83

التدبير وأداء التكليف

1948
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتدبير والأسرة


التوضيح

في هذه المحاضرة الشريفة التي عقدها سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه لإنهاء البحث عن فقرة «ولايُدَبِّرَ العَبدُ لِنَفسِهِ تدبيرًا»، تحدّث بدايةً عن خضوع السالك لمعيار في كلّ شؤون حياته، وعن ضرورة امتثاله لأوامر الأستاذ الكامل لبلوغ مراتب الكمال، ثمّ بيّن أنّ إمام الزمان عليه السلام لا يفرق لديه الحضور والغياب، وأنّ دوره إيصال الإنسان إلى مرتبته هو، ثمّ عرّج على مسألة التدبير ووجود معيار في كافّة المسائل المادّية والمعنويّة، ليستنتج أنّ مقام العبوديّة يقتضي أن يكون المحرّك الأساسيّ للإنسان في أفعاله أداءُ التكليف بأحسن وجهٍ، ومن دون تعلّق قلبه به أو انتظار نتائجه.
/۲۳
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

التدبير وأداء التكليف

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • التدبير وأداء التكليف

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۸٣

  •  

  • ألقاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

التدبير وأداء التكليف

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم 

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم 

  • الحمد لله ربّ العالمين 

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا

  • أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين 

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين 

  •  

  •  

  •  رغم أنّه بقي علينا بيانُ مجموعة من المسائل بخصوص الفقرة الشريفة من حديث عنوان البصريّ التي يقول فيها الإمام عليه السلام: «وَلا يُدَبِّرُ العَبدُ لنفسهِ تدبيرًا»، والتي قد نتحدّث عنها اليوم على نحو الإشارة وبنحو مجمل، لكن، بما أنّ المسألة طالت بنا أكثر من اللازم على ما يبدو، فإنّنا سنسعى إن شاء الله تعالى إلى أن نُنهي هذا البحث اليوم، لكي يتسنّى لنا بحول الله تعالى وقوّته الشروع في الفقرات الأخرى ابتداءً من الجلسة القادمة .

  • خضوع السالك لمعيار وميزان في كلّ شؤون حياته

  • إذا يتذكّر الإخوان، فإنّنا أشرنا في بداية هذه الفقرة إلى أنّ الإسلام يقوم على إرساء النظام والتدبير الدقيق في كافّة شؤون الحياة، سواءً الفرديّة أو الاجتماعيّة، وأنّه عيّن لكلّ مسألة تكليفها الخاصّ؛ أجل، يبقى أنّ للتكليف مراتب مختلفة؛ فإحداها هي مرتبة الإلزام والوجوب أو الحرمة، لكنّ هناك مراتب أخرى تتمثّل في الكراهة والاستحباب؛ كما توجد لدينا أيضًا مراتب أخلاقيّة تقع في مقابل المراتب التكليفيّة؛ وبنحو عامّ، لا يوجد موضوع في الإسلام، إلاّ وله حكم محدّد.

  • ولا يخفى أنّ مرادنا من الأحكام الإسلاميّة ليس فقط ما يرد ذكرُه في الرسائل العمليّة، بل معنى عامّ وأوسع؛ فالمسألة هنا تتعلّق بالتزام المسلم الذي يُريد أن يسلك طريق الله تعالى، وليس ذاك الذي يوجد الحواجز بينه وبين ربّه، ولا المسلم الذي يقبل بالبعض، ويرفض البعض الآخر، ولا المسلم الذي يكون حالُه {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ}.۱ فالله تعالى وضع للمسلم الذي يسعى لطيّ مساره التكامليّ ميزانًا خاصًّا في كلّ عمل وخطوة وقول؛ والميزان يعني القوّة التي تُميّز بين الحقّ والباطل؛ فإذا خضع المسلم لهذا الميزان والمعيار، فإنّه سيبلغ بمراتبه الكماليّة إلى الفعليّة، وأمّا إذا لم يخضع له، فإنّ هذه المراتب ستظلّ ناقصة بالنسبة إليه؛ نظير من يُريد الدراسة في الجامعة في فروع مختلفة؛ فإذا لم يحضر بعض الدروس، فإنّها ستضيع منه، ولن يستطيع تداركها، وعليه القيام بأمور أخرى؛ أو مثال العلوم الدينيّة التي يدرسها الطلبة والفضلاء أعزّهم الله في الدارين، فإنّ هناك العديد من المسائل التي ينبغي عليهم أن يخوضوا فيها، بل لعلّه بوسعنا القول: إنّهم مُلزمون ببلوغ مرتبة الاجتهاد فيها؛ وأمّا إذا لم يدرسوا إحدى هذه المسائل بنحو جيّد، فإنّ هذه المرتبة ستبقى ناقصة، ولن تصل إلى مرحلة الفعليّة؛ فإذا لم يصل الطالب إلى مرتبة الاجتهاد في النحو، فإنّه سيكون مضطرًّا لاستفادة الأسس والمبادئ من النحاة والنحويّين المشهورين؛ وفي هذه الحالة، كيف سيتسنّى له في مسألة اجتهاديّة أن يستنبط من الروايات والأدلّة؟ وهذه مسألة واضحة وبيّنة جدًّا؛ وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة للعلوم التجريبيّة، حيث ينبغي على الإنسان أن يصل فيها كحدّ أقّل إلى مرتبة الاطمئنان ـ إن لم نقل اليقين ـ، حتّى يتمكّن من إبراز رأيه بخصوص موضوعاتها.

    1. سورة النساء، الآية ۱٥۰.

التدبير وأداء التكليف

3
  • ففي كلّ مسألة من المسائل، وضع الله تعالى للسالك ميزانًا ومعيارًا؛ فإذا تحرّك في نطاقة، فإنّه سيصل بطبيعة الحال إلى تلك المرتبة من الفعليّة؛ وإلاّ، فإنّ هذه المرتبة ستظلّ ناقصة بالنسبة إليه؛ وهذا أمر لا شكّ فيه بتاتًا.

  • أذكر أنّه قبل الثورة؛ أي قبل سنة سبعة وخمسين هجريّة شمسيّة والتي وقعت فيها مجموعة من الأحداث في هذا البلد، وكان الكلام يدور حول حصول تغيير وتحوّل في الأفكار، وغمرت حُمّى المسائل السياسيّة المجتمع، جاء في ذلك الوقت أحد المشايخ والمعمّمين الذين هم الآن في عداد الموتى، وانتقلوا إلى رحمة الله تعالى عند المرحوم العلاّمة بطهران، طالبًا منه تهيئة المقدّمة الموصلة إلى الطريق؛ أي طلب منه المساعدة والهداية والإرشاد؛ وقد كان من مشايخ قمّ، ويقطن هناك؛ وكُنت منهمكًا في الدراسة بالغرفة المجاورة، وأسمع كلامهما، حيث كانا يتحدّثان قريبًا منّي، فيصل صوتهما إلى مسامعي؛ ومن بين الكلام الذي سمعت المرحوم العلاّمة يقوله له: «أنا لست عاطلاً عن العمل، وأوضاعي لا تسمح لي بـأن أُبقيَ بابي مفتوحًا لكي يأتي من يُحبّ، ويذهب من يُحبّ، لا! فعملي في نهاية المطاف يخضع للحساب؛ لأنّني أدير مسجدًا، ولديّ منبر للخطابة، وأشتغل بالتأليف؛ فحالي لا يُشبه حال بقيّة الناس في الأمكنة الأخرى»؛ ومن المحتّم أنّ السادة مطّلعون على ما يحدث في الأمكنة الأخرى، حيث يبقى باب البيت مفتوحًا من الصباح إلى الظهر، فيأتي الناس، ويذهبون؛ ويُقتصر فقط على هذا المجيء والذهاب؛ وقال: «لا! فأنا لديّ اشغال، وحياة خاصّة، وتأليفات؛ والأفراد الذين أرتبط بهم ولديهم اطّلاع على هذه المسائل خاضعون لبرنامج محدّد، ومطالبون بالامتثال لما يُقال لهم».

  • ضرورة امتثال السالك لأوامر الأستاذ الكامل لبلوغ مراتب الكمال

  • أجل، يبقى أنّ هذه الطاعة على قسمين: الطاعة في دائرة المسائل الرئيسيّة والأمور المهمّة، حيث يُعدّ انتهاكُها انتهاكًا لأمر صريح، ومخالفةً قطعيّة، ولا يُمكن التغاضي والعفو عنها؛ لكن، هناك مسائل أخرى، تختلف عن هذه، بحيث إذا لم يقم بها أحدهم، فإنّه سيُلحق الضرر بنفسه، ولا يُمكن أن يعدّها الإنسان مخالفة جادّة؛ نظير أن يُقال: لا تتناول الطعام الكذائيّ، أو عليك القيام بالمسألة الكذائيّة، أو من الأفضل أن تُقلّل من مصاحبتك ومعاشرتك لبعض الأشخاص، وتواصلك معهم؛ هذا، مع أنّنا سنتحدّث لاحقًا عن هذه المسائل، وستأتينا كلمات الإمام الصادق عليه السلام المطروحة في هذا المجال.

التدبير وأداء التكليف

4
  • وبشكل عامّ، فإنّه من اللازم أداء الأعمال التي تُطلب من الإنسان بنحو أحسن؛ وأمّا إذا قصّر أحدهم في ذلك، أو أنّ الفرصة لم تسمح له كثيرًا بذلك، أو أنّ اهتمامه كان ضعيفًا، فإنّ المثل التالي سيصدق هنا: «گر گدا كاهل بود تقصير صاحبخانه چيست»۱؛ أي أنّ ذلك سيرجع إليه هو؛ لكن، بشكل عامّ، توجد مسائل أساسيّة ومصيريّة يُعدّ انتهاكُها مخالفة، ولا يُمكن التغاضي عنها.

  • أذكر أنّه حينما كان المرحوم العلاّمة يُشير إلى هذه المسائل، فإنّ نفس ذلك الشخص كان يُشارك في الأمور السياسيّة ويحضر الاجتماعات التي كان تُعقد، وقد كان من الفضلاء والعلماء، وكانت تُقام في ذلك الزمان سلسلة من الاجتماعات، وكان يحضرها هو، ويُقدم على مجموعة من الأمور، حيث كانت هناك ثلّة من الأشخاص في ذلك العصر يهتمّون بهذه الأعمال؛ فالتفت ذلك العالم إلى المرحوم العلاّمة، وقال له: «تسهُل عليّ الطاعة في كلّ مسألة تأمرني بإنجازها، اللهمّ إلاّ في المسائل السياسيّة التي أرجو منك أن تعفيني فيها، وتسمح لي بالاستمرار في تلك الأعمال التي شرعت فيها، وأنا الآن منهمك في أدائها»؛ فقال له المرحوم العلاّمة: «بالمناسبة، فإنّ مرادي يتعلّق بهذه المسائل بعينها».

  • إنّ وليّ الله مطّلع على محلّ الإشكال، والموضع الذي توجد فيه المشاكل! فبما أنّك مواظب على الصلاة، فلا حاجة لكي نأمرك بأدائها؛ وباعتبار أنّك لا تحتسي الخمر وأمثال ذلك، فإنّنا لا نحتاج لأن نقول لك: «يا سماحة حُجّة الإسلام، لا ينبغي عليك احتساء الخمر»؛ إذ لا معنى لهذا الأمر بتاتًا؛ وهكذا الشأن بالنسبة لبقيّة الأمور المشينة؛ وحتّى بالنسبة للمستحبّات، فإنّها تُراعى إلى حدّ ما. لقد كنّا نُشاهد هذه المسائل كثيرًا في عهد المرحوم العلاّمة، وأنّه حينما كان يُلقي كلامًا، فإنّه كان يُصيب الهدف بشكل دقيق، ويتحدّث عن عين ذلك الأمر الذي يخطر في البال ويُؤدّي إلى تعلّق النفس؛ وفي هذه الحالة، كان البعض يُدرك المسألة، لكنّه كان يتجاهلها، ويتجاوزها؛ بينما كان البعض الآخر يستوعب المسألة، ويتعامل معها بفطنة، فيعمل بها، ويقطف ثمارها؛ فالأمر هنا يرجع إلى كيفيّة تعامل كلّ واحد مع هذه المسائل.

    1. يقول: إن كان المستجدي متقاعسًا، فما ذنب صاحب المنزل؟!

التدبير وأداء التكليف

5
  • فقال له: «بالمناسبة، فإنّ اهتمامي منصبّ على هذه المسألة بعينها»؛ هذا، مع أنّه لم يقل له: تدخّل أو لا تتدخّل في الأمور السياسيّة؛ فهذه مسألة أخرى تحدّثتُ عنها ـ على ما يبدو ـ في ضمن الأبحاث السياسيّة السابقة، وبيّنتُ للأحبّاء والرفقاء رأي المرحوم العلاّمة بشأنها، ولا حاجة لتكرارها مرّة أخرى؛ لكن، بشكل عامّ، فإنّ مراد العلاّمة من هذه المسألة أنّ التلميذ لا ينبغي عليه أن يُنازع في الأمور التي تُطرح عليه؛ هذه هي المسألة؛ فإن قيل له: افعل، فعليه أن يفعل؛ وإن قيل له: لا تفعل، فعليه ألاّ يفعل، ولو جاء كلّ العالم وقال له: إنّ تكليفك الشرعيّ هو كذا. فحينما يعتبر الإنسانُ الأستاذَ الفلانيّ أستاذًا كاملاً، ووليًّا مطّلعًا على الحقائق، فلا يجب أن يترك حسن وتقيّ وزيد وخالد وبكر وغيرهم أيَّ تأثير في وجوده، وأفعاله، وأفكاره، وكيفيّة نظرته للأشياء؛ وقد رأينا هذه الأمور وجرّبناها، وشاهدنا بأمّ أعيننا خسارة أولئك الذين خالفوا أوامر المرحوم العلاّمة، ولمسنا بوجودنا بؤسهم وشقاءهم، وكيف أنّهم تعرّضوا للخسران، وضيّعوا الفرصة؛ وبسبب هذه المخالفات، ذهبوا بتلك الجوهرة الثمينة التي منحهم الله تعالى أدراج الرياح، فصارت هَباءً مَنْثُورًا! هذه هي حقيقة الأمر.

  • ليست لوليّ الله نية سيّئة تجاه أيّ أحد؛ [فإذا لم تُعجبك أوامره] فلا تأت عنده يا عزيزي! ولهذا، فإنّ ذلك العالم رحل عنه! مرحى! لقد جاء ألف من أمثالك، ثمّ رحلوا بعد ذلك، من دون أن يحصل أيّ تغيير، ومن غير أن يلحقه هو أيّ ضرر؛ فمن الذي لحقه الضرر جرّاء ذلك؟ الآن وقد ارتحل ذلك الشخص إلى العالم الآخر، فإنّه يضرب على رأسه [ندمًا]! ففي ذلك الوقت، لم يكن الأمر بهذا النحو، لكنّه الآن، يرى ما هي الخدعة التي انطلت عليه؛ والآن، يرى العلاّمة هناك، لكن من بعيد {أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ}۱؛ فهو يرى العلاّمة من بعيد، ويرى حاله أيضًا!

  • حسنًا أيّها المسكين! فحينما كان هذا السيّد يطرح مثل ذلك الكلام، كان عليك بمقتضى القواعد العقليّة أن تلجأ إلى عمليّة حسابيّة؛ فبأيّ اعتبار جئت عنده؟ فإذا جئت عنده باعتباره إنسانًا عاديًّا، فإنّ هناك الآلاف من الأناس العاديّين؛ وأمّا إذا أتيت إليه باعتباره الرجل الأفضل، فإنّ نفس عقلك وفهمك يحكمان بأن تُلحظ هذه الأفضليّة في كافّة الموارد، وبأنّه لن يُنقص منه أيّ شيء، وأنّه لا توجد لديه مشكلة مع أيّ أحد، ولا يُضمر البغضاء لأيّ واحد، ولا توجد لديه عداوة شخصيّة مع أيّ أحد؛ فتفضّل أيّها السيّد، إن عملت بما يُقال لك، فَبِها ونِعمَتْ؛ وإن لم تعمل به، فذلك شأنك؛ وعلى حدّ قول المرحوم العلاّمة: اكتشف مقام العزّ الإلهيّ في وجود أوليائه؛ فهم أعزّاء [بعزّته].

    1. سورة فصّلت، الآية ٤٤.

التدبير وأداء التكليف

6
  • يا من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بعزّته مستعزّين

  • وقد كنّا نشعر بهذه المسألة حينما نذهب عند المرحوم السيّد الحدّاد، أو المرحوم العلاّمة؛ فكنّا نراهما على درجة عالية من العزّة، بحيث كان ينتابنا الخجل حقًّا، ونذوب حياءً، وكيف أنّهم يأتيان، ويتحدّثان معنا؛ مع أنّ هؤلاء لم يكونوا مستعديّن لمبادلة جميع الدنيا بشعرة واحدة من بدنهم.. نعم، جميع الدنيا وما فيها! وقد كنّا نشعر بهذه الحالة التي أحدّثكم عنها؛ كما أنّنا قد نسعى اليوم وفي الضمن لاستعراض هذه المسائل، ولو على نحو الإشارة، أو أكثر، لكي ننهي الحديث في نهاية المطاف عن هذا الموضوع، ونتجاوز هذه الفقرة الواردة عن الإمام عليه السلام.

  • وبحقّ، فإنّنا كنّا نشعر بأنّه إذا كان هناك أحدٌ في هذا العالم لا يلتفت إلى الدنيا بتاتًا، ولا يُلقي بالاً لهؤلاء المريدين، ولا يهتمّ بإقبال الناس عليه، سيكون هو المرحوم الوالد؛ فقد كنّا نرى ذلك ونحسّ به؛ وانتبهوا أيّها الرفقاء، فقد ذهبت إلى كلّ مكان! وعرّجت على جميع المواضع؛ وإذا حدّثتكم بهذا الأمر، فحتّى لا تعتقدوا أنّه منذ أن فتحت عيني، لم أر إلاّ الوالد! لا! فقد ذهبت عند غيره، وعرّجت على سواه، وتحدّثت معهم، وجرّبت ألف واحد منهم؛ وقد تُوفّي العديد منهم، ولا تُوجد أيّة فائدة من الحديث الآن عنهم؛ فما هي النتيجة المرجوّة من هذا العمل؟ فسواءً كانوا بهذا النحو، أو لم يكونوا، فقد ارتحلوا في نهاية المطاف عن هذا العالم، وهم أعلم بحالهم، والله تعالى أعلم بهم؛ والواجب علينا نحن أن نرى ما هو تكليفنا.

  • وبحقّ، فإنّني كنت أشعر بهذه المسألة، وبمرتبة العزّة التي يتواجد فيها، بحيث لو أنّ العالم انقلب رأسًا على عقب، لما تلوّث رداء كبريائه، ولو بمقدار ذرّة من التراب؛ لكن، مع ذلك، فإنّني كنت أراه يأتي، ويتحدّث معنا، ويتكلّم مع أحبّائه، ويصرف في ذلك وقته، ويبذل من ساعاته وراحته وأوقات فراغه، ويتحدّث، ويفعل كذا وكذا؛ وكان أحد الأصدقاء يقول: حينما كنت أذهب عند المرحوم العلاّمة، كان يقول لي: «متى ما شئت، تعال عندي، فنجلس، ونتحدّث سويّة»؛ وحينما كان يأتي ذلك الصديق إلى مشهد، كان يعقد عدّة جلسات مع المرحوم العلاّمة، فيتحدّثان معًا بخصوص العديد من المسائل؛ ولا أدري هنا ما هو سبب ذلك؛ لكنّه كان يعترف في ذلك الحين بأنّ لطف العلاّمة وتفضّله هما اللذان يقتضيان حصول هذا الأمر، وليس أنّه كان يستحقّ ذلك، ولا أنّ شأن أمثاله هو الذي يوجب أن يتنزّل هؤلاء العظماء عن مقامهم، ويُعطون الفرصة لمثل هذه القابليّات؛ لكن، في الوقت ذاته، فإنّ ذلك الصديق لم يكن يهتمّ بالأمر كما ينبغي، وكان يتعامل مع هذه المسائل بشكل سطحيّ؛ ومع ذلك، فإنّ المرحوم العلاّمة، لم يكن يلتفت إلى هذا الأمر، وكان يقول له: «تعال عندي متى شئت»؛ وفي نهاية المطاف، هل تعلمون ما الذي قاله له؟ قال له: «يا فلان! إن كنت لا تقبل بي، فلا يبقى لك إلاّ الذهاب عند إمام الزمان»؛ أي أنّه لا يوجد شخص آخر غيره؛ وهذا هو الكلام الأخير الذي ...؛ ويقول ذلك الصديق الآن: «يا لها من خسارة وقعت فيها! فهو لم يعُد موجودًا الآن، وهذه المسألة لم تعُد الآن ...»؛ فهو يقول: «يا لها من خسارة لحقت بي!».

التدبير وأداء التكليف

7
  • فلتذهب حينئذ عند إمام الزمان، لكن، هل يُمكنك الوصول إليه؟! فاذهب، وائت به! فاذهب عند إمام الزمان، وخذ بيده، وائت به! لكن أنّى لك ذلك؟! فإمام الزمان لا يسمح وقته بأن يأتي، ويجلس عندك يومًا، ويجلس عندي يومًا آخر! فهو عليه السلام قد وضع الطريق، وحدّد المسار؛ فإذا تحرّكنا في هذا الطريق، فإنّه سيكون معنا.

  • قبل عدّة أيّام، جاء عندي أحد الأصدقاء، وتحدّث معي بالنحو التالي، حيث قال: «برأيي يا سيّدي، لا يوجد أيّ طريق إلى الله تعالى في هذا العصر، سوى أن يكون لدينا ارتباط مباشر بإمام الزمان!»، فقلت له: «أجل، أنا أيضًا أوافقك الرأي»، ثمّ قلت له: «لكن، كيف يُمكنك [الاستفادة] من إمام الزمان؟»؛ فقال: «علينا أن نأتي، ويجلس إمام الزمان هنا، ونجلس إلى جانبه، ونطرح عليه الأسئلة، فيُجيبنا عنها»؛ فقلت له: «متى ما التقيت بإمام الزمان، خذ لي أنا أيضًا منه موعدًا للقاء، فأنا أحتاج للجلوس معه لمدّة نصف ساعة! فاذهب الآن، وخذ لي موعدًا منه، واذهب، واعثر على إمام الزمان!».

  • حضور إمام الزمان مع كلّ ذرّة من ذرّات الوجود فابحث عنه في قلبك!

  • ثمّ قلت: إنّ إمام الزمان الذي يأتي بهذا النحو لا أقبل به، ولو بمقدار فِلسين، ولو بمقدار قِرشين؛ فأنا أقبل بإمام الزمان الذي تمرّ كلّ فكرة وخاطرة عبر نفسه قبل أن تحلّ بذهني؛ فهذا هو إمام الزمان الذي أرتضيه؛ أمّا إمام الزمان ذاك، فلا يساوي فلسين، وهو إمامُ زمانٍ خياليّ وذهنيّ، وإمامُ زمانٍ تُغازله في نفسك، وليس إمام الزمان الحقيقيّ.

  • فأنا أقبل بإمام الزمان الذي قبل أن آتي إلى هنا، وأتحدّث إلى الرفقاء والأحبّة، وأضيّع أوقاتهم، وقبل أن أتكلّم، فإنّ كافّة المسائل التي أريد أن أطرحها تكون موجودة من أوّلها إلى آخرها في نفسه، بل ويكون أصلها موجودًا هناك، بينما يكون ما أحدّثكم به عبارة عن نسخة لذلك الأصل؛ أي أنّ الكلام الذي أذكره لكم الآن عبارة عن نسخة مصوّرة لما هو موجود في نفس إمام الزمان، لا أنّه فقط يعلم بذلك؛ فما معنى أنّه يعلم بذلك؟! إنّ هذا العلم يليق بأطفال هذه المدرسة؛ فهؤلاء يعلمون ما الذي أريد قوله، والذين هم في بداية الطريق يعلمون بذلك.

التدبير وأداء التكليف

8
  • لقد حصل مرارًا وتكرارًا أن جئت إلى العديد من الجلسات ـ سواءً هنا أو في مكان آخر ـ لأجل الحديث، وقبل أن أشرع في الكلام، يأتي أحدهم، أو إثنين، أو ثلاثة، أو عشرة أفراد، فيقولون لي: «يا سيّدي، أنت تُريد اليوم أن تقول كذا»! فيُخبرونني بما سأقوله من أوّله إلى نهايته؛ فتفضّلوا إذن! فهل هؤلاء كانوا إمام الزمان؟! لا يا عزيزي! فالله تعالى يمنح للإنسان نورًا، ويهبه باطنًا، ويُعطيه نفسًا، فيتسنّى له الاطّلاع، وهذا ليس أمرًا ذا بال!

  • فليس إمام الزمان هو الذي يقتصر على المعرفة والاطّلاع، بل إمام زماننا هو المـُجري لأصل كلّ المسائل والأمور والأحداث؛ أي أنّها تجري على يديه؛ وحينئذ، هل يكون إمام الزمان هذا غير مطّلع على أحوالكم؟! وهل ينبغي حتمًا أن يأتي إمام الزمان إلى منزلكم، فتجلسون إلى جانبه؟! فهذا لن يكون إمام الزمان، بل سيكون إنسانًا عاديًّا كبقيّة الناس؛ مع أنّه عليه السلام حدّد لنا الطريق بهذا النحو؛ وإلاّ، ففي أيّة رواية من الروايات، قيل لنا: لكي يصل الإنسان إلى معرفة الله تعالى، عليه أن يرى إمام زمانه في الظاهر؟ في أيّة رواية؟ وهل توجد في أيّة كلمة من كلمات العظماء إشارةٌ إلى هذه المسألة، وأنّ الطريق إلى الله تعالى مُغلق، اللهمّ إلاّ أن يكون للإنسان ارتباط بدنيّ وظاهريّ بوليّه المطلق.. الإمام المعصوم عليه السلام؟!

  • فالكلام المنقول عن المرحوم الشيخ حسن عليّ الأصفهانيّ الذي يقول فيه: «إنّ الطريق في هذا العصر مُغلق ومُقفل؛ لكن، هناك فارق بين أن يقف الإنسان خلف الباب، ويتّخذ بيته إلى جانبه، وبين أن يمشي في الشارع، ويسلك طريقه الخاصّ»۱ هو كلام خاطئ ومجانب للصواب.

  • فإمام الزمان عليه السلام لا يفرق لديه الغيبة والظهور؛ وهو حاضر مع وجود كل واحد منا، وهو موجود إلى جانب كلّ واحد منّا الآن وفي هذا المجلس؛ فهذا هو إمام الزمان الحقيقيّ؛ وهذا هو رأي أولياء الله تعالى والعرفاء الإلهيّين بخصوص مقام الولاية الكبرى؛ وأذكر أنّني كنت جالسًا ذات يوم عند المرحوم السيّد الحدّاد، فطلب منه أحدهم لقاء إمام الزمان، حيث كنت جالسًا هناك أستمع، فالتفت إليه، وقال له: «إن كنت ترغب في لقائه عليه السلام، فهذا هو البرنامج: أدّ العمل الكذائيّ طيلة عشرين يوم، وفي اليوم الحادي والعشرين، أو في نفس تلك الأيّام، سوف تلتقي به ظاهرًا!»؛ لكنّه قال له بعد ذلك: «ابحث عن إمام الزمان الذي يوجد معك الآن غير أنّك هجرته! وإلاّ، فهو غير مهجور، ونقّب عن إمام الزمان الموجود في قلبك».

    1. لمزيد من الاطّلاع على هذه المسألة، راجع كتاب: نشان از بى‌نشان‌ها، ج ۱، ص ۱٤۰؛ وقد عُرّب هذا الكتاب تحت عنوان: سيماء الأولياء وكراماتهم (المعرّب)

التدبير وأداء التكليف

9
  • وحتّى لو فرضنا أنّك التقيت يإمام الزمان، وعملت بتلك المسائل؛ كأن يكون مثلاً أحد الحاضرين في هذا المجلس إمام الزمان، ففي أيّ شيء سينفعني ذلك؟ فإن كان أحد أفراد هذا المجلس حضرة بقيّة الله أرواحنا له الفداء، فما هي الفائدة في ذلك؟ كأن نفرض أنّ أحد هؤلاء المؤمنين الجالسين هنا هو إمام الزمان؛ وما دامت معرفتي به عليه السلام مقتصرة على المعرفة الظاهريّة والمعرفة بالهويّة الشخصيّة، فأيّ تأثير سيتركه فيّ لقائي به أو عدم لقائي به؟ سأطّلع على جماله المبارك عليه السلام؛ حسن جدًّا، لكن، ما هو الفارق بالنسبة إليّ بين أراه عليه السلام، وبين أن أرى صورته؟ ولهذا، قال [السيّد الحدّاد]: من الأفضل لك أن تعثر على إمام الزمان في قلبك، عوض أن تعمل بذلك البرنامج؛ فهذا هو كلام العرفاء، وحديث الأولياء.

  • ولهذا، فإنّني لم أسمع طيلة مدّة حياتي أنّ المرحوم الوالد أو أساتذته تحدّثوا في مجالسهم ولو لمرّة واحدة عن اللقاء الظاهريّ بإمام الزمان، ولم أسمعهم يقولون: إنّ إمام الزمان سيظهر في اليوم الكذائيّ، أو أنّه سيظهر غدًا، أو في سنة ألف وأربعمائة وستّة عشر هجريّة؛ الأمر الذي لم يحصل! حيث نعيش الآن في سنة ألف وأربعمائة وأربعة وعشرين، وقد تأخّر ظهوره ثمان سنوات عن تلك السنة! فلم نرهم يقولون: «لقد قال فلان كذا»، ولم نُشاهدهم أبدًا يقولون: «للالتقاء بإمام الزمان، عليكم أن تقوموا بالفعل الكذائيّ»؛ هذا، مع أنّ [المرحوم العلاّمة] كان يقول بنفسه: علاقة وليّ الله تعالى بإمام الزمان كعلاقة أب العائلة الذي يُتابع أعضاءها في البيت؛ فهذا هي علاقته به؛ فهل التفتّم الآن؟! كما أنّ هكذا شخصيّة بلغت إلى هذا المقام كان يدعو أحبّاءه إلى المقام ذاته؛ هذه هي حقيقة المسألة.

  • بالأمس فقط، نقل أحد الأصدقاء من الذين التقوا كثيرًا بالمرحوم العلاّمة كلامًا عنه ذكره ذات يوم، وقد سمعت بنفسي أنا أيضًا هذا الكلام منه رضوان الله تعالى عليه، ويتعلّق بموضوع الشيخيّة الذين كانوا يقولون: إنّ طريق الوصول إلى الله تعالى مُتاح للأئمّة عليهم السلام فقط، ولا يُمكن للناس العاديّين بلوغ هذه الحقائق، ولا يتسنّى للإنسان حتّى بلوغ المقام الذي بلغه الإمام؛ لأنّ هذا المقام فوق أفق البشر، ومهما كانت المرتبة التي بلغها الإنسان، فإنّه سيظلّ محدودًا معرفيًّا، ويُعاني من حدودٍ على مستوى استعداداته وقابليّاته؛ ولذلك، لا يُمكنه الولوج إلى ولاية الإمام عليه السلام، والاطّلاع على ذلك الحريم؛ فهذا هو رأي الشيخيّة وأمثالها.

التدبير وأداء التكليف

10
  • دور الإمام عليه السلام إيصال الإنسان إلى نفس مرتبته هو

  • وفي نقضه لهذا الرأي، وكذلك لما يطرح بعض الأشخاص الذين يعقدون فعليًّا أبحاثًا ومجالس بخصوص هذا الموضوع، يقول المرحوم العلاّمة: «أيّها السيّد! لم يأت أمير المؤمنين عليه السلام لكي يأمرنا باتّباعه من دون أن يوصلنا إلى تلك المرتبة التي هو فيها؛ وإلاّ، لن يكون حينئذ أمير المؤمنين»، ثمّ قال: «لقد جاء أمير المؤمنين لكي يُبلّغنا ذلك المقام الذي يحتلّه هو، ويوصلنا إلى كلّ مرتبة وصل إليها بنفسه».

  • انظروا إلى [عظمة] هذا الكلام، فهو لا يُصدّق أبدًا! فهذا أمير المؤمنين، مع يده البيضاء، وامتلاكه لمقام الولاية المطلقة، وكذا وكذا، وبقيّة المسائل التي سمعناها عنه؛ هذا، مع أنّ ما سمعناه ليس إلاّ غيض من فيض، حيث إنّ العديد من هذه المسائل...

  • فكثيرٌ من الحقائق الواردة في الزيارة الجامعة الكبيرة لم يفهمها العديد من العظماء، وشكّكوا فيها، وقالوا إنّها مختصّة بالله تعالى! فانظروا إلى الدرجة التي يبلغها البعض في قصر النظر وضيق الأفق وعدم إدراك الواقع، بحيث لا يتسنّى للإمام عليه السلام ـ بحسبهم ـ الإفصاح عن نفسه، بل عن بعضه.

  • جاء أحدهم عند الإمام الهادي عليه السلام، وقال: يا ابن رسول الله، علّمني دعاءً أدعو به في جميع المشاهد المشرّفة للأئمّة المعصومين، فعلّمه الإمام هذه الزيارة الجامعة الكبيرة، حيث ورد عنه عليه السلام في باب الزيارات وأمثال ذلك روايات أكثر من بقيّة الأئمّة؛ أي أنّ ما رُوي عن الإمام الهادي في مجال التعريف بمقام الإمامة يفوق ما رُوي عن بقيّة الأئمّة؛ فمعظم الزيارات المختصّة بهم عليهم السلام مرويّة عن الإمام الهادي، كما توجد لدينا أيضًا مجموعة من الشواهد على ذلك، وحتّى تلك الزيارات المفتقرة للسند تدلّ مضامينُها بنحوٍ ما على أنّها واردة عنه عليه السلام؛ ومع كلّ ذلك، فإنّ أولئك الأشخاص لا يقبلون بالزيارة الجامعة، مدّعين أنّ فيها غلوًّا في مقام الإمام؛ لكن، لماذا يدّعون ذلك؟ لأنّ معرفتهم بهذا الحدّ، ويظنّون أنّ الإمام عليه السلام مجرّد إنسان ظاهريّ يطّلع على الحقائق من خلف الجدار حينما يشاء الله تعالى؛ يا عزيزي، إنّ درويشًا هنديًّا يفوق اطّلاعه ذلك، ومرتاضًا هنديًّا يقدر على فعل أكثر ذلك؛ فعلينا أن نكون عديمي الفهم بدرجة عالية لكي لا نرى للإمام مقامًا، ولو بمستوى مرتاض هنديّ؛ فهذا بحقّ عجيب جدًّا! عجيب جدًّا! فهذه هي حقيقة ولاية الإمام عليه السلام؛ وفي هذه الحالة، يقول المرحوم العلاّمة: لقد جاء أمير المؤمنين عليه السلام لكي يضعنا في عين تلك المرتبة التي يحتلّها هو؛ أجل، يبقى أنّ مسألة سعة القابليّة هي مسألة أخرى مختلفة عن مسألة الوصول إلى نفس المرتبة؛ وهذا نظير اختلاف الناس في السعة التي يمتلكونها من ناحية الأكل وتناول الطعام، حيث نجد أنّ الطفل لا يستطيع تناول أكثر من مقدار معيّن من الطعام، بينما يستطيع الكبار تناول طعام أكثر، وهكذا بالنسبة لكلّ واحد؛ لكنّ الطعام الذي يُمنح للجميع واحد؛ وفي هذه الحالة، قد يمتلك أحدهم استعدادًا أكثر، فتتسنّى له الاستفادة منه أكثر ممّن يمتلك استعدادًا أقلّ، لا أنّ الطعام يكون مختلفًا.

التدبير وأداء التكليف

11
  • ثمّ قال: إنّ الإمام عليه السلام يوصلنا إلى عين تلك المرتبة، ويُذيقنا نفس النعمة الذي ذاقها هو؛ غاية الأمر أنّ الإمام يذوق أكثر، والبقيّة يذوقون أقلّ؛ وهذه مسألة يختلف فيها حتّى الإمام مع الرسول الأعظم؛ إذ نجد أنّ سعة قابليّته صلّى الله عليه وآله وسلّم تفوق سعة قابليّة الأئمّة وأمير المؤمنين، كما أنّ سعة واستعداد أمير المؤمنين يفوقان سعة واستعداد أبنائه؛ فلكلّ إمام سعة مختلفة من هذه الناحية، بحيث لا نجد إمامين يتوفّران على سعة واحدة؛ فحتّى الأئمّة بأنفسهم يختلفون من هذه الجهة، لكن، مع ذلك، فإنّهم بأجمعهم يحتلّون مرتبة الولاية؛ أي أنّ كلّ عالم الوجود يترشّح من نفس الإمام عليه السلام وجودًا وبقاءً.

  • هل تعلمون ما الذي أريد قوله؟ وهل استوعبتم المسألة التي أريد أن أقولها لكم أم لا؟ فتارةً، قد تصنعون آلة، كأن تُصنع سيّارة مثلاً في معمل، ثمّ يُخصَّص سائق لأجل العناية بها وقيادتها؛ ففي بعض الحالات، قد يكون الأمر بهذا النحو، فنقول: إنّ إمام الزمان هو الذي يُدير العالم؛ أي أنّ الله تعالى خلق العالم بكواكبه وسماواته وأرضه، ومجرّاته، وخلق عالم المادّة وعوالم الملكوت، بحيث مهما ارتفعنا بهذه العوالم إلى أعلى، فإنّنا نجدها مخلوقة، غاية الأمر أنّه وُضع مديرٌ لخلقها بأجمعها اسمه إمام الزمان؛ فأحيانًا، قد نعتقد بهذه النظريّة، مع أنّ العديد لا يعترفون حتّى بهذا المقدار! أي أنّ الكثيرين لا يعتقدون بهذه المسألة!

  • وتارةً أخرى، قد لا نقبل بإمام الزمان هذا، بل نقبل بإمام الزمان الذين يكون كلّ ما في عالم الوجود قائمًا بوجوده؛ فهذا هو إمام الزمان؛ ممّا يعني أنّ جميع عوالم الملكوت والملك والدنيا تكون في حكم المخلوقات لإمام الزمان، وهو عليه السلام يخلق هذه العوالم في كلّ لحظة؛ أي أنّه الآن خلقني، كما أنّه هو الذي يمنح الاستمراريّة لهذا الخلق؛ وهو الذي خلقك، ويمنح الاستمراريّة لخلقك، بحيث إذا رفع يده للحظة واحدة عن هذا الخلق، فإنّنا سنصير عدمًا؛ وهذا هو الذي يُسمّى بالولاية.. الولاية المطلقة.

  • وحينئذ، هل سيكون إمام الزمان هذا غافلاً عنّا؟ وهل سينسانا؟ وهل سيتعيّن علينا أن نأتي به إلى منازلنا، ونأخذ منه الأوامر والدساتير لأجل الوصول إلى الله تعالى؟ إن كان الأمر كذلك، فإنّه سيكون عبارة عن طريق آخر لا نعلم نحن به! ونحن جاهلون به؛ لأنّ الذي تعلمّناه، وما تقتضيه الأدلّة، والمسألة التي أكّدت وأصرّت عليها البراهين أنّ إمام الزمان هو بنحوٍ يكون كافّة وجودنا واقعًا تحت سيطرته، مثلما تنظرون أنتم الآن إلى كفّكم؛ فالأمر هو بهذا الشكل.

التدبير وأداء التكليف

12
  • وجود معيار في كافّة المسائل المادّية والمعنويّة

  • لقد وضع الله تعالى معيارًا لكافّة أعمالنا وتصرّفاتنا، وهو عبارة عن اتّباع الحقّ؛ وبعض هذه المسائل يتيسّر لعقلنا وذهنا فهمها وإدراكها، ولهذا، فإنّه يلتزم بها؛ لكنّ بعضها الآخر لا يتمكّن من إدراكها، فتظهر فيها الحاجةُ إلى أستاذ ودليل؛ وبالتالي، يُصبح المعيار هنا هو هذا الأستاذ، وتلك المبادئ والدساتير المطروحة في هذا المجال.

  • فمهما كان العقل الذي تمتلكونه، بل لو فرضنا أنّ أحدكم مُنح كافّة العقول الموجودة في العالم، فجُمعت عقول كلّ الناس باختلاف مستواهم الفكريّ، وقوّتهم العقليّة وحدّتهم الذهنيّة وذكائهم، وأعطيت لإنسان واحد، بحيث صار البقيّة مجانين بأجمعهم... هذا مع أنّهم الآن كذلك ولو لم تُسلب عقولهم، وأنتم تُشاهدون ما يحصل الآن في العالم! فلو أتوا بكافّة العقول، ومنحوها لفرد واحد، هل سيتمكّن مع ذلك من رؤية ما يقع خلف الجدار؟ لا، هل ستتسنّى له مشاهدته؟ وهل سيقدر بعقله ذاك أن يرى ما وارء الجدار؟ فنحن لا نستطيع الآن رؤية ما يقع خلف هذا الجدار، والذي يتألّف من جصّ وحديد وأمثال ذلك؛ وإلاّ، هل يوجد من بينكم أحد يُمكنه رؤية ذلك بعقله؟ لا؛ لماذا؟ لأنّ العقل عاجز عن تحديد ما يقع خلف الجدار. فالجدار أمر مادّي، وإذا أردتم رؤية ما يقع خلفه، يتعيّن عليكم الخروج من هذا المنزل، حتّى تُشاهدوا ذلك بأعينكم، أو أن تصنعوا آلة مادّية وفيزيائيّة يُمكنها أن تُحدّد لكم عن طريق الأشعّة أو غير ذلك ما هو موجود خلف الجدار؛ وأمّا العقل، فلا يقدر على ذلك، ولو جمعنا فيه عقول العالم كافّة؛ فما الذي نحتاجه في هذه الحالة؟ نحتاج إلى معيار؛ والمعيار هنا البَصر والرؤية، وليس العقل.

  • فمع أنّ معاييرنا في المسائل المادّية تختلف عن المعايير المطروحة في المسائل المعنويّة، إلاّ أنّنا لا نستطيع تحديد مصالحنا ومفاسدنا، ومنافعنا ومضارّنا على مستوى هذه المسائل المعنويّة بواسطة عقولنا، بحيث نقوم اليوم بعمل معيّن، فنأتي غدًا ونقول: يا ويلي، لقد أخطأت؛ أو لا نقوم اليوم بعمل ما، ثمّ نأتي في الغد، ونقول: لماذا لم نقم به؟ أو نُقدم اليوم على فعل محدّد، ثمّ نلتفت غدًا إلى أنّ المسألة بنحو آخر.

التدبير وأداء التكليف

13
  • لقد جعل الله تعالى لهذا الأمر معيارًا، وعلينا أن نبحث عنه، ونعثر عليه، حيث تتوفّر جميع المسائل على معيار، سواءً كانت هذه المسائل شخصيّة أو اجتماعيّة؛ وهذا هو الأمر الذي يرتكز عليه الإسلام؛ لأنّه لا يرتكز فقط على إدارة المجتمع، ولا على مجرّد الديمقراطيّة التي تجري على الألسن هذه الأيّام، حيث إنّ الديمقراطيّة ـ طبقًا للمرتكزات الإسلاميّة ـ هي إحدى فروع الأحكام الإسلاميّة؛ أجل، الديمقراطيّة الحقيقيّة ـ لا المطروحة الآن ـ والعدالة الاجتماعيّة الحقيقيّة ليستا شيئًا مختلفًا عن الأحكام الإسلاميّة؛ فالعدالة التي لا يقدر فيها أيّ فرد من أفراد المجتمع على الإضرار ببقيّة أفراد نوعه، ولا يلحظ فيها هذا الفرد أيّ مانع يصدّه عن بلوغ الدرجات الكماليّة تصير هي المعيار، لكن بذلك الشرط؛ فهذه هي الديمقراطيّة الإسلاميّة. وقد بحثنا عن هذه المسألة سابقًا بشكل مفصّل جدًّا؛ لكن، يبقى أنّ تحقّقها ينبغي أن يكون تحت مراقبة وإشراف التعاليم الإلهيّة.

  • اهتمام الإسلام بمسألة التدبير

  • وعليه، فإنّ تدبير الأمور من أهمّ المسائل التي أكّد عليها الإسلام؛ وهنا، علينا أن نرى كيف ينبغي أن تتحقّق المسألة التي قال عنها الإمام الصادق عليه السلام: «ولا يُدَبِّرُ العبد لنفسه تدبيرًا»، حيث تحدّثنا عنها سابقًا، لكنّنا سنسعى اليوم لإنهاء الكلام عنها.

  • لا ريب أنّه مثلما أنّ جميع المسائل في نظام عالم التكوين تقوم على أساس التدبير، فإنّها تقوم كذلك في نظام عالم التشريع على أساس التدبير والتنظيم، حيث جاء في الآية الشريفة: {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}۱؛ فلو أنّ أحدهم أراد أن يُؤلّف كتابًا، ويأتي فيه بالآلاف من التعاليم، والمسائل، والقصص، والحكايات، والمواعظ، والنصائح، والإرشادات، لحصل بالضرورة والقطع تعارضٌ بين هذه المسائل؛ بينما لا نرى في الكتاب الإلهيّ، ولو موردًا واحدًا من موارد التعارض. فإذا كان في عالم التكوين {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}٢؛ أي إذا كان التعارض بين الأوامر والنواهي الصادرة من الآلهة يُفضي إلى التعارض في عالم المعلولات، وبالتالي فساد العالم، أ فلن تتحقّق المسألة ذاتها في عالم التشريع؟!

    1. سورة النساء، الآية ۸٢.
    2. سورة الأنبياء، الآية ٢٢.

التدبير وأداء التكليف

14
  • ومن هنا، ينبغي أن تتحقّق في كافّة أحكامنا التشريعيّة مسألة تدبير الأمور وتنظيم الشؤون، وبأعلى مستوى من الدقّة، بحيث إنّ أفضل إنسان ـ على حدّ قول المرحوم الوالد وبقيّة العرفاء كالمرحوم القاضي الذي سُمع عنه أيضًا هذا الكلام ـ هو الذي يستطيع تنظيم شؤونه بنحو أحسن، ويتمكّن من الاستفادة من مسائله وأوقاته بشكل أفضل؛ فهذا الإنسان هو الذي سيكون موفّقًا وناجحًا.

  • وأمّا الذي يقضون أوقاتهم في البطالة، ويمضونها في مسائل اللهو واللعب، ويُضيّعون الفرص التي تسنح لهم، فإنّ ذلك سيترك تأثيره في أنفسهم، ولن يصل بهم هذا الطريق إلى الهدف المنشود؛ فهذا هو منهج العظماء وأولياء الدين وديدنهم.

  • مقام العبوديّة يقتضي أن يكون المحرّك الأساسيّ للإنسان في أفعاله أداء التكليف

  • ومن هنا، نسأل: ما هي المسألة التي تظهر من كلام الإمام الصادق؟ علينا أن نرى ما هو الحال الذي ينبغي أن يكون عليه العبد في مقام العبودية؛ فحينما يقول الإمام عليه السلام للعبد: هذا هو مقام العبوديّة، فإنّ هذا العبد لا يستطيع في كلّ خطوة يخطوها، وكلّ عمل يقوم به أن يخرج عن دائرة هذه العبوديّة. فحينما يُريد الإنسان أن يذهب إلى متجره، أو مكتبه؛ وعندما يخرج من بيته، ويسعى للذهاب إلى عمله، أو إدارته، أو عيادته، أو مكتبه، أو حجرته، أو شغله، أو مدرسته، ما هي النية التي يُكنّها في قلبه؟ فالناس العاديّون تتمثّل نيّتهم في: «نحن نذهب للقيام بالعمل الكذائيّ، حتّى نجني كذا مقدار من الربح، وندّخر المقدار الكذائيّ»؛ وبالنسبة للذين يطلبون العلم: «نحن نذهب للدراسة لكي نصير كذا في المستقبل، ونحصل على المنصب الكذائيّ، ونجني المنافع الفلانيّة»، حيث يكمن المحرّك الأوّلي للإنسان، والذي يدفعه للخروج من البيت، والانهماك في الأشغال الشخصيّة في هذه النيات التي يُكنّها في باطنه.

  • هل حصل لحدّ الآن أن خرج الإنسان من منزله، وكانت نيته: «لقد أمرني الله تعالى الآن بالقيام بهذا العمل، سوف أذهب للقيام به، ولا علم لي بما سيقع في الغد»؟ وهل خطرت علينا لحدّ الآن مثل هذه الفكرة: «سوف أذهب اليوم إلى عيادتي، وأفتحها أداءً للتكليف الملقى على عاتقي، وامتثالاً لأمر الله تعالى القاضي بمعالجة المرضى! سوف أذهب اليوم إلى المدرسة لأنّ الله تعالى كلّفني بالدراسة! سوف أذهب اليوم إلى المكتب أو المتجر أو الدكّان لأنّ الله تعالى كلّفني بأن أعمل؛ ولهذا، فإنّني سأذهب، وأنهمك في عملي، سواءً جنيت ربحًا أم لا، فهذه مسألة أخرى»؟ يعني: لو أنّ هاتفًا غيبيًّا هتف في أذني قبل أن أفتح الباب وأخرج من البيت: «أيّها السيّد، لن تجني اليوم ربحًا من عملك»، هل كنت سأفتح الباب وأخرج من المنزل أم لا؟ إن خرجت، سأكون عبدًا؛ وإن لم أخرج، لا؛ حيث سأقول مع نفسي: «بما أنّني لن أجني أيّ ربح، فمن الأفضل أن أمضي وقتي في البيت، وأرتاح، وأمرح؛ فلماذا أتعب نفسي؟ ولماذا أذهب، فأضطرّ للتعامل مع الناس ومنازعتهم؟»؛ فإن رجع، فلن يكون عبدًا.

التدبير وأداء التكليف

15
  • فهذا هو الذي يُريد الإمام أن يُفهمنا إيّاه؛ أي: على الإنسان أن تكون نيته في مقام العمل والاشتغال التكليف وحسب؛ وهذا ليس بالأمر الهيّن! فالكثير يدّعون، ويطرحون هذا الأمر، ويقولون: «علينا أداء التكليف، ولا شغل لنا بالمسائل الأخرى»؛ لكن، حينما يتغيّر التكليف، سنكتشف بأجمعنا ما هي الأمور التي ستحصل: سنسعى لكي نطرح السماء على الأرض؛ فما الذي حصل إذن؟! وحده أمير المؤمنين الذي جاء، وخطب في الناس لأشهر مديدة، ثمّ أمرهم بالتوجّه إلى الشام؛ لكن، حينما وصل الأمر إلى مسألة التحكيم، وآلت هذه المسألة إلى خسارته عليه السلام عمليًّا، فإنّه رجع بكلّ هدوء إلى مكانه بالكوفة، وعاد مجدّدًا إلى شؤونه السابقة؛ فهو فقط [الذي تحقّق بذلك الأمر]؛ وكذلك الشأن بالنسبة للإمام الحسن عليه السلام، ومع مقام إمامته ...؛ أجل، ينبغي عليّ أيضًا أن أشير إلى أنّني لا أريد القول: يجب علينا أن نصير في مقام التسليم والعبوديّة مثل أمير المؤمنين والإمام الحسن! نرجو من العليّ القدير إن شاء سبحانه، وبلطف الأئمّة وصاحب مقام الولاية وعناية الله تعالى أن نصل إلى هناك، وأن تأخذ عناية الإمام عليه السلام بأيدينا؛ لكن، يُمكننا فعليًّا أن نخطو الآن خطوة واحدة في هذا الطريق، وبوسعنا الحركة، ولو بمقدار معيّن؛ فهل يُمكننا أن نرى درجة تسليم أمير المؤمنين، ولو في الأحلام؟! لكن، علينا أن نتحرّك بمقدار قابليّتنا واستعدادنا وطاقتنا، ولا نبقى جالسين هكذا، بل نُحرّك أنفسنا قليلاً، ونغيّر أوضاعنا، ولو بمقدار؛ وهذا هو معنى مقام العبوديّة.

  • سأضرب مثالاً من سيرة المرحوم العلاّمة؛ لأنّني أعلم أنّ معظم الرفقاء يُريدونني أن أتحدّث في هذه المسائل عنه، حيث يُشكَل عليّ أحيانًا، ويُقال لي: إنّك تُطيل الكلام في بعض المسائل، في حين أنّنا نريد سماع بعض الحقائق عن والدك وعن العظماء؛ وهنا، أنقل قضيّة من حياة المرحوم العلاّمة، حتّى يتجسّد كلام الإمام الصادق للأحبّة واقعًا.

  • نموذج من سيرة العلاّمة الطهرانيّ قدّس الله سرّه على مسألة أداء التكليف

  • حينما أراد المرحوم الوالد التوجّه إلى النجف، وكان يقوم بجمع الأثاث، قال بعض معارفنا: «إنّ السيّد محمد الحسين يجمع أثاثه بطريقة توحي أنّه لا يرغب في الرجوع إلى إيران بتاتًا»، فقال المرحوم الوالد: «وهل من المفروض أنّني سأرجع إلى إيران؟»؛ ولا يخفى أنّ محبّته الكبيرة والعجيبة للنجف الأشرف هي التي دفعته للرغبة في الإقامة بالنجف منذ شبابه؛ وأنا أيضًا أحبّ كثيرًا ذلك، ونرجو من الله تعالى أن يقسم لكافّة الرفقاء زيارة أمير المؤمنين عليه السلام، وأن تُختم هذه الأحداث الواقعة بالخير، فلا نعُد نقتصر على زيارة النجف لمدّة أسبوع أو يوم، لا، بل نذهب إلى هناك، ونظلّ أربعين يومًا بالنجف، وهكذا، أربعين أخرى بكربلاء؛ ومن شاء، يبقى هناك، ولا يرجع أبدًا؛ فأمير المؤمنين لا يكتنفه أيّ بخل، كما أنّه يُرحّب كثيرًا بزوّاره، ويرعاهم؛ هذا كلّه إذا تطابق ذلك مع التكليف والمصلحة! وعلينا هنا أن نضع كلمة «إذا»؛ لأنّنا نتحدّث أحيانًا بمثل هذا الكلام، فينزعج لذلك بعض الرفقاء؛ وأمّا إذا وضعنا كلمة «إذا» في الأخير، فإنّهم سيقولون: «حسنًا، نحمد الله تعالى، فأنت لم تذكر هذا الأمر بنحو مطلق»؛ وعلى أيّ تقدير، فإنّني أرغب من كلّ قلبي أن يقسم الله تعالى لنا ذلك، ويجعل وطننا ومسكننا في نفس تلك الأرض المقدّسة، والمقام الوَلويّ والعلويّ المحروس بالملائكة.. إن شاء الله تعالى؛ وعلى كلّ حال، نرجو أن تؤول كافّة هذه الأوضاع والمسائل الواقعة إلى صالح الإسلام والتشيّع، وصالح أتباع أهل البيت عليهم السلام وأحبّائهم.

التدبير وأداء التكليف

16
  • فقال [المرحوم العلاّمة]: «هذا هو الجواب الذي قدّمته لهم»؛ ومن ناحية أخرى، فإنّ تلك الأحداث التي وقعت بعد وفاة والده رحمة الله تعالى عليه كانت أيضًا سببًا لعدم رغبته في الإقامة بإيران، حيث كان ذلك الملفّ شديد السواد، وعلى حدّ قوله: «لقد أغلقنا ذلك الملفّ، ولن نفتحه أبدًا»؛ ولهذا، فقد هاجر إلى النجف إلى الأبد، وعلى حدّ قوله: «حينما كنت أسمع أحيانًا خبرًا أو شخصًا أو أرى حتّى منامًا يحكي عن قدومي إلى إيران، فإنّني أبقى مضطربًا طيلة أسبوع كامل»۱؛ فإلى هذه المستوى العجيب كان له تعلّق بتلك الأرض والبلاد والعتبة؛ إلى أن رجع في نهاية المطاف وبعد مرور سبع سنوات إلى إيران بأمرٍ مباشر من أستاذه المرحوم السيّد الحدّاد، وانهمك في إدارة المسجد؛ والله تعالى وحده يعلم ما هي المشاكل التي أمسكت بخناقه في إدارته لهذا المسجد والأمور المتعلقة تنظيفه وكذلك شؤونه التبليغيّة؛ ولا أعلم هل تحدّثت مع الرفقاء يومًا ما عن هذه المسائل أم لا؛ فقد واجهته الكثير من الاعتراضات، وقام المشرفون على المسجد بوضع العديد من العراقيل أمامه؛ وقد قال ذات يوم لأحد المعارف: «حصلت لي في هذا المسجد أمور لا يعلم بها إلاّ الله تعالى، ولم أُطلع عليها أحدًا لحدّ الآن»؛ وقد كان يتحمّل العديد من المشاقّ حتّى في ذهابه إلى المسجد، حيث حصل في العديد من المرّات أن لم يكن في جيبه مال ليدفعه لسيّارة الأجرة، فكان يقطع المسافة الفاصلة بين منزلنا القديم الواقع في شارع آهنك بطهران، وبين مسجد القائم الذي يقع في شارع سعدي الشمالي، والتي تبلغ خمسة كيلومترات تقريبًا ماشيًا؛ فكان يذهب إلى المسجد في فصل الشتاء ـ حيث كانت تصل سماكة الثلوج إلى متر واحد ـ على قدميه ظهرًا، ثمّ يعود؛ وهكذا في الليل يذهب ماشيًا في تلك الثلوج، ثمّ يعود؛ فكان يحكي لنا العديد من الوقائع التي حصلت له أثناء الطريق؛ ثمّ إنّه وبسبب مرض الروماتيزم الذي أصيب به، فإنّه كان يبقى جالسًا تحت الكرسيّ٢ من الليل إلى الصباح، حيث كان الكرسيّ شائعًا في ذلك الزمان، وكان يُستخدم فيه غبار الفحم، ثمّ استُبدل بعد ذلك بالأدوات الكهربائيّة؛ لكن، بعدما وُصلت أنابيب الغاز، لم يعُد له وجود، لكن يبقى أنّه وسيلة تدفئة جيّدة جدًّا، وأنا أحبّه كثيرًا، وهو مفيد جدًّا للكسل، حيث يغوص تحته الإنسان، ولا يعود قادرًا على الطفوّ!!! فكان يبقى تحته من الليل إلى الصباح من شدّة الألم، ويقول: «إنّني أضع قدميّ على الموقد حتّى تُشفى قليلاً»، وفي الغد، تتكرّر هذه المسألة مرّة أخرى.

    1. الروح المجرّد، ص ٤٢.
    2.  الكُرسي‌: مدفأة أشبه بالمنضدة المنخفضة يوضع تحتها وسيلة للتدفئة، ويبسط عليها لحاف في الشتاء، فيجلسون تحت اللحاف حولها للتدفئة؛ وقد کانت مشهورة في إيران. المعرّب‌

التدبير وأداء التكليف

17
  • فكان يذهب إلى المسجد بهذه الطريقة؛ وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة للغصص التي تجرّعها بخصوص بناء هذا المسجد، ودعايته، ومختلف شؤونه، حيث أثيرت ضدّه العديد من المعارضات؛ فكان يدعو أحد الخطباء، فيُعارضه في ذلك القيّمون على المسجد، ولا يدفعون له المال، أو يمنحونه المال ناقصًا، ويتظاهرون بالعوز؛ فالله وحده العالم بالغُصص التي جرّعوها هذا الوالد، حيث كانوا يستدعون بأنفسهم خطيبًا من الخطباء الفاسدين من دون إذن الوالد؛ وحينما كان يقوم من المجلس، ويخرج، كانوا يعترضون عليه، ويقولون: لماذا لم تجلس للاستماع إلى خطيبنا؟! مع أنّهم كانوا يستدعون خطيبًا أحواله السيّئة معلومة؛ ولا يخفى أنّ هذا المقدار اليسير الذي أشرت إليه هنا لم يذكره هو، بل اكتفى بذلك القليل الذي أورده في ذلك الكتاب. وقد سعى إلى إدارة هذا المسجد طيلة إحدى وعشرين سنة مع كلّ هذه الأوضاع؛ فكان يعقد جلسات للتفسير في ليالي الثلاثاء، كما كانت له جلسة في يوم الجمعة؛ وفي كلّ ليلة، كانت هناك جلسة للتفسير، وفي ليالي الثلاثاء، كانت هناك جلسة، وكان يطرح فيها المسائل الأخلاقيّة الواردة في روايات المعراج؛ لكن، ما يبعث على الأسف كثيرًا أنّ كلماته لم تكن تُسجّل في ذلك الحين؛ أجل، يبقى أنّه سعى إلى تسويد بعضًا منها في كتبه كنموذج؛ لكنّ الله تعالى هو الذي يعلم متى ستصل إلى أيدينا.

  • وعلى أيّ تقدير، فقد كانت هذه هي سيرته؛ أي: حينما كان يخوض في إدارة شؤون المسجد، فإنّ بقيّة الناس كانوا يظنّون أنّه يهتمّ به كما يهتمّ أيّ واحد بإرثه وممتلكاته الشخصيّة؛ مثلما عليه الحال في بقيّة الأمكنة؛ فبهذه الطريقة وهذا الأسلوب كان يدير هذا المسجد.

  • ذات يوم، سألته: «يا سيّدي، طيلة الفترة التي كنت فيها بطهران، وبالنظر إلى المسائل التي كان تحصل، هل كنت راضيًا عن أوضاعك هناك أم لا؟»، حيث كان عليه أن يتدخّل في كافّة شؤون المسجد: في البُسط التي تُفرش، وفي كيفيّة تنظيف وغسل هذه البُسط والذي كان يجب أن يتمّ بعد كلّ فترة معيّنة، وفي الأمور المرتبطة بمحلّ الوضوء، وأمثال ذلك، إلى درجة أنّ القيّمين على المسجد تنبّهوا قليلاً، وعمدوا إلى تغيير وضع محلّ الوضوء والمراحيض، وتجديد بنائها؛ فصار يُهمس هنا وهناك بأنّ المراحيض ينبغي أن تصير مثل ما هو عليه الحال في مسجد القائم؛ وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة لأسلوب الخدمة، والنظافة، وإدارة الأمور، والضيافة، فكان يقول: ينبغي أن تتمّ الضيافة بشكل محترم؛ لأنّ الناس الذي يأتون إلى المسجد كلّهم محترمون، ولا ينبغي أن يجري الأمر كما يحصل في الهيئات وأمثال ذلك، حيث يوضع خمسون أو مائة صحن سكّر فوق بعضها، ويضعون صحن السكّر في جهة، وكأس الشاي في جهة أخرى، ثمّ يأتي أحدهم بالسكّر، ويبدأ في توزيعه بتلك الطريقة؛ فهذا غير صحيح؛ لأنّ احترام الناس واجب؛ أ فهل تستضيفون الناس في منزلكم بهذا النحو؟ ينبغي أن تُخصّص لكلّ كأسٍ وصحنِ سكّرٍ صينيّةٌ صغيرةٌ يُوضع فيها هذا الصحن، ومقدار معيّن من السكّر بنحو مستقلّ، كما أنّ الصوان الكبيرة التي توضع أمام الفضلاء ينبغي أن تكون بهذا النحو.

التدبير وأداء التكليف

18
  • لاحظوا، حينما يضع الإنسان معايير لحركته، فإنّ أفعاله تكون بأجمعها خاضعة لمعيار؛ فحتى تقديمه للشاي يكون بحساب ومعيار. هل رأيتم كيف يتعاملون مع الناس في الهيئات؟ تجدهم يقولون: بما أنّ هؤلاء قد جاؤوا، فإنّنا مضطرّون لأن نُقدّم لهم الشاي! أو حين حلول وقت الغذاء، فإنّ أحدهم يُمسك الصحون، ويبدأ في توزيع الطعام على كلّ من يأتي إلى هناك؛ لا! ففي يومي تاسوعاء وعاشوراء، حينما كانت تنطلق إحدى الهيئات من المسجد لأجل إقامة موكب العزاء، ثمّ ترجع، فإنّه [المرحوم العلاّمة] كان يقول: «عليكم أن تفرشوا مائدة الطعام، وليجلس الجميع على هذه المائدة»؛ والله وحده العالم بالمشاكل التي كان يتحمّلها؛ فهذا من الأمور العجيبة حقًّا!

  • في سنة من السنوات، أذكر أنّه لم يحضر الظهر في يومي تاسوعاء وعاشوراء بسبب خلاف حصل له مع البعض؛ أجل، أحيانًا، كان يجلس هناك، حيث يُطلب منه الجلوس من أجل الضيافة؛ لكن، في معظم الأوقات، كنّا نعود إلى المنزل؛ وفي إحدى السنوات، طرأ خلاف بينه وبين أحد القيّمين على المسجد؛ فحينما طبخوا الطعام، جاءت النساء، وجاء الأطفال إلى الطابق العلويّ لكي يُشاهدوا مراسم العزاء من فوق؛ وقد حضروا قبل ساعتين [من موعد الغذاء]، وكان هناك أيضًا حتّى الأطفال، وفيهم الرضّع وذوو الأربع سنوات، وبنات ذوات سنتين أو ثلاث سنوات؛ فكان هؤلاء متواجدين في الأعلى، في ذلك الطابق الذي يطلّ على محيط المسجد؛ ولا أعلم هل رأيتم مسجد القائم أم لا، حيث يوجد في أطرافه سقفٌ مخصّص للنساء، في حين أنّ الفضاء السفليّ مخصّص للرجال. وهل تعلمون ما الذي قام به أولئك الأشخاص عديمو الإنصاف في يوم عاشوراء؟ لقد عمدوا إلى منح الطعام الذي طبخوه إلى أفراد هيئتهم وموكب عزائهم، من دون أن يُقدّموا ولو صحنًا واحدًا للنساء والأطفال والبنات الصغار الذين كانوا ينظرون إليهم في الأسفل وهم يأكلون؛ وحينما انتهوا من تناول الطعام، حملوا بقيّة الأكل إلى أفراد هيئة أخرى كانوا قد اتّفقوا معهم، بمقتضى تلك العادات والتقاليد والحسابات الخاصّة وأمثال ذلك؛ فقدّموا إليهم بقيّة الطعام، مع أنّ المتواجدين في الأعلى كان عددُهم يبلغ ضعف ذلك!

التدبير وأداء التكليف

19
  • حينما سمع والدنا بهذا الخبر، أُصيب بالحمّى لمدّة عشرة أيّام؛ فهذه هي القضايا التي كانت تُواجهنا، وتُواجه والدنا؛ فحينما أتوا عنده، وقالوا له: «يا سيّدي، لقد حصل اليوم الأمر الكذائيّ»، فإنّه بقي محمومًا طيلة عشرة أيّام، وترك المسجد، إلى أن جاؤوا عنده في نهاية المطاف. أ فهل هذه هي مراسم عزاء الإمام الحسين؟ فهذه مراسم عزاء يزيد، لا الإمام الحسين! وهي تختصّ بالشمر ويزيد وعمر! وفي ذلك الحين، سألته: «بالنظر إلى هذا الأسلوب وهذه الدقّة وهذه المراقبة التي تعتمدها، هل كان وجودك في طهران برضاك ورغبتك؟»؛ فقال لي: «يا فلان، طيلة هذه الإثنتي وعشرين سنة التي قضيتها بطهران، لم يكن تواجدي هناك باختياري، ولو لساعة واحدة».

  • فهذا هو العلاّمة الطهراني الذي يفدي الجميع أرواحهم لأجله، ويتقاطرون لزيارة طهران من جميع المدن! بينما كان هناك أفراد آخرون، ومسائل أخرى، وأحداث أخرى، وكنّا نُشاهد جميع ذلك؛ وقد قال لي عدّة مرّات: طيلة إقامتي في طهران، كنت أصرّ على أستاذي لكي يأذن لي، ويُقيلني، لأنّني لا أرغب في هذا العمل، ولكي أرجع إلى النجف الذي كنت فيه، فكان يقول لي دائمًا: ابق، ابق، ابق، ابق، ففي بقائك مصلحة؛ وهذه هي عبارته. وذات يوم، قال لي أستاذي: یا سيّد محمّد حسين، هل ترغب في أن يتحقّق ذلك الوعد الإلهيّ في الدنيا، أم لا؟ فإذا كنت ترغب في ذلك، ابق في طهران، واصبر.

  • فما هو هذا الوعد الإلهيّ؟ إنّه ظهور الإمام بطبيعة الحال؛ فهل تُريده أن يتحقّق أم لا؟ فبقي، ثمّ قال: طيلة المدّة التي قضيتها في طهران، كنت أنوي إمّا الرجوع إلى النجف، أو الذهاب إلى مشهد؛ فإمّا أن أذهب عند عليّ هذا، أو عليّ ذاك؛ والله وهبني عليًّا هذا [الرضا]، وأنا أحمده تعالى وأشكره على أنّني ذهبت إلى هناك؛ فقد حطّ رحاله عند العتبة المقدّسة للإمام الرضا، كما أنّه وقع موردًا لعنايته ولطفه عليه السلام.

  • ضرورة أداء الإنسان تكليفه بأحسن وجه من دون تعلّق قلبه به أو انتظاره لنتائجه

  • وهنا، يأتي الكلام عن الجمع بين هاتين المسألتين والقضيّتين؛ فكيف يُمكن للإنسان أن يتعامل مع الأمور بكلّ هذا الثبات والإتقان، بحيث يكون له اهتمام حتّى بالصحن الذي يُستخدم في ضيافة الناس؛ وفي الوقت ذاته، لا تكون له رغبة في البقاء في ذلك المسجد ولو لثانية واحدة؟ هذا هو معنى كلام الإمام الصادق؛ أي أنّه على الإنسان في مقام العبوديّة أن يُؤدّي مهمّته على أحسن وجه؛ فأنت الآن مكلّف بإدارة هذ المسجد، وقد أُوكلت إليك إدارةُ هذا المكان الإيماني والاعتقادي، وفُوّض إليك التصرّف في هذا المحلّ العباديّ، فصارت واجبةً عليك إدارتُه، ولا يجوز لك أن تقول: «أنا لا أريد التواجد هنا»، ولا ينبغي عليك القول: «لا رغبة لي الآن في هذا الأمر»؛ لأنّ ذلك سيُؤثّر في أسلوب عمل الإنسان، ويُضعف نتيجته كثيرًا، ويحطّ من مردوده بشكل كبير؛ أ فلا يوجد اختلاف بين الذي يُؤدّي عملاً عن عشق ومحبّة، وبين الذي يقوم به عن غير محبّة، بل وعن كراهيّة؟ لقد كان [المرحوم العلاّمة] يُؤدّي التكليف المرتبط بالمقام الذي كان يحتلّه، بحيث كان الجميع يقول: «إنّه يعشق هذا المسجد، وهذا المقام»؛ إلى درجة أنّه حينما رحل من هناك، سمعت كبار علماء طهران يقولون: «مع تلك المكانة التي كان يحتلّها في المسجد، وبالنظر إلى أولئك المريدين، كيف تخلّى عنه، وهاجر إلى مشهد؟»؛ أي أنّه لم يكن مقبولاً أن يكون لأحدهم مثل ذلك المسجد، ومثل تلك المكانة، ثمّ يقول فجأة: في أمان الله تعالى، لقد رحلت!

التدبير وأداء التكليف

20
  • لقد سمعته يقول: «أريد أن أذهب إلى مشهد»، لكنّني رأيت أنّ الحقائب التي يجمعها لا تتناسب مع سفر يوم أو يومين، بل كان يحمل فيها حتّى الكتب، فقلت له: «يا سيّدي العزيز، كم سيستغرق سفرك؟»، فقال لي: «سوف أبقى هناك إن شاء الله تعالى مدّة أربعين يومًا، إلى أن أرى ما الذي سيحصل بعد ذلك»، ثمّ التفتُّ بعد ذلك إلى أنّ أستاذه قال له في سفره إلى سوريا ـ وهو آخر سفر التقى فيه بالسيّد الحدّاد ـ، وذلك في حرم السيّدة زينب عليها السلام: «يا سيّد محمد حسين، عليك الرحيل إلى مشهد، فلم يعُد لك مكان بطهران».

  • أي أنّنا التفتنا إلى ذلك بعد مرور فترة من الزمان، حيث كان يقول لنا: «أريد أن أذهب إلى هناك لمدّة أربعين يومًا، ثمّ أرى بعد ذلك ما الذي يقدّره الله تعالى لي»؛ فهذا هو الذي يُقال عنه: عمل برواية الإمام الصادق؛ ففي عين تدبيره لكافّة الأمور، كان لا يُدبّر من نفسه أيّ شيء لما سيقع في المسقبل، ولم يكن يقل: «فلأرسّخ مكانتي للمستقبل»، لا! فإذا كانت العبوديّة تقتضي أن يكون اليوم في هذا المكان، فهو يُرحبّ بذلك، وإن كانت تقتضي أن يذهب في الغد إلى مشهد، فإنّه يُرحّب بذلك أيضًا، وحتّى إذا اقتضت العبوديّة أن يرحل بعد غد إلى مكان آخر، فإنّه يُرحّب بذلك؛ وانتهى الأمر! فهو يُؤدّي تكليفه في كلّ مكان بأحسن وجه، لكن من دون أن يتعلّق قلبه بهذا المكان؛ وهذا هو معنى كلام الإمام.

  • كيف كان الشيخ محمّد جواد الأنصاري؟ لقد كان أستاذًا للمرحوم الوالد، وكان يذهب إلى كلّ مسجد يراه مهدّمًا في همدان، ويسعى لتنظيم شؤونه بمساعدة أحبّائه؛ فكان يذهب للمساجد التي تعلوها عدّة سنتمرات من التراب، ويعمد إلى تنظيم شؤونها، ويسعى لإصلاح بنائها إذا كانت تستدعي ذلك، ويُقيم فيها صلاة الجماعة؛ وحينما يعثر على أحد يُمكنه القيام بهذه المهمّة، فقد كان يوكلها إليه، ويذهب إلى محلّ آخر؛ ثمّ يبحث عن مسجد آخر في مكان معزول من همدان يكون مهدّمًا، ومتخلّى عنه، ويحتاج إلى إصلاح، فيُقيم صلاة الجماعة فيه، إلى أن يعثر على أحد يراه مؤهّلاً لإدارة هذا المسجد؛ وحينما يجتمع الناس حول هذا الشخص، فإنّه يقول له: أيّها السيّد، إنّ هذا المسجد صار بعهدتك، الوداع!

التدبير وأداء التكليف

21
  • فهذا المنهج هو منهج عظمائنا؛ وأمّا إذا سعينا بدلاً عن ذلك إلى الإصرار على تدبير الأمور لمستقبلنا، وسنتنا القادمة، وللعشر سنوات الآتية، فما هي فائدة ذلك؟ لقد شاهدتم بأمّ أعينكم ما الذي حدث؟ وانتبهتم إلى ذلك، والتفتّم هذه الأيّام إلى كيفيّة حصول الأمور؛ أ فهل كان أحد يظنّ أنّهم سيرحلون؟! فنحن لم نكن نظنّ أبدًا أنّه سيأتي يوم، ويرحل هؤلاء الحكّام الظالمون الذين سيطروا على أماكننا الدينيّة والمذهبيّة؛ فكم كانت لهم من الإمكانات! وكم هي التدبيرات التي قاموا بها! وكم سعوا إلى ترسيخ أقدامهم في تلك الأماكن، بحيث لم يكن يُتصّور أبدًا [أنّهم سيتركوها]! وفجأة، جاءت يد القدرة الإلهيّة، وطوت صفحتهم بطريقة جعلتهم يبقون مدهوشين؛ فما الذي حصل؟ ولا يخفى أنّ هذا الأمر ينطبق على كافّة الظلمة؛ إذ لا يبقى الظلم الذي ارتكبه الظالم من دون حساب في هذه الدنيا؛ وفي ذلك عبرة لنا جميعًا.. «الملكُ يَبقَى مع الكفرِ ولا يبقى مع الظّلم»۱؛ فالملك يبقى مع الكفر الذي يحترم العدالة الظاهريّة العادية، ولا يبقى مع الظلم.

  • ذات يوم، مرّ أمير المؤمنين عليه السلام بالمدائن، حيث يوجد إيوان كسرى؛ وندعو الله تعالى أن يقسم لنا الذهاب إلى هناك، فنزور أيضًا قبر سلمان الفارسيّ الموجود إلى جانب ذلك الإيوان؛ فالمرحوم العلاّمة له حكايات عن زيارة قبر سلمان؛ كما أنّه من المستحبّ أن يُصلّي الإنسان في إيوان المدائن ركعتين بعنوان صلاة العِبر، لا أنّها مكان مقدّس، لا! إذ يوجد هناك قصر الملوك والسلاطين الساسانيّين وأمثالهم؛ لكن، فلينظر الإنسان إلى ذلك القصر والإيوان، وما الذي كان هناك؛ ثمّ قرأ الإمام عليه السلام هذه الآيات: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وعُيُونٍ‌ * وزُرُوعٍ ومَقامٍ كَرِيمٍ‌ * ونَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ}٢؛ فكم هم الأفراد الذين جاؤوا، وكانوا مغمورين بالنعم ـ فهذا ما تقوله الآيات القرآنيّة ـ، وكانت لديهم مزارع وحقول، وكان يمتلكون مقامًا كريمًا ومنزلة رفيعة؛ أ فهل قرأتم تاريخ الساسانيّين أم لا؟ وبحقّ، ما الذي قام به أولئك الملوك الساسانيّون؟ وما الذي فعله "خسرو برويز" في قصر كسرى؟ لقد أسكن في قصوره الآلاف من الناس الذين أتى بهم من هنا وهناك؛ {وَمَقامٍ كَرِيمٍ‌ * ونَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ} فقد كان هؤلاء بهذا النحو، ومن المستحبّ للإنسان أن يذهب إلى هناك، ويُصلّي ركعتين. وفي نفس سامرّاء، قام الخليفة العبّاسي المتوكّل بإحاطة جميع أنحائها بالعساكر الذين كان معظمهم من الأتراك القادمين من نواحي آذربايجان، وبعضهم من تركيا، خوفًا من أن يلحقه ضرر من قِبل العرب؛ ولهذا، حرص أن يكون هؤلاء الجند من الغرباء، لكي يتمكّن بواسطة هذه المواجهة العرقيّة من الحفاظ على نفسه؛ وقد جاء بالإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام، وحبسهما هناك، حيث منحهما منزلاً متواضعًا جدًّا، حتّى يبقيا هناك، وكانا في السجن مدّة من الزمان.

    1. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج ۱۰، ص ٣۰٤.
    2. سورة الدخان، الآيات ٢٥ ـ ٢۷.

التدبير وأداء التكليف

22
  • تذكّرت الآن قصّة نقلها المقريزيّ في كتابه على ما يبدو‌۱؛ ففي أحد الأيّام، كان المتوكّل جالسًا مع أصحابه، فدار الكلام بينهم حول الأسلحة والوسائل الحربيّة السائدة في ذلك العصر، فقال واحد منهم: «سمعت أنّ أحدهم في بلاد الهند صنع سيفًا يستطيع بواسطته قسم الحجر إلى شطرين، وفِعلَ كذا للخشب، وكذا للحديد؛ وهو سيف لا نظير له»؛ فشُغف المتوكّل كثيرًا بهذا السيف؛ ممّا دفعه لإرسال مجموعة إلى الهند من أجل العثور على ذلك الرجل، لكي يحصلوا على السيف في مقابل مبالغ طائلة، وقالوا له: «نعطيك كلّ ما تريد، فهل ترغب في أكثر من ذلك؟»، فتمكّن من جني ثروة كبيرة جدًّا، حيث قالوا له: «إنّ خليفة المسلمين يُريده»، فأخذوا السيف، وجاؤوا به. وقد تعجّب الجميع واحتاروا من حدّة ذلك السيف، وجودته، وطريقة صُنعه، وكيفيّة عمله؛ ثمّ لم يعرفوا ماذا يفعلون به: هل يعطونه للخليفة؟ أم لابنه؟ وفي الأخير، استقرّ رأيهم على أن يمنحونه للحارس الشخصيّ للخليفة الذي يقف دائمًا عند رأسه، فيُمسك السيف بيده، ويهوي به على رأس كلّ من يسعى للاعتداء على الخليفة وجسده المبارك؛ لكنّ هذا السيف لم يهوِ إلاّ على رأس المتوكّل بعينه! وذلك في قصّة طويلة ثار فيها ابنه عليه؛ فهذا هو مآل التدبير الذي قام به هؤلاء، وقولِهم: «علينا ترسيخ مكانتنا تحفّظًا عمّا سيقع في المستقبل»؛ لا يا عزيزي! لا قيمة لهذه المسائل، فعلينا أن نهتمّ بيومنا، ونرى ما هو التكليف الملقى على عاتقنا اليوم، ونسعى لتأديته.

  • ومن هنا، حينما يقول الإمام عليه السلام: «لا يُدبّر العبدُ لِنفسه تدبيرًا»، فإنّ ذلك يعني أنّه على الإنسان ألاّ يشغل فكره بأمور المستقبل، وبنتيجة الأعمال التي يُريد القيام بها، بل عليه السعي في كلّ آن لأداء وظيفته التي حدّدها، سواءً توصّل إلى نتيجة أم لا؛ لأنّ ذلك خارج بأجمعه عن مقام العبوديّة.

  • ندعو العليّ القدير أن يُثّبتنا إن شاء تعالى على طريق أوليائه، وعلى مقام العبوديّة، ويُوفّقنا لفهم تلك المعارف الإلهيّة التي تُمكّننا من بلوغ فعليّاتنا، ويجعل ولاية أوليائه مراقبةً ومشرفةً دائمًا على كافّة أفعالنا وتصرّفاتنا وأقوالنا وأفكارنا.

    1. أبوالعبّاس تقيّ الدين أحمد بن عليّ المقريزيّ (۷٦٦ - ۸٤٥ ق) من أشهر المؤرّخين في القرنين الثامن والتاسع للهجرة.

التدبير وأداء التكليف

23
  • اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.