ الفقه العرفانيّة، على الإنسان الذي يؤدّي عملاً أن لا يؤدّيه لنفسه. وبالطبع الوصول إلى هذه المرحلة يحتاج إلى عمل، وسنبيّن ذلك.
فعلى الإنسان أن لا يقوم بالعمل على أساس إرادته ونيّته هو. ولو أردنا أن نمثّل بمثال، غاية الأمر المثال خطأ ولكن لتقريب الفكرة إلى الذهن، لو لاحظتم مجتمعًا شيوعيًّا وماديًّا، فإنّ العامل في هذا المجتمع لا يعمل لنفسه ومنافعه الخاصّة، بل يعمل للدولة. كلّ عمل يقوم به فهو للدولة، والدولة تعطيه المقدار الذي تريده، وهذا يرتبط بما تقرّره الدولة، تعطي قليلاً، تعطي كثيرًا، العمل الذي يقوم به يعلم أنّ ريالاً واحدًا من أجره لن يعود إلى جيبه، لو عمل عشر ساعات، فقد عمل عشر ساعات لها، ثمانية ساعت، فهي لها أيضًا، فقط عينه على يدها كم هي تهتمّ به. وبالطبع فهذا المثال خاطئ، ولكن ذكرته من باب التشبيه.
اعمل لحساب الله لا لحسابك!
في مدرسة الأسس الفقهيّة للعرفان لا يعمل الإنسان لأجل نفسه. هناك يعمل من أجل الدولة، وهنا يعمل من أجل الله، لأنّ جميع الأمور منتسبة إليه. وواقعًا كم هو جميل أن يعلم الإنسان أنّ العمل الذي يقوم به لا يصبّ في حسابه هو، بل في حساب الله. فذاك لا قيمة له، تمامًا على خلاف ما نفكّر فيه نحن من الإضافة إلى حسابنا وملئه، في مدرسة العرفان لا بدّ أن يكون الحساب خاليًا، خاليًا حتّى لا يبقى فيه شيء، فيقول الله يوم القيامة: ماذا فعلت؟
فيقول: أنا لم أفعل شيئًا!
يقول الله: أنت فعلت هذه الأعمال، أنت جاهدت في سبيلي، أنت أنفقت من أجلي، أنت ساعدت الفقراء، أنت ساعدت أخاك، أنت أخذت بيد المحتاج، أنت فعلت هذا العمل.
يقول: لا، ما أنا فعلته، أنت فعلته، أنت وفّقتني.
هنا يبقى الله وحده، هنا يخاطب الله الملائكة الموكّلين بالأعمال أن أوكلي هذا العبد إليّ! أنا أحاسبه. هنا يمضي الملائكة جانبًا، ويبقى الله والإنسان. فهذا مبدأ من مبادئ العرفان.
وعلى هذا الأساس فإنّ المسألة في العمل خارجًا تنصرف إلى محوريّة الله، تذهب إلى حقيقة التوحيد تلك، فيصبح التكليف لأجله. وعلى الإنسان أن ينظر ما هو الأمر الذي يأتي من جانبه، وما هو النهي الذي ينهى عنه؟ يقول الله لإنسان: افعل هذا. ويقول لآخر: لا تفعل هذا. كلّ إنسان مكلّف بأن يعمل وفق موقعه، وعلى الإنسان أن يعرف موقعه، وأنّه أمام أيّ حقائق ووقائع؟
معنى اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدًا...
يذكّر الإمام المجتبى عليه السلام هنا بهذه النقطة المهمّة للغاية فيقول:
اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدًا۱
كم للدنيا من الأهميّة عندك وكم للآخرة؟ المسألة واضحة وضوح معادلة اثنين في اثنين تساوي أربعة. فكم للإنسان من العمر؟ ستون سنة، سبعون سنة، لن يعمّر أكثر. وخصوصًا في هذا الزمان الذي لا قيمة فيه لشيء والثلاثون فيه كثيرة، فمن كلّ ناحية ومن كل مكان يأتيه الموت حسب الاحتمالات! هناك من حسَب الاحتمالات، وقد قرأت في مكان أنّ في كلّ ثانية يواجه الإنسانُ خمسين ألف احتمال للموت. في كلّ ثانية وفق حساب الاحتمالات والأمراض والأمور والمشكلات المختلفة والحوادث التي يمكن أن تقع، حَسَبَهَا فكانت في كلّ ثانية إمّا خمسة آلاف أو خمسين ألفًا والترديد منّي. ولو أضفنا أمورًا أخرى فإنّ نسبة هذه الاحتمالات سترتفع، فهل في مثل هذه الحال يعتمد الإنسان على غده؟ هل يعتمد على ما بعد غده؟ كم من الناس وضعوا رؤوسهم ليلاً على الوسائد ولم يستيقظوا عند الصباح؟! وهناك أناس خرجوا من منازلهم وماتوا بحادث سير؟! وهناك أناس واجهوا آلاف الأمور المفاجئة وخرجوا من هذه الدنيا، فهذه الدنيا هي ما نراه نحن الآن، هذه هي، هذه الحالة التي نراها، هي عدم القيمة التي نراها، هي عدم الثبات والضعف الذين نراهما، هذه هي الدنيا. ليس للإنسان خبر عن ساعة لاحقة، ليس للإنسان خبر عن دقيقة واحدة لاحقة، حيث يمكن أن يحصل أيّ حدث لا علم له به. فأيّ اعتماد نعتمد على هذه الدنيا؟ وأيّ اعتماد نعتمد على الآخرة التي هي اللانهاية إذا ما قورنت بعدد ما؟ عندما نموت من هذه الدنيا فإنّ أيدينا ستصبح قاصرة عنها، فلن يعود هناك سرطان، كافّة علوم الطبّ هناك ستنتهي ويختم عليها، كافّة علوم الهندسة يختم عليها هناك. الملائكة هناك يبنون المباني، لا نحتاج هناك إلى مهندس معماريّ ولا إلى خارطة: أين نجعل الحمّام؟ وأين نجعل بيت الخلاء؟ وأين نجعل غرفة الاستقبال؟ هناك يوجد تسرّب للمياه، هناك بالوعة الصرف الصحّي خربت، كلاّ! فالملائكة يبنون. وعندما يبني الملائكة فإنّهم يبنون بشكل جيّد. وهو يرتبط بمقدار تقدّمنا، فبهذا المقدار هم يهتمّون. وهناك ستكسد سوقنا نحن، فأنا أعدكم أنّه لا صلاة ولا صيام ولا خمس ولا زكاة ولا حجّ ولا شيء هناك! نحن أيضًا علينا أن نسعى إلى عملنا! علينا جميعًا هناك أن نحمل سجلّاتنا بأيدنيا ونمضي خلفها. ما كان في هذه الدنيا فقد انتهى.كلّ مهنة كانت في هذه الدنيا فقد انتهت، فإن كنت طبيبًا فقد انتهت، وإن كنت مهندسًا فقد انتهت، وإن كنت تاجرًا فقد انتهت، وإن كنت بائعًا فقد انتهت، وإن كنت رئيسًا فقد انتهت، وإن كنت حاكمًا فقد انتهت، وإن كنت فقيهًا فقد انتهت، وإن كنت الوليّ الفقيه فقد انتهت، وإن كنت مرجعًا فقد انتهت، وإن كنت طالبًا للعلوم الدينيّة فقد انتهت، مهما كنّا في هذه الدنيا فقد انتهى.
الحجّ نموذج لحالات الآخرة
مثل ماذا أخبروني بسرعة؟ مثل الحجّ! فالله يبيّن لنا. في الحجّ، يبيّن الله لنا هذا المورد بكلّ وضوح في هذه الدنيا. هل يمكن للذين يُحرمون أن يضعوا عمامة على رؤوسهم؟ لا يمكن! هل يمكن أن يعتمروا قبّعة؟! لا يمكن. هل يمكنهم أن يعلّقوا الشهادات والمستندات والعناوين التي حصّلوها في أعناقهم؟ لا يمكن لا يا عزيزي! ضعها في البيت، فقط خذ بيدك محفظة فيها ثوبان، ضع أحدهما على كتفك، والآخر لفّه حول ظهرك، وانتهى الأمر. فالشهادات التي حصّلتها هي لطهران وهي للعمل وتحصيل المعاش. والعناوين والمقام وجناب السيّد والرئيس والمدير العام كلّ ذلك هو لغرفة عملك. أمّا في غرفة عمل الله التي هي المسجد الحرام فلا تفيد الشهادة يا سيّدي العزيز! الألقاب لا تفيد! الرئاسة لا وجود لها! لا بدّ من تعرية الرأس، وارتداء ثوبين، وهما أبيضان أيضًا، قطعة قماش على الكتفين، وقطعة حول الظهر، وبعد ذلك يمرّ من قربك ملك فلا تعرفه، الرئيس كذا فلا تعرفه. وحتّى لو اشتريت ساعة للزينة فلا يمكنك هناك أن تلبسها! إذا أردت أن تلبس ساعة هناك فلا بدّ أن تكون بسيطة لا تلفت الأنظار. والخاتم في اليد إذا كان لأجل الزينة ويشدّ الأنظار فلا بدّ من خلعه، ولو كان اسم الله عليه. فيجب أن لا يلفت الخاتم الأنظار في الحجّ!
على المرأة في الحجّ أن تكشف وجهها، والذين يريدون أن يحتالوا بالحيل فيصنعون شيئًا ويسدلونه إلى الأسفل بحيث لا يرى الوجه كلّ ذلك حرام ومخالف للشريعة. فعلى المرأة أن تكشف وجهها في الحجّ. لماذا؟ لأنّ جمال المرأة في وجهها. والله يقول: يجب أن لا تحسبي حسابًا لهذا الجمال! وجمال الرجل بعقله وناصيته، والله يقول: عليك أن تحسر عن هذا الرأس. على المرأة أن تستر شعرها وبدنها، ولكن عليها أن تكشف عن وجهها. وبالطبع فإنّ النظر إلى وجه المرأة حرام سواء في الإحرام أو غيره. وخصوصًا في الإحرام، فنحن موظفون أن لا ننظر، ولكن هي موظفة بأن لا تغطّي. وبعضهم يأتون ويزايدون ويكونون ملوكيين أكثر من الملك. الله قال: اكشفي. كان بإمكان الله أن يقول: ضعي خشبة أمامك وأخرى خلفك، وفي الأعلى وفي الأسفل، ولكنّه لم يقل، لماذا نحن نضيف من عندنا. هذه المزايدة تؤدّي إلى أن تنقص تلك الروح وتلك النتيجة وتلك النورانيّة التي يجب أن تؤخذ من الحجّ بالنسبة إلى أحد الطرفين. اكشفي! فإن كنت جميلة فلتكوني، وإن كنت متوسّطة فلتكوني، لا مكان لهذا الكلام هناك! هناك يجب أن لا يُفكّر بشيء آخر. هناك يجب أن يكون الفكر في شيء آخر. والآن لن نتكلّم حول هذا الأمر أكثر كي لا نخرج عن الموضوع.
لاحظوا فالله بيّن لنا موردًا. ويوم القيامة هو مثل مرحلة الحجّ في حالة الإحرام. فهناك هكذا، غاية الأمر أنّه ليس لك هناك ثوب حول ظهرك وآخر على كتفيك. هكذا يأتي الإنسان بذاك اللباس إلى صحراء المحشر [ويفكّر] في أعماله التي قام بها، وأموره التي قام بها. {ترى الناس سكارى وما هم بسكارى}۱ يظنّ أنّ الناس سكارى، ولو وضعت يدك على السكران لا يلتفت، هو في سكره، مهما قلت له لا يدرك. لا التفات لديه، وما هم بسكارى، الناس ليسوا سكارى ولكنّهم أسرى، أسرى أعمالهم. لقد كشف الغطاء، وجميع أعمال الدنيا من اليوم الأوّل وإلى الأخير حضرت في ذهنه، حضرت في نفسه، وهو يسير إلى الله، يسير إلى ذلك المبدأ، يسير إلى الحساب. فهذا السكر هو لأجل الحساب الآتي الذي لا يدري ما يصنع فيه. أمّا بالنسبة إلى أصحاب السجلّ الصحيح، فإنّهم يراجعون أنفسهم فيرون أنّ أعمالهم صحيحة، فلا يكونون سكارى، بل يركضون. أمّا أولئك فهم يريدون أن يتوقّفوا على الدوام، ولكن لا يمكن. تقول الملائكة لماذا توقّفت؟! امض! لقد حان دورك الآن؛ فلماذا توقّفت؟! تقدّم! وقفت في الصفّ فلا بدّ أن تمشي في النهاية!
أحد الأصدقاء كان يقول: ذهبنا إلى مكان لأجل السباحة ـ لا بأس بذكرها مزاحًا ـ ذهبنا لنسبح، فرأينا أن الناس يصعدون إلى مكان، مكان مرتفع جدًّا، ومن هناك يلقي بعض الناس بأنفسهم إلى الأسفل. قلت: فلأذهب أنا أيضًا. قال: فلأذهب أنا أيضًا ولألقِ بنفسي. فذهبت فرأيت أنّ هناك واديًا و[كأنّه] لا ماء. وفي النهاية كان الوضع بنحو لا يمكن معه الرجوع؛ فقد كان خلف رأسي عشرون رجلاً. فقلت: ماذا أفعل؟ وبينما نحن واقفون، قال واحد من الخلف: امض في النهاية فقد انتظرت طويلاً! فكان يقول: رأيت أنّي أسقط نحو الأسفل هكذا. ولم أشعر ماذا حصل بعد ذلك، وسقطت في الماء وجاؤوا وأخرجوني، هؤلاء الذين يعملون في الإنقاذ.
ويوم القيامة هو هكذا، يقفون خلفك فلا يمكنك أن تتوقّف، لا بدّ أن تتقدّم إلى الأمام وتحاسَب. ما إن تريد أن تتوقّف حتّى يقفز من كان كتابه تامًّا، إنّه يقفز. هو يقفز قفزًا لماذا؟ لأنّه يعلم حقيقة الأمر! هو على اطّلاع.
{ولكنّ عذاب الله شديد}۱ فهذه مستندات، ولا بدّ من العمل على أساس التوحيد.
رؤيا عجيبة للعلامة الطهراني رضوان الله عليه
عندما كان المرحوم العلاّمة في مستشفى لبافي نجاد في طهران وأجرى عمليّة لِعَينِهِ. بقي هناك تقريبًا أسبوعًا أو أسبوعين. وقد قام بالعمليّة صديقنا المكرّم الدكتور سجّادي. فجاء يومًا ليعاين العين، فكنّا جلوسًا نتحدّث معًا، فالتفت إليه المرحوم العلاّمة ـ فقد كان يتحدّث معي وكان المرحوم العلاّمة يسمع ـ قال: يا فلان، لقد رأيت الليلة الماضية في الرؤيا رجلاً ـ ولم يسمّ اسمه ولكن عرفت أنا من يقصد ـ من الذين رحلوا عن الدنيا، وكنّا نسير معًا، إلى أن وصلنا إلى مكان، كان في هذا المكان نفقان اثنان، أحدهما واسع يمكن للإنسان أن يعبر منه وطوله عشرة أو أحد عشر مترًا لا أكثر إذا ما اجتازه الإنسان. ولكن إلى جانبه وأمامه أشياء عجيبة جدًّا، عشب أخضر نضر، أشجار غضّة، أنهار، حدائق وبساتين، ولو رآه الإنسان لسكر حتّى يصل إلى تلك الحديقة. كان هذا النفق نفقي، وكان عليّ أن أمرّ منه إلى أن أصل إلى تلك المناظر.
وكان إلى جانبي أنبوب مطروح، نفق بقطر عشرة سانتيمرات، أو خمسة عشر، أو عشرين. فكيف يمكن لإنسان أن يمرّ منه؟! وكان هذا النفق طويلاً. مهما نظرت لأرى نهايته [لم أرها] وعلى هذا الرجل أن يسير فيه ويسير، ولا مفرّ له من ذلك. كان يحاول مرارًا أن يدخل رأسه في فتحة هذا النفق الضيق ويضغط على نفسه لكي يدخل ولم يتمكّن. فكان يتراجع وهو يتصبّب عرقًا من رأسه ووجه، ثمّ يحاول أن يدخل مرّة ثانية ويضغط على نفسه، لا بدّ أن تدخل فيه هذا، وكان يتصبّب عرقًا ثمّ يتراجع، وينظر إليّ ويشير أن هل من سبيل؟
وكنت أنا أنظر إليه هكذا. ومن جديد كان ييأس منّي ويحاول أن يدخل رأسه في النفق ويضغط على نفسه. التفتّ إليه وقلت: يا عزيزي كان عليك أن تفكّر في هذا النفق عندما كنت في هذه الدنيا ألم تكن تعلم ما هو مستقبلك؟ أنت صنعت هذا، في أمان الله! فسرت ودخلت إلى هذا النفق وخرجت من الجهة الأخرى، فهذه هي المسألة. وعلينا أن نعلم أنّ ما ينقلونه إلينا أمور صحيحة. ولدينا في الروايات٢ ما يوافق هذا من أنّ للصراط يوم القيامة مراتب مختلفة، فبعضهم يقفون ويسقطون في جهنّم، وبعضهم يمشون بصعوبة، وبعضهم يمشون بسرعة، بعضهم مثل راكب الخيل، وبعضهم كالبرق يطوون جسر الصراط ويعبرونه. أمّا من هم هؤلاء الذين مثل البرق؟ فإن شاء الله لاحقًا نتحدّث، ولكن في النهاية هم هكذا.
فلا بدّ أن يكون العمل لله. يقول الإمام المجتبى عليه السلام: اجلس واحسب، وانظر ما هي أهميّة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة؟! بعد عشرة سنوات، عشرين سنة، فكم نحن سنعيش؟ كم عاش المرحوم العلاّمة؟ لقد كان عمر المرحوم الوالد واحد وسبعون عامًا. ومتوسّط الأعمار الآن هو هذا، إن لم يأت طارئ في وسط الطريق ويريح الإنسان قبل هذا. ففي النهاية بهذه الحدود لا أكثر... فهل أنتم تضمنون إذا أخذتم صكًّا من البنك ولم يمكن سحبه في صباح اليوم التالي، وبعده لم يمكن، وبعد أسبوع لم يمكن، وبعد شهر لم يمكن. يقول الإمام المجتبى عليه السلام: اعتبر أنّك ستبقى فيها إلى الأبد، فما معنى كأنّك تعيش أبدًا؟ يعني أن لا تحسب لها أيّ حساب، لا تعتمد عليها أبدًا، واقعًا قام الإمام هنا بمعجزة، كلام الإمام المجتبى عليه السلام معجزة. لا تحسب حسابًا للدنيا، لا أقول على الإنسان أن يهمل الأمور، كلاّ، فلا يتصوّر في وقت ما هذا الأمر، والرفقاء ملتفتون. يعني تريد أن تتعب نفسك وفكرك وأعصابك لكي تصل إلى هذه النتيجة، فهذا خسران. كلّ ما تحصل عليه لا يساوي خسارة دقيقة من الالتفات إليها، دقيقة واحدة.
واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدًا.
غدًا تموت، قالوا لك غدًا تموت. قد يقال للإنسان، وقد حصل ذلك، وبعضهم حصلت لديهم هذه الحالات، ألهموا أنّهم يموتون غدًا، ويغادرون الدنيا أو في الأسبوع القادم. فماذا يصنعون؟ يسارعون إلى العمل، يصفّون هذا الحساب، ويصفّون ذاك الحساب، ويسدّدون هذا الدين، ويفون بهذا الوعد الذي قطعوه لهذا، يقولون: ليس لدينا مجال.
لقد حصلت هذه الحالة للمرحوم العلاّمة رضوان الله عليه لمدّة عشرين ثانية في ذلك المرض الأوّل والذي كان جلطة في قلبه، وقد كنت حينها في المستشفى، فرأيت فجأة أنّ رأسه قد ارتخى على ذلك الكرسيّ المتحرّك الذي كان عليه، ثمّ سقطت العمامة عن رأسه، فجاء أحدهم ووضعها. وبعد عشرين ثانية عاد من جديد، ولم يصرّح بالأمر، ولم نلتفت نحن. وبعد أن انتقل وذات ليلة أثناء حديثه معي حول بعض الأمور، قال لي: يا فلان! لقد ذهبت من هنا وأعادوني من جديد. أعادوني من جديد وأعطوني مهلة، مهلة يسيرة فقط، لم يقل لي كم هي، كنت أعتقد أنّها على الأقل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة. لم أكن أعلم أنّها ثلاث سنوات. لقد أمهلوني وقالوا: اكتب ما استطعت هذه الكتب فإنّه لم يبق لديك مجال، وإن أمكن أن تبقى ناقصة. فقد قال هذا الأمر أيضًا. وكتابه معرفة الله لم يكتمل، فقد أنهى الجزء الثالث صباح يوم الجمعة ولم يوقّعه حتّى، أنهاه صبح يوم الجمعة، وبعد الظهر أصيب بنوبة قلبيّة وانتقل إلى المستشفى وفي اليوم التالي انتقل إلى رحمة الله. يقولون للإنسان: ليس لديك مجال، فرصتك قصيرة. لذلك كنّا نحسّ أنّه في السنوات الثلاث الأخيرة كان يقضي وقته بالكتابة، وقد قال لي ذلك شخصيًّا. كنت أذهب لأسلّم عليه، فيقول: سلام عليكم، اذهب يا سيّد لا وقت لديّ سآتي بعد قليل.
ـ حاضر.
كنت آتي من قم إلى مشهد بعد ثلاثة أشهر فأراه يكتب:
ـ السلام عليكم سيّدنا.
ـ اذهب إلى القسم الداخليّ من المنزل سوف آتي. هكذا كان. لماذا؟ لأنّهم قالوا له: لم يعد لديك وقت قالوا: لم يعد لديك وقت.
واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدًا.
فكم نحن قريبون من هذا الكلام؟ فليقم كلّ واحد منّا بالتحقيق، إنّه كلام الإمام المجتبى، ليس كلامنا! كم جعلنا أنفسنا موافقة له؟ أنا من جهتي رفعت يديّ مستسلمًا، ولكن يمكن للإنسان أن يعيد النظر، يمكن للإنسان أن يعود إلى نفسه من جديد، يمكن للإنسان أن يستفيد من هذه الفرصة. على الإنسان أن يعمل بما يطابق التكليف الذي جعله الله، سواء تحقّق هذا العمل في الخارج أم لم يتحقّق، سواء تحقّق أم لم يتحقّق.
إنّ ما هو القاعدة التوحيديّة بالنسبة للعمل الخارجيّ هو أن يقوم الإنسان بالعمل لأجله، سواء وصل إلى نتيجة أم لم يصل، هذه هي القاعدة. لا يأخذ لنفسه شيئًا، لا يبقي شيئًا في حسابه الخاصّ.
مقدار العمل خارج المنزل بما لا يستنزف قدرة الإنسان
يجب أن يكون عمله بنحو لا يغلب على حاله وتوجّهه، كلّ إنسان بحسب طبيعة عمله، فطالب العلوم الدينيّة عليه أن لا يدرس بمقدار يؤثّر على توجّهه في العبادة. كلاّ فالدراسة لها حساب، يمكنه أن يدرس ستّ ساعات، يقدر على ذلك، يمكن سبع ساعات، يمكن ثمان ساعات، يمكن أربع ساعات، يجب أن يدرس بمقدار بحيث إذا أراد أن يخلو ساعة ويتعبّد ويقرأ القرآن، يقرؤه عن حال من التوجّه وعن طاقة، لا أنّه يقرأ لأنّهم قالوا لا بدّ أن يقرأ مقدارًا، ولسان حاله ماذا نصنع؟ فلنقرأ! لنقم بهذا العمل! كلاّ. هل ندخل إلى الدرس هكذا؟! أهكذا نذهب إلى الدرس؟ أم نهيّء أنفسنا بحيث نتلقّى هذه المسائل التي تطرح بفكر متفتّح؟ فالأمر بالنسبة إلى العبادة هو هكذا أيضًا. وربّما لن أتمكّن من الحديث عن هذا الموضوع أكثر لأنّ الوقت لا يسمح. وإن شاء الله سأتحدّث عنه.
فإذا أراد إنسان أن يعمل عملاً ما، فلا بدّ أن يعمل خارج المنزل بمقدار لا يؤثّر على حاله وقدرته، فما دام يستطيع أن يعمل ستّ ساعات، ما دام الطبيب يمتلك القدرة على معالجة المرضى لستّ ساعات فعليه أن لا يجعلها ثمان ساعات، فليترك هاتين الساعتين لنفسه، لزوجته وأولاده، لأصدقائه، لتحقيق فرص وأمور أخرى. لا أن يشتغل لثمان ساعات ثمّ يأتي إلى المنزل ببدن متعب وروح متألّمة، فهذا ليس صحيحًا، فصاحب المهنة لا بدّ أن يعمل في مكان مهنته ويرتبط مع الناس بحيث يدخل إلى المنزل عندما يدخل بأفكار هادئة. ما إن يشعر بأنّه من الآن بدأ بالتعب، فليغلق الباب، من حينها فليغلق الباب، ليس هناك تكليف أكثر من ذلك. للأسف نحن نتصوّر أنّ العمل لله هو بأن نصل بأنفسنا إلى أيّة حالة وأيّة وضعيّة. كلاّ ليس الأمر كذلك.
أذكر أنّه في العهد السابق حين كان المرحوم العلاّمة في طهران يعالج عينه، كنّا يومًا في منزل طبيبه. فمن كثرة العمل وكيفيّته وعودته مساء إلى المنزل متعبًا عاجزًا بحيث لا يتمكّن حتّى من القيام والصلاة صلاتي المغرب والعشاء قال له المرحوم العلاّمة: هل فصَلَ الله بين حساب المرضى وحسابك، وجعل الاهتمام بهم منفصلاً عن أمورك الخاصّة، أم أنّه يجب السير والتقدّم على أساس أنّ الجميع لهم هدف واحد وفي مضمار واحد؟ فإن كانوا هم مرضى وعبادًا لله، فأنت أيضًا عبد للّه. فأنت أيضًا لديك أعصاب، أنت أيضًا لديك فكر، أنت أيضًا لديك حياة، أنت أيضًا لديك هدف، أنت أيضًا لديك طريق، أنت أيضًا لديك تكامل، فهذا تمامًا كمن أراد أن يكحّل العين فأعماها.
فمن جعل هذا العلاج وهذه العمليّات في يدك، قد جعلها في يده هو، أنت عليك أن تعمل بوظيفتك أيًّا كان الآخر، فالمرض منه والعلاج منه أيضًا. عليك أن لا تضغط على نفسك بما يؤدّي إلى مشكلة، لا تؤذ نفسك، عليك أن تتمكّن من المحافظة على هدوئك، فأنت لست مكلّفًا بأكثر من ذلك. افترض أنّك قضيت أربعًا وعشرين ساعة في المستشفى والعمليّات، فكم من المرضى سيصابوا بالعمى بسبب التأخير، فما علاقتك أنت بذلك؟! فهذا ليس بيدك. إذا أردت أن تعمل بهذه الطريقة فستسقط بعد يومين. لأنّ لأعصابك أيضًا حدًّا، ولجهازك العصبيّ حدًّا، وللجهاز الهضميّ عندك حدّ، ولقدرة دماغك حدًّا. لكلّ ذلك حدّ. نعم تارة يجعل الله لك أعصابًا من فولاذ، وقدرة من فولاذ، وعمرًا كعمر نوح، وإمكانات من نوع آخر وكيفيّة أخرى، حينها سيختلف الأمر. ولكنّ الإمكانات التي أعطانا الله محدودة، تعمل ثمان ساعات تعمل عشر ساعات، فلا بدّ أن تستريح بعدها، وإن لم تسترح فستمرض، وتتعطّل عن المرضى الأربع الذين تعالجهم. لا بدّ أن يكون العمل عقلائيًّا. في مدرسة التوحيد الجميع في خدمة الله على حدّ سواء. لذلك فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لمالك الأشتر ـ كما تقدّم ـ إنّ عليك أن لا تقضي كلّ وقتك للحكومة، فاجعل لنفسك أيضًا وقتًا.۱ فأنت في النهاية بشر، أنت في النهاية إنسان، أنت أيضًا لديك تكامل، أنت لديك تكامل، لديك فكر.
وهو نفسه الدكتور سجّادي قال لي: لولا أمر المرحوم العلاّمة بتقليل العمل، وأن أفكّر في جانب آخر من الأمور، وأغيّر تفكيري بالأمور لكنت حتمًا جُنِنت، بلا أيّ شكّ. لأنّه قيل لي الأمر بنحو آخر، وكنت أعتقد أنّ هذه الطريقة من العمل هي تكليف عيني عليّ. ولم أكن أعلم أنّ هذه الأمور أيضًا لها وجود. إلى أين ينتهي الأمر؟ ينتهي إلى أنّ يقضي على الإنسان، فجأة يقضي عليه، فيرمي بحمله على الأرض. فهناك فارق كبير. لا بدّ أن يكون بمقدار لا يغلب على الإنسان. لا بدّ أن يكون العمل بنحو لا يطغى على علاقة الإنسان بالله، وعلاقته بالأمور الجانبيّة الأخرى، يجب أن لا يسيطر على الإنسان. هذه النقطة مهمّة جدًّا!
علينا أن نقوم بما علينا والباقي على الله
وأمّا أنّه ماذا سيحصل الآن؟ فهذا ليس باختيارنا. لو لم أقم بهذا العمل إلى أين سينتهي الأمر، هذا ليس باختيارنا. لماذا؟ لأنّ الدنيا ليست تحت تصرّفنا واختيارنا، فهَمَّ من نحمل نحن؟! أنحمل هَمَّ اللهِ أم همَّ أنفسنا؟ الله يقول: لا تحمل همّي. أنحمل همّ الدين أم همّ أنفسنا؟ الله يقول: لا تحمل همّ الدين؛ فالدين لي. بعضهم يتصوّرون أنّه إذا راجعنا أحد في شيء فعلينا أن ندافع عن الدين. كلاّ نحن لا ندافع عن الدين. نحن فقط نبيّن. إن شئتم فاسمعوا وإلا فلا، فليست وظيفتنا الدفاع، فالدفاع عن الدين وظيفة إمام الزمان، ونحن ليست وظيفتنا الدفاع عن الدين.
نحن قرأنا هذه الدروس لكي نبيّن للنّاس ما قاله الأئمّة. ولا علاقة لنا نحن، من أراد فليصغِ، ومن أراد فليترك الإصغاء. قيّم الدين ـ انظروا فالأمر يغدو حسّاسًا! انظروا ماذا أريد أن أقول ـ قيّم الدين ووليّ الدين ومن على عهدته الدفاع عن الدين هو إمام الزمان لا أنا وأمثالي. إنّ وظيفتنا هي بيان الأمر للنّاس، إن شاؤوا عملوا وإن شاؤوا لم يعملوا، هذه هي وظيفتنا. لو لم يعملوا لمائة سنة، فماذا علينا؟ لو لم يُصغوا لمائة سنة فماذا علينا؟ إنّ للدين صاحبًا.
موقف عبد المطّلب من أبرهة، دروس وعبر
أفلم أخبركم بقصّة عبد المطّلب وأبرهة؟! فقد جاء أبرهة بالفيلة والقوّة والعتاد ليدمّر مكّة. جاء بأمر من النجاشي ليدمّر مكّة. جاء إلى أطراف مكّة، ومعه الفيلة والمنجنيق، ليضرب ويهدم. ثمّ ولأجل الأمور التي حصلت أخبروا عبد المطّلب، فجاء إلى أبرهة، وكان عبد المطّلب ذا أبّهة، كان عبد المطّلب صاحب مقام رفيع، وكان قد تجاوز المائة عام، وكان من أهل المعرفة والباطن. كان عبد المطّلب من أولياء الله. فجاء إلى أبرهة، فأثّر جلاله وعظمته وأبّهته به، فقام وأجلس عبد المطّلب إلى جانبه، أجلسه أبرهة إلى جانبه رغم ما هو عليه من حال، أجلسه إلى جانبه. رحّب به واحترمه وسأله: هل هناك ما دعاك للمجيء؟ هل لديك كلام؟ هل لديك أمر؟ فقال عبد المطّلب: سمعت أنّ جنودك أخذوا إبلي. فمرهم أن يردّوها.
ـ عجيب، ماذا كنّا نفكّر وماذا حصل؟! كنّا نعتقد أنّه يأتي ويشفع في عدم تخريب الكعبة! وقال: لو شفعت في عدم تخريب الكعبة لرجعتُ وانصرفتُ عن هدمها.
نظر إلى عبد المطّلب فجأة وقال له: لقد كنّا نتوقّع منك غير ذلك! لقد قطعتَ كلّ هذه المسافة حتّى أعيد إليك الإبل التي أخذها جنودي؟!
فقال عبد المطّلب: أنا ربّ الإبل وللكعبة ربّ. وودّعه ومضى.۱
لم يأت لأخذ إبله، إنّما جاء ليعلّمه درسًا! ليقول له: التفت أنا لا أريد أن أدافع عن الكعبة، الدفاع عن الكعبة تدخّل في عمل الله. وأنا لا أتدخّل في عمل الله، فأعطني إبلي لأمضي إلى عملي. وللبيت ربّ، للبيت صاحب. ما شأني أنا؟ هذا هو من يسمّى وليًّا!
الوليّ هو الذي لا يتبرّع من نفسه،الولي هو من يَعُدُّ ربّ البيت ربًّا، ولا يعدّ نفسه ربّ البيت، الوليّ هو الذي لا يعدّ نفسه قيّم الدين، وإنّما يقوم بما عليه. فنحن لسنا القيّمين على الدين، لا أنا ولا غيري. لقد رأينا في الكتب بعض المسائل عن الأئمّة عليهم السلام، ونحن موظّفون بأن نبيّنها للنّاس، ونحن جاهلون بكثير من المسائل. من هو قيّم الدين؟ إنّه إمام الزمان الحجّة ابن الحسن المهدي صلوات الله وسلامه عليه هو القيّم، قيّم الدين. ونحن علينا أن لا نتدخّل في عمل الإمام. علينا نحن أن لا نتدخّل في عمل الإمام، نحن موظّفون بأن نبيّن أمرًا، وفي أمان الله. إن شئتم فأصغوا أو لا تصغوا! كائنًا من كان. والإمام لا يريد منّا أكثر من ذلك. أنا أقطع لنفسي ولجميع الرفقاء والأصدقاء الذين هم على مسلكنا واعتقادنا إنّ إمام الزمان يريد منّا أن نبيّن الحقائق للنّاس بصدق وحريّة وبدون مواربة. هذا كلّ شيء والسلام.
إمام الزمان هو بنفسه أدرى، يريد أن يحفظ الدين، يريد أن لا يحفظه، أساسًا لو أراد إمام الزمان أن يخرّب الكعبة، فليخرّبها. لنفترض أنّ إمام الزمان يريد أن لا تقام صلاة في الدنيا، فليكن. ما علاقتي أنا؟ فهو صاحب الدين. لماذا نأتي نحن ونتبرّع من عند أنفسنا، عندما لا نعلم شيئًا ما فلنقل لا نعلم. وعلى كلّ إنسان أن لا يتجاوز المرتبة التي هو فيها، فكم هو حسن أن يكون الإنسان على هذا الحال!
الشيخ الأنصاري وقول لا أعلم
رحم الله الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه، فقد جاءه رجل يريد أن يسأله سؤالاً. فقال: لا أعلم! كان من أهل مدينته، أهل شوشتر أو دزفول. فقال: لا أعلم. ومن جديد كان هناك رجل آخر فطرح سؤالاً آخر فقال: لا أعلم. إمّا عمدًا أو ربّما واقعًا لم يكن يعلم. فعدم العلم ليس أمرًا مهمًّا. سأل سؤالاً ثالثًا فقال: لا أعلم. فقال: فلماذا وضعت هذه العمامة على رأسك؟! قال: هذه العمامة بمقدار ما أعلم، ولو كانت العمامة بمقدار ما لا أعلمه لكان يجب أن تبلغ الثريّا. وقد صدق هذا الرجل، ونحن هذا حالنا، محدودون، فكم هو فكرنا وسعتنا؟!
كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يقول: كنت أطرح بعض المسائل على العلاّمة الطباطبائي بين الحين والآخر فكان يقول: لا أعلم. هكذا بكلّ صراحة. فقلت له: الأمر إليك، أنت تحرمنا. فقال: كلا لا أحرمك، لا أعلم لا أعلم. وربّما كان لا يعلم واقعًا. هذا هو صدق الرجل. واقعًا هذا هو الذي يمكن الثقة به، لا أن لا يعلم ويقول أعلم.
أحد الأطبّاء السابقين رحمة الله عليه الدكتور مهدي آذر وكان من كبار ومن رؤساء وأعضاء الحركة الوطنيّة الإيرانيّة، كان رجلاً من أهل الصلاة، وكان رجلاً واضحًا وصريحًا، كنّا نراجعه في ذلك العهد السابق وكان رجلاً من أهل الاختصاص والاستقامة. كان يقول عمّا لا يعلم: لا أعلم. وبكلّ صراحة. وأنا بنفسي كنت أراجعه لعلاج المعدة، فعندما كانت لديّ قرحة كنت أراجعه، ذهبت يومًا ودخلت الغرفة، فكان فيها مريض آخر، فسمعته بنفسي يقول: أنا لم أشخّص مرضك. عليك بمراجعة الدكتور فلان في هذا العنوان. كان هذا أمامي، فكم هو حسن! لا بدّ أن يكون هكذا، أمّا أن يقول لا أو عبارات مبهمة مطّاطة للمريض فيظنّ أنّ هناك شيئًا ما، ثمّ يأخذ منه المال ويمضي. كلاّ لا أدري، فليقل لا أدري. هكذا هو الإنسان.
كان له اطّلاع على بعض العلوم، فذات يوم ذهبت برفقة المرحوم العلاّمة إليه حيث كنت قد أصبت بمرض في معدتي أثناء طفولتي، أذكر أنّه كان لديّ سوء هضم، فذهبت برفقة المرحوم العلاّمة إليه وكان عمري عشر سنوات، كنت في الصفّ الرابع أو الخامس. فسألني: ما هو مرضك؟ فقلت: إنّي أملُّ بسرعة! فقال: كيف مثلاً؟ فقال: عندما أصلّي خلف السيّد يطيل في الصلاة فأملُّ. فضحك وكان المرحوم العلاّمة جالسًا وقرأ هذا البيت العربي:
وابن اللبون إذا ما لزّ في قَرن | *** | لم يستطع صولة البزل القناعيس۱ |
فقد كان من أهل الأدب، رحمه الله. عندما حصلت الثورة أذكر أنّ المرحوم العلاّمة كتب مسودّة القانون الأساسيّ، وذات يوم كنّا في مسجد القائم، فرأينا الدكتور مهدي آذر قد جاء إلى المسجد وقال للعلاّمة: سمعت أنّك كتبت مسودّة على القانون الأساسي أريد أن أطالعها. فقال له: نعم! هناك شيء كهذا سأرسله إليك إلى العيادة. وبعد الظهر قال لأحد الأصدقاء خذ هذا إلى العيادة. وبعد أيّام جاء واتّصل وقال: أريد أن أتحدّث معكم حول بعض الأمور. وكانت عبارته هكذا: هذه المسودّة التي كتبتها غيّرت طريقة تفكيري.
انظروا هذا رجل منصف، وكان من أعضاء الحركة الوطنيّة. فهناك أنواع من الناس، ولا يمكن أن نعاملهم بطريقة واحدة، لكلّ إنسان حسابه الخاص. لقد قَبِل، ولكن قال: لديّ ملاحظات على كثير من مواضعه، كان حرًّا للغاية. وروحيّة الحريّة هذه جيّدة لنا جميعًا. رغم أنّ طريقة تفكير تلك الجماعة حول الحكومة كانت مختلفة، ولكنّه جاء من بينها وقال: لقد غيّرت مسودّتك هذه الكثير من الأمور في ذهني. رحمه الله.
فما لا يعرفه الإنسان يجب أن لا يقول أعرفه. عليه أن يتحرّك وفق المقدار والسعة التي آتاه الله. فنحن نحمل همّ من؟!
كان الكلام كثيرًا، وقد استطردنا قليلاً، وكان هناك أمور أخرى كنت أودّ الكلام حولها كمقدّمة. وإن شاء الله إذا وفّقنا الله في فرصة أخرى سنطرح المزيد من الأمور للرفقاء لنرى ماذا قسم الله لنا من بحور معارفه الإلهيّة بواسطة أوليائه وبواسطة أئمّة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد