60

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

9839
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتدبير و النظام الاجتماعي


التوضيح

تتابع هذه المحاضرة شرح فقرة أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا، وتتحدّث عن مصداق من مصاديق التدبير وهو الالتزام والوفاء بالعهود والشروط، وتتعرّض إلى بحث فقهي حول نوعيّ الشروط: الذي يكون في ضمن عقد لازم، والابتدائي وكلاهما واجب الوفاء عند المحاضر رضوان الله عليه.
كما تابعت موضوع الشورى الذي طرح في المحاضرة السابقة، وبيّنت أنّ الهدف منها هو اتّباع الحقّ، وأنّ موردها عدم وجود الإمام المعصوم والإنسان الكامل اللذين يطّلعان على نتائج الخطوات وآثارها إلى يوم القيامة ، أو عند عدم التمكّن من الاتّصال بهما. كما أنّها تُعتمد في تشخيص الموضوعات دون الأحكام نفسها.
وقد بيّنت ذلك ضمن شواهد تاريخيّة من سير الأئمّة عليهم السلام وابتلائهم بعدم تقدير من حولهم لمقام علمهم ومعرفتهم، بدءًا من أحداث مقتل عثمان مرورًا بموقف زيد الشهيد من الإمام الباقر عليه السلام، ويحيى بن زيد وأبناء عبد الله المحض من الإمام الصادق عليه السلام.

/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٦۰

  •  

  • ألقاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم 

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم 

  • الحمد لله ربّ العالمين 

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا

  • أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين 

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين 

  •  

  •  

  •  ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا!

  • قُلتُ: يا أبا عبدالله! ما حقيقة العبوديّة؟ قال: ثلاثَةُ أشياء: أن لا يرَىَ العَبدُ لنَفسِهِ فيما خَوَّلَه الله ملكًا، لأنَّ العبيدَ لايكونُ لهم ملك، يرَونَ المالَ مال الله، يضَعونَهُ حيثُ أمرَهُمُ اللهُ به، و لا يدبِّرَ العَبدُ لنفسه تدبيرًا و جملةُ اشتغالِهِ فيما أمرَهُ تَعَالَى بِهِ و نهاهُ عَنهُ.

  • يسأل الإمامَ الصادقَ أن ما هي حقيقة العبوديّة؟ 

  • فيقول الإمام: في أمور ثلاثة: 

  • الأوّل: أن لا يشعر العبد بالملكيّة لما أعطاه الله، لأنّ العبيد لا يرون لأنفسهم ملكًا، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله. 

  • الثاني: أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا.

  • وقد تحدّثنا حول موضوع كيفيّة التدبير وأنه ما المراد من هذه الفقرة الشريفة في هذا الحديث؟ وهل التدبير مذموم وعلى الإنسان أن لا يدبّر في أموره ولا يتأمّل؟ في حين أنّا نجد كافّة أمور هذا التدبير وهذا التأمّل على أكمل نحو وأدقّه في التعاليم الإسلاميّة.

  • وقد ذكرنا أنّ هناك سرًّا كامنًا في موضوع التدبير وإدارة الأمور وفق النحو المطلوب، وعدم الالتفات إليه يؤدّي إلى فساد حقيقة المسألة وتبعثرها. 

  • وجوب الوفاء بالتعهّدات والالتزامات كافّة

  • وقد اهتُمّ بأمر التدبير هذا والمحافظة على الأمور من خلال التأمّل وأُكِّد عليه في مدرسة العرفان، حتّى إنّه يبدو أنّ من الواجبات الأخلاقيّة في مدرسة العرفان حتّى التعهّدات البسيطة وحتّى غير الملزمة التي تدور بين الناس، وتعدّ مخالفتها مخالفة لمبدأ سلوكيّ.

  • فهناك نوعان من التعهّد: 

  • أحدهما: التعهّد الملزم بحسب الاصطلاح الفقهيّ، حيث يتعهّد الإنسان لغيره تعهّدًا أو يشترط شرطًا في ضمن عقد. ففي هذا المورد يقول الفقهاء إنّه لا بدّ من الالتزام. فلو أنّ إنسانًا جعل في ضمن عقد وفي ضمن معاملة شرطًا، فإنّ هذه المعاملة لكي تتحقّق مشروطة بأن يقوم أحد الطرفين أو كلاهما بما تعهّد به، وطبعًا هذا يجب الالتزام به عندما لا يكون ذلك التعهّد أو ذلك الشرط مخالفًا للشرع. 

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

3
  • التعهّد الآخر: ابتدائي ليس في ضمن معاملة. حيث يتعهّد إنسان لآخر بأنّي سأقوم بهذا العمل لك. يتواعدان على أمر، يتعاهدان معًا، ففي كافّة هذه الموارد هناك خلاف فقهيّ حول ما إن كانت هذه التعهّدات واجبة التنفيذ أم لا؟ ويبدو في نظري القاصر أنّ هذه التعهّدات هي كالتعهّدات التي في ضمن العقد اللازم يجب تنفيذها شرعًا، ولا تختلف عن التعهّدات والشروط التي تكون في ضمن العقد. فمثلاً لو وعد إنسان آخر بأنّي سأقوم لك بهذا العمل، فإنّه يجب عليه شرعًا أن يقوم به، أو يقول له مثلاً سآتي إلى منزلك، فيجب عليه شرعًا أن يعمل بهذا التعهّد. أو أنّك إن قمت بهذا العمل، فسأقوم لك بهذا العمل. وهذا النحو من التعهّدات التي هي متداولة بين الناس، فبدون أن يكون هناك عقد هذه التعهّدات جميعًا واجبة شرعًا. ولا يختصّ الوجوب بالشروط التي ضمن العقد. 

  • كيف حكم المرحوم العلاّمة على التاجر المخالف لتعهّده؟

  • أذكر أنّه في العهد السابق كان بين اثنين من أصدقاء المرحوم العلاّمة تعهّد، وكان كلاهما من التجّار، وكانا يعيشان في إحدى المحافظات، وعلى هذا الأساس كانا يبيعان بضاعة من جنس واحد، بضاعة واحدة. وكان تعهّدهما أنّه ينبغي أن لا يبيع أحد هذه السلعة بأقلّ من هذا السعر المعيّن، فتخلّف أحدهما عن هذا التعهّد، حيث جاء مشتر واتّفق معه على بيعها بأقلّ من ذلك السعر، وفي النتيجة وبسبب هذا الأمر تزلزلت مكانة ذلك الرجل الآخر في السوق بين الدلاّلين، وصارت هناك حساسيّات. انتهى الأمر إلى المرحوم العلاّمة، والقصّة تعود على ما في ذهني إلى ما قبل سبعة وعشرين أو ثمانية وعشرين سنة مضت. فدعاهما كليهما فجاءا وجلسا، وبيّنا الأمور، أن نعم نحن جئنا واشترينا هذه البضاعة من طهران، ثمّ أخذناها واتّفقنا على أنّه إن جاء الدلاّلون ليأخذوها بأقلّ من قيمتها فعلينا أن لا نبيعها بأقلّ من هذه القيمة، قيمة اتّفقنا عليها. نعم فجاء وفعل ذلك وباعها بأقلّ وأراق ماء وجهي في السوق، وجعلني من الذين يرفعون الأسعار، فالتفت العلاّمة إلى ذلك الرجل وقال: أصحيح ما يقول؟ صحيح أم لا؟ 

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

4
  • فقال: لم أكن عند حدوث ذلك، لقد قام به ابني، ولم أكن راضيًا على كلّ حال. 

  • فقال: على كلّ حال لقد حدث ذلك في دكّانك أنت، سواء كنت أنت أم كان ابنك أم كان العامل عندك، فإنّ هذا الأمر حصل على هذه الطاولة وفي هذا الدكّان وتحقّق هنا، ومسؤوليّته عليك. 

  • انظروا كم الأمر دقيق! نحن لا يمكننا أن نتخلّى عن تعهّداتنا هكذا، عندما يكون الأمر مرتبطًا بنا، وعندما يكون الأمر مرتبطًا بمن حولنا ومن هم وسائط لنا، فإنّ المسؤوليّة ستكون علينا، وعلينا أن نتحمّل هذه المسؤوليّة. في الأمور الأسريّة وفي العلاقات مع الآخرين، وفي الأحداث المرتبطة بنا، وفي أمور الرفاقة، وفي العلاقة مع الخارج، الخلاصة يجب علينا أن لا نتعامل مع الأمر بهذه البساطة، فالمسؤوليّة كبيرة جدًّا، المسؤوليّة عظيمة، ما أريد أن أقوله هو هذا: لا بدّ من الاهتمام بهذا الأمر بكلّ جوانبه الواسعة، بكلّ جوانبه الواسعة. 

  • فقال له: نعم لقد حصل هذا على كلّ حال، وأنا راض بما تأمرون. 

  • وأذكر أنّ المرحوم العلاّمة ذكر لذلك الرجل هناك أمرين أو ثلاثة فقال: 

  • الأمر الأوّل: عليك أن تتوب من هذا العمل الذي وقع. هكذا بكلّ صراحة، لا بدّ أن تتوب ولا تعود إلى ذلك.

  • ثانيًا: يجب أن تعتذر منه بشكل رسميّ وتبدي الندم على مخالفتك لما اتّفقتما عليه. 

  • ثالثًا: لا بدّ من التعويض عن الأضرار التي لحقت بهذا الرجل بسبب هذا العمل. فلو لحق به ضرر، لم يشتروا منه، ولو هبط سعر بضاعته في وقت ما، أو افترضوا مثلاً أن بعض أمواله بقيت راكدة بسبب هذا الأمر، فسيكون كلّ هذا مندرجًا تحت هذا الأمر. فبسبب عملك هذا، وبسبب حركتك هذه، حدث هذا الأمر هنا. 

  • الأمر الرابع: عليك أن تذهب وتعلن في السوق أنّه محقّ في هذا الأمر، وأنّك خالفت ما قرّر في هذا الموضوع.

  • فهل التفتّم؟! هذا ليس أمرًا سهلاً. نعم، نقول: نحن سلاّك ونصنع ما نريد، ثمّ إذا وقع منّا خطأ، نتغاضى ونمضي! كلاّ يا سيّدي فهم يوقفون الناس هنا، يجب أن تأتي لماذا؟ معرفة سبب ذلك أمر مهمّ، لأننا على إلى جانب الحق، هل كان هذا العمل صحيحًا أم خاطئًا؟ إن كان صحيحًا، فعليك التعويض، لقد فقد هذا الرجل الآن سمعته في السوق، وعليك أن تأتي وتعيد تلك السمعة الحسنة، لقد تخلّفت عمّا تعهّدت به. 

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

5
  • استمرار إحدى الصحف في كذبها بعد وضوحه

  • خطرت لي الآن هذه النقطة. أذكر أنّه منذ زمن بعيد وفي السنوات الأولى للثورة، في العامين الأول والثاني للثورة، رأيت صحيفة تابعة لإحدى الجماعات قد كتبت حول واحد من علماء أصفهان، وقد توفي الآن وكان طاعنًا في السنّ آنذاك. وكنت قد التقيت به، وكان شبه منعزل. أي لم يكن عضوًا فاعلاً في المجتمع وأمثال ذلك. كان له مسجد في أحد أحياء أصفهان يصلّي فيه ويقيم صلاة الجماعة. كانت الصحيفة قد كتبت عنه كلامًا غير صحيح، كلامًا غير صحيح، وفي الحقيقة شوّهت سمعته، وكانت قضية تتعلق بكرامة الإنسان وشخصيّته. اكتشف الأمر أحد أقربائنا المقرّبين، والذي كان أيضًا على صلة بهذا الرجل، فذهب إلى مكتب الصحيفة. وتحدّث مع هذا المسؤول نفسه، المحرر، المدير وقال: حسنًا، ما الدليل على ما كتبته في جريدتك؟ ما هو دليلك على ذلك؟ قال: نحن لا نكتب بغير دليل وبلا تحقيق. ومراسلونا محايدون وموثوقون ومعتمدون، وباختصار فهم لا يقولون كلّ ما يخطر في بالهم، بل يبحثون ويحقّقون ثمّ يكتبون. 

  • فيقول له: هذا الموضوع كذب محض وليس له واقع خارجيّ إطلاقًا، وأنا على اتصال بهذا الرجل، أنا من أصدقائه وأنا على علاقة به وهذا كذب محض. نطلب منك أن تطلب من مراسليك الدليل على هذا الكلام، فإن قدّمته فهذا جيّد، رغم أنّ هذا الأمر لا يستحقّ أن يكتب عنه، ولكن على كلّ حال قدّموا الدليل. 

  • فيقول: جيّد جدًّا. 

  • ـ متى آتي؟ 

  • ـ علينا أن نتّصل بالمراسل ونتابع الأمر فارجع بعد غد. 

  • قال: ذهبت بعد يومين إلى هناك من جديد. واتّضح أنّ هذا الخبر كاذب ولا دليل عليه. حسنًا، لقد أدرج الخبر في صحيفة يثق بها الناس وسمعة الرجل قد تلاشت بدون دليل. هذا واقع الحال. نعم قال له: حسنًا ، الآن بعد أن اتضح أن هذا الخبر ليس له أساس ، فيجب أن تأتي وتكذّب هذا الخبر في الصحيفة؛ فكما كتبته فيها، أنكرْه فيها الآن. 

  • الجواب الذي قدّمه مدهش جدًّا، فهو يقول: لا ، لا يمكننا فعل ذلك. لأننا إذا كذّبنا الخبر، ستزول مصداقيّة جريدتنا في قلوب الناس. هل التفتّم؟! والآن انظروا إلى الفارق الكبير بين طريقة التفكير هذه وطريقة تفكير المرحوم العلاّمة! من الثرى إلى الثريا، فأنت تذهب بمصداقيّة مؤمن ولا تبالي. ولكن عند التصحيح تقول: يجب أن نحافظ على مصداقيّة جريدتنا. وماذا ستكون نتيجة ذلك؟! نتيجته هي أنّ الله أيضًا يجعل الناس لا يهتمّون بهذه الصحيفة. 

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

6
  • آثار عدم الوفاء بالعهود

  • فالالتزام بهذه الأمور يجب أن يكون ملزمًا في الشريعة، وهذه المسألة من أهم القضايا من الناحية الأخلاقية ونراها في سيرة الأئمة عليهم السلام ونلمسها. والاهتمام بهذه النقطة في مدرسة العرفاء أمر مهمّ جدًّا. وأولئك الذين لا يفون بالتزاماتهم لديهم حالة نفسيّة تجعلهم لا يتحرّكون. أي أن أرواحهم قد تعودت على حالة لا يستطيعون فيها الصعود وعبور الحجب، إلا إذا كان لدى الإنسان عذر يجعله غير قادر بشكل طبيعي على العمل بهذا الالتزام. كان هذا يرتبط بالتدبير في الأمور. 

  • ضرورة مبدأ الشورى للوصول إلى الحقّ 

  • وقد ذكرنا في الجلسلة السابقة أنّ مبدأ الشورى من أهمّ المبادئ في قواعد النظريّة الاجتماعيّة للإسلام والتشيّع، وهو مطروح كمبدأ ضروريّ في النظريّة الشيعيّة حول الإدارة. إنّ المعيار ووالأساس في قبول أمر ما عند التقييم والتحقيق هو الوصول إلى الحقّ. هذا هو معيار الحركة التكامليّة للإنسان، وليس كثرة الآراء والأذواق والأفكار المختلفة، المعيار هو الوصول إلى الحقيقة. وهذه قضيّة يفهمها الجميع ويدرك الجميع أهميّتها. فعندما لا تكون هناك دواعٍ نفسيّة وأغراض وأهواء شخصيّة، فالجميع يدركون هذا الأمر. 

  • أحداث مقتل عثمان وصفّين ومخالفة الناس لأمير المؤمنين فيها

  • في معركة صفّين جاء الناس إلى قتال أمير المؤمنين بسبب إعلام معاوية، والإعلام مؤثّر جدًّا، فبالإعلام يصبح القبيح حسنًا ومحبوبًا، ويصبح الحسن قبيحًا، بالإعلام يبدّل الناس مواضعهم، وإذا ما انتشرت الدعاية لرجل، فخلال يومين يتغيّر رأينا به. ولو تغيّرت في اليوم الثالث كيفيّة دعايتهم فسيتغيّر رأينا معها، فللدعاية دور هامّ جدًّا. ومعاوية بدعايته جعل أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو أول مجاهد في سبيل الله، وأوّل ناسك في سبيل الله، وأوّل سالك في سبيل الله، وأوّل متميّز وأسوة للحقّ، جعله قاتلاً فاسقًا، قاتلاً فاسقًا أمر بقتل عثمان خليفة رسول الله، وهذا قميصه بين الناس. كان يصرخ: يجب أن يأتي علي ويسلّم قتلة عثمان! 

  • فلماذا يسلّمهم إليك؟ إن كان عليّ خليفة رسول الله، فهو يعلم ماذا يفعل بهؤلاء القتلة. 

  • وثانياً: هل أمَر عليّ بقتله؟! ألم يقل أمير المؤمنين للذين أرادوا مهاجمة منزل عثمان وقتل عثمان ألا يفعلوا هذا؟! ألم ينههم عن فعل ذلك ويخبرهم أنّ له مفاسد؟! أولم يعيّن أمير المؤمنين بنفسه من يأخذ الماء والطعام إلى دار عثمان؟! حيث لم يكونوا يسمحون له بالماء، فكان يأتى له بالماء من الخارج، ولم يكن لديه طعام، ثمّ حاصروه ولم يتركوه يخرج، هذه كلّها أحداث تاريخيّة وأحداث مسلّمة! ثمّ إنّ عثمان [طلب من معاوية المساعدة] ومعاوية نفسه عندما طلب منه عثمان المساعدة جاء بجيشه وتوقّف خارج المدينة وانتظر حتّى قتل عثمان، ثمّ رجع إلى الشام وصرخ أن هذا خليفة رسول الله مقتول، فانظروا مدى خداعه، وإلى غشّه، وقد قال عثمان بنفسه هذا لمن حوله. قال: أعلم أيها اللعين أنك كنت واقفًا خارج المدينة عندما قُتِلتُ، ثم تأتي وتطالب بدمي! إنّهم يعرفون بعضهم البعض جيّدًا! ففي النهاية هؤلاء الناس يعرفون بعضهم بعضًا جيّدًا! ثمّ إنّ أمير المؤمنين رغم المشكلات التي سبّبها له هؤلاء الخلفاء الثلاثة، نهى مهاجمي بيت عثمان عن قتله. وخلافًا لأمر أمير المؤمنين قام هؤلاء الصحابة بقتله. خلافًا لرأيه، فقد وصل الأمر إلى حدّ لم يعد يَسمع هؤلاء الصحابة حتّى لأمير المؤمنين! أي إنّ الأوضاع قد تدهورت إلى درجة أنه لم يعد من الممكن تحمّلها، ولم تعد خلافة عثمان مقبولة. لكن لو كنّا نحن هناك، فماذا كنّا سنفعل؟ دعونا نقول جميعًا بسرعة: كان علينا أن نتّبع أوامر أمير المؤمنين. لماذا؟ قلنا للتوّ أن السبب واضح. ألا يجب أن نتبع الحق؟! فما هو الحقّ؟! أفكارنا أم أمير المؤمنين؟! أيهما هو الحقّ؟! هل فكرنا وقياساتنا واستدلالاتنا ونتائجنا الفقهيّة وكيفيّة اجتهادنا هي الحقّ أم نصّ كلام أمير المؤمنين؟! وإن جاؤوا بنا يوم القيامة وقال الله تعالى: لماذا لم تقتلوا عثمان؟ لماذا لم تقتلوا عثمان؟ وأجبنا: إننا لم نفعل ذلك بأمر أمير المؤمنين، فهل سيوبّخنا الله؟ كلاّ على الإطلاق، لكن إذا قلنا: نحن بأفكارنا رأينا أنّه يجب إزالة الظلم، والنهي عن المنكر. 

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

7
  • مورد الشورى هو عدم وجود الإمام أو عدم إمكان الوصول إليه

  • فتارة نواجه أمرًا ولا يكون أمير المؤمنين بيننا، فهذا صحيح، وكلامنا عن الشورى هو في هذه الحالة. وقد ذكرنا في الجلسة السابقة أنه تارة لا يكون الإمام عليه السلام أمامنا، لا يكون الإمام المعصوم أمامنا، لا يكون النبيّ أمامنا، لا يكون هناك إنسان كهذا عندنا؛ وتارة يكون الإمام أو النبيّ، الإمام المعصوم أمامنا ويمكننا أيضًا الوصول إليه، فهو جالس هنا مثلاً، فهل نجتهد ونتكلّم في مقابل كلامه، فلو كان هناك اجتهاد مترسّخ في نفوسنا بعيدًا عن كلام الإمام، ورأينا أنّه مخالف لكلام المعصوم، فعلينا أن نجعله جانبًا، بكلّ بساطة، لماذا؟ لأنّ الله جعل لنا الإمام ميزانًا، وهذا الاجتهاد الذي تقوم به أنت الآن أليس هو في الروايات والسنن والأدلّة الفقهيّة المتقنة؟ فهذا الإمام جالس هنا، فنحن لو بذلنا قصارى جهدنا فإنّا نستفيد أمرًا ما من تلك الروايات الواردة عن الإمام عليه السلام، فنجتهد في تلك الروايات في النهاية، نجعل هذه الروايات بعضها إلى جانب بعض. يقولون الآن إنّ هذه الروايات ترجع إلى ما قبل ألف وأربعمائة سنة ولا بدّ من تركها جانبًا، هذه الروايات علينا أن نجعل بعضها إلى جانب بعض، ونستنبط منها حكمًا بعقلنا الناقص، هذا بحسب تعبيري أنا. 

  • ابتعاد أمير المؤمنين عليه السلام عن الألاعيب السياسيّة وعن التظاهر بوجهين وضرورة التسليم له 

  • فلو كان الإمام جالسًا إلى جانبنا وقال أمرًا صريحًا... فتارة نقول لأمير المؤمنين: يا عليّ أنت تمزح أنت تمزح في قولك لا تقتلوا عثمان، أو ـ والعياذ بالله والعياذ بالله ـ من جهة تقول لجماعة هذا، ومن جهة أخرى تفعل غير ذلك في الخفاء! وهذا الكلام الذي أقوله قد كتب! هذه الأمور التي أذكرها لكم قد قيلت! من أنّ أمير المؤمنين وإن كان بحسب الظاهر يقول لا ولكنّه سرًّا يرسل جماعة ليقتلوه. 

  • نحن لا نقبل عليًّا كهذا، فعليّ كهذا لن يكون إمامًا. أمير المؤمنين ليس له إلا كلام واحد، إمّا أن يقول افعلوا وإمّا أن يقول: لا تفعلوا. ليس عنده كلامان من نوعين، من جهة ـ مثل السياسيّين وقد رأيتموهم في الجرائد رأيتموهم أو مثلاً الأعداء ـ يصافح بعضهم بعضًا ويتحدّثون ويضحكون مقهقهين، ولكن يقوم كلّ منهم في الخفاء بما يريد. وقت التصوير يتظاهرون بالضحك، فنعتقد أنّهم أصدقاء ويا لهم من أصدقاء! والحال أنّ كلاًّ منهم ظامئ إلى دم الآخر، ولا يضحكون إلا أمام آلة التصوير، هذا هو الخداع والمكر، فالسياسة الراهنة في العالم الخارجيّ كلّها على أساس المكر، تأتي دولة وتتظاهر بالعطف على دولة أخرى، ولكنّها في الواقع تقضي عليها. تتعامل مع الناس في الظاهر بأسلوب، ولكنّها في الواقع تتعامل معهم بأسلوب آخر. تواجه الناس بوجه بَاسِم ضاحك، ولكنّها في الخفاء تقضي على الشعب عن بكرة أبيه، فهذا هو التلاعب السياسي، فهل كان أمير المؤمنين متلاعبًا بالسياسة؟ نعوذ بالله كلا، أمير المؤمنين يقول: لا تقتلوا عثمان! أنا إمامكم، أنا معصوم، كلامي حقّ، عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ. لو قتلتم عثمان هذا لحدثت أمور لا علم لكم بها، أنتم ترون إلى متر واحد أمامكم، وأنا أرى إلى يوم القيامة. أنتم تعتقدون أنّكم عندما قتلتم عثمان انتهى الأمر، ولا تعلمون ما هي الحرب التي ستحدث. أنتم لا تعلمون ما سيحدث، ولا تعلمون أنّ هذا السيف سيقع عليّ في النهاية وسيبتليكم الله بمعاوية هذا الذي هو أسوأ من عثمان. أنتم لا تعرفون هذا. أنا أرى هذا. أيها الأطفال! أيّها الأولاد! يا من لا عقل لهم، يا من يريدون أن يحدّدوا القدر والمشيئة بفكرهم الناقص، فلتنظروا إليّ، لا إلى عقولكم.

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

8
  • ـ لا يا علي؛ انظر إليه ، لقد سرق بيت المال كله، وقد وزّع كل شيء على عشيرته، وكم ارتكب من ظلم، لقد ركل عبد الله مسعود في بيته فمات، وكم قام بأمثال ذلك من أمور! فنفى أبا ذر إلى الربذة ، وتوفي أبو ذر في منفاه في الربذة هناك، وقد ارتكب كلّ هذه الفظائع والجرائم.

  • قال الإمام ـ يعني أنا أقول هذا، أنا أشرح هذا، فهذا ما يقال له توضيح ـ قال الإمام: حسنًا كم قتل عثمان من الناس؟ ركل أحدَهم عبدَ الله مسعود، وأبا ذرّ هناك، ورجلاً أو اثنين آخرين هنا، ضرب عمّارًا فأصيب بفتق، وكسرت أسنانه عندما اعترض. فلو عددنا الناس نقول: عشرة، عشرين، خمسين ، مائة.كم ضاع من بيت المال؟ هذا المقدر. ولكن لو قتلتم عثمان، فسوف يموت الآلاف من الصحابة. ففي النهاية نحن نرى هذا يا سيدي العزيز، فاقتنعوا الآن بالعدد اليسير من الذين قتلهم عثمان، واكتفوا بهذا الظلم الذي ارتكبه، وإذا ما قتل، فإنّ أمامنا معركة الجمل. وإذا ما قتل فإنّ أمامنا معركة صفّين، وفي صفّين سنخسر عمار بن ياسر، سنخسر أويسًا القرنيّ في معركة صفّين. فهؤلاء أنا لا أراهم، وأمثالي لا يرونهم. أمّا أن نذهب ونضرب وينتهي الأمر. ماذا وراء ذلك ماذا؟ يختلف الأمر كثيرًا يا سيّدي، الفرق هو ما بين السماء والأرض. 

  • تارة يكون هناك إمام معصوم عليه السلام إلى جانبنا، عندها الأمر واضح. كما قلنا. أمّا إذا لم يكن الإمام المعصوم، فماذا نفعل؟ هنا الأمر يستحقّ الكلام، في الجلسة السابقة قلنا إنّ المعيار هو الحقّ، المعيار هو الأعلميّة، أينما وجدت هذه الأعلميّة [فهي المعيار]. 

  • ابتلاء الأئمّة جميعًا بعصيان من حولهم لهم

  • الأئمة عليهم السلام كانوا مبتلين بهذه المشكلة بعينها. فالمشكلة والمصيبة نفسها التي عانى منها أمير المؤمنين عليه السلام في حياته، عانى منها بقيّة أبنائه؛ حتى أقاربهم، فأقاربهم كانوا يضيّقون عليهم ويجعلونهم عليهم السلام في أصعب المآزق والمشكلات، فتاريخ بني الحسن تاريخ مظلم في تاريخ الشيعة فيما يتعلّق بالاضطهاد والقمع والجرأة التي كانوا يمارسونها على الأئمة عليهم السلام. 

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

9
  • الإمام الصادق وبنو الحسن

  • جاؤوا بالإمام الصادق عليه السلام ـ هؤلاء أبناء عمومته، بنو الحسن ـ إلى خارج المدينة ليأخذوا منه البيعة لابن عمّه محمّد بن عبد الله، فمن هو محمّد بن عبد الله هذا؟ لقد كان من بني عمّ الإمام الصادق، وهو من أبناء الحسن، وقد كان محمّد وإبراهيم شقيقين، وهما ابنا عبد الله. ومهما نصحهما الإمام لم يكونا يصغيان إلى نصحه، أحضروه قبل أن يصل المنصور إلى الخلافة، قبل ذلك أخرجوا الإمام من المدينة، حيث كانا قد هربا وأرادا جمع الناس حولهما؛ أخرجوه من المدينة، فقام والدهم عبد الله المحض وهو بتلك اللحية البيضاء فقال لهما: لا تدعوا جعفر بن محمّد الذي جاء الآن يرجع ببساطة، فإن بايع فبها، وإن لم يبايع فاضربوا عنقه، هل تلتفتون؟! يركب الإمام الصادق عليه السلام مطيّته وينطلق ويأتي فيقول لهم: الخلافة لا تصل إليك أنت، ولا تصل إليك، ولا تصل إليك، بل تصل الخلافة إلى صحاب القباء الأصفر هذا! لقد كان المنصور الدوانيقي جالسًا، منصور الدوانيقي، قال الإمام: ستنتهي الخلافة إلى صاحب القباء الأصفر هذا.۱ وسمع ذلك هو أيضًا، وهو يعلم جيّدًا، فهؤلاء يعرفون الإمام الصادق. وقد قال المنصور الدوانيقي مرارًا بعد ذلك: عندما سمعت هذا من جعفر بن محمّد في ذلك اليوم، استيقنت أنّ الأمر سينتهي إليّ. فالمنصور يعرف الإمام الصادق، والإمام الصادق لا يقول كذبًا، والإمام الصادق لا يكذب، والإمام الصادق لا يخطئ، فهؤلاء يعرفون الإمام عليه السلام. ومع ذلك يأتي أبناء عمومة الإمام الصادق، حفدة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وهم مستعدّون للقضاء على الإمام لأجل أنّ محمّد بن عبد الله هذا هو المهديّ الموعود، هو المهديّ الموعود، يا عزيزي المهديّ الموعود والده معروف، والدته معروفة، أجداده معروفون، فلماذا تكذبون؟ لماذا تخدعون الناس؟ لماذا تقتلون الناس؟ تدّعي المهدويّة وتدعي أنّني المهدي الموعود فتقاتل خلافة بني مروان! تقتل الناس وتقتل نفسك. لماذا؟ كم هي قيمة هذه المناصب الدنيويّة؟ كم قيمتها؟! وعندما جاؤوا وبدأوا بمعارضة خلافة بني مروان في زمان المنصور الدوانيقيّ، جاء المنصور إلى المدينة، وجاء بالجيش وسيطر على المدينة قبلهم، لأنّهم كانوا يشعرون أنّهم في ضائقة، وفي سبيل تحريض الناس على جيش الخليفة الأمويّ قالوا: سنسجن الإمام الصادق لنجبره على إعلان الجهاد. فإذا أعلن الجهاد، ثار أهل المدينة، وخرج المرتبطون بذلك الإمام وأتباعه. لقد ألقوا الإمام الصادق عليه السلام في السجن، بل في اسطبل السجن. هؤلاء أنفسهم، هل تلتفتون إلى أين يصل الأمر؟ ثمّ بعد ذلك يأتي هؤلاء ويدّعون الحكومة الإسلامية. نريد إقامة حكومة إسلاميّة، نريد أن نقف في وجه بني العباس ونقيم العدالة. فهل هذه عدالة؟ هل هذه عدالة؟ هذا عمل قادتكم، هذا عمل قادتكم! أهذا هو العدل، لقد وضعتم الإمام الصادق في السجن. وكانوا قد هدّدوه أنّك إن لم تستسلم خلال يوم فسنقوم بإعدامك في هذا السجن. عندها جاء المنصور الدوانيقي وأطلق سراح الإمام الصادق من السجن. ولو تأخّر يومًا آخر لقتلوا الإمام الصادق. 

    1. القندوزي، ينابيع المودّة، ج٣، ص ٥۰: وقد ذكر أهل السير : أن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ( رضي الله عنهم ) كان شيخ بني هاشم في زمانه ، جمع المحاسن الكثيرة ، وهو والد محمد الملقب بالنفس الزكية ، ووالد إبراهيم أيضا ، فلما كان في أواخر دولة بني مروان وضعفهم ، أراد بنو هاشم أن يبايعوا منهم من يقوم بالامر ، فاتفقوا على محمد وإبراهيم ابني عبد الله المحض ، فلما اجتمعوا لذلك أرسلوا إلى جعفر الصادق . فقال عبد الله : انه يفسد أمركم . فلما دخل جعفر الصادق سألهم عن سبب اجتماعهم فأخبروه . فقال لعبد الله : يا ابن عمي إني لا أكتم خيرية أحد من هذه الأمة إن استشارني ، فكيف لا أدل على صلاحكم . فقال عبد الله : فمد يدك لنبايعك . قال جعفر : والله إنها ليست لي ولا لابنيك ، وإنها لصاحب القباء الأصفر ، والله ليلعبنّ بها صبيانهم وغلمانهم . ثمّ نهض وخرج ، وكان المنصور العباسيّ يومئذ حاضرًا وعليه قباء أصفر ، فكان كما قال .

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

10
  • انظروا إلى أين ينتهي الأمر، وإلى أيّ مدى تتقدّم هذه الروح المتمرّدة، وما هي القيود التي لا تراها لنفسها، لماذا تقضي على الإمام؟ ليأخذ البيعة من الناس. ادع الناس، اجمع الناس لكي أصل أنا إلى السلطة، وآتي أنا، عرّض الناس للقتل لكي أصبح أنا خليفة، انظروا ترجع المسألة كلّها إلى هذه القضيّة، تعال وشجّع الناس على تثبيت موقفي. لا يستطيع الإمام صادق أن يفعل هذا أيضًا. لماذا؟ لأنّك إنسان مثل الآخرين، فمن أجل من يجب أن أجمع الناس؟ أجمع الناس لوصول من إلى السلطة؟ أَوَكون على استعداد لإراقة هذه الدماء لتحقيق الاستقرار في خلافة من؟ أنا الإمام الصادق لن أفعل هذا. تريد أن تقتلني فاقتلني، تريد أن تعدمني أعدمني.

  • هذه هي رؤية الإمام وتدبيره. والآن يأتي الإمام عليه السلام ويحذّر الناس: لا تثوروا. يا بني عمومتنا لا تثوروا. اجلسوا في منازلكم ، واذهبوا إلى أعمالكم وتجاراتكم، و اهتمّوا بما عندكم! فمن يستمع؟ من يهتمّ بهذه القضايا؟ 

  • الإمام الباقر عليه السلام وأخوه زيد الشهيد

  • قال الإمام الباقر عليه السلام لأخيه زيد بن علي: يا أخي، إذا أردت أن تفعل شيئًا غير ما أقول، فسيبقى عملك ناقصًا ولن تترتّب عليه فائدة في هذا المجال. زيد بن علي هو شقيق الإمام الباقر، وكان رجلاً عظيمًا ، كان رجلاً عالمًا، كان رجلاً شجاعًا، كان رجلاً مقدامًا، كان ذا حميّة دينيّة، ولم يكن إنسانًا عاديًا، وبعد الإمام الباقر، فإنّ زيدًا هو الأبرز من أبناء السجّاد عليه السلام، وهذه السلالة من الحسينيّين، والذين هم سادة حسينيّون، ينتسب حوالي تسعون بالمائة منهم إلى الإمام الحسين عليه السلام عبر زيد. فهو الجدّ الأعلى لهؤلاء السادة الحسينيّين، زيد بن عليّ هذا. لأنّ الولد الوحيد المعروف لسيّد الشهداء عليه السلام من حيث النسب الظاهر والذي لا شكّ فيه، هو الإمام السجّاد عليه السلام فقط. وإن كنت قرأت في بعض كتب التواريخ ـ وقد نسيت الآن أيّ كتاب كان ـ أنّ هناك بعض الأولاد من نسل عليّ الأكبر عليه السلام في بعض مدن الهند، وأنّهم ما زالوا يعيشون هناك، لكنني نسيت مصدر هذا. وبصورة عامّة، ووفقًا للأدلّة التاريخيّة، فقد كان عليّ الأكبر بالتأكيد أكبر من الإمام السجّاد عليه السلام، ولهذا السبب كان يُدعى بعليّ الأكبر. والإمام السجّاد هو الابن الثاني لسيّد الشهداء، الابن الثاني، ولكن من حيث نسب السادة إلى سيّد الشهداء عليه السلام، يمكن القول إنّ معظمهم تقريبًا بنسبة تسعين بالمائة ينتسبون إلى الإمام السجّاد وزيد. هذه هي القضية. لقد كان رجلاً عظيمًا ، كان رجلاً عالمًا جدًّا، كان رجلاً فقيهًا وشجاعًا. بالطبع لم يستطع زيد تحمّل مخالفات وانحرافات الخلافة الأموية وخلافة بني مروان ولم يستطع الصبر عليها، فحاول أن يثور. ومن جهة أخرى، فقد كان عارفًا بمكانة أخيه الإمام الباقر عليه السلام، فهو يعلم أنّ أخاه أعلم منه، وهو أكثر اطّلاعًا على الأمور. جاء إلى أخيه الباقر عليه السلام ليتحدّث حول هذه المسألة. قال الإمام: لا تفعل هذا! بالطبع الرواية مفصّلة جدًّا. فقال الإمام: لا تفعل هذا، وقدّم دليلاً. قال الإمام: لا تثر الآن! الوضع هكذا، الوضع هكذا، الوضع مختلف. إذا ثرت ستكون ثورتك غير مثمرة، أنت تريد أن تثور لتكون لثورتك نتيجة أم لا؟ أو تريد فقط أن تقوم وتهلك نفسك، فهذان أمران مختلفان.

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

11
  • امتياز ثورة سيّد الشهداء بضرورتها وترتّب الآثار عليها

  • تارة يثور سيّد الشهداء وتترتّب على ثورته فائدة. وتارة يلقي الإنسان بنفسه من السطح، فلا يترتّب على موته شيء. لماذا لم يفعل الإمام الحسن هذا؟ لماذا لم يفعل الإمام السجاد ذلك على الرغم من أنّهما كانا جميعًا في زمان اضطهاد؟! ألم يكن الإمام الحسن في عصر ظلم؟! ألم يكن الإمام السجّاد في زمان ظلم؟! ألم يكن الإمام الباقر في زمان ظلم فهل فعلوا ذلك؟ هل قاموا بتحريك الناس أم لا؟ إنّ العمل الذي قام به سيّد الشهداء كانت له نتائج وآثار وكان يجب القيام به. وإلاّ فسيّد الشهداء نفسه كان في المدينة المنورة لمدّة عشر سنوات تحت حكم معاوية ولم يتّخذ أيّ إجراء، أي إنّ سيّد الشهداء تحمّل عشر سنوات من حكم معاوية الغاصب الفاسد والخائن للإسلام. لماذا؟ لأنّ سيّد الشهداء هو الإمام، فهو يعرف أين يقوم، وأين يسكت، وأين يقف، وأين يتوقّف. إنّه الإمام والحق واضح عند الإمام، الحقيقة واضحة لديه. لكنّ غير الإمام ليس هكذا حاله. هو زيد، رجل شريف، رجل عظيم، رجل عالم، لكنّه ليس إمامًا، وليس له مكانة الإمام، وليس له السعة الوجوديّة للإمام، ليس له إشراف على الحقائق مثل الإمام، ولا يمكنه أن يلتفت إلى أكثر من دائرة خاصّة وراءه. أمّا الإمام عليه السلام فهو يعلم الأحداث إلى يوم القيامة. لكنّ الإمام الباقر لا يمكنه أن يقول له ذلك، لا يمكن للإمام أن يقول له: أنا أعلم ما سيجري إلى يوم القيامة، فيأتي له بالأدلّة، ويستدلّ ويتحدّث. أي إنّ الأئمة عليهم السلام قبل أن يطلعوا الناس على إمامتهم ويتحدّثوا من موقع المولويّة والإمامة، كانوا يتحدّثون مع الناس من وجهة نظر ظاهريّة، وكانت هذه إحدى المشكلات. فالآن نحن نلتفت إلى هذا الأمر. أي إنّ الإمام الباقر عليه السلام لم يكن لديه خيار غير هذا في الحديث مع زيد. يبدأ في الاستدلال، هل أنت مطّلع على الأمور؟! هل أنت على علم بما سيجري؟! هل تعلم أنّ هناك قضايا أخرى وراء الستار؟ فلمّا قال كلّ هذا وانتهى استدلال الإمام، قال زيد: سأفعل هذا. فماذا يقول له الإمام؟

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

12
  • هنا يبيّن له الإمام عليه السلام نقطة فيقول: أخشى أن تكون المصلوب في كناسة الكوفة. فعندما تنتهي كلّ هذه الحجج، لا يقبل. يقول [الإمام] يجب أن نبرز على الأقل أمرًا واحدًا ونقول شيئًا واحدًا. لكن مع ذلك، لا يقبل زيد مرّة أخرى، لا يقبل زيد مرّة أخرى.۱ 

  • ولكن في الوقت نفسه، كان بين أصحاب الإمام الباقر عليه السلام وأصحاب الإمام الصادق عليه السلام رجال [موقفهم مختلف] بالنسبة إلى الإمامة والولاية، كانوا ينظرون إلى الإمام ببصيرة الإمامة، كانوا ينظرون بتلك النظرة نفسها. لذلك يذهب زيد ليقتل نفسه دون أيّ نتيجة، وصلب جسده لمدّة أربع سنوات. لماذا؟ فلتتّبع الإمام يا سيّدي العزيز! يا من تقول للناس إنّ الله عيّننا لاتّخاذ المواقف العمليّة، لكنّ أخي محمّد بن علي الإمام الباقر حسب تعبيرنا أكثر منّي معرفة، فهو أعلم منّي. وعندما يذهب إليه أحد أصحاب الإمام الصادق ويحاوره، والظاهر أنّه مؤمن الطاق، يحاجّ زيدًا فيقول له: هل أنت أعلم أم أخوك؟ أيّكما هو الأعلم؟ هنا لا يمكن لزيد أن يتكلّم. فإذا ما طُرح أمر الأعلميّة فهذا الفرس وهذا الميدان، لا يمكنه أن يقول أنا أعلم. وبالطبع لم يكن زيد ليقول أنا أعلم، لأجل هذه الأمور. كلاّ فقد كان زيد منصفًا، وكان رجلاً صادقًا. قال: أخي أعلم. قال: هل يمكن أن تكون أعلميّة أخيك ذات أثر على هذا العمل الذي تقوم به؟ يعني ألا تستحقّ هذه المسألة المهمّة وهذه الأمور التي بهذه الأهميّة أن تستفيد من مرتبة أعلميّة أخيك التي تعترف بها؟ ربّما كانت هناك نقطة مظلمة هو يعرفها بواسطة أعلميّته لم تصل إليها أنت بعلمك. هنا يسكت زيد.٢ هنا يُحجُّ زيد. ثمّ يقول: لقد جعل الله فينا السيف وجعل فيهم العلم. أي إنّنا أهل حرب، وأخونا رجل وعظ ونصيحة وموعظة وبيان للأحكام.٣

  • عدم معياريّة كثرة الأتباع من الرَّعاع

  • عندما يصل الأمر إلى هنا، فهذا يعني أنّه لا نتيجة للكلام. لم يعد هناك منطق هنا. يقول وداعا ويرجع ويأتي إلى الإمام الباقر عليه السلام ويبيّن له الأمر. يقول الإمام هنا: لعن الله أهل الكوفة أحاطوا به وألقوا به في هذه الكارثة، وغدًا سترى أنّهم يفرّون من أمامه، هؤلاء أنفسهم، أمّا من يسير في طريق واضح، من كان الأمر واضحًا له، من يرى الحقيقة، فلو أنّ الناس كلّهم اجتمعوا حوله فلا فائدة. كم عدد الذين أحاطوا بك يا زيد؟ ثلاثمائة رجل؟ ثلاثمائة لم يكونوا أكثر! لو أنّ ثلاثمائة مليون أحاطوا بالإنسان فلا فائدة من ذلك. لأنّ الثلاثمائة هم واحد. هؤلاء الثلاثمائة مليون هم واحد، فالثلاثمائة مليون لم يصبحوا ثلاثمائة دفعة واحدة. لقد فهمتم ما أريد أن أقوله.

    1. ابن شهراشوب، مناقب آل أبي طالب، ج٣، ص٣٢٢: ويروى أنّ زيد بن علي لما عزم على البيعة قال له أبو جعفر : يا أبا زيد إنّ مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم مثل فرخ نهض من عشه من غير أن يستوي جناحاه فإذا فعل ذلك سقط فأخذه الصبيان يتلاعبون به فاتق الله في نفسك أن تكون المصلوب غدا بالكناسة ، فكان كما قال . 
    2. معرفة الإمام، ج‌۱، ص: ٢٢٣: ينقل المرحوم الكليني في (أصول الكافي)، كتاب الحجّة، باسناده عن أبان عن الأحول*، أنّ زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام بَعَث اليه و هو مستخفٍ، قال: فأتيتُه.
      فقال لي: يا أبا جعفر ما تقول إنْ طَرَقَكَ طارقٌ منّا أ تخرجُ معه؟
      قال: فقلتُ له: إنْ كان أباك [الإمام علي بن الحسين‌] أو أخاك [الإمام محمّد الباقر] خرجتُ معه.
      قال: فقال لي: فأنا أريد أن أخرج أجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي.
      قال: قلتُ لا ما أفعل جُعلتُ فداك.
      قال: فقال لي: أترغب بنفسكَ عنّي؟
      قال: قلتُ له: إنّما هي نفسٌ واحدة، فإنْ كان لله في الأرض حجّة فالمتخلّفُ عنك ناجٍ و الخارجُ معك هالكٌ، و إنْ لا تكن للّه حجّة في الأرض‌ فالمتخلّفُ عنك و الخارجُ معك سواء.
      قال: فقال لي: يا أبا جعفر كنتُ أجلس مع أبي على الخوان فيُلقمني البَضعةَ السمينة و يبرّد لي اللقمة الحارّة حتى تبرد شفقةً علي و لم يشفق عَلي من حرّ النار إذا أخبرك بالدين و لم يُخبرني به؟
      فقلتُ له: جُعِلْتُ فِداكَ مِنْ شفقته عليك من حرّ النار لم يُخبرك؛ خافَ عليك أن لا تقبله فتدخل النارَ و أخبرني أنا، فإن قبلتُ نجوتُ و إن لم أقبل لم يُبالِ أن أدخل النّار.
      ثم قلتُ له: جُعلت فداك أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء.
      قلتُ: يقول يعقوبُ ليوسفَ عليهما السلام: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى‌ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً «۱»، لِمَ لَمْ يُخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه و لكن كتمهم ذلك، فكذا أبوك كتمك لأنّه خاف عليك.
      قال: فقال: أما و الله لئن قُلتَ ذَلك لقد حدّثني صاحبُك بالمدينة أني اقتل و اصلب بالكناسة و أنّ عنده لصحيفة فيها قتلي و صلبي.
      فحججتُ فحدّثتُ أبا عبد الله عليه السلام بمقالة زيد و ما قلتُ له، فقال لي: أخذتَهُ من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله و من فوق رأسه و من تحت قدميه و لم تتركْ له مَسلكاً يسلكه.
      * هو محمّد بن النعمان، من خواص أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، و كان يُدعي بـ (مؤمن الطاق) لأنّه كان يمتلك دكّة تحت الطاق، لكن أهل السنّة لقّبوه بـ (شيطان الطاق) لمهارته في المناظرة و للعداء الذي يكنّه بعضهم لأهل البيت عليهم السلام.
    3. ورد هذا الكلام في الحوار الآتي بين متوكّل بن هارون ويحيى بن زيد ولم يرد في حوار مؤمن الطاق وزيد. (م)

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

13
  • في الجلسة السابقة، قلت لكم لو أنّ مدرّسًا في الصفّ قال لأطفال الصفّين الأوّل والثاني عندما يكون الثلج يتساقط: أيّها الأطفال أتريدون الدراسة أو الذهاب إلى الملعب واللعب في الثلج الآن؟! فإنّ الجميع يقولون: هيّا بنا نلعب، ولا يقول واحد منهم لا إلا أن يكون مريضًا، الجميع يقولون: لنذهب إلى اللعب بالثلج! كم عدد التلاميذ في الصف؟ ثلاثون، ولو كان هؤلاء الثلاثين الآن ثلاثين ألفًا، مرّة أخرى هؤلاء الثلاثين ألفًا سيقولون: لنذهب إلى اللعب بالثلج. وإذا أصبح هؤلاء الثلاثين ألفًا ثلاثين مليونًا، سيرفع الثلاثون مليونًا أيديهم للذهاب إلى اللعب بالثلج. لا يقول واحد منهم يجب علينا أن ندرس، ولا يقول واحدّ إنّ حياتنا تذهب هدرًا الآن. لماذا؟ لأنّ هناك ثلاثين مليون طفلاً ، وليسوا ثلاثين مليون بالغًا، وليسوا ثلاثين مليون حكيمًا، بل ثلاثون مليون طفل يقولون: هيا بنا نلعب بالثلج. لماذا الدرس؟ لماذا نتعلم الأبجديّة؟ لماذا نتعلم الضرب والجدول والقسمة؟

  • الإمام مع الناس كالمعلّم مع الأطفال

  • إنّ وضع الإمام عليه السلام مع مختلف الناس هو كحالة معلم الصفّ مع الأطفال. لا يستطيع المعلّم أن يطيع الأطفال. إذا أطاعهم وذهب هذا الطفل ليلعب بالثلج وسقط أو أصيب بالتيفوئيد ومات، فلن يُطرد المعلم غدًا من هذه المدرسة فحسب ، بل سيدينونه أيضًا في المحكمة أن ماذا تفعل أنت هنا؟ لماذا جعلناك هنا؟ لئن أراد الأطفال ذلك لا بأس فليريدوا فهل عليك أن تطيع كلّ من تمنّى وأراد أمرًا ما؟ إذن لماذا لديك عقل ولماذا لديك تجربة؟ ما الهدف من هذا؟ 

  • واقع الإنسان الكامل مع الناس

  • وينطبق الأمر نفسه على الإنسان الكامل، لقد وصل الإنسان الكامل إلى نقطة المعرفة، فهو يقيّم الأشياء من وجهة نظر الشهود وليس من وجهة نظر الظاهر. [فمثلاً يقول الإنسان العاديّ:]

  • ـ لقد قال فلان كذا اليوم، لذا دعني أفعل ذلك. 

  • ـ حسنًا، غدًا سيتراجع عن كلامه، فماذا تفعل أنت؟ 

  • يقول: لقد قلت. 

  • ـ غدا سيقول: لن أفعل ، غدًا يتراجع عن كلامه. 

  • وفقًا لهذا ، يتقدّم المرء إلى الأمام ثمّ يتراجع غدًا عن كلامه فيجد نفسه في طريق لا عودة فيه. هذا حال الإنسان غير الكامل، أأنت تعلم أنه سيتراجع غدًا؟! أمير المؤمنين عليه السلام يخبر هؤلاء بلسان الحال بأنّكم تقتلون الآن عثمان، وهذا معاوية والذي هو الآن حامي عثمان، سيثور غدًا من أجل المطالبة بالخلافة لنفسه. فهذا ما لا تعرفونه أنتم وأنا أعرفه. يقولون: لا يا عليّ، انظر إلى الجيش واعرف ماذا هناك، نحن خمسون ألف مقاتل إلى جانبك، نذهب ونري معاوية! نحن تسعون ألف مقاتل نقوم بالقضاء على معاوية. تفضّلوا! تستمرّ معركة صفّين ثمانية عشر شهرًا ثمّ تنتهي بهزيمة أمير المؤمنين ويعود إلى الكوفة، فالإمام لم يصل إلى نتيجة.

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

14
  • الناس لا يعرفون قصّة الخوارج في النهاية، لا يعرفون قصّة رفع المصاحف على الرماح هؤلاء الناس. هؤلاء الذين يحرّضون أمير المؤمنين، هم فقط ينظرون إلى رايات الجيش، ينظرون إلى هذه الخيول، انظروا إلى الخيول، انظروا إلى هذه السيوف، هل ترى الأحداث التي ستحدث فيما بعد أم ترى إلى متر واحد أمامك؟! أنت ترى مترًا واحدًا أمامك، ولكنّك تخطّط إلى يوم القيامة. ففي حين يرى أمير المؤمنين إلى يوم القيامة، لا يمكنك أن تتصرّف أنت في متر واحد ، وهو يرى إلى يوم القيامة. 

  • الإمام الصادق ويحيى بن زيد

  • يلتقي متوكّل بن هارون في رحلته إلى جرجان بيحيى بن زيد، كما لدينا في الصحيفة السجادية،. فقد كان والده هكذا وذا الشبل من ذاك الأسد، فقد ثار يحيى بن زيد أيضًا على خلافة خلفاء بني العبّاس؛ ويبدو أنّ قبر يحيى بن زيد الآن في جرجان۱، أي في أطرافها في منطقة قبة قابوس، قبر يحيى بن زيد، وله ضريح نورانيّ جدًّا. فقد كانت سعة يحيى هكذا، وكان إدراكه هكذا، يأتي هارون ويتحدّث معه: إنّ ما تفعله الآن لا يثمر، يأتيه بالأدلّة. يحاوره هارون هذا ويغلق عليه كلّ السبل. ثمّ يلتفت يحيى إلى المتوكّل فيقول له: ماذا قال جعفر بن محمد عنّي؟ قال إنّه كما أخذ والده وقتل كذلك ابنه يحيى سيقتل. فيقول: إنّا للّه وإنا إليه راجعون. حسنًا يا سيدي، تراجع. بما أنّك تعلم فتراجع، بما أنّك تعرف أنّ هذا هو الإمام.بما أنّك تعلم فتراجع! أنا أخبرك الآن، واليقين لا تردّد فيه، لكنّه لا يزال يقول في أعماق قلبه: دعنا نذهب الآن ونرى ما سيحدث. قد ينتهي الأمر هكذا، وقد ينتهي بطريقة أخرى.٢ لكن لو عُرِضَ عليه مشهد مقتله مسبقًا، أي لو كان هناك جهاز يمكنه تصوير هذه الحالات المستقبليّة، فهل كان سيستمرّ؟ لَمَا استمرّ. ما كلّ هذا؟ لأنّنا لا نملك يقينًا كافيًا ووافيًا بالإمام. فالمقياس بالنسبة لنا هو الحقّ، ولو جاء كلّ الناس وقالوا: نحن معك، لو قال كلّ الناس: نحن نحميك، لو قال كلّ الناس: نحن نؤيّدك، نحن نطيع كلّ ما تأمر به. نصغي إلى كلّ ما تقوله. نوافق على كل ما تقوله. فهذا هو الآن. ولكن إذا رميتْ التفاحة إلى الأعلى فكم تتقلّب حتّى تسقط على الأرض؟ هل تعرف أوضاع هؤلاء الناس فيما بعد؟! أنت ترى ضحكهم الآن، لكنّك لا تعرف ماذا سيحدث بعد ذلك. لقد رأيت ما صنعوا بالإمام الحسين، هؤلاء أنفسهم، لا يختلفون عنهم، أرسلوا أربعة آلاف رسالة إلى سيّد الشهداء. أربعة آلاف رسالة مكتوبة لا شفاهًا فقط، فأنكروا رسائلهم. في يوم عاشوراء قالوا بوضوح للإمام الحسين: لم نصنع أمرًا كهذا. كان الإمام قد جمع الرسائل كلّها فأحضرها جميعًا وألقاها أمامهم. فما دامت موجودة فمن هم أصحابها؟ خطّ من هذا الذي ترونه؟ وكان من الذين كتبوا رسالة إلى سيّد الشهداء الحجّاج بن أبحر أو أبجر، والذي سيطر على شريعة الفرات بأربعة آلاف فارس حتى لا يصل الماء إلى سيّد الشهداء. كان هذا واحدًا منهم. فناداه الإمام: يا حجاج ألم تكتب لي رسالة. قال: لا، قال الإمام: فأتوا برسالته، فأتوا برسالته وأظهروها أمام الجميع. لمن هذه الرسالة؟ فطأطأ رأسه. يا ابن رسول الله تعال وبايع وينتهي الأمر.٣ هذا هو بيت القصيد. 

    1. تنسب إلى زيد مجموعة مزارات في إيران وأفغانستان أحدها في مدينة جرجان شمال إيران. 
    2. الصحيفة السجاديّة، ص ٦۱۸: متوكل بن هارون قال : لقيت يحيى بن زيد بن علي عليه السلام وهو متوجه إلى خراسان ، فسلمت عليه فقال لي : من أين أقبلت ؟ قلت : من الحج . فسألني عن أهله وبني عمه بالمدينة ، وأحفى السؤال عن جعفر بن محمد عليه السلام ، فأخبرته بخبره وخبرهم ، وحزنهم على أبيه زيد بن علي عليه السلام . فقال لي : قد كان عمي محمد بن علي أشار على أبي بترك الخروج ، وعرفه إن هو خرج وفارق المدينة ما يكون إليه مصير أمره ، فهل لقيت ابن عمي جعفر بن محمد عليه السلام ؟ قلت : نعم . قال : فهل سمعته يذكر شيئا من أمري ؟ قلت : نعم . قال : بم ذكرني ؟ خبرني . قلت : جعلت فداك ما أحب أن أستقبلك بما سمعته منه . فقال : أبالموت تخوفني ؟ هات ما سمعته . فقلت : سمعته يقول : إنك تقتل وتصلب كما قتل أبوك وصلب . " فتغير وجهه " وقال : " ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " يا متوكل إن الله عز وجل ، أيد هذا الأمر بنا ، وجعل لنا العلم والسيف ، فجمعا لنا ، وخص بنو عمنا بالعلم وحده . فقلت : جعلت فداك إني رأيت الناس إلى ابن عمك جعفر عليه السلام أميل منهم إليك وإلى أبيك . فقال : إن عمي محمد بن علي ، وابنه جعفرا عليهما السلام دعوا الناس إلى الحياة ، ونحن دعوناهم إلى الموت . فقلت : يا بن رسول الله أهم أعلم أم أنتم ؟ فأطرق إلى الأرض مليا ثم رفع رأسه . وقال : كلنا له علم غير أنهم يعلمون كلما نعلم ، ولا نعلم كلما يعلمون .
    3. نور ملكوت القرآن، ج‌۱، ص: ٢۰۱؛ الإرشاد ج٢، ص ٩۸: يَا شَبَثَ بْنُ رِبْعِيِّ! وَ يَا حَجَّارُ بْنُ أبْجُرِ! وَ يَا قَيْسَ بْنَ الأشْعَثِ! وَ يَا يَزِيدَ بْنَ الحَارِثِ! الم تكتبوا إلى أن قَدْ أينعت الثِّمار و اخضرّ الجناب و إنّما تقدم على جند لك مجنّد فأقبل؟
      فقالوا. لم نفعل.
      قال. سبحان الله! بلى و الله لقد فعلتم.
      ثمّ قال. أيّها الناس! إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض.
      فقال له قَيْسُ بْنُ الأشْعَث. أوَ لا تنزل على حكم بني عمّك؟ فإنّهم لم يُروك إلّا ما تحب‌.

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

15
  • ضرورة الشورى في زمان وجود المعصوم عند البعد عنه

  • إنّ المعيار والميزان في الحكومة الإسلاميّة وفي الأعمال الشخصيّة هو اتّباع الحقّ. هذا هو المعيار، وعند وجود الإمام عليه السلام فالمعيار هو الإمام نفسه. عندما يكون هناك إمام يتعامل معه الإنسان فإنّ كلامه هو المعيار. ليس لدينا ما هو أعلى من كلام الإمام. فالمعيار هو كلام الإمام، لكنّ النقطة المهمّة هنا هي أنّه هل هذا الإمام متاح لجميع الناس أينما كان عليه السلام؟ فنحن ليس لدينا عشرة أئمة معًا، ليس لدينا مائة إمام، الإمام هو رجل واحد له خصوصيّات ظاهريّة ويختار العيش في مكان واحد، إمّا في الكوفة، أو المدينة، أو في مرو، أو في بغداد، أو في سامراء، وليس هناك مكان آخر. حسنًا، ما دام الإمام عليه السلام في مكان واحد، فما هو واجب الآخرين في البلدان الأخرى في عهد الإمام عليه السلام؟ أولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى الإمام، لنفترض أنه إذا هاجم عدوٌّ أحد هذه البلاد عند حدود العدوّ، فستظهر لهم مشكلة، ولو واجهتهم مشكلة في قضيّة اجتماعيّة، فلو أرادوا أن يرسلوا إلى المدينة المنوّرة ويطلبوا من الإمام عليه السلام الحلّ سيكون الأمر قد انتهى برمّته، سيكون الأمر قد انتهى، أفهل يمكن الوصول إلى الإمام حتّى في زمان الإمام عليه السلام؟ حتى في زمان رسول الله لم يكن الوصول إلىه ممكناً، فرسول الله في المدينة المنوّرة، وعلى بعد أميال قليلة من المدينة المنوّرة لم يعد بالإمكان مقابلة رسول الله. الناس في البلدان الأخرى لا يستطيعون لقاء رسول الله. لم يكن دأب رسول الله والأئمة الذهاب إلى كلّ مكان عند أيّ مشكلة وتقديم الحلّ. لا. أين كانت أمثال هذه القضايا؟ متى جاء أمير المؤمنين عليه السلام بطرق خارقة للعادة وبيّن الأمر للناس؟ لم يفعل ذلك. نعم عن طريق الولاية وأمثال ذلك لا كلام فهذا في مكانه، ولكن حسب الظاهر كان أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة، فما هو تكليف الذين كانوا في خراسان في زمان أمير المؤمنين، في مصر، في اليمن، في البصرة، في الحجاز، لأنّ العاصمة في عهد علي عليه السلام كانت الكوفة، كانت مركز الحكومة الإسلاميّة. فلو حدثت مشكلة للنّاس في الحكومة الإسلاميّة فما هو التكليف رغم وجود الإمام المعصوم عليه السلام؟ يجلسون هكذا ويقضى عليهم ويحدث الفساد لأننا لا نستطيع الوصول إلى الإمام أم لا، فما العمل؟ يجب طرح القضية للتشاور.

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

16
  • ولذلك ذكرت أنّ مسألة الشورى {وأمرهم شورى بينهم} لا بدّ أن تعدّ مبدأ لا يمكن التخلّي عنه حتّى في زمان الإمام المعصوم عليه السلام، فكيف بزمان الغيبة، فكيف بسائر الأزمان والعصور، ففي زمان النبيّ رغم حكومته ونفوذه ورغم سلطته ونفوذ كلمته، لم يكن هناك إمكان للوصول إليه لمعرفة الأحكام، لم يكن من الممكن الوصول إليه لمعرفة أحكام الأحداث الاجتماعيّة التي تحدث، وفي زمان أمير المؤمنين عليه السلام ورغم وجود الخلافة الإلهيّة، لم يكن من الميسور أيضًا لجميع الناس الوصول إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فماذا يصنع الناس؟ ماذا يصنعون في المشكلات التي تواجههم؟ هل يصبرون حتّى يرسلوا رسالة ورسولاً إلى المدينة؟ إنّه يرجع بعد ستّة أشهر فماذا يصنعون؟ {وأمرهم شورى بينهم}، يجب أن يتشاوروا وفي التشاور تتّضح الحقيقة. والأئمّة عليهم السلام كثيرًا ما كانوا بعيدين عن الأنظار، فموسى بن جعفر عليه السلام رغم كونه إمامًا كان في السجن لسنوات، لم يكن يلتقي بالإمام أحد. ولسنوات عديدة، كان الإمام الهادي عليه السلام والإمام الحسن العسكري بمعزل عن الناس، باستثناء ما كان يجري من خلال بعض الذرائع ليتمكّنوا من الوصول إلى الإمام عليه السلام. وعليه فإنّ موضوع الشورى والمشاورة في الأمر والمهامّ الاجتماعيّة والمشكلات التي تطرأ على المجتمع [أمر لا بدّ منه].

  • مورد الشورى هو تشخيص الموضوعات لا الأحكام

  • لأنّ موضوع الشورى لا علاقة له بالحكم الفقهيّ، حيث لدينا نوعان من الأحكام ـ وقد انتهى الوقت ـ لدينا نوعان من الأمور:

  • فمن الأمور أحكام فقهيّة، ولو اجتمع اثنان فهذا يسير، بل لو اجتمع عشرون مليون من غير أهل الخبرة في الفقه والأحكام، فلا أثر لمشورتهم. بل يجب أن يستنبط الفقيه والمجتهد الجامع للشرائط الأحكام ويبيّنها للنّاس كما ورد في نصوص الروايات، فهذا شيء له مكانه الخاص. وسنبيّن في هذا الموضوع ـ إن شاء الله وإذا وفّقنا الله ـ الاختلاف بين ذلك وبين تشخيص الموضوعات والذي هو محلّ بحثنا، وليس المسائل الفقهية. فتشخيص الموضوع أصعب من المسائل الفقهيّة. وفي تشخيص الموضوعات أي بيانها وتنقيحها تأتي الشورى، لا في الحكم الفقهيّ نفسه، والذي هو في عهدة المجتهد، في عهدة المرجع، وبالطبع بشرطه وشروطه وصفاته الخاصّة، لا كلّ من ادّعى وجمع كلمتين من هذه الكتب، في حين أنّه لا استعداد له ولا قابليّة لهذا الأمر. كلاّ، بل بالالتفات إلى شرائط ذلك، فهذه هي الأحكام الفقهيّة. 

لا شورى مع إمامٍ وإنسانٍ كامل

17
  • الأمر الثاني لا علاقة له بالأحكام الفقهيّة، بل له علاقة بتحديد الموضوعات الاجتماعيّة، كما لو حصلت معركة مثلاً كما ذكرت لكم في الجلسة السابقة، فأين نجعل هذه المعركة؟ هل في المدينة أم خارجها فنذهب إلى أحد؟ هذا موضوع، ففي هذه الأمور أمرهم شورى بينهم.

  • نسأل الله أن يبيّن لنا ما هو حقّ، وأن لا يحرمنا في أيّ زمان وفي أيّ برهة من اتّباع الحقّ.

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.

  • ؟؟ ئظئظئظئظئظ