المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير والأسرة
التوضيح
في هذه المحاضرة التي عقدها آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه لتتمّة شرح الفقرة «حقيقةُ العبودية عبارةٌ عن ثلاثة أشياء: ...» من حديث عنوان البصريّ الشريف، تحدّث سماحتُه بدايةً عن وظيفة الدولة تجاه المجتمع، ذاكرًا في ضمن ذلك نموذجًا عن أحد الشخصيّات السياسيّة الأبيّة، ليُعرّج من هناك على الموضوع الأساسيّ للمحاضرة؛ أي الحقوق المتبادلة بين الوالدين والأبناء، حيث شرع بالحديث عن وظيفة الأب تجاه الأسرة؛ والتي إذا أدّاها يكون قد قام بأكبر جهاد، ثمّ بيّن الآثار السلبيّة للتقصير في أداء هذه المهمّة، وتكلّم أيضًا عن أسلوب التعامل مع الزوجة، ليختم البحث في الأخير بالخوض في وظيفة الأبناء تجاه الوالدين.
هو العليم
الحقوق المتبادلة بين الوالدين والأبناء
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۷۱
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آل بيته الطّاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين
قال الإمام الصّادق عليه السّلام: «حقيقةُ العبودية عبارةٌ عن ثلاثة أشياء: أن لا يرى العَبد لنفسِهِ فيما خوَّلَه الله ملكًا؛ لأنَّ العبيد لايكون لهم ملكٌ، يرون المال مال الله، يضعونه حيث أمرهم الله به، ولايُدبّر العبد لنفسه تدبيرًا».
كان حديثنا عن كيفيّة تدبير الشؤون الشخصيّة والعائليّة، وإدارة الأمور في المنزل وخارجه، والاشتغال بالمسائل الخارجة عن نطاق البيت، حيث تكلّمنا قليلاً عن العمل في الخارج، وكذلك عن المسائل ذات الصلة بالمنزل، وكيفيّة الارتباط بالأهل وفقًا لنظرة الإسلام والعرفان، حيث اعتبرت الآيةُ الشريفة ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارًا﴾۱ هذه المسؤوليّةَ راجحةً وتحظى بالأهمّية والأولويّة.
وظيفة الدولة تجاه أفراد المجتمع
وبشكل عامّ، فإنّ تصوّرنا وتصوّر المجتمع وحتّى بقيّة الشعوب والمناطق المختلفة قائمٌ على أساس أنّ الوالدين، وبمقتضى الشعور بالرحمة والعطف الحاكم على علاقتهم بأبنائهم، فإنّهم مكلّفون بالمحافظة على شؤونهم المعيشيّة، وإيصالهم إلى غاية النموّ من الناحية الظاهريّة؛ وتبرز هذه المسألة جليًّا عند البحث عن العدالة الاجتماعيّة، حيث تحدّثنا سابقًا ـ بحسب ما يحضرني ـ عن الأساس الذي تعتمد عليه هذه العدالة، وذلك عند طرحنا لمجموعة من الأبحاث عن وظائف الدولة؛ كما أنّ هذه المسألة تُطرح أيضًا في المحيط العائليّ، وهل إنّ وظيفة الدولة تجاه أفراد المجتمع تنحصر في توفير الأمور الاقتصاديّة، وضمان الأمن الاقتصاديّ، وتحقيق المسائل ذات الصلة بإصلاح وتحسين الأوضاع الظاهريّة لهؤلاء الأفراد؛ مثلما عليه الحال في جميع أنحاء العالم، والتي يُنظر فيه إلى هذه المسألة، كأفضل نموذج، وأرقى أساس في إدارة شؤون الدولة.
فأفضل بلد عند المجتمعات المعاصرة هو البلد الذي تتمكّن دولتُه من تحقيق الأمن الاقتصاديّ لجميع سكّانه، وضمان أمن التنقّل لهم، والسهر على عدم التعدّي على الحقوق الظاهريّة والجسديّة للناس؛ ويبدو أنّ هذا أساسٌ لإدارة شؤون الدولة العادلة في جميع البلدان؛ وهذه المسألة من المسلّمات؛ ودعونا هنا لا نتخطّى الحقّ، فإنّ هذا أوّلُ أساسٍ وقاعدة لإدارة شؤون المجتمع، بنحوٍ يتسنّى معه الحيازة على رضا كافّة الناس، حيث نشاهد هذا الأمر الآن في بعض البلدان، ونسمع أنّ هذه الدول لا تدّخر ـ بحقّ ـ وسعًا من ناحية توفير الأمور الاقتصاديّة لشعوبها، وأنّها تبذل مجهودات كبيرة لأجل ضمان الأمن الأخلاقي للناس؛ مع أنّه ليس مرادنا من الأخلاق هنا ذلك المعنى النفسيّ والروحيّ الذي سنبحثه لاحقًا، وتحدّثنا عنه سابقًا أيضًا؛ فنجد تلك الدول تضع حقّ كلّ فرد في موضعه المناسب، بحيث لا يحقّ لأيّ أحد التعدّي على الآخرين؛ وإذا تخطّى أحدٌ حدوده القانونيّة، فإنّ الدولة والمحكمة والقانون يتصدّون له؛ وهكذا أيضًا في الأمور الاقتصاديّة والمعيشيّة والمسائل ذات الصلة بحريّة التنقّل، حيث نجد أنّ ذلك يُمثّل الحدّ الأقلّ من التوقّع الذي ينبغي أن يكون لأفراد المجتمع تجاه دولتهم وحكومتهم، سواءً كانت هذه الحكومة إسلاميّة أو كافرة؛ وحتّى الكلام الصادر من بعض العظماء ـ والمنسوب أيضًا إلى الرسول الأعظم ومفاده أنّ الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم٢ ـ هو ناظر إلى الحالة التي يسود فيها العدل الاجتماعيّ في المجتمع بالنحو الذي تحدّثنا عنه، ويُشكّل أساسًا للحكم؛ بينما لا ينسجم الظلم والعدوان مع الحكم، بحيث سيأتي يوم، وينفجر الشعب، ويصل هذا الشعب إلى نفق مسدود؛ وسيأتي يوم، وينتهي في الأخير الظلم الواقع على هذا الشعب؛ لأنّ الناس لهم شعور وإحساس وعقل وفطرة ووجدان وإدراك؛ فمهما كانت الحكومة والدولة، فإنّها تستطيع ليومين أن ....
نموذج عن الشخصيّات السياسيّة الحرّة والأبيّة
أذكر أنّني شاهدت ذات يوم بعد نجاح الثورة الإسلاميّة تلك العُملة الورقيّة ذات العشرة تومانات، فرأيتهم طبعوا عليها صورة المرحوم المدرّس رضوان الله تعالى عليه؛ فقد كان رجلاً حرًّا وأبيًّا؛ أجل، كان عَمله يُعاني من إشكال واحد؛ وهو أنّه لم يكن يردّ أيّ شخص مدّ إليه يد الفاقة والافتقار، ولو من باب التملّق؛ وهذه هي نقطة الضعف التي عانى منها المرحوم المدرّس، وأساء الاستفادة منها رضا شاه، ليتمكّن من الوصول إلى السلطة والحكم، ثمّ يقبض في أوّل فرصة على المرحوم المدرّس، وينفيه، ويقتله بعد ذلك. ومن هنا، على الإنسان أن يُبرز الصمود والثبات تجاه المواقف والمباديء؛ فإظهار الرحمة والعطف ينبغي أن يكون في مكانه المناسب، وليس في كلّ مكان:
ترحّم بر پلنگ تيزدندان | *** | جفاكارى بود بر گوسفندان |
[يقول: إنّ الإشفاق على الفهد صاحب الأسنان الحادّة القاطعة، يعتبر في حدّ نفسه تحاملاً على الخرفان!]
فحينما كان رضا شاه في غاية الضعف والوهن، وأقصى درجات المكروهيّة والإبعاد، فإنّه لم يجد بدًّا من التقرّب إلى المدرّس، حيث يُحكى أنّه عند دخوله إلى المجلس، كان المدرّس جالسًا في ناحية، فظلّ واقفًا، ولم يتقدّم إلى الأمام، بل بقي واضعًا يديه على بطنه بحالة من التعظيم، وحتّى أنّني رأيت مكتوبًا في مكان ما أنّه طأطأ رأسه، وقبّل عتبة ذلك الباب؛ وهذا كلّه من خُبث السياسيّين؛ فلا ينبغي الانخداع بهذه الأشياء؛ فكلّ ما يُمكنك قوله عن السياسيّ يصدق في حقّه؛ لأنّك تجده يتوسّل بكلّ حيلة وخدعة، ويخضع لكلّ ذلّة في سبيل تحقيق أهدافه؛ بخلاف الإنسان الحرّ والأبيّ، فإنّه لا يلجأ لهكذا أمور. فقال له المدرّس: «ارفع رأسك، ارفع رأسك، ماذا تريد؟»، فقال: «سأصغي إلى كلّ كلمة تقولها، وأطيعك في كلّ ما تأمرني به»؛ وحينئذ، قال له المدرّس: «اذهب الآن، واسكب لي قليلاً من الشاي»، حيث كان هناك سماور۱ مشغّلاً، فسكب قليلاً من الشاي، وأحضره، وتمكّن بذلك من كسب محبّة المدرّس.
وهذا خطأ؛ فنحن لا نُجيز هذا العمل؛ إذ حينما تعلم أنّ هذا الرجل خائن، ومجرم، ويتسبّب في إلحاق الضرر بالمُلك والشعب والدين، فإنّه لا يجوز لك التعامل معه بلطف؛ لأنّ هذا اللطف سيُؤدّي إلى القضاء عليك، وعلى الآخرين؛ وعلى أيّ تقدير، فإنّ المدرّس كان رجلاً أبيًّا، وذا نفس طيّبة، ومن أهل الرياضة، والتهجّد، وقيام الليل.
وبحقّ، فإنّ الشعور بالفاقة إلى المدرّس وأمثاله ملموس جدًّا، والحاجة الأكيدة إلى هؤلاء واضحة وجليّة جدًّا؛ وقد طبعوا صورته في العملة الورقيّة ذات العشرة تومانات، وأظنّها لازالت موجودة الآن؛ فحينما نظر المرحوم العلاّمة إلى هذه الصورة، قال: «هل تعلم يا فلان ما الذي تعنيه هذه الصورة؟ تعني الإباء والثبات على الحرّية»؛ وفي المقابل، ما الذي حصل لصورة رضا شاه، وأمثاله؟ ما الذي وقع لهم؟ لقد رحلوا بأجمعهم، واندثروا كلّهم، حيث جاءت عاصفة، وقضت على سلالتهم، وذهبت بها أدراج الرياح، بحيث كانوا ينتقلون من بلد إلى آخر طلبًا للجوء؛ هل هذا واضح؟ لكن، ماذا عن المدرّس؟ لقد كان حرًّا، ولم يتمكّن أحد من خداعه، والاحتيال عليه بالدراهم والدنانير؛ فقد بعث إليه ذلك الشاه بعينه ورؤساء الوزارة قبله بأكياس الذهب لمرّات عديدة، لكنّه كان يردّها، ويقول بلهجته الأصفهانيّة: «أنتم تعلمون أنّ طعامي يقتصر على الخبز واللبن الرائب، ولباسي مجرّدُ عباءة أرتديها؛ وبالتالي، في ماذا ستنفعني هذه الأكياس من الذهب؟ اذهبوا، وأعطوها للذين ...»؛ وحتّى حينما نفوه إلى كاشمير، فإنّه كان يزرع بنفسه الباذنجان، والقرع، والخضروات، وأمثال ذلك في المنزل الذي كان يمتلكه، ولم يكن يأتي بها من الخارج، بل كان يزرعها لوحده ذلك المسكين؛ وهكذا، إلى أن نال الشهادة؛ وهذا دليل على ماذا؟ دليل على أنّ الظلم يفنى، وأنّ الحكومة الظالمة تندثر؛ فلا ينبغي علينا القول: «لماذا طال الأمر إلى هذا الحدّ؟»؛ أ فلم يستمرّ حكم رضا شاه ومحمد رضا شاه طيلة خمسين عامًا؟ لكن، ماذا حصل في الأخير؟ لقد سقط ذلك الحكم في الأخير، ولم يبق منه في الأذهان سوى السمعة السيّئة؛ فلم تظلّ هناك أيّة ذكرى عن تلك الحكومات، سوى الظلم والجور والانحلال. وأمّا المدرّس، فلأنّه كان رجلاً حرًّا، فإنّ ذكراه واسمه [يُعادان] مرّة أخرى؛ وقد بنوا على قبره الآن ضريحًا، حيث توفّقنا ولله الحمد لزيارة هذا الضريح قبل مدّة قصيرة؛ وهذا دليل على ماذا؟ دليل على بقاء الطريق الحيّ الذي سلكه هذا الرجل وأمثاله طيلة أعمارهم.
وهذا أقلّ شيء يطلبه أفراد الشعب من دولتهم، غاية الأمر أنّ ذلك يُمثّل عشرة بالمائة من المسألة، بينما تختصّ تسعين بالمائة منها بتوفير الأمن الروحيّ والرقيّ النفسيّ لأفراد المجتمع؛ لكن، أين يُمكن العثور على ذلك؟ فوظيفة الحكومة الإسلاميّة تتمثّل في ضمان أمن الحياة الروحيّة، ورقيّ النفس، وبلوغ الكمال لكلّ فرد، بشرط أن يكون راغبًا في ذلك، وأمّا الذي لا يُريده، فإنّها لا تُجبره عليه؛ وهذا هو معنى العدل الاجتماعيّ، بحيث لا يقتصر هذا العدل على الشكل الظاهريّ فقط.
أهمّ وظيفة للأب ضمان الرقيّ الروحيّ للأسرة
ويصدق الأمر ذاته على وظيفة الوالدين، لا سيّما وظيفة الأب في المحيط الداخليّ والعائليّ للمنزل؛ إذ لا تقتصر هذه الوظيفة تجاه أهل البيت على توفير الخبز والماء، ولا على إحضار الطبيب والعلاج والشفاء من الأمراض وأمثال ذلك فقط؛ فهذه الأمور باستطاعة شخص آخر القيام بها؛ كأن يأتي خادم إلى المنزل ويتحمّل هذه المسؤوليّة، لكنّ وظيفة الأب تكمن في ضمان الرقيّ الروحيّ، وتفعيل الاستعدادات التي خلق الله تعالى هذا البدن لكي يُحقّقها؛ فهذه المهمّة مهمّة من؟ إنّها مهمّة الأب؛ فمن وظيفته تحقيق هذه المسألة، وأن يُوفّر لزوجته وأبنائه كلّ ما يُؤدّي إلى صلاحهم، وأن يُبعد عن محيط حياتهم كلّ ما يُفضي لفسادهم وإفسادهم، ولو كان مطلوبًا ومرغوبًا من قبلهم؛ إذ كما أنّ الله كلّف الأب بتوفير سبل العيش وإصلاح الشؤون الظاهريّة للأسرة، فإنّه تعالى كلّفه ـ بدرجات أعلى ـ بضمان رقيّهم وكمالهم الدينيّ، حيث إنّ الروايات الواردة في هذا المجال كثيرة إلى ما شاء الله، فنجدها تتحدّث عن نوع التربية الذي ينبغي تلقينه للولد منذ ولادته، وعن ضرورة إبعاده عن البيئة الفاسدة، وألاّ يُدخل للغرفة التي تُرتكب فيها الغيبة، وألاّ يكون في معرض سماع الموسيقى؛ لأنّها تترك تأثيرًا سيّئًا على نفسه.
فمن الممكن أنّ هذه المسائل كانت تواجه سابقًا بالسخريّة والاستهزاء، لكنّهم التفتوا في هذا العصر إلى أنّ الأطفال يتوفّرون في الشهور الأولى للولادة وفي نفس أيّام الرضاعة على أفضل استعداد لتلقّي المسائل؛ فهل هذا أيضًا كذب؟ فتجدهم [أي الأولياء] يُحذّروننا، لكنّنا لا نُصغي إليهم، ونقول: «ما هذا الكلام يا سيّدي؟ فالطفل لا يفهم شيئًا! ولا يفقه أيّ شيء!»، من قال إنّه لا يفهم شيئًا، بل إنّه يفهم جيّدًا جدًّا، وهذه الأمور بأجمعها تترك تأثيرها فيه؛ ولهذا، عليكم أن تُحضروا طفلكم إلى الغرفة التي تقرؤون فيها القرآن، ليسمع تلاوته هناك، كما أنّه يُستحبّ اصطحاب الأطفال إلى مجالس عزاء سيّد الشهداء.
وحينئذ، متى ستنفع هذه الأمور؟ فحينما يكون الطفل في مرحلة الطفولة، فإنّه لا يظهر عليه أيّ شيء؛ لكن، عندما يكبر، تجده ذهب في هذا الاتّجاه، أو ذاك؛ فما هو السبب في ذلك؟ فحينما تمرّ السنوات، ترى هذا يختار الطريق الفلانيّ، والآخر يختار طريقًا مغايرًا؛ أجل، أنا لا أقول أنّ ذلك هو تمام العلّة، لكنّه جزء العلّة على حدّ قول المرحوم العلاّمة؛ فالمسألة هي بهذا النحو! لماذا؟ لأنّ الآثار التي انطبعت في ذلك الوقت في نفس هذا الطفل بواسطة تلك الأفعال والتصرّفات لا تبقى ساكنة، بل تبدأ في الحركة والتأثير، إلى أن نلتفت شيئًا فشيئًا حینما یکبر إلى أنّ مسار حركته ينساق نحو اتّجاه معيّن، وأنّه يذهب في اتّجاه خاصّ.
يُحكى أنّ الشيخ فضل الله النوريّ رحمة الله تعالى عليه، والذي جرى إعدامه من قبل الإنجليز وأنصار الثورة الدستوريّة كان له ابن غير صالح، حيث كانت له دخالة في الشؤون السياسيّة والحكوميّة، ويُقال أنّه كان من العناصر التي ساهمت في إعدام والده؛ هذا، مع أنّه كان من المشايخ؛ ومن باب الصدفة، دار الحديث في أحد المجالس عن هذا الابن، فقال المرحوم الشيخ فضل الله: «إنّني أعلم موضع الإشكال في هذه المسألة»؛ ولا يخفى أنّ ذلك لا يُشكّل العلّة التامّة، لكن، قد يكون له دخالة في هذا الأمر؛ فقال: «حينما وُلد ذلك الابن، كانت أمّه تُعاني من جفاف الحليب، فاضطررنا إلى الاستعانة بامرأة ناصبيّة تُبغض أمير المؤمنين عليه السلام (ويُطلق الناصبيّ على الشخص الذي ينصب العداوة لأمير المؤمنين، ويسبّه، ويشتم أهل البيت لا سيّما أمير المؤمنين.. نعوذ بالله حقًّا)، فأُجبرنا على الاستعانة بها لكي تُرضعه مدّة يومين أو ثلاثة أيّام؛ وهكذا، أُلهمتُ في تلك اللحظة بأنّ هذه الرضاعة ستترك فيه مجموعة من الآثار؛ أجل، لا ينبغي عليكم أن تظنّوا بأنّ ما ذكرته لكم يعني كون ذلك الابن غير مقصّر، بل يُشكّل هنا جزء العلّة فقط، بحيث لا يُؤدّي ذلك إلى سلبه الاختيار؛ إذ من الممكن أن يكون الإنسان مختلفًا عن الآخرين من الناحية النفسانيّة، لكنّه مع ذلك، يستطيع التحكّم في نفسه، وتغيير بعض صفاته النفسانيّة؛ وفي جميع الأحوال، فإنّ هذه المسألة تحظى بأهمّية بالغة.
فإذا كان المرحوم العلاّمة يُؤكّد بشدّة في زمان حياته على ضرورة أن يعلَم الأشخاصُ الذين يُعانون من بعض الأمراض، ويضطرّون لأخذ الدم أو إعطائه بمصدر هذا الدم، فإنّ ذلك راجع إلى نفس هذا السبب؛ وبالمناسبة، فإنّ هذه المسألة تحظى بأهمّية بالغة جدًّا؛ فنقل الدم من أناس غير ملتزمين بالمسائل [الدينيّة] له آثار سلبيّة، وعلى الإنسان الالتفات إلى ذلك؛ اللهمّ إلاّ إذا لم يكن هناك مناص؛ فعلى الإنسان مراعاة هذه الأمور بقدر المستطاع؛ وتوجد لدينا هنا العديد من الأبحاث، لكنّنا لن نخوض فيها الآن.
وعلى أيّ تقدير، يتعيّن على الأب الاهتمام بالشؤون الدينيّة للزوجة والأطفال، وليس فقط بالأمور الظاهريّة من خبز وماء؛ والتي لا تُمثّل إلاّ خمسة أو عشرة بالمائة من المسألة؛ وعليه أن يُراقبهم، ويرصد أفعالهم وتصرّفاتهم، ومع من يتحدّثون، ومع من يخرجون، ومع من يتعاملون، وما هي أحوالهم.. هل التفتّم؟
ذات يوم، جاء أحد عند المرحوم العلاّمة، فسأله عن أحوال أبنائه؛ وبالمناسبة، فإنّ هؤلاء الأبناء كانوا صالحين، حيث كان له ابنان، وكلاهما صالح، ويبلغان السابعة والثامنة عشرة سنة من العمر تقريبًا؛ فقال له: «أيّها السيّد، لماذا لا تصطحبهما معك إلى المسجد؟ ولماذا لا تأتي بهما إلى المجالس التي نعقدها لقراءة القرآن والدعاء؟»؛ فضحك ذلك الرجل، وقال: «يا سيّدي، لقد أوكلتهما إلى إمام الزمان»؛ إمام الزمان؟! أجل، أجل! فقال له المرحوم العلاّمة: «لو أنّهما مرضا، هل كنت ستوكلهما إلى إمام الزمان، أم تذهب بهما عند الطبيب؟ ولماذا لم توكلهما إلى إمام الزمان في أكلهما وشربهما؟ أو في صحّتهما وسلامتهما؟»؛ وهذا الذي حصل فعلاً، حيث سقط هذان الولدان الصالحان ذويا النفس الطيّبة في هوّة نتيجةً لفكرة الإيكال إلى إمام الزمان، وابتعدوا، ابتعدوا، ابتعدوا، إلى أن وصلوا إلى أبعد حدّ! هل هذا واضح؟ فما الذي يعنيه «الإيكال إلى إمام الزمان»؟! أ فهل إنّ إمام الزمان جالس ليعتني بأطفالكم؟ فهو له أشغال كثيرة جدًّا وأعمال أهمّ بكثير؛ فما الذي يعنيه هذا الكلام؟!
إدارة شؤون العائلة وفقا رضا الله أكبر جهاد في سبيله تعالى
إنّ كلّ واحد مسؤول ومكلّف بالعناية والمراقبة، وسيأتي يوم نُسأل فيه عن الأمانات التي أودعها الله تعالى إيّانا ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ...﴾۱، حيث وردت رواية عن المعصوم عليه السلام يقول فيها إنّ المراد من هذه الآية وباطنها هو كيف نسلّم إلى الله عند الموت تلك الزوجة وذلك الولد اللذين أودعهما تعالى إيّانا كأمانة؟ فالآن، عندما يحين وقت رحيلك عن الدنيا، كيف تُسلّم هذه الأمانة؟ هل تتركها هكذا طليقة العنان، أم لا؟ ومن هنا، فإنّ هذه المسألة تحظى بأهمّية بالغة جدًّا، وهي على درجة كبيرة من الأهمّية، بحيث ينبغي على الإنسان المواظبة على مراعاة شؤون الزوجة والأولاد، وتكون له مُكنة في المجال التربويّ، ولا يخشى التقلّبات، ولا يتراجع أمام بعض المنغّصات والعتابات، ولا يتخلّى عن نهجه وطريقه جرّاء بعض الكلمات التي تلوح من هنا وهناك.
لقد كان المرحوم العلاّمة يقول: «مَن يتمكّن من [إدارة] بيته في الظروف الحالية وفقًا لرضا الله تعالى، وينأى به عن المسائل المنحرفة والمشينة، ويمشي بعائلته في طريق الأئمّة عليهم السلام، فإنّه سيكون قد أدّى أكبر جهاد في سبيل الله تعالى»؛ وهذا في الظروف الحاليّة، حيث تجد الإنسان يُواجه المسائل الخارجة عن البيت من جهة، والمسائل العائليّة من جهة أخرى، والقدح والاستهزاء من قبل الأرحام والمعارف من جهة ثالثة؛ كقولهم: «ما هذا الكلام أيّها السيّد؟ ما كلّ هذا التنطّع؟ فهذا الكلام كان يصلح قبل ألف وأربعمائة سنة! وأمّا الآن، فينبغي ترك [أفراد العائلة] أحرارًا! وينبغي أن يشعر الجميع بالراحة! وينبغي المساهمة في تطوّرهم! فكافّة الناس قد تطوّروا الآن»! أيّ تطوّر حصل لهم؟ هل إنّ الأدمغة قد كبرت؟ فهل كانت تزن كيلوغرامًا وأربعمائة غرام أو خمسائة غرام، ثمّ صار وزنها الآن ثمانية كيلوغرامات؟! زِنوها، ثمّ انظروا كم صار وزنها الآن! وهل ازداد طول الناس ووزنهم في هذا العصر؟ وهل اختلفت المشاعر والأحاسيس عمّا كانت عليه في زمان الرسول؟ لقد صارت أسوء مائة مرّة؛ فإن كنّا نُسَمِّ العرب في زمان الرسول بالوحشيّة حينما كانوا يهجمون على الناس، ويقتلون البعض منهم، فإنّهم الآن يُلقون بكلّ سهولة قنبلة، ويقومون بإعدام مليون إنسان، والقضاء عليهم؛ فأيّهما أفضل: الآن، أم ذلك العصر؟ ومن الذي تطوّر؟ وهل ترقّت العقول الآن؟ وما هو الشيء الذي فعلوه من أجل رقيّ الإنسان في هذا العصر؟ وهل لا زالت الآن تلك الشفقة وذلك العطف اللذان كانا في الزمان السابق؟ وهل ذلك هو الحاكم الآن على العلاقة بين الأب والابن، وبين الرفيق ورفيقه؟ وبين أفراد العائلة؟ وهل ما زالت تلك المروءة والشهامة التي كنّا نسمع عنها في الماضي موجودةً الآن؟ وهل التعلّق بالمسائل الدنيويّة في السابق كان أكثر، أم الآن؟ وهل الابتعاد عن الواقعيّات في الماضي أكبر، أم الآن؟ أيّ واحد منهما؟ وما هو الذي تطوّر؟ لقد تطوّر العلم، لكنّ المسألة التي غفلنا عنها هي النفس؛ فصحيح أنّ العلم تطوّر، لكنّ تطوّره هذا جُعل في خدمة النفس [الأمّارة]؛ فلو جاء سارق إلى البيت لكي ينهبه، أيّهما أفضل: أن يأتي حاملاً سكّينًا، أم حاملاً أسلحة ناريّة؟ ففي هذا العصر، وُضعت بيد النفس أسلحة هدّامة وفتّاكة.
تيغ دادن بر كف زنگى مست | *** | به كه نادان را شود علمى به دست |
[يقول: إنّ وضع السكّين في يد غلام زنجّي ثَمِل أفضل من وضع العلم في يد إنسان جاهل]
ففي الماضي، كان بيد النفس السيفُ والسكّين، والآن، صارت بيدها القنبلة النوويّة؛ فأيّهما أكثر تدميرًا؟ وفي السابق، كانت النفس تمتلك قوّة العضلات الظاهريّة؛ وأمّا الآن، فصارت تتوفّر على آلات وأدوات وإمكانيات لتدمير كلّ المجتمع الإنسانيّ؛ فمتى كانت يوجد في الماضي كلّ هذه الوسائل المدمّرة، والبرامج المفسدة والمضلّة والمحرِّفة التي صارت موجودة في هذا العصر لإفساد البشر؟
ضرورة التمسّك بالمباديء وعدم الالتفات لانتقادات الآخرين عند إدارة الأسرة
وهنا، تتجلّى مهمّة الأب والأم في الظروف الحاليّة من خلال السعي إلى الانفصال عن البيئة الخارجيّة، والتمسّك بتلك المباديء والأصول التي نجدها في الكتب واردة فقط وفقط وفقط عن الأئمّة عليهم السلام؛ وحينئذ، فليُكن المجتمع كما شاء، فما دخلي أنا بذلك؟ وما علاقتك أنت بذلك؟ فهل سأُسأل يوم القيامة عمّا أدركتُه، أم عمّا يقوله الآخرون؟ فليستيقظ الآخرون في الصباح من النوم، وليقولوا كلّ ما يحلو لهم، فما هو دخلي بذلك؟ فعن أيّ شيء سنُسأل؟ وهل سنُحاسب عن ما أدركناه، وما فتح الله تعالى نورَه أمام أعيننا، بحيث نبّهنا إلى تلك المعصية، وإلى تلك الهداية؛ أم سُنحاسب عن أنّ المجتمع صار في هذا العصر بالنحو الكذائي، وأنّ الناس يقولون كذا، ويرتضون كذا، ويُرجّحون كذا؟ فما معنى هذا العصر، هذا العصر، هذا العصر، هذا العصر؟ وما الذي يعنيه هذا العصر؟ فأنا لديّ شخصيّتي الخاصّة بي، وأنت لديك شخصيّتك الخاصّة بك؛ وحينئذ، ما الذي ستعنيه مقولة «هذا العصر»؟ هكذا يرتضون الأمور في هذا العصر! فليرتضوا ما يحلو لهم؛ لكن، أليس هذا العصر عبارة عن مجموعة من الناس اجتمعوا فيما بينهم واحدًا واحدًا، وصاغوا فكرة خاصّة، أو موضة معيّنة، أو برنامجًا وخطّة محدّدين؟ هذا هو فقط، وليس أنّ هذا العصر شيء نزل من السماء؛ وحينئذ، ضعوا الواحد من هؤلاء تلو الآخر جانبًا، وادرسوا ملفّاتهم، لكي تطّلعوا على حقيقتهم، وتروا كم سيظلّ منهم ثابتًا إلى الأخير، وكم يوجد بينهم من إنسان صالح، ومن إنسان منزّه عن الأهواء والنزوات يسعى لطرح المسائل المعاصرة، وكم يوجد بينهم من عالم يبذل جهدًا لأجل شؤون هذا العصر؛ فكم سيظلّ منهم في نهاية المطاف؟ لا أحد! فتأتي حفنة من الناس، وتختلق مجموعة من المسائل، وتطرحها على الجميع، ويصير ذلك هو هذا العصر.
تأتي ثلّة، وتُمسك بزمام الأمور، وتُصبح هذه الأمور هي هذا العصر؛ ثمّ يصير المجتمع مُلزَمًا باتّباعها؛ وهنا، تضحى المحافظة على العائلة من استلاب الآخرين من أعوص المشاكل حقًّا؛ فتجد الإنسان يزور بيت أقاربه، فتُواجهه ألف مسألة مخالفة للشرع، حيث يراهم وضعوا طاولة الشطرنج في زاوية، وهم منهمكين في لعبه..
ما هذا أيّها السيّد؟
لقد أصبح حلالاً!
ثمّ يسمع صوت الموسيقى الآتي من تلك الناحية من الغرفة والذي يصمّ الآذان، فيقول: ما هذا أيّها السيّد؟ فيقولون له: «إنّها حلال، فهي موسيقى إسلاميّة، وهي حلال»!! ومن يكون هؤلاء؟ إنّهم أفراد يُؤدّون صلاة الصبح في أوّل طلوع الفجر! وهنا يقف الإنسان حائرًا لا يدري ماذا يفعل، هل يمتنع عن زيارتهم، فهذه مسألة، أو يزورهم مع كلّ هذه القضايا والأمور؟ هل التفتّم؟ ففي الماضي، كانت الحدود معيّنة، وكلّ من يقوم بهذا النوع من المسائل كان يُقال عنه إنّه في ذلك الاتّجاه؛ وأمّا اليوم، فقد اختلطت الأمور للأسف في جميع العائلات؛ وبطبيعة الحال، حينما ترى النفسُ المجال مفتوحًا أمامها، فإنّها قد تُضيف قليلاً على ما هو موجود، وتتجاوز الحدود قليلاً، وتُبرز كافّة هذه الأمور كمسائل عاديّة، وتُضيّق المجال أمام الإنسان، وتُغلق الأجواء في وجهه؛ حتّى إذا أراد المقاومة، فإنّه يتعرّض للضغوط من الناس، ويُواجه بالقدح والسخريّة والاستهزاء من قبل الآخرين: انظر أيّها السيّد، فإنّ هؤلاء يتّبعون نفس ذلك الفقه السائد قبل ألف وخمسمائة سنة! لقد تحوّلت الأمور، وتغيّرت الفتاوى، وتبدّلت الأحكام الآن أيّها السيّد!
ولديّ سؤال واحد هنا: هل يُمكن لإمام الزمان أن يضع قدمه في الغرفة التي يُلعب فيها الشطرنج، أم لا؟ وهل بوسعه الدخول إلى غرفة تُرفع فيها أصوات الموسيقى؟ إذا كانت لديكم جرأة، فقولوا إنّه يدخل إليها! وهل يُمكن للإمام وضع قدمه في الغرفة التي يرتفع فيها صوت المرأة وتُذاع فيها الألحان، أم لا؟ أجل، هذا هو الدين الذي واليه ووليُّه حضرة بقيّة الله؛ وكلّ من يُريد اتّباعه واقتفاء أثره، فهو أعلم بحاله؛ وحينئذ، فليقل الناس ما يشاؤون؛ هذا، مع أنّه عليه السلام بيّن الدليل للجميع، وأضاء الطريق للكلّ؛ فإن شئت، قبلت، وإن شئت، رفضت؛ وهم لم يُقيّدوا رجل أحد ولا يده، لكي يُلزموه حتمًا بالمجيء؛ لا، فالإنسان حرّ وطليق، ولا يوجد من يُقيّده أو يُكبّله.
البارحة، أُجريت بهذا المنزل مراسم عقد زواج، وقد تكلّمت قليلاً بعد هذه المراسم، وقلت للأصدقاء والرفقاء والحاضرين: دعوني أحدّثكم بكلمة؛ لا تقلقوا على جهنّم أبدًا من عدم وجود مشترٍ لها! فبحمد الله تعالى، تعداد مشتريها هو على درجة من الكثرة، بحيث إذا لم نذهب إليها، فلن يحصل لها أيّ شيء! فالله تعالى جمع لها ما يكفيها! فالجنّة هي التي ليس لها مشترٍ، فتعالوا لكي نعمل ما يُقرّبنا إليها؛ أجل، فللجنّة مشترين أيضًا؛ غاية الأمر أنّه لا ينبغي علينا أن نقلق على جهنّم والجهنّميين؛ وعلى حدّ قول المرحوم السيّد أحمد الكربلائيّ: إذا كان الذهاب إلى جهنّم واجب كفائيّ ـ أي يلزم على البعض الدخول إليها ـ فإنّ الأفراد [المتطوّعين] موجودون! فلماذا علينا أن نذهب نحن؟! ولماذا يتوجّب علينا نحن القيام بهذا العمل؟! فإذا كان الذهاب إلى جهنّم واجب كفائيّ، فإنّ من به الكفاية موجود! حيث نراهم الآن يذهبون إلى جهنّم جماعات جماعات وبالقوّة؛ أي أنّ هناك من يقول: «لا أريد الذهاب إلى جهنّم»، بينما هناك من يقول: «أنا أريد الذهاب إليها»! فالذي يضع نفسه في هكذا مواقف (والرفقاء يعلمون ما الذي أقصده)، يريد أن يقول: «إنّني أريد الذهاب إلى جهنّم بالقوّة»؛ وهذا عجيب جدًّا.. ندعو الله تعالى ألاّ يسلب منّا الفهم والإدراك.
فكلّما كنت ألتقي بالمرحوم العلاّمة، وكان يسألني عن أحوال الرفقاء، فإنّه كان يقول: «كم ازداد فهمهم؟»، ولم يكن يسأل عن حالاتهم؛ فمسألة الفهم مهمّة جدًّا، بحيث على الإنسان أن يفهم ما الذي يفعله، وما هي الأعمال التي يقوم بها؛ وإلاّ، فإنّ الحالات تأتي يومًا، وتذهب يومًا آخر؛ فتجد الإنسان يرى منامًا في أحد الأيّام، ثمّ لا يراه في يوم آخر، وتحصل له حالات في يوم، ولا تحصل له في يوم آخر. فإذا شاركتم في مجلس عزاء سيّد الشهداء، فإنّ حالكم يتغيّر، لكن، ما إن تخرجوا من هذا المجلس، وتذهبوا إلى السينما، حتّى تجدون أنّ حالكم تبدّل مباشرة؛ فهذا الحال متعلّق بهذا المكان، وذلك الحال مرتبط بذلك المكان؛ وحينما تذهبون إلى المسجد تشعرون بحالة من الانبساط، لكن، لمّا تذهبون من هناك إلى محلّ المعصية، فإنّكم ترون بأنّ حالكم قد تغيّر، وليس أنّ الحال الذي كان لديكم في المسجد يبقى، لا، فهو لا يبقى.
الآثار السلبيّة للتقصير في إدارة العائلة
فالمهمّ كما أمر العظماء هو أن يُحافظ الإنسان على هذه الحال ويجعلها مستقرّة؛ ففي ذلك الحين، ستترسّخ [في نفسه]؛ وحينئذ، سيصير الإنسان "مُعقّمًا"، بحيث لن تتمكّن المسائل المختلفة من التأثير فيه أبدًا؛ لكنّنا لا نجده كذلك؛ فهو اليوم بهذه الحالة، وغدًا بحالة أخرى، وهكذا دواليك، إلى أن تمرّ عشر سنوات، فنجده بالنحو ذاته؛ لماذا؟ لأنّه في حالة تذبذب وتغيّر وتبدّل دائم؛ ومن هنا، فإنّ مراعاة شؤون العائلة من الناحية الدينيّة مسألة تحظى بأهمّية بالغة، ومن التكاليف التي وضعها الله تعالى، حيث تقع على عاتق الأب والأم، لا سيّما الأب باعتباره يحظى بمسؤوليّة تربويّة، ويتعيّن عليه العمل بهذه المسألة في حقّ زوجته وأولاده؛ وأمّا إذا لم يعمل بها، فإنّ ذلك سيُؤدّي إلى الإضرار بهم، وليس هذا فقط، بل سيتسبّب أيضًا في أن يحطّ الله تعالى من نصيبه، ولن يمنحه ذلك الحال الذي كان سيمنحه إيّاه؛ لماذا؟ لأنّه قصّر في أداء الأمانة؛ فهل استوعبتم الآن أهمّية هذه المسألة؟ ولا يخفى أنّ هناك العديد من القضايا المطروحة في هذا المجال، لكنّنا سنتركها إلى فرصة قادمة؛ إذ علينا الآن أن نبحث عن المسائل الأهمّ. فإلى هنا، نكون قد تحدّثنا عن بعض المسؤوليّات التي يتحمّلها الأب تجاه الزوجة والأولاد؛ وبنحو إجماليّ، وكما جرت الإشارة إليه، على الإنسان أن يُخصّص وقتًا في البيت للزوجة والأولاد، وأن تكون لديه فرصة للجلوس معهم، والتحدّث إليهم عن المسائل المفيدة التي تتناسب مع مستواهم ودرجة استعدادهم، وأن يجعل الأجواء دافئة وحميميّة، ويمدّ جسور الصداقة معهم، لا أن يُبرز جانب التسلّط فقط؛ أي: عليه أن يُشعرهم بالألفة، بحيث لا يرى الابن نفسه منفصلاً عن أبيه، وأنّهما شخصان اثنان، ولا يُطيعه لمجرّد الخوف منه؛ أجل، في بعض الأحيان، قد يلزم إظهار نوع من القدرة التربويّة، وقوّة الهيمنة والسيطرة الأبويّة؛ لكن، في جميع الأحوال، على الإنسان أن يكون مطّلعًا على المسائل ذات الصلة بالمواقف المختلفة، ويُقيّم بدقّة كلّ ظرف، حتّى يتمكّن من المساهمة في التطوّر السليم.
أسلوب التعامل مع الزوجة
وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة للمرأة، حيث ينبغي مراعاتها، وعدم مصارحتها بكلّ شيء يرتبط بها، ولا مواجهتها بجميع المسائل كيفما كانت؛ وعلى حدّ قول أمير المؤمنين عليه السلام: الحياة على ثلاثة أقسام؛ قسمان منها مبنيان على التغافل، وقسم مبنيّ على الصفح؛ ففي القسمين الأوّلين، على الإنسان اللجوء إلى التجاهل، وفي القسم الأخير، قد يُضطرّ للتنبيه أحيانًا، فليفعل ذلك، لكن، ليصفح في الأخير، ولا يُصرّ على المسألة كثيرًا؛ أجل، في الموارد التي يشعر فيها أنّ الانفتاح قد يُفضي إلى خروج الأمر عن سيطرته، وخروج الارتباطات عن دائرة سلطته، بحيث يتسلّل الفاسدون إلى محيط البيت؛ فحينئذ، عليه أن يُبدي نوعًا من المقاومة؛ فمتى ما رأى الإنسان أنّ الجانب التربويّ يخرج عن سيطرته بسبب تغلغل بعض الأفراد، وأنّ الآخرين يُؤثّرون بنحو سلبيّ، فعليه أن يواجه ذلك؛ غاية الأمر يجب أن تكون مواجهتُه بالتي هي أحسن: ﴿ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾۱.
فهذه مجموعةٌ من المسائل تتعلّق بالعلاقة القائمة بين الأب والأبناء، وبالواجب الذي ألقاه الله تعالى على عاتق مسؤول العائلة؛ وفي هذا المجال، فإنّ كافّة الأمور التي تُطرح بشأن العائلة متّخذة ـ كما هو مبنانا في هذه المسألة ـ من نصّ الروايات، وكذلك ـ مثلما وعدنا سابقًا ـ من المبادئ والأصول التي قرّرها المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، ونصّ خطبه وكلماته، حيث سعيت حتّى الإمكان ألاّ أضيف في هذا المجال أيّ مسألة من عندي؛ اللهمّ إلاّ في الموضع الذي يحتاج إلى شرح أو توضيح.
وجوب طاعة الوالدين مجعول في صفّ وجوب التوحيد
وأمّا بالنسبة للتكاليف التي تقع على عاتق الولد والبنت أو الزوجة تجاه الزوج أو الوالد، فتوجد لدينا آية قرآنيّة شريفة عجيبة جدًّا تتحدّث عن وظيفة الابن، كما أنّ العبارات التي أوردها العظماء في هذا الباب محيّرة جدًّا، حيث جاء في الآية الكريمة: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيمًا﴾،٢ ﴿وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛٣ فانظروا هنا كيف جعل الله تعالى طاعة الأب والأمّ إلى جانب طاعته وعبوديّته هو؛ وهذه مسألة مهمّة جدًّا؛ ولو أردت أن أميط اللثام عليها، لتعجّبتم من كيف أنّ هذه المسائل لم تصل إلى أسماعكم إلى حدّ الآن؛ فطاعة الولد للأب والأمّ طاعةٌ جعلها الله في صفّ طاعته هو، حيث حكم تعالى بذلك؛ لأنّ القضاء يعني الحكم التكوينيّ؛ أي أنّ الباري عزّ وجلّ وضع هذا الحكم التشريعيّ على أساس عالم التكوين؛ وهذا هو معنى القضاء. فالحكم يعني وضع القضاء الإلهيّ على أساس هذه الأمور؛ وما هي هذه الأمور؟ هي الأمور التكوينيّة بطبيعة الحال. فالمسائل التشريعيّة عبارة عن مسائل ابتدائيّة اعتباريّة، وأحكام معتبرة من قبل الله تعالى وضعها على أساس التكوين، وجعلها من أجل تكامل هذه الركيزة والأساس؛ أجل، لو أنّ الله تعالى خلق مخلوقات غيرنا، لجعل لها أحكامًا مختلفة؛ وأمّا هذا الإنسان بما يمتلكه من خصائص، واستعدادات، وصفات نفسانيّة، وتوازن جسمانيّ، وسمات روحيّة، فإنّ له أحكامًا خاصّة.. ﴿وَقَضى رَبُّكَ﴾ عبارة عن حكم إلهيّ، وهو أعلى من مقام الاعتبار؛ لأنّه حكم. فالحكم الإلهيّ تعلّق بـ ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾؛ فسواءً صعدتم إلى الأعلى أو نزلتم إلى الأسفل، فإنّه يتعيّن عليكم ألاّ تعبدوا إلاّ الله تعالى؛ وهذه العبادة عبارة عن حكم إلهيّ وقضاء ربّاني.. ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ...﴾٤؛ فالله تعالى يغفر كلّ شيء غير الشرك؛ مهما كان هذا الشيء؛ فمسألة الشرك عجيبة جدًّا! أجل، يبقى أنّ ذلك في حالة ما إذا لم يكن هذا المشرك مستضعفًا، بل كان شركُه عن عناد؛ لأنّ قضيّة الاستضعاف والقصور الثقافيّ الدينيّ قضيّة أخرى؛ فإذا لجأ أحدٌ إلى الشرك بالله عن عناد، فإنّه تعالى لا يتجاوز عن ذلك، بينما يقبل التوبة عن كلّ ما سوى ذلك.
﴿وَقَضى رَبُّكَ﴾ يعني أنّ الله تعالى حكم بـ ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾؛ وهل تعلمون أيضًا ما المراد من العبادة؟ المراد منها: أن يكون الله تعالى هو ذلك الأمر الذي نهدف إليه في كافّة مراحل حياتنا، ثمّ نقوم بتطبيق بقيّة المسائل عليه، ونجعل محور حركتنا وحياتنا في الدنيا يتّجه نحوه؛ لا أن نقوم بالفعل أوّلاً، وبعدما نصل إلى نهايته، نُفكّر كم كان نصيب الله تعالى من هذا الفعل؛ فمنذ أوّل خطوة نخطوها خارج المنزل، علينا أن نضع في نيّتنا أن تكون هذه الخطوة لله تعالى؛ فإذا جاء يوم، والتزمنا بهذا العمل، فسوف نرى أنّ هذا اليوم مختلف عن اليوم السابق، وأنّ أفكارنا قد تغيّرت، ومواقفنا قد تبدّلت، وهكذا الشأن بالنسبة لحركاتنا وتصرّفاتنا، حيث صارت بأجمعها مختلفة. ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ فكلّ واحد يستطيع ذلك بحسب المرتبة التي يوجد فيها؛ فـ ﴿قَضى رَبُّكَ﴾ عبارة عن حكم مرتبط بعالم التكوين .. ﴿ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا﴾ أي أنّ الباري عزّ وجلّ جعل مسألة الإحسان إلى الوالدين بجانب الحكم التكوينيّ بعبادته تعالى، وبجانب الحكم التكوينيّ بتوحيده؛ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما﴾؛ فقد يكبُر أحدهما، أو كلاهما، ويصل عمره إلى سنّ الشيخوخة، ويخرج عن حالة الاعتدال؛ إذ حينما يكبر سنّ المرء، ويشيخ، فإنّ أحواله تتغيّر، وصبره، وشؤونه، وبقيّة خصائصه تتبدّل؛ فإذا رأيت منه في بعض الأحيان أمورًا مزعجة أو قسوةً في التعامل، ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾؛ فلا يأتي يومٌ، وتُقطّب وجهك أمامهما.. ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾ أي لا تتعامل معهما بحالة من الضجر؛ كأن تقول: «ماذا؟ ما هذا؟»؛ فالآية لا تقول: «عليك ألاّ تُسيء الكلام معهما»، ولا تقول: «عليك ألاّ تشتمهما»، ناهيك عن بقيّة الأمور الأخرى، بل تنهى عن مجرّد حالة الضجر التي قد تبرز من خلال العينين والحاجبين وملامح الوجه؛ ولدينا رواية يقول فيها الرسول الأكرم: لو أنّ الله تعالى وجد كلمة أقلّ من هذه للدلالة على الضجر، لأتى بها؛ فهل تعلمون ما الذي أريد قوله؟ أريد أن أقول: إذا لجأ الإنسان إلى القيام ـ لا قدّر الله تعالى، لا قدّر الله تعالى ـ بقليل من هذه الأفعال تجاه أبيه أو أمّه، فإنّ جميع عباداته ستذهب أدراج الرياح، وستفنى كلّها؛ ولقد كان المرحوم العلاّمة يقول: مفتاح الجنّة بالنسبة للولد هما الأب والأمّ، فإذا قمنا بتضييع هذا المفتاح ....
رضا الوالدين مفتاح من مفاتيح السير والسلوك
ذهبت برفقة المرحوم العلاّمة إلى مكان ما لزيارة أحد الأشخاص، حيث كان يرعى والدته المريضة التي كانت مقعدة وتحتاج إلى رعاية زائدة؛ وقد كان يظهر أنّ أفراد العائلة أصابهم الضجر قليلاً، وأصيبوا بالإنهاك؛ لأنّها كانت تحتاج إلى عناية زائدة؛ فأحسّ المرحوم العلاّمة بهذا الأمر، فتحدّث عن رواية تقول: إذا حصلت للإنسان مثل هذه الظروف ...، وهنا، ينبغي حقًّا أن يُوفّق الله تعالى الإنسان؛ فمن جهة، يرى المرء هذه المائدة ممدودة أمامه؛ ومن جهة أخرى، يرى عدم وجود استعداد واهتمام بهذه المسألة في نفسه؛ وخلاصة القول، على الإنسان هنا أن يطلب التوفيق من الله تعالى فقط. قال [المرحوم العلاّمة]: لو تعلمون كم سيمنحكم الله مقابل تمريض هذه الأمّ والاعتناء بها كلّ يوم، لطلبتم منه تعالى أن تبقى أمّكم على هذه الحالة ما دمتم على قيد الحياة! ولقلتم: حذار أن تتحسّن صحّتها في يوم من الأيّام، فيُسلب منّا هذا التوفيق، وهذا العمل، وهذا التمريض، وينتفي.
فنحن نظنّ أنّ الأمر يقتصر على أن نقول: هذا هو طريق الله تعالى، وهذا هو السلوك، وقد صرنا من السلاّك في طريق ...؛ لكن، حينما ننظر إلى حقيقة المسألة، فإنّنا نرى بأنّ السلوك عبارة عن تحصيل رضا الوالدين؛ وهذا هو معنى السلوك؛ وذلك بغضّ النظر عمّن يكون هذين الوالدين، فتلك المسألة تخصّهما، وذلك أمر بينهما وبين الله تعالى.
جاء أحدهم عند المرحوم العلاّمة، وقال له: «يا سيّدي، أبي شيوعيّ، ولا دين له أساسًا؛ وقد سلك منهجًا مغايرًا، فكيف يتوجّب عليّ التعامل معه؟»، حيث كان قد غيّر سلوكه [تجاه أبيه]، وصار يتعامل معه بلامبالاة. هل تعلمون ما الذي قال له المرحوم العلاّمة؟ وهل سمعتم أنّ أحدًا قال له مثل هذا الكلام؟ حيث قال له: «عليك أن تتعامل معه، وكأنّه أحد شيعة أمير المؤمنين عليه السلام»؛ فإن كان شيوعيًّا، فإنّ ذلك أمر بينه وبين إلهه؛ فما دخلك أنت بذلك؟ عليك أن تقوم بتكليفك، وتعدّه كأحد شيعة أمير المؤمنين؛ مع أنّك لا تعترف باعتقاداته، ولا تقبل بمبادئه، ولا ترضخ لكلّ شيء يقوله؛ وهكذا ينبغي أن يكون عليه الأمر، حيث لدينا آية قرآنيّة شريفة تقول: ﴿وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما﴾۱، فإذا شعرت في موضع ما بأنّهما يُريدان أن يفرضا عليك تكليفًا مخالفًا للتكليف الإلهيّ، فإنّ الواجب عليك هنا ألاّ تطيعهما؛ لكنّ المراد من ذلك ليس هو أن تقف في وجهيهما، بل تتحدّث معهما بأسلوب لطيف: ﴿وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيمًا﴾؛ فتقول لهما بصوت منخفض وناعم: «لا يا والدي العزيز، لا يا والدتي العزيزة، فهذه المسألة التي تقولانها محلّ تأمّل، وسأذهب الآن، وأفكّر فيها، وأُبدي رأيي بشأنها»، ثمّ وبطريقة من الطرق، يقوم الإنسان تدريجيًّا ...؛ وأمّا أن ينهض، ويقف في وجهيهما، ... لماذا؟ لأنّ هذا هو الطريق الذي وضعه الله تعالى.
أذكر أنّه في الزمان السابق، وفي ذلك السفر الذي تشرّف فيه [المرحوم العلاّمة] بزيارة كربلاء، وذهب للقاء المرحوم السيّد الحدّاد، كان هذا الأخير يشتكي من أحد أصدقاء المرحوم العلاّمة، ويقول للعلاّمة رحمة الله تعالى عليه: «لماذا لا تُحدّث هذا الرجل بهذه المسائل؟»، حيث كان لهذا الرجل تعلّق شديد بالمرحوم السيّد الحدّاد، وكان يستغلّ كلّ فرصة متاحة للذهاب إلى كربلاء، وزيارته؛ لكنّ أباه كان يُعارض ذهابه إلى هناك؛ إذ لم تكن له علاقة وطيدة به؛ أجل، كان يتردّد عليه؛ لكنّه لم يكن يرغب أن تكون لابنه علاقة كبيرة به، ولم يكن يرتضي أن يذهب عنده؛ فكان ذلك الشخص يذهب [إلى كربلاء]؛ وعلى حدّ قول المرحوم العلاّمة: بعدما يصل إلى هناك، كان يتّصل بالهاتف، ليُخبر عن وجوده بذلك المكان؛ وذلك بعدما يكون قد فات الأوان؛ بينما لو أنّه قال ذلك منذ البداية، لما سمح له أبوه بالذهاب. وبعد ذلك، قال السيّد الحدّاد (وانظروا إلى مقدار دقّة هذه المسألة): أيّها السيّد، أيّة زيارة هذه لا تحصل فيها على رضى أبيك؟ وأيّة زيارة هذه للإمام الحسين لا يكون فيها أبوك راض عنك؟ ما هذه الزيارة؟ وأيّة زيارة هذه يكون فيها أبوك منزعجًا وغير راض عن ذهابك؟ أ تظنّ بأنّك تجني شيئًا من هذه الزيارة؟ فهل على الذي يُحبّ وليًّا من الأولياء أن يُحبّ ولايته وطريقه، أم يُحبّ شكله الظاهريّ فقط؟ فالشكل الظاهريّ واحد في الجميع؛ بينما يقول ذلك الوليّ والعارف: إنّ طريقي هو طريق التوحيد، وسبيلي هو سبيل رسول الله، ومنهجي هو منهج الإسلام؛ وهذه هي أوامر الله تعالى؛ فإن كنت تُريد اتّباعي، فإنّه يتعين عليك عدم المجيء إلى كربلاء، وعدم لقائي.
طريق السلوك الالتزام بالمباديء وليس التظاهر
ففي الجلسة السابقة، تحدّثنا عن ذلك الرجل الذي كان يلجأ للمناوءة، ويترك زوجته وأولاده لوحدهم، ويبقى ليالي الجمعة عند السيّد الحدّاد، حيث قلنا إنّه كان يُواجهه بحالة من الاضطراب والحدّة والشدّة؛ لماذا؟ لأنّ طريق الله تعالى ليس هو طريق التظاهر؛ والله سبحانه يقول: إذا أردت المجيء عندي، عليك الدخول من هذا الباب؛ إذ لم يُجعل السطح طريقًا للدخول إلى البيت، بل الباب هو الطريق للدخول إليه؛ لكنّك تجدنا نُريد الولوج من السطح، فنلقي بحبل إلى هناك، حتّى نصعد إلى الأعلى؛ هذا، مع أنّ صاحب البيت لا يرضى بذلك؛ لأنّ البيت توجد فيه نساء، وتحدث فيه أمور مختصّة بصاحبه؛ فإذا سعيت للدخول من السطح، فإنّك ستكون قد ارتكبت عملاً مخالفًا لرأي ربّ البيت، وبالرغم عنه... فما الذي تُريد القيام به؟ الدخول؟ حسنًا، ستقع عيناك على غير المحارم؛ كما أنّ لهذا المنزل أسراره الخاصّة، ولا يجوز لك الاطّلاع عليها؛ هل التفتّم؟ لقد وضعوا طريقًا، وجعلوا جرسًا؛ فعليك أن تقف عند الباب، وتقرع الجرس، فإمّا أن يأتيك الجواب بالدخول، أو عدم الدخول إلى وقت آخر؛ وذلك بحسب ما يراه ربّ البيت الذي قد يُعيّن لك موعدًا آخر. إنّ طريق الله تعالى والمسير إليه لا ينسجمان مع اللفّ والدوران؛ فالطريق هو طريق رسول الله؛ وما هو هذا الطريق؟ إنّه الطريق الذي سلكه أويس [القرنيّ]؛ فهو لم يلتق بالنبيّ الأكرم طيلة حياته، ونحن على علم بهذه المسائل، حيث لم يعُد يَقَرّ له قرار من شدّة محبّته لرسول الله وتعطّشه لزيارته، ونفذ صبره؛ وعندئذ، استأذن من أمّه لكي تسمح له بالذهاب لمدّة نصف يوم؛ وانظروا كم هي دقيقة هذه المسائل، وكيف يتمّ تخطيطها؛ فاستجازها في نصف يوم، ثمّ جاء إلى المدينة؛ لكن، حينما وصل إلى هناك، رأى بأنّ الرسول غير موجود.. وا ويلتاه! ما هو البرنامج؟ ألاّ يكون النبيّ موجودًا في المدينة؛ وإلاّ، لو كان موجودًا هناك، لما تحصّل [أويس] على أيّ شيء؛ ولهذا، ينبغي ألاّ يكون الرسول موجودًا في المدينة؛ وأمّه لم تأذن له في أكثر من نصف يوم؛ وفي هذه الحالة، فإنّ رسول الله سيقول له ارجع؛ لأنّك استجزت أمّك في نصف يوم، وعليك الرجوع وفاءً لعهدك؛ فهذا الذي يُقال له طريق الله؛ وحينئذ، سيصير أويس أويسًا!
فرسول الله لم يقل عنه هكذا سُدىً: إنّه يشفع في مثل عدد خرفان كلّ الجزيرة العربيّة؛ أي أنّ بوسعه الشفاعة في مثل جميع الماشية الموجودة في اليمن و...؛ فأيّ استعداد وتحمّل يتوفّر عليه هذا الرجل، حتّى صار بمقدوره التخليص من العذاب إلى هذه الدرجة؟ فما هو السبب في ذلك؟ سببه أنّه سلك طريق رسول الله، ولم يقل: إنّني أحبّ رسول الله، فدعنا إذن من [ذلك العهد]! سأقول لأمّي: إنّ ناقتي مرضت في الطريق؛ ولهذا، فقد تأخّرت نصف يوم بسببها؛ أو أنّها أصيبت بعطل في العجلات؛ مع أنّ الناقة ليس لها عجلات!!! أو افرضوا أنّها أصيبت بمرض، فتأخّرتُ بسببها؛ وقد أُصبتُ أنا أيضًا بالحمّى لمدّة يومين. فقد كان بوسعه قول هكذا أمور، وخداع تلك الأمّ المسكينة؛ لأنّها لا تمتلك علم الغيب؛ ولهذا، كانت ستقبل منه هذا الكلام؛ لكن، ما نتيجة ذلك؟ سيضيع نصيبه! فإذا التزم بنصف يوم، فإنّ عليه أن يظلّ نصف يوم [ويرجع]؛ فما إن قفل عائدًا، حتّى دخل الرسول المدينة؛ لكن ماذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال: «إنّي أشمّ رائحة الرحمن من طرف اليمن»۱؛ فهو لم يقل أشمّ روح الجنّة، بل قال أشمّ روح الله تعالى؛ فهذا هو الذي يصير أويسًا!
يا سماحة السيّد الفلانيّ، هل كانت محبّتك للسيّد الحدّاد بمقدار محبّة أويس [لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم]؟ أقسم بالله تعالى أنّها لم تكن كذلك؛ فأنا على علم بهذا الأمر. فإذا كان السيّد الحدّاد يريد أن يُربّيك، ويجعلك أويسًا في مرتبتك الخاصّة، فلماذا تخدع نفسك، وتُغلق باب السعادة في وجهها؟ هل تعلم أنّك بواسطة اتّباعك لأبيك وطاعته والانقياد له ستحصل على ما لو ذهبت ألف مرّة عند السيّد الحدّاد والتقيت به، لربّما ما حصلت عليه؟ لأنّ [قيمة ذلك الانقياد] تفوق [ذهابك] بكثير؛ لماذا؟ لأنّ الأمر بيد الله؛ وهو تعالى يقول: «ثوابي هو بهذا النحو»! فمن يستطيع منعه؟! فهو تعالى يقول: «إذا تمّت المسألة بهذا النحو، فإنّني سأمنح ثوابًا، وإذا تمّت بنحو آخر، فإنّني لن أمنحه»! ونتيجة ذلك واضحة.
لقد انقضى الوقت المسموح به قبل مدّة طويلة؛ وذكرنا أنّ هناك مسألتين تتعلّقان بالطاعة: الأولى طاعة الولد لأبيه، والثانية ـ وهي أهمّ وأهمّ وأهمّ بكثير ـ طاعة المرأة لزوجها؛ وسنكلها إلى الجلسات اللاحقة إن شاء الله تعالى.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد