المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير والأسرة
التوضيح
هو العليم
طاعة المرأة لزوجها بين القوانين الحقوقيّة والقوانين الأخلاقيّة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۸۱
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين
عرضنا سابقًا ومن باب المقدّمة بعض المسائل عن التكاليف العائليّة والأسريّة، ونحوِ العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة اعتمادًا على التعاليم الإسلاميّة؛ أجل، يبقى أنّ ما ذكرناه عن وظيفة الرجل تجاه محيطه العائليّ كان مبتنيًا على التعاليم القطعيّة والإلزاميّة، وأمّا بالنسبة للتعاليم الأخرى الواقعة في دائرة أوسع، فإنّنا سنستعرض لاحقًا إن شاء الله تعالى بعض الأبحاث بشأنها.
انقسام القوانين الإسلاميّة إلى حقوقيّة وأخلاقيّة
ففيما يخصّ المسائل المطروحة في هذا العصر، عليّ بداية الإشارةُ إلى أنّ القوانين والتعاليم الإسلاميّة التي جرى اعتبارها في هذا المجال ذات بُعدين، شأنها في ذلك شأن بقيّة القوانين الاجتماعيّة:
البُعد الأوّل: إلزاميّ وحقوقيّ، ويُراد من الحقوق هنا تلك الحقوق التي يتوفّر عليها كلّ واحد من الطرفين تجاه الآخر، ويكون لها تأثير مصيريّ وإلزاميّ على تلك الجهة والناحية التي اتّفق بشأنها الطرفان؛ فمن باب المثال، من بين الأمور التي تلزم من الزواج وعقد النكاح جوازُ نظر المرأة للرجل، والرجل للمرأة؛ وأيضًا من الأمور اللازمة عن مسألة البيع والشراء جواز التصرّف في المال المـُباع أو المشترى، حيث يُقال لهذه الأمور أحكامًا قطعيّة وإلزاميّة، ويكون لها طابعًا حقوقيًّا، بحيث إنّ ارتفاعها سيُؤدّي بطبيعة الحال إلى بطلان تلك المسألة؛ بمعنى أنّه إذا تعاقد الطرفان، وشرطا في ضمن العقد ألاّ يرى أحدُهما الآخر، فإنّ هذا العقد سيكون باطلاً منذ البداية؛ وأيضًا، إذا باع أحدهما ملاً لآخر، وشرط عليه ألاّ يكون له حقّ التصرّف فيه، فإنّ هذه المعاملة ستكون باطلة منذ البداية؛ فهذه هي التي يُطلق عليها اسم الأحكام الحقوقيّة التي لها طابع إلزاميّ، حيث نلحظ وجود مثل هذه المسائل حتّى في العلاقات الاجتماعيّة.
البُعد الثاني: يشمل الأحكام التي لا تتوفّر من ناحية حقوقيّة على طابع إلزاميّ؛ أي أنّ الشارع المقدّس لم يضع حكمًا إلزاميًّا أو جزائيًّا في مجال هذه الأحكام، غير أنّه يُشجّع الطرفين على الالتزام بها؛ وهذا نظير الحقوق التي للجار على جاره؛ فإذا كان هناك إنسان ثريّ يُجاور فقيرًا، ولم يُقدّم له أيّة مساعدة، فإنّ هذا الإنسان ـ وفقًا للرؤية الإسلاميّة ـ لن يُواجه أيّة عقوبة، إلاّ أنّ عمله سيكون محطًّا لغضب الله تعالى، وسيُواجه هذا الإنسان مشاكل في العالم الآخر؛ فهذه هي التي يٌقال لها أحكامًا أخلاقيّة إلزاميّة؛ أي أنّها لا تتوفّر على طابع جزائيّ؛ فلا يُمكن [مثلاً] للمحكمة أن تُدين الإنسان، وتقول له: «لماذا لم تُساعد جارك؟ لماذا لم تُعن رفيقك؟ لماذا لم تستجب له حينما طلب منك الشيء الكذائيّ؟»، بينما نرى أنّ مراعاة هذه المسألة على درجة من الأهمّية، بحيث إنّ الرسول الأكرم قال: «إن نام المسلم، وكان يُجاوره مسلم جائع، فإنّه لم يمُت على ديني»۱؛ فإلى هذا المستوى من الأهمّية تصل هذه المسألة.
كان الإمام الصادق عليه السلام منهمكًا برفقة أحد الشيعة في الطواف، فنادى أحدُهم مُرافقَ الإمام عليه السلام لكي يقضي له حاجته، فلم يلتفت إليه ذلك المـُرافق، فقال له عليه السلام: لماذا لم تلتفت إليه؟ قال: نحن يا سيّدي منهمكون في الطواف، وهذا له حاجة، فعليه أن ينتظر إلى أن نُنهي الطواف، فقال له عليه السلام: اذهب، واقض حاجته، وارجع؛ وحينئذ، إن قطعت طوافك قبل نصف أشواطه، أعده مرّة أخرى، وثوابك محفوظ؛ وإن قطعته بعد النصف، يُمكنك إكماله [بعد الرجوع]، حيث لا تقتصر هذه الرواية على الطواف المستحبّ، بل تشمل أيضًا حتّى الطوف الواجب؛ ممّا يعني أنّ قضاء حاجة المؤمن لازم عند الله تعالى إلى حدّ أنّنا نجد الإمام عليه السلام يأمر بترك الطواف الواجب، وإعادته ثانية، في سبيل مساعدة مؤمن آخر.
سراية التقسيم السابق إلى دائرة العلاقة الزوجيّة
ففي العلاقات الحياتيّة والعائليّة القائمة بين المرأة والرجل، توجد مجموعة من الأحكام التي تحظى مراعاتُها من قبل الطرفين بأهمّية بالغة على مستوى أصل مسألة الزواج وأساسها، إلى درجة أنّه بالإمكان رفع دعوى في المحكمة إن وقع انتهاك لها، بحيث تُلزم المحكمة، ويُلزم القاضي الطرفين باحترامها. ومن باب المثال، فإنّ من بين الحقوق التي تمتلكها المرأة تجاه الرجل: النفقة؛ إذ على الرجل أن يدفع النفقة لزوجته، سواءً في مجال المسكن، أو الملبس، أو الطعام، أو الصحّة؛ مع أنّ البعض شكّكوا في شمول النفقة للصحّة، غير أنّ القول الراجح هو أنّ صحّة المرأة تقع على عهدة الرجل أيضًا إن كان متمكّنًا من ذلك.
ففي هذه الحالة، إن امتنع رجل عن أداء النفقة إلى زوجته، فإنّ هذه الزوجة بوسعها أن تدّعي هذا الأمر، وتنتزع حقوقها؛ وإذا لم يعترف الرجل بذلك، فإنّ المحكمة تُلزمه به؛ بل حتّى لو مات، فإنّ تلك النفقة تبقى في عنقه كدين، ويكون بمقدور المرأة استخلاصها من ممتلكات المتوفّي باعتبارها دين؛ وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة لبقيّة الحقوق التي ترتبط بأصل الحياة الزوجيّة، حيث يُمكن للمرأة المطالبة بحقّ استيفائها، كما أنّ مسألة أداء المهر هي بهذا النحو.
ومن جهة أخرى، فإنّ هناك سلسلة من الحقوق التي تكون المرأة مُلزمة بمراعاتها، حيث تطرّقنا سابقًا لذكرها؛ ففي مجال العلاقة بين الطرفين، وفي مسألة طاعتها لزوجتها في عدم الخروج من البيت، وعدم إحضار أحد إليه، وكذلك بالنسبة إلى مراعاة شؤون الحياة الثنائيّة في نطاق الحدود التي عيّنها الإسلام، فإنّ هذه من جملة المسائل التي يلزم على الطرفين مراعاتها، بحيث إنّ عدم الالتزام بذلك يُوجّه لطمة كبيرة لأساس الحياة [الزوجيّة].
لكن، من جهة أخرى، فإنّه لدينا في الإسلام قوانين تحظى مراعاتُها بأهمّية بالغة على مستوى استمرار الحياة [الزوجيّة]، غير أنّها لا تستتبع حين انتهاكها أحكامًا جزائيّة وحقوقيّة؛ وعلى سبيل المثال، فإنّ التسبّب في إغضاب الطرف الآخر، أو تعامل الطرفين بأخلاق سيّئة داخل المنزل، أو ممارسة التضييقات من قبل أحدهما تجاه الآخر في علاقتهما ببعضهما لا تستوجب العقاب من ناحية جزائيّة، غير أنّها لا تتسبّب أيضًا ـ من ناحية بقاء الحياة [الزوجيّة] واستمراريّتها وفقًا للحياة الإسلاميّة التي توصل الطرفين إلى السعادة ـ في ركود وجمود وتوقّف سيرهما في طريق الكمال؛ وذلك لوجود اختلاف في أنواع الحياة الزوجيّة؛ فبعضها يُساهم في كمال الإنسان وحركته، إذ يكون بوسعه في ظلّ هذا الهدوء والاطمئنان والسكينة الوصولُ إلى الدرجات الكماليّة التي تُمثّل الهدف من الحياة وتشريع الشارع؛ بينما نجد البعض الآخر منها على خلاف ذلك، بحيث نجد الطرفين دائمًا في حالة خلاف ونزاع وتشويش واضطراب، وأفكارهما عرضة للتغيّر والتبدّل على الدوام؛ وبالتالي، فإنّهما سيفتقران إلى هدوء الفكر وخلوّ النفس من القلق والخلافات العائليّة، لكي يتسنّى لهما الانهماك في المسائل الأساسيّة والمهمّة.
علينا أن نعلم بأنّ هناك مسألتين تحظيان بالأهمّية في الإسلام على مستوى التئام الحياة الزوجيّة، وبناء مؤسّسة الزواج: المسألة الأولى استمراريّة هذه الحياة، بحيث تحول هذه الاستمراريّة دون انفساخ وانهيار كيان الأسرة؛ والمسألة الثانية التي يهتمّ بها الإسلام تهيئة الأجواء والظروف المساعدة على كمال الطرفين ورقيّهما؛ وهي المسألة التي تحوز على اهتمامنا هنا.
وعليه، بوسعنا تقسيم هذه المسألة باعتبار مستوى العلاقة بين الزوجين والمحيط العائليّ إلى ثلاثة مستويات:
المستوى الأوّل: يتضمّن الأحكام الإلزاميّة التي يكون تحقّقها إلزاميًّا، ويوجبها الشارع على الطرفين، بحيث يستتبع انتهاكُها العقاب والحرمة والعذاب؛ وهكذا أيضًا من ناحية العواقب والتبعات الجزائيّة والحقوقيّة، فإنّها تستلزم متابعة أحد الطرفين ومطالبته بها.
المستوى الثاني: ويشتمل على الأحكام التي تلزم على الطرفين مراعاتُها، لأجل استمراريّة الحياة [الزوجيّة] بنحو متعارف، وبحيث يسود هذه الحياة في أصلها وأساسها هدوء نسبيّ؛ نظير عدم تعامل الرجل والمرأة بأخلاق سيّئة في محيط الأسرة؛ وهي مسألة مهمّة؛ وكذلك عدم إبدائهما توقّعات غير معقولة داخل البيت، وهو أمر مهمّ؛ وكذلك عدم قيام المرأة بما لا يحوز على رضا الزوج من دون إذنه؛ وهذه مسألة مهمّة أيضًا؛ فنجد أنّ هذه المسائل مطروحة في ضمن النطاق الذي يُتيح للطرفين الاستمرار في عيش حياة طبيعيّة من خلال تحقيق التوقّعات المشتركة.
وهنا، علينا أن نرى ما هي القوانين والأحكام التي ينبغي على المرأة أن تُراعيها تجاه زوجها في الإسلام، حيث أشرنا سابقًا إلى أنّ هذه المسائل سنضعها في قسمين ومستويين.
فالمسألة الأولى: تتضمّن الأمور التي ينبغي على المرأة مراعاتها تجاه الرجل فيما يرتبط بحقّ الزوجيّة؛ وبناؤنا في هذه المسألة ـ كما ذكرنا في الجلسات السابقة ـ هو الاستفادة من روايات الأئمّة عليهم السلام وسيرتهم الصريحة، والاستضاءة بالنصوص الواردة عن ولاة الأمر عليهم السلام، من دون الالتفات إلى أيّ كلام أو قول آخر، ومن غير أخذ الاعتبار لأيّ رأي أو ذوق أو ميل آخر، سواءً الصادر من الذين صنّفوا كتبًا في هذا المجال، أو من الذين أبدوا رأيهم في هذا الصدد عن غير وعي وقصد.
فمرادنا أن نرى ما الذي طُرح في الإسلام بخصوص هذه المسألة على لسان رسول الله والإمام المعصوم، ولا علاقة لنا بأيّ أمر آخر؛ وقد سعينا لإثارة هذه المسألة مرارًا وتكرارًا؛ وحينئذ، لا يهمّنا هل أعجبَ ذلك أحدًا، أم لم يُعجبه؛ لأنّ هذا الأمر خارج عن تكليفنا؛ فأنا وأمثالي لن نكون أولياء وأوصياء على الناس ودينهم؛ لأنّ وليّ الناس والوصيّ الوحيد على شؤونهم هو صاحب مقام الولاية الكبرى.. حضرة بقيّة الله أرواحُنا لتُراب مقدمه الفداء وحسب؛ والواجب علينا فقط أن نعلم بمقدار قابليّتنا وسعتنا الوجوديّة، وكم بوسعنا الاقتراب من آراء هذا العظيم، والاستفادة من أفكاره ومعتقداته، من دون الالتفات إلى المسائل الشخصيّة والمصالح الصادّة عن طريق الوصول إليه عليه السلام.
ومن هنا، سنعمل على بحث المسألة من منظور الروايات والتاريخ فقط، ونسعى للانتهاء منها إن شاء الله تعالى في ضمن جلسة واحدة أو جلستين؛ لأنّ الحديث طال عنها قليلاً، لكي نصل إلى بقيّة الفقرات والمسائل التي تتلوها.
اندراج طاعة المرأة لزوجها في ضمن طاعة الله تعالى
ونستنتج ممّا جاء في هذا المجال على لسان الروايات الواردة سواءً عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو عن الأئمّة عليهم السلام أنّ مسألة طاعة المرأة لزوجها تندرج في ضمن طاعتها لله تعالى، حيث يقول الله تعالى لرسوله في هذه الآية: {قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ}۱؛ أي: إنّني أريد منكم شيئًا واحدًا، وأضع على عاتقكم أمرًا واحدًا، وأكلّفكم بمسألة واحدة؛ وهي أن تقوموا في كلّ عمل من أعمالكم لله تعالى؛ {إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ}.. بشيء واحد فقط في جميع شؤونكم؛ وهذه مسألة مهمّة جدًّا؛ أي أنّها تُشكّل الأصل والأساس والمحور الذي تدور حوله كافّة التكاليف التي وضعها الله على عاتق الطرفين؛ فهو تعالى يريد منّا شيئًا واحدًا؛ وهو أن يكون كلّ عمل نُؤدّيه لأجله سبحانه، وأن يكون هذا العمل مندرجًا في ضمن أداء التكليف تجاهه تعالى.
فهذه المسألة تُشكّل مرتكزًا لجميع كلامنا بخصوص هذا الموضوع؛ {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ}: أي أنّ العمل يجب أن يكون لله تعالى، ويكون توحيديًّا؛ ففي علاقة الرجل بالمرأة، لا ينبغي عليه الاعتقاد أنّه بوسعه القيام بكلّ ما يحلو له لمجرّد كونه رجلاً؛ وإلاّ، لن يكون عمله لله تعالى، ولا توحيديًّا؛ وتجربة هذا الأمر تقع على عاتقنا. فهل لأنّ المرأة تقع تحت سلطتنا، فإنّنا أحرار في أن نُطالبها بتحقيق كلّ توقّعاتنا كيفما كانت، وأداء كلّ نوع من أنواع التكاليف؟! فلو أنّها لم تكن تحت سلطتنا، هل كنّا سنتعامل معها بنفس النحو؟! ولو أنّنا كنّا نحن المحتاجين إليها، هل كان الأمر سيكون بالشكل ذاته؟! إنّ هذا من الأمور التي على الإنسان أن يختبر فيها نفسه بشكل دائم.
فالمرأة ملزمة بطاعة زوجها في تلك الموارد التي سنذكرها لاحقًا، غير أنّ المسألة التي ينبغي الإشارة إليها هنا هي: على المرأة أن تُؤمن أثناء أدائها لهذه التكاليف بأنّ خضوعها لطاعة الزوج في جميع النواحي راجعٌ لأمر الله تعالى بتأسيس الحياة الزوجيّة، ولإقدامها على هذا العمل من باب كونه مقدّمة لبلوغ سعادة الدنيا والآخرة؛ لا أن تعتقد بأنّها مجبرة على طاعة ذلك الزوج؛ ليختلف أسلوب طاعتها حينئذ إن كانت مستغنية عنه؛ فلو كانت هناك امرأة يحتاج ويفتقر إليها زوجُها من ناحية اقتصاديّة، وكذلك باعتبار بقيّة الخصائص الأخلاقيّة، فكيف يجب على هذه المرأة أن تُفكّر؟ عليها أن تجعل تفكيرها متّكئًا على مسألة التوحيد؛ أي: بما أنّ الله تعالى أمرني بأن أطيعه، فإنّني سأطيعه، وأخضع لأوامره وتوقّعاته؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النوع من النساء لسنَ قلّة! فإذا استطاعت هكذا امرأة أن تُحقّق هذه المسألة في ذاتها، فإنّها ستصل إلى ذلك الهدف المنشود من الزواج؛ أي أنّ الزواج سيصير في هذه الحالة قنطرة بالنسبة إليها، وستتسنّى لها الاستفادةُ من هذه القنطرة للعبور عن النفس وأهوائها، وبلوغ المراد.
{إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ}؛ أي: إنّني أنصحكم بشيء واحد.. {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ}؛ أي أن تعملوا لأجل الله، وأن تكون كافّة أفعالكم له تعالى؛ فإذا تبيّنت هذه المسألة، فإنّ العديد من الإشكالات سترتفع؛ وإن لم تتبيّن، سيكون علينا التوقّف في كلّ خطوة، واللجوء إلى التبرير تلو التبرير، والتأويل تلو التأويل، وتغيير كلام المعصوم في كلّ حين؛ فمع أنّ المعصوم بوسعه الحديث كبقيّة أفراد الإنسان، إلاّ أنّنا ندّعي أنّه غير قادر على بيان رأيه الشخصيّ؛ ولهذا، علينا نحن القيام بذلك؛ وأنّه لا يستطيع الإفصاح عن رأيه الخاصّ؛ وبالتالي، فإنّنا موكّلون من قبله، وقادرون على فهم كلامه بنحوٍ أفضل منه، وعلينا تفسيره للناس! فالأمر هو بهذا النحو!
لكن، لو أتينا، ووضعنا كلام المعصوم عليه السلام على هذا الأساس؛ أي مسألة {إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ}... يقول الله تعالى: أنا أدعوكم إلى أمر واحد، وأريد منكم شيئًا واحدًا: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ}؛ فيا أيّها الرجل، لا يجوز لك التجبّر في محيط العائلة، وإلاّ ستكون قد ارتكبت معصية من دون أدنى شكّ؛ وإذا أمرتَ المرأة بشيء خارج طاقتها، فستكون عاصيًا، وملعونًا على لسان رسول الله؛ وإذا طلبت منها أداءَ عمل يتجاوز استعدادها الدينيّ أو الذوقيّ أو الفكريّ، بحيث لا تكون قادرةً بتفكيرها على تفسير هذا العمل، ويُؤدّي ذلك إلى التأثير على دينها، وحصول تزلزل في أفكارها ومعتقداتها الدينيّة، فإنّك ستكون ملعونًا على لسان رسول الله!
ومن ناحية أخرى، إذا لم تخضع المرأة إلى الطاعة التي أمرها بها رسولها وإمامها، فإنّها ستكون ملعونة من قبل الله تعالى وملائكته، حيث لدينا في العديد من الروايات أنّه: إذا خرجت المرأة من البيت بدون إذن زوجها، فإنّ الله تعالى وملائكته يلعنونها إلى أن ترجع.
هذا، وقد سمعت مؤخّرًا أنّ بعض الجهّال وعديمي الفهم جاؤوا، وقالوا: يجب على المرأة أن تُعلِم زوجها بمكان ذهابها فقط، وأمّا بالنسبة لأخذ الإذن منه، فهي غير مكلّفة به؛ يا للعجب! فإذن، يُمكنها الذهاب إلى أيّ مكان تُريده، وتضع قدميها في كلّ بيت يُعجبها، ويكفيها أن تُعلم عن ذلك بواسطة ورقة تكتبها، وتُلصقها في الحائط، وتقول فيها: «لقد ذهبت إلى المكان الفلانيّ»! فهل هذا هو حكم الإسلام؟! إنّ هؤلاء لم يشمّوا ريح الإسلام؛ فهذه رواياتنا موجودة في الكتب.. يقول رسول الله: أيّما امرأة خرجت من بيتها بغير رضا زوجها، فإنّها ستكون محطًّا للعنة الله تعالى وملائكته إلى أن تعود إلى المنزل؛ فهل هذا ما قاله الرسول، أو لا؟
فهذه المسائل المطروحة هي من المسائل التي ينبغي التركيز عليها لأجل استمراريّة الحياة [الزوجيّة] طبقًا للمنهج الذي يرتضيه الله تعالى؛ أي: على المرأة ألاّ تعتقد في طاعتها للرجل أنّها تُطيعه هو [لشخصه]، بل عليها أن ترى أنّ طاعتها له بصفته ممثّلاً لله تعالى في هذه الدائرة العائليّة الصغيرة هي طاعة لله تعالى؛ فلو أنّ الله تعالى جاء إلى محيط الأسرة، وأمر المرأة بأن تقوم بالعمل الكذائيّ، هل كانت ستمتثل لأمره أم لا؟ فها هو تعالى الآن قد بعث ممثّلَه، وممثّلُه في هذه الدائرة هو رجل العائلة؛ ولهذا، ينبغي طاعته. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنّما إطاعةُ المرأةِ بعلَها كإطاعتِها للّه تعالى»؛ أي أنّ رسول الله جعل طاعة الرجل إلى جانب طاعة الله تعالى؛ لماذا؟ لأنّ هذا المسار الذي عيّنه الله تعالى للحياة وبلوغ الكمال لا يتحقّق إلاّ بهذا الأسلوب من الطاعة والانقياد؛ ويبقى أنّ هذا الأمر يندرج ـ كما ألمحنا سابقًا ـ في ضمن المستوى الثاني من المسائل الأخلاقيّة والعلاقات الحقوقيّة الأسريّة، ولم نصل بعدُ إلى الآن إلى المستوى الثالث.
تفسيرٌ لحديث «لَو كنتُ آمُرُ أَحدًا أن يسجُدَ لِأحَدٍ، لأَمَرتُ المَرأَةَ أن تَسجُدَ لِزوجِها»
ينقل أنس بن مالك عن رسول الله أنّه دخل صلّى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم إلى أحد بساتين المدينة، وكانت هناك ثلّة من أغنام الأنصار منهمكة في الرعي؛ فجلس في ظلّ شجرة؛ وفي هذه الأثناء، رأى الصحابة أنّ هذه الأغنام أتت، وجثت على رُكبها، ووضعت رؤوسها على هيئة السجود إلى جانب رسول الله، حيث لدينا العديد من الروايات التي تتحدّث عن خضوع الحيوانات بل حتّى النباتات والجمادات وتعظيمها للنبيّ الأكرم، فالتفت أبو بكر ـ الذي كان متواجدًا هناك ـ إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال: يا رسول الله، إنّ الأغنام تسجد لك، في حين أنّنا أحقّ وأولى بذلك منها. والعجيب هنا أنّ هذا الرجل سمع ورأى كلّ هذه المسائل، ثمّ نجده بعد ذلك يُقدم على تلك الأفعال؛ وبحقّ، يا له من موجود عجيب هذا الإنسان! وكم هو عُرضة للأخطار! فتراه يرى المسائل، ويُدركها، لكنّه يأتي مع ذلك، ويُبرّرها، ويغفل عنها، ويتغاضى عمّا رآه؛ وهذا بحقٍّ عجيب جدًّا، وعلينا أن نستجير بالله تعالى؛ فهذا هو السبب في أنّه لدينا في العديد من الروايات الواردة عن الأئمّة عليهم السلام في دعاء القنوت، وبقيّة الأدعية: «اللهمّ اجعل عاقبة أمورنا خيرًا»؛ كما توجد لدينا أيضًا المسألة ذاتها بهذه العبارة في روايات الصحيفة السجّادية، وفي الكثير من الأدعية إمّا عن أمير المؤمنين أو الإمام الصادق أو رسول الله؛ لأنّ الإنسان لا يطمئنّ لما سيحصل في غده، وما بعد غده، وأنّه قد يُنكر الأشياء التي رآها، ويرفض الأمور التي سمعها بأذنه وأدركها بوجوده؛ ولهذا، علينا الاستجارة بالله تعالى.
قال أبو بكر: يا رسول الله، نحن أولى بالسجود لك من هذه الأغنام التي لا تفقه؛ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا يجوز لأحدٍ أن يَسجد لأحدٍ إلّا للّه»۱، يعني أنّه لا يجوز السجود حتّى لي أنا «ولَو كنتُ آمُرُ أَحدًا أن يسجُدَ لِأحَدٍ، لأَمَرتُ المَرأَةَ أن تَسجُدَ لِزوجِها»؛ وقد ذُكرت هذه الرواية بعدّة طرق في كتب معتبرة، من ضمنها: قُرب الإسناد، الكافي، [تنبيه الخواطر] لأبي فراس، دعائم الإسلام، حيث نُقلت هذه الروايات بطرق مختلفة وأنحاء متعدّدة في موارد شتّى عن رسول الله؛ فماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ درجة طاعة المرأة للرجل ينبغي أن تبلغ مستوى ذلك التواضع الذي يجب أن يكون لديها في مقام العبوديّة تجاه الله تعالى؛ فهذا كلام رسول الله، وليس كلامنا نحن! والله تعالى أعلم منّا أنا وأنتم بخلقه، وهو يعلم بنحو أفضل أيّ قانون يُشرّعه لهذا الخلق، وهو أدرى بالمسائل التي يذكرها هنا، وبالأعمال التي يُعيّنها للطرفين، بحيث تُمكّنهما هذه الأعمال من بلوغ الصراط المنشود، وتحقيق سعادة الدنيا والآخرة.
معنى دقيق ولطيف لمسألة غضّ المرأة الطرف عن حقّها إرضاءً لزوجها
يقول الإمام الصادق عليه السلام: قال رسول الله: أيّما امرأة ـ ونلاحظ هنا أنّ هذه المسألة تحظى بكلّ هذه المقدار من الأهمّية والتأكيد ـ قضت ليلتها إلى الصباح، وزوجها ساخط عليها، ومنزعج منها، وغاضب عليها، فإنّ الملائكة تلعنها، وإن كان الحقّ معها؛ وهذا عجيب جدًّا! حيث لدينا العديد من الروايات في هذا المجال تبلغ حدّ الاستفاضة؛ أي أنّها ليست رواية واحدة أو روايتان؛ والملفت للنظر هنا أنّ المسألة بهذا النحو، ولو كان الحقّ معها، وأمّا إن لم تكن كذلك، فلا كلام لنا من الأساس؛ أي أنّ الله تعالى يُريد القول هنا: إنّ تحصيل رضا الزوج هو أفضل وأهمّ بالنسبة إليكِ من أخذ حقّ من حقوقكِ؛ فإذا كنت أنا إلهًا [في نظرك]، فهذا هو الذي أريده منك؛ إذ ما هو الحقّ؟ الحقّ عبارة عن الانطباق على الواقع؛ وما هو الواقع؟ هو ما يقوله الله تعالى؛ فليس الحقّ هو أن يُطابق الإنسان رأيه في مسألة ما مع الواقع وعالم الخارج، بل هذه مجرّد درجة واحدة من الحقّ، وأمّا الدرجة الأعلى منه، فأن يكون عمل الإنسان متطابقًا مع رضا الله تعالى.
والآن تحضرني مسألة أرى أنّه من غير المناسب ألاّ أذكرها للرفقاء، حيث نقلت سابقًا قصّة وقعت في زمان المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه تختصّ بعلاقته بذلك المهندس الذي شيّد ذلك المنزل؛ وهي تُعدّ مثالاً على هذه المسألة؛ والمثال الثاني حصل في زمان حياته الذي يرجع إلى العهد السابق، حيث كان أحد رفقائه يشتغل بمهنة توصيل الكهرباء ومدّ الأسلاك الكهربائيّة داخل البنايات، وأتذكّر أنّه كان هناك أحد الأشخاص الذين يُواظبون على الصلاة في المسجد، ولم يكن من رفقائه السلوكيّين، ولكنّه كان من الأصدقاء، ومن أهل المسجد، ورجلاً صالحًا، رحمة الله تعالى عليه، فقد بذل لأجله المرحوم العلاّمة جهدًا كبيرًا، غير أنّه لم يصر بالنحو المطلوب؛ وعلى أيّ حال، نرجو من الله تعالى أن يشمله برحمته وغفرانه.
وقد شيّد هذا الشخص بناية تقع قريبًا من منزلنا الذي كنّا نقطن فيه حينما كنّا نسكن في طهران بمنطقة "بيش شمران"، فدعى ذلك الكهربائيَّ ليمدّ الأسلاك الكهربائيّة بمنزله؛ فجاء، وكان إنسانًا محلّ ثقة كبيرة، وعملُه جيّد ومتقن؛ والرفقاء لهم اطّلاع أكبر على هذه المسائل؛ فهم في نهاية المطاف من أهل الخبرة، ويعلمون أنّه إذا أراد الإنسان إنجاز عمل ما، فإنّه يستطيع القيام به بطريقة رديئة جدًّا، كما يُمكنه أداؤه بطريقة متقنة وجيّدة ولائقة جدًّا، بحيث يتمّ تأمين الحاجات الواقعيّة للمنزل؛ غاية الأمر أنّه يوجد في هكذا موارد اختلاف في العمل والنفقة والأجرة؛ فمن باب المثال، قد يصنع الإنسان آلةً بجودة رديئة وقِطَع لا تخضع للمعايير، وقد يصنعها بجودة عالية. لقد كان ذلك الكهربائيّ عمله متقن جدًّا، وهو على قيد الحياة إلى حدّ الآن؛ وبطبيعة الحال، فإنّ عمله يطول قليلاً، كما أنّ الموادّ التي يستعملها أكثر؛ وبالتالي، فإنّه كان يطلب نفقات أزيد.
في بداية الأمر، جاءا، واتّفقا، وتحدّثا عن السعر؛ لكن، أتى رجل آخر، واقترح عليه سعرًا مختلفًا، وقال له: إنّ هذا العمل سيُكلّفك المبلغ الكذائيّ؛ ويبدو أنّ صاحب البيت لم يكن له اطّلاع على أمور البناء وأمثال ذلك، فذهب، وأتى بشخص عاديّ، فاقترح عليه نصف السعر الذي اقترحه الكهربائيّ؛ فانزعج وحزن كثيرًا، مع أنّه لم يكن يمتلك معرفةً بهذه الأمور؛ لأنّ طريقة إنجاز هذه الأعمال تختلف؛ فإذا كان ذاك قد طلب نصف السعر، فإنّ الله وحده هو الذي يعلم ما الذي سيقوم به هناك؟ وبعدما تمرّ سنتان أو ثلاث سنوات، ويحصل انقطاع في الكهرباء، وتندلع شرارة هنا، ويحترق هذا الجهاز وذاك، ففي ذلك الحين، سيتّضح له ما هي المسائل التي حصلت. فحدث بينهما خلاف، فتكدّر خاطر ذلك الشخص وانتابه الاستياء؛ وأتذكّر أنّ هذه القضيّة طُرحت في السيّارة التي كنّا نستقلّها برفقته في طريقنا إلى همدان، لأنّ [المرحوم العلاّمة] كان يقضي كلّ سنة عدّة أيّام في هذه المدينة للقاء الرفقاء الهمدانيّين في فصل الصيف؛ وقد كان ذلك الكهربائيّ هو السائق، فسأله المرحوم العلاّمة: «أيّها السيّد، حدّثني عن تلك المسألة التي حصلت بينك وبين فلان»، فقدّم له بعض التوضيحات، وكانت توضيحات عقلائيّة، كما كان الحقّ معه، حيث ذكرت لكم آنفًا تلك التوضيحات، كما أنّ كلّ من يسمعها يعترف بأنّ الحقّ معه، وأنّه لا مجال هنا للانزعاج أو الادّعاء والشكوى.
وبعد أن أنهى كلامه ...، وانتبهوا هنا جيّدًا، لتروا الفارق الكبير بين الرؤية التي يمتلكها العارف تجاه المسائل، وبين رؤيتنا نحن؛ فهناك العديد من الأفراد، لو طُرحت عليهم هذه المسألة، بماذا كانوا سيُجيبون؟ سيقولون: «أجل، إنّ الحقّ معك أيّها السيّد، فأنت أنجزت هذا العمل اعتمادًا على ذلك الأسلوب الصحيح والعقلائيّ والفنّي، وقد استفدت من المقدار الكذائيّ من الموادّ، وبذلت كذا من الجهد، فلا يحقّ للآخر أن يعترض»؛ فتنتهي المسألة بهذا النحو؛ لكنّ المرحوم العلاّمة بحث المسألة بطريقة أخرى، وهي الطريقة التي ينبغي علينا العمل بها في هذه الأيّام، حيث قال له: ما ذكرته صحيح، ولا كلام لنا حوله؛ فأنت تعمل بأسلوب خاصّ، وذاك يعمل بأسلوب آخر؛ كأن يقوم مثلاً بما نراه هذه الأيّام، فيضع أربعة مفاتيح ومقابس للكهرباء، وإثنين للهاتف، ومفتاحًا للتبديل هنا، ومفتاحًا آخر للمصابيح، ويصل كلّ هذه الأشياء ببعضها بواسطة سلك كهربائي لا يتحمّل إلاّ مائة أو مائتي فولت؛ بينما نجد ذاك الكهربائيّ يعمل بالطريقة الآتية: أوّلاً، يستعين بسلك أفضل وأنسب؛ وعلاوةً على ذلك، فإنّه يضع لأجل بلوغ هدفه مفاتيحَ متعدّدة في كلّ مكان، حتّى يسهل أكثر الوصولُ إلى هذه التجهيزات؛ وبطبيعة الحال، فإنّ القيام بهذا الأمر سيستغرق وقتًا أطول. فهذه هي المسائل التي طرحها ذلك الشخص؛ وقد كان المرحوم العلاّمة مطّلعًا بدوره على ذلك؛ لأنّه كان خبيرًا بهذه الأمور.
فقال له: أجل، الحقّ معك، وما ذكرته صحيح؛ لكنّ المسألة الأخرى المطروحة هنا هي أنّه عليك بصفتك من الرفقاء أن تضع نفسك في مكان ذلك الرجل، وتنظر إلى الأمر من وجهة نظره؛ فهو إنسان غير مطّلع [على هذه المسائل]، ولا يستطيع فهم كلامك وتقييمه؛ فعليك أن تضع نفسك في مكانه، وفي دائرة أفكاره وظروفه؛ ثمّ تنظر إلى الأمور من خلال هذه الرؤية، وبعد ذلك، ترى هل تستطيع إقناعه؛ وذلك كأن تأتي بشخص آخر يكون له اطّلاع على هذه الأمور، أو تطلب من أحد آخر أن يُنبّهه إلى حقيقة المسألة؛ وبهذا النحو، فإنّ القضيّة ستُختم ـ بطبيعة الحال ـ على خير.
الفائدة المعنويّة للتنازل عن الحقوق المادّية من أجل إسعاد الآخرين أعلى وأرفع
لكن، أحيانًا، قد يُصرّ ذلك الرجل على هذه القاعدة وذلك المبدأ، ويرى الحقّ معه؛ وعند ذلك، قال له المرحوم العلاّمة: أليس من اللائق أن تتنازل عن حقّك، ولو تتضرّر قليلاً؛ وهل يلزم بالضرورة أن يحصل الإنسان على فائدة؟! فتحمّل قليلاً من الضرر؛ وفي مقابل ذلك، فإنّك ستُسعد رفيقك بعملك هذا؛ أي أنّ إسعاد هذا الرفيق، والفائدة التي تحصل عليها جرّاء ذلك تفوقان كثيرًا تلك الفائدة المادّية التي كنت ستنالها بواسطة عملك؛ فانظر أيّ رجل أنت؟ فإن كنت رجل المادّة والمادّيات، فلتأخذ بذلك الجانب من المسألة؛ وإن كنت رجل المعنى والمعنويّات، فإنّ المعادلات ستختلف. أَ وَهل يتعيّن على الإنسان أن يربح في كلّ عمل يُؤدّيه؟! أَ وَهل يلزم بالضرورة على الإنسان أن يجني فائدة مادّية من كلّ فعل يقوم به؟! فلو أنّ ذلك الشخص، أتى، وتمّكن من إثبات مسألته، وأَخَذ من ذاك عين المبلغ الذي عُيّن له بنحو عادل، فما الذي كان سيحصل؟ كان سيظفر بأمر عاديّ من دون أن يقوم بشيء ذي بال؛ فهو بذلاً جهدًا معيّنًا، واستخدم المقدار الكذائيّ من الموادّ، فحصل على ذاك المقدار من الأجر بحسب العُرف والمتعارف؛ وهذا أمر عاديّ.
يوجد بيت شعريّ رأيته مكتوبًا خلف العديد من السيّارات، وهو بيت شعريّ جيّد؛ فأحيانًا، يكتبون خلف السيّارات أبياتًا شعريّة جميلة؛ لكن، أحيانًا أخرى، ماذا أقول؟!! يكتبون كلّ ...؛ وقد رأيت ذلك البيت الشعريّ عدّة مرّات، ومفاده:
در جوانى پاك بودن شيوه پيغمبريست | *** | ور نه هر گبرى به پيري ميشود پرهيزگار |
[يقول: في الشباب، تكون المحافظة على الطهارة من عمل الأنبياء *** وإلّا فإنّ كلّ مجوسي يُصبح زاهدًا عند الشيخوخة]
وباعتقادي، فإنّ الإنسان الذي يصير زاهدًا وعابدًا حينما يفقد إمكانيّاته لا يكون قد قام بشيء ذي بال! فهذا العمل الذي تقوم به الآن يتّكيء على الأمور المتعارفة التي وصلتنا؛ ولهذا، فإنّك لا تحصل على أيّ ثواب، لأنّك قمت بعمل عاديّ.
انظروا، فالعارف يأتي هنا، ويقلب الأساس الفكريّ للإنسان رأسًا على عقب، ويقول له: إلى الآن، كنت تُفكّر بنحو سقيم، وكانت أحكامك خاطئة، ومعادلاتك مجانبة للصواب، فتعال، وفكّر بطريقة أخرى، حيث إنّ الله تعالى يوصل هذه المسائل للإنسان، فلا تظنّوا أنّه تعالى لا يفعل شيئًا، بل يوصل للإنسان عشرة أضعافها من مكان آخر؛ فإلى الآن، كنت تُفكّر بذلك النحو، فتعال الآن، وفكّر بهذا النحو، ونظّم علاقاتك بالاعتماد على قانون مختلف، وليس على العلاقات الاجتماعيّة العاديّة؛ وحينئذ، سيصير الأمر مثلما ذكره المرحوم العلاّمة في الروح المجرّد۱ بخصوص السيّد الحدّاد، حيث كان يشتغل أحيانًا من الصباح إلى المساء، ويحصل على مبلغ يُساوي الأجر الذي كان عليه دفعُه لمساعده، فيدفعه إليه، ثمّ يرجع إلى المنزل خاوي الوفاض؛ فهذا أيضًا أسلوب معيّن من التفكير، وهذه أيضًا معادلة خاصّة.
فقال له المرحوم العلاّمة: حينما ترجع [من السفر]، عليك أن تذهب عنده، وتعتذر منه؛ وهنا، قال ذلك المسكين: لقد صرتُ أيضًا مدينًا له! فعليك أن تعود، وتعتذر؛ لأنّك تسبّبت في إحزان رفيقك، وتقول له: «سأنجز لك ذلك العمل في مقابل أيّ مبلغ تريده، بل وحتّى ولو قلت إنّك لن تدفع شيئًا، فقل أيّ مبلغ تشاء، فإنّني سأنجزه لك». فرجع ذلك الكهربائي، وذهب عنده، واعتذر منه؛ وهنا، تفطّن ذلك الشخص للمسألة، وتساءل مع نفسه: ما حقيقة الأمر؟ وفجأة، بدأ عقله يشتغل، فقال: «فلأذهب الآن، وأسأل شخصين أو ثلاثة أشخاص آخرين»؛ فذهب، وعرف بأنّ الحقّ كان مع ذاك؛ وحينئذ، أتى هو واعتذر؛ فانظروا إلى طبيعة هذه العلاقات التي ينبغي أن تربط بعضنا ببعض؛ فهذه هي أخلاق الموحّدين، وهذه هي أخلاق أهل التوحيد؛ فتعالوا الآن، وقارنوا بين ذلك، وبين بقيّة الشعوب والمذاهب والمناهج والطرق، حتّى التي تدّعي الإسلام واتّباع القوانين الإسلاميّة، وانظروا إلى البون الشاسع بين هذا وذاك! هذا، مع أنّ ما ذكره المرحوم العلاّمة هنا يتعلّق من جهة بأحد تلامذته الخاصّين والسلوكيّين، ومن حهة أخرى برجل كان من المرتادين للمسجد فقط، ومن الناس العاديّين الذين يُكنّون المحبّة [للمرحوم العلاّمة] وحسب، فلم يكن من تلامذته، ولم يأخذ منه برنامجًا سلوكيًّا؛ فهذه هي تعاليم الإسلام وبرامجه، وهذه هي تعاليم التوحيد وأوامره.
فهذا هو المراد من قولي: إنّ القوانين الإلهيّة موضوعة لتربية الإنسان في درجات مختلفة؛ فلو أنّكم ذهبتم إلى المحكمة، لقال لكم القاضي مباشرة: «لا يا سيّدي، إنّ الحقّ معك، وذاك يقول هذرًا، وعليك أن تأخذ منه أموالك»؛ لماذا؟ مع أنّه على القاضي قول ذلك؛ لأنّه ملزم بتنظيم المسائل الاجتماعيّة؛ غير أنّ العارف يأتي، ويرتقي خطوة إلى الأعلى، ويقول: هل تريد أن تربح أم تخسر؟ هذه هي حقيقة المسألة! فلا شغل للعارف بالقانون، ولا علاقة له بالمسائل الجزائيّة؛ ولو أنّه يُحقّقها بنحو أتمّ وأدقّ من كافّة المدّعين للقانون، لكنّ المسألة التي يُريد أن يقولها هي: هل تُريد أن تخسر أو تربح في هذه الدنيا؟ فإذا كنت تسعى نحو الربح، فهذا هو الطريق، وهذا هو المسار؛ وأمّا إذا كنت تُريد البقاء في مستوى عاديّ ومتوازن، فعليك سلوك طرق أخرى، واتّباع مسائل مختلفة.
طاعة واحدة للمرأة تجاه زوجها تفوق عبادة سنة كاملة
توجد رواية نقلها الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، سنقرأها، ونوكل بقيّة المسائل للجلسة القادمة إن شاء الله تعالى، لكي نتمكّن من إكمالها هناك؛ وهذه الرواية طويلة سأقرأها في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى، لكنّني سأذكرها اليوم بشكل مختصر، حيث يقول فيها الرسول الأكرم: لا يُمكن للمرأة التصرّف في أموالها من دون طاعة الزوج ورضاه، ولا يُمكن للمرأة أداء الصوم المستحبّ من دون إذن الرجل، ولا يُمكن للمرأة إحضار أحد للبيت أو دعوة ضيف من دون الاستجازة من الزوج، ولا يُمكن للمرأة الإنفاق من مال زوجها بغير إذنه، ومسائل أخرى ذكرها، ثمّ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا سعت المرأة إلى طاعة زوجها في أمر يُريده ويتوقّعه، فإنّ ذلك أفضل بالنسبة إليها من قضاء سنة كاملة في الصيام نهارًا، والقيام ليلاً إلى الصباح؛ فهذا هو معنى الطاعة.
وحينئذ، نأتي نحن، وندع هذه المسألة المهمّة والمصيريّة جانبًا، وننشغل بالعبادة تلو العبادة، ونعقد الجلسة بعد الجلسة، وننهمك في الأمر الفلاني والأمر العلاّني، ونسعى لجمع هذا وذاك، ولقراءة الآيات القرآنيّة، لكنّ جميع هذه الأعمال مبتنية يا عزيزي على الأمور النفسانيّة لا الإلهيّة، وتُؤدّى على أساس المتخيّلات والمشتهيات، وعلى أساس الهروب من الواقع، والميل نحو المجاز؛ وإلاّ، لو فرضنا أنّها مبتنية على أساس رضا الله، فإنّه تعالى يقول: هذا هو الذي أرضى به؛ فالكلام هو كلام رسول الله: طاعةٌ واحدةٌ من المرأة لزوجها أفيد بالنسبة إليها من قضاء سنة كاملة في الصيام نهارًا، والقيام ليلاً إلى الصباح.
سنسعى بحول الله تعالى وقوّته إلى استعراض روايات أخرى في هذا الباب تكون مفصّلة أكثر إن شاء الله تعالى؛ ولعلّ الجلسة القادمة تمتدّ بنا إلى ساعة ونصف أو ساعتين من الزمان؛ ولهذا، على الرفقاء أن يستعدّوا لذلك؛ والأهمّ من الرفقاء، هو محيطهم الأسريّ الذي يلزمه التوفّرُ على الاستعداد للقبول ببعض الحقائق التي سيكون الرضوخ لها حلوًا ومفيدًا ومثمرًا جدًّا للجميع إن شاء الله تعالى.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد