المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم الفقه والأصول
المجموعة ولاية الفقيه في حكومة الإسلام
التوضيح
الدَّرسُ الثَّالِثُ عَشَر: حديثُ كميلٍ أقْوَى دَلِيلٍ عَلَى وَلايَةِ الفَقِيهِ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
كان بحثنا يدور حول حديث كميل بن زياد الذي نقله الخاصّة و العامّة. قال كميل: "أخذ بيدي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأخرجني إلى الجبّان، فلمّا أصحر تنفّس الصعداء ثمّ قال: يَا كُمَيْلُ! إنَّ هَذِهِ القُلُوبَ أوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أوْعَاهَا؛ فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أقُولُ لَكَ!"
و يدور كلام الإمام عليه السلام في جميع مسائل هذه الفقرات التي بيّنها لكميل حول العلم و العالِم. و بيّن له ما للعلم من أهمّيّة و درجة و كمال.
و كان كميل رجلًا عظيماً، و إذا لم نتمكّن من عدِّه من أصحاب الدرجة الاولي لأمير المؤمنين عليه السلام أمثال: ميثَم التَّمَّار و حُجْر بن عَديّ و رُشَيْد الهَجَريّ و حبيب بن مظاهر، فينبغي- علي الأقليّ- أن نعدّه من خواصّه و كبار شيعته عليه السلام. و هذه المطالب التي ذكرها له أمير المؤمنين عليه السلام جواباً عن سؤاله: ما الحقيقة؟- و هو حديث معروف- تدلّ على شخصيّته و عظمته.
يقول عليه السلام: إنَّ هذه القلوب أوعية، و أفضلها و خيرها القلب الذي تكون سعته أكبر؛ و إنَّما تكون سعة القلب بالعلم؛ ثمَّ يبيّن في هذا المجال بعض الامور إلى أن يقول: "اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أرْضِهِ". فهؤلاء هم الحجج الإلهيّة و العلماء الربّانيّون و خلفاء الله على الأرض و أصحاب الولاية، حيث يحصر أمير المؤمنين عليه السلام الخلافة فيهم.
جميع الناس على ثلاث طوائف
أي أنّه يريد أن يقول: إنَّ الخلافة الإلهيّة على الأرض إنَّما هي بالعلم فقط، و كلّما كانت سعة القلب للعلم أكبر، فحظّه من الولاية أوفر؛ و تكون الولاية الكلّيّة الإلهيّة لصاحب العلم المطلق. و إذا تجاوزنا ذلك فإنَّ الأشخاص الآخرين يتمتّعون بدرجات الولاية بحسب درجات قلوبهم و إدراكهم و علومهم. و كلّ مَن يصل إلى العلوم الواقعيّة و الحقيقيّة الإلهيّة، فإنَّه ينال من مقام الخلافة و الولاية بمقدار ما له من تلك العلوم. ثمّ قسّم الإمام عليه السلام الناس إلى ثلاث طوائف، فقال: "النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَ مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَ هَمَجٌ رعَاعٌ".
فـ النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: أي أنَّ جميع الناس بلا استثناء لا يعدون ثلاث طوائف، إمَّا عالم ربّانيّ؛ أو متعلّم على سبيل نجاة؛ أو غُثاء بلا شخصيّة و لا أصالة، ينتشرون كما ينتشر البعوض و الذباب في الفضاء، و ينعقون مع كلّ ناعق، و يميلون مع كلّ هبة ريح.
و من خلال قوله عليه السلام: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ يُعلَم أنّه من ضمن التقسيم، لأنّه عليه السلام واحد من الناس.
ثمّ يتابع الإمام عليه السلام قوله إلى أن يصل إلى قوله: "العُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ؛ أعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَ أمْثَالُهُمْ فِي القُلُوبِ مَوْجُودَةٌ". و من المسلّم به أنَّ قوله "العُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ" يشمل نفسه عليه السلام أيضاً، لأنَّ الإمام لا يريد استثناء نفسه من هذا المعني.
أفراد قليلون، قائم للّه بالحجّة، إمّا ظاهر مشهور أو خائف مغمور
ثمّ يقول عليه السلام: "هَا! إنَّ هَاهنا لَعِلْماً جَمّاً لَوْ أصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً!" بيد أنّي- و للأسف الشديد- لا أجد مَن اعلّمه علمي و احمّله إيّاه، لأنَّ هؤلاء العلماء الموجودين بين الناس حاليّاً لا يتجاوزون هذه الأصناف الأربعة، و جميعهم لا يصلح لما اريد، و ذلك لأنّهم:
إمَّا علماءٌ من ذوي الفهم و الإدراك الجيّدين، ممّن لا تنطلي عليهم الخدع، لكنّهم لا يملكون ثباتاً و استقراراً من حيث الإيمان ليمكنني الركون إليهم، فهم اناس قد جعلوا الدين آلة للدنيا، و استظهروا بعلومهم و بنعم الله و تجرءوا على أوليائه، و يستعلون على عباده.
أو أنّهم من المنقادين و المطيعين و المأمونين، لكنّهم يفتقدون قوّة الفكر و من الممكن أن ينخدعوا ببساطة، لأنّهم بسطاء و ممكن أن ينحرفوا بقليل من الشكّ، فهم لا يصلحون، لأنّهم لا يمتلكون القابليّة و السعة لتحمّل العلم.
أو علماءٌ لا همَّ لهم إلّا اللذّة و الشهوة، ممّن أرْخَوا العنان للذّاتهم النفسيّة و شهواتهم، و غرقوا في أنحاء اللذّة و الشهوة، سواء المادّيّة أم الاعتباريّة أو حبّ الجاه و الرئاسة. و ممّن يعشقون الاسم و المظاهر و المقام و المرتبة و الجاه و أمثال ذلك.
أو من المخدوعين بجمع الأموال الدنيويّة، و المأخوذين بالتقاط و خزن الحطام. و من هنا فإنَّ هاتين الطائفتين لا تستطيعان أن تكونا من حرّاس الدين المبين أو حماة الشريعة. فما أشبه هؤلاء بالأنعام! و مع هذا الوضع و هذه الحال فإنَّ العلم يموت بموت العلماء الذين يحملونه.
فلا تصلح أيّة واحدة من هذه الطوائف الأربع لحمل العلم، و لذلك جاء في رواية النهي عن تعليم الحكمة لغير أهلها، لأنَّ من يعلِّم الحكمة لغير أهلها كمن يعلّق الجواهر في عنق الخنزير. فلا تعلِّموا الحكمة لغير
أهلها فتظلموها، و لا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
ثمّ يقول عليه السلام: "اللّهُمَّ بَلَى! لَا تَخْلُو الأرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ؛ إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَ بَيِّنَاتُهُ؛ وَ كَمْ ذَا، وَ أينَ اولَئِكَ؟!"
أجل؛ هناك طائفة قليلة جدّاً اولئك المتعلّمون على سبيل نجاة، و هم الذين سيصلون إلى مقام العلماء الربّانيّين، و يصبحون من الكاملين على وجه الأرض ممّن يمكنني تحميلهم علمي. و لكن أين يجدهم الإنسان يا تري! إذ من المؤسف إنّهم نادرون.
و لقد شغل هؤلاء العلماء من هذه الطوائف الأربع كلّ مكان، و صاروا يمثّلون السواد الأعظم، فأين سيجد الإنسان اولئك الأفراد النادرين؟ و الله تعالي لا يدع الأرض دون حجّة!
فهناك أشخاص يقومون بالحقّ من أجل إنقاذ عباد الله، و ذلك من خلال الاعتماد على أنفسهم و علومهم و أصالتهم، لكنّهم قليلون جدّاً "كَمْ ذَا، وَ أينَ اولَئِكَ؟"
"إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً"؛ فلقد كان لدينا طوال زمان الغيبة من هؤلاء الأعلام المشهورين من أمثال الشيخ المُفيد، السيّد المُرتَضى، العلّامة الحِلّيّ، ابن فَهْد الحلّيّ، السيّد ابن طاوس، السيّد بحر العلوم و الملّا حسين قلي الهمدانيّ رضوان الله عليهم، الذين قاموا بالحقّ، و دعوا الناس إلى شريعة الحقّ و قادوهم إلى الحقّ.
"أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً": من أمثال ميثم التمّار، حُجْر بن عَديّ، رُشَيْد الهَجَريّ، سعيد بن جُبَيْر، حبيب بن مظاهر، الشهيد الأوّل، الشهيد الثاني، القاضي نور الله الشوشتريّ و أمثالهم، الذين كانوا حججاً إلهيّة حقّاً، و حماة للدين و المذهب، و حفظة للشريعة، و لكن أين هم؟ و كم
هم؟ قد تمرّ عدّة قرون دون أن يجد الإنسان أكثر من شخصين أو ثلاثة من أمثالهم، و لذا يقول عليه السلام: كم هم قليلون؟
"اولَئِكَ وَ اللهِ الأقَلُّونَ عَدَداً، وَ الأعْظَمُونَ قَدْراً": يحفظ الله حججه و بيّناته بواسطة هؤلاء إلى أن يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ. أي: أشباههم من حيث القابليّة و الاستعداد و سعة القلوب.
و عليهم أن يحمّلوهم الحجج الإلهيّة، و يعلّموهم هذه الأسرار الإلهيّة "وَ يَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أشْبَاهِهِمْ"، لأنّهم اناس "هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ".
هجم بهم العلم من جميع النواحي و أحاط بهم فغاصوا في بحاره و ليس ذلك علم اعتباريّ و تخيّليّ و ظنّيّ، بل هو حقيقة البصيرة و الإدراك و العلم.
فهؤلاء قد تمكّنوا من حقيقة معدن العلم و منبعه، و باشروا لروح اليقين، فكلّ ما استصعبه أهل الترف و اللذّة و الدلال في هذا العالم، فهو عندهم سهل يسير. و كلّ ما يهابه الجاهلون، فإنّهم يأنسون به. يعاشرون الناس بأبدانهم، و لكنَّ أرواحهم معلّقة بالمحلّ الأعلى "اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أرْضهِ. وَ الدُّعَاةُ إلَى دِينِهِ. آهِ، آهِ! شَوْقاً إلَى رؤْيَتِهِمْ".
تحرك ميثم التمّار من الكوفة قاصداً الحجّ، و لمّا وصل المدينة رغب في زيارة الشهداء عليهم السلام لكنَّ الإمام لم يكن في المدينة، فأتي إلى امِّ سَلِمَة؛ فاستقبلته استقبالًا حسناً، ثمّ سألته عن اسمه؛ فقال: أنا ميثم. فقالت له: يا ميثمُ! كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يذكرك بخير في الليالي المظلمة. هذا مع أنَّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يكن قد رأي ميثماً.
فلا يتعجّب الإنسان من قول أمير المؤمنين عليه السلام: "آهِ، آهِ!
شَوْقاً إلَى رُؤْيَتِهِمْ!"، لأنَّ النبيّ مشتاق إلى رؤيتهم أيضاً. و كلّ من كان وليّاً للَّه فهو في عين ولاية الله، و له هناك معيّة معهم، كما كان لسلمان معيّة مع أهل البيت.
إنَّ جملة: "اللّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الأرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً" مطلقة، لأنَّ لفظ الإمام المختصّ بأئمّة الشيعة غير موجود في هذه العبارة (إذ لا يجوز في مدرسة الشيعة أن يُطلق لفظ الإمام على غير المعصوم، و لذا يقال لهم «الإماميّة»، حيث إنَّ الشيعة منسوبون إلى الإمام المعصوم لا الإمام بمعني القائد، و إلّا فكلّ طائفة و فرقة إماميّة، لأنَّ لها قائد. و من المسلّم بين علماء الشيعة و حتّى بين علماء أهل السنّة أنَّ من خصائص الشيعة عدم استعمالهم لفظ «الإمام» لغير الإمام المعصوم. بينما يطلق هذا المصطلح بين أهل السنّة و العامّة على كلّ زعيم و حاكم و شخص كبير).
لا يوجد في هذه الرواية لفظ «الإمام» حتّى نقول إنَّ لها انصرافاً أو اختصاصاً بالإمام المعصوم، و إنَّما الإمام عليه السلام يقول بشكل عامّ: إنَّ الأرض لا تخلو من أشخاص ممتلكين اليقين و العلم، متمكّنين من العلم في عينه، و هم من الحجج الإلهيّة. نعم؛ إمَّا مشهورون و الناس تعرفهم؛ و إمَّا مغمورون في الحبس و السجن، و إن لم يكونوا في الحبس و السجن و النفي، فلا من مطّلع على أحوالهم و علومهم، لأنَّ ظروفهم لا تسمح لهم إفشاء علومهم.
دلالة حديث كميل على ولاية الفقيه في: القضاء و الإفتاء و الحكومة
فالرواية بإطلاقها تدلّ على أنَّ الأشخاص المالكين هكذا صفات و خصوصيّات- التي بيّنها الإمام لكميل- فهم: "خُلَفَاءُ اللهِ فِي أرْضِهِ" و أصحاب الولاية.
و يكمننا أن نستفيد من هذا الإطلاق الولايةَ في المقامات الثلاثة: في
الإفتاء و القضاء و الحكومة، لأنَّ اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أرْضِهِ لها إطلاق و فيها حصر. و بشكل عامّ فقد جعل الإمام الخلافة هنا مقرونة بالعلم، فتجري الولاية في جميع شئونها في اولئك الذين هم نبع العلم و حقيقة الولاية، و ترشح منهم.
إشكال العلّامة المجلسي في حصره مفاد الحديث بالإمام المعصوم
يقول العلّامة المجلسيّ في «بحار الأنوار»: وَ لَمَّا كانَتْ سِلْسِلَةُ العِلْمِ وَ العِرْفانِ لا تَنْقَطِعُ بِالكُلِّيَّةِ ما دامَ نَوْعُ الإنْسانِ، بَلْ لا بُدَّ مِنْ إمامٍ حافِظٍ لِلدِّينِ فِي كُلِّ زَمانٍ، اسْتَدْرَكَ أميرُ المؤْمِنينَ عَلَيهِ السَّلامُ كَلامَهُ هَذا بِقَوْلِهِ: اللّهُمَّ بَلَى!- وَ في «النَّهْجِ»-: «لَا تَخْلُو الأرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ؛ إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً.»- وَ في «تُحَفِ العُقولِ»-: «مِنْ قَائِمٍ بِحُجَّتِهِ إمَّا ظَاهِراً مَكْشُوفاً أوْ خَائِفاً مُفْرَداً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَ بَيّنَاتُهُ وَ رُوَاةُ كِتَابِهِ».
وَ الإمامُ الظَّاهِرُ المَشْهورُ، كَأميرِ المؤْمِنينَ صَلَواتُ اللهِ عَلَيهِ؛ و الخائِفُ المَغْمورُ، كَالقائِمِ في زَمانِنا، وَ كَباقي الأئِمَّةِ المَسْتورينَ لِلخَوْفِ وَ التَّقِيَّةِ. وَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ باقي الأئِمَّةِ عَلَيهِمُ السَّلامُ داخِلينَ في الظَّاهِرِ المَشْهورِ. [لأنَّ بإمكان كلّ إمام (سواء كان في السجن أم في التقيّة) أن يلتقي بالناس، و عليه ف- «الخائف المغمور» يختصّ بالقائم عليه السلام].
إلى أن يقول: وَ عَلَى الثانِي، يَكونُ الحافِظونَ وَ المودِعونَ، الأئِمَّةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ؛ وَ عَلَى الأوَّلِ، يُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ المُرادُ شيعَتَهُمُ الحافِظينَ لأدْيانِهِمْ في غَيْبَتِهِمْ.۱
فإذا اختصّ «الظاهر المشهور» بأمير المؤمنين عليه السلام و «الخائف
المغمور» ببقيّة الأئمّة عليهم السلام، فسيكون أمر حفظ الدين عند غيابهم على أيدي شيعتهم الذين كانوا يتولّون تدبير حوائج الناس من قِبَلهم.
و إذا كان «الظاهر المشهور» يشمل جميع الأئمّة عليهم السلام في قبال إمام الزمان، فعندها يكون الأئمّة عليهم السلام هم حماة الدين و حفظته، لا شيعتهم.
ففي عبارة المرحوم المجلسيّ: وَ الإمامُ الظَّاهِرُ المَشْهورُ كَأميرِ المُؤمِنين احتمالان:
الاحتمال الأوّل: أن يكون قد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام من باب المثال، كما كان يمكنه أن يقول: بهذا النحو أيضاً: مثل أمير المؤمنين صلوات الله عليه و بحر العلوم و السيّد ابن طاوس و أمثالهم. و أن يقول أيضاً: وَ الخائِفُ المَغْمورُ كَالْقائِم، من باب المثال، حيث إنَّه لا كلام في هذه الصورة.
الاحتمال الثاني: من باب الاختصاص، فيريد أن يقول إنَّ الإمام المشهور مختصّ بأمير المؤمنين عليه السلام، و الخائف المغمور مختصّ بالقائم عليه السلام. و هذا الكلام محلّ إشكال. نعم؛ لا كلام في أنَّ الإمام الظاهر المشهور مختصّ بأمير المؤمنين عليه السلام، و لكنَّ الكلام في عدم احتواء الرواية على لفظ «الإمام»، حيث يقول عليه السلام: «اللّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الأرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ». فقد جاء في الرواية لفظ «قَائِمٍ لِلَّهِ» و فيه إطلاق يشمل الأئمّة و بقيّة العلماء العاملين الذين هم علماء ربّانيّون. و لا يوجد أيّ دليل على اختصاص هذه الرواية بالأئمّة المعصومين عليهم السلام.
أقُول: إنَّ لزوم بقاء العلم و العرفان في نوع الإنسان، و لزوم إمام حافظ للدين في كلّ زمان ممّا لا إشكالَ فيه، إنَّما الكلام في أنَّ محطّ سياق
هذا الخبر هل هو للدلالة على لزوم إمام بالخصوص في كلّ زمان، و هل أراد الإمام عليه السلام إيصال هذا المعني؟
أو أراد أن يُفهم على لزوم طائفة من العلماء الربّانيّين في كلّ زمان و مِنْهُمْ:- بَلْ وَ عَلَى فَوْقِهِمُ- الإمامُ في كُلِّ حينٍ؟ فما الذي تدلّ عليه رواية السيّد الرضيّ و الآخرين عن كميل؟
القرائن الدالّة في الرواية على عدم الحصر، و إطلاقها لكلّ عالم ربّانيّ
لا كلام في وجوب وجود إمام معصوم في كلّ زمان؛ و لكن، هل هذا الخبر ناظر لخصوص الإمام المعصوم أم أنَّ له إطلاق؟
و كلامنا هنا، أنَّ لفظ «إمام» و ما شابَهَهُ غير موجود- في الرواية- فلا اختصاص للإمام المعصوم هنا. وَ إنَّما فيهِ: "لَا تَخْلُو الأرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ؛ إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً"؛ و هذه عناوين كلّيّة تنطبق في كلّ برهة و زمان على جمع من العلماء الربّانيّين الحافظين للبيّنات و الحجج الإلهيّة، و المودعون للعلوم و الأسرار الإلهيّة للنظراء، و الزارعون للحقائق و المعارف الإلهيّة في قلوب الأشباه. فهي عناوين عامّة، و باقية على عموميّتها. و معلوم أنَّ الإمام أعلى مصداق لانطباق هذه العناوين، لا أنها مختصّة به.
وَ مِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، هو: كلام الإمام في تقسيم الناس على اختلاف أصنافهم و طبقاتهم إلى ثلاث طوائف. فقد قسّم الإمام جميع أصناف الناس عَلَى اخْتِلافِ أصْنافِهِمْ وَ طَبَقاتِهِمْ إلَى ثَلَاثِ طَوائِف: "عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَ هَمَجٌ رعَاعٌ". و ما فصّله في ذيل هذه الجملة إنَّما هو تفسير و شرح لها. الإمام عليه السلام نفسه داخل في هذا التقسيم. و بناء عليه فالإمام عليه السلام من العلماء الربّانيّين. و هذا دليل على أنَّ القَائِم لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، المشهور منه و المغمور ليس خارجاً عن هذا التقسيم، و إذا قيل بأنَّ العالم الربّانيّ منحصر بالإمام المعصوم؛ فنجيب: أنَّ هذا الأمر ليس صحيحاً
لا لغة و لا اعتباراً.
أمّا من ناحية اللغة: فلا دليل على أنَّ العالم الربّانيّ منحصر بالإمام المعصوم. و قد نقل المجلسيّ كلام بعض أئمّة اللغة و الأدب في هذا المجال؛ يقول: الرَّبّانِيُّ: مَنْسوبٌ إلَى الرَّبِّ، بِزِيادَةِ الألِفِ وَ النُّونِ عَلَى خِلافِ القِياسِ، كَالرَّقَبَانِيّ.
و قالَ الجَوْهَريُّ: الرَّبَّانِيّ: المُتَألِّهُ العَارِفُ بِاللهِ تَعَالَى. وَ كَذا قالَ الفَيْرُوزْآبَادِيُّ.
و قالَ في «الكَشَّافِ»: الرَّبَّانِيُّ: هُوَ شَديدُ التَّمَسُّكِ بِدينِ اللهِ تَعالَى وَ طاعَتِهِ.
و قالَ في «مَجْمَعِ البَيَانِ»: هُوَ الَّذي يَرُبُّ أمْرَ النَّاسِ بِتَدْبيرِهِ وَ إصْلاحِهِ إيَّاهُ.
ربّانيّ، منسوب إلى الربّ و «الياء» المشدّدة في آخره ياء النسبة. يعني يجب أن نقول: رَبِّيّ؛ غاية الأمر قد اضيفت هنا ألف و نون بين «ربّ» و بين «ياء» النسبة، مثل: رَقَبَة، حيث كان يجب أن نقول: رَقَبِيّ؛ و لكن يقال: رَقَبانيّ.
قال الجوهريّ و الفيروزآباديّ: إنَّ «الربّانيّ هو المتألّه العارف بالله تعالي. و قال الزمخشريّ في «الكشّاف»: الربّانيّ: هو شديد التمسّك بدين الله تعالي و طاعته»، يعني الإلهيّ. فـ العالم الربّانيّ: هو ذلك العالم الذي علاقته و شغله مع الله. فيسمّي صاحب العلاقة الشديدة بالله ربّ العالمين عالم ربّانيّ، و نحن نطلق عليها اصطلاحاً: الإلهيّ.
و قال في «مجمع البيان»: الربّانيّ: هو الذي يربّ أمر الناس (الربّ من مادّة التربية، و يسمّي الله الربّ، لأنّه يَرُبُّ النَّاسَ) فـ الربّانيّ، هو ذلك العالم الذي يعالج مشاكل الناس، و يدعوهم إلى كمالهم، و يربّيهم.
و هذه المعاني لا تنحصر بالإمام المعصوم لكي نقول: إنَّ العالم الربّانيّ هو الإمام المعصوم فقط. نعم؛ الإمام عليه السلام ربّانيّ و عالم ربّانيّ و هو في الدرجة العليا من ذلك، لكنَّ كلامنا في الانحصار، و اللغة لا تحصر الربّانيّ في الإمام المعصوم.
و أمّا من ناحية الاعتبار: هل لا نمتلك عالماً ربّانيّاً غير الأئمّة المعصومين عليهم السلام؟ أ لم يكن السيّد ابن طاوس أو بحر العلوم رضوان الله عليهما علماء ربّانيّين، بل كانا متعلّمين؟! هل يمكننا القول: لم يأت في الإسلام عالم ربّانيّ واحد منذ زمان المعصومين حتّى يومنا الحاضر، و إنَّ سائر الناس هَمَجٌ رعَاع و كان جميعهم متعلّمين؟! كما وصفهم الإمام في ذلك! فهل لا يصل اولئك الأشخاص المعدودين من العلماء الربّانيّين الذين قال عنهم عليه السلام كَمْ ذَا و أينَ اولَئِكَ؟ و علي قلّتهم- ففي كلّ زمان يصل شخص أو اثنان أو ثلاثة في ناحية من نواحي العالم الإسلاميّ- إلى مقام الكمال، و اجتياز مرحلة التعلّم و الوصول إلى شريعة الولاية؟
ينقل صاحب «روضات الجنّات» عن أبي عليّ صاحب «منتهي المقال» الذي كان معاصراً للمرحوم السيّد بحر العلوم، أنّه كتب حول السيّد ما يلي: «السيّد السند، و الركن المعتمد، مولانا السيّد مهدي بن السيّد مرتضي بن السيّد محمّد الحسنيّ الحسينيّ الطباطبائيّ النجفيّ أطال الله بقاءه و أدام الله علوّه و نعماءه، الإمام الذي لم تسمح بمثله الأيّام، و الهمام الذي عقمت عن إنتاج شكله الأعوام، سيّد العلماء الأعلام، و مولي فضلاء الإسلام، علّامة دهره و زمانه، و وحيد عصره و أوانه.
إن تكلّم في المعقول، قلت هذا الشيخ الرئيس فَمَن بقراط و أفلاطون و أرسطاطاليس؟! و إن باحث في المنقول، قلت هذا علّامة المحقّق بفنون
الفروع و الاصول. لم يناظر في فنّ الكلام أحداً إلّا قلت هذا و الله علم الهدي. و إذا فسّر الكتاب المجيد و أصغيت إليه ذهلت و خلت كأنّه الذي أنزله الله عليه! (أ تدرون ما ذا يقول؟ يقول عند تفسير القرآن تنسي أنَّ هذا القرآن قد نزل على النبيّ، و يحسب أنَّ القرآن قد نزل عليه هو ...) و داره الميمونة الآن محطّ رحال العلماء، و مفزع الجهابذة و الفضلاء. و هو بعد الاستاذ (العلّامة الوحيد البهبهانيّ) دام عُلاهما، إمام أئمّة العراق، و سيّد الفضلاء علي الإطلاق، إليه يفزع علماؤها، و منه يأخذ عظماؤها، و هو كعبتها التي تطوي إليه المراحل، و بحرها الموّاج الذي لا يوجد له ساحل، مع كرامات باهرة، و مآثر و آيات ظاهرة».۱
يذكر هذه الامور أبو على الذي كان معاصراً لبحر العلوم في «منتهي المقال»، و ذلك بحسب نقل صاحب «الروضات» عنه. فهل هناك مجال للقول بأنَّ هذا الرجل لم يصل بعد إلى مرحلة الكمال؟ فلأيّ شيء قد جاء الإسلام إذن؟! هل من الصحيح أن نقول إنَّ الإسلام جاء لكي يربّي مَن كان هَمَجٌ رُعَاعٌ؟! أو أن نقول إنَّ جميع الأشخاص "مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ" و يجب أن يبقوا ناقصين حتّى الموت؟!
لنا اعتراض هنا على العلّامة المجلسيّ رحمة الله عليه رحمة واسعة، مع أنّه جدّنا، حيث لا ينبغي للإنسان التجاوز في التعبير عمّا خطّه الأئمّة عليهم السلام من نهج. فإذا أردتم أن تبالغوا في مسألة ما، و كان في تلك المبالغة هدم لبعض أعمدة الدين، فمن المقطوع به أنَّ أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السلام سوف لن يؤيّدونه.
صحيح أنَّ الإمام على رأس جميع الموجودات، و هذا محفوظ في محلّه، لكنَّ الكلام في: ما الذي تريد هذه الرواية بيانه؟ و لما ذا تسقطون إطلاق هذه الرواية و تقيّدونها؟
لقد بيّنتُ أنّه يحتمل في كلامه أن يكون قوله: «كَأمير المُؤمِنين» أو «كَالقائِمِ في زَمانِنا» على سبيل التشبيه، مع كونه احتمالًا بعيداً. و قوّة الاحتمال الآخر (كونه من باب الاختصاص لا التمثيل) أكبر، فكلام المرحوم المجلسيّ إذَن ليس تامّاً، و للرواية إطلاق في أنَّ العلماء بالله و بأمر الله في كلّ زمان و مكان، الواجدين لهذه الخصوصيّات لهم مقام الخلافة الإلهيّة و الولاية.
معني: يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَ يَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، عامّ...
و من المعلوم أنّه يوجد عدولًا من الفقهاء و الطاهرين في كلّ زمان، يؤيّدون الدين المبين و يشيدون النهج القويم و ينحّون عنه تحريف الغالين و بدع الضالّين، و ينطبق عليهم الرَّبَّانيّ في كلّ من هذه المعاني، حيث إنَّهم بتعلّق قلوبهم بالأسرار الإلهيّة صاروا متألّهين، و متمسّكين بدين الله و مُربّي الناس بِتَدبيرِهِمْ وَ إصْلاحِهِمْ إيّاهُمْ.
على أنّه صرّح في هذا الخبر الشريف بأن: "يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَ بَيِّنَاتِهِ حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَ يَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أشْبَاهِهِمْ".
فهل يودع الإمام تلك الأسرار الإلهيّة في قلوب أشخاص مثله؟ كلّا؛ و إنَّما الحجج الإلهيّة و العلماء الربّانيّين يضعون هذه الأسرار الإلهيّة في قلوب أمثالهم و يزرعونها في أفئدة نظرائهم و أشباههم. فلا نظير للإمام و لا شبيه من الامَّة حتّى يصبح إيداع و زرع تلك الحجج و البيّنات في قلوب النظير و الشبيه. فيتّضح: أنَّ المراد من النظراء و الأشباه جماعة من العلماء الربّانيّين العاملين، تدارسوا و تعلّموا و تتلمذوا في مكتب العلماء الربّانيّين تحت رعايتهم و حفظهم و كلاءتهم في كلتا مرحلتي العلم و العمل حتّى
صعدوا من سلّم العلم و المعرفة إلى أقصى مدارجه وَ بَلَغوا مِنْ مَدارِجِ اليَقينِ وَ التَّفْويضِ وَ التَّسْليمِ أعْلى مَعارِجِه، و بلغوا من المنازل فصاروا مثل المودعين و الزارعين، علماء ربّانيّين، و قد صاروا مثل أساتذتهم و علمائهم الذين درّسوهم و ربّوهم فأوصلوهم إلى المعارف الإلهيّة و إلي مقام الولاية.
بينما الإمام المعصوم ليس له شبيه و لا نظير. و مقام الإمام المعصوم أعلى من هؤلاء و أجلّ. فالمقصود من العلماء الربّانيّين المذكورين في هذه الرواية هم اولئك العلماء الذين جلسوا على مسند التعليم و أخذوا بأيديهم أزمّة الهداية و قادوا الناس إلى مصالحهم، باعتبارهم المتولّون لزمام المصلحة الواقعيّة للناس و الحافظون لبنيان بيّنات الله و حججه على الأرض. وَ هَكَذا كُلُّ خَلَفٍ عَنْ سَلَف.
و يؤيّده أيضاً، ما ورد في «تحف العقول»: "لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَ بَيِّنَاتُهُ وَ رُوَاةُ كِتَابِهِ". فمن هم رُواةُ الكِتاب؟ و هل يمكن القول إنَّهم نفس الأئمّة؟ نعم؛ يمكن القول في "حُجَجُ اللهِ وَ بَيِّنَاتُهُ": إنَّ الدرجة العليا في ذلك هي للإمام، لكنّه ليس راوٍ للكتاب، و كما هو معلوم: أنَ "رُواةُ الكتاب" هم العلماء العاملون الذين قد تربّوا على أيدي الربّانيّين- في كلّ زمان و مكان-. فهم رواة كتاب الله و سنّة رسوله.
و هذه الرواية صريحة في ولاية العلماء الفقهاء. أي أنّه يجب أن يكونوا علماء و في أرقي مدارج الفقه، حيث إنَّ الإمام عليه السلام قد حصر الولاية فيهم بِقَوْلِهِ: اولَئِكَ امَنَاءُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَ خُلَفَاؤُهُ فِي أرْضِهِ، وَ سُرُجُهُ فِي بِلَادِهِ، وَ الدُّعَاةُ إلَى دِينِهِ.
فعناوين: الامَناء، الخُلَفاء، السُّرُج، الدُّعَاة تستلزم الولاية و الخلافة الإلهيّة في جميع الشئون العباديّة و الاجتماعيّة و السياسيّة من الإفتاء و القضاء و الحكومة، بِمَراحِلِها و أنْواعِها.
وَ لَعَمْري! و لعمري! إنَّ هذه الرواية العالية الغالية (التي نصّ المجلسيّ في شرحها بأنّها كَثيرَةُ الجَدْوَى للطالبين و من الأجدر أن يقوم طلّاب العلم كلّ يوم بمطالعتها و النظر إليها بنظر الاعتبار و اليقين) مِنْ أدَلِّ الرّواياتِ الوارِدَةِ عَلَى وِلايَةِ الفَقيهِ العَادِلِ الجامِعِ لِلشَّرائِط. و لا أدري لأيّ جهة لم يُشر إليها الأعلام و لم يأخذوا بها في باب القضاء و الحكومة كدليل من أدلّة ولاية الفقيه. و لم يستند إليها الشيخ الأنصاريّ في «المكاسب» و النراقيّ في «المستند» و «عوائد الأيّام» و لم يذكروها من جملة أدلّة الولاية مع أنّها مِنْ أدَلِّها وَ أصْرَحِها وَ أقْواها سَنَداً وَ مَتْناً.
مَن لا يتّصف بمفاد هذا الحديث من العلماء، غاصب لمقام الولاية
و لو أشكل البعض بخصوص ما جاء في هذه الرواية لمكان بعض الخواصّ و الآثار المذكورة فيها، مثل قوله عليه السلام: "هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ وَ بَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ". أو قوله: "وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأبْدَانٍ أرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأعْلَى". فهذه المعاني عالية جدّاً و في ذروة الرقيّ و السموّ، لكنّها لا تتناسب مع الأشخاص الذين هم من أهل التعليم و التعلّم و التدريس و المباحثة. فينبغي حملها على جماعة من أهل اليقين الذين ساروا في طريق السير و السلوك و الرياضات الشرعيّة و تهذيب النفس و العرفان و الأسرار الإلهيّة، لانطباق هذه الصفات عليهم.
و نجيب على ذلك بـ أنَّ هذا التوجيه ليس صحيحاً على الإطلاق، لأنَّ الإمام عليه السلام في هذه الرواية قد حصر خلافة الله على الأرض و الدعوة إلى دينه بهؤلاء الأشخاص، و يقول: من يتمكّن من الدعوة، و يتأهّل لخلافة الله على أرضه، هو من تجسّدت فيه الصفات، لا غير؛ بينما أخرج الطوائف الأربع من ذلك. فلا يمكننا أن نحمل هذه الرواية على الأشخاص الخارجين عن مجال التدريس و التعلّم و المنشغلين بالأعمال الشخصيّة و السير و السلوك. و لا مناص من أن يكون الداعي الربّانيّ
و خليفة الله هم العلماء و الفقهاء العاملون بالتعليم و التعلّم و الدرس و التدريس، و ذو و العقل الوافي و الكافي، و أهل الخبرة و البصيرة في السياسة و إدارة امور الناس و أوضاع الزمان، بالإضافة لاتّصافهم بما ذكر الإمام عليه السلام من صفات؛ وَ إلَّا لَا يَكونُ خَليفَةَ اللهِ. ففاقد هذه الصفات لا يكون خليفة الله و داعياً، بل يكون غاصباً لهذا المنصب العظيم، و مطروداً من زمرة عباد الله الصالحين، و من جملة الأولياء المقرّبين.
الفقيه المنصوب من قبل الإمام، و صاحب الولاية الكلّيّة، و القائم بالامور، و الحاكم على النفوس و الأموال و الأعراض، و المربّي للبشر نيابة عن الإمام لا بدّ من أن يكون واجداً لهذه الصفات بالضرورة و القطع.
و قد وردت أخبار كثيرة مستفيضة و متواترة حول اقتران العلم و العمل، و القدر المؤيّد من علم الإنسان ما يكون به عاملًا، و ما سوي ذلك خيال. و قد ورد نهي أكيد عن تصدّي غير العالم الربّانيّ الخارج عن إطاعة هواه و المطيع لأمر مولاه للُامور العامّة، من القضاء و الحكومة و المرجعيّة. و لدينا روايات كثيرة جدّاً ناظرة إلى هذا المعني، فلا بدّ للذين يتصدّون لُامور الناس من أن يكونوا امناء الله في مرحلتي العلم و العمل، و علي درجة عالية من التقوي، و من أصحاب الأسرار و الحجج الإلهيّة، و هم و الحال هذه ممّن يصدق عليهم قوله عليه السلام: "هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ"، و قوله: "وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأبْدَانٍ أرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَلإ الأعْلَى أو بِالمَحَلِّ الأعْلَى".
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ الرَّابِعُ عَشَر: بحث حولَ حديثِ: مَجَارِي الامُورِ وَ الأحْكَامِ عَلَى أيْدِي العُلَمَاءِ بِاللهِ وَ الامَنَاءِ عَلَى حَلَالَهِ وَ حَرَامِهِ؛ و حديث: اللّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي.
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
خطبة سيّد الشهداء أو أمير المؤمنين عليهما السلام
من الأدلّة الصريحة على ولاية الفقيه، الرواية التي ينقلها الشيخ الثقة أبو محمّد، الحسن بن عليّ بن الحسين بن شُعبة الحَرَّانِيّ، في «تحف العقول» في باب الروايات المنقولة عن الإمام التقيّ السِّبط الشهيد أبي عبد الله الحسين بن عليّ عليهما السلام، ضمن خطبته عليه السلام في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، حيث يقول:
"اعْتَبِروا أيُّهَا النَّاسُ بِمَا وَعَظَ اللهُ بِهِ أوْلِيَاءَهُ مِنْ سُوءِ ثَنَائِهِ عَلَى الأحْبَارِ!"
ثمّ استمرّ عليه السلام في كلامه إلى أن يقول: "وَ أنْتُمْ أعْظَمُ النَّاسِ مُصِيبَةً لِمَا غَلَبْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَنَازِلِ العُلَمَاءِ لَوْ كُنْتُمْ تَسَعُونَ ذَلِكَ بِأنَّ مَجَارِيَ الامُورِ وَ الأحْكَامِ عَلَى أيْدِي العُلَماءِ بِاللهِ، الامَناءِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ".۱
و ورد في «تحف العقول» أيضاً أنَّ هذه الخطبة مرويّة عن أمير المؤمنين عليه السلام كذلك.
"أنْتُمْ أعْظَمُ النَّاسِ مُصِيبَةً لِمَا غَلَبْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَنَازِلِ العُلَماءِ".
غَلَبَ الرَّجُلَ، وَ غَلَبَ عَلَيهِ؛ يعني: قَهَرَهُ وَ اعْتَزَّ بِهِ. اعْتَزَّ عَلَى فُلانٍ: أيْ تَعَظَّمَ عَلَيهِ وَ غَلَبَهُ.
لِمَا غَلَبْتُمْ عَلَيْهِ: أي أنّكم جعلتم منازل العلماء و درجاتهم و مقاماتهم في مكان أدني، و ترفّعتم و تعظّمتم عليهم. و هذا الطامّة الكبرى لكم! فبتعظيمكم أنفسكم و تفضيل منزلتكم في مقابل عظمة العلماء و منزلتهم قد أصبتم أنفسكم بأعظم مصيبة!
و لو كانت لكم القدرة على الإحاطة بهذا الأمر و استيعابه و فهمه، لعلمتم أنَّ محلّ و مجري الأحكام بيد العلماء بالله الامناء على حلاله و حرامه.
و المراد هنا من مَجَارِيَ الامُورِ وَ الأحْكَامِ، هو مجاري الامور و الأحكام الاجتماعيّة، الراجعة إلى سياسة المدن، و تربية الأشخاص و حفظهم من المفاسد و العدوّ، و إيصالهم إلى السعادة الكاملة، بإخراج قابليّاتهم إلى مرحلة الفعليّة، و تحريرهم من أسر العوز و الفقر و المرض و الهلاك و الجهل، و مساعدتهم كي لا يرحلوا من هذه الدنيا قبل أوان النضج و قبل وصول قابليّاتهم و قواهم إلى مرحلة الفعليّة.
مصيبتكم عظيمة جدّاً، بسبب هذا الترفّع و التكبّر الذي جعلتموه في أنفسكم مقابل منزلة و قدر و قيمة العلماء، فإنَّ مجاري الامور و الأحكام بيد العلماء.
و توضيح الأمر: قسّم العلماء الحكمة إلى قسمين: الحكمة النظريّة و الحكمة العمليّة.
الحكمة النظريّة: هي ما يلزم لأجل كمال النفس الإنسانيّة من ناحية السير في المعارف و تكميل القوي العاقلة للإنسان.
الحكمة العمليّة: ترجع إلى الأعمال التي يقوم بها الإنسان لأجل كماله، و هي مقدّمة لاكتمال العقل.
و يقسّمون الحكمة العمليّة أيضاً إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: علم تهذيب النفس، الذي يرتبط بالأخلاق؛ الثاني: سياسة المُدُن؛ الثالث: تدبير المنزل.
و سياسة المدن- القسم الثاني من الحكمة العمليّة- تنقسم إلى قسمين:
الأوّل: حفظ العلاقات الداخليّة للناس، و إيصال ما يحتاجونه إليهم، و إقامة العدالة الكاملة بينهم، و إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه على النحو الأتمّ و الأكمل بشكل لا يكون هناك أيّ حيف و تمييز في المجتمع، و لا يكون ثمّة تفضيل لشخص على آخر من غير سبب. و تلبية الحاجات الضروريّة لكلّ أفراد المجتمع. و بعبارة اخرى: تأمين حاجات المجتمع، و كلّ مجتمع حسب حاجاته.
الثاني: دفع العدوّ الخارجيّ، حيث ينبغي لأفراد كلّ مجتمع- للحفاظ على ثبات و ديمومة مجتمعهم- أن يكونوا مجهّزين بالأجهزة الدفاعيّة التي تمكّنهم من دفع العدوّ الخارجيّ و حماية كيانهم. و لو كانت ثقافة المجتمع رفيعة جدّاً، و وضعه المالي مستقرّاً و لا يمتلك القوّة الدفاعيّة و لا يتمكّن من حفظ كيانه أمام تجاوز العدوّ أيّاً ما كان، فلا شكّ من انهيار مجتمع كهذا و زواله.
و لذا، نري أنَّ كلّ المجتمعات- التي اطّلعنا عليها إلى الآن في التأريخ- بالإضافة إلى سعيها من أجل حفظ قواها الداخليّة و تأمين السعادة
الداخليّة تعمل على امتلاك قوّة دفاعيّة أيضاً لمواجهة العدوّ الخارجيّ، لتتمكّن بواسطتها من إبعاد العدوّ بأيّ شكل كان- سواء من الناحية السياسيّة أم للحدّ من نفوذه في منطقتها و مجتمعها- و لمنعه من التحرّك و ردعه، حتّى أنَّ جهود بعض المجتمعات المبذولة للدفاع و التخلّص من أضرار العدوّ الخارجيّ تفوق ما تبذله لحفظ الداخل، و ترصد لذلك الميزانيّات، و إن كانت على حساب ميزانيّاتها الداخليّة.
و كان اهتمام كبار العلماء الدائم بهذا القسم من الحكمة الإلهيّة في كلا الموردين، سواء مورد جلب المنافع الذي يرجع إلى داخل المجتمع و المحيط، أم جانب دفع مضارّ العدوّ الخارجيّ لكي لا يتعرّض المجتمع إلى الضرر، و لو على نحو الاحتمال.
و الدفاع عن الحدود من العدوّ من المسائل المهمّة جدّاً، و عُرِفَ بعنوان حفظ بيضة الإسلام، و لحفظ بيضة الإسلام أهمّيّة كبري. و حفظ بيضة الإسلام، يعني: حفظ المجتمع الإسلاميّ، و حكومته، و سياسته، و المحافظة على إسلاميّة المجتمع من شرور الأعداء؛ و هو أوجب من كلّ شيء، و ألزم و أهمّ. و يعبّر عن ذلك في المجتمعات غير الإسلاميّة بالوطنيّة.
و أشارت العبارة الشريفة إلى أنَّ المراد من: مَجَارِيَ الامُورِ وَ الأحْكَامِ، هو حفظ بيضة الإسلام بتلك الامور و الأحكام من شرّ العدوّ. و سيبقى الإسلام قويّاً إذا ما جعلت جميع هذه الأحكام و الامور بيد العلماء بالله و الامناء على حلاله و حرامه. و إلّا، فإذا كُسرت بيضة الإسلام فيعني زوال وحدة المسلمين، و محو دينهم- بعد أن يصاب بالضربات- من صفحة الوجود.
قول الشهيد الثاني في العلماء بالله و بأمر الله
و لتوضيح هذه الرواية الشريفة، نورد كلاماً للشهيد الثاني قاله في
«منية المريد» و من ثمّ نقوم بشرحه.
يقول رحمه الله- بالطبع لم يكن ذلك بمناسبة شرح هذه الرواية، و إنّما في مطلب مستقلّ تعرّض له-: إنَّ العلوم كلّها ترجع إلى أمرين: الأوّل: علم معاملة، الثاني: علم معرفة. (و ربّما كان مراده من علم المعاملة و علم المعرفة الحكمة العمليّة و الحكمة النظريّة).
"فَعِلْمُ المُعامَلَةِ هُوَ مَعْرِفَةُ الحَلالِ وَ الحَرامِ وَ نَظائِرِهِما مِنَ الأحْكامِ، وَ مَعْرِفَةُ أخْلاقِ النَّفْسِ المَذْمومَةِ وَ المَحْمودَةِ وَ كَيْفيَّةِ عِلاجِها وَ الفِرارِ مِنْهَا."
"وَ عِلْمُ المَعْرِفَةِ مِثلُ العِلْمِ بِاللهِ تَعالَى وَ صِفاتِهِ وَ أسْمائِه"
و ما عداهما من العلوم إمَّا آلات لهذه العلوم أو يراد بها عمل من الأعمال في الجملة، كما لا يخفي على من تتبّعها. و ظاهر أنَّ علوم المعاملة لا تُراد إلّا للعمل.
علم المعاملة هو العلم الذي يكون لأجل العمل، فعلم الحلال و الحرام و علم الأخلاق لها فائدة عمليّة، و إذا كان الإنسان حائزاً لهذه العلوم و لكن لا يعمل بها فليس هناك أيّ فائدة. ثمّ يقول:
و حينئذٍ فنقول: المُحكم للعلوم الشرعيّة و نحوها إذا أهمل تفقّد جوارحه و حفظها عن المعاصي، و إلزامها الطاعات، و ترقّيها من الفرائض إلى النوافل، و من الواجبات إلى السنن اتّكالًا عَلَى اتِّصَافِهِ بِالعِلْمِ، و أنّه في نفسه هو المقصود، مَغْرورٌ في نَفْسِهِ، مَخْدوعٌ عَنْ دينِهِ، تُلْبَسُ عَلَيهِ عاقِبَةُ عَمَلِهِ. (أي: أنَّ هذا الشخص مريض و مغرور بنحو غير قابل للعلاج).
ثمّ بعد أن يشبّه الشهيد الثاني هذا العالم المغرور بشخص مريض يورد شرحاً نافعاً للغاية تتمة للمطلب.۱
مفاد: مَجَارِي الامُورِ وَ الاحْكَامِ؛ و: الامين في الحلال و الحرام
و بناءً على كلام هذا العظيم أقول: العلماء على ثلاثة أقسام:
الأوّل: عالِمٌ بِاللهِ؛ وَ هُوَ الَّذي تَشَرَّفَ بِلِقائِهِ تَعالَى وَ أدْرَكَ تَوْحيدَهُ الذَّاتيَّ وَ الصِّفاتيَّ وَ الأفْعاليّ.
الثاني: عالِمٌ بِأمْرِ اللهِ؛ وَ هُوَ الَّذي تَعَلَّمَ مِنَ العُلومِ الرَّسْمِيَّةِ التَّفْكيرِيَّةِ قَدْراً يَعْلَمُ بِهِ الأحْكامَ الجُزْئِيَّةَ في العِباداتِ وَ المُعامَلاتِ وَ السِّياساتِ وَ غَيْرِها.
الثالث: عالِمٌ بِاللهِ وَ بِأمْرِ اللهِ.
و هو العالم الذي تجلّي في قلبه أنوار الملكوت، فخرج عن حبّ الدنيا من حضيض الناسوت و انشرح صدره للإسلام، و اتّسع قلبه للقبول و تلقّي النفحات السبحانيّة من عالم الجبروت، و صار من أهل التوحيد، و دخل في ذروة اللاهوت.
هذا العالم، الذي هو عالم بالله وَ عَرَفَ رَبَّهُ بِرَبِّه؛ وَ عَرَفَ الخَلْقَ بِرَبِّه؛ فصار فانياً في ذات الله تعالي، و باقياً ببقائه، فسار في الخلق بالحقّ، و تمّ له الأسفار الأربعة، وَ هُوَ العالِمُ بِاللهِ وَ بِأمْرِ الله.
و هو الذي أشار إليه سيّد الشهداء حين قال: "بِأنَّ مَجَارِيَ الامُورِ وَ الأحْكَامِ عَلَى أيْدِي العُلَمَاءِ بِاللهِ، الامَنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ".
في ولاية الفقيه، يجب الجمع بين علمي الظاهر و الباطن
العلماء بالله و الامناء على حلاله و حرامه، يعني الأشخاص الحفظة الذين أكملوا أسفارهم من ناحية عالم البقاء، و نالوا العلم بالأحكام و السياسات، و حازوا مقام الوحدة في الكثرة و الكثرة في الوحدة في مرحلتي العلم بالله و العلم بأمر الله. و بناءً على هذا، فالعلماء بالله و العلماء بأمر الله هم اولئك الذين اختصّوا بمزيد لطف من الله بادخاله إيّاهم في
حرم قدسه، و إشرابهم من مصافي زلال علمه، و إفهامهم العلوم الاصطلاحيّة بنور الهي منه بِنورٍ إلَهيٍّ عَنْ تَحْقيقٍ وَ شُهود.
فهم لم يتعلّموا العلوم التفكيريّة و الرسميّة عن طريق المطالعة و الحفظ و التعلّم و الإلقاء فحسب، و إنّما تعلّموا تلك العلوم التفكيريّة و الرسميّة عن تحقيق و شهود. يقول الله تعالي في القرآن المجيد: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}۱.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}٢.
و شاهدنا هنا هو ذلك النور الذي يعطيه الله للإنسان و يتحرّك الإنسان بواسطته.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً}٣.
أي: يعطيكم ملكة و حالة و إدراكاً حتّى تشخصون تلقائيّا بالفرقان أيّ حقّ و باطل مباشرة، فلا يلتبس الحقّ بالباطل عليكم و لا تشتبهون، و لا تسقطون في الشبهات، فيكون الحقّ واضحاً لكم كالشمس الساطعة، و الباطل كذلك كاللجّة المظلمة و المكان المظلم، و لا يختلط الاثنان و لا يلتبسان عليكم أبداً.
فهذا الفرقان، فرقانٌ يفصل بين الحقّ و الباطل. و يمنّ الله عليكم به إذا اتّقيتم! فهو من لوازم التقوي.
فالعلماء بالله و بأمر الله هم وحدهم المأمونون على حلال الله
و حرامه، و هم الذين يقول عنهم الإمام عليه السلام هنا:
"مَجَارِي الامُورِ وَ الأحْكَامِ عَلَى أيْدِي العُلَمَاءِ بِاللهِ، الامَنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ" . لا كلّ من يدرس أيّاماً قلائل و حفظ صفحات من الكتب بلا دراية و رعاية و لا توحيد و لا معرفة، ثمّ يجلس على كرسيّ التدريس و يفتي عوامّ الناس العميان و يخاطبهم بما ضبطه و قرّره في ذهنه، لا يدري هو ما يقول، و اولئك المساكين الذين يتعلّمون منه لا يفهمون إلى أين ينتهي بهم آخر الأمر فضلَّ و أضلَّ عن سواء السبيل! [قال تعالي:] {وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ}۱.
«ضَلُّوا وَ أضَلُّوا» أي أنّهم بأنفسهم ضالّون، كما أنّهم يضلّون كلّ من تبعهم، فليس هؤلاء هم الذين قال عنهم الإمام عليه السلام: "مَجَارِي الامُورِ وَ الأحْكَامِ عَلَى أيْدِي العُلَمَاء باللهِ". و إنّما هم ليسوا بفقهاء، بل متسمّون بالفقه، إذ سمّوا أنفسهم فقهاء و جلسوا على مسند الحكم و غايتهم القصوى هي هذه الدنيا، و مقصدهم الأقصى هو هذا التدريس و الرئاسة و الحكومة، و الصعود على رقاب الناس، و نشر أسمائهم وصيتهم بين الناس، فها هنا غاية ما يهدفون إليه.
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى}٢.
يا لها من آية! تقول: إنَّ غايتهم و مبلغهم من الإدراك و الفهم منحصر بالحياة و لا يتجاوزها، فهم لا يتجاوزون الشهوات و حبّ الجاه و حبّ
الرئاسة. مَبْلَغُهُم؛ أي: إلى هنا ينتهي محلّ بلوغ فكرهم، فلا يستطيعون تجاوز هذا المحلّ، و إنَّ ربّك أعلم بمن ضَلَّ و انحرف عن سبيله و بمن اهتدى و سلك سبيله، أي أنَّ هؤلاء أشخاص ضالّون، و قد تاهوا عن الطريق.
كلام الاستاذ، آية الله الشيخ حسين الحلّيّ، حول الحديث المذكور
قالَ شَيْخُنا الاسْتاذُ المُحَقِّقُ المُدَقِّقُ، العَلَّامَةُ الفَهَّامَةُ، الشَّيْخُ حُسَيْنُ الحِلِّيُّ، تَغَمَّدَهُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ في مَجْلِسِ الدَّرْسِ عِنْدَ بَحْثِهِ عَنْ وِلايَةِ الفَقيه:
قالَ بَعْضُ العُلَماء: المراد بالعلماء بالله في هذه الرواية: قوم من أهل المعرفة رفضوا الدنيا عن قلوبهم و أمنوا من وساوس الشيطان و النفس الأمّارة، بإخلاصهم للَّه عزَّ و جلَّ و تفويضهم الأمر إليه. كَما قالَ مَوْلَانَا وَ إمامُنا أميرُ المُؤْمِنينَ سَلامُ اللهِ عَلَيهِ في خُطْبَتِهِ: "وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي البُرْهَةِ بَعْدَ البُرْهَةِ وَ فِي أزْمَانِ الفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ وَ كَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الأسْمَاعِ وَ الأبْصَارِ وَ الأفْئِدَةِ"۱.
و هي خطبة طويلة جدّاً و عجيبة، و قد أوردها المرحوم الشيخ تغمّده الله برحمته في الدرس من أوّلها إلى آخرها، ثمّ قال: فَهَؤُلاءِ هُمُ العُلَمَاءُ بِاللهِ حَقّاً.
ثمّ قال: هذا المقام منزل رفيع و شأن جليل: لا تَصِلُ أيْدِينا إلَيْه. نَعوذُ بِاللهِ مِنْ شُرورِ أنْفُسِنا وَ نَتَمَسَّكُ بِلُطْفِهِ وَ كَرَمِه.
كان استاذنا آية الله الشيخ حسين الحلّيّ رجلًا عظيماً من النادرين، و قد انفرد و تفرّد في العلم و التقوي و الزهد و الإعراض عن الرئاسات الدنيويّة، و كان رجلًا محقّقاً يحتاج جميع العلماء إلى علمه و فهمه و درايته،
و كلّما سئل عن مسألة- سواء في وقت الدرس أم خارجه، كأن يُسأل مثلًا عن فتواه و رأيه في بعض المسائل- ينظر إلى السائل و يقول: ما لي- و أنا أحمق- و الفتوى؟! إنَّ شغلنا ليس أكثر من مطالعة الكتب، و الحصول على بعض المطالب، ثمّ نبحث ذلك مع الزملاء!
و كان هذا الرجل الكبير و صاحب الشخصيّة العظيمة، و الذي يعتبر- علي التحقيق- أفضل من الحاجّ السيّد محسن الحكيم في دقّة النظر و سعة الاطّلاع و التبحّر في الفقه و الاصول، حتّى أنَّ نفس السيّد محسن كان يعترف بهذا، و كان في أثناء التدريس (و بعض دروسه موجودة عندي بتقرير منّي) يأتي ببعض عبارات الحاجّ السيّد محسن الحكيم رحمة الله عليه (بالطبع بصيغة قالَ بَعْضٌ أو قال بَعْضُ مُعاصِرينا من غير أن يذكر «مستمسك العروة») و يؤيّد حقّ المطلب من خلال تحليله لكلامه و ردّه بشكل جيّد جدّاً.
و لكنّه في نفس الوقت كان يحضر في بعض مجالس آية الله الحاجّ السيّد محسن الحكيم، و إذا ما جاء أحد ما من بغداد (كممثّل أو وزير أو محافظ) و طلب من المرحوم السيّد الحكيم إذناً بالحضور أو كان له سؤال أو استفتاء، فكان الشيخ الحلّيّ يذهب و يجلس في ذلك المجلس، و يستمع إلى كلامه، و يحلّ مسألته، و يجيب عليها كأيّ شخص عاديّ جدّاً.
و هذه عبارته التي قالها في أحد دروسه قبل أن يصبح المرحوم السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ مرجعاً و رئيساً، كنّا قد اتّفقنا مع أصدقائنا على أن لا نسمح بصيرورته مرجعاً، لأنّه لا يليق للقيادة الإسلاميّة. و لكن، بعد أن أصبح السيّد أبو الحسن رئيساً جمعتُ كلّ الأصدقاء و طلبت منهم التوقّف عن إثارة الأمر، لأنَّ مخالفة السيّد أبي الحسن اليوم هي معارضة لجعفر بن محمّد عليهما السلام. و قد كان ملتزماً بهذا الأمر عمليّاً، و هذا يعني أنّه
رحمة الله عليه كان يملك قلباً متواضعاً بالنسبة لكلّ شخص ينال موقعاً و رئاسة و يصبح شخصاً بارزاً في الإسلام، و كان يخدمه عمليّاً أيضاً، و لكن قبل أن يصير ذلك الشخص رئيساً لم يكن الأمر بهذا النحو، و لقد كان والد الشيخ حسين يُقيم صلاة الجماعة في الصحن المطهّر لأمير المؤمنين عليه السلام في النجف الأشرف، و بعد وفاته انتقلت إقامة الجماعة إليه رحمة الله عليه، لكنّه قدّم استاذه المرحوم آية الله النائينيّ، و بعد المرحوم النائينيّ و مع أنّه كان أفضل تلامذته، لكنّه لم يقبل بإقامة الصلاة مكانه، فقام بذلك آية الله الحاجّ السيّد محسن الحكيم، و أبي الشيخ حسين الحلّيّ القيام بهذا العمل، و كان يقول مراراً: إنَّ شغلي هو التدريس فقط، فأنا طالب علم. فلم يفتِ، و لم ينشر رسالة عمليّة، و لم يتصدّ لإمامة الجماعة. و أمّا في مجال الدرس و التحقيقات فكان له الباع الطويل في ذلك. و مهما قلتم فهو قليل في حقّه.
لقد كان يمتلك مقدار صندوق كامل من التقريرات و التحقيقات و الكتب المستقلّة في الفقه و الاصول.
صعوبة الاجتهاد، و التحرّر من الفتوى و الإمارة علي المسلمين
لقد تحدّث حول الاجتهاد و الدقّة التي تمتّع بها كبار العلماء (و إلي أيّ حدّ كانوا يجتنبون عن الفتوى، و لا يجعلون أنفسهم في معرض الإفتاء، و كم كانوا يخافون من الله العليّ الأعلى، و مع كونهم مجتهدين، إلّا أنّهم يمتنعون عن الفتوى، و هذا من متطلّبات شدّة تقواهم) فقال:
إنَّ بعض الاحتياطات الموجودة في الرسالة العمليّة بنحو الأحوَطِ الوجوبيّ هي في الأساس أحوط استحبابيّ؛ و لكن بما أنَّ ذلك المجتهد [صاحب الرسالة] يريد الامتناع عن إظهار الفتوى و لا يريد تحمّل مسئوليّة عمل الناس، فلذا يبيّن المسألة بنحو الأحوط الوجوبيّ لكي يرجع الناس إلى شخص آخر، و يُخرِج نفسه بهذا عن تحمّل المسئوليّة.
ثمّ قال استاذنا المرحوم النائينيّ قدّس الله نفسه في إحدى المرّات على منبر التدريس: يا أيُّها الطُّلّاب! لقد جاء المرحوم الحاجّ المُلّا على الكَنيّ إلى طهران (و هو صاحب كتاب «القضاء» النفيس، و كان معاصراً للشيخ الأنصاريّ، و من أعلام الطلّاب، و ربّما كان قريناً للشيخ الأنصاريّ، و كان العالم و المجتهد الأوّل في طهران. و مَن أراد الاطّلاع على علميّته فليلاحظ كتابه «القضاء»، فهو كتاب معروف)، و كان جميع علماء طهران خاضعين و مسلّمين له، و مذعنين بأعلميّته. فجاءوا إليه و طلبوا منه أن يتصدّى لُامور الناس، لكي يرجع إليه الناس في أمر القضاء و المرافعات و يبدي نظره و يقوم بفصل الخصومات.
قال الاستاذ: فأجاب المرحوم الحاجّ على الكنيّ قائلًا: إنّي لا أقوم بهذا العمل، لأنّي أشكّ في اجتهادي. إلى أن أتاه خمسون شخصاً من مجتهدي طهران و النواحي الاخرى- ممّن يراهم مجتهدين- و شهدوا باجتهاده، فعندها قبل هذا الاقتراح.
أمّا أنتم أيّها الجالسون و الحاضرون في مجلس الدرس، فلو جاءكم خمسون شخصاً من المجتهدين و شهدوا بأنّكم لستم مجتهدين، فلن تقبلوا ذلك، و تدّعون الاجتهاد رغم ذلك.
يجب الالتفات إلى مدي أهمّيّة المسألة. فهذا الرجل قد نظر في جميع هذه المسائل ببصيرة، و لا أتمكّن- حقّاً- القول بأنَّ الشيخ حسين الحلّيّ كان أقلّ من هذه الناحية العلميّة من العلّامة الحلّيّ. لقد كان هذا الرجل دقيقاً إلى درجة أنّه عند ما كنّا ندرس عنده كتاب الطهارة (لقد درست عنده عدا الاصول دورة مكاسب و قدراً من كتاب الطهارة، و كتبتُ تقريراته) جاء برواية من باب ديات «مفتاح الكرامة» كشاهد على المطلب، و ما يلفت النظر هو: ما هي المناسبة بين باب ديات «مفتاح الكرامة» و باب الطهارة؟
لقد كان عالماً متضلّعاً، خبيراً و منظّماً، و قام بمطالعة جميع الكتب، سواء كتب العامّة أم كتب الشيعة، و كان يفهرس مطالبة لنفسه بعد مطالعته لكلّ كتاب، فكان له مثلًا فهرس لكلّ كتاب «تاريخ بغداد»، و قد خصّص جزءاً من مكتبته- و التي لم تكن كتبها كثيرة جدّاً- لفهارس تلك الكتب التي قد طالعها، و قد ضبط في تلك الفهارس نتيجة تلك الكتب، مهما كانت سواء لصالح الشيعة أو ضدّهم. و إذا رجع الإنسان إلى هذه الفهارس يعرف الموضع الذي يؤيّد الشيعة من هذا الكتاب و الموضع الذي يهاجمهم، لكي يستعين به عند الحاجة شفاهة أو كتابة على تقدير تأليف كتاب في الكلام مبنيّ على الاعتقادات الرصينة و المتينة عند الشيعة.
و من هنا يقول: فَهَؤُلاءِ، هُمُ العُلَماءُ بِاللهِ حَقّاً؛ وَ هَذَا المَقامُ مَنْزِلٌ رَفيعٌ وَ شَأنٌ جَليلٌ لا تَصِلُ أيْدينا إلَيهِ. أنّي لنا الوصول إليه؟!
و نصّ عبارته: نَعوذُ بِاللهِ مِنْ شُرورِ أنْفُسِنا وَ نَتَمَسَّكُ بِلُطْفِهِ وَ كَرَمِه.
ثُمَّ قالَ: احْتَمَلَ بَعْضُ العُلَماءِ أنْ يَكونَ المُرادُ مِنَ العُلَماءِ بِاللهِ في قَوْلِهِ عَلَيهِ السَّلامُ: «مَجَارِي الامُورِ وَ الأحْكَامِ عَلَى أيْدِي العُلَمَاءِ بِاللهِ» العارِفينَ بِهِ بِقَرينَةِ إضافَتِهِمْ إلَيهِ سُبْحانَهُ؛ وَ المُرادُ مِنَ المَجاري، مَجارِي الامورِ التكْوِينِيَّة.
و لم يناقش القسم الأوّل (من أنَّ المقصود من العلماء بالله هم العارفون بالله) لكنّه قال حول المطلب الثاني (من أنَّ المراد من مجاري الامور هو مجاري الامور التكوينيّة): يُبَعِّدُهُ ما وَرَدَ في ذَيْلِهِ: «الامَنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ». إذ ظاهر هذه الجملة هم العلماء الذين يحفظون امور الناس في مقام التشريع۱.
فيا لها من رواية! و دلالتها أيضاً جيّدة جدّاً. و حيث يقول الإمام عليه السلام: «أنْتُمْ أعْظَمُ النَّاسِ مُصِيبَةً لِمَا غَلَبْتُمْ عَلَيهِ مِنْ مَنَازِلِ العُلَمَاءِ لَوْ كُنْتُمْ تَسَعُونَ ذَلِكَ بِأنَّ مَجَارِي الامُورِ وَ الأحْكَامِ عَلَى أيْدِي العُلَمَاءِ بِاللهِ، الامَنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ.»
أي: دعوا اموركم و سلّموا إدارتها إلى العلماء بالله و الامناء على حلاله و حرامه، لقد ترفّعتم و تعظّمتم و عصيتم حقّهم بتكبّر و أجلستموهم زوايا البيوت.
بحث حول حديث: اللهمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي
و من الروايات التي تدلّ على ولاية الفقيه: الرواية التي ذكرها الصدوق في «معاني الأخبار»، قال:
حَدَّثَنا أبي- رَحِمَهُ الله- قالَ: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ إبراهيمَ بْنِ هاشِمٍ عَنْ أبيهِ، عَنْ الحُسَيْنِ بْنِ يَزيدَ النَّوفليِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ داوُد اليَعْقوبيِّ، عَنْ عيسى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبي طالِبٍ، عَنْ أبيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَليِّ [بْنِ أبي طالِبٍ] عَلَيهِ السَّلامُ قالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ [وَ سَلَّمَ]: اللّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي؛ اللّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي؛ اللّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي!
قِيلَ لَهُ: يا رَسُولَ الله! وَ مَنْ خُلَفَاؤُكَ؟
قَالَ: الَّذِينَ يَأتُونَ مِنْ بَعْدِي يَرْوُونَ حَدِيثِي وَ سُنَّتِي"۱.
و قد نقل الشيخ الحرّ العامِليّ٢ هذه الرواية عن الصدوق في «عيون
الأخبار».
و بحثنا في هذه الرواية من جهتين: السند و الدلالة.
أمّا من ناحية السند: ففي سلسلة سند هذه الرواية عليّ بن إبراهيم و أبوه إبراهيم بن هاشم، و إبراهيم حسنٌ كالصَّحيح و عليّ بن إبراهيم صحيحٌ. و كلاهما من أجلّ الرواة و أقدمهم، و هما مشهوران و معروفان بالجلال و المتانة.
و الحسين بن يزيد النَّوفليّ أيضاً من الأعلام، و قد عدّه الشيخ الطوسيّ في كتابه «الرجال» من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام. كما ذكره في «الفهرست» وَ قالَ: لَهُ كتابٌ.
و كذلك ذكره النجاشيّ في كتابه «الرجال»، و قال: «حسين بن يزيد النَّوْفليّ: كانَ شاعِراً أديباً وَ سَكَنَ الرَّيَّ و ماتَ بِهَا وَ لَهُ كِتابُ التَّقِيَّة». و هو من الاصول الأربعمائة «و هي الأربعمائة كتاب التي كانت للشيعة، و من ثمّ تحوّلت إلى الكتب الأربعة».
و أمّا عليُّ بنُ داوُد اليعقوبيّ، رَجُلٌ مَعْروفٌ عِنْدَ الأصْحَابِ.
و عيسى بن عبدِ الله بن محمّد بن عُمَر بن أمير المؤمنين عليه السلام، الذي هو راوي هذه الرواية، فقد عدّه الشيخ في «الرجال» من أصحاب الصادق عليه السلام، كما ذكره في «الفهرست» أيضاً، كما قال النجاشيّ عنه في «الرجال»: لَهُ كتابٌ يَرْويهِ جَمَاعةٌ.
هذا فيما يتعلّق بسند الرواية حيث إنَّه بحسب الظاهر سند جيّد، حَسَنٌ كَالصَّحيح، و معتبر و قابل للاعتماد.
و أمّا دلالة هذا الخبر: فإنَّ الإمام عليه السلام ينسب الخلافة إلى الفقهاء الذين يروون حديث رسول الله و سنّته. و قد كرّر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «اللّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي» ثلاثاً، لأجل التأكيد، ثمّ
سُئل صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَنْ خُلَفَاؤُكَ؟! فقال: "هم الذين يأتون من بعدي يَرْوُونَ حَدِيثِي وَ سُنَّتِي". فالفقهاء و الرواة لحديث و سنّة النبيّ هم خلفائه.
بناء على هذا، يمكن الاستدلال بهذه الرواية على: نَصْبِهِمْ لِلْوِلايَةِ و القَضاءِ وَ الإفْتَاءِ. لما ذا؟ لأنَّ ظهور الخلافة في قِيامُ الفَقيهِ مَقامَ النَّبِيّ. فالخلافة تدلّ بنحو الإطلاق على أنَّ ذلك الشخص الخليفة قائم مقام المنوب عنه. فالعنوان عنوان نيابة و خلافة، و الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول: خُلَفَائِي. إذن، فجميع المزايا و الخواصّ التي كانت ثابتة للنبيّ ثابتة لهؤلاء الفقهاء، إلَّا ما خَرَجَ بِالدَّليل.
و ما خرج بالدليل هو خصائص الإمامة، فما يتعلّق بخصوص الإمامة لا يكون لأيّ من الفقهاء الشيعة. و أمّا بقيّة الامور غير خصائص الإمامة فيمكن أن نثبتها للفقهاء من إطلاق هذه الرواية، و من هذه الامور الولاية و القضاء و الإفتاء. فنستطيع إثبات الحكومة لهم في الامور الولايتيّة و الاجتماعيّة للناس، كما نستطيع إثبات القضاء و فصل الخصومة، و كذلك الإفتاء و بيان الأحكام لعامّة الناس.
و وفقاً لما ذكرناه حول حديث كميل، فهذه الرواية لا تختصّ بالأئمّة و إنَّما "اللّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي"، بإطلاق الدلالة اللفظيّة و اعتبار القوانين المقاميّة تشمل جميع العلماء الربّانيّين العارفين بالله و العالمين بأمر الله، و ليس ثمّة قرينة على اختصاص ذلك بالأئمّة عليهم السلام، و إنَّما هي باقية على العموم. و خليفة رسول الله الذي يمتلك عنوان الخلافة هو مَن يكون راوياً لحديثه و سنّته و أحواله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فهذا الشخص هو خليفة رسول الله، و هؤلاء هم نفس الأشخاص الذين قال الرسول عنهم: «يَأتُونَ مِنْ بَعْدِي، يَرْوُونَ حَدِيثِي وَ سُنَّتِي». فهذه العبارات لها إطلاق و لا تختصّ بالأئمّة، و لذا فهذه الرواية من الروايات التي تمثّل شاهداً على ولاية
و حكومة الفقيه و قضائه و إفتائه. و يمكن الاستدلال بها على ذلك.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ الخَامِسُ عَشَر: بحث حولَ حديث: مَا وَلَّتْ امَّةٌ أمْرَهَا رَجُلًا قَطُّ وَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ؛ إلَّا لَمْ يَزَلْ أمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالًا حَتَّى يَرجِعُوا إلى مَا تَرَكُوا؛ و حديثين آخرين.
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
إحدى الروايات المهمّة جدّاً التي تدلّ على ولاية الفقيه و لزوم أعلميّة الفقيه الذي يكون في مصدر الولاية، هي الرواية المعروفة التي نقلت عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بأسانيد مختلفة و هي قوله:
"مَا وَلَّتْ امَّةٌ أمْرَهَا رَجُلًا قَطُّ وَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ، إلَّا لَمْ يَزَلْ أمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالًا حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى مَا تَرَكُوا".
نقلت هذه الرواية في عدّة موارد، فقد رُوِيَت عن الإمام الحسن المجتبي عليه السلام بنحوين مختلفين، و ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام في مورد آخر، و احتجّ بها سلمان الفارسيّ في مورد ثالث، كما رُويت أيضاً في أحد المواضع عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام.
رواية الإمام الحسن المجتبي عن الرسول الأكرم
و أمّا رواية الإمام الحسن المجتبي عليه السلام، فقد رويت في «الأمالي» للشيخ الطوسيّ، و في «غاية المرام» للسيّد هاشم البحرانيّ نقلًا عن «الأمالي» بسندين مختلفين.
و أمّا سندها الأوّل: فيقول الشيخ في «الأمالي»: أخْبَرَنا جَماعَةٌ عَنْ أبي المُفَضَّلِ قالَ: حَدَّثَني أبو العَبَّاسِ أحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الهَمْدانيُّ بِالكُوفَةِ؛ وَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُفَضَّلِ بْنِ إبْراهيمَ بْنِ القَيْسِ الأشْعَريُّ قالَ: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ حَسَّانِ الوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ كَثيرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ قالَ: "لَمَّا أجْمَعَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى صُلْحِ مُعَاوِيَةَ، خَرَجَ حَتَّى لَقِيَهُ. فَلَمَّا اجْتَمَعَا قَامَ مُعَاوِيَةُ خَطِيبا... ."
ثمّ ذكر الإمام عليه السلام الخطبة إلى أن يقول:
"فَقَامَ الحَسَنُ عَلَيهِ السَّلَامُ فَخَطَبَ فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ المُسْتَحْمِدِ بِالآلَاءِ وَ تَتَابُعِ النَّعْمَاءِ ... ." فيذكر الإمام عليه السلام خطبة جامعة و طويلة، و بعد ذلك يورد هذه الجملة:
"وَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ [صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ]: مَا وَلَّتْ امَّةٌ أمْرَهَا رَجُلًا قَطُّ وَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ، إلَّا لَمْ يَزَلْ أمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالًا حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى مَا تَرَكُوا"۱.
و أمّا السند الثاني: فينقل أيضاً في «غاية المرام»٢ عن الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» مختصر هذه الخطبة. و في تلك الرواية يأتي الإمام الحسن
المجتبي عليه السلام بعين هذه العبارة عن رسول الله كشاهد.
فالعبارتان هما عبارة واحدة عن الإمام الحسن المجتبي عليه السلام، و أصل الخطبة عن الإمام الحسن المجتبي عليه السلام مقبول عند الجميع، حتّى أنَّ العامّة قد نقلوا ذلك أيضاً. و لكنَّ هذه الجملة بالخصوص قد تفرّد بها «غاية المرام» نقلًا عن الشيخ الطوسيّ، و لها سندان أيضاً، و كلا سنديها جيّد جدّاً.
رواية أمير المؤمنين هذا الحديث عن الرسول الأكرم
و أمّا الرواية التي نقلوها عن أمير المؤمنين عليه السلام مع هذه الجملة الخاصّة فهي في كتاب «سُلَيْم بن قَيْسِ الهِلالِيّ».
يروي أبان (راوي هذا الحديث)، عن سُليم بن قيس أنّه قال: سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السلام- قبل وقعة صفّين- يقول: "إنَّ هَؤُلَاءِ القَوْمَ لَنْ يُنِيبُوا إلَى الحَقِّ ... .
ثمّ يتابع الإمام كلامه إلى أن يقول:
"إنَّ العَجَبَ كُلَّ العَجَبِ مِنْ جُهَّالِ هَذِهِ الامَّةِ وَ ضُلَّالِهَا وَ قَادَتِهَا و سَاقَتِهَا إلَى النَّارِ! إنَّهُمْ قَدْ سَمِعُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ يَقُولُ عَوْداً وَ بَدْءاً: مَا وَلَّتْ امَّةٌ رَجُلًا قَطُّ أمْرَهَا وَ فِيهِمْ أعْلَمُ مِنْهُ، إلَّا لَمْ يَزَلْ أمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالًا حتَّى يَرْجِعُوا إلَى مَا تَرَكُوا"۱.
وردت هذه الرواية التي اختصرناها و ذكرناها كشاهد، في كتاب «سُليم بن قيس». و هذا الكتاب من أكثر الكتب اعتباراً، لأنَّ سُليم بن قيس شخصيّة مرموقة عند الشيعة و السنّة، و من المعروفين في رجال الرواية، و كتابه أيضاً في منتهي الإتقان و الاعتبار. و كثيراً ما ينقل كبار علماء الشيعة كالمجلسيّ و السيّد بن طاوس و أمثالهما في كتبهم عن سليم بن قيس،
و لا يوجد أيّ شكّ أو شبهة في صحّة كتابه.
و كان سلمان أوّل من استدلّ بهذه الرواية- رَدّاً عَلَى مَنْ شاغَلَ مَنْصبَ الأعْلَم- بناءً على ما فحصناه و استنتجناه. فسلمان من الرجال الاثني عشر الذين ذهبوا إلى المسجد و اعترضوا على أبي بكر بعد أحداث السقيفة و دفن الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم، فخاطبوا أبا بكر واحداً واحداً متسائلين عن الأمر، و رفضوا خلافته. و جاء في أكثر كتب التأريخ: أنَّ هؤلاء الأشخاص قد اعترضوا على أبي بكر و احتجّوا عليه بشدّة و حزم، و لم يَقْوَ أبو بكر بالإجابة على اعتراضاتهم.
و بالطبع فلهذه القصّة التأريخيّة مجال واسع، و ما يهمّنا منها هو تلك العبارة التي تشكّل شاهداً على لزوم تصدّي الأعلم لمناصب الولاية.
و من هؤلاء الأشخاص الاثني عشر: سلمان، أبو ذرّ، عمّار، حذيفة، ابن التَّيِّهان، و أبو أيّوب الأنصاريّ، الذين ذهبوا إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و قاموا بمحاجة أبي بكر لَمَّا صَعَدَ المِنْبَرَ وَ يُريدُ الخُطْبَةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ خِلافَةً عَنْ رَسولِ اللهِ بَعْدَ البَيْعَةِ.
وَ قامَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُم واحِدًا بَعْدَ الآخَرِ، وَ اسْتَدَلُّوا عَلَى إمامَةِ الإمامِ أميرِ المؤْمِنينَ عَلَيهِ السَّلامُ، رَدّاً عَلَى خِلافَةِ الخَليفَةِ الانْتِخابيِّ، وَ إنْكاراً عَلَى تَشاغُلِهِ مَنْصبَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم.
أورد هذه القضيّة أحمد بن محمّد بن خالد البَرقيّ في كتابه «الرجال»، و عَبد الجليل القزوينيّ في كتاب «النقض»، و الشيخ الصدوق في «الخصال»، و أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسيّ في «الاحتجاج»، و السيّد الأجلّ عليّ بن طاوس في كتاب «كشف اليقين»۱.
و ينقل ذلك المجلسيّ في «بحار الأنوار»۱، و المامقانيّ في «تنقيح المقال»٢، عن الشيخ الصدوق، و عن الطبرسيّ، و لا يشيران إلى رواية البرقيّ و القزوينيّ التي ننقلها عنهما هنا، مع ما في كتابي أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ و عبد الجليل القزوينيّ في نقل هذه الرواية من مطالب عالية و سامية جدّاً.
و قد يكون سبب عدم الإشارة من قبل المجلسيّ و المامقانيّ إلي ما في «النقض» و «الرجال» هو عدم حصولهما على هذين الأثرين، و عدم اطّلاعهما بهما؛ فلم يشيرا إلى ذلك على الرغم من أهمّيّة و قيمة روايتهما من حيث متانة المحتوي و دقّة المطالب فيهما نسبةً إلى ما في الخبر المنقول عن ابن طاوس و الطبرسيّ و الشيخ الصدوق.
و من جملة البراهين التي اعتمد عليها سلمان حين محاججة الخليفة الغاصب هو عدم جواز تصدّي غير الأعلم لمقام الولاية مع وجود الأعلم. و يتلخّص احتجاج سلمان بـ-: بأيّ دليل تصعد أنت على منبر رسول الله و تغصب الخلافة مع كون أعلم الامَّة موجوداً؟! و قام كلّ شخص من الأشخاص الاثني عشر بإيراد دليل خاصّ لم يرتبط بأدلّة الآخرين، و من أراد الاطّلاع فليرجع إلى الكتب التي ذكرناها.
و نذكر الآن عبارة سلمان الواردة في كتاب «الرجال» للبرقيّ، إذ يقول:
ثُمَّ قامَ سَلْمانُ فَقالَ: يا أبا بَكْرٍ إلَى مَنْ تَسْتَنِدُ۱ أمْرَكَ إذَا المَوْتُ نَزَلَ بِكَ؟! وَ إلى مَنْ تَفْزَعُ٢ إذَا سُئِلْتَ عَنْ أحْكامِ الامَّةِ عَمَّا لا تَعْلَمُ؟! أ تَكونُ إمَامَاً لِمَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ؟ قَدِّمْ مَنْ قَدَّمَهُ اللهُ وَ قَدَّمَهُ رَسُولُ اللهِ فِي حَياتِهِ٣ ... .
و أمّا الشيخ عبد الجليل القزوينيّ فقد أورد في كتاب «النقض» هذه العبارة:
يا أبا بَكْر! إلَى مَنْ تَسْنَدُ أمْرَكَ إذا نَزَلَ بِكَ القَضاءُ؟ وَ إلى مَنْ تَفْزَعُ إذا سُئِلْتَ عَمَّا لا تَعْلَمُ؟ [وَ ما عُذْرُكَ في التَّقَدُّمِ] وَ في القَوْمِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ؟! ...٤
و أورد الشيخ الصدوق في كتاب «الخصال» عين العبارة التي نقلناها من كتاب «النقض»، و لكنّه لم يذكر جملة «وَ ما عُذْرُكَ في التَّقَدُّمِ».
و أمّا رواية «الاحتجاج» فبهذه العبارة:
يا أبا بَكْرٍ! إلَى مَنْ تَسْنَدُ أمْرَكَ إذا نَزَلَ بِكَ ما لا تَعْرِفُهُ؟! وَ إلى مَنْ تَفْزَعُ إذا سُئِلْتَ عَمَّا لا تَعْلَمُهُ؟ وَ ما عُذْرُكَ في تَقَدُّمِكَ عَلَى مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ، و أقْرَبُ إلَى رَسولِ اللهِ، وَ أعْلَمُ بِتَأويلِ كِتابِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ سُنَّةِ نَبيِّهِ؟!٥
و أورد هذه الرواية، التي نقلت عن سلمان بطرق مختلفة سبعة
أشخاص من كبار العلماء في كتبهم (البرقيّ، القزوينيّ، الطبرسيّ، ابن طاوس، المجلسيّ، المامقانيّ و الصدوق).
رواية الإمام موسى بن جعفر عن الرسول الأكرم
و من جملة روايات إمامة الأعلم، الرواية المروية عن الكاظم عليه السلام، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَها حالَ مَرَضِهِ الَّذي تُوُفِّيَ فيها، في المَسْجِد: "ألَا وَ مَنْ أمَّ قَوْماً عَمْياً وَ فِي الامَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ!"
ينقل هذه الرواية السيّد هاشم البحرانيّ في «غاية المرام» عن السيّد ابن طاوس في «الطرائف» في الطريفة الثالثة و الثلاثين.۱ و قد علم أنَّ أصل الحديث مرويٌّ عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أيضاً.
فهذه الرواية تفيد بنحو الإطلاق أيضاً أنَّ أمر الحكومة و الولاية مختصّ بالأعلم من بين الامّة دوماً، و ما دام الأعلم موجوداً في الامّة فليس لغير الأعلم أن يتسلّم الحكومة، و إذا قام قوم بأمر كهذا فإنَّما يكونون قد أخرجوا المجتمع عن طريق الصلاح و ساروا به نحو الهلكة، و ستستمرّ الهلكة، حتّى يرجعوا و يسلّموا زمام الأمر إلي الإمام.
و علي هذا الأساس، نري في الروايات أنَّ الأئمّة الطاهرين عليهم السلام كثيراً ما حاججوا العامّة بـ: ما هو دليل تسلّم الخلفاء زمام الامور مع موجود الأعلم بين الامّة، مع أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال بوجوب تسلّم الأعلم من امّتي لزمام الحكومة؟!
و كان بيد الشيعة دائماً حربة ثابتة و قويّة مقابل أهل السنّة مفادها: مع وجود العقل القويّ و العلم القويّ فتسليم الامور لغير الأعلم لا ينسجم مع منطق الفطرة و العقل و أوامر رسول الله. أي: أنَّ وجوب حكومة الأعلم جارٍ في الامور الثلاثة: حكم الفطرة، و حكم العقل، و حكم الشرع.
و شاهدنا في هذه الروايات فقط تلك الجملة من الرواية النبويّة التي نُقلت بهذه الطريق المختلفة لا سائر الأدلّة النقليّة التي كلّ منها باقٍ في محلّه.
التهديد و الخطاب الموجّه من الإمام الجواد لعمّه عبد الله بن موسى
أسناد و مضامين هذا الحديث الشريف المختلفة
و من جملة الروايات التي يمكن أن يستفاد منها بشكل جيّد وجوب تقليد الأعلم لا ولايته، الرواية التي ينقلها المرحوم المجلسيّ في «بحار الأنوار» في أحوال الإمام محمّد التقيّ جواد الأئمّة عليه السلام، من كتاب «عيون المعجزات» "لَمَّا أفْتَى عَمُّهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ موسَى بِفُتْيا غَيْرِ صَحيحَة فَقَالَ [عَلَيهِ السَّلامُ]: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، يَا عَمُّ! إنَّهُ عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ أنْ تَقِفَ غَداً بَينَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ لَكَ: لِمَ تُفْتِي عِبَادِي بِمَا لَمْ تَعْلَمْ وَ فِي الامَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ؟"۱ و إن كان ظاهر الرواية النهي عن الفتوى من غير علم إلّا أنّه يتحصّل بعد التأمّل في محتواها أنَّ هذا الظاهر ليس هو المراد. و إنَّما المستفاد منها هو النهي عن الفتوى مع وجود الأعلم في الامّة، و ذلك لأنَّ الإمام عليه السلام بعد أن نهاه و آخذه على الفتوى بغير علم خصّص مورد نهيه بمورد وجود الأعلم في الامّة. و كما تعلم فإنَّه لا فرق في الفتوى من غير علم بين
أن يكون الأعلم موجوداً في الامّة أو غير موجود، لذا يستفاد من كلام الإمام عليه السلام اخْتِصاصُ النَّهْي بِصورَةِ وُجودِ الأعْلَم، و يكون المفتي ممنوعاً من الإفتاء عند وجود الأعلم مطلقاً سواء كانت فتواه بعلم أم بغير علم، و تكون تلك الفتوى التي تصدر في مقابل فتوي الأعلم غير صحيحة و لا محقّة، حتّى لو كان المفتي قاطعاً بصحّتها.
نتيجة الاستدلال الحاصلة من هذا الحديث الشريف
و محصّل الكلام أنّه لا يجوز الإفتاء مع وجود الأعلم، لأنَّ ذلك إفتاء بغير حقّ. و لقد جعل الإمام عليه السلام في هذه الرواية المدار على فتوي الأعلم، و عليه تكون كلّ فتوي مخالفة لفتوى الأعلم مَعَ وُجودِ الأعْلَم، فتوي بِما لا يَعْلَمُ أنَّهُ حَقٌّ، و مخالفة للحقّ. و هذا هو الاستظهار الذي قلنا إنَّه يتحصّل من الرواية.
بناءً على هذا، فمفاد الرواية هو: يجب أن يكون مصدر الفتوى في الامّة مختصّاً بالأعلم، وَ لا يَجوزُ لأحَدٍ في قِبالِهِ أنْ يُفْتيَ بِشَيْء.
و يريد الإمام عليه السلام أن يقول في هذه الجملة: "لِمَ تُفْتِي عِبَادِي بِمَا لَمْ تَعْلَمْ وَ فِي الامَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ"، إنَّ الله يؤاخذ العبد على إفتائه مع وجود الأعلم منه في الامّة، فهو لا يريد القول إنَّه لِمَ أفتيت بما لا تعلم، لأنَّ الإفتاء بما لا يعلم ليس جائزاً على الإطلاق، و هو محرّم، سواء كان الأعلم في الامّة موجوداً أم لم يكن.
و علي هذا، فعبارة لِمَ تُفْتِي عِبَادِي بِمَا لَمْ تَعْلَمْ وَ فِي الامَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ، تفيد أنَّ وجود مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ في الامَّة، يمنع من فتواك. ففي هذه الصورة لا ينبغي لك أن تفتي، سواء كانت فتواك عن علم أم عن غير علم. فالإفتاء في مقابل فتوي الأعلم- إذن- غير جائز.
نُكتةٌ دقيقَة: لقد جُعل النهي المباشر هنا على فتوي غير الأعلم، سواء كانت الفتوى عن علم أم عن غير علم. فمهما تكن فتواه فهي عن غير علم،
لأنّها ستكون في قبال فتوي الأعلم.
فالإمام عليه السلام لم يقل: لِمَ تُفْتي عِبادي بِما تَعْلَمُ وَ ما لا تَعْلَمُ وَ في الامَّةِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ؟ لأنّه لو تكلّم بهذا النحو لكان المعني: أنّه لو كان الأعلم موجوداً في الامّة فلا تُفتي لا بعلم و لا بغير علم. و لكنّه أورد كلمة «بمَا لَمْ تَعْلَمْ» لكي يُفهم هذا المعني. أي: عند ما يكون هناك أعلم في الامّة ففتواك مهما كانت فهي فتوي بغير علم، و عن جهل. فعند ما يكون هناك شخص أعلم لا يكون ثمّة إمضاء لكلامك و لا حجّيّة له، فعند ما يكون هناك طبيب أخصّائيّ حاذق فلا تُبرز علمك، و ذلك لأنَّ هذا العلم إنَّما يكون علماً بالنسبة لك، و أمّا بالنسبة للآخرين فهو جهل. و قد يستتبع خطراً في حالة وجود شخص أعلم في الامّة، فالفتوى التي تصدرها تكون فتوي بما لا تعلم، و حتّى لو كانت في واقعها مستقيمة أيضاً، لكنّها في قبال ذلك الحقّ و تلك الحقيقة التي نالت الحجّيّة- و التي هي فتوي الأعلم- تكون إظهاراً للنظر و فتوي عن غير علم.
و لو أراد الإمام عليه السلام بهذه [الإشارة] اللطيفة أن يُفهم أنّه مع وجود الأعلم في الامّة فالإفتاء من غيره غير صحيح مطلقاً، سواء كانت فتوي ذلك المفتي مطابقة للواقع أم غير مطابقة. نعم؛ ففتوى كلّ شخص حجّة له. و أمّا الإفتاء للغير الذي هو بمثابة توجيه عمليّ لهم، فهو منفيّ.
هذا هو محصّل النتيجة التي توصّلنا إليها، و الرواية كما بيّنا هي في «بحار الأنوار» نقلًا عن «عيون المعجزات». لكنّ إشكال رواية «عيون المعجزات» هو إرسالها فقط.
و هناك رواية اخرى ينقلها المرحوم المجلسيّ في «بحار الأنوار»۱ في
أحوال الإمام الجواد عليه السلام عن كتاب «الاختصاص» للشيخ المفيد۱، مسنداً عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، بهذه العبارة:
"يَا عَمُّ! اتَّقِ اللهَ؛ اتَّقِ اللهَ! إنَّهُ لَعَظِيمٌ أنْ تَقِفَ يَوْمَ القِيَامَةِ بَينَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَيَقُولُ لَكَ: لِمَ أفْتَيْتَ النَّاسَ بِمَا لَا تَعْلَمُ؟! ..." و حيث إنَّه لا توجد في هذه الرواية عبارة: وَ فِي الامَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ فلا تكون شاهداً لنا.
نعم؛ يمكن أن تكون رواية «عيون المعجزات» شاهداً، لكنّها- كما قلنا- مرسلة، بينما هذه الرواية مسندة و سندها جيّد، على الرغم من عدم وجود هذه الجملة فيها.
و يحكي العلّامة المجلسيّ في «بحار الأنوار»٢ رواية ثالثة في نفس هذا الباب عن «المناقب»٣ لابن شهرآشوب، عن كتاب «الجلاء و الشفاء» و إن لم تحو على فقرة «وَ فِي الامَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ»، لكنَّ صاحب «المناقب» يقول في نهاية الرواية: الخَبَر. و لا ندري إلى أيّ شيء تشير كلمة «الخَبَر»، فإن كانت إشارة إلى بقيّة الخبر الذي هو «وَ فِي الامَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ» فالمطلب تامّ، لأنَّ الرواية تكون مسندة، و تامّة من ناحية الدلالة أيضاً.
لكنَّ كلمة «الْخَبَر» قد تكون أحياناً إشارة إلى بقيّة الخبر الذي هو
شيء آخر.
و علي كلّ تقدير، فما دمنا لم نحصل على كتاب «الجلاء و الشفاء» و لم نرَ أنَّ هذه الجملة موجودة فيه، فلا يمكننا القطع بأنَّ لفظة «الخَبَر» إشارة إلى عبارة: "وَ فِي الامَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ".
و محصّل الكلام أنَّ هاتين الروايتين جيّدتان، لكنَّهما غير تامّتين من ناحية الدلالة. و رواية «عيون المعجزات» تامّة من ناحية الدلالة، لكنّها مرسلة، و التمسّك بهذه الرواية وحدها لاستفادة انحصار الحجّيّة في فتوي الأعلم مشكل.
بحث حول شرح حديث «نهج البلاغة»: إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالانْبِياءِ ...
نعم؛ لدينا رواية اخرى في المقام قد استُدِلَّ بها على انحصار الحجّيّة في فتوي الأعلم دون مقام الولاية، حيث يشكل الشيخ في «المكاسب» في مقام الولاية، و يقول إنَّها غير كافية في إثبات ولاية الفقيه. و أمّا الفتوى فيستحسن أن نقول: إنَّه إنَّما يستطيع أن يفتي من يكون الأعلم.
و الرواية في «نهج البلاغة» حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام: أوْلَى النَّاسِ بالأنْبِيَاءِ أعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءوا بِهِ. ثُمَّ تَلَا: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا.}۱ و٢
أوْلَى النَّاسِ بِالأنْبِيَاءِ؛ أقربهم إليهم و مَن تكون ولايته بالأنبياء أكثر و أقرب (الولاية بذلك المعني الذي مرَّ في الدرس الأوّل) فهو أعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ.
ثمّ يستشهد أمير المؤمنين بعد ذلك بهذه الآية: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا}.
ذكر المرحوم الشيخ الأنصاريّ رحمة الله عليه في «المكاسب» في بحث الولاية كلام أمير المؤمنين في «نهج البلاغة» هذا، و قال: لا نستطيع أن نستدلّ بهذه الرواية على ولاية الفقيه في التصرّف في أموال الغيّب و القصّر و مجهول المالك، و الأوقاف، و سائر الامور التي تحتاج إلى وليّ و ليس لها وليّ خاصّ، و لا مالك خاصّ أيضاً.
و مراد الشيخ هنا أنَّ هذه الرواية في مقام بيان وظيفة العلماء من ناحية بيان الأحكام التي هي عبارة عن الإفتاء، و ذلك مختصّ بالأعلم، و لا يستفاد منها ثبوت سائر مناصب الأنبياء لهم، لأنّه ليست هناك مناسبة بين الأعلميّة في الأحكام و بين التصدّي في أخذ الزكوات و الأخماس و تولّي الموقوفات و التصدّي لُامور الغيّب و القصّر. بينما المناسبة موجودة بين الأعلميّة و بين بيان الأحكام.
و عبارة الشيخ بعد بحث طويل هي: لَكِنَّ الإنْصافَ بَعْدَ مُلاحَظَةِ سِياقِها أو صَدْرِها أوْ ذَيْلِها يَقْتَضي الجَزْمَ بِأنَّها في مَقامِ بَيانِ وَظيفَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ الأحْكامِ الشَّرْعيَّةِ؛ لَا كَوْنِهِمْ كَالنَّبيِّ وَ الأئِمَّةِ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ في كَوْنِهِمْ أوْلَى النَّاسِ في أمْوالِهِمْ. فَلَوْ طَلَبَ الفَقيهُ الزَّكَاةَ وَ الخُمْسَ مِنَ المُكَلَّفِ فَلا دَليلَ عَلَى وُجوبِ الدَّفْعِ إلَيهِ شَرْعاً.
و بناء على هذا، فلا يمكننا أن نستفيد من هذه الرواية وجوب دفع الخمس أو الزكاة إلى الفقيه الذي يطالب بذلك، و الذي يدّعي لزوم دفع ذلك إليه حتّى يصرفه في مصارفه، لأنَّ الرواية في مقام إثبات أولويّة الفقيه من ناحية بيان الأحكام و الإفتاء و من ناحية الدلالة و الإرشاد.
نعم؛ لو سئل فقيه في مسألة ما، فالرواية تدلّ على حجّيّة قوله.
و كلام المرحوم الشيخ في مورد هذه الرواية متين، حيث لا مناسبة بين أعلميّة رجل بِما جاءَ بِهِ الأنْبِياء، و بين أخذ الزكوات. فما هي المناسبة بين التصدّي لُامور الغُيَّب و القُصَّر و دفع الزكوات إلى بعض الأشخاص و بين أن يكون ذلك الشخص أعلم بِما جاءَ بِهِ الأنْبِياء؟ و ذلك بخلاف المناسبة بين الأعلميّة و بين بيان الأحكام.
و لكن هناك إشكال في هذه الرواية، و هو عدم وضوح وجه المناسبة في الاستشهاد الذي قدّمه الإمام عليه السلام، فبعد أن قال: "أوْلَى النَّاسِ بِالأنْبِياءِ أعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ"، استشهد بهذه الآية: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا}. فما وجه المناسبة بين هذه الآية و جملة «أوْلَى النَّاسِ بِالأنْبِيَاءِ، أعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ»؟
فقد بيّن الإمام عليه السلام في صدر الرواية أنَّ الأعلميّة ميزان الأقربيّة إلى الأنبياء عليهم السلام، ثمّ استشهد بالقرآن على أنَّ: أتباع النبيّ إبراهيم، و هذا النبيّ، و المؤمنين هم أقرب الناس إلى إبراهيم. و المناسبة هنا غير واضحة، و لذا قال المرحوم الشهيديّ في «حاشية المكاسب»: إنَّه قد نُقلت هذه الرواية بنحو آخر أيضاً: إنَّ أوْلَي النَّاسِ بِالأنْبِياءِ أعْمَلُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ. فإذا كانت العبارة «أعْمَلُهُم» يتّضح وجه المناسبة، لأنَّ الإمام عليه السلام يقول أعْمَلُهُمْ بمَا جَاءُوا بِهِ، ثمّ يستشهد على أنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، و هذا النبيّ، و المؤمنين الذين اتّبعوا إبراهيم في العمل هم أولي به. أي أقرب. و بهذا يتّضح وجه مناسبة الاستشهاد. لكنَّ الرواية تسقط عن الحجّيّة في هذه الحالة (حيث إنَّ متن الحديث قد نقل بلفظين) لظهور اضطراب فيها، و الاضطراب في المتن يوجب التعارض فيما لو لم يكن سند تلك الرواية قويّاً مثل «نهج البلاغة».
و محصّل الكلام أنَّ سند «نهج البلاغة» قويّ، بينما مناسبة ذلك
الاستشهاد غير واضحة لنا. فيبقي أصل الاستدلال "أوْلَى النَّاسِ بِالأنْبِيَاءِ أعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ" و يجب الأخذ به. و هذا ليس من أدلّة ولاية الفقيه، بل من أدلّة لزوم أعلميّة الفقيه في باب الإفتاء، و هو من الأدلّة الاجتهاديّة، و ليس من الاصول.
فإذا أردنا الاستدلال على لزوم أعلميّة الفقيه في باب الإفتاء بلحاظ الأدلّة الاجتهاديّة فيمكننا الاستدلال برواية «نهج البلاغة» هذه، حيث يقول الإمام عليه السلام:
"أوْلَى النَّاسِ بِالأنْبِيَاءِ أعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ".
كما يمكننا الأخذ بذلك الخبر الوارد عن الإمام محمّد التقيّ عليه السلام حيث يقول: "يَا عَمُّ! إنَّهُ عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ أنْ تَقِفَ غَداً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُوُلُ لَكَ: لِمَ تُفْتِي عِبَادِي بِمَا لَمْ تَعْلَمْ وَ فِي الامَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ؟"
و إذا قصرت أيدينا عن الأدلّة الاجتهاديّة و وصول الدور إلى الاصول، فمن المعلوم أنَّ الأصل هنا هو الاشتغال، لأنَّ الشكّ هو في المكلّف به لا في مقام التكليف، و الأمر دائر بين التخيير و التعيين، و من المسلّم به أنَّ العقل حاكم: أنّه ما لم يرفع الإنسان اليد عن الإطلاق يعمل بالمورد المعيّن، فلا يحصل له قطع بفراغ الذمّة.
و هكذا الحال في جميع الموارد و المسائل الشبيهة بهذا المورد، فيستلزم الاشتغال، و يسمّي: التعيين.
ففي باب تقليد المجتهد، إذا دار الأمر مثلًا بين تقليد المجتهد الحيّ و تقليد المجتهد الميّت ابتداءً أو بقاءً و لم تجرِ الأدلّة الاجتهاديّة و لا الاستصحاب، و يحصل شكّ بين التعيين و التخيير، فبمقتضى الاشتغال، يتعيّن تقليد المجتهد الحيّ.
و الأمر كذلك بين الأعلم و غير الأعلم، فإذا لم نتمكَّن من تحصيل
الأدلّة الاجتهاديّة، و لم يكن هذان الدليلان كافيين في إثبات لزوم تقليد الأعلم، و وصل الدور إلى الأصل، فالأصل يحكم بالاشتغال.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ السَّادِسُ عَشَر: بحث حولَ حديثِ: فَأمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ، مُطِيعاً لأمْرِ مَوْلَاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أنْ يُقَلِّدُوهُ.
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
بمجرّد إطلاق اللفظ و الظهور في المعني، فله الحجّيّة في المفاد.
من الضروريّ أن نُذَكِّر- قبل الدخول بالبحث- بما يتعلّق بالإطلاق من حيث معناه و الأخذ به باعتباره فرعاً اصوليّاً، لكي تتّضح هذه المباحث إلى حدّ ما و لا تسبّب اختلاط المسائل بعضها ببعض، و لكي تتّضح أيضاً كيفيّة استخدام الإطلاق الصحيحة في الأحكام.
الإطلاق اللفظيّ، الذي يكون حجّة في قبال بعض الظواهر الاخرى: هو ذلك الظهور الذي يتحصّل من حاقّ اللفظ، و هذا الظهور له حجّيّة، و يُبحَث عنه في مبحث حجّيّة الظواهر.
فإذا كان اللفظ مطلقاً، أي لم يكن مقيّداً بأيّ قيد، فله ظهور في الإطلاق، و يكون ظهوره حجّة، و لا نستطيع أن نرفع اليد عنه إلّا بقرينة تصرفنا عن ذلك الظهور إلى معني آخر، سواء كان ذلك المعني خلاف المعني الموضوع له كالمجازات، أم كان من أفراد ذلك المعني، و في النتيجة فإنَّ رفع اليد عن الإطلاق يحتاج إلى قرينة صارفة أو معيّنة.
و ما قاله البعض من إنَّه يجب للأخذ بالإطلاق أن تكون مقدّمات الحكمة جارية، و التي منها عدم وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب أو بشكل عامّ (كما أفاد ذلك المرحوم صاحب «الكفاية» رحمة الله عليه) غير تامّ، لأنَّ مقدّمات الحكمة و إن كانت تجري في الإطلاق، لكنَّ عدم وجود القدر المتيقّن (في مقام التخاطب أو بشكل عامّ) ليس من مقدّماتها، لأنَّ العرف يأخذ بالظهورات في كلّ موضوع من الموضوعات و في المحاورات و الأحكام و مجال الفقه، بشكل عامّ، من دون ملاحظة أيّ نوع من القدر المتيقّن (في مقام التخاطب أو بشكل عامّ). و إذا أردنا أن نأخذ بالقدر المتيقّن فيلزم من ذلك فقه جديد.
ليس هناك أيّة مسألة من المسائل الفقهيّة أو العرفيّة أو الاجتماعيّة إلّا و فيها قدر متيقّن. فإذا تقرّر أن يرفع الإنسان اليد عن الإطلاق و الظهور بأخذه بالقدر المتيقّن فلا يُبنَى حجر على حجر. فلو قال مولي لعبده: أعْطِ زَيداً دِرهَماً، فامتنع العبد، فسيقول المولي: لِمَ امتنعت؟ فيقول العبد: لأنَّ القدر المتيقّن من كلامك هو احتياجه، و لأنّي لم أرَهُ في حاجة، فلم أعطه! فهذا جوابٌ غير صحيح أبداً، لأنَّ المولي سيقول له: لقد أمرتك بنحو الإطلاق اللفظيّ أعْطِهِ دِرْهَماً، و لم اخصّص ذلك بمورد الحاجة، فقد كان لكلامي إطلاق، و كان يجب عليك أن تأخذ به و تنفّذه؛ فَلِمَ لم تعمل به؟!
نعم؛ في تلك الأدلّة غير المبيّنة و التي ليس بإمكانها أن تبيّن لنا مقدار سعتها و ضيقها مثل: الأدلّة اللُّبِّيَّة من قبيل الإجماع، فيلزم فيها الأخذ بالقدر المتيقّن، لأنَّ الإجماع لا يبيّن لنا مفاده لفظاً، إذ ليس له ظهور لفظيّ لكي يكون حجّة لنا، فقد كان له قبلًا كاشفيّة عن قول المعصوم أو عن دليل متيقّن لكنَّه لم يصل إلينا، و مهما يكن دليل حجّيّته، فالنتيجة هي أنَّ الإجماع كاشف عن واقع غير مبيّن. و لذا ينبغي أن نأخذ هناك بالقدر
المتيقّن، لأنّه لم يصل إلينا بالفعل أكثر من القدر المتيقّن، و المقدار الزائد مشكوك؛ فالحجّة إذَن في ذلك المقدار المتيقّن.
أمَّا الأدلّة اللفظيّة المبيّنة و الظاهرة- و الظهور حجّة- فينبغي أن نأخذ بها بمقدار ظهورها سواء كان الظهور في التقييد أم في الإطلاق، و علينا التمسّك بحجّيّة ذلك المقدار من الظهور.
و من الموارد التي ذكروها في جواز الأخذ بالإطلاق هي: أن يكون الإطلاق في حال لا يكون احتمال القرينة فيه على التقييد، لأنَّ المولي إذا تكلّم بنحو مطلق، و أراد منه المقيّد، و لم يأتِ بقرينة على التقييد، فقد أغري الإنسان بالجهل، أو ألقاه في خطر المفسدة.
فإذا صدر أمر من المولي، و كان مراده المطلق، و ظاهر كلامه كذلك بحيث نعلم أنَّ مراده المطلق، فعلينا الأخذ بالظاهر. أمّا إذا تكلّم بكلام مطلق و أراد المقيّد، فلا بدّ هنا من الإتيان بقرينة، و إلّا كان قد أغري المكلّف بالجهل، أو ألقاه في خطر المفسدة.
و عليه، فإحدى مقدّمات الحكمة عدم احتمال نصب قرينة، لكي لا يصير ذلك موجباً للإغراء بالجهل و الإلقاء في المفسدة. و لذا قال البعض إنَّه يجب أن نري هل المولي نصب قرينة مقيّدة أو صارفة لأجل صرف الظهور أم لا؟ و يجب الصبر إلى مجيء زمان العمل، و محلّ الامتثال، و استعمال مفاد كلامه. و إن لم ينصب قرينة، فالأخذ بالإطلاق، عند حلول زمان العمل.
و هذا الاستدلال غير تامّ، لأنَّ القاعدة المطّردة بين الموالي و العبيد أنَّهم يأخذون بالإطلاق، مِنْ دونِ انْتِظارِ مُدَّةٍ لِمَجيءِ قَرينَةٍ عَلَى التَّقْييد. فعند ما يطلق لفظ بين الموالي و العبيد في المحاكمات و المرافعات و المحاورات، و يقع حوار ما و ينعقد ظهور للفظ ما، فبمجرّد إطلاق اللفظ
يحصل ظهور لذلك اللفظ في الإطلاق فيصير حجّة و يعملون بظهوره، و يعاقبون بمجرّد التخلّف أيضاً.
فلا يستطيع العبد أن يقول: بما أنّه لم تقم قرينة فيجب الصبر لنري هل تأتي قرينة صارفة- و لو بعد ساعة- في الكلام أم لا؟ و إنَّما بمجرّد استعمال اللفظ في معني ما (سواء كان وضعيّاً أم غير وضعيّ) و بمجرّد أن يتحقّق له ظهور في المعني المستعمل فيه، فذلك الظهور حجّة. إذَن، فمقدّمة الإغراء بالجهل أو الإلقاء في المفسدة ليست خالية من السداد.
لا يجوز الاخذ بالإطلاق إذا كان أصل المعني اللغويّ وسعته مشكوكاً
نعم؛ لا يمكن الأخذ بالإطلاق إذا ما شككنا في أصل المعني اللغويّ، أو إذا كنّا نجهل سعة أو ضيق دائرة استعمال ذلك اللفظ لغة أو عرفاً، مثل لفظ «الماء» الذي نشكّ في كونه هل يصدق على ماء الزاج و الكبريت أيضاً أو لا؟ و مع أنَّ الماء من أظهر المفاهيم العرفيّة، و لكن و كما أفاد المرحوم الشيخ الأنصاريّ في كتاب «الطهارة» فإنَّا نشكّ في بعض الأحيان في صدق «الماء» على ماء الزاج و الكبريت، و أنّه هل يسمّي ماء الكبريت و ماء الزاج بالماء أو لا؟ أي هل يصدق إطلاق الماء عليها أو لا؟ ففي مثل هذه الصورة لا يمكن أن نأخذ بالإطلاق و لا يمكن التمسّك بدليل: الماءُ طاهِرٌ، أو: الماءُ طَهورٌ، لاستنتاج أنَّ ماء الزاج و الكبريت طهور و رافع للحدث و الخَبَث أيضاً باعتبارهما من مصاديق الماء، لأنّنا نجهل حقيقة: هل يقال لهذا الشيء الخارجيّ ماء أو لا!
أو كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالي: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}۱. إذا لم تجدوا ماءً فتيمّموا بالصعيد الطيّب، و شككنا في المراد الاستعماليّ الفعليّ من الصعيد من ناحية سعة و صدق مفهومه، فهل المراد
مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب الخالص؟ فهنا لا يمكننا الأخذ بالإطلاق أيضاً، لأنّنا نشكّ في نفس صدق المفهوم على هذا المورد.
أمّا لو تجاوزنا هذه الموارد فيجب الأخذ بالإطلاق مطلقاً، و في كلّ مورد اطلق لفظ ما، و تحقّق له ظهور في معني الماء، فذلك الظهور حجّة.
و ما قاله البعض بأنَّ اللفظ الفلانيّ منصرف إلى المعني الفلاني، فهذا الكلام لا دليل عليه إن لم يكن ثمّة وجه و شاهد للانصراف.
و عليه، فالانصراف يحتاج إلى الشاهد، فإذا كان الشاهد فيؤخذ به، و إلّا فيجب الأخذ بالظهور.
و إنِ ادّعي شخص الانصراف بينما يدّعي آخر منعه بقوله: إنَّ الانصراف بَدْوِيٌّ و يَزُولُ بِالتَّأمُّلِ. فهذا الكلام لا أساس له، و لا يصل بنا إلى نتيجة. و بشكل عامّ فإنَّ أمثال هذه الاحتجاجات في العبارات إن لم تعتمد على القرينة الصارفة فإنَّها لا تكون مطابقة لُاصول البرهان.
نعم؛ إذا ورد لفظ ما و اقيمت قرينة على انصرافه إلى بعض الأفراد- بشكل عامّ أو في هذا الموضع- فلا كلام، لكنّ ذلك أيضاً يحتاج إلى شاهد فيجب أن يقوم ذلك الانصراف بنزع ظهور اللفظ عن سعة المعني و عموميّته و حصره في مورد خاصّ ليكون المطلب تامّاً.
و لأجل حلّ هذه المسألة بشكل عامّ ينبغي الالتفات إلى أنَّ أسماء الأجناس- أيّاً كانت- مثل لفظ: الماء و الصعيد و الأرض و البَيع و الهِبَة و أمثالها قد وضعت لنفس الطبيعة بنحو لا بشرط قسم، المُعَبَّر عنها بلسان الاعتبار بـ الطبيعة المُهْمَلة. فلفظ «الماء» قد وضع للماء المهمل، أي الطبيعة المهملة لا بشرط قسم و كلّ لفظ في أصل وضعه إنَّما يُفهِم هذه الطبيعة المهملة فقط. فإذا قصد المتكلّم نفس هذه الطبيعة فالأمر واضح. و إذا قصد الطبيعة المطلقة لا بشرط قسم أو الطبيعة المقيّدة بشرطِ شَيء أو
بشرط لا، فهنا عليه أن يأتي بقرينة على مراده.
و في قرينة «التقييد» يقوم المتكلّم غالباً ببيان مراده من خلال ذكر شاهد يدلّ على حصر ذلك المطلق في الفرد المقيّد، و يشير بذلك الوضع إلى أنَّ المطلق غير مقصود، بل خصوص الفرد هو المقصود. هذا في قرينة التقييد.
و أمّا في قرينة «الإطلاق» فالأمر ليس كذلك، و إنَّما تتمّ قرينة الإطلاق بالسكوت، و تنعقد بواسطة عَدَم إيرادِ شَيْءٍ في الْكَلام يدلّ على خصوصيّة من خصوصيّات هذا اللفظ المطلق.
فإذا أتي بتلك الطبيعة المهملة لا بشرط قسم كمراد استعماليّ للّفظ، و لم ينصب قرينة على التقييد، فنستفيد من سكوته الإطلاق (أي لا بشرط قسم).
بناءً على هذا، فعلي الإنسان أن يلاحظ جميع الخصوصيّات، و المقامات، و مناسبات الحكم و الموضوع، و حال المتكلّم و المخاطب، و الظروف التي ورد فيها الحكم، و الظروف التي يمكن للإنسان أن يأتي فيها بالمأمور به، و سائر القرائن المحفوف بها الكلام، لكي يتّضح مقدار سعة انطباق دائرة هذا السكوت عَلَى ما يَنْطَبِقُ عَلَيهِ المَفْهُوم. لنحصل على: ما يمكننا استفادة الإطلاق من سكوت المتكلّم، في حال ذكره مطلباً و لم يأت بقرينة. لأنَّ حجّيّة اللفظ في ذلك المقدار من المعني المطلق الذي لا يمكن تقييده بموردٍ خاصّ. و صرفه عن ظهوره بادّعاء الانصراف و عدم الإرادة، و ما إلى ذلك.
الفهم العرفيّ على أساس ضوابط عميقة ليس للعقل طريقاً إليها
فعند ما يقترن اللفظ بالسكوت و يفيد ظهور معناه الأوّليّ، فمهما كان ذلك الظهور فهو حجّة. و يدرك الإنسان هذا الأمر، لكونه عرفيّ و وجدانيّ، بِما أنَّهُ مُدْرِكٌ لِلحَقائِقِ العُرْفيَّةِ وِجْداناً بِالذَّوْقِ الدَّقيق.
يقولون: إنَّ المسألة الفلانيّة عرفيّة. نعم؛ تسليمها للعرف أمر سهل جدّاً. و لكنَّ ملاك تشخيص العرف دقيق إلى درجة أنَّ العقل لا يدركه أيضاً، و لذا لا يستطيع العقل أن يتدخّل في عمل العرف، و يزيد فيه أو ينقص. فالأمر أمر عرفيّ، لكنَّ ملاكه و مناطه دقيق إلى درجة أنّه: لا يُمْكِنُ أنْ يُزاحِمَهُ أوْ يُعارِضَهُ أيُّ شَيْءٍ.
و تتفاوت القرينة التي تقام لأجل التقييد أو الانصراف إلى المراد بحسب اختلاف الأحوال و الخصوصيّات. ففي بعض الأوقات تكون قرينة على المجاز الذي يري البعض أنّه «عشرون» مورداً، بينما يراه البعض الآخر «خمسة و عشرين» مورداً، و ذهب بعض المحقّقين إلى أنّه: لا يَكادُ يَنْحَصِرُ تحتَ عَدٍّ، وَ لا يَنْضَبِطُ تَحْتَ ضابِطَة.
فقرائن المجازات قائمة على أساس الذوق العرفيّ، و لا تنحصر في حساب أو ضابطة. فإذا قامت قرينة ما فذلك المعني المطلق منصرف، و إلّا فلا. ففي موضع ما تكون القرينة صارفة، و في موضع آخر معيّنة. فنحن نتبع القرينة، و مهما كانت سواء مقاليّة أم مقاميّة (لفظيّة أم حاليّة) لا فرق.
و يدور الكلام فيما لو ورد لفظ و لم يكن ثمّة قرينة في الكلام تدلّ على التخصيص أو الانصراف إلى بعض الأفراد أو الصرف عن المعني الظاهريّ، و انتهى الكلام بذلك السكوت الذي يدلّ على عدم وجود القرينة، فيتحقّق لهذا اللفظ ظهور في معناه المطلق، و سيكون ذلك الإطلاق حجّة في تلك الطبيعة المهملة، و بإلحاق السكوت في الطبيعة المطلقة (لا بشرط قسم).
لا فرق في الاخذ بالإطلاق بين الإطلاقين الموضوعيّ و المحموليّ
و لقد ظنّ البعض أنّه يجب التفصيل في الأخذ بالإطلاق بين الموضوع و المحمول. أي يمكن الأخذ بالإطلاق في ناحية الموضوع مثلًا: الْماءُ سيّالٌ، فـ «الماء» له إطلاق، حيث يشمل كلّ نوع من الماء،
و لكن لا يمكن الأخذ بالإطلاق في حكم «سيّال». فالإطلاق عموماً لا يجري في المحمولات، و يكون الإهمال في ناحية الحمل، دون الإطلاق.
فإذا قلنا: زيدٌ عالمٌ، فزيد معلوم و محدّد، و لكن لا نستطيع أن نقول إنَّ لفظ عالم يعني أنّه عالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ؛ أي أنَّ زيداً عنده جميع علوم العالم، مع أنّه لم يرد قيد في ناحية المحمول، و قد ذكر عالِمٌ على نحو الإطلاق.
أو إذا قلنا: هَذَا الدَّواءُ نافِعٌ، فلا يمكننا أن نقول: نافِعٌ لِكُلِّ مَرَض. فكلمة «هذا الدواء» موضوع و محدّد؛ و لكن لا يمكننا أن نأخذ بإطلاق «نافع» و نقول: نافِعٌ لِكُلِّ مَرَضٍ في العالَمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ فَرْدٍ، مِنَ الصَّغيرِ وَ الكَبيرِ، وَ الشَّابِّ وَ الهَرِمِ، و المَرْأةِ وَ الرَّجُلِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
بناءً على هذا، ففي مثل رواية: "اولَئِكَ هُمْ خُلَفَائِي"، لا نستطيع الأخذ بإطلاق خُلَفَائِي. لأنَّ الكلام (أولئك هم خلفائي) يفيد الإجمال. فلأيّ شيء هم خلفاء؟ أ في القضاء؟ أم في الحكومة و الولاية؟ أم أنّهم خلفاء في الأحكام لرجوع الناس إليهم في أخذ معالم الدين و السنّة و تفسير الكتاب؟ فهناك إهمال من هذه الجهة، و لا نستطيع التمسّك بإطلاقها.
وَ قَد ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرنَا: أنَّ هذا الكلام ليس له أساس صحيح بأيّ وجه من الوجوه، لأنّه لا فرق في الأخذ بالإطلاق بين جهة الموضوع و المحمول. و اللفظ الصادر من المتكلّم من دون نصب قرينة على معني محدّد إنَّما يدلّ على معناه الظاهريّ، و المعني الظاهريّ مطلق. و نصب القرينة دلالة على التقييد، و لا فرق بين الموضوع و المحمول أبداً. و نستفيد الإطلاق من جهة المحمول بنفس الصورة التي نستفيد منها الإطلاق في جهة الموضوع بواسطة مقدّمات الحكمة.
أمّا السبب في كوننا لا نستفيد الإطلاق من زَيدٌ عالِمٌ و الدَّواءُ نافِعٌ، لأنَّ نفس اللفظ لا يدلّ على الإطلاق، فكلمة «عالِمٌ» تدلّ على صرف الانتساب إلى العلم. و لو كان اللفظ بنحو يفيد الإطلاق لكنّا استفدنا ذلك منه أيضاً، كأن نقول: زَيدٌ الْعالِمُ؛ أي: أنَّ زيداً عالم بجميع أفراد العلم. فدخول الألف و اللام دليل على الإطلاق. أي هو عالم بكلّ ما للكلمة من معني، و كذلك: زيدٌ الشُّجاعُ، زيدٌ البَطلُ المُحامي، و أمثال ذلك.
و ينسب النفع إلى الدواء بنحو الإهمال في «هَذا الدَّواءُ نافِعٌ» فقط. و لو قلنا: هَذا الدَّواءُ النَّافِعُ، نستفيد من الألف و اللام الإطلاق. و لهذا الإطلاق لا بدّ أيضاً من التمسّك بمقدّمات الحكمة.
و كذا الحال في الموضوع أيضاً. فلو قيل: الماءُ بارِدٌ، فَيُعلَم من الألف و اللام، الدالّة على العهد الذهنيّ، أنَّ لازم ذلك هو سراية برودة الماء إلى كلّ ما ينطبق عليه لفظ «الماء» (مصاديقه) في العالم. لأنَّ لفظ الماء يفيد أنَّ هذه الطبيعة، بهذا الوصف و العنوان يصدق عليها مفهوم «بارد» حيثما وجدت.
أمّا لو أبدلنا كلمة «الماء» بكلمة «ماء» بدون ألف و لام، أو مثل: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرادَة، أو: رَجُلٌ خَيْرٌ مِنْ مَرْأة؛ فلا يستفاد منها الإطلاق إلّا بتلك الشروط المذكورة. فكيف نستفيد الإطلاق من: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرادَة و رَجُلٌ خَيْرٌ مِنْ مَرْأة؟! و هذا بخلاف ما لو قيل: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ المَرْأة.
و خلاصة المطلب: لا فرق في الأخذ بالإطلاق بين الموضوع و المحمول، و أينما كان للفظ ظهور في الإطلاق، فذلك الظهور حجّة.
فليس من فرق بين الموضوع و المحمول على الإطلاق في جميع الأمثلة التي ذكرناها، و كذلك ببقيّة المسائل و الأحكام و الأوامر الواردة في الشرع، مثل: "النَّاسُ ثَلَاثَةٌ، أو: قَائِمٌ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً أوْ خَائِفاً
مَغْمُوراً، أو: اولَئِكَ خُلَفَائِي، أو: اولَئِكَ رُوَاةُ حَدِيثِي يَرْوُونَ أحَادِيثِي"، و أمثال ذلك ممّا كان الإطلاق فيه محفوظاً في محلّه، و يدلّ على المراد بالدلالة اللفظيّة. فلا الأخذ بالقدر المتيقّن هنا له معني، و لا انتظار القرينة، فاللفظ حجّة في المعني الذي يتحقّق له ظهور فيه و حسب. كانت هذه مقدّمة لبيان المطلب، و قد طالت إلى حدّ ما علي ما يبدو.
الرواية الواردة في «الاحتجاج» عن الإمام الحسن العسكريّ
تفسير الإمام لآية: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلّا أَمَانِيَ
و نرجع الآن إلى أصل البحث المتعلّق بولاية الفقيه، فنقول: إحدى الروايات التي يُستدلّ بها علي ولاية الفقيه هي الرواية التي ينقلها الشيخ الطَّبرسيّ في «الاحتجاج» عن «التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكريّ عليه السلام» في [تَفْسيرِ] قَوْلِهِ تَعالَى: {وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}۱.
ففي هذه الرواية يتمسّك الإمام العسكريّ عليه السلام بقول الإمام الصادق عليه السلام في جوابه لرجل سأل عن الفرق بين عوامّ اليهود و عوامّنا؛ فيقول الإمام عليه السلام ضمن كلامه: "فَأمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ، مُطِيعاً لأمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أنْ يُقَلِّدُوهُ".
التقليد بمعني وضع القلادة في عنق الغير، و ليس بمعني أن يضع المقلِّد قلادة الأمر و النهي و الالتزام بطاعة مقلَّده على رقبته، فهذا تَقَلُّد و ليس تقليداً. فالتقليد هو وضع القلادة في رقبة الغير، أي أنَّ المقلِّد يضع ثقله في عنق المجتهد، فيضيف المجتهد حمل أثقال مقلّديه إلي حمل
أثقاله. «فَلِلْعَوَامِّ أنْ يُقَلِّدُوهُ» أي يضعون قلادة العمل و الاعتماد و الوساطة في العلم و أخذ أحكام الكتاب و السنّة في رقبته، و ذلك مِنْ قَلَّدَهُ السَّيْفَ.
فحين يقال: قلَّد الملك وزيرَه سيفاً، فيعني أنّه قد جعله متحمّلًا لمسئوليّة حمل السيف.
ثمّ يقول عليه السلام: "وَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْضَ فُقَهَاءِ الشِّيعَةِ لَا جَمِيعَهُمْ، فَإنَّهُ مَنْ رَكِبَ مِنَ القَبَائِحِ وَ الفَوَاحِشِ مَرَاكِبَ فَسَقَةِ العَامَّةِ، فَلَا تَقْبَلُوا مِنَّا عَنْهُ شَيْئاً وَ لَا كَرَامَةَ".
ورد هذا الحديث بكامله في الجزء الثاني من «الاحتجاج» للطبرسيّ في ثلاث صفحات، و هو حديث طويل و يحتوي على دقائق و لطائف و نكات. و بيّن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام مطالباً نفيسة عند تفسيره للآية المذكورة.
أمّا الشيخ رحمه الله في رسائله، فلم يذكر جميع الرواية، و اكتفي بما نقله الإمام العسكريّ عليه السلام من ذلك المقدار الذي يحتوي على كلام الإمام الصادق في جواب ذلك السائل.
و علي الرغم من احتواء «التفسير المنسوب للإمام العسكريّ» على مطالب غير حقّة (و لا يمكن للإنسان نسبة ذلك الكتاب إلى الإمام على نحو اليقين، إذ كما هو ظاهر قد تصرّف فيه و الحقت به إضافات، و لذلك لا نستطيع أن نعدّ جميع هذا التفسير- من ناحية المجموع- معتبراً) لكنّه إجمالًا يتضمّن روايات في أعلى درجات المتانة و الدقّة، و من ضمنها رواية تشتمل على مضامين عالية جدّاً و راقية.
و لتبيان جميع المطالب و الاستدلال بها، ننقل هذه الرواية إن شاء الله تعالي، عن أصل «الاحتجاج» ليتبيّن محلّ استدلال الإمام العسكريّ عليه السلام، و من ثمّ كلام الإمام الصادق عليه السلام.
يقول الشيخ الطبرسيّ: وَ بِالإسْنادِ الَّذي مَضَى ذِكْرُهُ عَنْ أبي مُحَمَّدٍ العَسْكَرِيِّ عَلَيهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ تَعالَى: {وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ}۱.
"إنَّ الامِّيَّ، مَنْسُوبٌ إلَى «امِّهِ» أيْ: هُوَ كَمَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ امِّهِ لَا يَقْرَا وَ لَا يَكْتُبُ.
{لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ} المُنْزَلِ مِنَ السَّمَاءِ وَ لَا المُتَكَذَّبِ بِهِ؛ وَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَهُمَا {إِلَّا أَمانِيَ} أيْ: إلَّا أنْ يُقْرَأ عَلَيْهِمْ وَ يُقَالَ لَهُمْ: إنَّ هَذَا كِتَابُ اللهِ وَ كَلَامُهُ."
أي أنَّ اليهود و النصارى لا يعلمون شيئاً من كتابهم (الإنجيل و التوراة) و لا يفرّقون بين الكتاب النازل من السماء و الكتاب الكاذب الذي يُنسب إلى الله (لا يفرّقون بين النبيّ الحقيقيّ الذي من عند الله و النبيّ الكاذب الذي ينسب ذلك الكتاب إلى الله) و لا يدركون عنه شيئاً أبعد من كونه كتاباً له صفحات و لا يميّزون بين واقع ذلك الكتاب الباطل و واقع الكتاب الحقّ إلّا أمانيّ، فتمييزهم و تشخيصهم إنَّما هو على أساس الأمانيّ فقط.
أي أنّه ليس هناك مميّز في أذهانهم بين هذا الكتاب و بين الكتب الباطلة إلّا أن يقرأ عليهم هذا الكتاب، و يقال لهم: هذا كتاب الله و كلامه، لتفرح قلوبهم و يبنوا على ذلك أمانيّهم و أفكارهم و آمالهم.
"لَا يَعْرِفُونَ إنْ قُرِئَ مِنَ الكِتَابِ خِلَافَ مَا فِيهِ".
فأصل الكتاب حقّ و لكن عند ما يقرأه علماء النصارى أو اليهود على أحدهم يقرأه بشكل مُحَرَّف، لا يفقه ذلك المسكين، و يتوهّم أنَّ ما
يقرأه ذلك العالم من الكتاب هو ذلك المُنَزَّلِ مِنَ السَّماءِ.
{وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} أي مَا يَقْرَا عَلَيْهِمْ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنْ تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ فِي نُبُوَّتِهِ وَ إمَامَةِ عَلِيٍّ سَيِّدِ عِتْرَتِهِ.
وَ هُمْ يُقَلِّدُونَهُمْ مَعَ أنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ تَقْلِيدُهُمْ."
فحرامٌ تقليد العالم الخائن الذي قد حرّف كتاب الله و راح يطرح ما فيه بخلاف ما هو عليه.
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}۱ [{لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}]٢.
تتحدّث هذه الآيات القرآنيّة عن قوم من اليهود قلّدوا علماءهم، و كان اولئك العلماء ينسبون إلى النبيّ اموراً مخالفة للواقع و لمضامين التوراة، و يذكرونها لعوامّهم، فيقطعون بهذه الوسيلة الطريق عليهم في الوصول إلى النبيّ و الإيمان به.
يقول الإمام العسكريّ عليه السلام: "هَذَا القَوْمُ اليَهُودُ كَتَبُوا صِفَةً زَعَمُوا أنَّهَا صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ هِيَ خِلَافُ صِفَتِهِ، وَ قَالُوا لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْهُمْ: هَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ المَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ: إنَّهُ طَوِيلٌ عَظِيمُ البَدَنِ وَ البَطْنِ، أهْدَفُ، أصْهَبُ الشَّعْرِ، وَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ بِخِلَافِهِ، وَ هُوَ يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا الزَّمَانِ بِخَمْسِمِائةِ سَنَةٍ".
(الأصْهَب بمعني الأشْقَر و الأشقر لون بين الأحمر و الأصفر. و هناك كثير من الخيول لها لون خاصّ، لا هو أحمر و لا هو أصفر، تسمّي بالخيول
الشقر).
"وَ إنَّمَا أرَادُوا بِذَلِكَ أنْ تَبْقَى لَهُمْ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ رِيَاسَتُهُمْ، وَ تَدُومَ لَهُمْ إصَابَاتُهُمْ، وَ يَكُفُّوا أنْفُسَهُمْ مَئُونَةَ خِدْمَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ خِدْمَةِ عَلِيٍّ عَلَيهِ السَّلَامُ وَ أهْلِ بَيْتِهِ وَ خَاصَّتِهِ".
فالسبب في قيام علماء اليهود بهذا العمل أمام عوامّهم هو: أنّهم إذا آمنوا فعليهم أن يكونوا كسائر المسلمين العاديّين، و أن يخضعوا لأمر النبيّ، فيجاهدوا و يصلّوا و يؤدّوا الخمس و الزكاة، و عليهم الطاعة و الالتزام. و بما أنّهم يطمحون بالقيادة، فلذلك لا يؤمنون بما جاء به الإسلام و يحاولون تحريف الحقائق لصرف ضعفائهم عن النبيّ.
"فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ المُحَرَّفَاتِ وَ المُخَالِفَاتِ لِصَفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ عَلِيٍّ عَلَيهِ السَّلَامُ!
الشِّدَّةُ لَهُمْ مِنَ العَذَابِ فِي أسْوَإ بِقَاعِ جَهَنَّمَ «وَ وَيْلٌ لَهُم» الشِّدَّةُ فِي العَذَابِ ثَانِيَةً مُضَافَةً إلَى الاولَى بِمَا يَكْسِبُونَهُ مِنَ الأمْوَالِ الَّتِي يَأخُذُونَهَا إذْ أثْبَتُوا عَوَامَّهُمْ عَلَى الكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ الحُجَّةِ لِوَصِيِّهِ وَ أخِيهِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السَّلَامُ وَلِيِّ اللهِ."
كان هذا بيان الإمام العسكريّ عليه السلام لهذه الآية القرآنيّة، و توضيح لتفسير آية: {وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ثمّ يستشهد الإمام عليه السلام بكلام الإمام الصادق عليهما السلام (حيث قام الشيخ في «الرسائل» بنقل الكلام من هذا الموضع فما بعد).
بين علمائنا و عوامّنا و علماء اليهود و عوامّهم فرق و تسوية
"ثُمَّ قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: قَالَ رَجُلٌ لِلصَّادِقِ عَلَيهِ السَّلَامُ: فَإذَا كَانَ هَؤُلَاءِ القَوْمُ مِنَ اليَهُودِ لَا يَعْرِفُونَ الكِتَابَ إلَّا بِمَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ،
لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى غَيْرِهِ، فَكَيْفَ ذَمَّهُمْ بِتَقْلِيدِهِمْ وَ القَبُولِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ وَ هَلْ عَوَامُّ اليَهُودِ إلَّا كَعَوَامِّنَا يُقَلِّدُونَ عُلَمَاءَهُمْ؟"
بناءً على هذا، فعلامَ يكون عوامّ اليهود خاطئين و يذمّهم الله مع أنّهم امّيون و جهلة لَا يَقْرَءونَ وَ لَا يَكْتُبُونَ، و لا يفرّقون بين القرآن و بين التوراة و الإنجيل و لا بين الكتب الضالّة الاخرى، و لا يميّزون بعضها عن بعض؟
فما ذنب هؤلاء المساكين إذا لم يكن لهم من طريق لتحصيل معارفهم الدينيّة سوي علمائهم، و علماؤهم لا يعطوهم سوي الحقائق المزيّفة؟ و هل عوامّ اليهود إلّا مثل عوامّنا الذين يقلّدون علماءنا و يعملون بما يأمرونهم به؟
هذا هو إشكال ذلك السائل على الإمام العسكريّ عليه السلام.
"فَقَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: بَيْنَ عَوَامِّنَا وَ عُلَمَائِنَا وَ عَوَامِّ اليَهُودِ وَ عُلَمَائِهِمْ فَرْقٌ مِنْ جَهَةٍ وَ تَسْوِيَةٌ مِنْ جَهَةٍ.
أمَّا مِنْ حَيْثُ اسْتَوَوْا: فَإنَّ اللهَ قَدْ ذَمَّ عَوَامَّنَا بِتَقْلِيدِهِمْ عُلماءَهُمْ، كَمَا ذَمَّ عَوَامَّهُمْ؛ وَ أمَّا مِنْ حَيْثُ افْتَرَقُوا، فَلَا"۱.
فلا يختصّ ذمّ الله في الجهة المشتركة بعوامّ اليهود، بل يشمل عوامّنا أيضاً، فحين يقلّدون العلماء الذين يبدون لهم خلاف الواقع و يقبلون منهم ذلك، فسيقعون تحت طائلة الذمّ، و يكونون عرضة للعقوبة.
أي عند ما يعرف عوامّنا عالماً له سوابق سيّئة و من أهل الخيانة، و معروف بحبّه للدنيا و جمع المال و الرئاسة، فيتبعونه و هو بهذه الحال، فالذمّ نصيبهم و العقوبة حصيلتهم، لأنّهم سيُسألون عن سبب اتّباعهم ذلك الشخص على الرغم من معرفتهم بخيانته بوجدانهم و نورهم القلبيّ، و كذا
الحال بالنسبة لعوامّ اليهود فإنَّهم سيتعرّضون للسؤال و المؤاخذة.
أمّا من جهة اتّباع عوامّنا للعلماء الصالحين، بعد التفحّص عن أحوالهم، فهنا يكمن الفرق بين عوامّنا و عوامّ اليهود، لأنّه لو قلّد عوامّنا علماءهم في امور مشتبه بها، فليس على عاتقهم من وزر، بخلاف تقليد عوامّ اليهود لعلمائهم.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ السَّابِعُ عَشَر: بحث مفصّلٌ حولَ: الْحَدِيثِ الوَارِدِ فِي «الاحْتِجَاجِ» لِلطَّبَرْسِيِ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
يمكن لايّ شخص أن يشخّص علماء السوء بإدراكه الوجدانيّ و ...
ذكرنا أنَّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام أجاب ذلك السائل بأنّه يوجد بين عوامّنا و علمائنا و عوامّ اليهود و علمائهم فرق من جهة، و تسوية من جهة اخرى.
أمّا في الجهة التي يتساوون فيها فذمُّ الله تعالي شاملٌ لتقليد عوامّنا لعلمائهم أيضاً. فهذا لا يعني أنَّ الذمّ لا يشمل عوامّنا بينما عوامّهم محلّ لذلك الذمّ.
قَالَ: بَيِّنْ لي يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ!
يقول الراوي للإمام عليه السلام: بيّن لي هذا الأمر و وضّحه، فما هو المناط في جهتي الاختلاف و التساوي؟ و ما هو الدليل على ذلك؟
قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ:" إنَّ عَوَامَّ اليَهُودِ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا عُلَمَاءَهُمْ بِالكِذْبِ الصَّرَاحِ، وَ بِأكْلِ الحَرَامِ وَ الرُّشَاءِ، وَ بِتَغْيِيرِ الأحْكَامِ عَنْ وَاجِبِهَا بِالشَّفَاعَاتِ وَ العِنَايَاتِ وَ المُصَانَعَاتِ".
و كمثال على ذلك يشفع البعض عند العالم فيقوم من ناحيته بتغيير حكم الله تعالي لأجل هذه الشفاعة و التوصيات، و يلجأ إلى سحق الحقّ و تغييره، بسبب اهتمامه و عنايته بخواصّه و أقربائه و قومه و أصدقائه من خلال المصانعات و الاتّفاقات و الألاعيب الحاصلة، و كان العوامّ يفهمون ما يقوم به علماؤهم.
"وَ عَرَفُوهُمْ بِالتَّعَصُّبِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُفَارِقُونَ بِهِ أدْيَانَهُمْ".
فكان العوامّ على علم بأنانيّة علمائهم و تعصّبهم و شعورهم بالذات بنحوٍ أبعدهم- باتّباعهم التعصّب، و المحوريّة، و الإحساس بالذات، و عدم التنازل عمّا باتوا عليه- عن الأحكام الواردة في كتابهم و دينهم، و انفصلوا عن الدين، فلم يعودوا قادرين على العمل بأحكام الدين بسبب ذلك التعصّب و الاستبداد الفكريّ و النفسيّ.
"وَ أنَّهُمْ إذَا تَعَصَّبُوا أزَالُوا حُقُوقَ مَنْ تَعَصَّبُوا عَلَيهِ و أعْطَوْا مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَعَصَّبُوا لَهُ مِنْ أمْوَالِ غَيْرِهِمْ وَ ظَلَمُوهُمْ مِنْ أجْلِهِمْ. وَ عَرَفُوهُمْ يُقَارِفُونَ المُحَرَّمَاتِ.
وَ اضْطَرُّوا بِمَعَارِفِ قُلُوبِهِمْ إلَى أنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يَفْعَلُونَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ، لَا يَجُوزُ أنْ يُصَدَّقَ عَلَى اللهِ، وَ لَا عَلَى الوَسَائِطِ بَيْنَ الخَلْقِ وَ بَيْنَ اللهِ."
فيا لهذه الجملة من تعبير: «وَ اضْطَرُّوا بِمَعَارِفِ قُلُوبِهِمْ إلَى أنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يَفْعَلُونَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ»! و هذه أكبر حجّة وضعها الله في قلب الإنسان، بحيث يجد كلّ إنسان بباطنه و وجدانه و بمعرفته الباطنيّة و بنظره و إدراكه العميق الذي لا يوجد بينه و بين الله أدقّ منه و أصحّ، أنَّ فلاناً مثلًا يكذب، و فلاناً الآخر يصدق، ففي الوقت الذي يدرك الإنسان ذلك، فَلِمَ يتبع من هو ليس أهلًا للاتّباع؟
بناءً على هذا، فلا ينبغي للإنسان أن يعتبر عوامّ اليهود أبرياء،
و يقول: إنَّ هؤلاء عوامّ، و العامّي إنَّما يتبع عالمه، و ينصاع لكلّ ما يقوله العالم، فما هو تقصيرهم في الأمر؟ لا؛ فليس هذا الكلام صحيحاً.
فتقصير العوامّ هو في اتّباعهم لهذا العالم، إذ صحيح أنَّ ذلك العالم تكلّم و وعظ و درّس، و لكن عند ما رأيته بإدراكك الباطنيّ و القلبيّ أنّه يعمل بخلاف كتاب الله و السنّة، و يكذب بشكل صريح، و يتساهل في الامور، و يدعم الأشخاص الذين هم من أتباعه، فيمنحهم المال الكثير، و يحترمهم، بينما يضيّع حقوق الآخرين و لا يهتمّ بهم، و يدينهم في أحكامه، و يحطّ من وزنهم الاجتماعيّ، أو سمعته يكذب و يبرّر كذبه بحجّة مصالح معيّنة، و مع ذلك تراه يأكل الحرام، و ظاهره يخالف باطنه.
فإذا أدرك الإنسان هذا الأمر في باطنه، فهل تبقي له حجّة إلهيّة للذهاب إلى ذلك العالم؟! فالذهاب إليه خطأ بَيِّنٌ.
للّه حجّتان: حجّة ظاهرة: الانبياء و الائمّة، و حجّة باطنة: العقل
و هذه الحجّة الباطنيّة التي ذكرها الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في تلك الرواية المعروفة، من أنَّ للّه: حجّة باطنة و حجّة ظاهرة. فالحجّة الباطنة العقول، و الحجّة الظاهرة الأنبياء و الأئمّة۱. و ما لم تستعمل الحجّة الباطنة فإنَّ الحجّة الظاهرة لا تستعمل أيضاً. و ما لم يعرف عقل الإنسان النبيّ باعتباره نبيّاً فإنَّه لا ينصاع إليه. فإنَّما تكون كلمات الحجّة الظاهرة- النبيّ- مؤثّرة في حال قبول عقل الإنسان، و ارتضاء وجدانه.
فجميع الحجج ترجع إذَن إلى العقل و الإدراك. فإذا لم يكن للإنسان عقل و إدراك فلا يتمكّن من التمييز بين النبيّ الحقيقيّ و مدّعي النبوّة الكاذب، بين النبيّ و المتنبّئ. فالجميع يدّعي النبوّة و كلّهم يخطبون و يأتون الناس بالكتب و يقيمون الاستدلالات و يتحدّثون بحماسٍ و انفعال و يوردون الخطب؛ فمن أين يفهم الإنسان أنَّ هذا صحيح و ذاك باطل؟ إنَّما يكون ذلك بواسطة تلك الحجّة الباطنيّة و النظر القلبيّ الذي يتساوى فيها جميع الأفراد، العالم و الجاهل، العوامّ و العلماء. فجميع الناس متساوون في هذه الجهة، و قد وهبهم الله تعالي إدراكاً باطنيّاً و تفكيراً عميقاً يستطيعون بواسطته أن يزنوا جميع إدراكاتهم و علومهم التي تعرض عليهم من الخارج، و يميّزون بهما بين الحقّ و الباطل.
فليس بإمكان جميع العوامّ- الذين جذبهم علماء السوء إليهم- أن يقولوا للّه سبحانه يوم القيامة بأنّهم لم يكونوا يعلمون، و أنَّ عيونهم لم تكن مفتوحة، و أنّهم كانوا امّيّين، و ليس بإمكانهم تشخيص الكلام إن كان فارسيّاً أو عربيّاً أو أجنبيّاً، و لم يكونوا يعرفون أوّل الكتاب من آخره، و إنَّ هؤلاء قد أمسكوا بزمامهم و ساروا بهم حيث يريدون. فعبارة الإمام: "وَ اضْطَرُّوا بِمَعَارِفِ قُلُوبِهِمْ إلَى أنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يَفْعَلُونَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ". قد وضعت خاتمة لذلك الغرور و الفرح المزيّف.
أي أنَّ الإدراك الباطنيّ و النظر القلبيّ الذي تنطوي عليه صدورهم ليس أمراً اختياريّاً، بل جبلّة طبعت على الجميع، كما لو فتح الإنسان عينه فبمجرّد أن يفتحها فسوف يبصر و لا يتمكّن من أن لا يري- و هو في تلك الحال- حتّى و إن طلبت منه أن لا يري. و هذا من لطف و محبّة و جلالة و عظمة الله تعالي بأن أعطي الإنسان قوّة أعلى من جميع العلوم و من جميع الإدراكات، و عجنها في خلقة وجوده، فهي لا تنفصل عنه حتّى في منامه،
و لا تفارقه في يقظته، فهو يسير بمعارف القلوب هذه.
فعند ما يري هؤلاء العوامّ أنَّ علماء اليهود يكذبون بشكل صريح، و يميلون مع أقربائهم، و يتعصّبون على من لا يُبدي لهم الحُسنى، و يضيّعون حقّه، و يحكمون عليه في محاكماتهم، و يقطعون نصيبه و غير ذلك من الأعمال التي يقومون بها، فَلِمَ يتّبعونهم و يقلّدونهم؟ فاولئك العوامّ- و الحال هذه- مُدانون، و لا حجّة لديهم عند الله تعالي.
"فَلِذَلِكَ ذَمَّهُمْ لِمَا قَلَّدُوا مَنْ قَدْ عَرَفُوهُ؛ وَ مَنْ قَدْ عَلِمُوا أنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ وَ لَا تَصْدِيقُهُ فِي حِكَايَتِهِ، وَ لَا العَمَلُ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِمْ عَمَّنْ لَمْ يُشَاهِدُوهُ؛ (لأنَّ الإشكال واقع في الواسطة؛ و الماء قد تلوَّث و تعفّن في ضمن الطريق) وَ وَجَبَ عَلَيْهِمُ النَّظَرُ بِأنْفُسِهِمْ فِي أمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ إذْ كَانَتْ دَلَائِلُهُ أوْضَحَ مِنْ أنْ تَخْفَى، وَ أشْهَرَ مِنْ أنْ لَا تَظْهَرَ لَهُمْ".
فعند ما رأي العوامّ أنَّ علماءهم بهذا النحو، و اضطرّوا بمعارف قلوبهم و بالحكم الوجدانيّ العقليّ أن يروا فسقهم و الحكم بعدم قبول خبرهم و خيانتهم في أموالهم؛ فكان عليهم- و الحال هذه- أن يقصدوا هذا النبيّ ليروا ما الذي يقوله.
فلو ذهبوا إلى النبيّ و رأوا دلائله واضحة، و أدلّته و حججه بدرجة أعلى و أشدّ من مرتبة الإتقان و أوضح من أن تخفي، و أشهر من أن لا تظهر لهم، فعندئذٍ سوف يقبلون أمره.
و لذا فهم يذهبون يوم القيامة إلى جهنّم، بعد أن يقال لهم: كان الطريق إلى رسول الله مهيّأ، و الأدلّة قد بُيّنت بوضوح من قبل رسول الله، فَلِمَ اتّبعتم اولئك العلماء تَعَصُّباً لِلحَمِيَّةِ الْجاهِليَّةِ، وَ لِلإدْراكاتِ الحَمْقانيَّة، و بقيتم بتلك الجهالة و البربريّة؟ هذا فيما يتعلّق باليهود.
"وَ كَذَلِكَ عَوَامُّ امَّتِنَا إذَا عَرَفُوا مِنْ فُقَهَائِهِمُ الفِسْقَ الظَّاهِرَ، وَ العَصَبِيَّةَ
الشَّدِيدَةَ، وَ التَّكَالُبَ عَلَى حُطَامِ الدُّنْيَا وَ حَرَامِهَا، وَ مَنْ يَتَعَصَّبُونَ عَلَيهِ وَ إنْ كَانَ لإصْلَاحِ أمْرِهِ مُسْتَحِقّاً، وَ بِالتَّرَفْرُفِ بِالبِرِّ وَ الإحْسَانِ عَلَى مَنْ تَعَصَّبُوا لَهُ وَ إنْ كَانَ لِلإذْلَالِ و الإهَانَةِ مُسْتَحِقّاً".
و كذلك عوامّ امّتنا إذا رأوا من فقهائهم الفسق الظاهر، و الاستكبار، و الاستبداد، و التشبّث بالرأي و الاستبداد الفكريّ في أمر من الامور ممّا لا يتلائم مع أساس الدين، و رأوا تكالبهم على حطام الدنيا و الحرام (التكالب: تشبيه لحال الكلاب حين ترمي أنفسها على جيفة، و يتسارع الجميع في محاولة أخذها، و ينتهي ذلك بالتنازع على تلك الجيفة) و رأوا أنَّ هؤلاء الفسقة يتنازعون على حطام الدنيا، فهذا لأجل الرئاسة، و ذاك لهدف آخر، و خلاصة الأمر: يظهرون تعصّبهم و تكالبهم بصور مختلفة، و إذا علموا من فقهائهم أنّهم يسحقون كلّ مَن لا ينسجم معهم في نهجه و يقضون على من كانت علاقته بهم سيّئة في جميع شئونه و إن كان يستحقّ أن يصلحوا أمره برعايته و الحفاظ عليه من كلّ الجهات، لكنّهم لا يعملون بالبرّ و الإحسان إلّا بمن ارتبط بهم و أيّدهم، فيوفّرون لهم كلّ ما يريدون بشكل متواصل و إن كانوا ممّن لا يستحقّ ذلك، أي ممّن وجب عليهم الطرد و الإبعاد و المحاسبة!
"فَمَنْ قَلَّدَ مِنْ عَوَامِّنَا مِثلَ هَؤُلَاءِ الفُقَهَاءِ، فَهُمْ مِثْلُ اليَهُودِ الَّذِينَ ذَمَّهُمُ اللهُ بِالتَّقْلِيدِ لِفَسَقَةِ فُقَهَائِهِمْ".
بحث في مفاد: فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ: صَائِناً لِنَفْسِهِ ...
"فَأمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ: صَائِناً لِنَفْسِهِ (مَن قيّد نفسه و عصمها و صانها، و منعها من أن تتجرّأ على كسر ذلك القيد، أو الخروج من حدود تلك الحصانة)، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ، مُطِعياً لأمْرِ مَوْلَاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أنْ يُقَلِّدُوهُ. وَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْضَ فُقَهَاءِ الشِّيعَةِ لَا جَمِيعَهُمْ.
فَإنَّهُ مَنْ رَكِبَ مِنَ القَبَائِحِ وَ الفَوَاحِشِ مَرَاكِبَ فَسَقَةِ العَامَّةِ فَلَا تَقْبَلُوا
مِنَّا عَنْهُ شَيْئاً وَ لَا كَرَامَةَ.
وَ إنَّمَا كَثُرَ التَّخْلِيطُ فِيمَا يُتَحَمَّلُ عَنَّا أهْلَ البَيْتِ لِذَلِكَ".
مَن يتلاعب في كلام الائمّة لاغراض مختلفة
من المؤسف جدّاً و المؤثّر أنَّ غالبيّة ما يأخذه هؤلاء الفقهاء، منّا أهل البيت يخلطونه و يمزجونه بمطالب باطلة، و ينشرونه بين الناس و يعلّمونه لهم، فهم يسمعون الحقّ منّا، و يدرسون في مدرستنا، و يصبحون علماء، لكنّهم يظهرون للناس شيئاً آخر، و يتوهّم الناس أنَّ ذلك قولنا.
فيضيع اولئك الناس- لأنّهم اضطرّوا بمعارف قلوبهم ألّا يقبلوا شيئاً من هؤلاء الفقهاء الفسقة، لكنّهم قبلوا منهم- و يضيع اولئك الفقهاء الفسقة أيضاً، لأنّهم يأتون إلينا و يدرسون عندنا، و يأخذون منّا الحديث و الروايات و العلم، ثمّ يذهبون فيضيفون أشياء من عند أنفسهم، و يقومون بالتحريف و التصحيف و الزيادة و النقصان، ممّا يؤدّي إلى تضييع قلوبهم، و إسقاط اعتبارنا عند الناس.
ما هو ذنبنا؟ فنحن أئمّة الناس، و كانت جميع ساعات و دقائق عمرنا تمضي بالنحو الأتمّ و الأكمل، و ليس في كلامنا خلاف الحقّ و إن تكلّمنا في حال النوم، فلما ذا يأتي هؤلاء لأخذ المسائل منّا ثمّ يضيفون إليها شيئاً من عند أنفسهم، و يقولون: قالَ الصادق؟! إنَّهم بأعمالهم هذه إنَّما يضيّعوننا عند العدوّ و الصديق.
أمَّا شيعتنا من أهل التسليم، فعند ما يسمعون هذه المطالب يقولون بألم: ليس من حيلة، و علينا تقليد الصادق عليه السلام و اتّباعه، بينما يُسرّ العدوّ عند ما يري ترشّح هذه المطالب بواسطة فقهاء من طلّاب الأئمّة عليهم السلام، على الرغم من كون الأئمّة معصومين و منزّهين و مطهّرين و لا يصدر منهم شيء مخالف للحقّ، و لذا ظهر في كلام الإمام عليه السلام التأثّر الشديد بقوله: "وَ إنَّمَا كَثُرَ التَّخْلِيطُ فِيمَا يُتَحَمَّلُ عَنَّا أهلَ البَيْتِ لِذَلِكَ".
و عليه، فالعلماء الذين يأخذون عن الأئمّة عليهم السلام ليوصلوا ذلك إلى الناس بصفتهم من علماء الشيعة، على ثلاث طوائف.
"لأنَّ الفَسَقَةَ يَتَحَمَّلُونَ عَنَّا فَيُحَرِّفُونَهُ بِأسْرِهِ بِجَهْلِهِمْ وَ يَضَعُونَ الأشْيَاءَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ".
فبعض هؤلاء العلماء: الفسقة، الذين كان فسقهم بسبب كذبهم و تغييرهم و تحريفهم، فإنَّهم لم يكونوا معاندين و سيّئي السريرة، لكنّهم جاهلون من خلال تحريفهم كلامنا، و بثّ ذلك بين الناس، فبسبب قلّة معرفتهم يضعون الأشياء في غير موضعها.
فهم طائفة من اولئك الفسّاق الذين سدّوا طريق العوامّ إلى الله بسبب تحريفهم و كذبهم.
"وَ آخَرُونَ يَتَعَمَّدُونَ الكَذِبَ عَلَيْنَا لِيَجُرُّوا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا مَا هُوَ زَادُهُمْ إلَى نَارِ جَهَنَّمَ".
و الطائفة الاخرى من اولئك العلماء الفسقة: هم ممّن يكذبون على الأئمّة عليهم السلام عمداً، لا لجهل و نقص و قلّة معرفة، بل يكذبون عن قصد و تعمّد ليتوصّلوا إلى متاع الدنيا بهذا الكذب، و يحملون معهم زادهم إلى نار جهنّم.
فهم يرون مثلًا أنَّ الجهاز الحاكم يرضي باجتراء الكذب الفلانيّ علينا، فيسارعون إلى اختلاق خبر فينسبوه إلينا طمعاً في عَرَض الدنيا من رئاسة، أو نيل مقام، أو الوصول إلى مركز أو منصب في جهاز الخلافة.
"وَ مِنْهُمْ قَوْمٌ (نُصَّابٌ) لَا يَقْدِرُونَ عَلَى القَدْحِ فِينَا، يَتَعَلَّمُونَ بَعْضَ عُلُومِنَا الصَّحِيحَةِ فَيَتَوَجَّهُونَ بِهِ عِنْدَ شِيعَتِنَا؛ وَ يَنْتَقِصُونُ بِنَا عِنْدَ نُصَّابِنَا، ثُمَّ يُضِيفُونَ إلَيْهِ أضْعَافَ وَ أضْعَافَ أضْعَافِهِ مِنَ الأكَاذِيبِ عَلَيْنا الَّتِي نَحْنُ بُرَآءُ مِنْهَا، فَيَتَقَبَّلُهُ المُسْتَسْلِمُونَ مِنْ شِيعَتِنَا، عَلَى أنَّهُ مِنْ عُلُومِنَا. فَضَلُّوا
وَ أضَلُّوا."
و الطائفة الثالثة: جماعة من هؤلاء العلماء الفسقة، ممّن هم أعداؤنا (إنَّهم حقّاً أعداء قد ظهروا بصورة الشيعة، فهم علماء، و رواة أحاديث و لكنّهم في الواقع أعداؤنا، و لا يرتبطون بنا باطنيّاً، و لا يرتضون نهجنا و طريقتنا) و هم اناس لا يقدرون أن يقدحوا في عملنا، أو يقعوا على عيب فينا ليبيّنوه للناس، لذا فهم يأتون إلينا و يتعلّمون بعض علومنا الصحيحة هذه، ثمّ يتوجّهون إلى شيعتنا- بسبب تتلمذهم و تعلّمهم عندنا أهل البيت- فيصبحون من ذوي الاعتبار و الوجاهة و المقام و المنزلة، فيستغلّون هذا الموقع في الانتقاص من منزلتنا و إسقاطهما عند النصّاب (لأنَّ أعداءنا سيقولون: هذا تلميذ الصادق عليه السلام فهو يكشف عن حقيقة الصادق أيضاً، فإن كان التلميذ بهذا النحو، يعلم أنَّ العيب في تلك المدرسة التي درس فيها).
و عندها يضيفون إلي بعض علومنا، أضْعَافَ وَ أضْعَافَ أضْعَافِهِ مِنَ الأكَاذِيبِ؛ التي نتنفّر منها (فلا نحن و لا أحاسيسنا، و لا عقولنا، تجد طريقاً إلى تلك الأكاذيب).
و يعطون الناس ذلك بعنوان «قال الصادق» و عندها، يتقبّل بعض المستضعفين- من شيعتنا- ممّن هم من أهل التسليم و الإطاعة و السلامة، فيأخذونها على أنّها من علومنا! فبالإضافة إلى ضلال هذه الطائفة من العلماء فهم مضلّون لجماعة من الشيعة.
"وَ هُمْ أضَرُّ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا مِنْ جَيْشِ يَزِيدَ عَلَى الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيهِ السَّلَامُ وَ أصْحَابِهِ فَإنَّهُمْ يَسْلُبُونَهُمُ الأرْوَاحَ وَ الأمْوَالَ.
وَ هَؤُلَاءِ عُلَمَاءُ السُّوءِ، النَّاصِبُونَ، الْمُتَشَبِّهُونَ بِأنَّهُمْ لَنَا مُوَالُونَ، وَ لأعْدَائِنَا مُعَادُونَ، وَ يُدْخِلُونَ الشَّكَّ وَ الشُّبْهَةَ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا،
فَيُضِلُّونَهُمْ وَ يَمْنَعُونَهُمْ عَنْ قَصْدِ الحَقِّ المُصِيبِ.
لَا جَرَمَ أنَّ مَنْ عَلِمَ اللهُ مِنْ قَلْبِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ القَوْمِ أنَّهُ لَا يُرِيدُ إلَّا صِيَانَةَ دِينِهِ وَ تَعْظِيمَ وَلِيِّهِ، لَمْ يَتْرُكْهُ فِي يَدِ هَذَا المُتَلَبِّسِ الكَافِرِ، وَ لَكِنَّهُ يُقَيِّضُ لَهُ مُؤْمِناً يَقِفُ بِهِ عَلَى الصَّوَابِ، ثُمَّ يُوَفِّقُهُ اللهُ لِلْقَبُولِ مِنْهُ، فَيَجْمَعُ اللهُ لَهُ بِذَلِكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ؛ وَ يَجْمَعُ عَلَى مَنْ أضَلَّهُ لَعْناً فِي الدُّنْيَا وَ عَذَابَ الآخِرَةِ".
فبما أنَّ الله متّصف باللطف و الرحمة، و يعلم أنَّ بعض ضعفاء شيعتنا لا يجدون طريقاً لإدراك الواقع، و قد ابتلوا بالوقوع بأيدي علماء كهؤلاء، فلا جرم إذا كانوا في داخل قلوبهم يهدفون نحو الواقع، و يرون أنفسهم عاجزين، فإنَّ الله تعالي سيهيّئ أحد رجال الحقّ لهدايتهم كي يخرجهم من قبضة اولئك العلماء الفسقة، و يدلّهم على طريق الحقّ المصيب.
و بناءً على هذا، فالله تعالي لا يترك اولئك- الطالبين للحقّ و الهادفين لحفظ دينهم و تعظيم أوليائهم- بأيدي ذلك المتلبّس الكافر، الذي هو من أهل التدليس و التلبيس و الخداع فحسب، بل و يستنقذهم و يهيّئ لهم مؤمناً يهديهم إلى طريق الصواب، كما و يوفّقهم لقبول قول ذلك الوليّ الحقّ.
و عليه، فإنَّ الله تعالي يجمع لهؤلاء الشيعة خير الدنيا و الآخرة (أمّا خير الدنيا فلأنّه قد دلّهم على الطريق لكي ينجوا من قبضة العدوّ المتظاهر و المتجاوز، و المتلبّس و الكافر. و أمّا خير الآخرة فلأنّهم قد وصلوا إلى حقيقة الولاية و تحرّكوا بهذا المنهج الصحيح نحو الفوز و الرضوان في دار الآخرة).
و يجمع الله تعالي لذلك المضلّ لهؤلاء الشيعة لعنة الدنيا و عذاب الآخرة. ففي الدنيا قد لعنهم في قرآنه المجيد، و ستكون عاقبة عمله عذاباً ينتظره في الآخرة، لأنّه قد سدّ على مؤمنٍ الطريق إلى الله، لقد أراد هذا
المؤمن السير إلى الله، و لم تصل يده إلى وليّ الله و إلي الهادي الحقيقيّ فبقي متحيّراً إلي أن يوكل نفسه إلى الله ليعالج أمره، لكنَّ هذا العالِم الفاسق أتاه و سدّ عليه الطريق من خلال إلقاء الشكّ و الشبهة و الإخبار بخلاف الواقع فابتلي قلبه بالترديد و التزلزل. فيستحقّ ذلك العالم اللعن و عذاب الآخرة.
إلى هنا ينتهي كلام الإمام الصادق عليه السلام. و من ثمّ يستشهد على كلامه بشاهدين: الأوّل بكلام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و الآخر بكلام أمير المؤمنين عليه السلام.
"ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «أشْرَارُ عُلَمَاءِ امَّتِنَا: المُضِلُّونَ عَنَّا، القَاطِعُونَ لِلطُّرُقِ إلَيْنَا، المُسَمُّونَ أضْدَادَنَا بِأسْمَائِنَا (يعطونهم عناوين الخليفة و أمير المؤمنين و الحاكم و وليّ الأمر و عنوان الإمام المتسلّط)، المُلَقِّبُونَ أنْدَادَنَا بِألْقَابِنَا، يُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَ هُمْ لِلَّعْنِ مُسْتَحِقُّونَ؛ وَ يَلْعَنُونَنَا وَ نَحْنُ بِكَرَامَاتِ اللهِ مَغْمُورُونَ وَ بِصَلَوَاتِ اللهِ وَ صَلَوَاتِ مَلَائِكَتِهِ المُقَرَّبِينَ عَلَيْنَا عَنْ صَلَوَاتِهِمْ عَلَيْنَا مُسْتَغْنُونَ».
ثُمَّ قَالَ: قِيلَ لأمِيرِ المُؤْمِنِين عَلَيهِ السَّلَامُ: مَنْ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ أئِمَّةِ الهُدَى وَ مَصَابِيِحِ الدُّجَى؟ قَالَ: «العُلَمَاءُ إذَا صَلُحُوا».
قِيلَ: فَمَنْ شِرَارُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ إبْلِيسَ وَ فِرْعَونَ وَ نُمْرُودَ، وَ بَعْدَ المُتَسَمِّينَ بِأسْمَائِكُمْ، وَ المُتَلَقِّبِينَ بِألْقَابِكُمْ، وَ الآخِذِينَ لأمْكِنَتِكُمْ، وَ المُتَأمِّرِينَ فِي مَمَالِكِكُمْ؟! قَالَ: العُلَمَاءُ إذَا فَسَدُوا.
هُمُ المُظْهِرُونَ لِلأبَاطِيلِ، الكَاتِمُونَ لِلْحَقَائِقِ؛ وَ فِيهِمْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ- إِلَّا الَّذِينَ تابُوا [وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ].۱ و٢
ينقل شيخ الفقهاء الشيخ مرتضي الأنصاريّ رحمة الله عليه شيئاً من هذه الرواية الشريفة، و يعترف أنَّ هذا الخبر الشريف- الذي تظهر منه آثار الصدق- يدلّ على قبول قوله من عُرِفَ بِالتَّحَرُّزِ عَنِ الكَذِبِ؛ و إنْ كانَ ظاهِرُهُ اعْتِبارَ العَدالَةِ بَلْ ما فَوْقَها.
أي أنَّ هذا الخبر الذي تظهر منه آثار الصدق (فقد بيّنا أنّه من «التفسير المنسوب للإمام العسكريّ عليه السلام»، و هناك كلام كثير حول صحّة و سقم الروايات الواردة فيه. لكنَّ آثار الصدق في هذا الخبر بالخصوص مشهودة، مع ما فيه من المضامين العالية و المعاني الراقية.) يدلّ على وجوب قبول الإنسان قولَ من يتحرّز عن الكذب، و إن كان ظاهره اعتبار العدالة، بل ما فوق العدالة. فيجب على الفقهاء أن تكون لديهم ملكة فوق العدالة، لأنّهم مراجع تقليد للناس و زمام امورهم بأيديهم.
النتيجة المستفادة من الرواية، ملكة ما فوق العدالة
قال سيّد الفقهاء الكرام السيّد محمّد كاظم الطباطبائيّ اليزديّ، في «العُروَة الوُثقَى» في المسألة الثانية و العشرين من أحكام التقليد، بعد أن اختار لزوم العدالة للمفتي، اسْتِناداً إلَى هَذِهِ الرِّوايَةِ الشَّريفَة: وَ أنْ لَا يَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى الدُّنْيا وَ طالِباً لَها، مُكِبّاً عَلَيْها، مُجِدّاً في تَحْصيلِها.
و اعترض الفقيه النبيل المعاصر السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ رحمة الله عليه، في حاشية «العروة» على كلام المرحوم السيّد بـ: أنَّ الإقْبالَ عَلَى الدُّنْيا وَ طَلَبِها إنْ كانَ عَلَى الوَجْهِ المُحَرَّمِ فَهُوَ يوجِبُ الفِسْقَ النَّافيَ لِلْعَدالَةِ؛ فَيُغْني عَنْهُ اعْتِبَارُها؛ وَ إلَّا فَلَيْسَ بِنَفْسِهِ مانِعاً مِنْ جَوازِ التَّقْليدِ؛
وَ الصِّفاتُ المَذْكُورَةُ في الخَبَرِ لَيْسَتْ إلَّا عِبارَةً اخْرَى عَنْ صِفَةِ العَدالَةِ- انتهَى كَلامُه.
و أيّد هذا الرأي جمع آخر من الآيات العظام تبعاً لنظريّة آية الله السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ و اكتفوا بالعدالة. و هكذا كان نظر آية الله الحاجّ السيّد حسين البروجرديّ أيضاً، من أنَّ هذا الخبر يريد إفادة نفس العدالة.
لكنَّ المطلب أعلى من العدالة، و حقّه ما قاله المرحوم السيّد محمّد كاظم من أنَّ هذا الخبر يريد إفادة أمر أعلى من العدالة. و سوف يأتي شرح و توضيح ذلك بِحَوْلِ اللهِ وَ قُوَّتِهِ وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظيمِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ الثَّامِنُ عَشَر: بحث حولَ: «التَّفْسِيرِ الْمَنْسُوبِ لِلإمَامِ الحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام.»
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهُ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
لزوم تحقّق ملكة أعلى من ملكة العدالة للمرجعيّة في الفتوى و التقليد
ذكرنا أنَّ المرحوم آية الله السيّد أبا الحسن الأصفهانيّ قد اعترض على كلام المرحوم آية الله السيّد محمّد كاظم اليزديّ في «العروة الوثقى» حيث قال بأنّه وفقاً للحديث الوارد في «التفسير المنسوب للإمام العسكريّ عليه السلام» يشترط في المجتهد عدا العدالة: أنْ لا يَكونَ مُقْبِلًا عَلَى الدُّنْيا وَ طالِباً لَها، مُكِبّاً عَلَيْها، مُجِدّاً في تَحْصيلِها.
يعني مضافاً إلى العدالة، فيجب أن يكون الفقيه مالكاً لهذه الصفات.
فاعترض عليه المرحوم السيّد أبو الحسن بأنّه إذا كان طلب الدنيا على الوجه المحرّم فهو موجب للفسق و منافٍ للعدالة، و عليه فاعتبار العدالة مُغْنٍ عن اعتبار هذه الصفات، و إذا لم يكن على الوجه المحرّم فلا يكون مانعاً عن جواز التقليد، و الصفات المذكورة في الخبر تعبير آخر عن العدالة.
و لكن يجب القول إنَّ ثمّة إشكال في كلام المرحوم السيّد أبي الحسن
لأنَّ الرواية تدلّ بظاهرها على أنّه يجب أن يكون في المفتي ملكة صالحة لا تسمح له بالإقبال على الدنيا و تجعله مطيعاً لأمر مولاه باستمرار، و أن يكون ممتلكاً في باطنه لفكر و دافع إلهيّ يُحوّل وجهته عن عالم الغرور و يوجّهه نحو عالم البقاء، و يجعل قلبه منجذباً إلى تلك الجهة، لا أن يكون لديه مجرّد ملكة يجتنب بواسطتها عن الحرام في الخارج فحسب، دون أن تتحقّق فيه تلك الدرجة من السلامة الباطنيّة. و بين هذين القولين بون شاسع.
العدالةُ، هي ملكة الاجتناب عن المحرّمات، و بدون الوصول إلى درجة التقوي القلبيّة و الصفاء الباطنيّ لا يتحقّق مناط التقليد بالنسبة للإنسان. فتلك الملكة التي يكون حصولها للمفتي مناطاً لتقليده هي الصفاء الباطنيّ و نورانيّة القلب اللذان يمنعانه عن كلّ التفات إلى الدنيا، أو حبّ الرئاسة. فلا فرق عنده بين أن يزيد عدد طلّابه أو يقلّ، أم أنَّ رسالته العمليّة طبعت أو لا. و إلّا؛ فإذا اختلف الأمر بالنسبة له و لو بمقدار ذرّة، و حتّى لو لم يرتكب المعاصي بحسب الظاهر- فكان يصوم و لا يكذب و يجتنب عن المحرّمات، و يمتلك ملكة ذلك أيضاً، و لا يقوم بهذه الأعمال تصنّعاً- لكنَّ صفاء ضميره لم يكن بنحو يكون قلبه معرضاً عن الدنيا، بل يقوم ببعض هذه الأعمال بحسب الميل الدنيويّ، فإنَّه حينئذٍ يميل إلى الدنيا.
و لم نقصد من الدنيا الاقتصار على جمع المال و الشهوات، و إنَّما كلّ ما سوي الله فهو دنيا. و إذا كان في قلوب الذين هم في طريق المرجعيّة ميلًا إلى الرئاسة و حبّ الزعامة و التدريس و ما شابه ذلك، سواء كانوا يقومون ببعض الأعمال لتحصيل مقدّمات هذا العمل أم لا، فنفس هذا الحبّ هو حبُّ الدنيا، و هذا يمنع عن الوصول إلى الدرجات العليا.
و حينها، فالشخص الذي لم يصل بنفسه إلى الدرجات العليا- و يستحيل وجوده مع وجود هذه الحالات القلبيّة- فكيف يسلّمه الله زمام امور الناس و يجعله متحمّلًا لجميع أثقالهم؟ مع كون هذه المسألة مهمّة جدّاً.
فمثلًا، نُقل عن المرحوم الميرزا الكبير الحاجّ الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ أعلى الله مقامه أنّه قال: إنّي لم أخطُ أيّة خطوة نحو الرئاسة، و إنَّ هذا الأمر قد حصل بنفسه، و أخذ بتلابيبي، مع أنّي لم أكن راضياً أيضاً.
و يُنقل أنّه بعد وفاة المرحوم الشيخ الأنصاريّ رحمة الله عليه اجتمع كبار طلّابه الذين كانوا سبعة عشر شخصاً بحسب الظاهر، أمثال الميرزا حسن الطهرانيّ النجمآباديّ، و الحاجّ الميرزا حسين بن الحاجّ الميرزا خليل و غيرهم، و كانوا جميعاً من الأجلّاء، فاجتمعوا و دعوا أعاظم تلامذة الشيخ إلى ذلك المجلس، سوي السيّد حسين الكوهكمرهاي الذي لم يدعوه إلى هذا الاجتماع، لأنّه كان رجلًا مستبدّاً برأيه، و لا يتزحزح، مع أنَّ علميّته كانت بدرجة كبيرة و لكنّهم لم يدعوه إلى هذا الاجتماع، لأنّهم لم يرتضوه زعيماً لُامور المسلمين، و لم يرتضوا حتّى مشورته. و اجتمع أخيراً هؤلاء السبعة عشر شخصاً من طلّاب الشيخ و كانوا في درجة عالية من التقوي، و اتّفقوا جميعاً في ذلك الاجتماع على لزوم تقديم: الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ لتسلّم مقاليد الامور، و صيرورته مرجعاً لُامور المسلمين.
لكنَّ الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ لم يكن غير مسرور في ذلك المجلس فحسب، بل راح يبكي، لقد أجهش بالبكاء، لأنّهم قد ألقوا مسئوليّة هذا الأمر في عُنقه، و هو لا يري نفسه أهلًا لهذا العمل، و لا يري ذلك من وظيفته، أو ممّا يمكنه القيام به، و أمثال ذلك.
ثمّ قال بعد ذلك للميرزا حسن الطهرانيّ النجمآباديّ الذي كان من الطلّاب المعروفين للشيخ: إنّي أشهد: أنّك أعلم منّي، فكيف تُعيّنني لهذا الأمر؟ فأجاب الميرزا حسن الطهرانيّ: نعم؛ أنا أيضاً أرى نفسيّ أعلم منك، و لكنّي لا أصلح للرئاسة، فالرئاسة، مضافاً إلى الأعلميّة، تحتاج إلى عقل و فكر و تحمّل و سعة لكي يمكن النهوض بهذا الأمر، و أنا لا امتلكها، و لكنّك تمتلكها، و لذا ننصّبك لهذا الأمر، و نحن أيضاً نكون معك و نقدّم لك العون، و لا نتركك وحيداً. و خلاصة الأمر فقد القيت المرجعيّة في عنق الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ رضوان الله عليه مع بكائه و عدم رضاه.
روية و مرام المرحوم الميرزا محمّد تقي الشيرازيّ في المرجعيّة
و كذلك قيل حول المرحوم آية الله الميرزا محمّد تقي الشيرازيّ رحمة الله عليه: كان قلبه طاهراً و صافياً و نورانيّاً إلى درجة لم يكن يتخيّل الرئاسة أصلًا، و لم يكن يخطر في باله التفوّق، أو يدرك معني الرئاسة.
و يقال: إنَّ الشيخ هادي الطهرانيّ الذي كان معروفاً بانتقاده لجميع العلماء و تعييبه لهم لم يستطع أن يُشكل على الميرزا محمّد تقي الشيرازيّ و لا علي نهجه و هدفه و قدسه و طهارته و صفاء باطنه. نعم؛ كان إشكاله الوحيد هو قوله: إنّ صفاء الميرزا محمّد تقي هذا ليس صفاءً اكتسابيّاً، بل هو ذاتيّ له، و ليس هو المطلوب.
فهو معصوم ذاتاً، و خارج عن الموضوع. و التحسين و التقبيح إنَّما يكون على الصفات الاختياريّة، و الميرزا محمّد تقي الشيرازيّ معصوم ذاتاً. و كان يذكر هذا أيضاً كعيب له.
فيجب أن تُسَلَّم الامور لمثل هؤلاء! مثل الميرزا محمّد تقي الشيرازيّ الذي لا يتفاوت الأمر بالنسبة إليه لو أقبلت كلّ الدنيا إليه أو أدبرت عنه. و يُنقل عنه قصص كثيرة و مفصّلة.
و من جملة ما يحكي: سئل سماحة الشيخ محمّد البهاريّ رحمة الله
عليه- و كان من الطلّاب البارزين للمرحوم الملّا حسين قلي الهمدانيّ رضوان الله عليه- عن الرجوع في التقليد إلى الميرزا محمّد تقي الشيرازيّ؛ فقال: سوف أمتحنه!
و كان المرحوم الميرزا محمّد تقي الشيرازيّ يصلّي إماماً للجماعة في الصحن المطهّر لحرم سيّد الشهداء عليه السلام و يقتدي به كلّ من يصلّي في الصحن، فجاء سماحة الشيخ البهاريّ يوماً و وضع سجّادة صلاته بموازاة سجّادة الميرزا الشيرازيّ و شرع بالصلاة مقارناً له أثناء تأدية الميرزا محمّد تقي الشيرازيّ للصلاة، و بعد أن فرغ من الصلاة قال لُاولئك الأشخاص الذين كانوا قد سألوه: قلّدوا هذا الرجل! لأنّه لم يخطر في قلبه أصلًا في جميع حالات الصلاة: أنَّ هذا الشخص قد جاء و وقف إلى جانبي و أخذ يصلّي بموازاتي.
و يحكي أيضاً أنَّ نفس الشيخ محمّد البهاريّ نفسه كان في أحد أسفار الزيارة إلى سامراء قد ركب نفس المحمل الذي ركبه الميرزا محمّد تقي الشيرازيّ (كان الناس يسافرون في ذلك الزمان بواسطة العربة أو الهودج، فكان يجلس إلى هذه الجهة شخص بينما يجلس في الجهة الاخرى للمحمل شخص آخر) قال: إنّي قد طرحت مطلباً علميّاً و هدفت منه إثارة عصبيّة الميرزا و إخراجه عن طوره، عسى أن تصدر منه جملة أو كلام خلاف، و لكن لم يصدر منه أيّ ردّ فعل على الرغم ممّا كنت أفعله طوال هذا السفر بين الكاظمين و سامرّاء- يبلغ ثمانية عشر فرسخاً، الذي قطعناه سويّاً على البغل- حتّى أنّي كنت في بعض الأحيان أتصنّع استعمال ألفاظ (مثل لا تفهم هذا المطلب، و ما شابه هذا الكلام)، و مع ذلك بقي محافظاً على طوره و ظلّ يجيبني بهدوئه المعتاد!
إنَّ هذه المسألة أهمّ من العدالة، و لا يريد الإمام عليه السلام إفادة أنَ
كلّ من كان يطهّر نفسه بحسب الظاهر و يمتلك التقوي أيضاً و يجتنب الذنوب فبإمكانه أن يكون مفتياً، و إن كان يميل باطنيّاً إلى الرئاسة. فآفة الميل إلى الرئاسة أكبر من آفة الميل إلى الشهوة، و من الميل إلى المال، و من جميع ذلك. و لذا يقول الإمام عليه السلام هنا: عليكم بتقليد من لم يكن مقبلًا على الدنيا، و كان: "صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ، مُطِيعاً لأمْرِ مَوْلَاهُ". و هذا كلّه إشارة إلى ذلك المقام. فالمفتي يجب أن يكون واجداً لذلك المعني.
المراد من الملكة القدسيّة في عبارة «منية المريد»
هذا هو رأي المرحوم السيّد محمّد كاظم الذي اعترض عليه المرحوم السيّد أبو الحسن. و يجب أن يكون للفقيه هذه الدرجة، و ربّما كان ما ذكره الشهيد الثاني في «منيّة المريد» إشارة إلى هذه الدرجة من النور الإلهيّ حيث إنَّه بعد أن يعدّ عدداً من الشرائط اللازمة للاجتهاد و يبيّن العلوم التي على الإنسان أن يحصّلها كمقدّمة لذلك، و ما على الذين يرومون التفقّه في الدين من الحصول على هذه العلوم، يصل إلى حيث يقول:
وَ لا يَكونُ ذَلِكَ كُلُّهُ إلّا بِهِبَةٍ مِنَ اللهِ تَعالَى إلَهيَّةٍ، وَ قُوَّةٍ مِنْهُ قُدْسيَّةٍ، توصِلُهُ إلَى هَذِهِ البُغْيَةِ، وَ تُبَلِّغُهُ هَذِهِ الرُّتْبَةَ. وَ هِيَ العُمْدَةُ في فِقْهِ دينِ اللهِ تَعالَى؛ وَ لَا حيلَةَ لِلعَبْدِ فيها؛ بَلْ هِيَ مِنْحَةٌ إلَهيَّةٌ، وَ نَفْحَةٌ رَبَّانيَّةٌ يَخُصُّ بِها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ؛ إلّا أنَّ لِلْجِدِّ وَ المُجاهَدَةِ وَ التَّوَجُّهِ إلَى اللهِ تَعالَى وَ الانْقِطاعِ إلَيْهِ أثَراً بَيِّناً في إفاضَتِها مِنَ الجَنابِ القُدْسيِّ. {وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.۱ و٢
و من الممكن أن يكون مراد الشهيد الثاني من هذه الملكة القدسيّة
نفس حالة التقوي الباطنيّة التي هي ذلك النور الذي يمنّ الله به؛ "لَيْسَ العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، إنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى أنْ يَهْدِيَهُ"۱.
فذلك النور الذي يمنحه الله للإنسان و يتعلّم الإنسان جميع العلوم الحقيقيّة بواسطته، و يتميّز عن العلوم الاعتباريّة و غير الحقيقيّة، هو تلك الملكة القدسيّة التي يشير إليها رحمة الله عليه و التي هي نفس صفاء الباطن و النورانيّة التي اشير إليها إجمالًا.
كان هذا البحث فيما يتعلّق بدلالة هذا الحديث الشريف المرويّ عن الحسن العسكريّ عليه السلام في التفسير المنسوب إليه، نقلناه من كتاب «الاحتجاج» للشيخ الطبرسيّ، و ذكرنا أنَّ الشيخ يقول: إنَّ آثار الصدق ظاهرة في هذا الخبر.
بحث حول تفسير الإمام الهاديّ، المسمي «تفسير الإمام العسكريّ»
أمّا مسألة هل لهذا التفسير حجّيّة أم لا؟ و هل يمكن للإنسان أن يقبل كلّ ما جاء فيه بمجرّد انتسابه إلى الإمام أم لا؟ و أخيراً هل التفسير المنسوب للإمام العسكريّ هو من جملة المصادر أم لا؟ فهذا محلّ للكلام.
العلماء الذين يعدّون التفسير المنسوب للإمام العسكريّ معتبراً
اعتبر الكثير من كبار العلماء هذا التفسير من جملة مصادرهم، أمثال المرحوم المجلسيّ في «بحار الأنوار» و المرحوم الشيخ الحرّ العامليّ في «وسائل الشيعة» و المرحوم الحاجّ الميرزا حسين النوريّ في «مستدرك
الوسائل»، و كذلك العلماء الآخرون الذي عدّوا هذا التفسير معتبراً و عملوا برواياته. بينما لم يعدّه البعض معتبراً، و لم يجعله من جملة مصادره، إلّا
في بعض الروايات التي كانت واضحة جدّاً، و تنسجم مع العقل، و ليس فيها ثمّة شيء مخالف، و يكون فيها محلّ للإمضاء، حيث يقبلونها بهذه الشرائط.
فلْنَرَ حقيقة الأمر، و نحقّق في: ما هو المطلوب؟ و من أين جاء أصل هذا التفسير؟
هناك تفسير باسم «تفسير الإمام العسكريّ عليه السلام» معروف في الروايات أنَّ الذي كتبه هو الحسن بن خالد البرقيّ، أخو محمّد بن خالد، و عمّ أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ صاحب كتاب «المحاسن». و يقع في مائة و عشرين مجلّداً. و هو يروي ذلك التفسير عن الإمام الهاديّ عليه السلام (فقد عُرِفَ الإمام الهاديّ بالعسكريّ أيضاً، لأنَّ سلطات ذلك الوقت قد حجزت هذين الإمامين في مدينة «العسكر» و جعلتهم تحت مراقبة كلّ الجيش، و لذا عُرف كلّ من الإمام الهاديّ و الإمام العسكريّ بـ «العسكريّ»). و ليس ذلك التفسير في متناول اليد حاليّاً، و كان تفسيراً معتبراً و طويلًا جدّاً، و راويه ثقة (الحسن بن خالد البرقيّ) و يقع في سلسلة الرواة من أهل الصحّة، و وثّقه كبار الأعلام، و ليس محلّا للشكّ و الشبهة.
و هناك تفسير آخر معروف بهذا الاسم، و هو تفسير معروف، و يشمل سورة الحمد و قدراً من سورة البقرة. و هو ليس أكثر من جزء واحد، و قد طُبع عدّة مرّات، يرويه المرحوم الصدوق، عن محمّد بن قاسم الجرجانيّ الأسترآباديّ، عن شخصين آخرين، يرويانه بدورهما عن أبويهما، و أبواهما يرويانه عن الإمام العسكريّ عليه السلام. و كلامنا عن هذا التفسير و الروايات الواردة فيه.
عدّ البعض هذا التفسير متحداً مع ذلك التفسير، للمناسبة و المشابهة في لفظ «العسكريّ»، كالمرحوم الميرزا حسين النوريّ في «المستدرك»
الذي يقول: إنَّ جميع أجزاء تفسير الإمام الهاديّ عليه السلام قد فُقدت و لم يبقَ منها إلّا جزء واحد، و يدّعي أنّهما تفسير واحد، و أنّه ليس لدينا تفسيران. لكنَّ المرحوم المحقّق الداماد (ميرداماد) يقول: إنَّهما تفسيران، و لا يرتبطان ببعضهما على الإطلاق، و إنَّ تفسير الإمام الهاديّ معتبرٌ و لا شكّ في صحّته و وثوقه و رواته في عبارات كبار العلماء، بينما هذا التفسير المنسوب للإمام العسكريّ غير معتبر.
و يقول العلّامة الحاجّ آغا بزرك الطهرانيّ: إنَّهما تفسيران، و كلاهما معتبران في غاية الاعتبار، لكنَّ أحدهما قد فُقِد، و كلام استاذنا المرحوم الحاجّ الميرزا حسين النوريّ (استاذ المرحوم الحاجّ آغا بزرك الطهرانيّ) الذي عدّهما تفسيراً واحداً لا وجه له، فقد كانا تفسيرين، و كلاهما معتبران، أحدهما فُقد و بقي الآخر.
و يقرّ المرحوم الحاجّ الميرزا حسين النوريّ على حجّيّة هذا التفسير، و يثبت بعشرة أدلّة على حجّيّته، و يردّ على الذين نقضوا هذا التفسير و طعنوا فيه و انتقصوه.
فيقتضي الأمر أن نقوم ببحث قصير حول هذا التفسير الموجود بين الأيدي الآن باسم «التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام».
و للمرحوم الحاجّ الميرزا حسين النوريّ في خاتمة «المستدرك»۱ بحث طويل، ليس تحت عنوان «تفسير الإمام الحسن العسكريّ» عليه السلام، و إنَّما تحت عنوان «محمّد بن قاسم الأسترآباديّ» الذي يروي عنه الصدوق في «من لا يحضره الفقيه» و «الأمالي» و «علل الشرائع» و غيرها.
و في خلال ترجمة أحوال الشخص يقوم بالبحث عن هذا التفسير في عدّة صفحات، حيث إنَّ هذا الشخص من رواته.
يقول: من الذين يعدّون هذا التفسير معتبراً: الشيخ الصدوق و الشيخ الطبرسيّ في «الاحتجاج» و القطب الراونديّ في «الخرائج و الجرائح» و ابن شهرآشوب في «المناقب» الذي ينسبه إلى الإمام الحسن العسكريّ بشكل جازم، و يروي عنه في مواضع عديدة. و يقول في كتاب «معالم العلماء» الذي هو كتاب مختصر في الرجال ألّفه ابن شهرآشوب هذا: إنَّ الحسن بن خالد البرقيّ أخو محمّد بن خالد البرقيّ هو الذي كتب «تفسير الإمام العسكريّ» عليه السلام بإملاء من الإمام، و يقع في مائة و عشرين مجلّداً.
يقول المرحوم الحاجّ النوريّ قدّس سرّه: يستفاد من كلام ابن شهرآشوب في «معالم العلماء» أمران:
الأوّل: أنَّ سند هذا التفسير غير منحصر في محمّد بن قاسم الأسترآباديّ، لكي يضعّف التفسير بتضعيف البعض لهذا الرجل، و إنّما يرويه أيضاً الحسن بن خالد البرقيّ الذي هو ثقة (لأنَّ المرحوم النوريّ يري بأنَّ التفسيرين متّحدان، و يقول: إذا كان ذلك الطريق ضعيفاً، و قد اسقط، فهناك طريق آخر مُتقن).
الثاني: أنَّ تفسير الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام تفسير كبير و ليس منحصراً في تفسير سورة الفاتحة و قدر من سورة البقرة (و قد فُقد ذلك، و وصل إلينا هذا المقدار فحسب).
و ممّن يؤيّد هذا التفسير أيضاً المحقّق الثاني الشيخ عليّ بن عبد العالي الكَرَكيّ الذي يبيّن- في إجازته لصفي الدين الحلّيّ و بعد ذكر جملة من طرقه- أفضل طريق له، حيث إنَّ جميع أشخاص سلسلته من الكبار و الأعلام؛ و يقول: هذا الطريق أعلى من جميع الطرق، و هو يصل
إلى محمّد بن القاسم الجرجانيّ، عن يوسف بن محمّد بن زياد، و عن عليّ بن محمّد السيّار، حيث يروي هذان الشخصان عن أبويهما، و يروي أبواهما عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام.
و ينقل الشهيد الثاني قدّس سرّه عن هذا التفسير في «منية المريد» بنحو جازم، كما ينقل في إجازته الكبيرة للشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثيّ الهمدانيّ (والد الشيخ البهائيّ) نفس العبارات التي نقلناها عن المحقّق الكَرَكيّ.
كما عدَّ هذا التفسير معتبراً، الملّا محمّد تقي المجلسيّ (المجلسيّ الأوّل) رضوان الله عليه في مشيخة «من لا يحضره الفقيه». و وثّقه محمّد بن القاسم الأسترآباديّ الذي ضعّفه ابن الغضائريّ. و ردَّ تضعيف ابن الغضائريّ قائلًا: إنَّ هذا التفسير وارد عن الإمام عليه السلام، و لا وجه لردِّه.
و قد عدَّ الملّا محمّد باقر المجلسيّ رضوان الله عليه (المجلسيّ الثاني) في «بحار الأنوار» كتاب «التفسير المنسوب للإمام العسكريّ» من الكتب المعتبرة أيضاً، و قال: إنَّ الصدوق قد اعتمد عليه، و لا ينبغي الإنصات إلى طعن بعض المحدّثين الذين أشكلوا فيه، لأنَّ الصدوق أعرف و أقرب إلى زمان الأسترآباديّ من جميع الذين قدحوا فيه.
رأي هؤلاء هذا التفسير معتبراً و نقلوا عنه في كتبهم.
أمّا المعارضون لهذا التفسير فأوّلهم ابن الغضائريّ الذي كان بعد قرن أو قرنين أو ثلاثة عن المرحوم الصدوق، و كان يعتبر هذا التفسير مختلقاً، و يقول: إنَّه موضوع و ليس له أيّ سند، و مطالبه و محتوياته تدلّ على وضعه.
و الثاني: من الذين قدحوا في هذا التفسير: العلّامة الحلّيّ في كتاب
«الخلاصة» («الخلاصة» كتاب مختصر للعلّامة الحلّيّ في الرجال) حيث قال:
مُحَمَّدُ بْنُ القاسِم، أو أبي القاسِمِ المُفَسِّر الأسْتَرآبادِيُّ، رَوَى عَنْهُ أبو جَعْفَرِ بنِ بابَوَيْهِ؛ ضَعيفٌ كَذّابٌ، رَوَى عَنْهُ تَفْسيراً يَرْويهِ عَنْ رَجُلَيْنِ مَجْهولَيْنِ: أحَدُهُما يُعْرَفُ بِيوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيادٍ، وَ الآخَرُ بِعَليِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ أبَوَيْهِما، عَنْ أبِي الحَسَنِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ السَّلام.
و هذه أيضاً عبارة العلّامة الذي يعتبر أنَّ هذين الرجلين المذكورين مجهولان، و يقول: إنَّ هذين الرجلين لا وجود لهما في الخارج أصلًا، و هما مجعولان، فاللذان يرويان عن أبويهما، بينما يروي أبواهما عن الإمام العسكريّ لا وجود خارجيّ لهما أصلًا. و الشخص الذي وضع هذا التفسير نسبه إلى هذين الرجلين المجهولين، لكنّهما لم يُعرفا. ثمّ يقول العلّامة:
وَ التَّفسيرُ مَوْضوعٌ عَنْ سَهْلِ الدِّيباجِيِّ عَنْ أبيهِ بِأحاديثَ مِنْ هَذِهِ المَناكِيرِ- انتهى كلام العلّامة في «الخلاصة».
الثالث من الذين يردّون هذا التفسير هو: المحقّق الميرداماد في كتاب «شارع النجاة» (كتاب باللغة الفارسيّة) في بحث الختان، و خلاصة كلامه: أنَّ «تفسير الإمام العسكريّ» عليه السلام المعتبر هو الذي يرويه الحسن بن خالد، أخو محمّد بن خالد البرقيّ. و أمّا تفسير محمّد بن قاسم الذي هو من مشايخ الصدوق، فقد ضعّفه علماء الرجال، بينما اعتبره القاصرون و غير المهرة. و هو من مختلقات أبي محمّد سهل بن أحمد الديباجيّ، و يشتمل على مناكير من الأحاديث و أكاذيب من الأخبار.
فالذين ردّوا هذا التفسير من كبار السابقين ينحصرون في هؤلاء الأشخاص. نعم؛ يوجد الكثير من المتأخّرين ممّن رووا هذا التفسير و لم يروه معتبراً، لكنَّ عدد المتقدّمين لا يتجاوز الثلاثة: الميرداماد، و ابن
الغضائريّ، و العلّامة الحلّيّ.
و قام الحاجّ الميرزا حسين النوريّ بردّ تضعيف ابن الغضائريّ و العلّامة الحلّيّ و الميرداماد هنا في عشرة وجوه، و أصرّ على تأكيد اعتبار هذا التفسير.
و من جملة كلامه: إنَّ الشيخ الصدوق مع ما لديه من كمال الدقّة و القرب و الدراية، كيف يجهل حال الرجل المجهول و يعدّه معتبراً؟! ليأتي ابن الغضائريّ بعد الصدوق بقرنين و يشكل على كلامه؟! و مع أنَّ الصدوق كان في منتهي الدقّة و حسن النظر و الإتقان، و مع أقربيّة عهده، فكيف يروي أحاديث عن هذا التفسير في «من لا يحضره الفقيه» و في أكثر كتبه؟!
و من كلامه أيضاً: أنَّ هذا التفسير يرجع إلى أبي محمّد الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، لا إلى أبيه أبي الحسن الإمام الهاديّ عليه السلام كما ظنّ المحقّق الميرداماد من أنَّ ذلك التفسير الذي يرويه الحسن بن خالد البرقيّ، و الذي هو كتاب كبير و يبلغ مائة و عشرين مجلّداً، غير هذا التفسير الذي يبلغ مجلّداً واحداً، لكنَّ الصحيح هو الموجود، تفسير واحد لا أكثر، و هو نفس تفسير الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، و قد فُقدت بقيّته، و بقي منه هذا المقدار.
و من جملة مطالبه التي ذكرها أيضاً: أنّنا نمتلك أربعة كتب في فنّ الرجال بتأليف ثلاثة من المشايخ الذين يعتمد عليهم الشيعة، و هذه الكتب هي: «رجال النجاشيّ» و «رجال الكشّيّ» و «الفهرست» و «رجال الشيخ الطوسيّ» فهؤلاء الأجلّاء الثلاثة ثلاثة علماء خبراء بالرجال يعتمد كبار العلماء على كلامهم و تشخيصهم في تعديل و جرح الرجال، و لم يضعّف محمّد بن القاسم أيّ منهم في هذه الكتب الرجاليّة.
أدلّة الحاجّ النوريّ في ردّ هاشم الخوانساريّ و إثبات حجّيّة التفسير.
و يقول المرحوم الحاجّ الميرزا حسين النوريّ في ردّ السيّد المعاصر۱ الذي ردّ هذا التفسير: إنَّ وجود بعض الأخبار غير الواقعة، مثل قضيّة المختار و الحجّاج فيه، لا يوجب سقوطه عن الحجّيّة، لأنّه قد ورد في هذا التفسير أنَّ المختار قد قتله الحجّاج بن يوسف الثقفيّ مع أنَّ كتب السير و التواريخ مجمعةً على أنَّ المختار قتله مصعب بن الزبير٢، و أنَّ مصعباً قتله عبد الملك بواسطة الحجّاج الذي كان قد ولّاه على العراق.
بناءً على هذا، فعند ما نري اشتباهاً واضحاً في هذا التفسير، كنسبة قتل المختار إلى الحجّاج بن يوسف الثقفيّ الذي أجمعت كتب السير و التأريخ على خلافه، فليس بإمكاننا قبوله. و كان هذا مقصود من أراد إسقاط هذا التفسير عن الحجّيّة.
فيقول المرحوم الحاجّ الميرزا حسين النوريّ في جواب السيّد المعاصر: إذا وجد مطلب مخالف للواقع في كتاب ما لا نستطيع القول بأنَّ جميع الكتاب باطل، و إنَّما يقع الإشكال في خصوص تلك الفقرة، إذ لا يمكننا إسقاط جميع الكتاب لوجود إشكال في فقرة واحدة، إذ يشاهد في «الكافي» أيضاً- و الذي هو من أفضل كتبنا- بعض الرويات المخالفة للسيرة القطعيّة. فلا نستطيع أن نقول: بأنَّ «الكافي» كلّه غلط. و أخيراً، يصرّ على حجّيّة هذا التفسير، و يقول: إنَّه أحد المصادر، و يجب أن يُروى عنه.
و يعدّ الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ (شيخنا و استاذنا العلّامة في الإجازات و الدراية رحمة الله عليه رحمة واسعة) هذا التفسير معتبراً أيضاً في كتابه «الذريعة إلى تصانيف الشيعة»۱ و يوافق بشكل كامل على نظريّات استاذه، ما عدا هذا الجزء من تعدّد الكتاب و اتّحاده، حيث يقول المرحوم الحاجّ الميرزا حسين النوريّ قدّس سرّه: «هذا التفسير متّحد مع تفسير الحسن بن خالد البرقيّ» بينما يقول الطهرانيّ: إنَّه ما المانع من التعدّد؟ و ذلك لأنّهما اثنان من كلّ الجهات، فذاك يبلغ مائة و عشرين مجلّداً، و هذا مجلّد واحد، و ذاك منسوب إلى الإمام الهاديّ عليه السلام، و هذا منسوب إلي الإمام العسكريّ عليه السلام، و راوي ذلك التفسير الحسين بن خالد
البرقيّ بينما راويا هذا التفسير رجلان ينقل عنهما محمّد بن القاسم الأسترآباديّ.
فما الداعي للقول: إنَّهما تفسير واحد لا تفسيران؟ بل يجب القول: إنَّهما تفسيران معتبران. و بناءً على هذا، فهو يقول أيضاً: إنَّ هذا التفسير من التفاسير المعتبرة. هذه هي نتيجة المطالب التي أفادها هؤلاء الأجلّاء حول هذا التفسير.
كلّ خبر خلاف العلم فهو مردود، بغضّ النظر عن سنده
و أمّا ما قاله المرحوم الشيخ النوريّ في «المستدرك» من أنَّ ما ورد في هذا التفسير حول الحجّاج مع أنّه مخالف للسير و التواريخ لكنّه لا يوجب سقوط الكتاب، و ذلك لأنّه من الممكن أن يقع الاشتباه في كتب التأريخ. فهذا الكلام غير صحيح، لأنّه بعد أن ثبت في السيرة و ما أفادته كتب التأريخ المتقنة في أنَّ قتل المختار لم يكن على يد الحجّاج بن يوسف، فلم نعد نستطيع أن نسقط أصل هذه المسائل التأريخيّة المسلّمة تعبّداً بهذه الرواية، و حتّى لو فرض كون هذا التفسير حجّة أيضاً، فهذه المسألة الموجودة فيه تكون مغلوطة.
فلا يمكننا نسبة رواية مخالفة للعلم إلى الإمام، لأنَّ قلب الإمام متّصل بالحقيقة، و هو لا يُخْبِر بشيء مخالف للواقع. و من المسلّم به أنّه يجب طرح الرواية المخالفة لضرورة العقل، و إن كانت بسند صحيح و متقن، و لا تكون لها حجّيّة، و إلّا لزم من ذلك التناقض. و بشكل عامّ فكلّ رواية تكون خلاف العقل أو خلاف العلم أو خلاف التأريخ أو تحكي عن واقعة ثبت في الخارج خلافها فهي مردودة و غير قابلة للعمل و لا حجّيّة لها، لأنّه لا يتصوّر صدور حكم غير صحيح و باطل عن الأئمّة على فرض عصمتهم عليهم السلام. فحجيّة أخبار كهذه توجب النقض و الانثلام في العصمة التي تُخبر عن الواقع. و لذا ففي موارد كهذه يجب اعتبار الرواية موضوعة
و مختلقة قبل الرجوع إلى سندها و ملاحظة اعتبار الرواة، هذا إذا لم يكن ثمّة مجال للتأويل كالتقيّة و أمثالها.
بناءً على هذا، فكلام المرحوم النوريّ قدّس سرّه في غير محلّه.
الإشكالات الواردة على التفسير؛ و عدم نهوض أدلّة الحاجّ النوريّ
و الشيء الآخر، أنَّ المطالب التي نقلها مع جميع هذه الخصوصيّات لا تفيد شيئاً مُهمّاً عموماً، فلو شاهدنا إشكالات في مطالب هذا التفسير و لم نستطع أن ننسبه إلى الإمام، فهذا الأمر يوجب سقوطه.
و ابن الغضائريّ و العلّامة الحلّيّ الذي كان هو نفسه متكلّماً، و المرحوم الداماد الذي كان خيرة و عمود الفقاهة و الرجال و الدراية و استاذ الفلسفة و الحكمة قد أحصوا في هذا التفسير أحاديث مخالفة و أسقطوه عن درجة الحجّيّة، و هؤلاء ليسوا بأشخاص عاديّين، بل هم مفخرة جميع العلماء، بخلاف اولئك الذين أمضوا هذا التفسير من اولئك الأشخاص الذين أحصيناهم و الذين كان طابعهم طابع محدّثين و أخباريّين لا أكثر، و كانوا كثيراً ما يلاحظون الأخبار من هذه الجهة و لا شغل لهم كثيراً بدلالة متنها.
مثلًا، يقول المرحوم الحاجّ حسين النوريّ قدّس سرّه في جواب المحقّق الداماد حينما يقول: «يوجد في هذا التفسير أحاديث مخالفة و مُنكرة»: كنت أتمنّى لو أنّه قد بيّن لنا إحدى هذه المناكر لنري ما هو المنكر الموجود في هذا التفسير؟!
هذا مع أنّي قد رأيت بنفسي حديثاً في هذا التفسير، و هو رواية معروفة عن الإمام الرضا عليه السلام، من أنَّ جماعة من الشيعة جاءوا إلى الإمام الرضا عليه السلام، فلم يسمح لهم بالدخول و تركهم على الباب، و عند ما جاء ذلك الشخص الذي كان الواسطة لهم مع الإمام و قال له: إنَّ جماعة من الشيعة جاءوا إليكم و يقولون إنَّهم من شيعتكم فلم يسمح لهم
الإمام حتّى جاء الغد، فجاءوا مرّتين فلم يسمح لهم الإمام أيضاً، و في اليوم الثالث لم يسمح لهم كذلك، و استمرّ الأمر على هذا النحو مدّة شهرين. و بعد اللتيا و التي (و الرواية طويلة جدّاً) سمح لهم الإمام. و عند ما سألوه عن السبب في عدم سماحه لهم قبل ذلك، قال: لقد قلتم إنَّكم من شيعتنا، أ فهكذا يكون الشيعة؟ و هل يرتكب الشيعة الأعمال الفلانيّة؟ فكيف تكونون شيعة؟ فالشيعة لهم الصفات الفلانيّة، و أعمالهم تكون بالشكل الفلانيّ، فلقد ادّعيتم التشيّع كاذبين.
و تريد أن تقول الرواية التي ليس لها أيّ سند إلّا «تفسير الإمام العسكريّ» عليه السلام: إنَّ الإمام الرضا عليه السلام المعصوم و الطاهر لم يسمح لهؤلاء الجماعة بالدخول بسبب ادّعائهم التشيّع كذباً.
مع علمنا: أنَّ الذين نسبوا هذا الحديث قد وضعوا قضيّة بهذا الشكل من أجل رفع مقام التشيّع و عظمة مقام التشيّع و الوصول إلى حقّ هذا المقام. لكنّهم لم يفكّروا في إمكانيّة صدور هذا التصرّف من إمام: أن يأتي إليه جماعة من بلدٍ بعيد يطوون مسافة فراسخ ليصلوا إليه عليه السلام، و مع أنّه كان وليّاً للعهد، و كان يمتلك مقاماً و منصباً و شوكةً و جلالة، فإذا لم يسمح لهم بالدخول، و أبقاهم خارجاً يوماً و ليلة ثمّ كرّر ذلك مرّة ثانية، و هكذا إلى أن مضت هذه الأيّام، و من ثمّ يسمح لهم بالدخول، و علّل الأمر لهم بأنّهم قالوا نحن شيعة. فهل يصدر هذا العمل من إمام معصوم؟! إنَّ هذا العمل إنَّما يصدر من سلطان جائر يريد سحق الطرف المقابل و قهره.
كان يستطيع الإمام من البدء أن يستقبلهم و يرحّب بهم، فيُعلّمهم بكيفيّة التشيّع، و يقول لهم: ادّعيتم التشيّع، و هذا الصحيح، لأنَّ للشيعة اصولهم و ضوابطهم التي توجب على الإنسان أن يتحلّى بها. فهذا منهج للتعليم، و هو منهج إلهيّ، و لم نر في وقتٍ من الأوقات أنَّ الأنبياء و الأئمّة
عليهم السلام أرادوا تأديب أحد بهذا الاسلوب.
و الرواية طويلة، و ليس لها سند إلّا هذا التفسير.
و خلاصة المطلب: أنَّ أجلّاءً مثل المحقّق الميرداماد و العلّامة الحلّيّ و أمثالهما قد عدّوا نظير هذه الروايات من المنكرات، لكنَّ المرحوم النوريّ لم يعدّها كذلك، و لذا قالوا: إنَّ هذا التفسير ليس له اعتبار، و هو موضوع من قِبَل سهل الديباجيّ الذي نسبه إلى الإمام عليه السلام.
و علي كلّ تقدير، فالذي يرجح بنظري فيما يتعلّق بهذا التفسير هو ما ذكرته في كتاب «رسالة بديعة» من أنّه لا يمكن قبول روايات هذا التفسير من حيث المجموع، و أنّه يحتوي على مطالب غير حقّةٍ و تناقضاتٍ لا يمكن أن تنسب إلى الإمام المعصوم.
نعم؛ توجد في هذا الكتاب روايات حسنة المضمون أيضاً، مثل هذه الرواية التي ينقلها المرحوم الشيخ و التي ذكرناها هنا، حيث إنَّها تحمل مضموناً عالياً، و تنقيحاً و تفسيراً راقياً، من تمييز اولئك الذين يسيرون في طريق الخلاف و ينفصلون عن نهج العدالة و العصمة و الإتقان، و من جعلها مذمّة الله لعوامّ الشيعة عين مذمّته لعوامّ اليهود، حيث توضّح فيما بعد أيضاً النهج الذي ينبغي أن يكون عليه فقهاء الشيعة؛ "فَأمّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ... ." و من الواضح أنَّ لهذه الرواية حياة و روح، و لذا لا يمكن القول إنَّ كتاب التفسير هذا موضوع و كلّ ما فيه كذب. كلّا، فهؤلاء قد خلطوا عدداً من الأحاديث الصحيحة- و التي هي صحيحة واقعاً و غير قابلة للردّ من قبل الناس- مع أحاديث غير صحيحة و وضعوها بين أيدي الناس.
فلو كان كلّ ذلك موضوعاً بشكل كامل، لم يقبله أحد. فذلك الوضّاع المختلق يأخذ مقداراً من الأحاديث الصحيحة و يمزجها مع الأحاديث السقيمة لكي يقبلها عامّة الناس.
و لذا لم يمضِ المرحوم الشيخ هنا سند هذه الرواية، و إنَّما قال إنَّ آثار الصدق ظاهرة منها. و نفس الشيخ الأنصاريّ لم يعدّ هذا التفسير معتبراً، و هناك أجلّاء آخرون أيضاً أمثال بحر العلوم و كاشف الغطاء من الذين لم يعدّوه معتبراً أيضاً. أي أنّهم لم ينقلوا عنه، كما أنَّ غير الصدوق من المشايخ المتقدّمين مثل الكلينيّ و الشيخ في «التهذيب» و «الاستبصار» لم ينقلوا عنه.
بناءً على هذا، فإنَّ كون الصدوق وحده هو الذي نقل عنه، مع أنّنا نري أنَّ الأقران و المتقدّمين عليه لم ينقلوا عنه، يشكّل قرينة على أنّه لا يمكن الحكم على أهمّيّة هذا التفسير عموماً.
بناءً على هذا، فنتيجة البحث عن «التفسير المنسوب للإمام العسكريّ» عليه السلام: أنّه لا حجّيّة له من حيث المجموع. و ما يمكن قبوله من الروايات فيه هو ما كان مضمونها موافقاً للروايات الصحيحة و لا تخالف العقل.
لقد كان هذا البحث فيما يتعلّق بروايات هذا التفسير، و بحث هذه الرواية يختلف عن بحث مقبولة عمر بن حنظلة التي ذكرناها سابقاً، فمقبولة عمر بن حنظلة أوردها ثلاثة من كبار المشايخ- الكلينيّ و الطوسيّ و الصدوق- في كتبهم، و أفتي طبقها و عمل بها أجلّة العلماء أيضاً.
إذَن، نستطيع القول في الواقع أنّه توجد شهرة فتوائيّة على طبق تلك الرواية، كما توجد شهرة روائيّة أيضاً، و علي فرض عدم تماميّتها فالشهرة جابرة لسندها.
و لذا، تلقّاها العلماء بالقبول. لكنَّ شأن تلك الرواية يختلف عن هذه الرواية التي في «تفسير الإمام العسكريّ» عليه السلام، بل المنسوب للإمام العسكريّ (لا ينبغي القول «تفسير الإمام العسكريّ» بل يجب القول
«التفسير المنسوب للإمام العسكريّ» عليه السلام) فجميع القدماء لم ينقلوا هذا التفسير، و لم يستشهدوا به، و إنَّما ذكر بعض فقراته الصدوق في كتابه، و لا يكون هذا دليلًا على حجّيّته من حيث المجموع. كان هذا بحثاً عن هذا الحديث الشريف، و ستأتي المطالب في الأيّام التالية إن شاء الله تعالى.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ التَّاسِعُ عَشَر: بحثٌ في: استِصْحَابِ عَدَالَةِ الْفَقِيهِ غَيْر الْمَرْجِعِ حِيْنَ حُلُولِ زَمَانِ مَرْجَعِيَّتِهِ.
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
لا يمتلك «التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكريّ» عليه السلام دعامة لإثباته. فهو كأيّ كتاب يؤخذ من المكتبة و يكون مكتوباً عليه: هذا التفسير للإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، مع أنَّ الكتاب الذي ينسبه شخص آخر يجب أن يكون ممتلكاً لما يدعم ذلك، أي يجب أن تكون سلسلة رواته من الأشخاص الموثّقين، و إذا لم يكونوا موثّقين بشهادة عدلين فبشهادة شخص واحد على الأقلّ.
و نفس محمّد بن القاسم الجُرجانيّ- راوي هذه الرواية- محلّ طعن و قدح. و هو يروي عن شخصين: أحدهما يوسف بن زياد، و الآخر عليّ بن محمّد السيّار؛ و هما مجهولان، و لم يرد لهما ذكر في كتب الرجال. فإمَّا أنّهما لم يكونا موجودين أساساً و قد قام سَهْل بن أحمد الديباجيّ باختلاقهما، أو أنّهما كانا موجودين لكنّهما لم يكونا من الأشخاص المعروفين. فقد نسب محمّد بن القاسم الجرجانيّ الرواية إلي
شخصين غير موجودين أو مجهولي الحال و غير معروفين. و باختصار لم يرد اسماهما، و عدم ورود الاسم كافي في عدم الاعتماد. و كان هذان الشخصان يرويان هذا التفسير عن أبويهما، و أبواهما يرويانه بدورهما عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام.
و ما أفاده المرحوم الحاجّ الميرزا حسين النوريّ قدّس سرّه من أنَّ هذين الشخصين لم يضعّفا في الكتب الرجاليّة الأربعة («رجال النجاشيّ»، و «رجال الكشّيّ»، و «الفهرست»، و «رجال الطوسيّ») غير كافٍ. إذ إنَّ عدم التضعيف وحده لا يفيدنا. و إلّا فهناك الكثير من الذين لم يُذكروا في كتب الرجال، أو أنّهم ذكروا و لكنّهم لم يضعّفوا و لم يوثّقوا، على الرغم من وجوب توثيقهم، لأنَّ عدم التوثيق كافٍ في ضعفهم. فلا تبقي ثمّة حاجة لتضعيفهم ليتم قدحهم. فكلام المرحوم الحاجّ هذا غير تامّ أيضاً.
و أمّا كون المرحوم الصدوق قد نقل روايات عنهم في «من لا يحضره الفقيه» فذلك أيضاً غير كافٍ، إذ من الممكن للإنسان أن ينقل رواية و يري صحّتها و توثيقها أيضاً على أنّها غير ذلك واقعاً. فليست كلّ رواية موجودة في الكتب الأربعة قابلة لأن يُعمل بها، بل يجب تمييز الصحيح من السقيم. و لذا، لا يمكن العمل بجميع أخبار «من لا يحضره الفقيه» دون ما تأمّل. هذا بالإضافة إلى أنَّ الشيخ و الكلينيّ و الآخرين مثل البرقيّ في «المحاسن» لم يوردوا روايات هذا التفسير.
فهذا التفسير من الروايات غير التامّة، و هو يختلف عن «كتاب سُليم بن قيس الهلاليّ» الذي لو شوهد في بعض فقرات نسخه الحاليّة مخالفة في الجملة فاللازم طرح تلك الفقرة و العمل بالبقيّة. ف- «كتاب سُليم بن قيس» كتاب معتبر، و ينقل عنه كبار العلماء، كما أنَّ سُليم شخص معروف و موثّق و مأمون لدي الجميع- حتّى عند العامّة- و هم يذكرونه
بالتعظيم و التجليل و التوثيق، و كانوا يروون عن كتابه طوال هذه القرون المديدة. و هذا كافٍ في إثبات حجّيّة ذلك الكتاب.
و أمّا مجرّد أن يكتب على جلد كتاب: روي الشخص الفلانيّ عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، من دون أن يكون هناك أيّ دعامة لذلك، فهذا ليس قابلًا للقبول على الإطلاق.
بعض الحوادث المختلقة و الوقائع الكاذبة الموجودة في هذا التفسير
و هذا الكتاب بحسب نظري موضوع و مختلق من قبل سهل بن أحمد الديباجيّ. و قد صرّح العلّامة الحلّيّ أيضاً بهذا المعني، كما أنّه يحوي على كثير من الموارد المخالفة للواقع.
و من تلك الموارد أنّه ينقل في ذيل آية:: {فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ}۱، عن قول الإمام زين العابدين عليه السلام رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: غلام ثقفيّ- أي المختار- يخرج و يقتل ثلاثمائة و ثمانين شخصاً من بني اميّة. و عند ما وصل هذا الكلام إلى الحجّاج بن يوسف الثقفيّ قال: لم يصل إلينا كلام رسول الله هذا، و نحن نشكّ بما يرويه عليّ بن أبي طالب عن النبيّ. و أمّا عليّ بن الحسين فصبيّ مغرور، و كثيراً ما يتحدّث بما لا فائدة فيه، و هو يغرّر أتباعه من هذا الطريق. آتوني بالمختار.
فقام رجاله بالبحث عنه حتّى اعتقلوا المختار و أتوا به إليه.
فأجلس الحجّاجُ المختارَ على النطع، و أمر سيّافه بقطع رقبته، فرأي السيّافين قد ارتبكوا، فقال لهم: لِمَ لَم تضربوه؟ فقالوا: لقد أضعنا مفتاح الخزانة و السيف موجود فيها. فالتفت إلى أحد حجّابه و قال له: أعطه سيفك لكي يقطع رأسه. و عند ما عمد إلى ضربه أتاه عقرب فلدغ السيّاف
و رماه أرضاً. عندها قال المختار: لا تقتلني فإنَّ رسول الله أخبرني بأنّي سأقتل ثلاثمائة و ثلاثة و ثمانين ألفاً من بني اميّة، و إنّي سوف أقتلهم. و قول النبيّ صحيح. و حتّى لو قتلتني فسوف أحيا مرّة ثانية و أقتل ثلاثمائة و ثلاثة و ثمانين ألفاً من بني اميّة وفقاً لكلام النبيّ.
فأمر الحجّاج شخصاً ثالثاً أن يأتي و يقتله، و عند ما أراد أن يقطع عنقه قال له المختار: لا تفعل هذا. و التفت إلى الحجّاج و قال له: إنّي احبّ أن تأتي أنت و تقطع عنقي، و إذا قُمتَ بذلك فإنَّ الله سيسلّط عليك أفعى كما سلّط على ذلك الشخص الأوّل عقرباً.
فأمر الحجّاج بإعدامه. و فجأة، وصل رسول من ناحية عبد الملك بإطلاق سراح المختار، و سلّم رسالته إلى الحجّاج، ففتح الحجّاج الرسالة و قد كُتِبَ فيها: أيّها الحجّاج! وصلتني رسالتك المرسلة بواسطة الحمام [الزاجل] و قد ذكرت فيها أنّك سجنت المختار و تريد قتله، فبمجرّد أن تصلك رسالتي هذه أطلِقْ سراحه، لأنَّ زوجته مرضعة ابني الوليد، و قد شفع له الوليد عندي. فتركه الحجّاج و نصحه أن يتخلّى عن هذه الأعمال، و ألّا يحمل نيّة سوء ضدّ بني اميّة. فقال له المختار: إنّي سأقوم بعملي.
ثمّ شرع المختار بأعماله، فاعتقله الحجّاج مرّة ثانية، و أتي به يريد قتله، فوصل رسول ثانٍ من عبد الملك و سلّمه الأمر بإطلاق سراحه ... إلى آخر الرواية التي ذكرت.
و هناك علائم و أدلّة كثيرة ملحوظة و محسوسة علي وضع هذه الرواية الطويلة، و هذه الشواهد مثل إجلاس شخص على النطع لقتله، و الإتيان برسالة اخرى من العراق إلى الشام، و مجيء جواب الرسالة من الشام إلى العراق في هذه المدّة الزمنيّة القصيرة (الفترة التي كان المختار فيها مسجوناً)، و مع أنَّ هذه المدّة لا تقلّ عن عشرة أيّام فكيف يتأخّر قتل
المختار كلّ هذه المدّة، على الرغم من صدور الأمر بقتله فوراً، و كان دأب الحجّاج القتل الفوريّ، لا الوساطة و ما إلى ذلك؟ فإذا تأمّل الإنسان في هذه الامور فسيري أنَّ هذه الرسالة مختلقة و كاذبة من أوّلها إلى آخرها، و أنَّ لا أصل لها و لا أساس، لأنَّ إمارة الحجّاج و سلطنة عبد الملك بن مروان كانت بعد قتل المختار بسنوات.
فالمختار خرج في سنة خمس و ستّين، و قتل جماعة من مؤيّدي بني اميّة، و سيطر بعده على العراق مُصعَب بن الزُّبَير، و قُتِلَ المختار سنة سبع و ستّين، و قام مصعب بحكم العراق سنوات إلى أن انتصر عليه عبد الملك ابن مروان و سلّم إمارة العراق سنة خمس و سبعين إلى الحجّاج. فكان بدء حكم الحجّاج للعراق إذَن بعد موت المختار بثماني سنوات.
و نستنتج من هذا أنَّ هذه الرواية موضوعة، و أنَّ سهل بن أحمد الديباجيّ لم يكن يعرف التأريخ أصلًا، و إلّا لكان قد تذكر تأريخ هذه الكذبة الواضحة على الأقلّ، لكي لا تسبب اشتباهه و تسقيطه.۱
عليه يمكننا أن نلتفت إلى مدي معاناة أئمّتنا عليهم السلام و حجم المظلوميّة التي عاشوها، فحتّى زماننا هذا، توجد روايات كثيرة مثل هذه
الرواية ممّا تُنسب إلى الأئمّة مع أنّها كذب محض.
و مع ذلك يتوجّب علينا أن ننفي مثل هذه الروايات عن الإمام عليه السلام منكسرين متذلّلين، و نجيب بأنَّ مقام الإمام المعصوم مُنزّه عن نسبة هكذا امور، بل إنَّ هذه الرواية موضوعة و مؤلّفة على أيدي اناس عديمي الإنصاف و كذّابين و وضّاعين، نظير محمّد بن القاسم الأسترآباديّ الذي كان مفسّراً في جرجان، فألَّف كتاباً و نسبه للإمام عليه السلام انتصاراً لنفسه و لحزبه و جماعته، على الرغم من كون تفسيره مرفوضاً و عرضة للطعن و الانتقاد.
و علي هذا، فلا يمكن العمل بكلّ رواية بمجرّد اتّصافها بعنوان الرواية، بل يجب التحقيق حولها و معرفة صحيحها من سقيمها، و ذلك لوجود الكثير من الروايات الموضوعة.۱
و بحثنا حاليّاً هو في ولاية الفقيه، و إلّا لكنّا تابعنا الحديث حول عدم حجّيّة «التفسير المنسوب للإمام العسكريّ» عليه السلام إلى أن نتوصّل إلى أمر جديد، و بما أنَّ موضوع البحث لا يقتضي ذلك فإنّنا نتجاوز ذلك المورد، و سوف نبحثه في محلّه المناسب بتوفيق الله تعالي.
و كلّ ما عرضناه، كان بحثاً عن سند الرواية.
أمّا البحث من ناحية الدلالة: فمُفاد هذه الرواية «فَأمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ» راجع إلى التقليد فقط. و ربّما أمكن استفادة القضاء منها أيضاً، و لكن لا يمكن الاستدلال بها على ولاية الفقيه، و قد أوردناها هنا لكي نبحث في أطرافها، لا لكي نثبت ولاية الفقيه بواسطتها، حيث إنّنا قد نذكر الكثير من الروايات التي تكون نتيجتها آخر الأمر عدم الدلالة على ولاية الفقيه.
و بما أنّه قد شوهد في كلام البعض الاستدلال بهذه الرواية على ولاية الفقيه، فيجب البحث حولها من أجل توضيح أطرافها و جوانبها، و استنتاج- فيما بعد- هل تدلّ الرواية على ولاية الفقيه أم لا؟
و الجملة التي وردت في الرواية: "مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ"؛ جملة حسنة جدّاً.
و يقول المرحوم الشيخ أيضاً: إنَّ آثار الصدق ظاهرة منها، و أصل الرواية و مضمونها مضمون رشيق و عالٍ. و من المحتمل جدّاً أنَّ واضع التفسير قد أخذ مقداراً من هذه الروايات الصحيحة التي وردت عن الأئمّة أو عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام و أضافها إلى مختلقاته لتصبح مجموعة واحدة. و لذا فالمتن متن جيّد.
و يفيد قوله عليه السلام: "صَائِناً لِنَفْسِهِ، وَ حَافِظاً لِدِينِهِ"، بأنَّ الفقيه يجب أن يكون ممتلكاً لورع و تقوي باطنيّين يكونان فوق مرتبة العدالة يحفظانه عن الميل إلى الدنيا و الرئاسة و الحكومة و القضاء و الأمر و النهي و جميع هذه المسائل، و من حصول أدني اضطراب في قلبه.
و بشكل عامّ، فيجب أن لا يظهر عند الحكّام الذين يمتلكون منصب الحكومة، و الفقهاء أصحاب الولاية، أيّ تزلزل قلبيّ بسبب الأمر و النهي، و عليهم أن لا يترفّعوا عن أمكنتهم، و أن لا يتعالوا على سائر الناس،
و عليهم أن يعلموا أنّهم سوف يحاسبون على جميع الأموال التي تصل إليهم و تقسّم بواسطتهم، فهم و إن مُنحوا حقّ التصرّف فيها، لكنَّ الله تعالي سوف يؤاخذهم عليها.
و تُنقل رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام حول عقد كان في بيت المال، و قد رآه الإمام في عنق إحدى بناته. ينقل العامّة هذه الرواية بشكل عجيب جدّاً عن أبي رافع الذي كان خازناً لأمير المؤمنين عليه السلام؛ يقول فيها: إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام رأي يوماً عقداً من بيت المال في عنق إحدى بناته، و كان الإمام يعلم أنَّ ذلك العقد ملك لبيت المال، فما أن رآه حتّى تغيّر لونه و قال: لما ذا يُلبس هذا العقد؟ و الله إنّي سأقطع يد هذه البنت، إذ إنّها قد سرقت.
يقول أبو رافع: لقد شعرت بالخوف من هذا الكلام، و ذلك لأنّي أعرف أنَّ عليّاً عليه السلام عند ما يتكلّم بكلام لا يتنازل عنه، كما رأيت تغيّر حاله، و لذا جئت إليه و شفعت عنده في ابنته تلك قائلًا: يا أمير المؤمنين! قد أعطيته أنا لبنت اختي، و كانت تلبسه في عنقها، و من ثمّ أخذته منها ابنتك و استعملته، فمفتاح بيد المال بيدي، و من الذي يستطيع الدخول إليه من غير إذني ليأخذ العقد؟ و لذا تنازل أمير المؤمنين شيئاً ما.
و أمّا الخاصّة فيقولون أن أمير المؤمنين رأي في أحد الأعياد عقداً في عنق إحدى بناته، كانت قد أخذته تلك البنت كعارية مضمونة من بيت المال، و كان خازن بيت المال أبو رافع أيضاً. و قد غضب الإمام من هذا العمل، و طالبها بالسبب في استعارتها له قائلًا: لو كان هذا العمل جائزاً فلا فرق بينك و بين البنات الاخريات، و أنت لم تحصلي على إذْن بهذا العمل. ثمّ هدّد أبا رافع ناهياً إيّاه أن يصدر منه عمل كهذا مرّة اخرى. هذا هو أمير المؤمنين.
نقل منام عن آية الله الخوئيّ حول المؤاخذة على مصارف بيت المال
في الأيّام التي كنت فيها متشرّفاً بالسكن في النجف الأشرف لأجل إكمال التحصيل، كنت أحضر أحد دروس الاصول عند آية الله العظمى الحاجّ السيّد أبي القاسم الخوئيّ دامت بركاته العالية، و في أحد الأيّام واجهت إشكالًا في الدرس، و كان الوقت بعد مضي حوالي أربع ساعات من الظهر، و الطقس حارّ جدّاً، فأتيت إلى منزله من أجل السؤال عن الإشكال، و كان في ذلك الوقت يسكن في منزله الأوّل الذي كان وقفاً، و يبعد قليلًا عن الحرم، فطرقت باب المنزل، فجاء بنفسه و فتح لي الباب و أدخلني إلى داخل البيت و أكرمني، و كان من الواضح أنّه قد خرج توّاً من السرداب، و جلس في ذلك الجوّ الحارّ في المنزل تحت سقف الإيوان (بعض منازل النجف لها إيوان يكون له سقف بصورة شبّاك لمنع الحرارة) فجلست هناك، و سألته عن إشكالاتي، و سمعت أجوبتها. و قد كان في ذلك اليوم وحيداً في المنزل، و لذا طال المجلس قليلًا، و نقل لي اموراً كثيرة.
من جملتها أنّه قال لي: بعد وفاة المرحوم آية الله السيّد أبي الحسن الأصفهانيّ رأيت في عالم الرؤيا كأنّي في طهران في منزل الحاجّ الشيخ محمّد حسين الخراسانيّ، والد المرحوم الشيخ أبي الفضل الخراسانيّ، و جدّ الحاجّ الشيخ محسن الخراسانيّ (الذي هو حاليّاً من علماء طهران، و هو رجل محترم جدّاً، و هو صهر المرحوم السيّد محمّد جمال ابن المرحوم آية الله الحاجّ السيّد جمال الدين الگلبايگانيّ. و كنت قد تشرّفت بلقاء أبيه مراراً، و هو رجل جليل جدّاً، لكنّي لم أدرك المرحوم الحاجّ محمّد حسين و ذلك لأنّه قد توفّي قبل ذلك).
قال آية الله الخوئيّ مدّ ظلّه العالي: رأيت في المنام كأنّي في منزل الشيخ محمّد حسين الخراسانيّ في طهران، و كان من المقرّر أن يأتي السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ إلى هناك أيضاً، و لم يمضِ من الوقت شيء يذكر حتّى
جاء السيّد أبو الحسن و جلس، ثمّ انشغل بالحديث مع الشيخ محمّد حسين، فتعجّبت من أنّه إذا أراد أن يأتي من النجف إلى طهران فعليه أن يأتي مع مقدّمات كثيرة و صرف وقت و تشريفات و استقبال لائق، فكيف أتي من دون ضجيج و لا مقدّمات، و دون أن يلتفت أحد إلى ذلك أيضاً؟!
رأيت أن لا فائدة من تعجّبي، فهو حاضر و جالس و يتكلّم مع الشيخ محمّد حسين الخراسانيّ. و في أثناء الحديث أشار السيّد أبو الحسن إلى الجهة المقابلة له التي كانت قفراً تشبه تلّة كبيرة مثل الجبل، و قد جمع فيها النقود و الأمتعة و الأثاث فقط، و كان مقدارها كبيراً جدّاً، و قال للشيخ محمّد حسين: هل تري؟ هذه الأموال هي التي أعطيتها في زمن مرجعيّتي إلى الوكلاء الذين كانت عندهم و كالة منّي في جميع أنحاء العالم و في مختلف المناطق، و هم قد صرفوها من سهم الإمام و من الوجوه الشرعيّة. فهذه هي الأموال و الآن يريدون أن يحاسبونني عليها جميعاً. فقلت للسيّد الخوئيّ عندئذٍ: حسناً؛ فما تفعلونه الآن أنتم؟ هذه هي حال و قضيّة السيّد أبي الحسن الأصفهانيّ، أ فلا تعطون أنتم من هذه للوكلاء؟ فقال: إنّي أعمل بنحو آخر و هو أنّي لغاية الآن لم أعطِ أحداً وكالة، إنَّما اعطي إذْناً في الاستفادة من هذه الأموال، و الإذْن بخلاف الوكالة و لا مسئوليّة فيه.
و بالطبع لم يذكر السيّد الخوئيّ تفسيراً لهذا المعني، لأنَّ مراده معلوم إذ إنَّ الوكالة نحو من النيابة، فالإنسان عند ما يوكّل شخصاً فهذا معناه أنّه نائب عنه، و عمل الوكيل عين عمل الموكِّل، كما أنَّ عمل النائب عين عمل المنوب عنه.
و لذا، فعمل الوكلاء بسبب الإجازات المعطاة إليهم من قبل الفقيه محسوب على ذلك الفقيه، أمَّا إذا لم ينشئ الفقيه هذا التنزيل و النيابة و اقتصر على قول: إنّي اعطيكم إذْناً بأن تتصرّفوا بالمال بالشكل الفلانيّ،
فليس في هذا مسئوليّة الوكالة.
مسئوليّة التوكيل و الإذْن في التصرّف على المجتهد واحدة
لكنَّ الظاهر أنّه ليس هناك أيّ فرق بين الإذن و الوكالة، و الإشكال في الإذن نفس الإشكال في الوكالة، لأنّه و إن لم يكن في مسألة الإذن عنوان تنزيل و نيابة عن الشخص و ليس تصرّفاً عن الشخص الآذن، و لكن إنَّما يكون الإذن حينما يكون عمل الشخص محتاجاً إليه و لا يتمّ من دونه، إذ لا معني للإذن لمن يصحّ له القيام بعمل بدون إذن.
و إنّما يكون العمل صحيحاً حيث يكون إتيان العمل في الخارج مشروطاً به، و لا يتمّ ما لم يكن الشخص مأذوناً. و بعبارة اخرى: الإذن هو الجزء الأخير من العلّة التامّة.
فمثلًا، لو أراد إنسان أن يعطي مالًا لفقير فلا يتمّ ذلك إلّا بحصول شروط معيّنة في الخارج، مثل: وجود المال في الخارج، وجود الفقير، و من ثمّ رغبة و إرادة الإنسان بالإعطاء، ليتم إعطاء ذلك المال إلى الفقير. فالإرادة إذَن هي الجزء الأخير من العلّة التامّة.
و هكذا بالنسبة للإذن، أي أنَّ العمل لا يتمّ في الخارج من دونه. و بناء عليه، فمسئوليّة الإذْن هي نفس مسئوليّة الوكالة، لأنَّ النتيجة واحدة و هي التصرّف في أموال بيت المال التي جعلها الله تعالي منوطة بإذْن المعصوم و الشخص المتولّي على أرواح الناس و أموالهم من قِبل المعصوم، فإذا تحقّق ذلك في مورد ما فحسابه يكون في عهدة المعصوم أو المنصوب من قبله.
و علي هذا الأساس فليس هناك أيّ تفاوت بين الإذْن و الوكالة من الناحية الواقعيّة. إنَّما الفرق بينهما فرق مفهوميّ. و أمَّا بالحمل الشائع الصناعيّ و المصداق الخارجيّ فهو عمل يقع بالخارج و يرتبط بشخص الآذن و الموكّل، و لا تفاوت فيه من ناحية المسئوليّة أبداً.
نفس الإنسان قابلة للتغيّر ما لم ترسخ فيها العلوم الباطنيّة
و المطلب المهمّ الآخر هنا هو: أنَّ كثيراً من الأشخاص، و قبل وصولهم إلى المرجعيّة، كانوا من الطاهرين الأفاضل و العدول و المتّقين و المقدّسين، حتّى شوهد من بعضهم أنّهم كانوا يسيرون برفق أثناء صعودهم و نزولهم عبر سلالم المدرسة لكي لا تستهلك تلك السلالم و الأحجار بسبب كثرة السير عليها، فكانت دقّة تصرّفهم في أموال الأوقاف إلى هذا الحدّ. و لكنّهم بعد وصولهم إلى المرجعيّة ارتكبوا إلى ما شاء الله من الألاعيب المثيرة للقلق الشديد، التي تجعل الإنسان يشكّ في أنَّ هذا الشخص، هل هو نفس ذلك الشخص المحتاط أم أنّه شخص آخر؟!
غالباً ما يُشاهد أشخاص يتحدّثون قبل أن يصلوا إلى الرئاسة و الحكم عن لزوم حصول بعض التغييرات و ضرورة إصلاح أمر الطلّاب، و توجّههم نحو الأخلاق و الزهد و العرفان، و لزوم تدريس القرآن. و عند ما يصلون إلى السلطة ينسون هذه الامور بشكل كامل، فلا يُقام درس أخلاق، و لا يُهتمّ بامور الضعفاء و المساكين. و هذا بحسب تجربتنا لا ينحصر بمورد أو موردين، بل شوهدت له موارد كثيرة جدّاً.
فما علّة هذا الأمر؟ و ما الذي يمكن أن يكون السبب الواقعيّ في ذلك؟ فهل قد تغيّرت ماهيّة هؤلاء الناس حقيقة؟ و هل يكون الفقيه بعد المرجعيّة شخصاً آخر غير ذلك الفقيه الذي كان قبلها؟ أم أنَّ هناك سبباً آخر؟
و جواب هذه المسألة هو: أنَّ طبيعة الإنسان تتلوّن بسرعة، و سريعاً ما تتعرّف نفس الإنسان على ما يحيط بها فتتأثّر به، و يؤثّر عليها الكلام. و الخلاصة، أنَّ الإنسان سريعاً ما يقع تحت التأثير. و هؤلاء الأشخاص قد كانوا واقعاً طاهرين و متّقين و مقدّسين و يعيشون ببساطة، و لكن ما أن وصلوا إلى مقام الرئاسة، و هجمت عليهم الأموال من النواحي و الأطراف،
و صار يؤخذ منهم التكليف في المسائل، و يصدر الأمر و النهي عنهم بفعل الشيء الفلانيّ و ترك الشيء الفلانيّ، فعندئذٍ صاروا يرون أنفسهم في افق آخر، و يلاحظون أنفسهم أساساً من خلال إحساس كبير بالذات و بالمحوريّة. و لازم ذلك القيام بالأمر و النهي على أساس ولاية وهميّة و مصطنعة، و صاروا يحدّثون أنفسهم بأنَّ هذه التصرّفات جائزة لهم من باب الولاية. و هذه المسألة من المسائل المهمّة جدّاً.
كان سعر عَقْد زوجة عثمان (نائلة بنت فرافصة) بمقدار ثلث خراج إفريقيا. فعثمان هذا هو غير عثمان الأوّل، و من المسلّم أنّه قد تغيّر. نعم؛ صحيح أنّه لم يكن زاهداً و عابداً منذ البداية أيضاً، لكنّه لم يكن بهذه الدرجة من الخباثة كذلك. فينبغي أن لا نظنّ أنَّ هؤلاء الأشقياء هم أشقياء بالذات و قد ختم عليهم بذلك، و هم مجبورون على الذنب، بل إنَّهم ساروا في طريق الشقاوة باختيارهم، لأنّهم في بعض الظروف يكونون من المقدّسين المؤمنين المتديّنين، لكنّهم يميلون مع الظروف فيتغيّرون مع تغيّرها! .۱
... ۱
...۱
...۱
لاحظوا مثلًا أنّه عند ما تكون هناك اختان تعيشان في منزل واحد مع بعضهما، فتكون المحبّة بينهما إلى درجة تستعدّ إحداهما للموت في سبيل الاخرى، و إذا مرضت إحداهما تريد الاخرى أن تقتل نفسها لأجلها، لكن حين توافي المنيّة الأب و يرتحل عن هذه الدنيا، و يأتي الحديث عن تقسيم الميراث، و يصير الكلام حول حقّي و حقّك، تتبدّل تلك الحالة شيئاً فشيئاً و يظهر التكدّر.
و يصل هذا التكدّر إلى درجة أن تتمنّى هذه الاخت وفاة اختها مع أنّها كانت في حياة أبيها تفديها بنفسها!
و هذه مسألة مهمّة جدّاً و تفتح للإنسان الكثير من أبواب المعارف و توصله إلى امور كثيرة.
علي الحاكم تجاوز الجزئيّة و الاتّصال بالكلّيّة
و لذا، يقول الشيعة: يجب أن يكون الحاكم معصوماً. و هذا هو أساس الإمامة عندهم. يجب أن يكون هناك أمير المؤمنين عليه السلام و إلّا كانت الحكومة حكومة غير دينيّة. و كذلك الشخص الذي يرتبط به عليه السلام فيجب- و كما بيّنتُ مراراً- أن يكون قد تجاوز الجزئيّة و اتّصل بالكلّيّة. أي أن يكون قد عبر عالَم الجزئيّة و الكثرات و اتّصل قلبه بعالم الكلّيّة و الباطن، و أن يكون له اتّصال بحقيقة أمير المؤمنين عليه السلام و حقيقة صاحب الزمان عليه السلام، و إلّا فلا يستطيع القيام بعمل كهذا.
الاجتهاد مَلَكَةٌ قُدْسيَّةٌ، وَ مِنْحَةٌ إلَهيَّةٌ ..
و لا يصحّ القول: إنَّ الاجتهاد عمليّة رياضيّة، لكي يقال إنَّه إذا جمعنا
«أ» مع «ب» و ضربناهما باثنين يساوي كذا مثلًا. و إنَّ كلّ مَن تعلّم العمليّة صار مجتهداً!
و إنَّما الاجتهاد- كما قال المرحوم الشهيد- مَلَكَةٌ قُدْسيَّةٌ، وَ مِنْحَةٌ إلَهيَّةٌ. بنحو إذا وجدت هذه الملكة عند شخص تكون جميع أعماله ممضاة، و إلّا كان متورِّطاً في جميع خطواته و أعماله.
و كلامه ناظر إلى هذه الجهة، و لا يجب أن يتوهّم الإنسان أنّه بما أنَّ هؤلاء الأشخاص جيّدون فيجب أن نوصلهم للمرجعيّة و نعتبر المسألة منتهية. أو إذا انجرّ حاكم أو مرجع من الصلاح إلى الفساد، يقال إنَّه يجب نصيحته لإعادته بهذه الطريقة من الفساد إلى الصلاح. فالأمر ليس كذلك.
بل المسألة هي: أنَّ نفس الإنسان عند ما تنتقل من بيئة إلى بيئة اخرى فإنَّها تتغيّر، و يضيع الإنسان الجيّد، و يري ذلك الشخص الذي عاش في ظروف الرئاسة و الأمر و النهي نفسه فَعّالٌ لِما يَشاء وَ حاكِمٌ لِما يُريد، و يحسب نفسه وَليَّاً وَ مُسَيْطِراً على الأموال و النفوس، فهو يري لنفسه في الواقع حقّاً كهذا، و يسمح لنفسه أن يقوم بهذه الأعمال، و لذا يلجأ إلى هذه التصرّفات، لأنّه يجد في نفسه ولاية و سلطة و حقّاً في الأمر و النهي. و هذه مسألة مهمّة و خطيرة جدّاً.
ذهبت في أحد الأيّام إلى منزل آية الله الحاجّ السيّد محمّد على سبط الشيخ في طهران، فذكر أثناء الحديث الذي دار بيننا قضيّة لطيفة جدّاً، كانت جيّدة بالنسبة لي.
فحدّثني بأنَّ المرحوم آية الله الحاجّ الميرزا على الشيرازيّ (ابن المرحوم آية الله الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ الذي كان من المراجع في النجف الأشرف) كان يقول للذين يريدون أن يصبحوا مراجع: إذا شكّ الإنسان في عدالتهم فلا يستطيع إجراء استصحاب عدالتهم التي كانت قبل
زمان المرجعيّة؛ و كان يقول: إنَّ هذا المورد من موارد تبدّل الموضوع، و مع تبدّل الموضوع لا يجري الاستصحاب.
و لم أعهد مثل هذا الكلام، لأنَّ الجميع يقولون: إذا كان- مثلًا- زيدٌ عادلًا و وصل إلى المرجعيّة، ثمّ صدرت منه أعمال توجب الشكّ في بقاء العدالة، فيجب في هذه الصورة استصحاب عدالته.
بينما يقول الميرزا على: إنَّ الاستصحاب هنا لا يجري، لأنَّ الموضوع قد تبدّل.
فقلت له: و كيف يصحّ هذا الذي تقولونه؟ فقال: و من الصدف أنَّ المرحوم آية الله الحاجّ السيّد محسن الحكيم قد أورد هذا الكلام بالمناسبة في «مستمسك العروة الوثقى».۱
و أمَّا بيان المطلب: فقد كان اعتقاده هو و طلّابه على أنَّ الإنسان قبل أن يصير مرجعاً فإنَّ نفسه تعيش في إطار مصون من كثيرٍ من الأمراض و العاهات و الآفات و الأمراض النفسيّة، لكن عند ما يصل إلى المرجعيّة و يتجاوز ذاك الإطار السابق، و تتأثّر نفسه بمؤثّراته، تكون له نفس اخرى غير النفس الاولي. فقد تغيّر الموضوع هنا، فاستصحاب العدالة يرتبط بنفسه قبل المرجعيّة، و النفس قد تغيّرت. و قد كان مصرّاً على هذا الاعتقاد في عدم جريان الاستصحاب.
و لنَرَ الآن، هل استصحاب عدالة زيد و سريان زمان اليقين إلى زمان الشكّ- و الذي هو من استصحاب القسم الثالث من الاستصحاب الكلّيّ تقريباً- صحيح أو لا؟
لقد قسّموا الاستصحاب الكلّيّ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل، هو أن يكون لنا يقين بتحقيق طبيعة كلّيّة في ضمن فرد معين، ثمّ نشكّ أنَّ هذا الفرد هل زال لكي يكون الكلّيّ قد زال أيضاً أو لا؟ (لأنَّ الطبيعة بما هي طبيعة غير موجودة في الخارج، و إذا أرادت أن تتحقّق في الخارج فيجب أن تتحقّق و تتشخّص ضمن خصوصيّة معيّنة. فالكلّيّ الطبيعيّ بما هو كلّيّ طبيعيّ لا يستطيع أن يوجد في الخارج، و خارجيّته لازمة لتشخّصه و تخصّصه).
فنتيقّن مثلًا: أنَّ كلّيّ العدالة قد تحقّق في نفس زيد، ثمّ نشكّ فيما بعد في بقاء العدالة و عدمه، و ذلك لشكّنا مثلًا في موت زيد و عدمه.
و نظرنا الآن- بالطبع- إلى استصحاب العدالة الكلّيّة لا إلى استصحاب عدالة زيد، إذ لو أردنا استصحاب عدالة زيد فعدالة زيد أمر جزئيّ مثل وجود زيد و حياته. و من الواضح أنَّ استصحاب ذلك أمر لا إشكال فيه. لكنَّ الاستصحاب الجزئيّ ليس مورد نظرنا حاليّاً، و إنَّما الكلام هو: أنَّ العدالة الكلّيّة كانت موجودة في الخارج و متحقّقة مثلًا في ضمن زيد، و الآن عند ما شككنا في موت زيد، فهل نستطيع أن نستصحب تلك العدالة الكلّيّة؟ و ذلك لأنَّ موضوع العدالة الذي هو في الواقع نفس موضوع الكلّيّ متّحد حدوثاً و بقاءً (أي أنَّ تحقّق العدالة سابقاً هو في ضمن نفس الفرد المتيقّن الذي يُشكّ الآن في تحقّق العدالة في ضمنه بقاءً).
القسم الثاني، هو أن نتردّد في تشخّص و تخصّص الطبيعة التي نتيقّن بوجودها في الخارج ضمن هذا الفرد أو ضمن فرد آخر، بحيث إذا كانت ضمن هذا الفرد فهو متيقّن الزوال، و إذا كانت ضمن الفرد الآخر فهو متيقّن البقاء. و بما أنّنا لا نعلم في أيّ فرد قد تحقّق الكلّيّ، فلذا حيث نشكّ الآن في بقائه (بسبب احتمال تحقّقه في ضمن الفرد الأقصر عمراً) فلا نستطيع إجراء الاستصحاب.
و يقيناً أنَّ الحيوان الكلّيّ قد تحقّق في الخارج سابقاً، لكنّنا لا نعلم هل كان تحقّقه ضمن الفيل أو البعوضة؟ ففي الصورة الاولي يكون موجوداً إلى الآن بشكل مسلّم، لأنَّ عمر الفيل طويل، و في الصورة الثانية قد زال يقيناً. فلو أردنا الآن استصحاب خصوص الفيل فنحن نشكّ في أصل حدوثه. و إذا أردنا استصحاب كلّيّ الحيوان الذي قد تحقّق ضمن فرده، فهذا أيضاً لا يجري، لأنَّ شكّنا في أصل وجوده و تحقّقه، مع أنَّ الاستصحاب يحتاج إلى ركنين: الأوّل: اليقين بالحدوث، و الثاني: الشكّ في البقاء. أي يجب أن يكون لدينا يقين بوجود الموضوع سابقاً و نشكّ فيما بعد في بقائه. و هنا تلك الحيوانيّة التي كنّا متيقّنين بها سابقاً مشكوكة من الأوّل، حيث هل هي حيوانيّة فيليّة أو بعوضيّة؟ و لا يمكننا جريانها إلى هذا الزمان، لأنّه لا يقين لنا في وجود الحيوان الذي كان في السابق. و عليه، فلا يكون قابلًا للاستصحاب.
القسم الثالث، هو أن يكون لنا يقين بنحو مسلّم بتحقّق الكلّيّ في الخارج في ضمن فرد ما، و نتيقّن الآن أنَّ ذلك الفرد قد زال، لكن نشكّ في أنّه هل تحقّق الكلّيّ أثناء زوال ذلك الفرد في ضمن فرد آخر أو لا؟ لأنَّ ذلك الكلّيّ إذا أراد أن يوجد الآن في الخارج فيجب أن يوجد في ضمن فرد آخر.
كأن نعلم مثلًا: أنَّ زيداً كان في الخارج قطعاً، و كان كلّيّ الإنسانيّة متحقّقاً فيه، ثمّ نتيقّن بأنّه قد مات، و لكنّنا لا نعلم في أنّه هل ولد عمرو أثناء موته أو لا؟ و هل استمرّ وجود أصل الكلّيّ الطبيعيّ الذي كان موجوداً بوجود زيد في الخارج بوجود عمرو أو لا؟
أو نعلم، بأنَّ الحيوان الكلّيّ قد كان حيّاً في الخارج ضمن الفيل، و من المسلّم به أنّه قد مات الآن، لكنّنا نشكّ في: هل تزامن مع لحظة موته
ولادة حيوان كلّيّ آخر في ضمن البعوضة أو لا؟ فلا نستطيع إجراء الاستصحاب هنا أيضاً، لأنَّ الموضوع قد تبدّل (لأنَّ الفرد الذي تيقّنا بحدوثه قد زال الآن يقيناً، و الفرد الآخر الذي يحتمل وجوده- أصل حدوثه- مشكوك).
إذَن، من المسلّم به أنَّ الاستصحاب لا يجري في القسمين الثاني و الثالث، و لا إشكال في جريانه في الأوّل، و هو الاستصحاب الجزئيّ.
و زيد- في مورد البحث- كان يمتلك سابقاً صفة العدالة. أي أنَّ العدالة الكلّيّة كانت موجودة سابقاً في شخص زيد، و كانت نفسه في الخارج تمتلك صفة العدالة، لكنّنا لا نعلم في أيّ درجة من القوّة كانت تلك العدالة، فإذا كانت لا تزال موجودة إلى الآن، فهذا يعني أنَّ نفس زيد كانت في السابق نفساً عالية و ملكوتيّة تحفظ لنفسها تلك المصونيّة و العدالة و التقوي مع تغيّر الوضع و عروض الأهواء و الأفكار و الميول و الأمراض الروحيّة؛ لأنّه إذا لم تكن نفس زيد بتلك الدرجة من التقوي و الورع و كانت مكتفية بتلك العدالة الظاهريّة فمن المسلّم أنَّ هذه الأجواء المسمومة قد أزالت تلك العدالة، و أنّ تلك الشجرة قد انكسرت و قُلعت من جذورها. و نحن لا نعلم أنَّ ذلك الشخص يمتلك قبل المرجعيّة و الحكومة تلك الدرجة العالية من الصفاء و الثبات و الإتقان لكي لا يميل مثل: "هَمَجِ الرُّعَاعِ" إلى هذه الجهة أو تلك.
فلا يمكننا إذَن إجراء الاستصحاب، لشكّنا في أصل تحقّق الموضوع، فذاك الموضوع الذي كان وجوده محرزاً في زيد في السابق- أي متيقّناً في السابق- هو العدالة الاعتياديّة و المتعارفة لزيد الذي لا يحلّ استصحابها المشكلة، بينما المطلوب و اللازم للولاية هو الدرجة العالية من العدالة التي نشكّ في أصل تحقّقها. و من المسلّم به أنّنا لا نستطيع الآن
استصحابها و إجراءها إلى الزمان اللاحق، لأنَّ شكّنا هو في أصل تحقّق الموضوع.
نعم؛ لو كان عندنا يقين في السابق بامتلاك زيد لتلك النفس الملكوتيّة العالية، فيمكننا استصحابها فيما لو شككنا في بقاء تلك الصفات، و لكن بما أنَّ نفس الإنسان تتغيّر باختلاف البيئة و الظروف، (و الأغلب ما يلاحظ ذلك أيضاً، و قد اطّرد إلى درجة أنّه كثيراً ما لا يبقي للإنسان محلّ للشكّ، أي أنّها ظاهرة قويّة إلى هذه الدرجة) بنحو يتبدّل فيه الموضوع، فعندئذٍ لا يمكن أن نستصحب عدالة زيد.
كان هذا توجيهاً و تفصيلًا و شرحاً للكلام الذي نقلناه عن هؤلاء الأجلّة، و لا نريد إبداء رأينا في هذا المقام، و لكن نظراً لأهمّيّة المسألة نقول إجمالًا: يتوهّم الكثيرون أنَّ بإمكانهم حيازة مقام الولاية بتحصيل مجموعة من المصطلحات و التحصيلات المتعارفة، و بمراعاة بعض الشئون العرفيّة، و بدراسة و تدريس العلوم الرسميّة، و بالاكتفاء بهذه العدالة و التقوي الظاهريّتين، و كفي. مع أنَّ الأمر ليس كذلك، و المطلب لا ينتهي عند هذه النقطة.
علّة تحرّز الاعلام عن الولاية عدم الاطمئنان إلى امتلاك نفس مطمئنّة
و لذا نجد أنَّ الأجلّاء يمتنعون كثيراً من الوصول إلى المرجعيّة و الرئاسة خوفاً من أن تبدّلهم الظروف، إذ يؤخذ الإنسان من جوّ إلى جوّ آخر، و بما أنّهم لا يرون أنفسهم من أصحاب النفس المطمئنّة، فهم يجتنبون من ورود الهزاهز.
و ذلك كما لو سافر الإنسان من طهران إلى الحجّ في فصل الشتاء، فمع أنَّ جوّ طهران مليء بالثلوج، لكنّه ما أن يصل إلى أرض الحجاز حتّى يضطرّ لخلع الثياب الشتويّة و ارتداء الثياب المناسبة للطقس هناك، بسبب اختلاف الجوّ، في الوقت الذي يظنّ فيه سكّان طهران أنَّ الطقس في
الحجاز هو مثل طهران، و بالعكس.
فالذين يمارسون الأعمال العامّة و يحملون عنوان ولاية عامّة، مسئوليّتهم صعبة و معقّدة جدّاً، و يجب أن يكونوا ممتلكين لدرجة عالية من التقوي الإلهيّة، و أن يكونوا مرتبطين بالله باستمرار، فعليهم في الوقت الذي يوجّهون الأوامر إلى الناس أن يكونوا مؤتمرين بأوامر الله باستمرار، و في حالة تضرّع و سؤال و خضوع دائم بين يدي الله، و أن يكونوا في حالة تواضع مستمرّة تجاه الناس، و حتّى تجاه خدمهم، فيذهبون إلى مجالس الفقراء، و يجلسون على الحصير، و لكي يستأصلوا ذلك الغرور و التكبّر- الذي هو لازم الولاية- من وجودهم بواسطة عمليّة إذلال هذه النفس، و ألَّا يسمحوا لنطفة الغرور النامية في رحم وجودهم و اعتبارهم أن تكبر، لأنَّ الامور النفسانيّة لها منشأ في وجود الإنسان، و تلك الولاية و ذلك الاعتبار أيضاً بمنزلة الأرضيّة المهيّئة لتنمية و توسعة الاستكبار بالنسبة إليه. هذا من جهة.
و من جهة اخرى، فالإنسان لا يصغي لكلام أحد و لا تأتيه مؤاخذة أو توجيه أو أمر من أحد، فالظروف و الملابسات و الجوّ و سائر اللوازم و الخواطر تقتضي ارتفاع الآمريّة المتنامية في الإنسان بشكل متصاعد و مضاعف.
لكنَّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن كذلك، قد كان يأمر الآخرين باستمرار، كما أنَّ طاعته لأمر الله كانت مستمرّة أيضاً، و بذات الوقت كان كثير البكاء و السجود؛ و يلبس الثياب البالية دون أن يتخطّى عن زيِّه ذلك، و إذا أقسم فقسمه حقيقيٌّ. و لذلك قال أبو رافع: إنَّه شعر بالخوف من كلام الإمام عليه السلام، لأنَّ أمير المؤمنين عليه السلام جادٌّ فيما يقول و فعّال لما ذلك. و يوجد في بعض الموارد من خطب أمير المؤمنين عليه
السلام قوله مثلًا: و الله؛ لو فعل الحسن و الحسين العمل الفلانيّ لأدّبتهما!۱ و كان ينفّذ ذلك، لأنّه لا يمزح في قسمه. فأمير المؤمنين، أمير المؤمنين لأنّه هكذا. و علينا باعتبارنا شيعة أمير المؤمنين عليه السلام أن نكون كذلك أيضاً، و إلّا كانت جميع تبعات ذلك علينا. فلو كان ذلك بصفة الوكالة أو الإذْن أو الإجازة أو أيّ عنوان آخر، فمجرّد معرفة أمر لا ينتج شيئاً، و إنَّما الحقيقة الخارجيّة هي المنتجة. فعلي الإنسان إذَن أن يصرف الأموال الموجودة عنده للمستحقّين عن تحقيق.
و بناء على هذا، فالوكالات التي تعطي (بصفة عامّة) و ليس من الصحيح أن تدفع الرواتب الشهريّة العامّة دون أن يدري الإنسان: هل وصلت إلى مستحقّيها أو لا؟ و يجب التحرّي بدقّة حول أحوال و أخلاق الطلّاب، و التمييز بين الجيّد و السيّئ منهم. و يجب أن يصرف سهم الإمام و بيت المال في إعزاز الإسلام و المسلمين، و أن يكون دافعاً لرفعة و تقدّم مذهب التشيّع بذات القدر الذي يؤدّيه الأشخاص لرفع شأن الدين و رقيّه. و لا ينبغي التفريق بين الخواصّ و غيرهم، و يجب النظر إلى الجميع بعين واحدة، لا أن يعطي الإنسان خواصّه و أقرباءه أكثر من الآخرين.
يجب ملاحظة هذه المسائل بدقّة، إذ لو فلت زمام الأمر من يد الإنسان قليلًا فسوف يهوي إلى الحضيض بشكل متوالٍ و سريع، كالصخرة
دخول مقام الولاية من غير نفس مطمئنّة موجب للسقوط في الضلالة
التي تهوي من قمّة الجبل إلى أسفله في سرعتها، فلو قدّرنا سرعة انحدارها في أوّل متر بسرعة عشر كيلومترات، فسوف تتضاعف في المتر الثاني، حتّى تصل إلى أسفل الجبل و هي مفتّتة بسبب تضاعف تلك السرعة.
و علي الإنسان أن يسلّم أمره دائماً إلى الله و لا يمدَّ يده إلى هذه الأعمال و الامور العامّة التي هي امور ولايتيّة، فلا يجب عليه الدخول فيها ما لم يجد في ذاته نفساً مطمئنّة، و لا ينخدع بإصرار الآخرين و مواقفهم فيفرّط بنفسه، فإنَّ خطر ذلك كبير. و فيما لو كلّفه الله تعالي أحياناً بمهمّة ما، فعليه أن يكون عبداً ذليلًا خاضعاً للّه كما كان أمير المؤمنين عليه السلام.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ العِشْرون: دلالة آيةِ: «يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا» عَلَى لُزُومِ الرُّجوع إلى الأعْلَمِ فِي الْقَضَاءِ وَ الإفْتَاءِ وَ الْحُكُومَةِ.
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
{يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا}.۱
و تقريب الاستدلال بهذه الآية الشريفة بهذا النحو: تتحدّث الآية عن كلام و احتجاج إبراهيم عليه السلام على وليّ أمره آزر، الذي كان عابداً للصنم و مشركاً بالله تعالي. و بما أنّه قد جعل وجوب الاتّباع في هذه الآية منوطاً بعلم إبراهيم و عدم وجود ذلك العلم عند آزر، فيستفاد منها أنَّ على كلّ جاهل أن يتّبع العالِم، أي أن يجعل إرادة العالم و اختياره مكان إرادة نفسه و اختيارها، و أن يقدّمهما على إرادته و اختياره، و يجعلهما مكان طلباته و رغباته.
و عندها سوف ينال ذلك الجاهل مقصوده إثر اتّباعه للعالم، و سوف
يتمتّع بالمواهب الإلهيّة التي جُعلت للإنسان في الصراط المستقيم.
و قد بُيّن في هذه الآية أيضاً تعليل الحكم، أي أنّه ليس في الآية إشعار بعلّة الحكم فحسب، كما يقال في المباحث الاصوليّة من أنَّ: تَعْليقُ الحُكْمِ عَلَى الوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالعِلِّيَّة. كأن يقول المولي: أكْرِمْ زَيْداً العادِل. فهنا تعليق وجوب إكرام زيد على عنوان العدالة مشعر بعلّيّة وصف العدالة للإكرام. فهذا يسمّي إشعاراً، و كلامنا في الدلالة، إذ دلالة هذه الآية في الحقيقة فيها تنصيص و بيان لملاك و مناط الحكم، مثل: لا تَشْرَبِ الخَمْرَ لأنَّهُ مُسْكِر، ذلك لأنّنا بعد أن نستفيد العلّيّة هنا، ندرك أنَّ سبب حرمة شرب الخمر هو إسكاره.
و الأمر هنا كذلك أيضاً، فإبراهيم يقول لآزر: اتّبعني لكي أهديك إلى الصراط المستقيم و الطريق السويّ و الثابت. و ذلك لأنّي أملك العلم، بينما أنت لا تملك ذلك. فـ «الفاء» في {فَاتَّبِعْنِي} إذَن للتفريع على الحكم السابق و الأمر الذي يوجّهه إلى أبيه (عمّه آزر)۱، و هذا التفريع يفيد العلّيّة.
و من هنا يتحصّل- كما أفاده الأجلّة من أهل العلم- أنّه قد صرّح في هذا الكلام بالعلّة و السبب في الاتّباع، لأنَّ أمر إبراهيم كان مقروناً بالدليل و البرهان، و هو أنّي امتلك العلم و أنت لا تمتلكه. و علي هذا، فيجب عليك اتّباعي لكي أهديك إلى طريق السعادة و الكمال الإنسانيّ و إظهار الاستعدادات المنطوية في وجودك.
و هذا الأمر يستند إلى الغريزة الفطريّة و حكم العقل بوجوب رجوع
الجاهل إلى العالم، و بالطبع فإنَّ الحكم الشرعيّ- أمر إبراهيم لعمّه آزر- يترتّب عليه.
الحكم برجوع الجاهل إلي العالم في مراحل: الفطرة و العقل و الشرع
هناك ثلاث مراحل في لزوم رجوع الجاهل إلى العالم، أي عندنا في بحث الاجتهاد و التقليد، و بيان أدلّة لزوم التقليد ثلاث مراحل متفاوتة و ثلاثة منازل مختلفة و ثلاثة أحكام مختلفة:
الأوّل: الحكم الوجدانيّ و الفطريّ؛ و هو أنَّ فطرة الإنسان تقول إنَّ على كلّ جاهل الرجوع إلى العالم. و في هذه المرحلة، لا حاجة إلى المسألة الشرعيّة و الحكم الشرعيّ أو الحكم العقليّ. بل هذه المسألة مغروسة في سرّ و وجدان كلّ شخص من أنَّ الجاهل عليه أن يرجع إلى العالم؛ كإقدام كلّ من يصيبه العطش على شرب الماء من دون اختيار و دون أن يأمره أحد بشربه و دون أن يجعل عقله حكماً و يسترشده في ذلك، فعند ما يصل الظمآن إلى نبع ماء في الصحراء فسوف يلقي نفسه عليه.
و كذلك الإنسان الفارّ من الأسد و الذئب و السبع، فإنَّه لا يحتاج إلى سؤال أحد أو الرجوع إلى حكم العقل، بل إنَّ هذا الحكم أوّليّ و وجدانيّ، و مجعول في فطرة الإنسان، و هو ما يُسمّى بالحكم الفطريّ.
و الحكم الفطريّ موجود أيضاً في كثير من الحيوانات، فنري مثلًا أنَّ الكثير من الحيوانات تقلّد الحيوان الأرقى منها. ففي قطيع الغنم مثلًا يمشي الكَبْش- الذي يكون أكبر من الجميع و له قرنان كبيران- أمامها دوماً، فيتحرّك الباقون تبعاً لحركته.
و قد ورد في الروايات أيضاً تعبير «كبش الكتيبة»، و يُطلق على ذلك البطل الذي يكون الجيش قائماً به، و له حكم الكبش في مقابل العدوّ.
و لعلّكم قد شاهدتم في بعض الأحيان سرباً من الطيور أو الحمام، حيث ترونهم يسيرون جميعاً مع بعضهم في اتّجاه واحد، لكن ما أن
ينحرف القائد إلى جهة اخرى حتّى يغيّر الجميع جهة طيرانه إلى ذلك الاتّجاه. أي أنّهم جميعاً يتبعون في حركتهم ذلك المتقدّم، و هذا هو معني التقليد.
يقال: لو وضعت قطعة خشب على ارتفاع متر عن الأرض مثلًا، و اريد تمرير قطيع من الغنم من خلالها، فما أن تصل العنزة الاولي إلى تلك الخشبة حتّى تقفز، لأنّها تراها حاجزاً و مانعاً؛ و كذلك العنزة الثانية و الثالثة و الرابعة، فكلّهن يقفزن بنفس الطريقة و يعبرن عن تلك الخشبة، حتّى يصل الأمر إلى أنّه لو أزالوا تلك الخشبة فإنَّ بقيّة الماعز ستؤدّي نفس حركة من سبقها في حال وصولها لمكان تلك الخشبة، على الرغم من عدم وجود الخشبة. و هذا هو التقليد بعينه و حقيقته. فالتقليد إذَن موجود في الحيوانات، و هو حكم فطريّ.
الثاني: الحكم العقليّ؛ أي أنَّ الشخص حينما يرجع إلى عقله يري بوضوح أن عقله حاكم بعدم اقتحام المسائل التي يجهلها، لأنَّ في ذلك خطراً، و أنّه على كلّ شخص أن يرجع إلى العالم لأجل جلب المنفعة و دفع الضرر، و معالجة جهله بعلم العالم، و إذا لم يكن للإنسان علم فعليه أن يعالج نقاط ضعفه بعلمه المنفصل، أي العالم الذي يحلّ محلّ علمه المتّصل.
الثالث: الحكم الشرعيّ؛ و هو الذي يقع في مرحلة متأخّرة عن سابقيه، فكما أنَّ الوجدان و العقل يحكمان بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم، فالشرع أيضاً يقول: إنَّ على الإنسان الرجوع إلى العالم في المسائل التي يجهلها، و الآية الشريفة: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}۱، و سائر الأدلّة المنقولة في أدلّة الاجتهاد و التقليد تقع جميعاً بعد مرحلتي
الحكمين الفطريّ و العقليّ.
إنَّ رجوع العامّي إلى العالم في جميع الامور (سواء الامور الولايتيّة أم القضائيّة أم الإفتائيّة) هو من الأحكام المستقلّة العقليّة، بل الفطريّة، بل لو تجاوزنا هذا كلّه فهو من الأحكام الشرعيّة أيضاً.
استفادة رجوع الجاهل إلى العالم، و إلي الأعلم من الآية الكريمة
و يمكننا استفادة أمرين من عموم آية: {يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا}، التي أتينا بها هنا بعنوان الاستدلال:
الأوّل: وجوب رجوع العامّي إلى العالم، و وجوب تقليده في: المسائل الشرعيّة الفرعيّة، و رفع المنازعات و الخصومات، و الامور الولايتيّة التي يحتاج المجتمع فيها إلى وليّ و مدير و رئيس (أي في المراحل الثلاث: الفتوى، و القضاء، و الحكومة).
الثاني: لزوم رجوع العامّي إلى الأعلم (و إن كنتُ لحدّ الآن لم أجد أحداً من العلماء استدلّ بهذه الآية في باب الاجتهاد و التقليد في الكتب الاصوليّة، أو في مسائل ولاية الفقيه في الكتب الفقهيّة).
و أمّا رجوع العامّي إلى العالم، فلأنَّ العامّي لا يعلم و العالم يعلم، و النبيّ إبراهيم عليه السلام أيضاً قد ألزم عمّه آزر بوجوب اتّباعه بهذا المناط و الملاك.
و أمّا رجوع العامّي إلى الأعلم فهو بسبب وجود نفس المناط و الملاك فيه (أي ملاك أنَّ الجاهل لا يعلم و العالم يعلم) و ذلك بمعني أن اطّلاع و تبحّر وسعة علم و قدرة استنباط الأعلم أكثر، بينما اطّلاع العالم بالنسبة إلى الأعلم و قدرته العلميّة أقلّ و أضعف.
و علي هذا، توجد في جميع المسائل امور قد توصّل إليها الأعلم و أدركها بينما لم يتوصّل إليها العالم و لم يتعرّف إلى دقائقها، و إذا رجع
العامّي إلى العالم و لم يرجع إلى الأعلم فإنَّه قد رجع في هذه الامور و الدقائق إلى غير العالم، بينما لو رجع في خصوص هذه المزايا إلى الأعلم فإنَّه قد اتّبع في الواقع العالم الذي هو الأعلم، و بالنتيجة قد رجع في جميع الامور و الخصوصيّات التي يجهلها إلى العالم، سواء تلك الخصوصيّات التي يطّلع عليها كلّ من العالم و الأعلم، أو الخصوصيّات التي يعرفها الأعلم فحسب.
عدّ النبيّ إبراهيم عليه السلام اتّباع آزر له واجباً بنحو مطلق في جميع الامور و الخصوصيّات و المزايا التي لا يعرفها آزر، و ذلك لأنّه عالم.
كان هذا محصّل الاستدلال الذي قمتُ به في الجزء الثالث من كتاب «معرفة الإمام» الدرس الحادي و الثلاثون، حول لزوم الرجوع إلى الأعلم، من هذه الآية المباركة.
إيراد الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ علي استفادة الرجوع إلي الاعلم من الآية
و حيث إنَّ الأجزاء الأربعة من كتاب «معرفة الإمام» كانت جاهزة في حياة استاذنا سيّد الفقهاء و المجتهدين آية الله العظمى العلّامة الطباطبائيّ قَدَّسَ الله سِرَّهُ الشريف، فقد قدّمتها له لكي يطالعها.
و قد اكتفي رحمه الله بالتعليق في حاشية تلك الدفاتر التي قدّمتها له حول هذه المسألة فقط، و خطّه المبارك موجود الآن في تلك الصفحة (في الطبعة الفارسيّة) و قد أوردت نفس تلك التعليقة في هوامش الكتاب، حين طبعه، من دون تدخّل و تصرّف و إظهار نظر.
قال في تلك التعليقة: «طبقاً لهذا الفرض و البيان يحصل الترديد ما بين المجتهد المطلق و المجتهد المتجزئ، لا ما بين الأعلم و العالم الذي قامت الحجّة الشرعيّة في عامّة الأحكام عليه، و كانت واجبة العمل، و إلّا كان واجباً على نفس المجتهد العالم الرجوع إلى المجتهد الأعلم، و هذا الأمر مخالف للبناء القطعيّ للعقلاء.
فعلي سبيل المثال، لا ينحصر رجوع المرضي، و حتّى نفس الأطبّاء
في أيّ بلد من البلدان إلى أعلم أطبّاء البلد من أجل المعالجة، و كذلك في سائر الصناعات و الحرف، فلا يرجعون إلى أرقي استاذ لذلك الفنّ فقط، و إذا رجعوا إليه يكون ذلك بعنوان الأرجحيّة لا على نحو التعيّن و اللزوم. و قد جعل المناط في الآية الكريمة العلم و الجهل، لا الأعلميّة و العالميّة، أو الأعلميّة و الجاهليّة».۱
و قد كتبتُ بعد أن نقلتُ تعليقته بعينها: «هذه التعليقة من استاذنا العزيز آية الله العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه العالي».
و يستفاد من مجموع كلامه أنَّ استدلالنا بهذه الآية الشريفة على لزوم رجوع العامّي إلى العالم مقبول، لكنّه لم يقبل ذلك في لزوم رجوع العامّي إلى الأعلم، و بالجملة فهو يريد أن يوضّح: أنّه يستفاد من هذه الآية لزوم رجوع الشخص الجاهل إلى الأعلم، و إنَّما يُستفاد منها لزوم الرجوع إلى المجتهد المطلق لا المجتهد المتجزئ. أمّا كون الرجوع إلى الأعلم لا إلي المجتهد العالم فلا يستفاد من هذه الآية.
المجتهد المتجزئ هو الذي اجتهد في بعض المسائل و كان له فتوي فيها، بينما لم يكن صاحب نظر و فتوي في بعضها الآخر. و لأنّه كذلك، فهو جاهل، و لا يمكن للعامّي أن يرجع إليه في تلك المسائل، إذ إنَّ ذلك بمثابة رجوع جاهل إلى جاهل، لا رجوع جاهل إلى عالم.
أمَّا العامّي فيمكنه الرجوع إلى المجتهد المطلق، لأنّه عالم و صاحب فتوي في جميع المسائل، و يستفاد هذا المعني من الآية أيضاً دون رجوع الجاهل إلى الأعلم، إذ و كما يمتلك الأعلم اطّلاعاً على جميع المسائل فالعالم كذلك أيضاً، فمن أين يستفاد من الآية إذَن أنَّ على الجاهل الرجوع إلى
الأعلم، و لا يمكنه الرجوع إلى العالم؟!
و بالإضافة إلى ذلك، فسيرة العقلاء أيضاً على هذا النحو، إذ هم لا يرجعون إلى الأعلم. فالسيرة في المستشفيات مثلًا بهذا النحو على الرغم من وجود مختلف الأطبّاء، حيث إنَّ المرضي يراجعونهم جميعاً، و لا تنحصر مراجعتهم بالطبيب الأعلم الذي يمتلك تخصّصاً أكثر في الفنون الطبيّة و الجراحيّة و سائر الشئون المختلفة؛ و كذلك في سائر الصفات و الحرف. فمن يريد بناء بيت مثلًا لا يرجع إلى البنّاء الأعلم، و من يريد خياطة ثوب فلا ينحصر رجوعه إلى أمهر الموجودين في هذه الحرفة. كلّ ذلك بحسب السيرة العقلائيّة المتمثّلة برجوع الجاهل إلى العالم، على الرغم من البون الشاسع فيما بين أصحاب هذه الحرف من حيث المهارة.
و لو تجاوزنا هذا كلّه، فالموجود في الآية الشريفة هو الفرق بين العالم و الجاهل. إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ، أي أنا عالم و أنت جاهل؛ فليس الآية في معرض بيان الفرق فيما بين الأعلميّة و العالميّة، أو الأعلميّة و الجاهليّة. و عليه، فلا يستفاد من الآية الشريفة: وجوب الرجوع إلى الأعلم فقط و ترك سائر العلماء الآخرين. و كان هذا هو محصّل إشكاله.
الرجوع إلى الاعلم في المسائل الخطيرة و الامور المهمّة سيرة عقلائيّة
و أمّا ما أفاده من أنَّ السيرة العقلائيّة قائمة على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم، و أنَّ الرجوع إلى الأعلم غير ثابت، فيجب أن نري هل الأمر كذلك حقيقة؟ و هل هذه السيرة ثابتة و مطّردة و مسلّمة، بحيث لا يرجع عقلاء العالم إلى الأعلم و يرجعون إلى العالم؟ و الجواب هو النفي؛ و للأسباب التاليّة:
أوّلًا: لأنّنا نري أنَّ أنظار العقلاء تختلف في المسائل التي يجب الرجوع فيها إلى العالم من حيث الأهمّيّة و عدمها. و ذلك أنَّ بعض المسائل لا تمتلك أهمّيّة كبري، و لذا لا يدقّقون فيها كثيراً بنحو يلتزمون بالرجوع
فيها إلى الأعلم حتماً.
فمن يبتلي مثلًا بوجع الرأس أو الزكام الخفيف، فإنَّه يذهب إلى نفس طبيب المحلّة و يعمل بتوجيهاته، و يحلّ المشكلة بهذه الطريقة، دون مراجعة الطبيب الأعلم، لأنَّ المسألة ليست بتلك الدرجة من الأهمّيّة. و في الحقيقة فإنَّ هذا الطبيب متساوٍ مع ذلك الطبيب الأعلم في تشخيص الزكام الخفيف، و لو رجع إليه الإنسان أيضاً فسوف يكون في تشخيصه للمرض و الدواء الذي يعطيه و الحمية عن الأطعمة التي يطلبها على حدٍّ واحد مع غيره. و لذا لا يري الإنسان ضرورة في الرجوع إلى الطبيب الأعلم.
الرجوع إلى العالم دون الاعلم في الامور الخطيرة خلاف السيرة
و أمّا اذا كانت المسألة مهمّة و خطيرة، و كان المريض مبتلي بمرض قد اختلف الأطبّاء في تشخيصه و في كيفيّة العلاج، و كان في هذه الحالة ثمّة احتمال للهلاك، إذ قد شخّص أحد الأطبّاء مثلًا أنَّ المرض هو الزائدة الدوديّة، بينما قال الطبيب الآخر هو الصفراء، و هذان المرضان مختلفان، و من الممكن أن يتلف المريض بسبب إجراء عمليّة جراحيّة و يموت؛ فهل يتركون الرجوع إلى الأعلم في هذه الحال؟ و الجواب طبعاً بالنفي.
لأنَّ الملاحظ هو: رجوع الجميع في مثل هذه الحالة إلى الأعلم، بل إنَّهم يتحمّلون أحياناً مشقّات كثيرة و مجهدة لكي يتوصّلوا إليه، و لا يرجعون إلى الأعلم في مدينتهم فحسب، بل إلى الأعلم في سائر المدن و البلاد و القارّات، لأجل الحصول على الطبيب الأفضل و الأخصّائيّ الأمهر لعلاج المرض.
و علي هذا، فليس هناك سيرة عقلائيّة قائمة على الاكتفاء بالرجوع في جميع الحالات إلى العالم فقط، و إنَّما المسائل و الدواعي تختلف من حيث الأهمّيّة و عدم الأهمّيّة، و في الحالات التي تكون المسائل فيها ذات أهمّيّة، فالسيرة العقلائيّة على الرجوع إلى الأعلم.
ثانياً: إنَّ عدم رجوع الناس في جميع المسائل إلى الأعلم هو عدم إمكان وصول جميع الناس إليه، لأنَّ الأعلم دائماً شخص واحد، و لا يمكن أن يكونا اثنين، الناس جميعهم يمتلكون العلم في المستويات المختلفة، إذَن فهم يشتركون مع بعضهم في ذلك العلم؛ و كذلك أشخاصهم كثيرون. و كلّما تضيّقت دائرة التخصّص صار عدد الأشخاص أقلّ، و هكذا تتصاعد المسألة على هيئة هرم حتّى تصل إلى آخر نقطة في الهرم، حيث يوجد هناك شخص واحد فقط يكون أعلم من الجميع. و بما أنَّ الأعلم ينحصر بشخص واحد، فالوصول إليه أصعب من الوصول إلى الجميع، لأنّه شخص واحد و الجميع يريدون الرجوع إليه. و لذا، لا يمكن للجميع أن يتوصّلوا إليه و لا أن يرجعوا إليه، لأنّه عزيز الوجود.
و من هنا، يقال: ما دمنا لا نستطيع الوصول إلى الأعلم، فإنّنا نكتفي بـ الأعْلَمُ فَالأعْلَم؛ و لو كانت الإمكانيّات متساوية من جميع النواحي لما تركوا الأعلم و رجعوا إلى العالم مطلقاً.
و مثال ذلك: لو وُجِد في إحدى القوافل الذاهبة إلى الحجّ طبيب أخصّائيّ أعلم و أجلّ قدراً إلى جانب طبيب عاديّ، و كان كلاهما عالمين من ذوي حملة الشهادات في الطبّ، و كانا من ضمن أفراد القافلة، و من دون أيّ فرق. فمن المعلوم في هذه الحالة أنّهم لا يرجعون إلى ذلك الطبيب العاديّ، و إنَّما يرجعون إلى الطبيب الأعلم.
نعم؛ عدم الرجوع إلى الأعلم سببه عدم إمكانيّات الناس و عدم تمكّنهم، و لو كانوا يمتلكون القدرة لرجعوا إليه. و عليه فسيرة كهذه (رجوع الجاهل إلى العالم لا إلى الأعلم) غير ثابتة في جميع الحالات.
و أمّا ما قاله من أنَّ: لازم هذه المسألة أن يرجع نفس المجتهد إلى الأعلم منه، و كذلك رجوع بعض الأطبّاء إلي الطبيب الأعلم، فهذا
غير مسلّم.
إذ إنَّ المسألة محلّ إشكال و تأمّل أيضاً، لأنّه عند ما يصير المجتهد عالماً في مسألة ما فهنا يُتَصوَّر فرضان: فإمَّا أن يكون جازماً و قاطعاً في هذه المسألة، و إمَّا أن لا يكون كذلك، بل يكون عالماً بالعلم العاديّ و الظنّيّ الذي يكون قابلًا للزوال و التشكيك.
فيكون علمه في الصورة الاولي غير قابل للتغيير، لأنّه يري نفسه مساوياً للأعلم، و هو لا يحتمل في تلك المسألة بالخصوص التي يكون عالماً و جازماً و قاطعاً بها خلاف هذا المبني لكي يحتاج إلى رفع الإشكال و الشبهة، و ذلك لأنّه يمتلك العلم و اليقين الذي هو عبارة عن القطع. و قد ثبت في محلّه أن حجّيّة القطع ذاتيّة و لا تحتاج إلى جعل و إن كان على فرض كون نظريّة الأعلم مخالفة لنظره أيضاً، فهو يري نفسه في هذه المسألة أعلم، و إلّا فلو كان يري غيره أعلم منه فيها لكان يحتمل الخلاف في علمه. و مع احتمال الخلاف يخرج موضوعنا (العلم المقترن مع القطع و الجزم) عن القطع و الجزم، و لا يكون علمه بعد ذلك علماً قطعيّاً و جزميّاً. فحيثما وجد العلم الجزميّ لا يكون ثمّة احتمال الخلاف.
فطريق الوصول إلى الأعلم إذَن مسدود لكلّ عالم قاطع بعلمه، و ذلك لأنّه يري نفسه في تلك المسألة بنفس المستوي أو أرقي من الأعلم.
و لا إشكال في أن يري الإنسان نفسه أدني من الأعلم، لكنّه يري نفسه أرقي منه في خصوص بعض المسائل التي هو جازم و قاطع فيها.
و حالة الكثير من الأطبّاء الذين نراهم لا يرجعون إلى الأعلم من هذا الباب، لأنّهم يقطعون أن تشخيصهم صحيح، و عليه فيكون قطعهم مانعاً من رجوعهم إلى ذلك الطبيب الأعلم. هذا في صورة قطع الإنسان بعلمه.
أمّا في الصورة التي لم يكن لديه فيها قطع، بل كان لديه علم عاديّ
و كان يحتمل فيه الخلاف، فالسيرة العقلائيّة قائمة- هنا أيضاً- على الرجوع إلى الأعلم.
العلّة في عدم رجوع الرواة للائمّة في المسائل الجزئيّة هي جزمهم فيها
فالأطبّاء يرجعون في معالجة أنفسهم و عوائلهم إلى طبيب آخر مع كونهم أطبّاء أخصّائيّون، لكن بما أنَّ مرض أقربائهم يمتلك قدراً أكبر من الأهمّيّة، لذا فهم يرجعون إلى طبيب آخر، أو يرجعون في مرضهم إلى طبيب آخر، بسبب عدم قطعهم في تشخيصهم لمرضهم أو مرض أبنائهم، و لأنَّ علمهم في ذلك قابل للتشكيك. و لا يراجعون طبيباً آخر في صورة القطع.
و لهذا السبب جعل الأئمّة عليهم السلام أشخاصاً في زمانهم بصفة رواة و فقهاء بين الناس، ليتمكّن الناس من الرجوع إليهم في مسائلهم.
لأنَّ الفقهاء و الرواة الذين كانوا يبدون آراءهم للناس، كانوا قاطعين و جازمين بعلمهم، و لم يكونوا يرون حاجة الرجوع إلى الإمام في تلك المسائل التي يعملون بها طبق علمهم الجزميّ و القطعيّ و يسيرون بالناس بما ينبغي.
فالفقيه الذي يأتي إلى الإمام عليه السلام و يسأله عن مسائل الوضوء و يبيّن له الإمام جميع خصوصيّات الوضوء و كيفيّة غسل الوجه و اليدين و المسح، فإنَّه بعد مشاهدة فعل الإمام يحصل له القطع فلا يرجع مرّة ثانية إلى الإمام ليسأله عن هذه المسائل، فيمتلك قطعاً بالحكم، و لا يري علمه في هذه المسائل أقلّ من علم الإمام.
و لذا، يكون الطريق لرجوعه إلى الإمام مسدوداً. و أمّا في المسائل التي تواجهه أحياناً و يحتمل فيها التشكيك، و مع أنّه يمتلك العلم تجاهها لكنّه يحتمل الخلاف أيضاً، فنجده في هذه الحالة يرجع إلى الإمام.
و لذا، فالإمام المعصوم في كلّ زمان هو واحد، لكنَّ الفقهاء على
اختلاف درجاتهم و مراتبهم كثيرون، و جميعهم يحتاجون إلى الإمام المعصوم. و ذلك من جهة أنَّ العلوم التي يمتلكونها ليست جزميّة و قطعيّة و وجدانيّة و حضوريّة مائة بالمائة؛ و أنَّ علم الإمام أعلى، و لذا يكون الإمام في الرأس و البقيّة تحت لوائه و رايته، و يسيرون في مسار واحد و صراط مستقيم نحو حضرة الحقّ. و يجب على هم الرجوع إلى الإمام في كلّ مسألة من المسائل التي يحتاجون فيها إلى علم الإمام.
فعليهم في زمان الولاية الظاهريّة أن يستفيدوا من الإمام الظاهر، و في زمان إمامة الإمام الغائب عليهم أن يستفيدوا من حقيقة الولاية و الانتهال من تلك الشريعة في علاج نقصهم و تبديل نقاطهم المظلمة بالنور.
و بالجملة، ما نستفيده من الآية الشريفة في جميع الحالات التي بيّنّاها هو الرجوع إلى الأعلم، فالآية تريد أن تقول: إنَّ العلم حقّ و حقيقة و نور. و إذا كان العلم حقيقة، فلا تبقي نقاط ضعف فيه، لكون العلم نوراً و حقيقة، فهو وجود و ليس بعدم، نور و ليس بظلمة، حقّ و ليس بباطل.
فهذا هو معني العلم، و حيث يكون العلم ضعيفاً فثمّة نور مضاف إلى الظلمة، فلا يكون إذَن نوراً مطلقاً. و إنَّ تفاوت المصباح ذي قوّة ألف شمعة مع مصباح ذي مائة شمعة إنَّما هو في امتلاك الأوّل ألف درجة من النور، بينما يمتلك الثاني مائة درجة منه، بالإضافة إلى تسعمائة درجة من الظلمة. فالنور الضعيف إذَن نور ممزوج و مخلوط مع الظلمة، و وجود مخلوط بالعدم، فكلّ علم ضعيف يكون مخلوطاً بالجهل. و العلم الذي لا يكون بدون جهل هو علم الدرجة العليا. و كلّما تنزّلنا عن تلك الدرجة كان ذلك العلم مقترناً بالجهل. و علي هذا الأساس، فمفاد قول النبيّ إبراهيم عليه السلام لأبيه: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا}، أنّه: قد وصلني علم
لم يصلك، ففي أيّ درجة من العلم كنتَ فعلمك مقترن بالجهل، لأنّه ليس في درجة علمي. و علي الجاهل أن يرجع إلى العالم.
و علي الرغم من كون جميع مراتب النور مشتركة مع بعضها في حقيقة نوريّتها، و يكون عنوان النور و مفهومه صادقاً على الجميع بالحمل الأوّليّ و الذاتيّ، إلّا أنّه يكون كلّ واحد من مراتب النور في مقام و درجة خاصّة في الحمل الشائع الصناعيّ.
و النور العالي و الأعلى هو النور الأكمل من جميع أفراد و مراتب النور. و بقيّة أنواع النور (في الدرجات و المراتب المختلفة) مشترك مع العدم، أي جميع ذلك النور مشوب بالظلمة.
و علي هذا سيكون علم العالم الذي لم يصل إلى الدرجة العليا من العلم مقترناً بالجهل، خلافاً للأعلم الذي لا توجد في علمه أيّة شائبة جهل و ضلال. و لذا، يجب أن يرجع الجاهل إلى الأعلم.
و كمثال على ذلك: افرضوا أنّه يوجد في غرفة مصباح بقوّة شمعة واحدة، و آخر بقوّة مائة شمعة، و ثالث بقوّة ألف شمعة. فيكون النور الذي هو بقوّة شمعة واحدة بالنسبة لنور الألف شمعة درجة من النور و تسعمائة و تسع و تسعين درجة من الظلمة، بينما يكون المصباح الثاني، مائة درجة من النور و تسعمائة درجة من الظلمة، و أمّا ذلك النور ذو الألف درجة فكلّه نور و لا يكون مشوباً بالظلمة.
فهذا النور ذو قوّة الشمعة الواحدة يحتاج في إكمال نفسه و تتميمها إلى النور ذي المائة شمعة. و ذو المائة يحتاج أيضاً إلى النور ذي الألف شمعة؛ و لذا عند ما يضاء مصباح الألف شمعة فإنَّه ينوّر جميع فضاء الغرفة، و تزول جميع الظلمات.
و لو كانت سيّارة المسافر ليلًا على إحدى الطرق الخارجيّة مجهّزة
بمصابيح قويّة و مضاءة، فستكون جميع الصحراء مضاءة له، ممّا يمكنه من معرفة جميع خصوصيّات المنطقة، فسواء عدوّه الذي يكون في ناحية من الطريق أو الحيوانات المفترسة أو المطبّات و الحفر المغطّاة، فبإمكانه تشخيص كلّ ذلك. أمّا إذا كان ضوء مصباحه ضعيفاً، فإنَّه لا يستطيع متابعة سيره بدون متاعب و أخطار كثيرة. فالذي يمنع تلك الأخطار إذَن هو ذلك النور القويّ.
دلالة الآية على أنَّ سبيل و نهج الحقّ الوحيد هو اتّباع الاعلم
و علي هذا الأساس، فالآية المباركة ليست في صدد القول: إنَّ تلك الدرجة من علم العالم الذي يصل إلى درجة الأعلميّة ضائعة و باطلة، و إنَّما تقول: إنَّ تلك الدرجة من العلم ضعيفة. فمفادها: أيّها العمّ آزر! مهما كان مستوي عالميّتك فعلمك ضعيف، و طريقك غير مستوٍ، و هو ملتوٍ و معوجّ، و ما دمت تسير في طريقك فلن تصل إلى المقصد أبداً. أمّا إذا تركت طريقتك و سرت في الصراط السويّ و الصراط المستقيم، في شعاع نوريّ و علميّ، فسوف تصل إلى المقصد بسرعة.
التشابه بين مفاد الآية و رواية: مَا وَلَّتْ أُمَّةٌ أَمْرَهَا رَجُلًا قَطُّ ...
و ذات الآية الشريفة كالرواية التي ننقلها عن سلمان الفارسيّ و أمير المؤمنين و الإمام الحسن المجتبي و الإمام موسى بن جعفر عليهم السلام، و قد رواها الشيخ سليمان القندوزيّ في كتاب «ينابيع المودّة»، و العلّامة الأمينيّ كذلك في «الغدير» عن ابن عُقدَة من أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
"مَا وَلَّتْ امَّةٌ أمْرَهَا رَجُلًا قَطُّ وَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ، إلَّا لَمْ يَزَلْ أمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالًا حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى مَا تَرَكُوا".
فلم يقل النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنَّهم سوف يضيعون و يفنون بشكل تامّ بحيث إذا تولّي قيادة المجتمع غير الأعلم و قام بالإفتاء لهم و الحكم و القضاء، فإنَّ ذلك المجتمع سوف ينجرّ إلى الفناء و الزوال،
بل إنَّهم يسيرون في شعاع نوره أيضاً نحو الهدف، و لكن ضمن افق أدني.
و ذلك خلافاً لما لو تسلّم زمام الامور الأعلم، فإنَّه يوصل جميع الناس إلى طريق الكمال من خلال افق أرقي و أجواء أرفع، مع فكرٍ أقوي.
سَفال، من سَفْل. أي في مرتبة سُفلي، و هذا تعبير لطيف جدّاً بأن يقول سَفالًا أي أنَّ الناس يسيرون نحو المقصد فيستفيدون من نصيب الحياة كما يتمتّعون بالنِّعَم الإلهيّة، لكن في درجة سفلي و منخفضة، و ذلك بحسب رتبة و كمال و عدم كمال ذلك الوليّ القائد لهؤلاء القوم، و هذه الامّة و جميع الأشخاص أيضاً سوف يسيرون على ذلك النهج. أمّا لو تولّي الأعلم زمام امور الامّة، فإنَّه سيقود المجتمع نحو الكمال ضمن افق راقٍ. و الآية المباركة أيضاً متحدة مع تلك الرواية الشريفة- التي ذكرناها- في كثير من مفادها. أي أنَّ كلتيهما تريدان إفادة مطلب و مفاد واحد.
و علي كلّ تقدير، فنحن نريد أن نستفيد من هذه الآية المباركة و نقول: إنَّ الآية هي في صدد بيان أنَّ العلم نور، و حقّ، و حقيقة. و كما أنَّ جميع الآيات القرآنيّة تدعونا إلى الحقّ مثل الآية الكريمة: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى}۱؛ و الآية الشريفة: {فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ}٢ و أمثالهما: فهنا نقول أيضاً: العلم حقّ، و علي الناس اتّباع العالِم.
و ذلك العلم الذي ليس فيه أيّ شائبة جهل هو علم الأعلم، أمّا علم الأقلّ منه فعلم اضيف إليه جهل؛ ذلك العلم الذي ليس فيه أيّ شائبة بطلان، هو علم الأعلم، و هو حقّ؛ بينما علم الأدنى منه علم اضيف إليه
ظلمة، و لذا فهو حقّ نسبيّ، أي حقّ مخلوط بالظلمة.
و هذه الآية بإطلاقها و دلالتها توضّح لنا بشكل جيّد أنَّ أصل العلم له موضوعيّة، و أنَّ على جميع الناس أن يتحرّكوا على أساس العلم. و لازم هذا الكلام هو الرجوع إلى الأعلم في جميع المسائل.
و يستفاد من هذه الآية أنَّ على الإنسان أن يرجع إلى الأعلم في الآية، سواء في الإفتاء أم القضاء أم الولاية. و هي برهان صريح على وجوب تسلّم الأعلم في الامّة لزمام الامور، و أن يفتي للناس كذلك، يبيّن لهم المسائل، و يقوم برفع الخصومات و المنازعات بينهم. و كلّ هذا مستفاد من الآية.
البحث حول حديث: أَمَّا الحوَادِثُ الوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إلى رُوَاةِ حَدِيثِنَا
و من الأدلّة الاخرى التي تُذكر حول وجوب و لزوم الرجوع إلى الأعلم (في مراحل الولاية الثلاث: القضاء، و الإفتاء، و الحكومة) هي الرواية التي ينقلها محدّثنا الجليل: الشيخ محمّد حسن الحرّ العامِليّ في الجزء الثامن عشر من «وسائل الشيعة» الباب الحادي عشر من «أبواب صفات القاضي» عن الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين في كتاب «إكمالُ الدِّين وَ إتمام النِّعْمَة» عن محمّد بن محمّد بن عصام، عن محمّد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب:
قَال: سَألْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيِّ أنْ يُوصِلَ لِي كِتَاباً قَدْ سَألْتُ فِيهِ عَنْ مَسَائِلَ اشْكِلَتْ عَلَيَّ.
فَوَرَدَ التَّوقِيعُ بِخَطِّ مَوْلَانَا صَاحِبِ الزَّمَانِ عَلَيهِ السَّلَامُ: "أمَّا مَا سَألْتَ عَنْهُ أرْشَدَكَ اللهُ وَ ثَبَّتَكَ- إلَى أنْ قَالَ [عَلَيهِ السَّلَامُ]:
وَ أمَّا الحَوَادِثُ الوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَ أنَا حُجَّةُ اللهِ"۱
و سينصبّ بحثنا في هذه الرواية من جهتي: السند و الدلالة.
أمّا من جهة السند: فقد ذكر هذه الرواية الشيخ الصدوق في «إكمال الدين و إتمام النعمة» و الذي يسمّي أيضاً «كمال الدين و تمام النعمة».
كما أوردها أيضاً الشيخ الطوسيّ في كتاب «الغيبة» عن جماعة، عن جعفر بن محمّد بن قولويه، و عن أبي غالب الزراريّ و غيرهما، و جميعهم عن محمّد بن يعقوب. و رواها الشيخ الطبرسيّ في «الاحتجاج» أيضاً.
و قال سيّدنا الاستاذ آية الله الحاجّ السيّد محمود الشاهروديّ، تَغَمَّدَهُ الله بِرَحْمَتِه، في «كتاب الحجّ»: كَيْفَ كانَ، فَلا يَنْبَغي الإشْكالُ في اعْتِبارِ سَنَدِهِ؛ لِدَلالَةِ التَّوْقيعِ عَلَى عُلُوِّ شَأنِ إسْحاقَ وَ سُمُوِّ رُتْبَتِهِ بَعْدَ مُلاحَظَةِ ما في مَتْنِ التَّوقِيعِ مِنْ شَواهِدِ الصِّدْقِ وَ الصُّدورِ؛ فَتَدَبَّرْ وَ لا حِظْ٢.
يقول: إنَّه لا وجه للإشكال في سند هذه الرواية على الإطلاق. إنَّما يدور الكلام حول الذي روي هذه الرواية عن محمّد بن عثمان العَمْريّ لا غير، و هو إسحاق بن يعقوب، و لا إشكال على الإطلاق في اعتباره. فالتوقيع قابل للعمل به إذَن.
لأنّه بعد ملاحظة المتن العالي و الرفيع للتوقيع تظهر دلالة علوّ شأن إسحاق و علوّ رتبته، حيث إنَّه أخذ هذا الحديث من النائب الخاصّ للإمام عليه السلام و نقله عنه.
أضف إلى ذلك أنّه عند ما يعمل بالحديث أشخاص أجلّاء مثل
الشيخ الطوسيّ و الشيخ الطبرسيّ و الشيخ الصدوق رحمهم الله، و يذكرونه في كتبهم، فهذا يوجب قوّة الرواية. و لو تجاوزنا ذلك كلّه فالرواية تعدّ من الروايات المشهورة التي قد عُمل بمتنها أيضاً، و شهرتها الفتوائيّة تضاهي شهرتها الروائيّة.
و ذلك لأنَّ الأجلّاء قد ذكروها في كتبهم و تلقّوها بالقبول، و من بعدهم أيضاً اعتبرها الآخرون من الروايات المشهورة و استدلّوا بها. فلا مجال للتأمّل في سندها إذَن.
و أمّا من جهة الدلالة: فهذه الرواية تدلّ على حجّيّة قول الفقيه و رواة الأحاديث في المراحل الثلاث: الإفتاء، و القضاء و الحكومة. و ذلك لأنَّ الإمام عليه السلام يقول: "وَ أمَّا الحَوَادِثُ الوَاقِعَةُ"، أي على الإنسان أن يرجع في كلّ حادثة تقع و لا يعرف حقيقتها- مهما كانت- إلى «رُوَاةِ حَدِيثِنَا» و يسألهم. و كذلك الأمر في المنازعات و المخاصمات الحادثة بينه و بين الآخرين. و لا يجب أن يرجع إلى محاكم الكفر أو الظلم. و كذا في المسائل الولايتيّة، و مسألة أموال مجهول المالك، و نظائرها. و بشكل عامّ، فيجب الرجوع إلى «رُوَاةِ حَدِيثِنَا» في الامور المتأصّلة في المجتمع التي تحتاج إلى الشئون الولايتيّة و ما يتعلّق بها من مسائل، كما يجب الرجوع إلى: «رُوَاةِ حَدِيثِنَا» في تثبيت أساس إدارة المجتمع و حركته.
و لا ولاية للأجانب البعيدين عن مسائل الإسلام و القرآن و التفسير و سائر المسائل (و علماء السنّة كذلك)، كما أنّه ليس لهم صلاحيّة القضاء و الفتوى أيضاً؛ فطريق الولاية و الإمارة بالنسبة لهم مسدود.
فالطريق إذَن منحصر بـ رُوَاةِ حَدِيثِنَا. و لذا، يجب الرجوع إليهم في جميع المسائل، و بإمكاننا استفادة حجّيّة ولاية الفقيه من هذه الرواية، و مرجعيّة الفقيه في الفتوى، و الحكم بقضائه و صحّته في رفع المنازعات و الخصومات. و بناء على هذا، فهذا الحديث الشريف كافٍ و وافٍ في المراحل الثلاث من محلّ بحثنا.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ الحَادِي وَ العِشْرون: عَهْدُ أمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَالِكِ الأشْتَر وَ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ الاخْرى.
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
من الأدلّة التي يمكن الاستدلال بها على ولاية الفقيه هي رسالة أمير المؤمنين عليه السلام إلى مالك الأشتر النَّخَعِيّ، المشهورة باسم عهد أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر. و قد أوردها السيّد الرضيّ رحمة الله عليه في «نهج البلاغة» و هي ما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر النخعيّ لما ولّاه على مصر، حيث تدلّ بعض فقراتها على هذا المعني؛ يقول عليه السلام:
"ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الامُورُ، وَ لَا تُمْحِكُهُ الخُصُومُ، وَ لَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الفَيءِ إلَى الحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَ لَا تُشْرِفُ نَفْسَهُ عَلَى طَمَعٍ، وَ لَا يَكْتَفِي بِأدْنَى فَهْمٍ دُونَ أقْصَاهُ، وَ أوْقَفَهُمْ فِي الشُّبهَاتِ، وَ آخَذَهُمْ بِالحُجَجِ، وَ أقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بمُرَاجَعَةِ الخَصْمِ، وَ أصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الامُورِ، وَ أصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الحُكْمِ مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَ لَا يَسْتَمِيلُهُ إغْرَاءٌ؛ وَ اولَئِكَ
قَلِيلٌ"۱.
و يدور بحثنا في هذه الرواية من جهتين أيضاً: الاولي: من ناحية السند، و الثانية: من ناحية الدلالة.
أمَّا من حيث السند: فيكفي في سند «نهج البلاغة» انتهاؤه إلى السيّد الرضيّ، و مع وجوده فلا حاجة لنا إلى سند آخر. لقد قال البعض، إنَّ سند «نهج البلاغة» مقطوع، و قد نقل السيّد الرضيّ مطالبه مرسلة، و لم يوصلها إلى الإمام عليه السلام، و لذا فلا حجّيّة لها.
و هذا الكلام سخيف جدّاً، و ساقط تماماً عن درجة الاعتبار. فالسيّد الرضيّ أعلَى مَقاماً وَ أرْفَعُ مَنْزِلَةً وَ أجَلُّ شَأناً من أن يَنسِبَ شيئاً بالقطع و اليقين إلى أمير المؤمنين عليه السلام دون التثبّت علماً و يقيناً. و علي هذا، فإتقان سند «نهج البلاغة»- إضافة إلى تفرّد المتن و المضمون به الصادر عن مقام الولاية على التحقيق- يساوق إتقان السيّد الرضيّ و علمه، فكلّما وصل المطلب إلى «نهج البلاغة» فالبحث عن سنده عندئذٍ كالبحث عن سند القرآن المقطوع به.
كلام آية الله الحلّيّ على دلالة عهد أمير المؤمنين لمالك الاشتر
أمّا من حيث الدلالة: فلم يأخذ استاذنا المرحوم آية الله العظمى الشيخ حسين الحلّيّ رضوان الله عليه- في بحث الاجتهاد و التقليد الذي قرّرته بنفسي و نسخته الخطّيّة موجودة عندي- هذا الحديث كدليل من أدلّة الرجوع إلى الأعلم في أدلّة أخذ الفتوى.
و قد كتبتُ في تقريراتي ما يلي: قَوْلُهُ عَلَيهِ السَّلامُ في «نَهْجِ البَلاغَةِ» في عَهْدِ مالِكٍ الأشْتَرِ: «ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي
نَفْسِكَ ...».
و يورد على دلالة هذا الحديث في لزوم الرجوع إلى الأعلم في باب الإفتاء و الاستفتاء إشكالين:
أوّلًا: المراد من الحكم في هذه الفقرة هو الحكم في مقام الترافع و الخصومة، لا مجرّد الإفتاء.
و ثانياً: ليس المراد من الأفضليّة هنا الأعلميّة، بل المراد الأفضليّة في الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة التي يحتاج إليها القاضي في مقام الترافع. و الشاهد على هذا المعني نفس تفسيره عليه السلام، حيث يقول في هذه الكلمة: "مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الامُورُ وَ لَا تُمْحِكُهُ الخُصُومُ، وَ لَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الفَيءِ إلَى الحَقِّ إذَا عَرَفَهُ"؛ إلى آخر كلامه. حيث إنَّ هذه الجمل تدلّ على وجوب تحلّي القاضي بالصبر، و سعة الصدر، و التأمّل، و أن تكون له قدرة على التحمّل لكي لا تتعبه الامور الواردة عليه، و لكي يستطيع القيام بمسئوليّة القضاء بالنحو الأفضل.
دلالة العهد على لزوم الاعلميّة في باب مرجعيّة الإفتاء و الولاية
ثمّ يجيب عن هذا الإشكال بقوله: لكن يمكن أن يقال: إنَّ مراد الإمام من قوله: أفْضَلَ رَعِيَّتِكَ؛ الأفضليّة من جميع الجهات، أي أنَّ هذه الكلمة لها إطلاق، و من جملة مصاديق الأفضليّة، الأفضليّة في العلم و الفقاهة، و كون الإمام عليه السلام قد فسّر الأفضليّة بتلك الصفات الخاصّة المذكورة في هذه الرسالة، فلا يوجب حصر دائرة الأفضليّة في تلك الصفات، لأنّه أراد بيان أنَّ الأفضليّة تشمل هذه الصفات أيضاً. و أمّا الأفضليّة في مقام العلم و الفقاهة فهي ملحوظة بشكل مسلّم. فعلي القاضي إذَن امتلاك الأفضليّة في العلم و الفقاهة أيضاً.
و يحتمل بقوة أن يكون السبب في عدم ذكر الإمام للأفضليّة في العلم و الفقه، بعد ذكره الأفضليّة و بيان بعض مصاديقها، لاعتباره أنَّ هذا الأمر
من المسلّمات البديهيّة. أي أنَّ الذي يكون أعلم و أفقه هو الأفضل بالبديهة، و هذا لا يحتاج إلى بيان، بينما سائر الصفات التي بيّنها الإمام عليه السلام ممّا تحتاج إلى تنبيه و بيان. و لقد أورد هذا الاحتمال و ارتضاه، و ختم المطلب هنا. و لو أنصفنا نقول: إنَّ هذا المطلب راقٍ و تامّ. و قال كذلك: المراد من الأفضليّة هنا الأفضليّة من جميع الجهات، و منها الأعلميّة. فالأفراد الذين يختارهم للقضاء يجب أن يكونوا الأعلم، بالإضافة لامتلاكهم جميع الصفات الآنفة الذكر أيضاً.
الدلالتان المقاليّة و المقاميّة لمفاد العهد على لزوم الاعلميّة في ...
أمّا حول إمكان استفادة لزوم الأعلميّة في مقام الإفتاء و المرجعيّة و بيان الأحكام من هذه الرواية أو عدمه، فيقول الشيخ في تتمّة المطلب: إنَّ هذه الرواية قد وردت في مورد القضاء، و ليس هناك أيّ وجه للتعدي بها إلى مقام الإفتاء. فقد ذكر الإمام عليه السلام هذه الصفات بالنسبة للقاضي فقط، و مرحلة القضاء غير مرحلة الإفتاء. و لذا، لم يبحث عن هذا المطلب بعد ذلك، فبقي إشكاله في استفادة لزوم الرجوع إلى الأعلم في مرحلة الإفتاء و الاستفتاء من هذه الرواية قائماً في محلّه. و لكن يجب القول: إنَّه كما استفدنا الأعلميّة في القضاء من هذه الرواية، فنستطيع استفادة الأعلميّة في المرجعيّة أيضاً. أي أنَّ هذه الرواية تفيد وجوب أن يكون الفقيه الذي بيده الولاية أعلم الامّة كذلك، و وجوب كونه حائزاً لجميع تلك الصفات المذكورة.
و تقريب هذا الاستدلال: الأوّل: من طريق الدلالة المقاليّة؛ و الثاني: بالدلالة المقاميّة.
أمّا الدلالة المقاليّة، فهي من قول الإمام عليه السلام: "ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ"؛ فإذا كان اللازم أن يحكم في رفع المنازعة و الخصومة بين شخصين أفضل الرعيّة و أعلم الامّة، فبطريق
أولي يجب أن يكون الشخص الماسك لزمام الولاية و الزعامة لجميع الامور أعلم مَن في الامّة بالأولويّة القطعيّة، لأنّه المشرف على جميع امور الناس، و إدارة شئون الناس بيده.
و هذه هي دلالة المنطوق لا المفهوم، كالآية المباركة التي تقول: {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما۱. فما نفهمه من قوله {لا تَقُلْ لَهُما أُفٍ} أي لا تَضْرِبْهُما؛ بطريق أولي. مع أنَّ كلمة لَا تَضْرِبْهُما ليست موجودة في عبارة {لا تَقُلْ لَهُما أُفٍ}، لا بالتضمّن و لا بالمطابقة، لكنَّ العرف يفهم من هذه الجملة: أنَّ الذي لا ينبغي أن يقال له افّ، فبطريق أولي ينبغي أن لا يُضرَب. و هذا المطلب لا يحتاج إلى بيان آخر، لما في قوله {لا تَقُلْ لَهُما أُفٍ} من إفادة. و هذه الدلالة هي دلالة المنطوق لا المفهوم.
فتستفاد الفحوي إذَن (يعني ما يفيده المنطوق) و الأولويّة في الطرف الموافق من نفس الكلام؛ بخلاف مفهوم المخالفة الذي يسمّي بدلالة المفهوم.
و الأولويّة القطعيّة- التي نحن الآن بصدد إثباتها في هذه الرواية- ليست من مفهوم الكلام بحسب الاصول، و إنَّما هي من المنطوق؛ فلو قلنا مثلًا: إنْ طَلَعَتِ الشَّمسُ فَالنَّهارُ مَوْجود؛ يستفاد من مفهوم المقارنة أنّه: إنْ لم تَطْلُعِ الشَّمسُ فَالنَّهارُ لَيْسَ بِمَوْجود. أو إذا قلنا: إنْ جاءَ زَيْدٌ فَأكْرِمْهُ؛ يُستفاد منه: إنْ لَمْ يَجِئْ زَيْدٌ فَلا يَجِبُ عَلَيْكَ إكْرامُه. و هذه الدلالة هي دلالة المفهوم، حتّى لو كان ذلك المفهوم يُستفاد من حاقّ هذا اللفظ، إذ لا يقال عرفاً: فُلانٌ نَطَقَ أو يَنْطِقُ بِالكَلام؛ و إنَّما يقال: يُسْتَفادُ مِنْ كَلامِهِ هَذا.
و يسمّي هذا المفهوم. فمفهوم المخالفة مفهومٌ، بينما المنطوق يشمل الموافقة أيضاً، فمفهوم الموافقة من منطوق الكلام. و لذا يقولون: فالآية تقول: لا تضربهم، لا يستفاد من الآية معني كهذا.
و هذه الدلالة التي استفدناها من عبارة «ثُمَّ اخْتَرْ لِلحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أفْضَلَ رَعِيَّتِكَ» إنَّما استفدناها بالدلالة المنطوقيّة، أي أنَّ هذا الكلام يدل بالأولويّة القطعيّة المُستفادة من ظاهر اللفظ، على: أنَّ نفس الوالي يجب أن يكون أعلم من كلّ الجهات من (حيث المسئوليّة و السيطرة و الولاية التي ينبغي أن تكون للقاضي، حيث يجب أن يكون مسيطراً على جميع أعماله و تصرّفاته).
و الشاهد على هذا المطلب: أنَّ الإمام عليه السلام يأمر مالكاً هنا بـ: لزوم مراجعة عمل القضاة أيضاً ليري كيفيّة عملهم في قضائهم، و بعدم تركهم، و لزوم التصدّي لمتابعة أعمالهم. فقد ذكر الإمام عليه السلام هنا أصنافاً: الجنود، و كتّاب الخاصّة، و كتّاب العامّة، و أهل الإنصاف و رفاق الديوان، و أصحاب الصناعات و التجارات، و أهل الخراج، و الضعفاء. فقد عدَّ الإمام عليه السلام جميع هذه الأصناف و عيّن وظائفهم، و من ثمّ خاطب مالك الأشتر فأمره بلزوم مراجعة أعمالهم.
فإذا كان ذلك القاضي الذي يحق لمالك أن يعارض أعماله أفضل الرعيّة، فيجب أن يكون مالك الذي له سيطرة على ذلك القاضي أفضل الرعيّة و أعلم الامّة بطريق أولي. لأنَّ مالكاً وليّ، و قد نصب كذلك من قِبَل الإمام، فهو يمتلك مقام الولاية، و القضاة الذين تحت يده إنَّما يتصدّون لرفع الخصومات فقط. و هذه هي الدلالة المقاليّة.
و أمّا الدلالة المقاميّة، فهي: أنَّ الإمام عليه السلام قد كتب هذه الرسالة لمالك الأشتر، و قد نصب مالك نفسه للولاية. و علي هذا، فعند ما
يقول الإمام عليه السلام لمالك المنصوب من طرفه بهذه الصفة اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك (فِي نَفْسِكَ) و يكون هذا الاختيار و هذه الولاية بيد مالك، فهو إنَّما يقوم بهذا الاختيار بولايته أيضاً، و ينتخب أعلم الامّة لأجل القضاء. فهذا المقام و اختيار الإمام عليه السلام لمالك لكي يقوم بانتخاب الأعلم يدلّ على أنَّ نفس مالك في الوهلة الاولي واجد لهذه الدرجة، و إلّا لا يمكن أن يعيّن الإمام مالكاً- الذي ليس هو بأعلم و أفضل- على الناس، و من ثمّ يطلب منه أن يكون مسئولًا و مسلّطاً على جميع القضاة الذين هم أعلم من جميع الامّة!
و علي هذا الأساس، فنصب الإمام عليه السلام مالكاً في هذا المقام هو بنفسه شاهد و قرينة قطعيّة على أنَّ مالكاً يجب أن يكون ممتلكاً لصفة «الأفضليّة» هذه، و أنّه قد كان كذلك، و إلّا لما نصبه الإمام للولاية أصلًا. و مالك الذي كان عليه من ناحيته تدبير امور الجنود و أصحاب الصناعات و أرباب الخراج و مسئولي الديوان و المتصدّين لُامور الناس و كتّاب الخاصّة و كتّاب العامّة و غيرهم، و أن يكون له ولاية و سيطرة عليهم جميعاً، يجب أن يكون- و هو بهذه المسئوليّة و قبل كلّ شيء- أعلم لكي يستطيع أن يعرف الأعلم و ينصبه في مراكز القضاء و رفع المنازعات و الخصومات بين الناس هذه.
فلو اريد- مثلًا- تنصيب استاذ طبّ لرئاسة الجامعة بأمر شخص ما لكي يقوم بتربية الطلّاب في مختلف المجالات، فينبغي أن يكون المنصوب أعلم الجميع، و ليس من الصحيح أن يقال، لا ضرر في تعيين استاذ جامعيّ لتحمّل مسئوليّة الطلبة و هو فاقد للأهليّة اللازمة لهذا الأمر.
فمن الممكن إذَن استفادة لزوم الأعلميّة من الرواية في ولاية و فقاهة مالك بالقرينة المقاميّة (أي نصب مالك لولاية مصر من قِبل أمير المؤمنين
عليه السلام، بل و تدلّ الرواية بشكل قطعي على ولاية الفقيه، و علي أعلميّته أيضاً.
و من الآيات التي يمكن الاستدلال بها على لزوم و وجوب الفتوى هي آية «النَّفْر» المباركة. و لم يستدلّ أحد بهذه الرواية على ولاية الفقيه. و نحن، لأجل إثبات هذا الأمر، أي عدم دلالة الآية، نذكر حولها بعض التوضيحات المختصرة.
لقد أعلن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم التعبئة العامّة في المدينة في غزوة تبوك التي وقعت في السنة التاسعة للهجرة، و كان على الجميع التحرّك للمشاركة في الحرب. و قد وقعت غزوة تبوك في الصيف، فكان الهواء حارّاً، و المشاكل كثيرة، كما صادف وقت نضوج ثمار الأشجار و حصاد الزرع ممّا يعرّض كلّ ذلك للتلف فيما لو تركوها و خرجوا للحرب. و من جهة اخرى، فقد تمّ تبليغ حكم الله بواسطة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في ضرورة صرف النظر عن جميع هذه الامور و السير نحو العدوّ.
فشارك جميع المسلمين في هذا القتال عدا قليل من المنافقين الذين تعلّل كلّ منهم بعذر ما (و قد بيّن الله تعالي أحوالهم بالتفصيل في سورة التوبة). و لم يتخلّف عن هذا القتال من غير المنافقين إلّا ثلاثة أشخاص، و هم: كَعْب بن مالِك، مُرَارَة بن ربيع و هِلال بن امَيَّة. فنزلت فيهم هذه الآية۱:
{وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}۱.
و قصّتهم طويلة، و خلاصتها: قام أهل المدينة بعد ذلك باجتنابهم و الامتناع عن مكالمتهم، بينما لجئوا من جهتهم إلى الانزواء و العزلة، حتّى أشرفوا على الموت، و أوشكوا على الهلاك حزناً، إلى أن تابوا، و قبل الله توبتهم واحداً بعد الآخر. و حيث إنَّنا لسنا بصدد بحث هذه الآية من جميع الجهات فنكتفي بهذه الإشارة.
و الشاهد هو: كان جميع أهل المدينة في غزوة تبوك مأمورين بالمشاركة في الحرب، و من جملتهم معلّمي القرآن و الأحكام، و كان النبيّ قد أمرهم بتعليم القرآن و الأحكام للذين كانوا في المدينة، أو الذين كانوا يأتون من سائر القري و القصبات إلى المدينة ممّن أسلموا، لكي يعودوا إلى ديارهم حاملين المعارف الإسلاميّة التي تعلّموها.
فكان هؤلاء الأشخاص مأمورين بتعليم المسلمين جميع القرآن- عدا الآيات التي نزلت في غزوة تبوك- فما أن استعدّ هؤلاء الأشخاص للسير كباقي المسلمين حتّى نزلت الآية و أمرتهم بالبقاء في المدينة و تعليم الأحكام و سنّة النبيّ، و هي قوله تعالي:
{وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}٢.
دلالة آية «النفر» و السنّة على إعفاء الطلّاب من خوض الحرب
فيستفاد من آية: {ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}، أنّه: أوّلًا: إعفاء طلّاب العلوم الدينيّة المشتغلين بالتحصيل من الخدمة العسكريّة و الحضور في جبهات القتال، و حتّى في حالات التعبئة العامّة التي تشمل الجميع؛ إذ
لا ينبغي أن يقتل الطلّاب. نعم؛ لا إشكال في أخذهم للجبهة لغرض الوعظ و الإرشاد و ترويج الدين و بيان المسائل و الأحكام الشرعيّة، و لكن يجب أن يكونوا في أمان من خطّ النار. فيجب أن يدرسوا بشكل جيّد و يحصّلوا المسائل و القرآن و الأحكام بشكل أفضل. و ذلك لأنَّ زوال هؤلاء يؤدّي إلى زوال الإسلام من الوجود. فالإسلام قائم على هذا القرآن، و إذا قُتل حرّاس القرآن و السنّة و حفظتهما، فإنَّ أصل القرآن و السنّة يزولان من الوجود بشكل كامل.
و لذا استثني معلّمو القرآن و الأحكام من تلك المعركة المهمّة، و أمرهم النبيّ بلزوم البقاء في المدينة و تعليم الناس القرآن، مع أنّه عند ما رفض المشاركة ثلاثة من الناس نزلت تلك الآيات الشديدة، و قاطعهم النبيّ و المسلمون إلى أن تابوا.
و يمكن أن نستفيد- و بشكل جيّد- مسألة ذهاب الطلّاب إلى الحرب و قتلهم و بقاء مكانهم شاغراً من الآية: {ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}.
دلالة آية «النفر» على وجوب تحصيل العلوم الإسلاميّة و تعليمها
ثانياً: يستفاد من هذه الآية الوجوب الكفائيّ لقيام عدد من الأشخاص بتحصيل العلم و تدريس القرآن و سنّة النبيّ و أحكام الدين و التفسير و الفقه و الأخبار الواردة عن الأئمّة عليهم السلام. و وجوب تعليم الأخلاق و السير و السلوك إلى الله و علم الكلام و الحكمة و العرفان الإلهيّ، لأنّه لم يقل: إنَّ على الجميع الرحيل إلى المدينة، و إنَّما قال: {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ}. أي ليأتي من كلّ فرقة جماعة لكي يعودوا فيما بعد و يتكفّلوا بجميع الامور. فتحصيل العلم إذَن واجب بالوجوب الكفائيّ بالمقدار الذي ترتفع به حاجة تلك الجماعة من ناحية التعليم و التعلّم الدينيّين بنحو لا يبقي الناس محتاجين بعد ذلك.
و شاهدنا هنا هو: أنَّ هذه الآية تدلّ على لزوم الاجتهاد و التقليد، و ذلك لأنّها تقول: لِمَ لا تأتي مجموعة من الناس إلى المدينة؟ أي: من الواجب أن تأتي طائفة من الناس إلى المدينة، إلى المركز العلميّ للإسلام لتعلّم القرآن و السنّة و من ثمّ يعودوا إلى بلادهم، و علي الناس أن يرجعوا إليهم، و عليهم أيضاً أن يعرّفوا الناس على تلك المسألة التي تعلّموها. فالمستفاد من الآية: وجوب رجوع الجاهل إلى العالم و المرجعيّة في الفتوى.
كما يستفاد من هذه الآية الشريفة مسألة القضاء و الفصل في الخصومات، أي أنَ {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}، تشمل مورد الفصل في الخصومة و رفع النزاع بين المتخاصمين أيضاً. فعليهم إذَن بيان الأحكام، و علي المتنازعين أن يكتفوا بحكمهم، و يخافوا الله و يقنعوا بحقّهم.
و لا يستفاد من هذه الآية حتميّة لزوم كون المتولّي لُامور الناس فقيهاً. و لهذا، لم نأتِ بهذه الآية في كتاب «رسالة بديعة» في تفسير الآية الشريفة: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ}لعدم اعتبارها من أدلّة ولاية الفقيه، الذي تضمّنتها الرسالة.
و من جملة الأدلّة التي ذكروها على ولاية الفقيه ثلاث طوائف من الروايات:
الطائفة الاولي: الروايات التي تقول: العلماء ورثة الأنبياء.
الطائفة الثانية: الروايات التي تدلّ على أنَّ العلماء امناء الله.
الطائفة الثالثة: الروايات التي تقول: العلماء و الفقهاء حصون و قلاع الإسلام.
فلنر هل يمكن الاستدلال بهذه الروايات على ولاية الفقيه، أو لا؟
روايتا: العُلَمَاء وَرَثَةُ الانْبِيَاءِ؛ الفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا ...
أ مّا الروايات التي تدلّ على أنَّ العلماء ورثة الأنبياء، فمنها: صحيحة أبي البَخْتَريّ التي يرويها عن محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «الكافي»، عن محمّد بن يحيي، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن خالد، عن أبي البختريّ، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه عليه السلام قال: "إنَّ العُلَمَاء وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ؛ وَ ذَاكَ أنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَماً وَ لَا دِينَاراً وَ إنَّمَا أوْرَثُوا أحَادِيثَ مِنْ أحَادِيثِهِمْ فَمَنْ أخَذَ بِشَيءٍ مِنْهَا فَقَدْ أخَذَ حَظّاً وَافِراً؛ فَانْظُرُوا عِلْمَكُمْ هَذَا عَمَّنْ تَأخُذُونَهُ؟ فَإنَّ فِينَا أهْلَ البَيْتِ فِي كُلِّ خَلَفٍ عُدُولًا يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغَالِينَ، وَ انْتِحَالَ المُبْطِلِينَ، وَ تَأوِيلَ الجَاهِلِينَ"۱.
أي أنّهم يصرفونهم عن ذلك الطريق المنحرف، و يُبعدون تحريف الغالين و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين.
و ثمّة رواية اخرى يرويها الكلينيّ عن محمّد بن الحسن و عليّ بن محمّد، عن سَهْل بن زياد؛ و محمّد بن يحيي، عن أحمد بن محمّد، و كلاهما عن جعفر بن محمّد الأشعريّ، عن عبد الله بن ميمون القدّاح، و عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حَمّاد بن عيسى، عن القَدّاح، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ و آلِهِ وَ سَلَّم: ... وَ إنَّ العُلَمَاء وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ؛ إنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَ لَا دِرْهَماً وَ لَكِنْ وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أخَذَ مِنْهُ أخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"٢.
و سند هذه الرواية صحيح. و مفادها نفس مفاد الرواية الاولي.
فالروايات الآنفة الذكر تدلّ على أنَّ العلماء ورثة الأنبياء.
و أمّا الطائفة الاخرى من الروايات التي تدلّ على أنَّ الفقهاء امناء الرسل و امناء الله، فمن قبيل: الرواية التي رواها الكلينيّ في «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النَّوفَليّ، عن السَّكونيّ، عن الإمام الصادق عليه السلام:
"قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: الفُقَهَاءُ امَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا.
قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: وَ مَا دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: اتِّبَاعُ السُّلطَانِ. فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ"۱.
و المراد باتّباع السلطان هو اتّباع حاكم الجور و الدخول في أجهزته و اتّباعهم و إمضاء أعمالهم و تصرّفاتهم، و هو ما لا يجوز مطلقاً تحت أيّ عنوان أو شغل كان. ففي كلّ زمان قام العلماء بذلك، أي اتّبعوا السلطان، فاحذروهم على دينكم و اجتنبوا عنهم، لأنّهم يحرقون دينكم بالنار، و يفسدونه و يقضون عليه. لأنّهم قد فسدوا باتّباع السلطان، و لأنّهم لا يتّبعون السلطان و لا يرتضون ذلك إلّا بعد أن تفسد قلوبهم و تسودّ، و بعد أن يميلوا إلى جانب السلطان، يكثر ذلك السواد و الفساد في قلوبهم باستمرار و يكثر إلى أن ينحرفوا عن الحقّ بشكل كامل. و عليه، فلا تتّبعوا هؤلاء، لأنّهم سوف يفسدونكم.
و مثل الرواية الاخرى التي يرويها الكلينيّ أيضاً عن محمّد بن يحيي عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن محمّد بن سنان عن إسماعيل بن جابر
عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "العُلَمَاءُ امَنَاءُ، وَ الأتْقِيَاءُ حُصُونٌ، وَ الأوصِيَاءُ سَادَةٌ"۱.
«العلماء امناء الله». أي أنَّ من يرجع إليهم فإنَّما يرجع إلى شخص أمين، و يدخل في الأمان. و يُحفظ من شرّ الحوادث و الوساوس و الخطرات الشيطانيّة، أي كما يُسلِّم الشخص الذي يكون عازماً على السفر بيته لشخص أمين، ليقوم ذلك الأمين بالمحافظة على زوجته و أولاده و أمواله و شرفه و اعتباره إلى أن يعود من السفر، فالعلماء أيضاً امناء الله. «وَ الأتْقِيَاءُ حُصُونٌ» أي أنَّ الأشخاص الأتقياء و المطهّرين هم قلاع الإسلام التي تحفظه من الحوادث و الشرور التي تصل إليه من الخارج فتطال الامّة الإسلاميّة. «وَ الأوصِيَاءُ سَادَةٌ» أي سادة الامّة و قادتها و رؤساؤها.
أمّا تلك الروايات التي تدلّ على أنَّ المؤمنين و الفقهاء حصون الإسلام، فمن قبيل الرواية التي ينقلها الكلينيّ عن محمّد بن يحيي، عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب، عن عليّ بن أبي حمزة أنّه قال: سمعت الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يقول: "إذَا مَاتَ المُؤْمِنُ بَكَتْ عَلَيهِ المَلائِكَةُ وَ بِقَاعُ الأرْضِ الَّتي كَانَ يَعْبُدُ اللهَ عَلَيْهَا وَ أبْوَابُ السَّمَاءِ الَّتِي كَانَ يُصْعَدُ فِيهَا بِأعْمَالِهِ وَ ثُلِمَ فِي الإسْلَامِ ثُلْمَةٌ لَا يَسُدُّهَا شَيءٌ؛ لأنَّ المُؤْمِنِينَ الفُقَهَاءَ حُصُونُ الإسلَامِ كَحِصْنِ سُورِ المَدِينَةِ لَهَا"٢.
فالمؤمنون الذين يكونون فقهاء هم حصون و قلاع الإسلام، و إذا
كُسرت القلعة يفقد أهلها كلّ أمان. فيتوقّف حفظ و صيانة النساء و الأطفال و الأموال و كلّ من يعيش في القلعة على تلك الجدران التي تحيط بها. فتلك الجدران إذَن هي الحافظة لأهل القلعة، و إذا هُدِّمَتْ الجدران فسوف يتعرّض الجميع للاعتداء من الخارج باستمرار، و سيتعرّضون لهتك العرض و الإغارة على المال و سلب العزّة و الشرف.
«لأنَّ المُؤْمِنِينَ الفُقَهَاءَ حُصُونُ كَحِصْنِ سُورِ المَدِينَةِ لَهَا»
و استدلّ البعض للولاية و القضاء بهذه الفقرة «الفُقَهَاءُ حُصُونُ الإسْلَامِ» و بتلك الجملتين السابقتين «الفُقَهَاءُ امَنَاءُ الرُّسُلِ» و «العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ». فوراثة الأنبياء تشمل جميع مناصب المورّث. و الوراثة تعني أنَّ الوارث يرث من جميع مناصب المورّث. و من جملة مناصب الأنبياء: الولاية و القضاء. كما أنّهم امناء و حصون الإسلام، أو أنّهم امناء رسل الله كذلك.
النتيجة الحاصلة و المستفادة من هذه الروايات
وَ لَكِنَّ الإنْصافَ عَدَمُ دَلالَةِ رِواياتِ الوِراثَةِ عَلَى ذَلِك؛ لأنَّ روايات الوراثة هي في مقام بيان فضيلة العالم. و الشاهد على هذا المطلب ذيل ذينك الحديثين اللذين نقلناهما. فذلك الذيل صريح في أنَّ المراد من الإرث هو إرث العلوم و الأحاديث، لأنَّه عليه السلام قال في ذيل الرواية الاولي: "وَ ذَاكَ أنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَماً وَ لَا دِينَاراً وَ إنَّمَا أوْرَثُوا أحَادِيثَ مِنْ أحَادِيثِهِمْ فَمَنْ أخَذَ بِشَيءٍ مِنْهَا فَقَدْ أخَذَ حَظّاً وَافِراً". كما في ذيل الرواية الثانية:"وَ لَكِنْ وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أخَذَ مِنْهُ أخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ". فهاتان الروايتان إذَن واردتان في مقام بيان وراثة العلم و لا نستطيع أن نتعدّي منه إلى مقام القضاء و الولاية.
و أمّا: الفقهاء حصون الإسلام، و الفقهاء امناء الرسل، فهذا جيّد؛ "وَ لَا بَأسَ بِالأخْذِ بِإطلاقِهِما في كُلِّ ما يَرْجِعُ إلَى حِفْظِ الإسْلامِ وَ مَناصِبِ
الرُّسُلِ مِنَ الوَلايَةِ وَ القَضاءِ وَ الإفْتاء".
و نستطيع أن نستفيد من هذه الروايات ذلك التقرير الذي بيّنّاه في المراحل الثلاث: القضاء و الإفتاء و الولاية. (فكما أنَّ حصن المدينة و سورها يحفظ أهلها على نحو الإطلاق، فكذلك الفقهاء يحفظون أهل الإسلام من الحوادث الخارجيّة. و كذلك الأمين أمينٌ في جميع مَا يَرْجِعُ إلَيهِ المَأمونُ مِنَ المَناصِبِ؛ مِن مَناصِبِ الرِّسالَةِ وَ النُّبُوَّة. فهؤلاء العلماء الذين هم امناء و عُرِّفوا من قِبَل الأنبياء بصفة امناء الرسل، يجب أن يقوموا بالحراسة و السعي في حفظ الأمانة في جميع الجهات التي ترجع للأنبياء، الأعمّ من الولاية و القضاء و الإفتاء). و علي هذا، فنستطيع استفادة ولاية الفقيه من روايات «حُصون الإسلام، و امناء الرسل»، و لا يمكننا استفادة ذلك من روايات «ورثة الأنبياء».
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ الثَّانِي وَ العِشْرُون: الدَّلِيلُ العَقْلِيُّ القَطْعِيُّ عَلَى لُزُومِ تَشْكِيلِ الْحُكُومَة.
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
حاجة المجتمع إلى الحافظ للامانات الإلهيّة و القائم بهداية الناس
من الروايات التي يمكن الاستدلال بها علي ولاية الفقيه هي الرواية التي يرويها الصدوق رحمة الله عليه في «علل الشرائع» بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام۱، إلى أن قال:
"فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: وَ لِمَ جَعَلَ اولِي الأمْرِ وَ أمَرَ بِطَاعَتِهِم؟
قِيلَ: لِعِلَلٍ كَثِيرَةٍ.
مِنْهَا: أنَّ الخَلْقَ لَمَّا وُقِفُوا عَلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ، وَ امِرُوا أنْ لَا يَتَعَدَّوا تِلكَ الحُدُودَ لِمَا فِيهِ مِن فَسَادِهِمْ، لَمْ يَكُنْ يَثْبُتُ ذَلِكَ وَ لَا يَقُومُ إلَّا بِأنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِمْ فِيهَا أمِيناً يَأخُذُهُمْ بِالوَقْتِ عِنْدَ مَا ابِيحَ لَهُمْ، وَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّعَدِّي عَلَى مَا حَظَرَ عَلَيْهِمْ؛ لأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَكَانَ أحَدٌ لَا يَتْرُكُ لَذَّتَهُ وَ مَنْفَعَتَهُ لِفَسَادِ غَيْرِهِ فَجُعِلَ عَلَيْهِمْ قَيِّمٌ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الفَسَادِ وَ يُقِيمُ فِيهِمُ الحُدُودَ وَ الأحْكَامَ".
هذه إحدى علل جعل اولي الأمر.
"وَ مِنْهَا: أنَّا لَا نَجِدُ فِرْقَةً مِنَ الفِرَقِ وَ لَا مِلَّةً مِنَ المِلَلِ بَقُوا وَ عَاشُوا إلَّا بِقَيِّمٍ وَ رَئِيسٍ لِمَا لا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ فِي أمْرِ الدِّينِ وَ الدُّنْيَا؛ فَلَمْ يَجُزْ فِي حِكْمَةِ الحَكِيمِ أنْ يَتْرُكَ الخَلْقَ مِمَّا يَعْلَمُ أنَّهُ لا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَ لَا قِوَامَ لَهُمْ إلَّا بِهِ، فَيُقَاتِلُونَ بِهِ عَدُوَّهُمْ، وَ يُقَسِّمُونَ بِهِ فَيْئَهُمْ (الغنائم و المنافع و الفوائد)، وَ يُقِيمُونَ بِهِ جُمُعَتَهُمْ وَ جَمَاعَتَهُمْ، وَ يُمْنَعُ ظَالِمُهُمْ مِنْ مَظْلُومِهِمْ.
وَ مِنْهَا: أنَّهُ لَوْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إمَاماً قَيِّماً أمِيناً حَافِظاً مُسْتَوْدَعاً لَدَرَسَتِ المِلَّةُ، وَ ذَهَبَ الدِّينُ، وَ غُيِّرَتِ السُّنَنُ وَ الأحْكَامُ، وَ لَزَادَ فِيهِ المُبْتَدِعُونَ، وَ نَقَصَ مِنْهُ المُلْحِدُونَ، وَ شَبَّهُوا ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ؛ إذْ قَدْ وَجَدْنَا الخَلْقَ مَنْقُوصِينَ مُحْتَاجِينَ غَيْرَ كَامِلِينَ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ وَ اخْتِلَافِ
أهْوَائِهِمْ وَ تَشَتُّتِ حَالاتِهِمْ؛ فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا قَيِّماً حَافِظاً لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الأوَّلُ لَفَسَدُوا عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّاهُ وَ غُيِّرَتِ الشَّرَائِعُ وَ السُّنَنُ وَ الأحْكَامُ وَ الإيمَانُ، وَ كانَ فِي ذَلِكَ فَسَادُ الخَلْقِ أجْمَعِينَ".۱
و هذه هي العلّة الثالثة التي يذكرها الإمام الرضا عليه السلام لجعل اولي الأمر و نصبهم.
فمستودع يعني مخزن، أي يجب أن يكون قلب الإمام و صدره مخزناً للأسرار الإلهيّة، و أن يري الله ذلك الصدر و القلب و الفكر و الإدراك ذا سعة و قابليّة لكي يضع فيه تلك الأسرار كوديعة، فيقوم قلب ذلك الوليّ و الإمام بحفظها و حراستها دون أن يفقد تلك الأمانات الإلهيّة أو يضيّعها.
ورد في «أقرب الموارد» في مادّة «وَدَعَ»: اسْتَوْدَعَهُ مالًا، أي اسْتَحْفَظَهُ إيّاهُ، أي دَفَعَهُ لَهُ وَديعَةً يَحْفَظُهُ؛ يُقالُ: اسْتَوْدَعْتُهُ الوَديعَةَ وَ الوَدائِع.
فيجب إذَن أن يكون الإمام هكذا.
و أورد هذه الرواية خالنا الأكرم الحاجّ الملّا أحمد النراقيّ قدّس الله نفسه في كتابه الشريف «عوائد الأيّام» لإثبات ولاية الفقيه.
أقول: الأولي أن نجعل هذه الرواية الشريفة من أدلّة ولاية الإمام عليه السلام، لأنّها وردت في بيان علل احتياج الناس لُاولي الأمر. و نحن نعلم أنَّ الأئمّة عليهم السلام: هُمُ المَخْصوصونَ بِهَذا العِنْوان.
و اولو الأمر في لسان القرآن هم الأئمّة فقط، و الآخرون ليسوا واجدين
لمقام العصمة. و قد حدّد النبيّ عدد اولي الأمر، و ورد ذلك في كتب الشيعة و السنّة، بل و ورد ذكر اولي الأمر الاثني عشر جميعاً في كتب صحاح أهل السنّة. و الآن، لو سألتم أيّاً من علمائهم: من هم هؤلاء الاثنا عشر خليفة الذين ذكرتموهم في كتبكم نقلًا عن النبيّ «الخلفاء من بعدي اثنا عشر»۱؟ فلن تجد لديهم جواباً! إذَن فديننا ليس ديناً مختلقاً!
لقد جعل القرآن وجوب الإطاعة لعنوان اولي الأمر. و لا نستطيع أن نطلق اولي الأمر- طبقاً لتفسير نفس القرآن و الأخبار المستفيضة- على غير الإمام المعصوم. و علي هذا، فإنَّما يمكن الاستدلال بهذه الرواية على وجوب إطاعة و قيمومة و إمامة المعصوم فقط.
اللّهُمّ إلَّا أن يُقال: إنَّ هذه العلل المذكورة في هذه الرواية للناس المحتاجين إلى قيّم، لكي يقيم الصلة بينهم، و يؤسّس مجتمعهم، و يوقفهم عند حدودهم، و لا يسمح لهم بالتجاوز عن تلك الحدود أو بالإضرار بمصالح بعضهم من أجل زيادة لذّاتهم و شهواتهم، و لكي يسير بهم في الصراط المستقيم و المنهاج القويم في الدين و الدنيا، و هذه العلل موجودة أيضاً في زمان الغيبة بِعَيْنِ ما هِيَ مَوْجودَةٌ في زَمَنِ الحُضور.
و بناءً على هذا، فيجب أن يُعيِّن الإمام عليه السلام أشخاصاً من الامّة، إمَّا على وجه التنصيص الخاصّ، أو على وجه العموم، لكي يتولّوا امور الناس و تكون لهم ولاية عليهم. و ليس هؤلاء إلّا الفقهاء العدول
المأمونين على دين الناس و دنياهم، و الحافظين للشريعة الإلهيّة الغرّاء و الخبراء بالوقائع و أهل البصيرة بالامور.
و لذا، نستطيع بواسطة هذا المتمّم للبيان و البرهان أن نستفيد من هذه الرواية في ولاية الفقيه في زمان الغيبة أو زمان الحضور، حيث يكون الإمام في السجن أو في النفي أو يعيش متخفّياً و لا يستطيع الناس أن يصلوا إليه.
و المضمون العالي لهذه الرواية التي يذكرها الإمام عليه السلام هنا هو نفس مضمون ذلك الاستدلال العقليّ الذي كنّا نذكره لكثير من الأصدقاء، و لا سيّما في بداية الثورة، حيث كان كثير من الأشخاص الذين لا يفقهون معني ولاية الفقيه يراجعون و يسألون عن هذا الإسلام الذي يجب أن يقام على أساس ولاية الفقيه، كيف سيكون؟ و ما ذا يعني أن يأتي من يلبس العمامة، لكي تكون له الحكومة على جميع الناس؟ و ما هو تفسير ذلك؟ و نحن لا نفهم معني لولاية الفقيه، فكنّا نجيب على أسئلتهم من خلال شرح مقتضب، و كانوا يقنعون به جميعاً، و بيان ذلك:
أنواع الحكومات البشريّة، و وجود الحكومة بين المتوحّشين و ...
نري أنّه لو رأيت أيّة طائفة أو جماعة في العالم، تقوم بعمل جماعيّ فإنَّها تحتاج إلى رئيس، إذ من الصحيح أنَّ القيام بالأعمال الفرديّة و الشخصيّة لا يحتاج إلى قيّم، مثل الأكل أو الصلاة، و لكنَّ الأعمال التي تمارس بشكل جماعيّ بخلاف ذلك، فالأشخاص الذين يريدون الذهاب إلى الحجّ يحتاجون إلى مدير للحملة أو أمير للحاجّ يقوم بترتيب امورهم و تنظيمها، و يكون عليه في هذا السفر أن يجمعهم على أساس واحد و يبدّل تشتّتهم إلى تجمّع منظّم بحسن إدارته و قوّة تفكيره.
و علي هذا، فالسيرة العقلائيّة الضروريّة- حسب ما يشير إليه التأريخ- قائمة على أنَّ كلّ جماعة تجتمع تحت راية معيّنة أو تقصد
الذهاب إلى الحرب أو دفع عدوٍّ ما، عليها أن تختار رئيساً يكون الأصلح في إدارة الحرب و دفع المعتدين، و ينبغي أن يكون أشجع من الجميع، و أقلّهم خوفاً، و أفضلهم فكراً و حزماً في كيفيّة المواجهة مع العدوّ. و وجود هكذا رئيس ضرورة ملحّة.
و كذلك لو أراد أهالي منطقة ما تشكيل مدرسة، فإنَّهم يختارون لتلك المدرسة رئيساً ليدير امور الأشخاص على اختلاف أفكارهم. و هذه سيرة مستمرّة بين جماعات الناس، و لم نَرَ جماعة بدون رئيس في جميع أنحاء العالم، و حتّى متوحّشي إفريقيا و الغابات ثمّة رئيس بينهم، ممّا يدلّ على أنَّ قضيّة وجود رئيس و الخضوع لولايته أمر مستمرّ، سواء كان ذلك الرئيس إنساناً عاقلًا و مخلصاً أم مستبدّاً، فأكثر الملوك مستبدّون، لكنّهم رؤساء لأقوامهم، و بيدهم كلّ مجاري الامور الاجتماعيّة لأقوامهم من أمر و نهي.
فهذه إحدى طرق إدارة المجتمع، و ثمّة طريقة اخرى هي الطريقة الجمهوريّة، حيث يكون مركز القرار الأخير بعد اللتيا و التي و انعقاد المجالس المتعدّدة، و طرح الآراء و الأفكار المختلفة هو نفس رئيس الجمهوريّة أيضاً، فما لم يأمر به لا يتمّ التنفيذ، و منه يصدر الأمر و ينزل إلى باقي الطبقات.
و من أقسام الحكومة أيضاً، الحكومة الدستوريّة، حيث لا تعطي مسئوليّة فيها للملك، بل تكون المسئوليّة للمجلس، و يُعطي الملك حقّ التقرير، فلا يُنفَّذ ما يقرّه المجلس دون إقرار الملك لذلك. فيكون تقرير الملك الجزء الأخير من العلّة التامّة في صدور ذلك الأمر و لزومه، و يكون الأمر أمر الملك.
و تجري الامور في الإسلام على أساس هذه السيرة العقلائيّة أيضاً،
و ذلك لأنَّ الأساس هو أساس النبوّة و الحكومة العادلة، و أنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ، و الدُّنْيَا مَتْجَرَةُ الآخِرَةِ؛ و هو قائم على التضحية و الإيثار و التسامح، و علي هداية جميع البشر، و الجهاد على أساس الحدود الإنسانيّة، و علي التقوي و التعاون، و علي الفقاهة و العلم. فالقرآن كتاب يدعو إلى العلم، و يسير بالمجتمع على أساس العلم، و من الطبيعيّ وجوب كون ذلك الشخص الذي يعيّنه الإسلام على المسلمين هو أعقل من في الامّة، و أعلمهم، و أكثرهم فقهاً بكتاب الله، و أعرفهم بسنّة النبيّ و نهجه، و أكثرهم تقوي و اجتهاداً في الإعراض عن الدنيا، و أوسعهم صدراً، و أعلاهم همّة و شجاعة، و أقواهم نفساً، و أقدرهم تدبيراً، متجاوزاً لهوي نفسه، و متّصلًا بعالم الغيب، عابراً للجزئيّة و واصلًا إلى الكلّيّة، و ذلك لأنّه يريد أن يسير بالناس في صراط الدين.
إنّما توكل الحكومة الإسلاميّة إلى أعلم و أورع و أبصر و أعقل
و للدين بُعدان: ظاهر و باطن، دنيا و آخرة. و لا يمكن للعالم الذي يكون في هذا الجانب و لا يكون في ذلك الجانب أن يسير بالناس في ذلك المنهاج. و هو عبارة عن أعلم الامّة الذي يكون الأعلم و الأفقه بكتاب الله و سنّة نبيّه، و الأورع و الأبصر، و أوثق الناس و أشجعهم و أكثرهم خبرة، و الذي يكون عقله و درايته و سعة صدره بدرجات أكبر من جميع الناس. و هذا أمر وجداني.
و هنا نحتكم إلى العقلاء من الناس أصحاب الوجدان الحيّ أنّه هل يمكنهم تدوين برنامج لسعادة الناس أفضل من هذا؟ فهذا هو معني ولاية الفقيه.
من الواضح جدّاً أنَّ ذلك الشخص الذي يصدر منه الأمر و النهي في المجتمع يجب أن يكون شخصاً طاهراً، و ذا دراية و تفكير بالعواقب، و عليماً و خبيراً بامور الزمان، و يسير بالناس في طريق السعادة. فهذا هو
معني ولاية الفقيه الذي هو رئيس لجميع المذاهب و الملل و السنن.
يعتبر الإسلام وجوب كون الرئيس بهذه المواصفات، و لو فكرتم حتّى قيام الساعة فلن تستطيعوا أن تجدوا رئيساً أفضل من هذا. و إن وجدتم فلا اعتراض لنا، فإنَّا نختاره و ندع ولاية الفقيه جانباً. و قد شاهدوا أخيراً و شاهدنا كيف يجذب رئيس الجمهوريّة الناس في الحكومات الجمهوريّة إلى أيّ جهة كانت، و كيف يفرض ذلك الشخص الديكتاتور و المستبدّ في الملكيّة الدستوريّة في الحكومات الاستبداديّة كلّ رأي له ليكون الحكم النهائيّ على ضوء ما يريد. أمّا في الإسلام فأطهر و أطيب منهج لهداية الناس هو طريق ولاية الفقيه، إذ عند ما يكون المجتمع تحت ولاية فقيه كهذا فسوف يسوقهم وفق أفكاره و آرائه، أي بالعلم، و سوف يجعل جميع الناس علماء طاهرين، و من أهل البصيرة و الخبرة، فيتمتّع جميع أفراد المجتمع باستعداداتهم و قواهم، و يوصلها إلى الفعليّة، و يوصل كلّ شخص إلى كماله الإنسانيّ من خلال كماله.
أمّا إذا تنازلنا عن تلك المرحلة، و وضعنا ولاية الامور بِيَدِ شخص ناقص، فإنَّه لا يستطيع سوق الناس نحو الكمال، إذ هو لا يفهم الكمال فكيف يقود الناس؟! و ذاك كأن يأتوا بشخص ليدرّس الدروس العليا في الحِكمة مع كونه لا يعرف منها شيئاً، أو درس مقداراً قليلًا منها! أو يطلبون من شخص لا يعرف الفقه أن يقوم بتدريسه!
الوليّ الفقيه الذي يعيّنه الإسلام، يعني أكمل الأفراد الذي وصل إلى مقام الإنسانيّة الكامل، و الذي قد طوي الأسفار الأربعة للعرفاء و اتّصل بعالم الوحدة بعد التجاوز عن عالم الكثرة و صار يتحرّك في كلّ أمر مَعَ الله و فِي الله و بِالله، و يمتلك البقاء بعد الفناء؛ لأنَّ الروح التكوينيّة و التشريعيّة للناس ستكون بيده. فهل تعلمون ما الذي سيحصل لو سار بالامور وفق
إرادته؟ فنحن لن نحتاج للذهاب إلى الجنّة، إذ إنَّه يستخدم الجنّة و يأتي بها إلى هنا، و يجعل الإنسان يعيش فيها. و ما بذل للإنسان في مقابل هذه الدنيا، كلّه من آثار و مظاهر و تجلّيات هذه الجنّة الدنيويّة، و هذا هو معني ولاية الفقيه.
لا يمكن لايّ مجتمع الصمود من أجل البقاء من دون حكومة
عند ما يكون الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في السجن، أو الإمام صاحب الزمان في الغيبة، فما الذي يفعله الناس؟ على هم أن يبذلوا الجهود لإخراج الإمام من غيبته، و إلّا سوف يكونون مسئولين. لما ذا يسمحون بسجن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام؟ عند ما يكون الإمام في السجن لا حقّ للناس في الجلوس في بيوتهم قائلين بما أنَّ الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في السجن فلا مسئوليّة علينا. كلّا؛ فجميع الناس مكلّفون في جميع مراحل الغيبة و أدوارها، و في فترة عدم تمكّن الإمام المعصوم عليه السلام بتهيئة الأرضيّة و الإمكانيّات للظهور. فإذا تهيّأت الإمكانيّات فإنَّ الإمام سيظهر.
و إذا لم يتمكّن الناس من ذلك، أو افتقروا إلى بعض المقدّمات لسبب من الأسباب، فهل عليهم أن يتركوا امورهم و يبقوا من دون رئيس؟ كلّا؛ فلا يمكن أن يكون المجتمع من غير رئيس، فلا بدّ من متصدٍّ لُامور المجتمع بالضرورة.
و هنا ينتهي بنا الكلام إلى ولاية الفقيه الأعلم، فيجب أن تكون الولاية بيد ذلك الشخص الذي لم يصل إلى مقام العصمة لكنّه فقيه و أعلم و مجتهد جامع للشرائط و قد تمّت فيه الشرائط من جميع الجهات الاخرى، و إذا لم يكن ثمّة شخص بهذه المواصفات فلا يجوز أن تبقي امور الناس متوقّفة أيضاً. فيجب أن يتولّى امور الناس الفقيه غير الأعلم، و أن يكون جامعاً لصفاتهم و كمالاتهم. و إذا لم يوجد فقيه أيضاً فيصل الدور عندها إلى
عدول المؤمنين، لأنّه عند ما قلنا إنَّ المجتمع لا يمكن أن يكون من دون رئيس و قيّم، و لم يكن لدينا فقيه بهذه المواصفات، فإنَّ عدول المؤمنين يقومون مكانه، و إذا لم يكن ثمّة عدول من المؤمنين فيصل الدور إلى فسّاق المؤمنين، فليحكم فسّاق المؤمنين أيضاً على الناس، فحكومتهم أفضل من عدم الولاية و من عدم وجود رئيس و إلّا أدّى بجميع أبناء البلاد إلى الهلاك و العدم.
فذلك بالضبط مثل حالة طفل يتيم توفّي أبوه و ترك أموالًا، فعندها يكون الإمام المعصوم وليّاً لذلك الطفل، إذ السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ. و المقصود من السلطان قوّة السلطنة، أي السلطة التي تمتلك العصمة، و هو الإمام المعصوم، و إذا لم يكن موجوداً فالفقيه الأعلم، فإن لم يوجد فالعالم، و إلّا فيتولّى الأمر عدول المؤمنين، فيجب أن يتولّى زيد- مثلًا، الذي يمتلك مقام العدالة و الطهارة- الامور و يصرف أموال الطفل في مصالحه، و إذا لم يكن موجوداً فيقوم مقامه الفاسق المؤمن و يحفظ أموال ذلك الطفل، و ذلك لأنّه إذا صدر من الفاسق فسق فهذا أمر يتّصل به، و فسقه لا يُذهب مال الطفل، و إذا كان يرتكب بعض التصرّفات غير اللائقة فهذا ممّا لا علاقة له بالطفل؛ و إذا كانت الخيانة تراوده أحياناً، فهو أفضل من أن يبقي الطفل من دون قيّم و يواجه أنواع الابتلاءات و يُقضي عليه بسبب عدم الاهتمام بأمر تكفّله.
و هذه النكتة تبيّن جامعيّة و كمال دين الإسلام و مدي اهتمامه بالأمر و ملاحظته له، حيث فرض وجود رئيس و قيّم للمجتمع بأيّ نحو كان: الأهَمُّ فَالأهَمُّ وَ الأكْمَلُ فَالأكْمَل، كي لا يُحرم المجتمع في أيّ وقت من الأوقات من الرئيس و القيّم.
لقد كان الخوارج في زمن أمير المؤمنين عليه السلام كمثل فرقة
الفوضويّة و العدميّة (النهليسيّة) في زماننا، حيث تسعى الاولي إلى الفوضي و الاضطراب، و الثانية تنكر جميع الامور.
كانت هذه نيّة الخوارج و هدفهم أيضاً. و هاتان المجموعتان تعارضان تشكيل أيّ دولة، و تسعيان بكلّ قواهما إلى ذلك. و الخوارج أيضاً كانوا معارضين لتشكيل حكومة أمير المؤمنين عليه السلام و معاوية معاً، و كانوا يطالبون تشكيل حكومة تحت شعار لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ؛ و قد كشف أمير المؤمنين عليه السلام الحقيقة في خطبته المختصرة.
لا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَو فَاجِرٍ.
ينقل السيّد الرضيّ رحمة الله عليه في «نهج البلاغة» الخطبة الأربعون، أنّه: لَمّا سَمِعَ [الإمام] قَوْلَهُمْ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ (حكمك باطل، حكم الحكمين باطل) قالَ عَلَيهِ السَّلامُ:
"كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ. نَعَمْ إنَّهُ لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ، وَ لَكِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَا امْرَةَ إلَّا لِلَّهِ وَ إنَّهُ لا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أمِيرٍ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي امْرَتِهِ المُؤْمِنُ، وَ يَسْتَمْتِعُ فِيهَا الكَافِرُ، وَ يُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الأجَلَ، وَ يَجْمَعُ بِهِ الفَيءُ، وَ يُقَاتَلُ بِهِ العَدُوُّ، وَ تَأمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَ يُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ القَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ".
وَ في رِوايَةٍ اخْرَى: أنَّهُ عَلَيهِ السَّلامُ لَمّا سَمِعَ تَحْكيمَهُمْ قالَ:
"حُكْمَ اللهِ أنْتَظِرُ فِيكُمْ (وَ قَالَ): أمَّا الإمْرَةُ البَرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيهَا التَّقِيُّ، وَ أمَّا الإمْرَةُ الفَاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا الشَّقِيُّ إلَى أنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ وَ تُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ"۱.
هذا هو الكلام الذي قاله الإمام عليه السلام في معرض جوابه لكلام الخوارج «لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ».
و يقول ابن أبي الحديد هنا: إنَّ مشاهد هذا المطلب هو قول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ. أي أنَّ إتقان و إحكام هذا الدين قد وصل إلى درجة لو أتي بعض الفجّار أيضاً فتسلّم زمام الامور، ليستمرّ هذا الدين رغم ذلك في سيره بأصالته و يؤيّد به.
ثمّ يقول ابن أبي الحديد: إنَّ أصحابنا (المعتزلة) يقولون: إنَّ تعيين الرئيس واجب على المكلّفين، بينما تقول الإماميّة: إنَّه يجب على الله أن يختار رئيساً للناس من باب اللطف. و ظاهر كلام أمير المؤمنين عليه السلام: "لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أمِيرٍ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ"، هو قول أصحابنا لا قول الإماميّة۱.
لقد وقع ابن أبي الحديد في اشتباه، فكلام أمير المؤمنين عليه السلام هنا لا يدلّ على أنَّ الإنسان يستطيع أن يضع للناس أميراً باختياره، سواء كان برّاً أم فاجراً، لأنَّ الله لا يرضي برئاسة و إمارة الفاجر قطعاً (و قد قاتل أمير المؤمنين عليه السلام معاوية على هذا الأساس)، و إنَّما يريد الإمام عليه السلام أن يقول: إنَّه في حالة عدم التمكّن من الإمام العادل، يكون حكم مثل الإمام الجائر على الناس ضروريّاً. و هذا حكم ثانويّ كسائر الأحكام الثانويّة التي تتحقّق في صورة عدم إمكان الحكم الأوّليّ.
و عليه، فقد اشتبه ابن أبي الحديد في رأيه هذا؛ و كلام الإمام عليه السلام مثل قول: على الإنسان أن يتناول الطعام حتماً، إمّا الطعام الحلال أو أكل الميتة، و إذا لم يأكل فإنَّه يموت. فلا نستفيد من أنَّ أكل الميتة جائز
دائماً، و إنَّما يكون جائزاً في صورة عدم توصّلنا إلى الطعام الحلال. و إمارة الأمير الفاجر أيضاً إنَّما تكون في حالة عدم انتخاب الناس لأمير برّ. و وجوب انتخاب الناس للأمير البرّ من المؤكّد جدّاً، و عليهم أن يعزلوا الفاجر؛ فيجب عليهم أن يدافعوا و يجاهدوا و يقاتلوا إلى أن يعزلوا الأمير الفاجر و يضعوا مكانه الأمير البرّ.
حروب أمير المؤمنين عليه السلام لصدّ الاعتداء و إقامة دولة
فما الذي دعا أمير المؤمنين عليه السلام لأن يبقي في معركة صفّين مع جميع أصحاب رسول الله مدّة ثمانية عشر شهراً؟! لقد كان ذلك لأجل عزل الأمير الفاجر و إقامة الأمير البرّ. و كلّ من يطالع شرحه في خطب «نهج البلاغة» الواردة في فترة معركة صفّين يري أنّه (ابن أبي الحديد) كان يري أمير المؤمنين عليه السلام محقّاً، و أنَّ حروبه على أساس العدالة و وجوب رفع الظلم و التعدّي؛ و أنّه يري أنَّ معاوية عليه الهاوية، مركز الفساد و التعدّي و التجاوز على حقوق المسلمين. و إنصافاً، لقد أعطي حقّ الكلام في بعض كلماته و شروحه الكافية عن مظلوميّة الإمام عليه السلام و شدّة عناد و خصومة معاوية.
و علي هذا، فقد قصّر ابن أبي الحديد شيئاً ما هنا، و عليه أن يقدّم جواباً أمام محكمة الله و موقف عدله على هذه الاستفادة التي استفادها هنا من الكلام.
روي العلّامة الحلّيّ قدّس الله سرّه أنّه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: "إنَّ اللهَ لَا يُقَدِّسُ امَّةً لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَأخُذُ لِلضَّعِيفِ حَقَّهُ!"۱
(لا يقدّس: أي لا يطهّر و لا يُنزّه، و لا يمنح الرشد و الطهارة).
و ذلك لأنَّ معني القدس هو الطهارة و النزاهة و النظافة؛ لَا يُقَدِّسُ أيْ
لَا يُنَزِّهُ، لَا يُطَهِّرُ.
يجب أن يكون في الحياة الاجتماعيّة ثمّة أشخاص يأخذون حقّ المظلومين و المستضعفين من الظالم و لا يسمحوا بسحقهم، لتكون هذه الامّة امّةً مقدّسة مطهّرة. أمّا إذا فقد المجتمع هذه الميزة و لم يتوصّل الضعفاء فيه إلى حقّهم فسيصاب ذلك المجتمع بالفوضي؛ فيلزم وجود الوالي البرّ الصالح لإحقاق الحقوق و تدبير الضعفاء و منع الغشّ، و في حالة عدم وجوده فالوالي الفاجر و الفاسق.
و ما قيل: إنَّ الحقّ يؤخذ و لا يعطي، فكلام غير صحيح. فالجماعة التي تعيش على أساس العدالة و التقوي و الطهارة تسعى لكي تجد صاحب الحقّ و تعطيه حقّه. و الجماعة التي تعيش في ظلّ الإنسانيّة لا يسعى الضعيف فيها إلى حقّه بقوّة السيف، بل يأتي القوي ملتمساً من الضعيف أن يأتي ليأخذ حقّه منه.
الملْكُ يَبْقَى مَعَ الكُفْرِ وَ لَا يَبْقَى مَعَ الظُّلْمِ
أجل؛ ففي ذلك المجتمع الذي يحكم فيه الإيمان و الإسلام و الحقيقة و الشهادة، يصل كلّ شخص إلى حقّه، و هكذا المجتمع هو مجتمع الإنسانيّة و الأصالة. و سيأتي أخيراً يوم تنتشر فيه حكومة العدل في جميع نقاط الدنيا. أي حين وصول الأمر إلى حيث لا يحتاج الإنسان في أخذ حقّه إلى القوّة و السيف، و وصول حقّ كلّ ضعيف إليه. و لذا يقول النبيّ صلّى الله عليه و آله في الرواية المرسلة:
"المُلْكُ يَبْقَى مَعَ الكُفْرِ وَ لَا يَبْقَى مَعَ الظُّلْمِ"۱. و ذلك لأنَّ الشخص
...۱
...۱
الكافر الذي يكون مسلّطاً على أشخاص كافرين في بلد ما، يريد قيادة الناس على أساس العدالة. أمّا إذا قام الزعيم أو الرئيس بممارسة الظلم و ارتكب الظلم في حقّ الرعيّة، و لم يراع حقّ الضعفاء، و لم يتمكّن الأشخاص الذين يعيشون هناك من التوصّل إلى حقّهم بسهولة بل يواجهون القلاقل و الوساوس و الاضطرابات، ممّا يجعل تحصيل الحقّ بالنسبة لهم من دواعي المشقّة، و يكون رفع الشكوى من قبلهم إلى الحاكم سبباً للتعب إذ لا يجدون مَن يهتمّ بكلامهم؛ و تكون محكمة الحاكم أيضاً من أسباب تعطيل الامور فيتخلّى الكثيرون عن حقوقهم، لأنّهم يرون عدم استطاعة الوصول إليها، و ينهكون إلى درجة تجعلهم يصرفون النظر عن حقّهم في آخر المطاف. و لن تجد هذه الجماعة و هي في هذه الحالة أيّ خير.
فكان مفاد الرواية التي نقلناها عن العلّامة في «التحرير» عن رسول الله صلّى الله عليه و آله أنَّ هذه الامّة لن تسعد، و أنَّ هذه الجماعة لن تكون جماعة رشيدة.
لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ القَوِيّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ
قال أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه و عهده لمالك الأشتر النخعيّ
عند ما أرسله إلى مصر: "لَنْ تُقَدَّسَ امَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ القَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ"۱.
يقول ابن الأثير في «النهاية» في مادّة «تَعْتَعَ»: حَتَّى يَأخُذَ لِلضَّعيفِ حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ، مُتَعْتَعٍ (بفتح التاء): أي مِنْ غَيْرِ أنْ يُصيبَهُ أذىً يُقَلْقِلُهُ و يُزْعِجُهُ. يُقالُ تَعْتَعَهُ فَتَتَعْتَعَ٢.
مُتَعْتَع، أي الشخص المبتلي و الواقع تحت الأذى بنحو يسبّب له القلق و الاضطراب، فيقال له: صارَ مُتَعْتَعاً. غَيْرُ مُتَعْتَعٍ، أي بدون قلق و إزعاج. فيصل ذلك المجتمع إلى رُقِيِّه و قدسه و طهره و كماله عند ما يأخذ الضعيف حقّه من دون مشاكل، لا مع الاضطراب و القلق.
و يقول في «أقرب الموارد»: تَعَّ، يَتُعُّ، تَعّاً و تَعَّةً: اسْتَرْخَى وَ تَقَيَّأ. تَعْتَعَهُ: أقْلَقَهُ أو أكْرَهَهُ في الأمْرِ حَتَّى قَلِقَ. تَعْتَعَ في الكَلَامِ: تَردَّدَ فيهِ مِنْ حَصَرٍ أو عِيٍّ.
تَعْتَعَهُ، أي أوقعه في القلق و الاضطراب، و أكرهه في الأمر. فمن يكره إنساناً في أمر ما و يوقعه في القلق و الاضطراب يقال له: تَعْتَعَهُ.
تَعْتَعَ في الكَلَامِ أي تَرَدَّدَ مِنْ أمْرٍ. أي أنّه لم يتمكّن من الكلام و بيان قوله بسبب ضيق الصدر أو المشاكل التي واجهته.
بناء على هذا، فالمعني بهذا النحو: أي يأتِ الضعيف فيأخذ حقّه من دون أنْ تَعْتَعَ، أي من دون أن يكون في كلامه لكنة ناشئة عن حَصَر (بفتح الصاد بمعني ضيق الصدر)، و من دون أيّ تعبّ و ضيق صدر. و عند ما يريد
أخذ حقّه أيضاً يكون ذلك بكلام واضح و فصيح و ظاهر، لا أن يقف قبال الحاكم للشكاية في أخذ حقّه و هو متزلزل في كلامه بسبب الأجواء المشحونة التي تضطرّه لعدم بيان مطلبه بشكل جيّد.
فَعَلَى هَذا، لَا يُقَدِّسُ اللهُ هَذِهِ الامَّةَ؛ فلن تكون هذه الامّة امّة مقدّسة، و لن تصل إلى سعادتها و فلاحها.
إنَّ مجموعة المطالب التي بُحِثَتْ حول هذه الرواية الشريفة و حول الأصل الكلّيّ للحكومة الإسلاميّة التي توكل إلى اولي الأمر و تختصّ بالأئمّة المعصومين عليهم السلام، و تكون من بعدهم في حال عدم التمكّن و الوصول إليهم للدرجات الأربع النازلة من باب الأهَمُّ فَالأهَمُّ و هي: درجة الفقيه الأعلم، و درجة الفقيه غير الأعلم، و درجة عدول المؤمنين، و درجة فسّاق المؤمنين. و ذلك سواء في الامور الولايتيّة العامّة أم الامور الولايتيّة الجزئيّة، مثل أموال القُصَّر و الغُيَّب و مجهول المالك و الأوقاف. و أخيراً، يجب أن يقوم الفقيه الأعلم أو الفقيه العالم أو عدول المؤمنين أو فسّاق المؤمنين بالترتيب في جميع الامور التي تحتاج إلى قيّم، كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى هَذا النَّهْجِ الَّذي ذَكَرْنا، و يُخرج تلك الامور من حالة الضياع و الفساد، لكي لا يُسلَّم الذين يعيشون في ظلّ هذه الحكومة إلى الضياع و الهلاك.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ الثَّالِثُ وَ العِشْرون: خُلَاصَةُ أدِلَّة وَلَايَةِ الْفَقِيهِ الأعْلَمُ فِي الامَّةِ المُسْتَنَدَة إلى النُّورِ وَ الفُرقَانِ الإلَهِيَّيْنِ.
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
أصل الحكم وسعته و ضيقه و قيوده و شرائطه كلّها بِيَدِ الحاكم
الحاكم الذي يحكم و بيده الأمر و الحكم، كما أنَّ أصل الحكم بيده نفياً و إثباتاً فهو بيده أيضاً من ناحيتي السعة و الضيق، سواء كان ذلك الحاكم هو الشارع أم غيره.
فالحكم الذي يجعله الشارع على متعلّق ما، فكما أنَّ جعله بيده، فسعة و ضيق ذلك المتعلّق، بيده أيضاً. فتارة يؤخذ المتعلّق على نحو الإطلاق، و اخرى على نحو التقييد. و يتفاوت التقييد أيضاً بحسب اختلاف درجات القيد.
و كذلك بيده أن يعيّن الكاشف في مقام الإثبات لذلك الحكم الذي جعله في عالم الثبوت؛ فتارة يكون كاشف الحكم لفظيّاً كالروايات، و تارة اخرى يكون لبّيّاً كالسيرة الابتدائيّة، أو إمضاءً السيرة المستمرّة التي عُمل بها من قبل، حتّى أنّه قد يستكشف أحياناً حكم الشارع من سكوته في مقابل سيرة ما، و يكون الشارع في هذه الحالة أيضاً قد جعل الحكم واقعاً،
لكنّه جعل كاشفة السكوت تجاه السيرة.
و علي كلّ تقدير، فعند ما يستكشف الحكم الواقعيّ، أو نعرف نيّة و قصد الشارع بالنسبة لسعة و ضيق دائرة حكم ما، فعلينا اتّباع ذلك من أيّ طريق حصل.
إنَّ توسعة و تضييق حكم أو متعلّقه، سواء في الجعل الابتدائيّ للحكم أم في إمضاء السيرة، إنَّما يكون بِيَدِ الشارع.
فعند ما يقول مثلًا {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا}۱، فقد حرّم الربا بشكل عامّ، سواء كانت هذه المعاملة بيعاً ربويّاً أم معاملة اخرى تتمّ تحت عنوان الربا، فقد جاء حكم الحرمة على الربا في مطلق الأموال، بينما جاء الحكم بالحلّيّة على البيع.
و كذا الحال في مورد البيع، فالأمر بهذا النحو أيضاً، أي أنَّ الشارع لن يكون ملتزماً باتّباع البيع العرفيّ و قيوده و شروطه، بل من الممكن في مورد ما و في ظروف و قيود معيّنة أن يحلّل بيعاً ما بينما يحرّم بيعاً آخر، فيضيّق الدائرة في بعض الموارد و يوسّعها في موارد اخرى.
و لذلك فمن الممكن- من باب المثال- أن يلاحظ العرف قيداً في تحقّق عنوان البيع في الخارج أو في صحّته، بينما يلغي الشارع ذلك القيد و يلاحظ الحكم بنحو الإطلاق. و كذلك من الممكن أن لا يكون ثمّة قيد لدي العرف، لكنَّ الشارع يضيفه. أي يحلّ البيع و يمضيه بتلك القيود و الشروط.
فالشارع- مثلًا- لم يمض بيع الغَرَر و لم يحلّل بيع الخمر و الخنزير، مع أنّه يصدق عليها عنوان البيع قطعاً، و قد كان بيع الخمر و الخنزير رائجاً
و شائعاً و قد حرّمه الإسلام.
نعم؛ في مورد البيع الغرريّ، بواسطة تقيّد البيع بغير الغرريّ يستكشف أن ذلك القيد عقلائيّ؛ نَهَى النَّبِيُّ عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ. فالعقلاء لا يمضون بيع الغرر، فأمضي الشارع حكم العقلاء في هذا المورد.
و أمّا في بيع الخمر و الخنزير و أمثالهما، فقد قام الشارع بإنشاء جديد و ضيّق دائرة تجويز البيع و حلّيّته. و أوجب بحكم {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}۱ أن يلتزم بالبيع و سائر العقود. أي أنّه يوجب بـ{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} العقود الرائجة و المتداولة في العرف و العادة، و يمضي ما كان معمولًا به بين الناس و متعاملًا به بصفة عقد، فلم يُعدّ لازماً أن يُسأل عن العقود واحداً واحداً، كأن يسأل عن جواز الصلح و الهبة أو المضاربة و المساقات و المزارعة و عدمه. و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، يعني أنَّ عليكم أن تعملوا بجميع عهودكم، و يشير بهذه الجملة إلى تنفيذ جميع العقود الخارجيّة المتداولة حينها.
فلو وجد الآن عقد جديد في الخارج لم يكن موجوداً في عهد الشارع، فهل نستطيع التمسّك بـ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و القول بما أنّه قد تحقّق في الخارج و صدق عليه عنوان العقد فيشمله {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أيضاً؟
يري المرحوم الشيخ الأنصاريّ رحمه الله أنَ {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لا تشمل هذه العقود، لأنَ {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} كانت حكماً بوجوب الوفاء بالعقود التي كانت متداولة في زمان الشارع. و «ال» التي في «العقود» ليست «ال» الاستغراق، لكي يكون كلّ عقد يتحقّق في الخارج في كلّ زمان، لازم الوفاء على نحو القضيّة الحقيقيّة. و إنَّما الألف و اللام هي عهد جنسيّ، أي أنَّ العقود التي هي متداولة في الخارج الآن واجبة الوفاء.
و علي هذا، تمضي جميع العقود التي كانت في زمان الشارع، مثل البيع و الصلح و المضاربة و الهبة و أمثال ذلك. و أمّا العقود التي تظهر فيما بعد، و لم تكن في زمان الشارع، فلا تشملها {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
فلو وجد عقد ما في زمان ما قبل التأمين الذي يعقده الطرفان على أساس معاملة وضعيّة، و يقومان فيه بالإيجاب و القبول أيضاً، و دون أن يكون محلِّلًا لحرام أو محرِّماً لحلال كذلك، أو لا يشتمل على شرط مخالف للكتاب و السنّة، أي ليس فيه شرطٌ غير مشروع. و إنّما هو في حدّ نفسه عقد بين طرفين و حسب، فهل تشمله {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أيضاً؟ و هل تلزمنا {أَوْفُوا} بتبعاته؟
يقول الشيخ رحمه الله: لا؛ لا تشمله، لأنَ {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} تعني: أوْفوا بِالعُقودِ المُتَعارفَة، لا: كُلُّ عَقْدٍ فُرِضَ في العالَم.
لكنَّ رأي المرحوم السيّد محمّد كاظم اليزديّ رحمه الله عليه كان في قباله، و نظره هو: أنَ{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} تشمل كلّ عقد فُرِضَ أنْ يَتَحَقَّقَ في الخارِج، حتّى لو لم يكن موجوداً في زمان الشارع. و أنَّ الألف و اللام ليست إشارة إلى تلك العقود المتعارفة في زمان الشارع.
و قد أفتي البعض على هذا الأساس و بناء على رأيه بجواز معاملة التأمين التي لا تتضمّن شرطاً محرّماً، و التي تتمّ عن رضا من الطرفين. و أمر الشارع بالوفاء بها أعمّ من كونه بواسطة اللفظ أو السيرة أو السكوت في مقابل عمل الناس. كما أنَّ أصل ثبوت جواز أنواع معاملات البيع و الصلح و أمثالها، إنَّما بالسيرة أو بالسكوت و الإمضاء، إذ إنَّ جميع هذه العقود معمول بها بين الناس في زمان الشارع، كما كان نفس الشارع يتعامل بها أيضاً، و لم يمنعها؛ ممّا يكشف عن إمضائه لها. و إلّا فليس لدينا دليل لفظيّ من السنّة علي حلّيّة كلّ واحد من العقود بخصوصه. و إنّما عمدة
الدليل هو هذه السيرة.
لم يجعل شارع الإسلام انتخاب الاكثريّة طريقاً لتعيين الولاية
و في قضيّة رجوع الجاهل إلى العالم، و رجوع الناس إلى الفقيه، و كذلك رجوعهم إلى الفقيه الأعلم (أعمّ من رجوعهم في مسألة أخذ الفتوى، أو الرجوع إليهم في مسألة الولاية و التدبير و القيمومة عامّة أو الزعامة) فقد كان هذا كلّه سيرة رائجة بين الناس، و كان الجميع يرجعون إلى أعلم الامّة في ذلك الفنّ. و قد أمضي الشارع المقدّس كذلك هذه السيرة، لكن هل أمضي الشارع الطريق المعروف العرفيّ (في مقام الكاشفيّة) في هذه الموارد، أو أنّه يحقّ له أن يعيّن طريقاً خاصّاً من عنده؟
إنَّ الأعلم شخص واحد في كلّ زمان لا أكثر، و علي الرغم من اقتضاء السيرة بالرجوع إليه، لكنّها (السيرة) لم تقم على ضرورة التعرّف على الأعلم عن طريق علم الغيب أو سؤال نبيّ أو إمام و الأخذ بقوله تعبّداً.
و الغالب هو رجوع الناس إلى الأعلم في كلّ فنّ، و يحصل ذلك عن طريق الاختبار و الاستشارة، و يتلو ذلك أيضاً مبدأ الانتخاب و أخذ الآراء. و هذا أيضاً طريق لكشف الحكم الواقعيّ.
لكنَّ الشارع قد سدّ هذا الطريق؛ و قال: إنَّ الرجوع إلى الفقيه الأعلم أو الإمام المعصوم في الشرع- و أصل هذا الأمر على أساس السيرة- مرهون بالطريق الشرعيّ المبُيّن، لا بحسب الطريقة المتعارفة في الموارد الاخرى. فعليكم الوصول إثباتاً إلى الأعلم في الامّة، الذي يمتلك مزايا كهذه ثبوتاً. و عليكم اتّباع عليّ بن أبي طالب عليه السلام وحده دون سواه. أمّا أن تذهبوا بحسب رأيكم إلى السقيفة لتقوموا بأخذ الآراء أو بما شئتم من عمل، فهذا مرفوض عندي، و ينبغي أن يكون الحاكم بهذا الشكل قبلتم أم رفضتم.
و بناء على هذا، فالسيرة هي الطريق الذي ورد في الشرع لاتّباع ذلك الفقيه الأفضل و الأعلم، و الذي هو نفس الإمام المعصوم في زمان الحضور و الفقيه الأعلم في زمان غيبة الإمام المعصوم.
فالسيرة هي إحدى الأدلّة بلا شكّ و لا شبهة، و دليلها أيضاً دليل مهمّ، لكنّ طريق الوصول إلى هذا المعني و الكاشف عنه بِيَدِ الشارع بالضرورة؛ فبإمكان الشارع أن يفتح لنا طريقاً و يغلق آخر؛ و يقول: إنَّ طريق تعيين الأعلم: هو ما يعيّنه الإمام المعصوم، لا غير.
و لذا نقول: إن لم يكن للوليّ و الفقيه الأعلم صلة بالإمام المعصوم، فلا يكون محلّ إمضاء، و لا تكون ولايته تامّة أصلًا. و يجب أن يجعل أهل الخبرة كاشفاً في مقام الإثبات لذلك الفقيه الأعلم في مقام الثبوت (و أهل الخبرة الذين هم أهل الحلّ و العقد، و المعيّنون لهذا المعني، الذين يمتلكون نور الباطن و نورانيّة الضمير، و يستطيعون تشخيص الأعلم سواء من ناحية العلم و الفقاهة أم من ناحية نورانيّة الباطن).
و ذلك بخلاف قولنا: إنَّ على عوامّ الناس من بقّال و راعٍ و عامل أن ينتخبوا الفقيه الأعلم، و يعطوا آراءهم حول تعيين الحاكم، فيتمّ انتخاب الذين يحصلون على أكثريّة الأصوات (و حتّى لو كان ذلك بنسبة إحدى و خمسين في المائة) ممّا يؤدّي إلى بطلان و ضياع التسعة و أربعين في المائة من أهل البلاد، و افتراضهم غير موجودين و معدومين بسبب تلك المزيّة الجزئيّة! و كان الانتخاب حسب آراء زيد و عمرو ممّن لا يعرفون شيئاً عن الفقه أو الفقيه أو الدراية و العلم و التقوي، و لا يصل مستوي إدراكهم إلى هذه المسائل. و لذا اجتمع جميع هؤلاء لإثبات الكاشفيّة عمّن جعله الشارع المقدّس في مقام الثبوت وليّاً فقيهاً، فلن تكون لهم أيّة قيمة.
كان هذا محصّل البحث عن السيرة التي لا يراود أصلها أيّ شكّ أو
شبهة أو إشكال، و إنَّما الكلام في كاشفيّتها و كيفيّة تحصيلها.
عدم دلالة حديثي: الملُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ، وَ العُلَمَاءُ حُكَّامٌ ...
و من الروايات التي استدلّ بها على ولاية الفقيه، و إن كان من الممكن أن لا تدلّ، هي الرواية التي يرويها استاذ الشيخ الأنصاريّ، المرحوم الحاجّ المولي أحمد النراقيّ في «عوائد الأيّام»۱ عن مولانا الصادق عليه السلام:
إنَّهُ قَالَ: "المُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ، وَ العُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى المُلُوكِ"٢.
فيستفاد من: "العُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى المُلُوكِ": أنَّ للعلماء جهة ولاية حتّى على الملوك.
و اعتُرِضَ على هذا الاستدلال بـ: أنَّ هذا الحديث غير ناظر إلى مدّعانا، و إنَّما هو ناظر إلى ما هو متعارف في الأزمنة المختلفة من اتّباع الناس للسلطان و الملك، و اتّباع الملك أيضاً لعالِم زمانه، إذ يقصد الناس في كلّ امّة و جماعة الملك؛ بينما يأخذ الملك برأي عالِم ذلك الوقت و يتّبعه؛ و كان ذلك متّبعاً عند الملوك السابقين، حيث كانوا يجعلون الأعلم من علمائهم وزراء لهم، و قد اشتهرت إيران و الروم بذلك.
فعند ما جعل أنو شيروان بوذرجمهرَ وزيراً له، لأنّه كان حكيم و عالم ذلك الزمان و لذا جعله ناظراً على جميع أعماله، و كان يستمدّ منه الطاقة الفكريّة. كما كان هذا هو السبب الذي حدا بالإسكندر إلي جعل أرسطو
وزيراً له. و قد امتنع بعض العلماء عن الرضوخ لإرادة الملوك في مسألة التصدّي للُامور العامّة، لأنَّ ذلك يسلبهم السعة و الفراغ، و يسبّب لهم التنزّل من الكمالات و الأحوال الروحيّة؛ و لذا كانوا يفرّون من التصدّي لذلك. لكنَّ اولئك الملوك كانوا ينتخبون بأيّ نحو كان، الفرد الأكثر لياقة و علماً و حكمة في بلادهم لمنصب الوزارة و الصدر الأعظم، لأنّهم كانوا يرون أنفسهم بحاجة إلى طاقة العلماء العلميّة.
و هذا هو مفاد هذه الرواية: "العُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى المُلُوكِ"؛ لا أنَّ الشرع قد جاء و جعل العلماء حكّاماً على الملوك في عالم الأمر و النهي و التشريع لكي يمكننا استفادة الولاية الشرعيّة منها.
و قد أجاب استاذنا آية الله الحاجّ السيّد محمود الشاهروديّ أعلى الله مقامه في «كتاب الحجّ»۱ على الاعتراض بقوله: إنَّ مُجَرَّدَ الإخْبارِ غَيْرُ لائِقٍ لِمَقامِ الإمامِ عَلَيهِ السَّلامُ، المَنْصوبِ لِبَيانِ الأحْكامِ؛ فَالمُناسِبُ أنْ يَكونَ ما ظاهِرُهُ الإخْبار إنْشاءً. فَالمُرادُ حينَئِذٍ: أنَّ العُلَمَاء نُصِبوا شَرْعاً حُكَّاماً عَلَى المُلوكِ بِحَيْثُ تَنْفُذُ أحْكامُهُمْ عَلَى المُلوكِ مِن حَيْثُ كَوْنِهِمْ مُلوكاً ... وَ مِنَ المَعْلومِ: أنَّ شَأنَ المُلوكِ القيامُ بِالمَصالِحِ النَّوْعيَّةِ وَ إقامَةُ الحُدودِ وَ حِفْظُ الثُّغورِ وَ تَأمينُ البِلادِ لِنَظْمِ مَعاشِ العِبادِ. وَ نُفوذُ حُكْمِ العالِم عَلَى السُّلْطانِ مَنوطٌ بِوَلايَتِهِ في الامورِ السِّيَاسِيَّةِ؛ فَيَكونُ امورُ الدِّينِ وَ الدُّنْيا راجِعَةً إلَى الفَقيه؛ فَتَأمَّل- انْتَهى.
أقول: إنَّ جواب هذا الاعتراض غير وارد، إذ ليس من مذاق الشارع أن ينصب شخصاً في مقام، ثمّ يأمر الناس بطاعته مع عدم إمضاء أصل جعله لذلك المقام. فإنَّ مذاق الشارع نفي و عدم إمضاء الحكّام و الملوك في
مقابل العلماء. فهو يعتبر حكومتهم باطلة من الأساس، و يري الحكومة منحصرة في العلم و التقوي.
فلا يري شرعُ الإسلام حاكماً في مقابل العالِم حتّى نقول: إنَّه قد جعله تابعاً و أمره باتّباع العالِم، و إنَّه قد فرّق بين العلماء و الملوك، و من ثمّ ثبّت حكم الملوك على الناس، و قال بعد ذلك: إنَّ على هؤلاء الملوك أن يتّبعوا العلماء. فهذا التعبير و هذا التفريق غير صحيح.
و علي هذا، فَالأوْلَى رَدُّ الإشْكالِ، وَ الذِّهابُ إلَى أنَّ هَذَا الخَبَرَ ناظِرٌ إلَى بَيانِ عُلُوِّ شَأنِ العُلَماء. فالإمام عليه السلام يريد أن يُبيِّن أنَّ شأن العلماء أرقي من الملوك. إذ نري أنَّ الملوك في الخارج مع امتلاكهم لكمال القوّة و مع استكبارهم، لكنّهم يجعلون كبار الحكماء وزراء لهم، خاضِعونَ لِمَقامِ عِلْمِهِمْ وَ درايَتِهِم، و يستسلمون أمام فكرهم. فالحديث في مقام الحديث عن العلم و عظمته، لا أكثر.
روايتا: السُّلْطَانُ وَلِيّ مَنْ لَا وَلِيّ لَهُ؛ عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَسَائِرِ أَنْبِيَاءَ قَبْلِي
و من الروايات الاخرى التي استُدِلَّ بها على ولاية الفقيه، الرواية التي رواها المرحوم النراقيّ في «عوائد الأيّام» عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
فقد روي الخاصّة و العامّة أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: "السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ"۱.
و لم يقصدوا من السلطان الوليّ و الحاكم الجائر، بل قصدوا مَنْ لَهُ السَّلْطَنَة. و بحسب منطق الشارع، يجب استمداد حقّ السلطنة من طريق العدل. و علي هذا، فالمراد من السلطانِ السلطانُ العادل، إذ إنَّ السلطان الجائر ليس بمولى أصلًا. فقوله: "السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ"، يريد ذلك
الحاكم الذي يمتلك السيطرة و القدرة، و الذي قد تسلّم زمام الامور عن طريق الشرع و هو قادر على القيام بالأمر من ناحية الإحاطة وسعة الولاية و تولّي امور و ولاية مَنْ لا وَلِيَّ لَه. فهذه الولاية تختصّ بذلك السلطان.
و من الروايات التي استُدِلَّ بها على ولاية الفقيه، الرواية الواردة في «جامع الأخبار» و «عوائد الأيّام» عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم التي قال فيها: "أفْتَخِرُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِعُلَمَاءِ امَّتِي فَأقُولُ: عُلَمَاءُ امَّتِي كَسَائِرِ أنْبِيَاء قَبْلِي"۱.
و هذه الرواية موجودة في «جامع الأخبار». و يقول البعض إنَّ الصدوق هو الذي ألَّفه. و من المحقّق أنَّ هذه النسبة غير صحيحة، بل هو تأليف أحد خمسة أشخاص. و أيّاً كان مؤلّفه منهم فهو من كبار العلماء و الموثّقين على التحقيق.
و علي كلّ تقدير، فبما أنَّ سنده يدور بين هؤلاء العلماء الخمسة، و هم جميعاً في نهاية الإتقان، فسند «جامع الأخبار» أيضاً سند قويّ، و لا مجال للنقاش فيه؛ و ما علينا هو أن نري دلالة هذا الخبر.
و من الروايات الاخرى التي استدلَّ بها: الرواية المرويّة في «عوائد الأيّام» نقلًا عن «الفقه الرضويّ» من أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: "مَنْزِلَةُ الفَقِيهِ فِي هَذَا الوَقْتِ كَمَنْزِلَةِ الأنْبِيَاءِ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ"٢.
و ينقل المرحوم النراقيّ في «عوائد الأيّام» روايات اخرى، منها: الرواية التي هي في كتاب «الاحتجاج» للشيخ الطبرسيّ، و هي حديث
طويل، إلى أن يصل الراوي في قوله: "قِيلَ لأمِيرِ المُؤْمِنِين عَلَيهِ السَّلَامُ: مَنْ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ أئِمَّةِ الهُدَى وَ مَصَابِيحِ الدُّجَى؟! قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: العُلَمَاءُ إذَا صَلُحُوا"۱.
و منها الرواية المرويّة في «مجمع البيان» للطبرسيّ عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: "فَضْلُ العَالِمِ عَلَى النَّاسِ كَفَضْلِي عَلَى أدْنَاكُمْ"٢
و منها رواية في «منية المريد» للشهيد الثاني: قال الله العليّ الأعلى لعيسى ابن مريم: "عَظِّمِ العُلَمَاء وَ اعْرِفْ فَضْلَهُمْ، فَإنِّي فَضَّلْتُهُمْ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِي إلَّا النَّبِيِّينَ وَ المُرْسَلِينَ كَفَضْلِ الشَّمْسِ عَلَى الكَوَاكِبِ، وَ كَفَضْلِ الآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، وَ كَفَضْلِي عَلَى كُلِّ شَيءٍ"٣.
وَ لَكِنْ لا يَخْفَى عَدَمُ دَلالَةِ هَذِهِ الأخْبارِ عَلَى ما نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ اثْباتِ الوَلايَةِ؛ لأنَّ مَحَطَّ سياقِها اثْباتُ الفَضْلِ لِلْعُلَماء.
فلا تكفي هذه الأخبار لإثبات ولاية الفقيه، لأنّها في سياق إثبات الفضل للعلماء و بيان أحوالهم و مميّزاتهم. و لا يتحصّل من مقامهم و درجتهم إطلاقٌ في ثبوت شئونهم ليشمل مقام الولاية. و الروايات مجملة من هذه الجهة. و بما أنّها لم تصرّح بالولاية و ليس لها إطلاق أيضاً، فلا نستطيع إذَن أن نستفيد الولاية من هذه الطائفة من الروايات.
نعم؛ الرواية التي نستطيع الاستدلال بها على ولاية الفقيه هي الرواية التي أوردها المرحوم آية الله الحاجّ الملّا أحمد النراقيّ في «المستند» في
كتاب القضاء، نقلًا عن كتاب «غوالي اللئالي» و هي:
"النَّاسُ أرْبَعَةٌ: رَجُلٌ يَعْلَمُ وَ هُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ يَعْلَمُ، فَذَاكَ مُرْشِدٌ حَاكِمٌ فَاتَّبِعُوهُ"۱. (أي أنَّ هذا الشخص يمتلك العلم و يمتلك العلم بعلمه أيضاً) فهذا مرشد حاكم و يجب عليكم اتّباعه.
هنا، قد رُتّب الحكم بوجوب الاتّباع على المُرْشِدِ الحَاكِمِ؛ و الذي: يَعْلَمُ وَ هُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ يَعْلَمُ.
و ورد حكم المتابعة هنا على أساس العلم، و هو العلم الخاصّ أيضاً، حيث يكون الإنسان عالماً، و عالماً بعلمه كذلك؛ لا أنّه يكون عالماً دون أن يعلم بأنّه عالم. كما أنَّ هذه الرواية تدلّ على وجوب اتّباعه من قبل جميع الناس على نحو الإطلاق. و الرواية من حيث السعة مطلقةٌ و لا تختصّ بباب القضاء، بل هي قابلة للتمسّك بها في القضاء و الحكومة و المرجعيّة و أخذ الفتوى معاً.
"رَجُلٌ يَعْلَمُ وَ هُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ يَعْلَمُ، فَذَاكَ مُرْشِدٌ حَاكِمٌ فَاتَّبِعُوهُ": يجب اتّباع هكذا حاكم، فإطلاقها حسن جدّاً، و دلالتها أيضاً كافية، و هي في المفاد نظير قول إبراهيم عليه السلام: {يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا}٢.
خلافاً للروايات التي تدلّ على أنَّ القضاة أربع طوائف. إذ لدينا بضعة روايات حول القضاء بخصوصه، تدلّ على أنَّ القضاة أربع طوائف؛ و القاضي بالحقّ من بينهم هو الذي: "يَعْلَمُ وَ هُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ يَعْلَمُ"؛ و علي الناس اتّباع قضائه، و أنَّ الجنّة مآب قاضٍ كهذا.
فلا إطلاق لهذه الرواية لتشمل باب الولاية في الحكم أيضاً، و إنّما تتعلّق بباب القضاء، لأنَّ القاضي اصطلاحاً هو ذلك الشخص المنصوب للقضاء، لا للحكومة و الإفتاء، و إن يصدق عنوان القاضي على الحاكم لغة، لكنّه اصطلاحاً: هو مَن نصب للفصل في الخصومة.
و عليه، فتنحصر الروايات التي تقسّم القضاة إلى أربع طوائف، بذلك العالم الذي جلس في مقام الترافع و فصل الخصومة فقط، و الذي يكون عالماً بالقضاء و عالماً بعلمه أيضاً.
القُضَاةُ أَرْبَعَةٌ: ثَلَاثَةٌ فِي النَّارِ وَ وَاحِدٌ فِي الجنَّةِ
يروي الكلينيّ في «الكافي» عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه، مرفوعاً عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال:
"القُضَاةُ أرْبَعَةٌ: ثَلَاثَةٌ فِي النَّارِ وَ وَاحِدٌ فِي الجَنَّةِ: رَجُلٌ قَضَى بِجَوْرٍ وَ هُوَ يَعْلَمُ، فَهُوَ فِي النَّارِ. وَ رَجُلٌ قَضَى بِجَوْرٍ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ، فَهُوَ فِي النَّارِ. وَ رَجُلٌ قَضَى بِالحَقِّ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ، فَهُوَ فِي النَّار. وَ رَجُلٌ قَضَى بِالحَقِّ وَ هُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ فِي الجَنَّةِ.
وَ قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: الحُكْمُ حُكْمَانِ: حُكْمُ اللهِ وَ حُكْمُ الجَاهِلِيَّةِ. فَمَنْ أخْطَأ حُكْمَ اللهِ، حَكَمَ بِحُكْمِ الجَاهِلِيَّةِ"۱.
فليس هناك واسطة بين كلام الحقّ و بين الباطل فيجب أن يحكم بالحقّ و إلّا كان بالباطل.
و ثلاث طوائف من بين هذه الطوائف الأربع ممّن يحكمون بغير الحقّ و هم في النار، لأنّه حتّى لو كان ذلك القاضي قد حكم بالحقّ لكنّه بما أنّه: "لا يَعْلَمُ أنَّهُ حَقّ"، فقد اشتبه في مقدّمات الحكم، و لم يحصل ذلك الحقّ علي أساس المباني الصحيحة، و لا يكون هذا الحكم- الذي قد قضي به
و طابق الحقّ- صحيحاً. ثمّ، لما ذا يقضي ذلك القاضي الذي لا يكون عالماً بالحقّ و يحكم بالجور و الباطل دون أن يعلم أن حكمه باطل؟ فما عليه هو أن يتّبع الحقّ و يتوصّل إلى حكم الحقّ، و يفهم مبادئ حكمه من الدليل، و يدرك أنَّ هذا الحكم حكم بالجور أو بالحقّ، فيوجب حكمه الأعمي بالجور، المؤاخذة- مع أنّه لا يعرف مبادئ الحكم- و هذا القاضي في جهنّم. و الطائفة الوحيدة الناجية هي التي تحكم بالحقّ وفقاً للمدارك و المباني الصحيحة من الكتاب و السنّة، و العالمة بصحّة حكمها.
و يروي الشيخ في «التهذيب» في كتاب القضاء مثل هذه الرواية بنفس السند۱. و يروي المرحوم الصدوق كذلك في «من لا يحضره الفقيه» عن الإمام الصادق عليه السلام رواية بهذا المضمون، غاية الأمر أنّه قد ذكر ذيلًا للكلام، هو: "مَنْ حَكَمَ بِدِرْهَمَينِ بِغَيْرِ مَا أنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ فَقَدْ كَفَرَ بِاللهِ عَزَّ وَ جَلَ"٢.
و قد أورد المرحوم الصدوق في «الخصال» هؤلاء القضاة الأربعة، بنحو آخر بالإسناد عن محمّد بن موسى بن المتوكّل، عن عليّ بن الحسين السعدآباديّ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقيّ، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، و السند إلى هنا جيّد جدّاً؛ يقول بعدها: رَفَعَهُ إلَى أبي عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ، قَالَ: "القُضَاةُ أرْبَعَةٌ: قَاضٍ قَضَى بِالحَقِّ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ أنَّهُ حَقٌّ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَ قَاضٍ قَضَى بِالبَاطِلِ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ أنَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَ قَاضٍ قَضَى بِالحَقِّ وَ هُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ حَقٌّ فَهُوَ فِي الجَنَّةِ"٣.
هذه مجموع الروايات و الآيات التي استُدِلَّ بها على ولاية الفقيه و الفقيه الأعلم هنا. و قد لاحظتم: أنَّ دلالة بعضها جيّدة لكنّها بدون سند، بينما البعض الآخر و إن كان قويّ السند لكنَّ دلالته غير تامّة، كالرواية الأخيرة التي نقلناها عن كتاب «المستند» و التي ينقلها في كتاب القضاء عن «غوالي اللئالي»: "رَجُلٌ يَعْلَمُ وَ هُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ يَعْلَمُ فَذَاكَ مُرْشِدٌ حَاكِمٌ فَاتَّبِعُوهُ"، فدلالة هذه الرواية قويّة لكنّها بدون سند. و من حيث المجموع، فإنَّ الكثير ممّا بحثناه في هذا الموضوع قد أورده بعض كبار الفقهاء أيضاً، بشكل عامّ، و لم يبحث في باب الولاية كما ينبغي، و قام شيخ الفقهاء الأنصاريّ رحمة الله عليه بالبحث حول ولاية الفقيه بشكل مختصر جدّاً، و كذلك المرحوم الحاجّ المولي أحمد النراقيّ في «عوائد الأيّام» و السيّد محمّد بحر العلوم في «بُلغة الفقيه» و السيّد فتّاح في «العناوين» بصورة إجماليّة.
و لم يبحث بشكل مبسوط في الكتب الاخرى؛ و علي الرغم من بحوث علماء الاصول المفصّلة في باب الاجتهاد و التقليد، لكنّهم لم يبحثوا في ولاية الفقيه. على أنّه يجب أن تكون هذه المباحث أكثر تأمّلًا و تحقيقاً.
تأسّف النائينيّ على عدم وجود الابحاث العميقة في باب ولاية الفقيه
فمسألة الولاية مسألة مهمّة جدّاً. و علي الرغم ما للشيعة في ولاية الإمام من أبحاث وافية و كافية، إلّا أنّهم لم يبحثوا في ولاية الفقيه.
و للمرحوم النائينيّ رحمة الله عليه كتاب باسم «تنبيه الامّة و تنزيه الملّة» و هو كتاب حسن جدّاً، يتأسّف فيه كثيراً في أواخر الكتاب، و يقول: إنَّنا نستفيد كلّ هذه الفروع الفقهيّة للاستصحاب من عبارة: لَا تَنْقُضِ اليَقِينَ بِالشَّكِّ، و مع كلّ ما نمتلكه من ذخائر عميقة و أرصدة غنيّة، لكنّنا لم نبحث في موضوع الحكومة و الولاية و وظيفة الناس، و لما ذا
لم تطرح هذه الامور؟ إنَّ ذلك مؤسف جدّاً. و قد توسّع المرحوم النائينيّ رحمة الله عليه كثيراً في باب الاستصحاب و أبحاثه الدقيقة و العميقة و الاستنتاجات الواسعة منه.
و توسّع أيضاً استاذنا المرحوم الشيخ حسين الحلّيّ في الاستصحاب، و أبحاث تضارب الاستصحاب، و تقديم الاستصحاب الموضوعيّ على الحكميّ، و تعارض الاستصحابين و غيره، و استخرج منها الفروع الكثيرة، و استحصل كلّ ذلك عن طريق تتلمذه عند المرحوم النائينيّ، و كان من المفكّرين الحاذقين في هذا الفنّ.
فالمؤسف حقّاً أن تري الإنسان يغوص بكلّ هذا العمق في عبارة: لَا تَنْقُضِ اليَقِينَ بِالشَّكِّ، بينما لا يكون له في باب الولاية بحث بهذا العمق، فيكون محتاجاً لأن يكتب له الآخرون كتاب الولاية مثلًا، فيشخّصوا له حكمه، و يأتوه بذلك هديّة بعنوان الحضارة، فيقابلهم بالتبجيل!
إنَّنا نمتلك ذخائر كثيرة جدّاً بين هذه الروايات التي يجب أن يُبحث فيها، و هي كثيرة، و كلما بحثنا أكثر ستكون حصيلتنا أوفر.
فعلي سبيل المثال، من جملة الأدلّة التي ذكرت في هذه اللقاءات و التي لم أرَ أحداً استدلَّ بها في ولاية الفقيه هي رواية كميل التي تدلّ بالنحو الذي بيّناه على ولاية الفقيه و العالم الذي عبر الذات من سنخ اولئك الذين هم: "إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَ إمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً"، و الذين يقول فيهم أمير المؤمنين عليه السلام: "آهِ، آهِ! شَوْقاً إلَى رُؤْيَتِهِمْ"! فهذه الرواية تدلّ على ولاية الفقيه، و هي تامّة سنداً و دلالة.
و كذلك رواية: "مَا وَلَّتْ امَّةٌ أمْرَهَا رَجُلًا قَطّ وَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ إلَّا لَمْ يَزَلْ أمْرُهُم يَذْهَبُ سَفَالًا حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى مَا تَرَكُوا"، و التي ذكر لها سبعة أسانيد، عن الإمام الحسن عليه السلام بسندين، و عن أمير المؤمنين
عليه السلام، و عن موسى بن جعفر عليهما السلام، و عن سلمان الفارسيّ، و واحد عن ابن عُقدَة، و آخر عن القندوزيّ في «ينابيع المودّة» و تُوصل هذه الأسانيد الرواية إلى النبيّ، فهي من حيث السند قويّة جدّاً؛ و من حيث الدلالة قويّة أيضاً. لكنّني لم أرَ في من كتب فقهائنا الاستفادة من هذه الرواية في باب ولاية الفقيه.
و منها أيضاً رسالة أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر، حيث يقول: "وَ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ"؛ حيث استُفيد منها أعلميّة الفقيه المنصوب للولاية.
و منها: قول إبراهيم عليه السلام: {يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا}، بذلك التقرير الذي استُدِلَّ به على ولاية الفقيه.
و منها أيضاً، رواية: "مَجَارِيَ الامُورِ وَ الأحْكَامِ عَلَى أيْدِي العُلَمَاءِ بِاللهِ، الامَنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ"؛ حيث إنَّ الفقهاء و منهم الشيخ الأنصاريّ أيضاً قد تجاوزوها بكلمة أو كلمتين بنحو إجماليّ و مختصر. بينما استفدنا بهذا البحث الذي بيّناه، و بعد التعمّق فيه أنَّ هذه الرواية تدلّ و بصراحة على ولاية الفقيه الأعلم، الذي يكون له إحاطة بالكتاب و السنّة من حيث الظاهر و الباطن، و الذي يكون قلبه متّصلًا بعالم الغيب. و قد دلّت على ولاية الفقيه بصورة جيّدة جدّاً.
كانت هذه الأدلّة الخمسة ممّا ظفرنا عليه؛
وَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ الرَّابِعُ وَ العِشْرون: مِيزَانُ أعْلَمِيَّةِ الْفَقِيهِ، أعْلَمِيَّتُهُ بِكِتَابِ اللهِ.
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
تفسير المجلسيّ و المحقّق الفيض للفقرات الثلاث لهذا الحديث
انتهى بنا البحث إلى أنَّ الأعلمّة لازمة في ولاية الفقيه و للمرجعيّة في الفتوى؛ أي يجب أن يكون الوالي و المفتي أعْلَمُ مَنْ فِي الامَّةِ.
و يدور كلامنا الآن حول: ما المراد من العلم؟ و ما هو مناط الأعلميّة؟
يروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ قدّس سرّه، عن محمّد بن الحسن و عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن محمّد بن عيسى، عن عبيد الله بن عبد الله الدِّهقان، عن دُرُست الواسطيّ، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام، قال:
"دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ المَسْجِدَ فَإذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أطَافُوا بِرَجُلٍ. فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: عَلَّامَةٌ! فَقَالَ: وَ مَا العَلَّامَةُ؟ فَقَالُوا لَهُ: أعْلَمُ النَّاسِ بِأنْسَابِ العَرَبِ وَ وَقَائِعِهَا، وَ أيّامِ الجَاهِلِيَّةِ، وَ الأشْعَارِ العَرَبِيَّةِ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: ذَاكَ عِلْمٌ لَا يَضُرُّ مَنْ
جَهِلَهُ، وَ لَا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: إنَّمَا العِلْمُ ثَلَاثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، أوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ؛ وَ مَا خَلَاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ"۱.
و روي هذا الحديث الشريف المرحوم المحدّث الجليل الفيض الكاشانيّ في «المحجّة البيضاء»٢، كما رواه المجلسيّ رحمة الله عليه في «بحار الأنوار»٣ عن كتب أربعة، هي «الأمالي» للصدوق، و «معاني الأخبار» و «السرائر» و «غوالي اللئالي». و أورد شرحاً حوله (على نفس النهج الذي في «مرآة العقول»). و نتعرّض الآن لبيان شرحه في «مرآة العقول».
كما أورد هذا الحديث الغزّاليّ في «إحياء العلوم»٤.
و مع أنَّ المجلسيّ قد عدّ في «مرآة العقول»٥ هذا الحديث من الأحاديث الضعاف، لكنَّ الحديث معتبر و مقبول، لأنَّ جميع الأجلّاء قد ذكروه في كتبهم، و متنه معتبر إذ يحمل مضموناً تؤيّده الآيات القرآنيّة و الأحاديث الاخرى. و من الجهات الجابرة للروايات الضعاف- كما قد بيّنا سابقاً- الشهرة العمليّة، و الشهرة الفتوائيّة. و بناء عليه، تكون الرواية معتبرة، و تقع محلّا للقبول.
من الجهات الجابرة: الاعتبارُ. هو أن يكون متن الحديث مؤيّداً بقرائن كثيرة من الآيات أو الروايات. فتسمّي الرواية في هذه الحال بـ:
المعتبرة؛ أي أنَّ متنها و مضمونها معتبرٌ.
و متن هذا الحديث الشريف من هذا القبيل، لأنَّ المطالب التي ذكرت في الروايات الاخرى، و إن لم تكن بشكل يحصر العلم في هذه الموضوعات الثلاثة، و لكنَّ ما يستفاد من الروايات الكثيرة التي نقلها المحدّثون في أبواب العقل و العلم عن النبيّ و الأئمّة عليهم السلام لا تتجاوز هذه الامور الثلاثة. فمضمون هذه الرواية هو نفس مضامين تلك الروايات الكثيرة المتفرّقة. و عليه، فلا مجال للإشكال في السند و هو قابل للقبول.
و للمرحوم المجلسيّ في شرح كلام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بيانٌ، و كذا المحقّق الفيض فله بيانٌ آخر، و للمحدّث الميرداماد بيان ثالث أيضاً.
يقول المجلسيّ في «مرآة العقول»۱ في شرح هذا الحديث: قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَا هَذَا؟ و لم يقل: مَنْ هَذَا؟ [مع أنّه كان يجب أن يقول: مَنْ هَذَا؟ إذ إنَّ السؤال عن هويّة عاقل لا عن هويّة غير عاقل، و لفظ «مَا» يستعمل لغير العاقل، بينما لفظ «مَنْ» يستعمل للعاقل. أي كان يجب أن يقول: أيّ شخص هذا؟ لا أن يقول أيّ شيء هذا؟] تحقيراً أو إهانة و تأديباً ... إنَّما هو لكي يُفهم أنَّ إطلاقهم لفظ العلّامة على هذا الشخص و استعماله هنا غلط، فكانت هذه علّة اخرى لتحقيره و إهانته و تأديبه.
فيريد الرسول صلّى الله عليه و آله أن يقول: إنَّ هذا العلم في حكم اللاعلم. و هذا الشخص المتّصف بهذا العلم ساقط عن درجة العقل و العلم. و لذا، لا ينبغي أن يُخَاطَب كذوي العقول. و قد بُحِثَت هذه المسألة في علم
البيان بشكل مفصّل.
ثمّ قال: قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «و ما العلّامة؟» فمراده السؤال عن حقيقة علمه الذي اتّصف بواسطته بالعلّامة، و أيّ نوع من أنواع العلّامة هو؟ و علي أساس أيّ علم كان تنوّعه؟ و أيّ معني من معاني العلّامة الذي تقولونه حتّى سمّيتم ذلك الشخص به؟
و يبيّن المرحوم المجلسيّ المطلب إلى هنا، ثمّ ينحي إلى التحقيق في معني هذه الامور الثلاثة التي حصر رسول الله صلّى الله عليه و آله العلم فيها. و بعد أن يذكر عدّة احتمالات في المسألة يقول: المراد بالآية المحكمة البراهين العقليّة على اصول الدين التي قد استنبطت من القرآن، لأنّها محكمة و لا تزول مع الشكوك و الشبهات. و المراد من الفريضة: أحكام الواجبات. و المراد من السنّة: أحكام المستحبّات، لأنّها تؤخذ من القرآن و من غير القرآن.
و ذلك لأنَّ المحكم في مقابل المتشابه، و الآية المحكمة تطلق على الآية التي لا يحتاج في دلالتها على المراد إلى التأمّل. و العقائد و الاصول التي تكون كذلك لها أحكام و استحكام، و أمّا السبب في أنّه قد وصف الفريضة- أي الواجبـ بصفة «العادلة» فهو أنّها قد اخذت من الكتاب و السنّة بنحو مساوٍ من دون جورٍ و حيف و ميل إلى الخلاف.
ثمّ ينقل المرحوم المجلسيّ قدّس سرّه عن ابن الأثير في «النهاية» أنّه يقول: المراد من العدل في عبارة «فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» العدالة في القسمة، أي الحقوق الواجبة التي تؤدّي على السهام المذكورة الواردة في الكتاب و السنّة بعدالة و من دون جور و ظلم؛ أي أنَّها مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الكِتابِ وَ السُّنَّةِ فَتَكونُ هَذِهِ الفَريضَةُ تَعْدِلُ بِما اخِذَ عَنْهُما.
و يقول المحقّق الفيض في شرح هذا الحديث في كتابه الشريف
«الوافي»:۱ العلّامة بمعني كثير العلم، و تاؤه للمبالغة، و قد نبّه رسول الله صلّى الله عليه و آله بعبارة: "لَا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ" على أنَّ ذلك العلم ليس علماً في الحقيقة، لأنَّ العلم الحقيقيّ هو الذي يضرّ الجهل به بمعاد الإنسان و ينفع العلم به في يَوْم التَّناد. لا ذلك الذي يرتضيه العوامّ و يجعل شِباكاً لاصطياد حطام الدنيا. ثمّ يبيّن رسول الله صلّى الله عليه و آله العلمَ النافع الذي قد رغّب و حرّض الشرع على نيله، و يحصره في ثلاثة أشياء:
آية محكمة، إشارة إلى اصول العقائد، لأنَّ براهينها آيات محكمات مأخوذة من العالِم أو القرآن؛ و يقول تعالي في القرآن الكريم في كثير من الموارد التي يورد فيها ذكراً عن المبدأ و المعاد: إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أو لآيَةً.
و فريضة عادلة، إشارة إلى علم الأخلاق، لأنَّ محاسن الأخلاق من جنود العقل، و مساوئ الأخلاق من جنود الجهل. و بما أنَّ التحلّي بالاولى و التخلّي من الثانية واجب، فقد عُبِّر عنها بالفريضة. و أمّا التعبير عنها بصفة العدالة، فلكونها واسطة بين طرفي الإفراط و التفريط.
و سنّة قائمة، إشارة إلى أحكام الشريعة و مسائل الحلال و الحرام.
و انحصار العلوم الدينيّة في هذه الامور الثلاثة معلوم، و هي ذات الامور الثلاثة التي بُيِّنت في كتاب «الوافي». و هي مطابقة للنشآت الثلاث للإنسان: الاولي لعقله، و الثانية لنفسه، و الثالثة لبدنه؛ بل لعوالم وجوده الثلاثة التي هي: عالم العقل و الخيال و الحسّ.
و أمّا قوله صلّى الله عليه و آله أنَّ ما خلاهنّ فهو فضل: أي زائد و لا حاجة إليه، أو فضيلةٌ لكنّها ليست بتلك الدرجة.
و يقول الميرداماد قَدَّس الله سرَّه۱: العلم بالآية المحكمة علم نظريّ، و هي معرفة الله و الأنبياء و حقيقة الأمر في البدء و العود، و هذا هو الفقه الأكبر. و العلم بالفريضة العادلة علم شرعيّ و فيه معرفة الشرائع و السنن و القواعد و الأحكام في الحلال و الحرام، و هذا هو الفقه الأصغر.
و العلم بالسنّة القائمة علم تهذيب الأخلاق و تكميل آداب السفر إلى الله، و السير و السلوك إليه، و معرفة المنازل و المقامات، و النظر بِما فيها مِنَ المُهْلِكاتِ وَ المُنْجيات. إلى هنا تنتهي هذه المطالب عن المرحوم الميرداماد.
مرجع التفاسير المختلفة لهذا الحديث إلى أمر واحد ..
و مجمل ما نحصل عليه من مجموع هذه المطالب هو: أنَّ هؤلاء الأجلّة الثلاثة (المرحوم المجلسيّ و المرحوم الفيض و المرحوم الميرداماد) يريدون بيان مطلب واحد، أي أنّهم يريدون أن يقولوا إنَّ العلم النافع و العلم الحقيقيّ لا يخرج عن مجموع العلوم الشرعيّة و الدينيّة التي تؤدّي إلى كمال الإنسان (من العقائد و الأخلاق و العبادات و المعاملات و القوانين و التكاليف الشرعيّة).
فيعتبر المرحوم المجلسيّ قدّس سرّه الآية المحكمة عبارة عن العلم بالتوحيد و المعارف الإلهيّة و صفات الله، و هو بالتقريب نفس المعني الذي طرحه المحقّق الفيض و السيّد الداماد للآية المحكمة.
و علي هذا، فلا خلاف بينهم في تفسير الآية المحكمة. و أمّا في الفريضة العادلة و السنّة القائمة، فيقول المرحوم المجلسيّ: الفريضة العادلة هي العلم بالواجبات، الأعمّ من الواجبات الفقهيّة و العمليّة المدوّنة في الرسائل العمليّة. و السنّة القائمة هي المستحبّات، أعمّ من أن تكون
مستحبّات أخلاقيّة أو تكاليف مستحبّة.
بينما يعتبر المرحوم الفيض قدّس سرّه أنَّ العلم بالفريضة العادلة هو علم الأخلاق الذي يجب أن يكون بعيداً عن الإفراط و التفريط، و الذي يورث للإنسان- في كلّ حال- الملكة العادلة التي هي الحدّ الأوسط. و بما أنّه أدني من علم التوحيد بدرجة، فقد عدّه من الدرجة الثانية. و اعتبر العلم بالسنّة القائمة العلم بالأحكام الظاهريّة التي هي أعمّ من الواجبات و المستحبّات، فَقد عمّم هنا. و لذلك فقد جعلها في المرحلة الثالثة. و هذه الامور الثلاثة تؤدّي إلى كمال الإنسان من ناحية العقل و ناحية النفس و ناحية البدن.
أمّا المحقّق الميرداماد قدّس سرّه فقد رأي الفريضة العادلة عبارة عن علم الفقه المتعارف الذي سمّاه بالفقه الأصغر، في مقابل الفقه الأكبر الذي هو الآية المحكمة. و اعتبر السنّة القائمة هي علم الأخلاق. و بناء على هذا، فليس هناك أيّ تفاوت من حيث المجموع في استفادة هؤلاء الأجلّة من هذه الرواية. فكلّ منهم قد طبّق هذه العبارة من جهة على ذلك المعني الأصليّ الذي في ذهنه الشريف و وجّهها على هذا الأساس.
و حاصل مطالبهم هو: أنَّ العلم ينحصر في علم العرفان الإلهيّ و توحيد ذات الله و العلوم التي يتضمّنها علم الحكمة العالية و الدروس العقليّة، و هذه هي الدرجة الاولي من العلم؛ و يأتي بعدها علم الأخلاق الذي يصير الإنسان بموجبه من أصحاب اليقين و متخلّقاً بصفات الأولياء و الأجلّاء. بينما يأتي في المرحلة الثالثة فقه الجوارح الذي هو مقدّمة لعلم الأخلاق، و الأخلاق مقدّمة للكمال. و لذا، فهذه المعاني غير قابلة للإنكار مطلقاً. و لدينا شواهد كثيرة من الآيات و الروايات على انحصار العلم في هذه العلوم الثلاثة. يقول الله تعالي:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}۱.
أي أنَّ جميع السماوات السبع و الأرضين السبع و نزول الأمر بينهنّ مقدّمة لعلمكم، و لكي تعلموا أنَّ الله قادر على كلّ شيء و أنَّ علمه محيط بكلّ شيء. فجميع نظام الخلقة هذا مقدّمة للعلم.
و يقول أمير المؤمنين عليه السلام:"وَ وَقَفُوا أسْمَاعَهُمْ عَلَى العِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ"٢. و في رواية: "اطْلُبُوا العِلْمَ وَ لَوْ بِالصِّينِ"٣.
و جاء في «مصباح الشريعة»: "قَالَ عَلِيٌّ عَلَيهِ السَّلَامُ: اطْلُبُوا العِلْمَ وَ لَوْ بِالصِّينِ. وَ هُوَ عِلْمُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ وَ فِيهِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ عَزَّ وَ جَلَ"٤.
كما أورد استاذنا الأكرم آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه تسع عشرة رواية في هذا المعني عن «الغرر و الدرر» للآمديّ عن أمير المؤمنين عليه السلام٥.
وَ قَدْ اتَّفَقَ العُلَماءُ: أنَّ شَرَفَ كُلِّ عِلْمٍ بِشَرَفِ المَعْلومِ، وَ كُلُّ عِلْمٍ
يَكونُ مَعْلومُهُ أشْرَفَ المَعْلوماتِ يَكونُ ذَلِكَ العِلْمُ أشْرَفَ العُلومِ؛ فَأشْرَفُ العُلومِ العِلْمُ الإلَهيُّ، لأنَّ مَعْلومَهُ اللهُ تَبارَكَ وَ تَعالَى، وَ هُوَ أشْرَفُ المَعْلومات.
و الشواهد المذكورة هي اعتبارات عقليّة و روائيّة و قرآنيّة ذكرت لأجل تأييد مضمون هذا الحديث الشريف. فالحديث إذَن متقن من ناحية الاعتبار و المفاد.
مع انحصار العلم في العلوم الثلاثة فالمراد من الاعلميّة واضحاً
و عند ما ينحصر العلم في نظر الشرع في هذه الامور الثلاثة نستطيع من خلال ذلك أن نعرف الأعلم، و مَن سيكون الأعلم في هذه الامور الثلاثة.
فلو جري مثلًا حديث في كلّيّة الطبّ عن الأعلم. فمن المعلوم أنَّ المراد هو الأعلم من الأطبّاء، لا الأعلم في أيّ علم أو فنّ آخر. و عند ما ينحصر أصل العلم في نظر مذاق الشارع في العلوم و المعارف الإلهيّة و علم تهذيب الأخلاق و السير و السلوك إلى الله و علم الفقه، و المعرفة بسنّة رسول الله و الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، يتّضح أيضاً أنَّ الأعلميّة يُبحث عنها في بحث ولاية الفقيه و المرجعيّة في الفتوى، هي الأعلميّة في هذه العلوم.
فيجب أن يكون الأعلم مَن قد اكتمل سيره إلى الله و طوي المنازل الأربعة، و وصل بعد الفناء في الله إلى البقاء في الله و صار إنساناً كاملًا. حيث بإمكان شخص كهذا أن يتكفّل هذه السِّمة، و إلّا لم يكن بمقدوره التصدّي لذلك.
و لإثبات هذه المطالب ثمّة ثلاثة أدلّة من الروايات (على ضوء تفحّصنا إلى الآن) و لا يستبعد أن نحصل على أدلّة اخرى مشابهة.
رواية: الفَقِيهِ حَقَّ الفَقِيهِ، مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ الله ...
الدليل الأوّل: الرواية التي يرويها الكلينيّ بسند صحيح، عن عِدَّة
مِن أصحابنا، عن أحمد بن محمّد البرقيّ، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القَمَّاط، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله [الصادق] عليه السلام قال:
"قَالَ أمِيرُ المؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلَامُ: أ لَا اخْبِرُكُمْ بِالفَقِيهِ حَقَّ الفَقِيهِ؟! مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَ لَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ، وَ لَمْ يَتْرُكِ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. ألَا لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ؛ ألَا لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ؛ ألَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ!
و في رِوايَةٍ اخْرَى: ألَا لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ؛ ألَا لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ؛ ألَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا فِقْهَ فِيهَا؛ ألَا لَا خَيْرَ فِي نُسُكٍ لَا وَرَعَ فِيهِ"۱.
و يروي هذه الرواية أبو نعيم الأصفهانيّ بسند آخر متّصلٍ إلى عاصم بن ضَمرَة، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:
"ألَا إنَّ الفَقِيهَ كُلَّ الفَقِيهِ الَّذِي لَا يُقَنِّطُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ وَ لَا يؤْمِنُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ؛ وَ لَا يُرَخِّصُ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ؛ وَ لَا يَدَعُ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ! وَ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا؛ وَ لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا فَهْمَ فِيهِ؛ وَ لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيها"٢.
مفاد الحديث هو: أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: أ لا اخبركم عن الفقيه حقّ الفقيه؟ هو ذلك الشخص الذي أدّى حقّ الفقاهة، و وصل
إلى روح الفقاهة؛ فالذي ينطبق عليه عنوان الفقه بالحمل الشائع الصناعيّ، و يجب أن يقال له فقيه (أي ذلك الشخص الفقيه و الكامل في الفقاهة، أيّ فقيه هو؟) هو ما يكون بالأوصاف المذكورة.
و توضّح لنا هذه الرواية مطالب كثيرة؛ و قد حصر الإمام عليه السلام الفقيه الحقيقيّ بمن امتاز بأربع صفات: الاولى: لا يقنِّط الناس من رحمة الله، الثانية: لا يؤمنهم من عذاب الله، الثالثة: لا يرخّص لهم في معاصي الله، الرابعة: لا يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره.
و المقصود من: مَنْ لَم يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَ لَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، الذي يحفظ الناس بين الخوف و الرجاء؛ لأنّه إذا اهتمّ بأحد جانبي الخوف أو الرجاء أكثر، فمن الطبيعيّ أنَّ الناس سيميلون إلى ذلك الجانب، أمّا إلى الخوف أو إلى الرجاء.
أمّا الذي وصل إلى الكمال فيجب أن يكون حال خوفه مساوياً لحال رجائه، و أن يوجّه الناس على هذا الأساس.
أي خلاصة الأمر، يجب أن يكون ذلك الشخص ممسكاً بزمام نفوس الناس بيده، و أن يكون له إحاطة و سيطرة على النفوس، و يستطيع أن يربّي الناس تربية نفسانيّة و يحفظهم بين الخوف و الرجاء. فلا يمنحهم الرجاء إلى ذلك الحدّ الذي يقعون فيه بالمعصية و يلقون أنفسهم بالهلكة لشدّة الرجاء، و الذي هو بالطبع رجاء كاذب؛ و لا يخوّفهم من عذاب الله إلى ذلك الحدّ الذي يفرّون به من شدّة الخوف و الخشية إلى الصحاري و الجبال و يبتعدون عن المجتمع، حتّى يروا الله موجوداً و غريباً و بعيداً عن عالم المجتمع، كمن يكمن في انتظار صيد العصافير باستمرار، فيشبّه الله بتلك الحالة، يأخذ الناس و يلقيهم في جهنّم! إنَّ عمل الإنسان (عمل الخير و الشرّ، كليهما) هو لنفس الإنسان، و علي هذه النفس أن
تصل إلى مقام تكاملها بين هاتين الصفتين، لكي تطهر من جميع الرذائل و تتحلّى بصفات الجمال و تقع في حرم الله.
و هذه الحالة بين الخوف و الرجاء، هي التي عمل بها الأئمّة عليهم السلام؛ ففي الوقت الذي لم يتركوا العبادات حتّى آخر ساعات حياتهم، مع كونهم أفضل العاملين بأوامر الله، فإنَّهم لم يجنحوا إلى الذنب، و لم يرتكبوا أيّ معصية و مخالفة.
و الخلاصة: الفَقِيهُ حَقَّ الفَقِيهِ، مَن تكون نفوس الناس بيده بهذا النحو، و لا يحصل هذا من دون إنسان كامل. فما لم يصل الإنسان إلى مقام الكمال الروحيّ و الكمال العرفانيّ فلا يمكنه أن يدرك هذا المعني أصلًا؛ و لذا فمن الممكن أن يسمح للناس و يقول لهم: ارتكبوا المخالفة الفلانيّة، لأنَّ مقتضيات الزمان و المكان الآن لا تسمح مثلًا أن ننفّذ أمر الله الفلانيّ أو سنّة الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم! أو لأنّنا لا نستطيع القيام بذلك! لكنَّ الثابت هو كون أيّة معصية في القرآن أو السنّة معصية للّه، و هي ليست قابلة للتخصيص، كما أنّها ليست بيد الفقيه لكي يستطيع أن يُحدِث فيها تغييراً بواسطة قوّته الولايتيّة.
أمّا جملة: "وَ لَمْ يَتْرُكِ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ"، أي أنَّ الفقيه لا يستطيع أن يترك القرآن و يرجع إلى سواه، فجميع العلوم هي لأجل القرآن و مقدّمة له. فجميع علوم التفسير و الحديث و الأخلاق لأجل القرآن، إلى أن تصل إلى علم الفقه المصطلح، الذي هو أدون العلوم، و هو أيضاً مقدّمة لعلم الأخلاق، و علم الأخلاق لأجل التزكية و التحلّي و التي هي أيضاً مقدّمة للعرفان الإلهيّ. فجميع ذلك لأجل القرآن.
و بناء على هذا، فيجب أن يكون الفقيه مأنوساً بالقرآن على الدوام، و مستمرّاً في قراءته و التعاطي معه و تلاوته في {آناءِ اللَّيْلِ}. و {النَّهارِ}؛ و تحصيل
شأن نزوله و حالات النبيّ حال نزوله، و أن يكون مطّلعاً على مفاد آيات القرآن و مصادر تفسيرها، و تأويلات آياته المؤوّلة، و الناسخ و المنسوخ، و المطلق و المقيّد فيه. و باختصار: يجب أن يكون عارفاً بالقرآن من جميع الجهات، إذ إنَّ القرآن هو المبدأ و الأصل للعلوم الإسلاميّة.
فمن يترك القرآن و يتّجه نحو العلوم الاخرى، كأن يقرأ القرآن أقلّ من قراءته كتاب الأدعية، فإنَّه قد ترك القرآن، و من يقرأ القرآن قليلًا بينما يطالع كتب الحديث أو بعض العلوم الاخرى بنحو يصير فيه القرآن مهجوراً، فليس هو فقيه حقّ الفقيه؛ و لا هو ممّن قد وصل إلى روح الفقه و لا مسه.
حريّ بالشيعة مع وجود حديث اقتران الثَّقَلَينِ الاهتمام بالقرآن أكثر.
و حقّاً علينا كشيعة أن نبدي خجلنا و تأسّفنا هنا، و أن نعترف بأنّنا لم نؤدِّ حقّ القرآن.
فقد تقدّمنا في مسألة الولاية بشكل جيّد، لكنّنا تركنا القرآن؛ بينما أخذ أهل السنّة القرآن و تركوا الولاية. و لذا، خرجت كلتا الفرقتين بأيدٍ خالية! و ذلك لقول النبيّ: هُمَا مُقْتَرِنَانِ، لا ينفصل أحدهما عن الآخر. فإذا تركنا أحدهما و أخذنا الآخر فإنَّا نستكشف «إنَّا» بالملازمة، بأنّنا: قد فقدنا الآخر أيضاً.
و لقد تفضّل استاذنا الآية الإلهيّة العظمى العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه بعبارة جليلة، إذ قال يوماً: أنتم الشيعة تركتم القرآن و تمسّكتم بالولاية، بينما العامّة على العكس من ذلك، قد أخذوا القرآن و تركوا الولاية، فكانت النتيجة أن فقدنا كلا الأمرين.
فيجب أن نعترف كشيعة: بأنّنا غير مطّلعين على القرآن؛ فأبناؤنا لا يعرفون القرآن، مع أنَّ الطفل يحفظ القرآن بسرعة. و يجب أن يكون أبناؤنا حافظين للقرآن عند ما يبلغون الخامسة عشر من العمر، فنحن
لا نهتمّ بعلوم القرآن!
عند ما دخلت النجف، كان أحد الأعاظم يقوم بتفسير القرآن في ليالي الخميس و الجمعة، لكنَّ ذلك الأمر توقّف دون أن يستمرّ أكثر من سنة. و كان يخطئ في قراءة بعض الآيات عند ما كان يفسّر القرآن من على المنبر!
تأسّف المؤلِّف من كلام أحد علماء النجف حول تدريس العلوم القرآنيّة
و ذات يوم، جاء إلى منزلنا أحد أعاظم النجف- و قد توفّي رحمة الله عليه، و كان في تلك الفترة من مراجع الدرجة الثانية بنحو لو بقي لكان أحد المراجع بكلّ تأكيد- لرؤية أحد السادة القادمين من طهران و الذي كان قد حلّ ضيفاً عندنا، و في أثناء الحديث، قال ذلك السيّد القادم من طهران: من المستحسن لو يكون الاهتمام أكثر بالقرآن و تفسيره في هذه الحوزة، و يزداد وقت حصص دراسة القرآن للطلّاب.
فأجاب [ذلك الشخص] (و هذه عين عبارته): و لما ذا تعطّل الطلبة بهذه الامور! فالقرآن عبارة عن ثلاثة امور: المسائل التوحيديّة، و المسائل الأخلاقيّة، و المسائل العمليّة.
أمّا في المسائل التوحيديّة، مثل: هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ، اللهُ لا إلَهَ إلَّا هُوَ، فمن المعلوم أنَّ الله واحد، فكلّ عالم و جاهل و عامّي يعلم أنَّ الله واحد.
و أمّا في المسائل الأخلاقيّة، فهي ليست مسائل مهمّة جدّاً، و يمكن تحصيلها بشكل عامّ.
و أمّا في المسائل الفرعيّة، مثل الصلاة و الزكاة و أمثالهما، ففي القرآن مجملات عنها فقط، مثل: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ}؛ {آتُوا الزَّكاةَ}؛ {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}؛ فليس فيه شيء غير المجملات. و الشيء المهمّ هو تفصيله في الفقه، فلا يجوز أن نحثّ الطلّاب و نرغّبهم بالمسائل التي توجب
تعويقهم، فعند ما نعلّمهم الفقه أو الاصول فهذا يغنيهم عن كلّ شيء!
انتبهوا جيّداً إلى هذا المنطق و هذه المسألة! إنَّ هذا المنطق قد كسر ظهر النبيّ، لأنّه قد أدّى إلى اقتلاع حوزة النجف و خلوّها، و إلي تسليط الله سبحانه لهؤلاء الظالمين عليها لأجلّ تطهيرها، و لكي تحيا ثانية إن شاء الله و بإرادته تلك الحوزات الفتيّة المقترنة بالقرآن و التقوي و التطهير و الولاية، فتتألَّق ثانية و يظهر فيها هؤلاء الطلبة و تلك العلوم و العلماء الذين يتمنّاهم أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: "آهِ آهِ، شَوْقاً إلَى رُؤْيَتِهِمْ!"
و من البديهيّ أنّه عند ما يتدنّى المستوي الفكريّ في الحوزة و عالمها إلى درجة القول إنَّ القرآن كتاب زائد، و إنَّه لما ذا نشغل أنفسنا نحن الطلبة به؟! فمن المعلوم أنَّ هذا الفكر ليس له من مآل سوي الزوال. فنحن إذَن قد فقدنا القرآن، و يجب أن نتأسّف على ذلك الفقدان. و هو ما يؤسَفُ له حقّاً!
فالعالِم بالقرآن هو الذي يقول عنه أمير المؤمنين عليه السلام: "لَمْ يَتْرُكِ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ". غالباً ما يقتصر زوّار حرم الأئمّة على كتب الأدعية، و قد لا يقرءون القرآن على الإطلاق، و كانَّ وجوده هناك لأجل الاستخارة فقط! لِمَ لا نقرأ القرآن عقيب صلواتنا؟ و لما ذا لا نقرأ القرآن في الحرم بعد الزيارة الجامعة؟ بل لما ذا تُرِكَ القرآن؟ و لما ذا لا يملك طلّابنا الخبرة بالقرآن؟! عند ما لا يكون طلّابنا عارفين بالقرآن، فهل نتوقّع عندها أن يعرف القرآن عوامّ الناس؟
لم تكن طريقة كبار علمائنا مثل الشيخ المفيد و السيّد المرتضى و الشيخ الطوسيّ و العلّامة الحلّيّ و السيّد ابن طاوس و بحر العلوم و أمثالهم بهذا النحو، فلقد كانوا حماة للقرآن و حرّاسه، و كانوا من حفظته، و كانت أرواحهم مقترنة به. و قد كانت جميع مشاكلنا على عواتقهم. و قد قاموا بهذا
العبء و أرشدونا، و إلّا لما وصل إلينا ذلك و لما كان لدينا شيء من القرآن.
تشتمل مسألة القرآن على درجة كبيرة من الأهمّيّة، و يجب أن نعطي القرآن اهتماماً كبيراً.
و الخلاصة: أنَّ الفقيه حقّ الفقيه هم مَن: "لَمْ يَتْرُكِ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ".
الدليل الثاني: من الأدلّة التي تدلّ على لزوم الأعلميّة هو: أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في غزوة احد، و عند ما دُفن الشهيدان أو أكثر في قبر واحد، كان يقدّم أقْرَأُ القُرْآنِ مِنْ بَيْنِ الجَماعَة، و يجعله قبلة لعدّة أشخاص ثمّ يصلّي عليهم و يدفنهم. أي كان يجعل مَن كانت قراءته للقرآن أكثر و معرفته بالقرآن أكثر في المقدّمة حتّى في مقام الدفن.
يروي ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» أنّه: أمَرَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنْ يُدْفَنَ الاثْنَانِ وَ الثَّلَاثَةُ فِي القَبْرِ الوَاحِدِ، وَ أنْ يُقَدَّمَ إلَى القِبْلَةِ أكْثَرُهُمْ قُرْآناً وَ صَلَّى عَلَيْهِمْ۱.
يتحصّل من هذا: أنَّ مناط التقدّم هو القرآن. و ذلك الشخص الذي قد تجسّد القرآن في وجوده أكثر من غيره (كأن يكون حافظاً للقرآن، عارفاً بآياته، و بإمكانه الاستدلال به بشكل أفضل) فهو المقدّم؛ و هذا هو مناط الأعلميّة.
موارد التقدّم: الاعلميّة بالقرآن، السنّة، الهجرة، و من ثمّ الإسلام
الدليل الثالث: يروي العلّامة الأمينيّ في «الغدير» رواية صحيحة من طرق العامّة، أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: "يَؤُمُّ القَوْمَ أقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ. فإنْ كَانُوا فِي القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ؛ فَإنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأقْدَمُهُمْ هِجْرَةً؛ فَإنْ كَانُوا فِي الهِجْرَةِ سَوَاءً فَأقْدَمُهُمْ
سِلْماً"۱.
كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كلّما أرسل جيشاً إلى ناحية من النواحي أو جمع جماعة ما (في مكان أو محلّة) يأمر أن يكون إمامهم ذلك الذي علمه بالقرآن أكثر. أي لو أراد عدد من الناس أداء الصلاة جماعة و كان بينهم عدّة علماء، فالذي يجب أن يكون إمام الجماعة هو العارف بالقرآن أكثر، لا العارف بالحديث أكثر. و إذا كان هناك شخصان أو ثلاثة متساوين في القرآن فيصل الدور إلى السنّة، فمن كان أعرف بسنّة النبيّ و حديثه هو المقدّم. فعندئذٍ، تكون السنّة مرجّحاً في الدرجة الثانية.
فنحصل على: إذا كان هناك شخصان أحدهما أعلم بالقرآن دون السنّة، و الآخر أعلم بالسنّة دون القرآن، فحقّ التقدّم للأعلم بالقرآن.
و إذا كانوا متساوين في السنّة يقدّم "أقْدَمُهُمْ هِجْرَةً"، أي الذي هاجر إلى دار الإسلام أوّلًا، حتّى لو كان إسلامه متأخّراً، لأنَّ الخروج من تحت لواء الكفر و الدخول في لواء الإسلام أمر واجب.
فالدخول تحت لواء الإسلام في زمان حكومة الإسلام، و المجيء إلى دار الإسلام من جميع أنحاء العالم بعد تشكيل حكومة الإسلام، أمر واجب و لا يجوز لأحد من المسلمين الذين يعيشون الآن في أنحاء العالم أن يبقوا هناك دقيقة واحدة مع وجود حكومة الإسلام، سواء كان ذلك المكان الذي يعيشون فيه وطنهم أم محلّ إقامتهم، أم كان ذهابهم إلى هناك لأجل
التحصيل أو أمثال ذلك، فلا يجوز لهم البقاء، إلّا إذا كان ذهابهم إلى هناك وفق مصلحة ما و بإذن من حاكم الشرع. أو كان تحصيلهم ضروريّاً، أو أنّهم ذهبوا لأجل معالجة ضروريّة، و يكون ذلك بإجازة الحاكم أيضاً. و إلّا، فإن لم يكن بإجازة الحاكم فهم كمن يعيش في جهنّم و بقاؤهم معصية كبيرة.
فالتوطّن و العيش تحت لواء الكفر خطأ، سواء كان بنحو التجسّس أم الإقامة و السكنى المؤقّتة؛ و الهجرة من الامور الواجبة. فعلي هذا، إذا كان هناك شخصان متساويان في العلم بالسنّة، فإمام الجماعة من بينهم مَن كان أسبق هجرة إلى دار الإسلام، لا ذلك الشخص الذي كان أسبق في إسلامه و لكنّه تأخّر في هجرته. و أمّا إذا كانا متساويين في الهجرة فـ "أقْدَمُهُم سِلْماً"؛ أي يقدّم أقدّمهم إسلاماً.
هذا هو مناط الأعلميّة و الأفضليّة و الأشرفيّة بنظر سنّة رسول الله في باب ولاية الفقيه. و هذا ما يمكن أن نستفيده من هذه الرواية أيضاً.
هذه المسائل دقيقة جدّاً، و يجب التأمّل فيها، لكي يفيض الله تعالي على الإنسان مطالب اخرى ليتمكّن من إدراك معانٍ أعلى و مرام أسمي.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد