3

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج3

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج3 13444
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسم الفقه والأصول

المجموعة ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام

مجلدات الكتاب (4 مجلدات)

التوضيح

تتحدّث هذه المجموعة حول ولاية الفقيه في حكومة الإسلام، وقد جرى بيانه بعد طبع كتاب (وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام) حيث جُمعت ونظمت من قبل اثنين من الفضلاء في مجلّدات أربعة تضم 48 درساً.
وقد جرى في هذه المجموعة البحث والتحقيق في مطالب من قبيل: دلائل ولاية الفقيه وشرائطها وموانعها، حقيقة ولاية الإمام والفقيه العادل الجامع للشرائط وحدودها وثغراتها، وأسلوب الحكم في الإسلام وواجب الناس تجاهه، وذلك بالاستفادة من الآيات القرآنية والروايات والأبحاث الفقهيّة والعلميّة والشواهد التأريخية والاجتماعية.

/۲٦۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

1

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

2
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ الخَامِسُ وَ العِشْرُون: لا تَحِلُّ الفُتْيَا لِمَنْ لا يَسْتَفِتي مِنَ اللهِ بِصَفَاءِ سِرِّهِ و البحث حول «مصباح الشريعة»

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

4
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • وردت كلمة «الفقه» في الروايات بمعني الفقه باصول المسائل الدينيّة؛ فالفقيه هو ذلك الشخص العارف بالدين و القرآن، البصير بالمعارف الإلهيّة، المطّلع على سيرة رسول الله و منهاج الأئمّة عليهم السلام، و لا ينحصر الفقه بالعلم في المسائل الفرعيّة. فنحن إذَن لا نستطيع حمل لفظ «الفقه» أو «الفقيه» الوارد في الروايات على هذا المصطلح الحادث.

  • و المراد من «الفقه» 

  • لغةً هو الفهم، و يُطلق لفظ «الفقيه» في مصطلح الروايات على الشخص العالم بالمسائل الدينيّة، الأعمّ من المسائل الاعتقاديّة لُاصول الدين و المعارف الإلهيّة و المسائل الأخلاقيّة و المسائل الشرعيّة المتعلّقة بأعمال المكلّفين، و هو لا ينحصر بالعلم بالمسائل الشرعيّة الفرعيّة. فما ذكره الفقهاء رضوان الله عليهم إذاً من قولهم بأنَّ الفِقْه: هُوَ العِلْمُ بِالمَسائِلِ الشَّرْعِيَّةِ عَن أدِلَّتِها التَّفْصِيلِيَّة، هو مصطلح‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

5
  • حادث، و لا يمكن حصر الفقه المصطلح في الروايات في حدود هذا المعني الحادث.

  • رواية: اطْلُبُوا العِلْمَ وَ لَو بِالصينِ، و علم معرفة النفس‌

  • إنَّ كمال الإنسان في دين الإسلام بكمال العلم وفقاً لآيات القرآن و الروايات، بل لإجماع [روايات‌] الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، العلم بالامور التي تمنح روح الإنسان الكمال و ترتقي به من مستوي البهيميّة إلى ذروة الإنسانيّة. و قد ذكرنا بأنَّ العلم ينحصر في موارد ثلاثة هي: المعارف الإلهيّة، و الأخلاق، و الفقه الأصغر؛ و أمّا سائر العلوم الاخرى كالطبّ و الفيزياء و الكيمياء و الجغرافيا و الأحياء، و بشكل عامّ جميع العلوم الطبيعيّة و الرياضيّة و الاجتماعيّة و أمثال ذلك، فهي لا تحقّق الكمال الإنسانيّ، و شرفها ليس بذاتيّ و أصيل، بل هو على نحو المقدّميّة.

  • و لا بدّ من توفّر جميع هذه العلوم في المجتمع الإسلاميّ بالشكل الأكمل، و على أصحابها أن لا يكتفوا بها، و لا يحسبوها علماً غائيّاً و كمالًا نهائيّاً لهم، بل عليهم أن يتعاملوا معها كعلوم آليّة مقدّمة لغيرها، و يسعوا بقدم ثابتة في العلوم الإلهيّة و القرآنيّة، باتّجاه كمالهم المطلوب و الغائيّ. و على هذا؛ فالحاجة إلى هذه العلوم التي هي علوم مادّيّة، حاجة ضروريّة باعتبارها، مقدّمةً لحياة الإنسان، لا لكونها تمتلك شرافة ذاتيّة.

  • و من المسلّم به أنّنا نحتاج في حياتنا اليوميّة إلى التنفّس و الطعام و المسكن، فجميع هذه الامور من المستلزمات الضروريّة للحياة، لكنّنا لا نستطيع أن نحسب هذا كمالًا لنا. فهناك فرق بين الأمر الذي يحقّق الكمال للإنسان و بين الأمر الذي يحتاج إليه في حياته؛ فلو عاش الإنسان مائة عام براحة بال و حيويّة و سالماً من كلّ مرض خلال هذه المدّة، و من ثمّ رحل عن هذه الدنيا، فلا يرتقي بأحسن حالاته من أن يكون شبيهاً بحال أسد أو نمر قد عاش في جبل متمتّعاً بالصحّة الجيّدة، ثمّ يدركه الموت‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

6
  • أخيراً. و لربّما كان ذلك الحيوان أكثر تفوّقاً منه. فليست هكذا امور مدعاة للكمال، و ما يحقّق للإنسان الكمال هو الإنسانيّة؛ و إنسانيّة الإنسان بعلمه و درايته و عرفانه، فإن تحقّق ذلك فثمّة إنسانيّة، و إلّا فلا.

  • و من هنا يتحصّل عدم صحّة تفسير بعض المشاهير حيث قال في ضمن كلامه عند ما ذهب إليه جماعة في الزمان السابق: «على الإنسان أن يسعى نحو العلم، و إنَّ معني الرواية الواردة عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم: اطْلُبُوا العِلْمَ وَ لَو بِالصينِ‌ هو: اسعوا نحو الفنون و الصنائع حتّى لو كانت في الصين، لأنَّ الصين كانت في ذلك الوقت مركز الصناعة و الاختراعات، و خصوصاً اختراع الأواني الخزفيّة التي كان يُؤتي بها من هناك؛ فأراد النبيّ صلّى الله عليه و آله أن يبيّن: أنَّ على الإنسان أن يتحمّل مشاقّ السفر لأجل طلب العلم حتّى و لو كان في الصين، إذ كانت الصين آنذاك من أبعد الأماكن المتصوّرة للمدينة المنوّرة، فالمعني: اسعوا لطلب العلوم الطبيعيّة و لو كان ذلك في الصين، سافروا إلى هناك و اكتسبوا العلوم و ائتوا بها إلى هنا!» فهذا التفسير للحديث الشريف غير صحيح، و لا ينطبق- بحسب الاصول- على مذاق الإسلام و مذاق الروايات الواردة حول العلم.

  • فلدينا روايات كثيرة عن أمير المؤمنين عليه السلام نقلها الآمديّ في «الغرر و الدرر» كما نقل العلّامة الطباطبائيّ في «الميزان» بالمناسبة في البحث الروائيّ أنّه قد وردت روايات كثيرة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: إنَّ معرفة النفس أفضل العلوم.۱

    1. «الميزان» ج ٦، ص ۱۸٢، طبعة الآخونديّ. و يبلغ عدد الروايات المنقولة عن« الغرر و الدرر» اثنا و عشرون رواية؛ و لو تفحّص الإنسان في هذا الكتاب الشريف بشكل كاف لعثر على تعابير مختلفة اخرى حول أهمّيّة النفس.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

7
  • و يستفاد من الرواية المرويّة في «مصباح الشريعة» عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّ المراد من‌ اطْلُبُوا العِلْمَ وَ لَو بِالصينِ، علم‌ مَعْرِفَة النَّفْسِ‌ ۱. و بما أنَّ الصين كانت في ذلك الزمان منطقة بعيدة جدّاً، و كان السفر إليها شاقّاً جدّاً، فمعني الحديث الشريف: أنَّ على الإنسان إذا أراد السعي نحو معرفة النفس أن يتحمّل المشاقّ و الصعوبات، فالأمر يستحقّ الطلب و تحمّل عناء السفر إلى مسافة بعيدة مثلًا. هذه هي حقيقة الفقه و العلم.

  • يجب أن يكون المرجع في الفتوى أعلم الامّة

  • كان بحثنا حول أعلميّة الفقيه و ما يجب أن يتمتّع به من شروط؛ و قد بيّنا: وجوب كون الفقيه أعلم. و على هذا، فمقبولة عمر بن حنظلة- و التي استفدنا منها الولاية أيضاً-: انْظُرُوا إلَى مَنْ كَانَ مِنكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، وَ نَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا، وَ عَرَفَ أحْكَامَنَا، فَارْتَضوا بِهِ حَكَمَاً، فَإنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً، و إن كانت مطلقة لكنَّ الواجب يقتضي أن نقيّد إطلاقها بالأعلم. فإن قال قائل: إنَّنا نعمل بإطلاقها، لأنَ‌ «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا» مطلق، فالجواب: أنَّ هذا الكلام ليس أكثر من مطلق، و قد وردت في مقابله مقيّدات و مخصّصات، و لا مجال للتردّد في لزوم تخصيص هذا الإطلاق مع تلك المخصّصات المُتقنة؛ و وفقاً للأدلّة التي بيّناها، فإنَّ مصدر الفتوى العامّة و الولاية العامّة يختصّ بالفقيه الأعلم.

  • ۱- ورد في «مصباح الشريعة» تحقيق و مقدّمة العالم الجليل الحاجّ الشيخ حسن المصطفويّ رحمة الله عليه ص ٤۱، باب ٦٢، طبعة سنة ۱٣۷٩ ه-: وَ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيهِ السَّلَامُ: اطْلُبُوا العِلْمَ وَ لَو بِالصينِ. وَ هُوَ عِلْمُ مَعْرِفَة النَّفْسِ، وَ فِيهِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ عَزَّ وَ جَلَّ. ثمّ قال بعد ذلك: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ. و قد نقل عين هاتين الروايتين عن «مصباح الشريعة» الملّا محسن الفيض الكاشانيّ في كتاب «المحجّة البيضاء» ج ۱، ص ٦۸.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

8
  • و هناك رواية في «مصباح الشريعة» ملفتة للنظر، و يمكن أن يستفاد منها مطالب سامية و نفيسة، و تتضمّن عدم جواز الإفتاء في حلال الله و حرامه إلّا لِمَن: كَانَ أتْبَعَ الخَلْقِ مِنْ أهْلِ زَمَانِهِ وَ نَاحِيَتِهِ وَ بَلَدِهِ بِالحَقِّ. و في نسخة بدل‌ مِنْ أهْلِ زَمَانِهِ وَ نَاحِيَتِهِ وَ بَلَدِهِ بِالنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ.

  • و هذا هو معني الأعلميّة. فالذي يكون اتّباعه للنبيّ أكثر من جميع الناس هو من كان اتّباعه للعلم أكثر، و من كان اتّباعه في الفهم و الدراية و باختصار في جميع الامور أكثر.

  • فهذه الرواية- كما بيّنا- تمتلك مضموناً قويّاً، و محتواها متين و راقٍ و عالٍ جدّاً، و يمكن أن نستفيد منها أموراً كثيرة.

  • فقد ورد في الباب الثالث و الستّين من «شرح مصباح الشريعة» ما يلي:

  • قَالَ الصَّادِقُ عَلَيهِ السَّلَامُ: لَا تَحِلُّ الفُتْيَا لِمَنْ لَا يَسْتَفْتِي مِنَ اللهِ تَعَالَى بصَفَاءِ سِرِّهِ وَ إخْلَاصِ عَمَلِهِ وَ عَلَانِيَتِهِ وَ بُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالٍ.

  • فالإمام الصادق عليه السلام يقول: لا يحلّ الإفتاء في المسائل الشرعيّة لمن لا يستفتي الحقّ تعالى بباطنه الطاهر من القذارات، و بنفسه المطهّرة من كدورة ارتكاب المعاصي. و لا يجوز الإفتاء لمن لا تكون عبادته و طاعته خالصة للَّه تعالى، و لا يكون ظاهره مطابقاً لباطنه، و لا يكون له في جميع المسائل الضروريّة و الحالات اللازمة برهان و مستمسك كآية أو حديث؛ أي لا يجوز للإنسان أن يفتي في أيّ حكم من الأحكام ما لم يكن متّصفاً بهذه الصفات. و لِمَ ذلك؟

  • لأنَّ مَنْ أفْتَى فَقَدْ حَكَمَ، وَ الحُكْمُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإذْنٍ مِنَ اللهِ وَ بُرْهَانِهِ. أي: لأنَّ الفتوى حكمٌ في المسائل الشرعيّة، و الحكم الجازم في الشرعيّات ليس صحيحاً إلّا بإذن الشارع. و لا يكون ترخيص و إجازة الشارع إلّا مع‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

9
  • وجود دليل و برهان قائم.

  • وَ مَنْ حَكَمَ بِخَبَرٍ بِلَا مُعَايَنَةٍ فَهُوَ جَاهِلٌ مَأخُوذٌ بِجَهْلِهِ وَ مَأثُومٌ بِحُكْمِهِ. أي: كلّ من يحكم بخبر أو حديث و ينسبه إلى النبيّ أو وصيّه دون أن يكون قد رأي ذلك الخبر أو جزم و قطع به، فإنَّه يكون جاهلًا بذلك الحكم و آثماً و عاصياً.

  • قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: أجْرَؤُكُمْ بِالفُتْيَا أجْرَؤُكُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى.

  • كلام العلّامة الحلّيّ: لَوْ لَا زِيَارَةُ الحُسَيْنِ وَ تَصْنِيفُ الالْفَينِ لَهَلَكَتْنِي الفَتَاوَى‌

  • و الحاصل: أنَّ الفتوى و التجرّؤ على الفتوى أمر خطير جدّاً، و لا يمكن ارتكابه و الإفتاء بسهولة، و ذلك أنّه قد صحَّ أنَّ العلّامة الحلّيّ رحمة الله عليه قد شوهد في المنام بعد وفاته و سئل عن أحواله فأجاب: لَوْ لَا زِيَارَةُ الحُسَيْنِ وَ تَصْنِيفُ الألْفَينِ لَهَلَكَتْنِي الفَتَاوَى! (كتاب الألفين هو ألفا دليل على إثبات إمامة عليّ المرتضى عليه السلام بعد النبيّ صلّى الله عليه و آله مباشرة).

  • أ وَ لَا يَعْلَمُ المُفْتِي أنَّهُ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ بَيْنَ اللهِ وَ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَ هُوَ الحَائلُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَ النَّارِ؟!

  • أي أ لا يعلم المفتي أنّه حين الإفتاء قد دخل بين الله عزّ و جلّ و بين عبده المستفتي، و أنّه يوصل حكم الله إليه و يؤدّي عن النبيّ، و أنّه واقف بين الجنّة و النار بنحو إذا كان ما يقوله و يفتي به صادقاً و موافقاً لكلام الشارع فهو من أهل النجاة و الجنّة، و إذا لم يكن ناشئاً عن صدق و علم و معرفة و العياذ بالله فهو هالك و داخل في جهنّم؟!

  • قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَيْفَ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِي غَيْرِي وَ أنَا حَرَمْتُ نَفْسِي نَفْعَهَا؟!

  • وَ لَا تَحِلُّ الفُتْيَا فِي الحَلَالِ وَ الحَرَامِ بَيْنَ الخَلْقِ إلَّا لِمَنْ كَانَ أتْبَعَ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

10
  • الخَلْقِ مِنْ أهْلِ زَمَانِهِ وَ نَاحِيَتِهِ وَ بَلَدِهِ بِالحَقِّ.

  • أي يكون أعلم و أفضل و أتقي و أصلح أهل بلده، و لا يكون في تلك المدينة و الناحية من هو أحسن منه في الفضيلة و التقوي.

  • و في نسخة بدل‌ إلَّا لِمَنْ اتَّبَعَ الحَقَّ مِنْ أهْلِ زَمَانِهِ وَ نَاحِيَتِهِ وَ بَلَدِهِ بِالنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ [وَ سَلَّمَ‌] وَ عَرفَ مَا يَصْلَحُ مِنْ فُتْيَاهُ.

  • قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: وَ ذَلِكَ لَرُبَّمَا وَ لَعَلَّ وَ لَعَسَى، لأنَّ الفُتْيَا عَظِيمَةٌ.

  • فالفتوى في أحكام الشرع عظيمة و خطيرة جدّاً، لأنّه كثيراً ما تكون الفتوى خاطئة و مخالفة لقانون الشرع، بل إنَّ احتمال الخطأ فيها أقرب من احتمال الصواب، و إمكان الاشتباه أكثر من الصحّة.

  • أو أنَّ المراد هو: لا يفتي المفتي- بعد بذل جهده و سعيه في تحقيق المسألة و الاتّصاف بشرائط الفتوى- على سبيل القطع و الجزم، و لا يدّعي أنَّ حكم الله هو ما افتي بشكل باتٍّ، بل ليقل ذلك على نحو الاحتمال؛ ليقل: لعلَّ المسألة تكون بهذا النحو؛ أو: يقرب كونها بهذا النحو.

  • وَ قَالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلَامُ لِقَاضٍ: هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ وَ المَنْسُوخَ؟!

  • قَالَ: لَا!

  • [قَالَ: فَهَلْ أشْرَفْتَ عَلَى مُرَادِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ فِي أمْثَالِ القُرْآنِ؟!

  • قَالَ: لَا!]

  • قَالَ: إذاً هَلَكْتَ وَ أهْلَكْتَ!

  • فإذَن، ما دمتَ لم تعرف الناسخ من المنسوخ، و لم تطّلع على مراد الله في كلّ آية من آيات القرآن، و نصبت نفسك للحكم و الفتوى بين الناس مع كلّ هذا الجهل، فأنت جهنّميّ، و كذلك مَن يعمل بفتواك.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

11
  • وَ المُفْتِي يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَعَانِي القُرْآنِ، وَ حَقَائقِ السُّنَنِ وَ بَوَاطِنِ الإشَارَاتِ و الآدَابِ، وَ الإجْمَاعِ و الاخْتِلَافِ و الاطِّلَاعِ عَلَى اصُولِ مَا أجْمَعُوا عَلَيهِ وَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، ثُمَّ إلَى حُسْنِ الاخْتِيَارِ، ثُمَّ العَمَلِ الصَّالِحِ، ثُمَّ الحِكْمَةِ، ثُمَّ التَّقْوَى، ثُمَّ حِينَئِذٍ إنْ قَدَرَ.

  • يقول عليه السلام: لا بدّ للمفتي من معرفة عدّة امور لكي يتمكّن من الإفتاء:

  • الأوّل: معرفة معاني القرآن، و خصوصاً معرفة معاني الآيات التي تستنبط منها أحكام الشرع.

  • الثاني: معرفة حقائق السنن، أي العلم بأحاديث النبيّ و الأئمّة عليهم السلام و التوصّل إلى بواطن و ظواهر الإشارات و التأويلات، و صحّة و سقم الأحاديث، و رواتها، و آدابها.

  • الثالث: التمييز بين المسائل الإجماعيّة و المسائل الأخلاقيّة، و الاطّلاع على اصول الإجماعيّات و موارد الاختلاف.

  • الرابع: الترجيح و القدرة عليه.

  • الخامس: العدالة، و هي حصول ملكة راسخة على إتيان الأوامر و الاجتناب عن النواهي و ترك الإصرار على الصغائر.

  • السادس: الحِكمة، و هي ملازمة المروءة و الحميّة و التوسّط في الامور، و الاحتراز عن الإفراط و التفريط.

  • السابع: التقوي و الورع و الاجتناب عن المحرّمات و الشبهات.

  • و الحاصل: أنّه يمكن لمن يتّصف بهذه الصفات أن يفتي إن كان قادراً على تنفيذ تلك الأحكام، و إلّا فلا.۱

    1. الشرح الفارسيّ ل-« مصباح الشريعة و مفتاح الحقيقة» للملّا عبد الرزّاق الجيلانيّ، ج ٢، ص ٦۷ إلى ۷٢، و تحت رقم ٣٥۱ إلى ٣٥٦ مع تصحيح و تعليق المير السيّد جلال الدين المحدِّث الارمويّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

12
  • و بعد قوله عليه السلام‌ وَ المُفْتِي يَحْتَاجُ إلَى ... قال ثُمَّ العَمَلِ الصَّالِحِ. أي يجب أن يكون المفتي من أهل العمل الصالح، و المقصود من ذلك هو نفس ملكة العدالة و الاجتناب عن الذنوب.

  • و أضاف عليه السلام: ثُمَّ الحِكْمَةِ، و الحكمة بمعني الاستحكام، و خروج الصفات الباطنيّة للإنسان من حالة الإفراط و التفريط إلى حالة الوسط. أي فلا يغضب من غير سبب، و أن يكون محافظاً على الغيرة و الحميّة بنحوٍ، يغضب في موضع الغضب، و لا يكون جباناً حيث يجب أن يستعمل غضبه، و في نفس الوقت يكون شجاعاً لا هو بالمتهوّر و لا هو بالخذول؛ هذه هي الحكمة التي تقع بين طرفي الإفراط و التفريط. و لعلّها أيضاً هي نفس المروّة التي يذكرها بعض الفقهاء، و يشترطونها إضافة إلى ملكة العدالة.

  • و قال عليه السلام بعدها: ثُمَّ التَّقْوَى، فيجب أن يكون من أهل التقوي. و التقوي هي عين الورع الذي هو أرقي من العدالة، و هذا هو ذات المعني الذي استفدناه من رواية: أمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ حَافِظاً لِدِينِهِ، حيث دلّت على معني أرقي من العدالة.

  • فمع اجتماع كلّ هذه الشرائط، يقول عليه السلام: ثُمَّ حِينَئِذٍ إنْ قَدَرَ، أي: عندئذٍ يفتي فيما لو كان قادراً على تنفيذ ذلك. بمعني أنَّ من يستطيع أن يفتي هو ذلك الشخص الذي يقف خلف فتواه و ينفّذها في الخارج، أمَّا مَن كان لا يُصغي له و لا يُعمل بفتواه، و لا يضمن تنفيذها، و غير قادر على تنفيذ ما يستنبطه من الامور الشرعيّة فإنَّه غير قادر على الإفتاء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

13
  • و علي كلّ تقدير فهذه الرواية من نفائس الروايات، و قد نُقلت بالإضافة إلى «شرح مصباح الشريعة» في بعض الكتب الاخرى. فقد ذكرها المرحوم المجلسيّ في «بحار الأنوار»۱، و الحاجّ النوريّ في «مستدرك «الوسائل»٢، و المحقّق الفيض في «المحجّة البيضاء»٣، كما ذكرت أيضاً في «مصباح الشريعة»٤، المطبوع بالحجم الصغير.

  • و الفقرة الاولي من هذه الرواية: لَا تَحِلُّ الفُتْيَا لِمَنْ لَا يَسْتَفْتِي مِنَ اللهِ تَعَالَى بصَفَاءِ سِرِّهِ وَ إخْلَاصِ عَمَلِهِ وَ عَلَانِيَتِهِ وَ برهَانٍ مِنْ رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالٍ. فقرة مهمّة جدّاً.

  • فمن لم يكن مالكاً لطهارة الذات و صفاء السرّ، و لم تكن أعماله و تصرّفاته التي يقوم بها عن تعبّد (أي علانيته في الخارج، قد وصلت إلى مرتبة الخلوص، و لم يكن لديه برهان أي قاطعيّة) من الله عزّ و جلّ فحرام على مثل هذا الشخص أن يتصدّى للإفتاء. هذا ما يتعلّق بمتن الحديث الشريف.

  • البحث حول سند الرواية الواردة في «مصباح الشريعة»

  • و أمّا بالنسبة إلى سنده: فقد ورد هذا الحديث في «مصباح الشريعة» و لم يُذكر في موضع آخر. و «مصباح الشريعة» كتاب ينبغي البحث عنه لمعرفة منزلته و وزنه و صحّة إسناده إلى الإمام الصادق عليه السلام. فقد ورد في أوّل الكتاب ما يلي:

    1. «بحار الأنوار» ج ۱، ص ۱۰۱، باب النهي عن القول بغير علم، طبعة الكمبانيّ.
    2. «مستدرك الوسائل» ج ٣، ص ۱٩٤، باب ما يتعلّق بأبواب صفات القاضي و ما يجوز أن يقضي به.
    3. «المحجّة البيضاء» ج ۱، ص ۱٦۷.
    4. «مصباح الشريعة» ص ٤۱ و ٤٢، باب ٦٣، طبعة نشر كتاب، مع تصحيح السيّد حسن المصطفويّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

14
  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَوَّرَ قُلُوبَ العَارِفِينَ بِذِكْرِهِ، وَ قَدَّسَ أرْوَاحَهُمْ بِسِرِّهِ، وَ نَزَّهَ أفْئِدَتَهُمْ لِفِكْرِهِ، وَ شَرَحَ صُدُورَهُمْ بِنُورِهِ، وَ أنْطَقَهُمْ بِثَنَائِهِ وَ شُكْرِهِ، وَ شَغَلَهُمْ بِخِدْمَتِهِ، وَ وَفَّقَهُمْ لِطَاعَتِهِ، وَ اسْتَعْبَدَهُمْ بِالعِبَادَةِ عَلَى مُشَاهَدَتِهِ، وَ دَعَاهُمْ إلَى رَحْمَتِهِ، وَ صَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ إمَامِ المُتَّقِينَ وَ قَائِدِ المُوَحِّدِينَ، وَ مونِسِ المُقَرَّبِينَ، وَ عَلَى آلِهِ المُنْتَجَبِينَ الأبْرَارِ الأخْيَارِ، وَ سَلّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً.

  • أمَّا بَعْدُ؛ فَهَذا كِتَابُ «مِصْبَاحُ الشَّرِيعَةِ وَ مِفْتَاحُ الحَقِيقَةِ» مِنْ كَلَامِ الإمَامِ الحَاذِقِ وَ فَيَّاضِ الحَقَائِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ عَلَى آبَائِهِ وَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ و السَّلَامُ. وَ هُوَ مُبَوَّبٌ عَلَى مِائَةِ بَابٍ.

  • ثمّ قال في أوّل كلّ باب: قَالَ الصَّادِقُ عَلَيهِ السَّلَامُ ....

  • و يقع مجموع هذا الكتاب في مائة باب، و كلّه في الأخلاقيّات، و هو من ناحية المضامين الأخلاقيّة راقٍ جدّاً إلى درجة جعلت جماعة من أجلّة الفقهاء يعتقدون أنّه صادر حقيقة عن الإمام الصادق عليه السلام، و أوصوا باقتنائه و العمل به!

  • كلمات الاعلام حول كتاب «مصباح الشريعة»

  • و ليس هناك من الفقهاء مَن نهي عن العمل به، أو نهي عن بعضه كأن يقول: لا تعملوا بالباب الفلاني- مثلًا- لأنّه يتضمّن أمراً غير صحيح! بل اتّفق الجميع على العمل بمضمونه و الاستفادة من محتواه، غاية الأمر أنَّ هناك كلاماً في صحّة صدور هذا الكتاب عن الإمام الصادق عليه السلام.

  • و مضامين هذا الكتاب راقية و مرضية، فعلى الرغم من صغر حجم الكتاب، لكنّه قد حوي مائة باب مختصر، و تضمّن مجموعة من الحقائق و الآداب بشكل مضغوط مع الإشارة إلى رموزها، و لا يمكن التحدّث بمثل عباراته و صياغة جملاته إلّا لمن قد وصل إلى الكمال الإنسانيّ و العرفانيّ و من الحكماء المتألّهين و العرفاء الربّانيّين.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

15
  • و لذا اعتقد كثير من علمائنا رضوان الله عليهم أنَّ هذه العبارات هي للإمام الصادق عليه السلام، و أوصوا باقتناء هذا الكتاب و العمل به، لما فيه من مزايا.

  • و أوّل من أوصي- بحسب فحصنا- بهذا الكتاب هو السيّد الأجلّ عليّ بن طاوس المتوفّي في سنة ستمائة و أربع و ستّون هجريّة، إذ يقول هذا الرجل الكبير في كتاب «أمان الأخطار»۱:

  • وَ يَصْحَبُ المُسَافِرُ مَعَهُ كِتَابَ «مِصْبَاح الشَّرِيعَةِ وَ مِفْتَاح الحَقِيقَةِ» عَنِ الصَّادِقِ عَلَيهِ السَّلَامُ، فَإنَّهُ كِتَابٌ لَطِيفٌ شَرِيفٌ فِي التَّعْرِيفِ بِالتَّسْلِيكِ إلَى اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَ الإقْبَالِ عَلَيهِ، وَ الظَّفَرِ بِالأسْرَارِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيهِ.

  • و ممّن أيّد هذا الكتاب جناب الآخوند الملّا محمّد تقي المجلسيّ عليه الرحمة، حيث قال في الجزء الأخير من شرحه النفيس على كتاب «من لا يحضره الفقيه»:

  • وَ عَلَيْكَ بِكِتَابِ «مِصْبَاح الشَّرِيعَةِ» رَوَاهُ الشَّهِيدُ الثَّانِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِإسْنَادِهِ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيهِ السَّلَامُ، وَ مَتْنُهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ.

  • و ممّن اعتمد على هذا الكتاب بعد السيّد ابن طاوس الشيخ الفقيه المقتدي الشهيد الثاني رضوان الله عليه، فقد اعتمد عليه كثيراً و أورد أكثر أبواب «مصباح الشريعة» في تاليفاته، مثل «منية المريد» و «أسرار الصلاة» و «كشف الريبة عن أحكام الغِيبة».

  • و ممّن اعتمد على هذا الكتاب الشيخ الجليل جمال الدين أحمد بن فهد الحلّيّ، الذي ينقل في كتاب «عدّة الداعي» باباً من «مصباح الشريعة»، و يقول هناك:

    1. «الأمان من أخطار الأسفار و الأزمان» ص ۷۸، باب ٦، فصل ۷، طبعة النجف.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

16
  • قَالَ الصَّادِقُ عَلَيهِ السَّلَامُ: الخَشْيَةُ مِيرَاثُ العِلْمِ، وَ العِلْمُ شُعَاعُ المَعْرِفَةِ.

  • و ممّن اعتمد على هذا الكتاب المحقّق الربّانيّ الفيض الكاشانيّ، و قد سار على هذا المنهج في بعض تاليفاته، و منها كتاب «الحقائق».

  • وَ مِنهُمُ العَالِمُ الرَّبَّانِيُّ وَ الفَقِيهُ الصَّمَدَانِيُّ وَ الحَكِيمُ الإلَهِيُّ وَ المحَقِّقُ البَارِعُ، جَدُّنَا الأعلَى مِن جَانِبِ الامّ‌۱، الحَاجّ المُلَّا مَهدِي النَّرَاقِيَّ. فقد نقل عن هذا الكتاب في مواضع متعدّدة من كتاب «جامع السعادات».

  • و من المؤيّدين لهذا الكتاب أيضاً الفاضل المتبحّر الشيخ إبراهيم الكفعميّ، فهو يميل إلى هذا الأمر في كتاب «مجموع الغرائب» بناءً على ما يحكيه عن الحاجّ النوريّ في خاتمة «المستدرك».

  • و منهم: مولانا العلّامة الملّا محمّد باقر المجلسيّ رضوان الله عليه، الذي جعل «مصباح الشريعة» من جملة مصادر «بحار الأنوار»، فهو ينقل في «البحار» عن هذا الكتاب بالمناسبة، مع أنّه لم يقوِّ ذلك الكتاب.

  • يقول الحاجّ النوريّ في خاتمة «المستدرك»:

  • وَ قَالَ العَلَامَةُ المَجلِسِيُّ فِي «البِحار»: وَ كِتَاب «مِصبَاح الشَّرِيعَةِ» فِيهِ بَعْضُ مَا يُرِيبُ اللَّبِيبَ المَاهِرَ، و اسلُوبُهُ لَا يُشبِهُ سَائِرَ كَلِمَاتِ الأئِمَّةِ عَلَيهِمُ السَّلَامُ وَ آثَارِهِمْ.

  • وَ رَوَى الشَّيخُ فِي مَجَالِسِهِ بَعْضَ أخبَارِهِ هَكَذَا: «أخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ عنْ أبِي المُفَضَّلِ الشَّيبَانِيِّ بِإسْنادِهِ عَنْ شَقِيقٍ البَلْخِيِّ، عَمَّنْ أخْبَرَهُ مِنْ أهلِ‌

    1. هو الجدّ الرابع للمؤلّف من ناحية الامّ رضوان الله عليه، أي هو أب امّ امّ امّ امّ المؤلّف. و عليه، يكون ابن الحاجّ الملّا أحمد النراقيّ خال المؤلّف لُامّه، و ابنه الحاجّ الملّا محمّد النراقيّ ابن خال المؤلّف لُامّه.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

17
  • العِلْمِ». وَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ كَانَ عِندَ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ فِي عَصْرِهِ، وَ كَانَ يَأخُذُ مِنهُ، وَ لَكِنَّهُ لَا يَثِقُ بِهِ كُلَّ الوُثُوقِ، وَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ كَوْنُهُ مَرْوِيَّاً عَنِ الصَّادِقِ عَلَيهِ السَّلَامُ.

  • وَ إنَّ سَنَدَهُ يَنْتَهِي إلَى الصُّوفِيَّةِ؛ وَ لِذَا اشْتَمَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنِ اصْطِلَاحَاتِهِمْ وَ عَلَى الرِّوَايَةِ مِنْ مَشَايِخِهِمْ وَ مَنْ يَعْتَمِدُونَ عَلَيهِ فِي رِوَايَاتِهِمْ؛ وَ اللهُ يَعْلَم.۱

  • و قول العلّامة المجلسيّ أخيراً وَ اللهُ يَعْلَم؛ يعني أنّنا لا نعرف حقيقة الأمر، لكنّنا قمنا بهذا البحث طبقاً للضوابط.

  • و تمسّك بهذا الكتاب السيّد السند النحرير و العالم الجليل جامع المعقول و المنقول السيّد على خان المدنيّ الشيرازيّ، فهو ينقل عنه في «شرح الصحيفة السجّاديّة».

  • و منهم أيضاً الشيخ المحدّث البارع، حاذق فنّ الحديث و الرجال، و الاستاذ الماهر في معرفة الكتب الحاجّ الميرزا حسين النوريّ. و له في خاتمة «المستدرك» بحث طويل و مبسوط في هذا المجال.

  • و منهم المرحوم استاذنا الأكبر في علم الرجال و الحديث الحاجّ الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ رضوان الله عليه في «الذريعة» حيث له كلمات مفصّلة، و يعطي حقّ الكلام في إثبات هذا الكلام للصادق عليه السلام.

  • و منهم السيّد هاشم البحرانيّ، فقد عدّه في مقدّمة «تفسير البرهان» من جملة مصادره.

  • و منهم السيّد حسين القزوينيّ استاذ بحر العلوم رضوان الله عليهما، فقد سلك هذا الطريق في المبحث الخامس من «جامع الشرائع».

    1. «مستدرك الوسائل» ج ٣، ص ٣٢٩.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

18
  • و منهم الفاضل اللاهيجيّ في تفسيره النفيس.

  • و منهم السيّد أبو القاسم الذهبيّ الشيرازيّ، فقد اعتبر في أوّل «مناهج أنوار المعرفة» الذي هو شرح لـ «مصباح الشريعة» أنَّ هذا الكتاب للإمام الصادق بشكل صريح.

  • و منهم جمال الفقهاء و زين العرفاء الحاجّ الميرزا جواد الآقا الملكيّ التبريزيّ، العارف و الحاذق الفنّ، فقد اختار هذا المنهج في كتابه القيّم و الثمين «أسرار الصلاة».

  • و منهم المرحوم آية الله الشيخ على أكبر النهاونديّ، فقد أيّد نسبة هذا الكتاب إلى الإمام الصادق عليه السلام في كتابه «بنيان الرفيع في أحوال الربيع».

  • كانت هذه خلاصة محصّلة حول أمر هذا الكتاب.

  • و أمّا الإشكالات التي أوردوها على هذا الكتاب، فمنها: إذا كان هذا الكتاب للإمام الصادق عليه السلام، فكيف يستشهد في كلامه بكلام اناس آخرين؟

  • نعم؛ لو أراد الإمام عليه السلام- مثلًا- أن يستشهد بكلام أشخاص مثل أبي ذرّ الغفاريّ و سلمان الفارسيّ لكان ذلك مناسباً، أمّا الاستشهاد بكلام الأحنف بن قيس التميميّ فهو ممّا لا يليق بالإمام الصادق عليه السلام، و إن كان الأحنف إنساناً جيّداً و من صحابة الحسن.

  • أو الاستشهاد بكلام الربيع بن خُثيم، و وهب بن حيّان، و زيد بن ثابت الذي كان من الأساس عثمانيّاً و منحرفاً و لم ينصر أمير المؤمنين عليه السلام. أو بكلام سفيان بن عُيينة، كما في الحديث الذي ذكرناه حول الفتوى، مع أنَّ سفيان بن عُيينة إنسان جاهل و منحرف و مخالف! فكيف يمكن أن يفعل ذلك الإمام الصادق عليه السلام؟ و ما ذا يعني استشهاده عليه‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

19
  • السلام بكلام هؤلاء؟

  • و لا يتعدّى الذين استشهد بكلامهم في مطالب هذا الكتاب عن:

  • ۱- أبو الدرداء، عُوَيْمِر بن عامر (و هو أبو الدرداء المعروف) الذي قيل عنه إنّه ضعيف مجهول.

  • ٢- أبو ذرّ الغفاريّ، وَ هُوَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ، الصَّادِقُ فِي قَولِهِ وَ عَمَلِهِ.

  • ٣- الأحنف بن قيس التميميّ، الذي إن لم يكن صحيحاً و ثقة، فهو صحابيّ حَسَن و جيّد، حَسَنٌ إن لَم يَكنْ صَحِيحاً.

  • ٤- اوَيس المُراديّ القرنيّ، العظيم المنزلة و الجليل الرتبة.

  • ٥- ثَعلَبة الأسديّ، مجهولٌ، لَيسَ لَهُ بِهَذَا العُنْوَانِ ذِكْرٌ فِي كُتُبِ الرِّجَالِ.

  • ٦- رَبيع بن خُثيم، الذي هو أحد الزهّاد الثمانية المشهورين.

  • ۷- هَرِم بن حَيَّان، من هؤلاء الزهّاد الثمانية المشهورين.

  • ۸- زيد بن ثابت، صَحَابِيٌّ، وَ كَانَ عُثْمَانِيّاً مُنْحَرِفاً.

  • ٩- سُفيان بن عُيَيْنَة، و الذي تصل أسناد كثير من رواياتنا إليه، و هو الجَاهِلُ المُخَالِفُ المُنْحَرِف.

  • ۱۰- سلمان الفارسيّ، أجَلُّ مِنْ أن يُوصَف.

  • ۱۱- عبد الله بن مسعود، كَانَ مُعْتَدِلًا، لَكِن مَالَ وَ انْحَرَفَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيهِ السَّلَامُ فِي الجُمْلَةِ.

  • ۱٢- كعب الأحبار، و هو ذلك العالم اليهوديّ المنحرف الكذّاب.

  • ۱٣- محمّد بن الحنفيّة، ابنُ أمير المؤمنين عليه السلام.

  • ۱٤- وهب بن منبّه، و هو ضعيف.

  • هؤلاء الأشخاص الذين نُقل كلام لهم في هذا الكتاب؛ و بقيّة عبارات‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

20
  • الكتاب إمَّا: قال أمير المؤمنين عليه السلام، أو استشهاد بكلام رسول الله صلّى الله عليه و آله؛ و يوجد في بعض الأبواب الخاصّة أيضاً: قال الصادق عليه السلام.

  • ردّ المجلسيّ كتاب «مصباح الشريعة» و ردّ النوري عليه‌

  • و نقل المرحوم الحاجّ النوريّ رحمه الله في خاتمة «المستدرك» عن «مصباح الشريعة» بشكل مفصّل، و حاول بكلّ جهده و طاقته أن يثبت نسبة الكتاب للإمام الصادق عليه السلام، و قد ردّ عبارات المرحوم المجلسيّ التي نُقلت؛ و قال: إنَّ تلك العبارات التي نقلتها عن الشيخ أنّه: عَمَّنْ أخْبَرَهُ، لا تدلّ على المطلب، و ذلك لأنّه يمكن أن يكون نفس الشخص الراوي للرواية يقول هنا: عَمَّنْ أخْبَرَهُ، لا أنَّ هذه الكلمة هي عبارة الشيخ.

  • و بالإضافة إلى ذلك، فتلك الرواية التي نقلها المرحوم الشيخ الطوسيّ في «الأمالى» هي رواية واحدة لا أكثر، و عباراتها أيضاً في «الأمالى» أكثر منها في «مصباح الشريعة»، فلا نستطيع أن نقول إنّها اخذت من «مصباح الشريعة». فلو كانت عبارات «الأمالى» مختصرة، بينما عبارات «مصباح الشريعة» أطول لأمكننا القول: إنَّ رواية «الأمالى» مأخوذة من «مصباح الشريعة» و قد اختصره، لكنَّ القضيّة بالعكس، فالرواية التي وردت في «الأمالى» مفصّلة، و التي وردت في «مصباح الشريعة» مختصرة، فكيف تقول إنَّ هذه الرواية قد اخذت من «مصباح الشريعة»؟!

  • و خلاصة الكلام، أنّه يحمل على المرحوم المجلسيّ و يقول بأنَّ أدلّته غير تامّة، و إنَّ ما قاله من: أنَّ عبارات الكتاب من الصوفيّة، فأين هي من الصوفيّة؟! فالعبارات التي يستعملها الصوفيّة هي: العشق، الخمر، السُّكر، الصَّحْو، المَحْو، الفناء، الوصل، الشيخ، الطَّرَب، السَّماع، الجذبة، الإنّيّة، المشاهدة، و أمثال ذلك. و لا يوجد في «مصباح الشريعة» كلمة واحدة من ذلك أصلًا.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

21
  • و أمّا ما قاله من: أنَّ عباراته لا تشبه عبارات الأئمّة عليهم السلام، فأيّ نسبة هذه التي ينسبها؟! فإنَّ من يري المناجاة الإنجيليّة الكبرى أو الإنجيليّة الوسطى أو آخر دعاء كميل، حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام: حَتَّى تَكُونَ أعْمَالِي وَ أوْرَادِي كُلُّهَا وِرْدَاً وَاحِداً وَ حَالِي فِي خِدْمَتِكَ سَرْمَداً ... وَ قَلْبِي بِحُبِّكَ مُتَيَّمَاً، فسوف يتساءل عمّا إذا كان من الممكن أن يكون ثمّة شي‌ء أرقي من هذا؟! فالإمام عليه السلام يقول: إلهي اجعلني مجنوناً بك بنحو لا أفهم ذكري و لا وردي و لا زوجتي و لا أطفالى و لا حياتي و لا معيشتي، فكلّها تصير ورداً واحداً، و تفني و تندكّ فيك، و أصير متيّماً بك، لا عاشقاً و متيّماً فحسب، و إنَّما مجنوناً بك!

  • أو المناجاة الثامنة من المناجاة الخمسة عشر، الواردة في «الصحيفة السجّاديّة»؛ فجميعها ذات مضامين عالية، مثل: وَ رُؤْيَتُكَ حَاجَتِي، وَ جِوَارُكَ طَلَبِي و ... يَا نَعِيمِي وَ جَنَّتِي، وَ يَا دُنْيَايَ وَ آخِرَتِي. فهل عبارات «مصباح الشريعة» أكثر عرفانيّة من هذه العبارات؟!

  • و بناء على هذا، فقولك: إنَّ مضامين «مصباح الشريعة» لا تشبه كلام الأئمّة عليهم السلام غير صحيح، بل لها شبه كامل به.

  • إنَّ كلمات الأئمّة عليهم السلام ليست على وتيرة واحدة: فطائفة منها كلمات و أدعية لعامّة الناس، و لا تصل هذه الطائفة إلى ذروة كلامهم من حيث المعني و المغزى؛ و طائفة اخرى كانت من الأسرار التي نقلوها لخواصّهم، و هذه دقيقة جدّاً. و عند ما ننظر في «مصباح الشريعة» لا نجد إلّا العبارات اللطيفة جدّاً و الدقيقة و الغنيّة بالمعاني و المضامين.

  • و محصّل الكلام، أنَّ الحاجّ النوريّ ردَّ على المرحوم المجلسيّ بالإيرادات المذكورة، و إن كان في بعض ردوده محلّ للتأمّل و الإشكال،

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

22
  • مثل تلك العبارة التي ينسبها المجلسيّ للشيخ، و يقول الحاجّ الميرزا النوريّ: إنَّها ليست دليلًا على أنَّ عَمَّنْ أخْبَرَهُ مِنْ أهلِ العِلْمِ يكون دليلًا على المطلب، و لكن من حيث المجموع، فالحاجّ النوريّ و الحاجّ الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ يردّان على المرحوم المجلسيّ و يثبتان أنَّ «مصباح الشريعة» هو للإمام الصادق عليه السلام.

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

24
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ السَّادِسُ وَ العِشْروُنَ: حول هويّة كتاب مِصْباحُ الشَّريعَة وَ مِفْتاحُ الحَقيقَة

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

26
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِين مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • طوائف آراء العلماء حول «مصباح الشريعة»

  • تنقسم الآراء التي أبداها العلماء الأعلام رضوان الله عليهم حول الكتاب الشريف «مصباح الشريعة» إلى ثلاثة أقسام:

  • فقالت طائفة منهم: باعتباره و كونه مقبولًا. و ممّن يستفاد من كلامهم اعتبار الكتاب: الشهيد الثاني و الكفعميّ و السيّد ابن طاوس، و كثيرون غيرهم ممّن ذكرنا أسماءهم في الدرس السابق.

  • بينما قالت طائفة اخرى: إنَّ هذا الكتاب غير قابل للاعتماد و الاستناد إليه أصلًا، و هو ساقط عن درجة الاعتبار و صلاحيّة القبول كلّيّاً. و من جملة القائلين بهذا الحرّ العامليّ، فقد صرّح بهذا في آخر كتاب «هداية الامّة» تحت عنوان «تَتِمَّةٌ». و منهم الملّا عبد الله الأفنديّ، صاحب كتاب «رياض العلماء»، و هو من فحول و مشاهير طلّاب المجلسيّ، و من كبار العلماء، فقد عدَّ هذا الكتاب من الكتب مجهولة المؤلّف، و ردَّ نسبته إلى هشام بن الحكم، كما ردَّ كلام البعض ممّن قال بأنَّ هذا الكتاب و إن لم تكن‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

27
  • عباراته للإمام الصادق عليه السلام لكنّه تأليف هشام بن الحكم الذي هو من الطلّاب الممتازين للإمام الصادق عليه السلام، و قد جمعه من مطالب الإمام عليه السلام معبّراً بعنوان قال الصادق عليه السلام؛ فقد اعتبر الملّا الأفنديّ كلام هذا البعض مردوداً و قال:

  • أوّلًا: لقد ذكر في هذا الكتاب أسماء أشخاص كانوا متأخّرين عن هشام. و ثانياً: يوجد في هذا الكتاب مطالب تُنَادِي عَلَى أنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُؤَلَّفَاتِهِ، بَلْ هُوَ مِنْ مُؤَلَّفَاتِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى؛ لَكِنْ وَصَّي بِهِ ابْنُ طَاوُس.

  • هذه عبارة الملّا عبد الله الأفنديّ، (و سمّي بالأفنديّ لأنّه ذهب لأجل التبليغ و القيام بالتكليف إلى آسيا الصغرى و الدولة العثمانيّة في ذلك الوقت، و حيث إنَّهم كانوا يطلقون هناك على الأشخاص الأجلّاء من العلماء و أصحاب الوجاهة و الشخصيّات لقب الأفنديّ، فقد بقي هذا اللقب له أيضاً) و كتاب «رياض العلماء» من أغني كتب الشيعة حول الأصحاب و الرجال و التراجم.

  • و أمّا نسبة هذا الكتاب إلي هشام فيمكن ردّها من جهة اخرى أيضاً، حيث إنَّ هشام بن الحكم متكلّم و باحث و من أهل الفلسفة و الاستدلال الفلسفيّ و الكلاميّ، و مضامين كتاب «مصباح الشريعة» ليست فلسفيّة، و إنّما هي مضامين عرفانيّة و أخلاقيّة دقيقة جدّاً و ظريفة، و هي من اللطائف و الأسرار الروحيّة، و لا تتناسب مع مذاق هشام بن الحكم. و لذا لا يمكن نسبة هذا الكتاب له أصلًا.

  • الطائفة الثالثة من الأشخاص الذين لهم رأي في هذا الكتاب؛ و هم القائلون ب-: و إن كان أصل و متن هذا الكتاب مغايراً لسائر المتون المسلّمة الصدور المقطوعة النسبة للأئمّة عليهم السلام، لكن مع هذا يمكن العمل‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

28
  • بأخباره.

  • و من هؤلاء الأشخاص: العلّامة محمّد باقر المجلسيّ جدّنا الكبير رضوان الله عليه، لأنَّ هذا الجليل قد نقل جميع أبوابه في «بحار الأنوار» ما عدا باب أو بابين، و يُعلم من الشواهد أنَّ سبب عدم إتيانه لهذين البابين هو السهو و الغفلة، و لم يكن ثمّة تعمّد لعدم النقل.

  • كلام الشيخ على أكبر النهاونديّ و السيّد جلال الدين المحدِّث‌

  • يقول المحدِّث السيّد جلال الدين الارمويّ في مقدّمته على الشرح الفارسيّ لـ «مصباح الشريعة»: «هذا الكتاب و إن كان يبدو بحسب الاسلوب لا يشبه إلى حدّ ما سائر أخبار أهل البيت عليهم السلام، و إنَّه أشبه باسلوب كلمات العرفاء و المتصوّفة. لكن بما أنَّ غالب مضامينه و محتوياته تطابق من ناحية المعني للأخبار و الآيات، و لم يصل في اشتماله على اصطلاحات الصوفيّة إلى حدّ لا يمكن نسبته للإمام الصادق عليه السلام، و إذا لوحظ فيه أحياناً عبارات من قبيل: العُبُودِيَّةُ جَوْهَرَةٌ كُنْهُهَا الرُّبُوبِيَّةُ ... إلى آخره»، فهي قابلة للتوجيه، و ممكنة للتأويل.

  • و من جهة اخرى، فإنَّ موضوع هذا الكتاب هو الأخلاق و الآداب و المواعظ و النصائح و نظائرها، و هي جميعها ممّا يمكن أن تشملها قاعدة التسامح في أدلّة السنن، حيث- و باتّفاق الآراء- يمكن قبول الأخبار الضعيفة و العمل بها في هذه الامور أيضاً. و تبقي نسبته للإمام في محلّها، و إن لم تصل إلى درجة الثبوت.

  • بناء على هذا، فلا يمكن طرح هذا الكتاب بشكل كامل بسبب ذكر كلام فيه بعنوان نقل الإمام عن ربيع بن خُثيم و أمثاله. فيجب إذَن أن نضع ذلك في دائرة الإجمال، و نعتبره منسوباً للإمام عليه السلام، و نقنع بصرف النسبة و إن لم نرها مسلّمة أيضاً. و نستفيد من كلماته الحِكَميّة و مواعظه المملوءة بالفائدة و نصائحه المرضيّة، و نعمل بالقاعدة العقلائيّة «انْظُرْ إلَى مَا

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

29
  • قَالَ و لا تَنْظُرْ إلى مَنْ قَالَ»، خصوصاً مع الالتفات إلى أنَّ كلّ ما نقل في هذا الكتاب هو في مجال تهذيب و تزكية النفس.

  • ثمّ يتوسّع في المطلب إلى أن يصل حيث يقول:

  • «فإذا جاز أن نستفيد في تهذيب الأخلاق و تزكية النفوس من الحكايات و الأمثال المجعولة و الموضوعة على لسان الحيوانات، فالأمر في هذا القبيل من الكتب المنسوبة للأئمّة عليهم السلام مع اشتمالها على المطالب العالية و المضامين النفيسة سوف يكون سهلًا. و يؤيّد المطلب ما قاله العالم الجليل الشيخ فرج الله الحويزيّ رحمة الله عليه في كتابه الشريف «إيجاز المقال» الذي هو كتاب شريف و ملي‌ء بالفوائد الرجاليّة، حيث إنَّه بعد ذكر كتب كثيرة تحت عنوان: كَلَامٌ فِي مَا جُهِلَ مُصَنِّفُهُ: قال:

  • أمْثَالُ هَذِهِ الكُتُبِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى نَقْلِهَا، لَكِنَّهَا مُؤَيِّدَةٌ لِغَيْرِهَا، وَ فِيهَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ فِي غَيْرِ الأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَ مَا تَضَمَّنَ مِنْهَا حُكْماً شَرْعِيّاً لا بُدَّ أنْ يُوجَدَ لَهُ فِي الكُتُبِ المُعْتَمَدَةِ مُوَافِقٌ أوْ مُعَارِضٌ فَيَظْهَرَ مَا يَنْبَغِي العَمَلُ بِهِ».

  • ثمّ يقول: «الذي يرجح في نظر الكاتب هو أنَّ كتاب «مصباح الشريعة» في هذه الكيفيّة الموجودة و بهذه التعبيرات المغايرة لسائر الآثار الثابتة و المسلّمة للأئمّة الأطهار عليهم السلام، لا يمكن أن يكون صادراً عن الإمام الصادق سلام الله عليه.

  • و من المقطوع و المجزوم به أنّة ليس للإمام الصادق، لكن من الممكن أنَّ مؤلّف الكتاب الذي هو بحسب الظاهر من المتصوّفة قد كان شيعيّ المذهب، و قد جمع المضامين الصادرة عن الإمام عليه السلام و أدّاها بالتعبيرات المعهودة بين المتصوّفة. إذَن، بهذا الرأي يمكن أن يستفاد من هذا الكتاب إلي الحدّ الأقصى الممكن في باب تهذيب الأخلاق، و تزكية

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

30
  • النفس، و تصفية الباطن، و تخلية القلب من الرذائل و تحليته بالفضائل بالبيان الذي مرّ، و خصوصاً مع الالتفات إلى العناية الخاصّة لابن طاوس و الشهيد الثاني و أتباعهما رضوان الله عليهما و عليهم بهذا الكتاب، كما ذكر في بداية البحث. وَ السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى».

  • بعد هذا قام المرحوم المحدّث، و من خلال تفصيل و توضيح أكثر، بذكر كلام المرحوم الحاجّ الشيخ على أكبر النهاونديّ و إثباته لهذا الكتاب بالاستفادة من أدلّة الحاجّ الشيخ حسين النوريّ في خاتمة «المستدرك» ثمّ إضافة مطالب من عنده، و ختم ذلك بكلام المرحوم النهاونديّ الذي يؤكّد على تأييد الكتاب بإصرار فيقول:

  • «أفضل من جميع الأدلّة في اعتبار هذا الكتاب أدلّة المحدّث النوريّ رحمه الله في خاتمة «المستدرك» و هي مع وجودها أيضاً ليست كافية في إثبات اعتبار هذا الكتاب لكن كما قلنا مراراً نقول مرّة اخرى أيضاً إنَّ هذا الكتاب مع أنّه بهذا الوضع و الكيفيّة و الاسلوب الذي لا يمكن كونه للصادق عليه السلام بنحو القطع و اليقين (و أدلّة هذا المطلب واضحة و مشهودة في كلّ باب من ملاحظة عبارات ذلك الباب الذي هو متن الكتاب) لكن بما أنَّ موضوع الكتاب على الغالب أخلاق و آداب و مواعظ و نصائح و نظائر ذلك فالعمل بها مفيد و إن لم يكن قائلها إمام معصوم مفترض الطاعة، أي الإمام الصادق سلام الله عليه و على آبائه الطاهرين على التفصيل الذي قد مرّ. هَذَا مَا عِنْدَنَا، وَ السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى»،

  • يتحصّل من ملخّص و محصّل كلام هذين الجليلين- أي المرحوم المحدّث النهاونديّ و المرحوم المحدّث الارمويّ- أنَّ سند هذا الكتاب غير كافٍ، و نحن نعمل به من باب التسامح في أدلّة السنن، و ذلك لعدم وجود حكم شرعيّ في هذا الكتاب، و إذا وجد فهو حكم واحد أو

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

31
  • حكمان لا أكثر، و يكون مؤيّداً بالأخبار الصحيحة الواردة عن الإمام عليه السلام. و لذا فسوف يكون قطعيّ الصدور.

  • و بما أنَّ جميع مضامين هذا الكتاب أخلاقيّة، فيمكننا العمل بها، على الرغم من عدم ثبوت نسبته للإمام الصادق عليه السلام. هذا مفاد كلامه.

  • [يقول المؤلّف‌]: هنا يجب القول: إنَّه من المؤسف جدّاً إسقاط الكتاب عن درجة الاعتبار من خلال التمسّك بأحاديث التسامح في أدلّة السنن و عدّ المطالب العرفانيّة العميقة و العظيمة و الحاكمة على الفقه و أعمال الجوارح و المؤسِّسة للعقائد و الإيمان و لسرّ و ولاية الإنسان، أدون و أقلّ من الفقه الظاهريّ باعتبارها في حكم المستحبّات و الأعمال العاديّة؛ و القول: إنَّه لا إشكال في العمل بمضمونه، لأنّه يرجع إلى الأخلاقيّات، و هي ليست بتلك الأهمّيّة، مع أنَّ المسألة ليست مسألة امور متعارفة شخصيّة و أخلاقيّات عاديّة، و إنّما يدور الكلام حول رموز و أسرار عرفانيّة، و حول سرّ و حقيقة عروج الإنسان إلى مقام التقرّب، و بيان بواطن و حقائق القرآن.

  • فكيف يمكننا أن نثبت جواز العمل في هذه المطالب بالتسامح في أدلّة السنن؟ فحيثما يعبّرون عن الأمر بالتسامح في الأدلّة يكون مؤدّي ذلك إهمال ذلك الأمر و عدم اعتباره، إذ هذا هو معني كلامهم.

  • و سبب هذا الحمل و نوعه هو: أنَّ الأخبار الواردة في هذا الكتاب ذات معانٍ راقية و عميقة لم يتوصّلوا إلى إدراك حقيقتها، و بما أنّهم عجزوا عن إيصال أنفسهم إلى ذلك المستوي و تحقيق المطابقة بين وجودهم و تلك المعاني الدقيقة و الظريفة، لذا قالوا إنَّها ليست صادرة عن الإمام و أنكروا ذلك، ممّا وفّر عليهم تجشّم العناء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

32
  • لكنَّ هذا العمل غير صحيح، و هذه الطريقة في الواقع ليست إسقاطاً للروايات فحسب، بل هي بشكل عامّ إسقاطٌ لجميع المعارف و الدقائق و اللطائف التي وردت في الروايات و كانت أرقي من مستوي الأفكار العاديّة للناس.

  • تحقيق لعالم معاصر حول تدوين «المصباح» أواخر القرن الثاني‌

  • و يستنتج أحد أخيار المعاصرين الذي كتب مقدّمة على كتاب «مصباح الشريعة» المطبوع أخيراً، و بعد بحث مفصّل ما يلي:

  • وَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِي وَ أرَاهُ حَقّاً: أنَّ هَذَا الكِتَابَ الشَّرِيفَ قَدْ جُمِعَ بَعْدَ القَرْنِ الثَّانِي، وَ ألَّفَهُ مُؤَلِّفُهُ النِّحْرِيرُ الفَاضِلُ المُوَحِّدُ العَالِمُ الرَّبَّانِيُّ فِي قِبَالِ مَذَاهِبَ اخَرَ، وَ جَمَعَهُ تَأيِيداً لِمَذْهَبِ الشِّيعَةِ الجَعْفَرِيَّةِ وَ لِتَرْوِيجِ وَ تَبْيِينِ أخْلَاقِهِمْ وَ تَحْكِيمِ مَبَانِيهِمْ؛ وَ بِهَذَا النَّظَرِ نَسَبَهُ إلَى مُؤَسِّسِ المَذْهَبِ وَ مُبَيِّنِ الطَّرِيقَةِ الحَقَّةِ الإمَامِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ عَلَيهِ وَ عَلَى آبَائِهِ أفْضَلُ التَّحِيَّة.

  • وَ لَمَّا كَانَ غَرَضُ المُؤَلِّفِ المُعَظَّمِ لَهُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِ فِي تَألِيفِ هَذَا الكِتَابِ تَثْبِيتَ مَسْلَكِ الشِّيعَةِ وَ تَحْقِيقَ مَذْهَبِ الجَعْفَرِيّ فِي مُقَابِلِ مَذَاهِبَ اخَرَ، فَيَكُونُ نَقْلُ الكَلَامِ مِمَّنْ يُقْبَلُ كَلَامُهُ مِنَ المُخَالِفِينَ لَطِيفاً وَ حَسَناً، تَأيِيداً لِلْمَذْهَبِ وَ تَحْكِيماً لِلْمَبْنَي.

  • وَ الَّذِي نَقْطَعُ بِهِ: هُوَ أنَّ مُؤَلِّفَ هَذَا الكِتابِ الشَّرِيفِ أحَدُ العُلَمَاءِ المُحَقِّقِينَ، وَ مِنْ أهْلِ المَعْرِفَةِ وَ اليَقِينِ، وَ مِنْ أعَاظِمِ رُؤَسَاءِ الرُّوحَانِيِّينَ، وَ مِنْ أكَابِرِ مَشَايِخِ المُتَألِّهِينَ، وَ مِنْ أجِلَّاءِ أصحابِنَا المُتَقَدِّمِينَ.

  • وَ كِتَابُهُ هَذَا أحْسَنُ كِتَابٍ فِي بابِهِ، لَمْ يُؤَلّفْ نَظِيرُهُ إلَى الآنَ؛ جَمَعَ فِي اخْتِصَارِهِ لَطَائِفَ المَعَانِي، وَ حَقَائِقَ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ مِنَ الكُتُبِ؛ فَلِلَّهِ دَرُّ مُؤَلِّفِهِ.

  • وَ يَكْفِي فِي مَقَامِ عَظَمَةِ هَذَا الكِتَابِ الشَّرِيفِ- كَمَا قُلْنَاهُ- اشْتِبَاهُ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

33
  • جَمْعٍ مِنَ الأعَاظِمِ وَ القَولُ بِأنَّهُ مِنْ تَألِيفِ الإمَامِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أو مِنْ تَقْرِيرِهِ وَ إمْلَائِهِ؛ وَ كَفَى بِهِ فَضْلًا وَ مَقَامَاً.۱

  • كان هذا كلامه، و محصّله: أنَّ هذا الكتاب ليس للإمام الصادق عليه السلام على التحقيق، و أنَّه قد الِّفَ بعد القرن الثاني، أي بعد مضي أكثر من نصف قرن على وفاة الإمام الصادق عليه السلام (لأنَّ شهادة الإمام الصادق عليه السلام في سنة مائة و ثمان و أربعين، و قد الِّف هذا الكتاب بعد القرن الثاني)، لكن لم يُعلم زمان تأليفه على التحديد.

  • و الباعث على تأليفه هو أنَّ بعض الحكماء المتألّهين و العلماء الربّانيّين و الراسخين في العلم من فقهاء الشيعة المهمّين و الحائزين على مقام الربّانيّة و الروحيّة، و من خُلَّص الشيعة، لمّا رأوا انتشار مطالب باسم العرفان و التوحيد و الإلهيّات و الدعوة إلى الله، و أنَّها موضوعات مثيرة للانتباه أيضاً، و أنَّ أصحابها يجذبون الناس إليهم بهذه الوسيلة مع أنَّهم لم يكونوا على الحقّ (و يبعدون الامَّة عن مذهب أهل البيت عليهم السلام) لذا انبروا إلى تأليف كتاب تأييداً للمذهب و تحكيماً لأساس الشريعة الحقّة المحقّة بهذا الشكل و هذه الصورة بنحو كانت جميع مضامينه مضامين حقّة و موجودة في الدين المبين أيضاً.

  • و أمّا السبب في نسبته إلى الإمام الصادق عليه السلام دون سائر الأئمّة، فباعتبار أنَّ الإمام الصادق عليه السلام هو رئيس المذهب، و مذهبنا منسوب إليه، فأرادوا القول بأنَّ هذه العقائد هي نفس العقائد الصادقيّة،

    1. «مصباح الشريعة» طبعة طهران، مركز نشر الكتاب، سنة ۱٣۷٩ هجريّة، مع تحقيق و تقدمة و تصحيح الصديق الجليل و العالم الموقّر الحاجّ الشيخ حسن المصطفويّ دامت معاليه.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

34
  • و قصدوا بذلك أن يدعوا الناس إلى عدم التوجّه إلى الآخرين، بتوهّم وجود هذه المطالب الظريفة و الدقيقة عند الفرق الاخرى، و إنَّما هي عن الإمام الصادق عليه السلام، و قد تكلّم بها الإمام الصادق عليه السلام.

  • و عندئذٍ فإذا شاهدنا أنَّه قد نقلت بعض المطالب من بينها أحياناً عن آخرين كسفيان بن عيينة و الربيع بن خُثيم و أمثالهما فلأجل تأييد هذه المطالب عند الآخرين من الذين يعتمدون على كلام الزهّاد الثمانية و أمثالهم، و هذا لا يعني أنَّ الذين جمعوا الكتاب يعتقدون بهم حقّاً.

  • فهذا ما استنتجه من هذا الكتاب و بيّنه بهذا الشكل.

  • و لنري الآن: هل هذا الكلام مقبول، بأن يطرح الإنسان أساس و بنيان «مصباح الشريعة» بهذا النحو و يقول: إنَّه قد جاء شخص بعد قرنين من زمان شريعة رسول الله صلّى الله عليه و آله، و بعد نصف قرن من زمان الإمام الصادق عليه السلام علي أقلّ التقادير و ألَّف كتاباً من عند نفسه، و قال فيه: قالَ الصَّادق، قالَ الصَّادق؛ مع أنَّه لم يكن من كلام الإمام الصادق؟! و إنَّ هذه المطالب استنباطات و ليست من كلام الإمام الصادق عليه السلام وحده، و قد جُمعت من كلام الأئمّة و رسول الله و أمير المؤمنين عليهم الصلاة و السلام. فهل يستطيع المرء أن يخرج ما يراه مسلّماً في مذهب الشيعة في قالب عباراته الخاصّة (مثل الآداب المذكورة في هذا الكتاب الشريف) و يقول: قال الصادق، فهل هذا صحيح؟!

  • فهل بقي مذهب الشيعة وحيداً و ضعيفاً إلى هذا الحدّ؟ و هل بقي الإمام الصادق عليه السلام وحيداً و ضعيفاً إلى هذا الحدّ لكي نأتي فنضع رواية من عندنا و ننسبها إليه تأييداً للمذهب؟! إنَّ هذا الكلام غير تامّ.

  • و إضافة إلى ذلك، فبأيّ دليل يمكن القول إنَّ هذا الكتاب قد الِّف بعد القرن الثاني؟

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

35
  • ردّ صاحب «المستدرك» على صاحب «رياض العلماء»

  • أمّا قول الملّا عبد الله الأفنديّ بأنَّ هذا الكتاب ليس من تأليف هشام بن الحكم أيضاً، و ذلك لذكره أسماء أشخاص كانوا بعد هشام، فقد كان هشام معاصراً للإمام الصادق عليه السلام و من طلّابه. و إذا ثبت أنَّ هؤلاء الأشخاص من المتأخّرين عن زمان هشام فلا تكون نسبة هذا الكتاب إليه صحيحة. فقد ردّ الحاجّ النوريّ هذا الكلام و قال: إنَّ الأشخاص الذين ذكرت أسماؤهم في هذا الكتاب (مثل: سلمان، أبو ذرّ، وهب بن منبّه، هرم بن حيّان، اويس القرنيّ، زيد بن ثابت، و أبو الدرداء و غيرهم) كلّهم كانوا قبل هشام، ما عدا سفيان بن عيينة الذي كان معاصراً له.

  • و الحاجّ النوريّ يعترض على صاحب «رياض العلماء» قائلًا: إنّي لأعجب منه في العلم، كيف يرتكب خطأ كهذا مع إحاطته و تبحّره في العلم. و يقول: إنَّ بعض هؤلاء الأشخاص قد كانوا بعد هشام.

  • نعم؛ يوجد هنا أمر و هو محلّ كلام، حيث: إذا كان هذا الكتاب من عبارات الإمام الصادق عليه السلام، فكيف يستشهد الإمام بكلام سفيان بن عيينة الذي لم يكن قد تجاوز سنّ الشباب في زمان الإمام الصادق؟!

  • كانت وفاة الإمام الصادق عليه السلام، على ما يبدو، في السابعة و الستّين من عمره، سنة مائة و ثمان و أربعين، بينما توفّي سفيان بن عيينة أواخر القرن الثاني، أي بعد سنة مائة و تسعين؛ فقد عاش ما يقرب خمسين سنة بعد الإمام الصادق. و لذا يكون في زمان الإمام الصادق عليه السلام لا يزال شابّاً.

  • و لم يكن بشكل من الأشكال بمستوى تشيّع و تديّن هشام بن الحكم، بل كان شخصاً منحرفاً، و كلامه بالنسبة لنا- نحن الشيعة- غير قابل للاحتجاج به، فمن المستبعد جدّاً أن يستشهد الإمام عليه السلام بكلام شابّ منحرف.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

36
  • و على أيّة حال، فليس من الصحيح أن ننسب الكتاب إلى أحد كبار علماء الشيعة (لأنَّ المسلّم به أنَّ الذي ألَّف هذا الكتاب فقيه شيعيّ عارف بالفقه الأكبر و الفقه الأصغر معاً، و عالم بالرموز و الدقائق العرفانيّة و بروح التوحيد) دون أن يكون قد ذكر اسمه، و قد جعل هذه العبارات من عنده و نسبها للإمام الصادق عليه السلام!

  • الشواهد الدالّة على أنَّ «المصباح» ليس من كتابة الإمام الصادق‌

  • و لكن هل نستطيع أن نقول إنَّ هذا الكتاب من تأليف نفس الإمام، و إنَّ الإمام عليه السلام هو الذي كتبه بقلمه، و إنَّه قال: قَالَ الصَّادِقُ عَلَيهِ السَّلَامُ كَذَا؟!

  • لا يمكن نسبة هذا الادّعاء و ذلك، أوّلًا: لأنَّه يقول في صدر «مصباح الشريعة»: أمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا كِتَابُ «مِصْبَاحِ الشَّرِيعَةِ وَ مِفْتَاحِ الحَقِيقَةِ» مِنْ كَلَامِ الإمَامِ الحَاذِقِ وَ فَيَّاضِ الحَقَائِقِ، جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، عَلَى آبَائِهِ وَ عَلَيهِ السَّلَامُ. و عند ما يكتب الإنسان كتاباً من عند نفسه لا يذكر هذه العبارات قائلًا: أنا فيّاض الحقائق و الإمام الحاذق، بل يقول- مثلًا- كما في بعض الروايات: هَذا مَا قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ.

  • و ثانياً: لقد ذكر في صدر جميع أبواب هذا الكتاب: قَالَ الصَّادِقُ عَلَيهِ السَّلَامُ. و لو كان هذا الكلام من إملائه عليه السلام لما قال: قَالَ الصَّادِقُ عَلَيهِ السَّلَامُ، لأنَّ الصادق لقب له، لا أنَّه عليه السلام يسمّي نفسه به، و الذي ينبغي قوله، مثلًا: قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. و لما قال كذلك في حقّ نفسه عليه السلام، و لكن يقول قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ، أو ما شابه هذا التعبير.

  • و على هذا، فالمسلّم به أنَّ هذا الكتاب ليس من خطّ و تأليف و كتابة نفس الإمام عليه السلام. نعم؛ من الممكن أن يكون الإمام قد أملاه على شخص آخر، و قام هذا بكتابته. و هذا اسلوب رائج و دارج، فيضيف‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

37
  • الكاتب من عنده لفظ «عليه السلام» و يقول: قَالَ الصَّادِقُ عَلَيهِ السَّلَامُ، كما يذكر في صدر الكتاب عبارة: أنَّ هذا الكتاب ليس من تأليفي، و هو عن الإمام الحاذق و فيّاض الحقائق جعفر بن محمّد الصادق، و هذا ممّا لا إشكال فيه.

  • لكنَّ العلّامة النوريّ رحمه الله يقول هنا: يجب أن يتّضح الموضوع آخر الأمر و نري مقالة اولئك الذين يشكّكون في هذا الكتاب، فهل يقولون: إنَّ هذا الكتاب تأليف أشخاص كانوا قبل الإمام الصادق و ظلّوا إلى زمانه، و إنَّه قد نُسب فيما بعد إلى الإمام الصادق؟

  • فهذا كلام لا يمكن قبوله، لأنَّه و إن كان يوجد في هذا الكتاب مطالب دقيقة في علم التصوّف، و قد ذكر فيه أشخاص مثل طاوس اليمانيّ و مالك بن دينار و ثابت البنانيّ و أبي أيّوب السجستانيّ و حبيب الفارسيّ و صالح المُرّيّ و أمثالهم (من المتصوّفين الذين كانوا قبل عصر الإمام الصادق عليه السلام)، لكن لم يُذكر لهؤلاء كِتَابٌ يُعْرَفُ مِنْهُ أنَّ «المِصْبَاحَ» عَلَى اسْلُوبِهِ لكي نقول: إنَّ كتاب «المصباح» هو ذلك الكتاب، أو إنَّه مقتبس و مأخوذ منه.

  • وَ مِنَ الجَائِزِ أن يَكُونَ الأمْرُ بِالعَكْسِ، أي أنَّ اولئك المتصوّفين المعاصرين للإمام الصادق عليه السلام أو المتأخّرين عنه قد سلكوا هذه المعاني على طريقة الإمام و أخذوا من كلماته الحقّة و مزجوه بِضِغْثٍ مِنْ أبَاطِيلِهِمْ، كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ كُلِّ مُبْدِعٍ مُضِلٍّ، و من ثمّ قاموا بنشره.

  • وَ يُؤَيِّدُهُ اتِّصَالُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ إلَيهِ وَ إلَى الأئِمَّةِ مِن وُلْدِهِ كَشَقِيقِ البَلْخِيِّ وَ مَعْرُوفٍ الكَرْخِيِّ وَ أبِي يَزيدٍ البَسْطَامِيِّ (طَيْفُور السَّقَّاء) كَمَا يَظْهَرُ مِن تَرَاجِمِهِمْ فِي كُتُبِ الفَرِيقَيْنِ، فَيَكُونُ مَا الِّفَ بَعْدَهُ عَلَى اسْلُوبِهِ وَ وَتِيرَتِهِ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

38
  • انتبهوا جيّداً إلى ما يريد أن يقوله رحمه الله!

  • «المصباح» ك «تحف العقول» و «إرشاد القلوب» في التلقّي بالقبول‌

  • ثمّ يجيب على الإشكال الذي اورد على «المصباح» بفقدانه للسند، فيقول: لدينا الآن كتباً كثيرة لا تمتلك سنداً في الواقع، لكنّها تُلقّيت بالقبول شيئاً فشيئاً و صارت جزءاً من الكتب المعوّل عليها، و ما ذا ينقص «مصباح الشريعة» عنها لكي تجعلوا تلك الكتب مداراً للعمل دونه؟!

  • فكتاب «تحف العقول» للحسن بن عليّ بن شعبة الذي لم يكن له و لا لمؤلّفه ذكر بين أصحابنا قبل كتاب «مجالس المؤمنين»، إلَّا مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الشَّيخِ إبْرَاهِيمَ القَطِيفِيّ في الرسالة التي ألّفها في الفرقة الناجية، فقد أورد ذكر «تحف العقول» و مؤلّفه، ثمّ قام بعده تبعاً له الشيخ الحرّ العامليّ رحمة الله عليه بنقل روايات كثيرة في كتاب «وسائل الشيعة» عن «تحف العقول». و ما يُستفاد في «أمل الآمل» عن «مجالس المؤمنين» للقاضي نور الدين الشوشتريّ هو الاكتفاء بمدح الكتاب و مدح كاتبه.

  • و يُشابه «تحف العقول» و مؤلّفه في عدم الذكر و جهالة الكتاب و راويه، كتاب «إرشاد القلوب» للحسن بن أبي الحسن الدَّيلَميّ، و قد نقل عنه صاحب «وسائل الشيعة» كثيراً، و يعدّه من جملة الكتب المعتمدة التي ينقل عنها، و شهد بوثاقة مؤلّفها، مع أنَّه لم يرد ذكر لهذا الكتاب، فيما وصلنا و الشيخ الحرّ من مؤلّفات الأصحاب، سِوى مَا نَقَلَهُ عَنِ الشَّيخِ عَنِ ابْنِ فَهْدٍ في «عدّة الداعي» من أنَّه قد ذكر مؤلّفه الحسن بن أبي الحسن الديلميّ في بعض المواضع.

  • لكن من أين عرف الشيخ الحرّ العامليّ هذا الكتاب؟! و كيف شهد بصحّته؟! فَهَلْ هَذَا إلَّا تَهَافُتٌ فِي المَذَاقِ وَ تَنَاقُضٌ فِي المَسْلَكِ؟!

  • فإذا كان اللازم أن يصل إليكم الكتاب من الطريق المتعارف و يثبت طريقه إلي الإمام و تطمئنُّوا لنسبته إلي الإمام، فكيف تنقلون في كتابكم عن‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

39
  • هذه الكتب دون وجود المستندات التي تقولون بها و تنهجون عليها؟! فتنقلون في «المسالك» عن «تحف العقول» و «إرشاد الديلميّ» مع أنَّه لم يكن لهذين الكتابين من أثر في كتب الأصحاب؟!

  • فإن قلتم: إنَّنا نتسامح من باب التسامح في أدلّة السنن، لأنَّ كتابي «تحف العقول» و «الإرشاد» يشتملان غالباً على المطالب الأخلاقيّة لا على الفروع و الأحكام.

  • نقول جواباً على ذلك: فلما ذا إذَن لم تكفكم شهادة جميع هؤلاء الأجلّاء الذين اعتبروا «مصباح الشريعة» و اعتمدوه؟! و ما ذا ينقص «مصباح الشريعة» عن ذينك الكتابين لكي ترونهما معتبرين، بينما ترون «مصباح الشريعة» بهذه الشدّة؟! فدعوا ذينك الكتابين في موضعيهما، و أضيفوا إليها ثالثاً و هو «مصباح الشريعة» عن الصادق عليه السلام!

  • و كذلك يطرح نفس السؤال في صحّة نسبة كتاب «الاختصاص» للشيخ المفيد أيضاً، وَ قَدْ تَسَامَحَ فِيهِ بِمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاقِدِ البَصِيرِ. و في نسبته إلى الشيخ المفيد كلام؛ فلا نستطيع أن نقول إنَّ كتاب «الاختصاص» هو من تأليف الشيخ المفيد، و غاية ما يمكن قوله: إنَّ كتاب «الاختصاص» منسوب إلى الشيخ المفيد.

  • يعتبر العلّامة النوريّ قدّس سرّه «المصباح» لفضيل بن عياض‌

  • و يصل المرحوم العلّامة النوريّ في المطلب إلى هنا ثمّ يقول: لقد الِّف في زمان الإمام الصادق عليه السلام ستّة كتب، جميع مؤلّفيها من طلّاب و أصحاب الإمام، و ليس في أيدينا في هذه الأيّام شي‌ء من هذه الكتب، فلربّما كان «مصباح الشريعة» واحداً من هذه الكتب الستّة. و يذكر النجاشيّ خمسة أشخاص ممّن ألَّفوا كتباً في زمان الصادق عليه السلام.

  • الأوّل: محمّد بن مَيمون أبو نصر الزعفرانيّ، عامّيّ غَيْرَ أنَّهُ رَوَى عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِمَا السَّلَامُ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

40
  • الثاني: فُضيل بن عياض، بصريّ ثقة، عامّيّ و هو يروي أيضاً عن أبي عبد الله.

  • الثالث: عبد الله بن أبي اويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ؛ لَهُ نُسْخَةٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِمَا السَّلَامُ.

  • الرابع: سفيان بن عُيَيْنَة بن أبي عمران الهلاليّ الذي كان جدّه أبو عمران أحد عمّال خالد القَسْرِيّ؛ و هو أيضاً يمتلك نسخة عن جعفر بن محمّد عليهما السلام.

  • الخامس: إبراهيم بن رجاء الشيبانيّ أبو إسحاق المعروف بابن أبي هراسة و امّه عامّيّة المذهب، و يروي عن الحسن بن عليّ بن الحسين عليهما السلام، و عن عبد الله بن محمّد بن عمر عن عليّ عليه السلام، و عن جعفر بن محمَّد عليهما السلام؛ وَ لَهُ عَنْ جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلَامُ نُسْخَةٌ.

  • و يضيف المرحوم الشيخ في «الفهرست» نسخة اخرى عن جعفر بن بشير البجليّ، و يقول: ثِقَةٌ جَلِيلُ القَدْرِ؛ إلَى أن قَالَ: وَ لَهُ كِتَابٌ يُنْسَبُ إلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِمَا السَّلَامُ رِوَايَةَ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى عَلَيهِمَا السَّلَامُ.

  • يقول العلّامة النوريّ رحمه الله: هذه النسخ الستّة منسوبة إلى الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، و هي بالطبع غير «الرسالة الأهوازيّة» و الرسالة التي كتبها الإمام لأصحابه و الموجودة في أوّل «روضة الكافي»، فَمِنَ الجَائِزِ أن يَكُونَ إحْدَاهُمَا «المِصْبَاحُ».

  • فَلِمَ لا نقول: إنَّ كتاب «المصباح» هو أحد هذه النسخ الستّة التي نُقلت لنا و التي فقدناها الآن؟ خُصُوصاً مَا نُسِبَ إلَى الفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ؛ وَ هُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ الصُّوفِيَّةِ وَ زُهَّادِهِم حَقِيقَةً كَمَا يَظْهَرُ مِنْ تَوْثِيقِ النَّجَاشِيّ؛ وَ مَدَحَهُ الشَّيخُ بِالزُّهْدِ.

  • لما ذا لا نقول: إنَّ مضمون الكتاب يطابق أفكار الفضيل، و هو من‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

41
  • تأليفه؟ لأنَّ الفضيل هو من اولئك الصوفيّين الحقيقيّين و الزهّاد الواقعيّين و من مشاهيرهم (لا من اولئك الصوفيّين المعاندين و الظاهريّين، أصحاب الدكاكين) و قد وثّقه الشيخ النجاشيّ أيضاً، و مدحه الشيخ الطوسيّ بالزهد، فَلِمَ لا نقول إنَّ هذه النسخة هي نسخة فُضيل؟ أي أنَّ الإمام الصادق عليه السلام قد أملاها، و قام فضيل بكتابتها.

  • و أضف إلى ذلك، تلك الرواية التي في «أمالى الصدوق» و المنسوبة إلى فضيل بن عياض و يقول فيها:

  • سَألْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ عَنْ أشْيَاء مِنَ المَكَاسِبِ فَنَهَانِي عَنْهَا. و كما يبدو أنَّها كانت بعض المكاسب التي لها جانب حكومة و ولاية و ترتبط بالحاكم، فنهاه الإمام عليه السلام عن هذه الأعمال التي لها علاقة بالحكومة!

  • وَ قَالَ: يَا فُضَيْلُ! وَ اللهِ لَضَرَرُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذِهِ الامَّةِ أشَدُّ مِنَ التُّرْكِ وَ الدَّيْلَمِ.

  • ثمّ قال فضيل: وَ سألْتُهُ عَنِ الوَرَعِ مِنَ النَّاسِ.

  • قَالَ: الَّذِي يَتَوَرَّعُ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ وَ يَجْتَنِبُ هَؤُلَاءِ؛ وَ إذَا لَمْ يَتَّقِ الشُّبَهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ وَ هُوَ لَا يَعْرِفُهُ؛ وَ إذَا رَأى مُنْكَراً فَلَمْ يُنْكِرْهُ وَ هُوَ يَقْدِرُ عَلَيهِ فَقَدْ أحَبَّ أن يُعْصَى اللهُ. إنَّ الله تَبَارَكَ وَ تَعَالَى حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى هَلَاكِ الظَّالِمِينَ فَقَالَ: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

  • ثمّ يقول العلّامة النوريّ: وَ قَالَ الاسْتاذُ الأكبَرُ- أي الوحيد البهبهانيّ- في التَّعلِيقَةِ: وَ في هَذِهِ الرِّوَايَةِ رُبَّمَا يَكُونُ إشْعَاراً بأنَّ فُضَيْلًا لَيْسَ عَامِّيَّاً؛ فَتَأمَّل! أي أنَّ فُضيلَ لم يكن عامّيّ المذهب، لأنَّ جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام لا يقول للشخص المخالف: وَ اللهِ لَضَرَرُ هَؤُلَاءِ

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

42
  • عَلَى هَذِهِ الامَّةِ أشَدُّ مِنَ التُّرْكِ وَ الدَّيْلَمِ؛ فيُعلم من هذا أنَّ فُضيل من هذه الامَّة.

  • ثُمَّ ذَكَرَ خَبَراً مِنَ «العُيُونِ» فِيهِ إشْعَارٌ بِعَامِّيَّتِهِ. و ينقل الكلينيّ عن الفضيل رواية في باب الحسد، و رواية اخرى في باب الإيمان و الكفر، و ثالثة في باب الكفالة و الحوالة.

  • و يتابع العلّامة النوريّ رحمة الله عليه المطلب إلى هنا، و يستنتج آخر الأمر قائلًا:

  • وَ بِالجُمْلَةِ: فَلَا أسْتَبْعِدُ أن يَكُونَ «المِصْبَاحُ» هُوَ النُّسْخَةَ الَّتِي رَوَاهَا الفُضَيلُ، وَ هُوَ عَلَى مَذَاقِهِ وَ مَسْلَكِهِ.

  • وَ الَّذِي: أنَّهُ جَمَعَهُ مِنْ مُلْتَقَطَاتِ كَلِمَاتِهِ عَلَيهِ السَّلَامُ فِي مَجَالِسِ وَعْظِهِ وَ نَصِيحَتِهِ؛ وَ لَوْ فُرِضَ فِيهِ شَي‌ءٌ يُخَالِفُ مَضْمُونُهُ بَعْضَ مَا فِي غَيْرهِ وَ تَعَذَّرَ تَأوِيلُهُ، فَهُوَ مِنهُ عَلَى حَسَبِ مَذْهَبِهِ لَا مِنْ فِرْيَتِهِ وَ كِذْبِهِ، فَإنَّهُ يُنَافِي وَثَاقَتَهُ.

  • وَ قَدْ أطْنَبْنَا الكَلَامَ فِي شَرْحِ حَالِ «المِصْبَاحِ» مَعَ قِلَّةِ مَا فِيهِ مِنَ الأحْكَامِ، حِرْصاً عَلَى نَثْرِ المآثِرِ الجَعْفَرِيَّةِ وَ الآدَابِ الصَّادِقِيَّةِ، وَ حِفْظاً لِابْنِ طَاوُسٍ وَ الشَّهِيدِ وَ الكَفْعَمِيِّ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَن نِسْبَةِ الوَهْمِ و الاشْتِبَاهِ إلَيْهِمْ؛ وَ اللهُ العَاصِم.

  • لقد كانت هذه مطالب صاحب «مستدرك الوسائل» في خاتمته، و إلى هنا ينتهي كلامه؛ و يصل الدور الآن لنري هل كان الأمر كما ذكره المرحوم النوريّ قدّس الله نفسه، أو هو بنحو آخر؟

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

44
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ السَّابِعُ وَ العِشْرُونَ: يُشْتَرَطُ في الفَتْوى صَفاء القَلْب إضَافَة إلى الاجْتهاد

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

46
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • تقع روايات المعصومين في مراحل متفاوتة من ناحية عمق الدلالة

  • الروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين ليست على نسق واحد، و لها من ناحية المضمون و المحتوي مراتب مختلفة. فبعضها يحتوي على معانٍ بسيطة و قابلة للفهم من قبل عامّة الناس، و بعضها تشتمل على معانٍ دقيقة، و بعضها أكثر دقّة، إلى أن يصل الأمر في بعضها المشتمل على المسائل الحكميّة و الإلهيّة الغامضة لمستوي لا يتمكّن من إدراكها فيها إلّا الأوحديّ من الناس.

  • إنَّ ما يميّز كلمات الأئمّة عليهم السلام على سائر العبارات ليست من ناحية اللفظ و العبارة، و لا من جانب الفصاحة و البلاغة فحسب، بل تتميّز عن سائر كلمات الناس بسموّ المعني، و عمق الدلالة، و غني المضمون.

  • لقد التبس الأمر على كثير من قصيري النظر من أهل الظاهر و زمرة من الأخباريّين في هذه المسألة و توهّموا أنَّ ميزة كلمات الأئمّة تنحصر في حسن العبارة فقط، و عليه فهي قابلة للفهم بالنسبة إلي الجميع، لذلك‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

47
  • يقولون: إنَّ الأخبار التي في أيدينا هي كلّ شي‌ء، فلم يعد ثمّة حاجة إلى الحكمة و العلوم العقليّة، فكلّ ما هنالك موجود في بيت أهل البيت، و من الخطأ تجاوز هذا البيت.

  • أجل؛ كلّ شي‌ء موجود في بيت أهل البيت، و تجاوزهم خطأ بدوره، لكنَّ الكلام هو في ماهيّة ذلك الشي‌ء الموجود في بيت أهل البيت، فهل هو ذلك الشي‌ء الذي يدركه الجميع، و نجده في دكّان كلّ بقّال و عطّار؟ أم أنَّ في بيت أهل البيت رموزاً و أسراراً لم يتمكّن حتّى العلماء و كبار المحقّقين و الفلاسفة ذوي العزّ و الإكرام ممّن صرف عمراً من الدراسة و التحقيق، إلّا إدراك بعض نكاتها، كما لم يتمكّن كبار العرفاء بعد صرف عمر من المشقّة و حرقة القلب و السلوك إلّا من استشمام بعض معانيها؟

  • إنَّ كلّ شي‌ء موجود في أخبار الأئمّة عليهم السلام، هذا صحيح، و لكن مَن الذي يفهم الخبر و يدركه؟ فهل يمكن الوصول إلى تلك الأسرار من دون العلوم العقليّة؟ و هيهات؛ فإنَّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يحتكّون بجميع طبقات الناس، و يتكلّمون معهم جميعاً، و كانوا طبقاً لما قاله رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنَّا مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ امِرْنَا أن نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ.۱ يتكلّمون مع كلّ شخص بقدر فهمه. يقول‌

    1. «اصول الكافي» ج ۱، ص ٢٣، حديث ۱٥، كتاب العقل و الجهل- جَمَاعَةٌ مِنْ أصْحَابِنَا، عَنْ أحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّال، عَنْ بَعْضِ أصْحَابِنَا، عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ، قَالَ: مَا كَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ العِبَادَ بِكُنْهِ عَقْلِهِ قَطُّ؛ وَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: إنَّا مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ امِرْنَا أن نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ.
      و قد وردت الرواية في« تحف العقول» ص ٣٦؛ و في« بحار الأنوار» ج ۱۷، ص ٤۱، كتاب الروضة، طبعة الكمبانيّ، و في الطبعة الحروفيّة، مطبعة الحيدريّ، ج ۷۷، ص ۱٤۰ عن« تحف العقول» القسم الثاني.
      و في« المحاسن» للبرقيّ،، ۱، ص ۱٩٥، يروي بالإسناد عن سليمان بن جعفر بن إبراهيم الجعفريّ مرفوعاً أنَّه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: إنَّا مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ نُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ. 
      و أورد في« المحجّة البيضاء» ج ۱، ص ٦٦،\iُ عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: خَالِطُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَ دَعُوهُمْ مِمَّا يُنْكِرُونَ، وَ لَا تُحَمِّلُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ وَ عَلَيْنَا، إنَّ أمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أو نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أو مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ‌\E( الصفّار في« بصائر الدرجات» ص ٩).

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

48
  • الشاعر:

  • چون‌كه با كودك سروكارم فتاد***هم زبان كودكان بايد گشاد۱
  • ***
  • و لم يتكلّم رسول الله صلّى الله عليه و آله أيضاً مع جميع الناس كما تكلّم مع خواصّه. فمخاطبة ذوي المستوي الفكريّ السطحيّ بحسب مستواهم يكون مفيداً لهم، بينما مخاطبتهم بمستوى أعلى يعرّضهم للانكسار و الإفساد لافتقارهم إلي الإدراك.

  • و قد ورد في الرواية أنَّ تعليم الحكمة للجهّال يُعتبر ظلماً للحكمة، كما أنَّ الامتناع عن تعليمها لأهلها ظلم لهم. و قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تعلّقوا الجواهر في أعناق الخنازير.٢

    1. يقول:« و حيث قد صار اختلاطي و انشغالى مع الأطفال فيجب أن أتكلّم بلغتهم».
    2. قال المحدّث القمّيّ رحمة الله عليه في« سفينة البحار» ج ۱، ص ٢٩٢، في مادّة( حَكَمَ): و في« منية المريد»: رُوِي عَنِ الصَّادقِ عَلَيهِ السَّلَامُ، قَالَ: قَامَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَ آلِهِ وَ عَلَيهِ السَّلَامُ خَطِيباً فِي بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَالَ: يَا بَنِي إسْرَائِيلَ! لَا تُحَدِّثُوا الجُهَّالَ بِالحِكْمَةِ فَتَظْلِمُوهَا؛ وَ لَا تَمْنَعُوهَا أهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ! فَأقُولُ عَلَى طِبْقِ مَا قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: إيَّاكَ وَ أن تَعْرُجَ مَعَ الجَاهِلِ عَلَى بَثِّ الحِكْمَةِ وَ أن تَذْكُرَ لَهُ شَيئاً مِنَ الحَقَائِقِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أنَّ لَهُ قَلْباً طَاهِراً لَا تَعَافُهُ الحِكْمَةُ؛ فَقَدْ قَالَ أمِيرُ المؤْمِنِين عَلَيهِ السَّلَامُ: لَا تُعَلِّقُوا الجَوَاهِرَ فِي أعْنَاقِ الخَنَازِيرِ! و في« المحجّة البيضاء» ج ۱، ص ٩۱: وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: كَلِّمُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَ دَعُوا مَا يُنْكِرُونَ! أ تُرِيدُونَ أن يُكَذَّبَ اللهُ وَ رَسُولُهُ؟« صحيح البخاريّ» ج ۱، ص ٤٣؛ و قد أوردها في« كنوز الحقائق» باب الكفاف بلفظ: حَدِّثُوا النَّاسَ؛ كما أوردها النعمانيّ في« الغيبة» بناءً على نقل« البحار» من طبعة الكمبانيّ ج ٢، ص ۷۷.
      وَ قَالَ عِيسَى عَلَيهِ السَّلَامُ: لَا تَضَعُوا الحكْمَةَ عِنْدَ غَيْرِ أهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا؛ وَ لَا تَمْنَعُوهَا أهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ! كُونُوا كَالطَّبِيبِ الرَّفِيقِ يَضَعُ الدَّوَاءَ فِي مَوضِعِ الدَّاءِ( ابن عبد البرّ في« كتاب العلم» كما ورد في مختصره ص ٥٥؛ و أيضاً الدارميّ في« السنن» ج ۱، ص ۱۰٦ باختلاف يسير في اللفظ). و في لفظ آخر: مَن وَضَعَ الحِكْمَةَ فِي غَيْرِ أهْلِهَا جَهِلَ وَ مَن مَنَعَهَا أهْلَهَا ظَلَمَ، إنَّ للحِكْمَةِ حَقّاً، وَ إنَّ لَهَا أهْلًا فَأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

49
  • في أخبار الائمّة عليهم السلام جواهر مثقلة بالاسرار للخواصّ‌

  • لقد كان الأئمّة عليهم السلام يتعاملون مع جميع الناس، و قد صدرت منهم محاورات و مذاكرات على جميع المستويات، لذا كان معني بعض الروايات بسيطاً جدّاً بنحو يمكن فهمه من عامّة الناس، بينما كان بعضها الآخر دقيقاً، و بعضها أكثر دقّة، كما يوجد في بعض الروايات معانٍ غامضة صعبة الفهم و مشكلة جدّاً.

  • و الروايات الموجودة في «التوحيد» للصدوق رحمة الله عليه، و كلمات الإمام الرضا عليه السلام فيما ورد الكثير منها في كتاب «عيون أخبار الرضا» هي بهذا النحو. و توجد في بعض خطب «نهج البلاغة» معانٍ دقيقة لكلمات أمير المؤمنين عليه السلام، و هي تتصاعد أحياناً إلى حدٍّ لا يستطيع أحد إدراك مطالبها، فكيف نستطيع القول بأنَّ جميع هذه الروايات قابلة للفهم من الجميع؟! و إنَّ كلّ ما نريده يمكننا أن نحصل عليه من الروايات؟!

  • نقل عن المرحوم آية الله الحاجّ الميرزا أحمد الكفائيّ الخراسانيّ، ابن المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ محمّد كاظم الخراسانيّ صاحب «كفاية

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

50
  • الاصول» أنَّه قال: لقد درست «شرح اصول الكافي» للملّا القزوينيّ، و قال لي أبي يوماً: تعال لكي أقول لك شيئاً، إنّك إن لم تدرس مقدّمات الفلسفة لن تفهم شيئاً من هذه الروايات.۱

  • و ذلك لأنَّ الأسرار الإلهيّة و مقام التوحيد الذي يصل إليه المؤمنون بعد السنين المتمادية من العلم و العمل لا يحصل للوهلة الاولي، و ذلك المؤمن الذي استوعب تلك المعاني لا يستطيع نقلها و إلقاءها على من لم يستوعبها، و لربّما كان ذلك سبباً لإضلالهم.

  • و لهذا السبب لم يبح رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بأسراره إلّا لأمير المؤمنين عليه السلام فقط، فلدينا روايات متواترة عن الفريقين أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قد أباح بأسراره للإمام وحده، و كذلك لبعض من أصحابه الخاصّين مثل سلمان الذي كان صاحب سرّ أيضاً.

  • و في الرواية: أنَّ مدركات سلمان كانت أكثر من مدركات أبي ذرّ، و أنَّ مقامه في التوحيد كان أدقّ. فذاك التوحيد الذي كان قد أدركه سلمان لم يكن قد أدركه أبو ذرّ مع جميع تلك المقامات و الدرجات و الصدق الذي كان يمتلكه، لا أنَّ أبا ذرّ كان رجلًا خائناً، أو معدوداً من الكاذبين، بل كان من خواصّ رسول الله صلّى الله عليه و آله بكلّ ما للكلمة من معني، لكنَّ وعاءه الفكريّ وسعته ليس في مستوي سلمان، و ذلك بمعني أنَّ ذلك المقدار من المعرفة التي كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يتمكّن من إلقائها في قرارة ذهنه و نفسيّته كان محدوداً بحدّ معيّن، بينما كان استعداد سلمان أكثر سعة، و كان قد وصل إلي مطالب أرقي من العرفان بينما كان‌

    1. مجلة« كيهان انديشه» عدد ۱، مرداد و شهريور ۱٣٦٤ ه-. ش، ص ۱٩ في ضمن كلام العالم الجليل السيّد جلال الدين الآشتيانيّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

51
  • إدراك ذلك الحال غير ممكن بالنسبة إلى أبي ذرّ، أي لو ألقي سلمان مطالبه لأبي ذرّ لردّها و اتّهمه بالشرك و الكفر، و حمل كلامه على الكفر! لَوْ عَلِمَ أبُو ذَرٍّ مَا فِي قَلْبِ سَلْمَانَ لَقَتَلَهُ أوْ كَفَّرَهُ. 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

52
  • ... ۱

    1. يقول في« الوافي» ج ۱، ص ۸، الطبعة الحجريّة، سنة ۱٣٢٤، و في ج ۱، ص ۱۱ من الطبعة الحروفيّة في أصفهان: وَ قَالَ سَيِّدُ العَابِدِينَ وَ زَيْنُهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيهِ: لَوْ عَلِمَ أبْو ذَرٍّ مَا فِي قَلْبَ سَلْمَانَ لَقَتَلَهُ. و في رواية: لَكَفَّرَهُ.
      يروي في« بحار الأنوار» ج ٦، ص ۷٥٤، طبعة الكمبانيّ، و ج ٢٢، ص ٣٤٣، حديث ٥٣، الطبعة الحروفيّة الحيدريّة، عن« الكافي»\iُ عن أحمد بن إدريس، عن عمران بن موسى، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: جري حديث عند الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام عن التقيّة فَقَالَ: لَوْ عَلِمَ أبُو ذَرٍّ مَا فِي قَلْبِ سَلْمَانَ لَقَتَلَهُ، وَ لَقَدْ آخَى رَسُولُ اللهِ بَيْنَهُمَا، فَمَا ظَنُّكُمْ بِسَائِرِ الخلْقِ؟! إنَّ عِلْمَ العُلَمَاءِ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أوْ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أوْ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ. فَقَالَ: وَ إنَّمَا صَارَ سَلْمَانُ مِنَ العُلَمَاءِ لأنَّه امْرُؤٌ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ، فَلِذَلِكَ نَسَبْتُهُ إلى العُلَمَاءِ.\E« اصول الكافي» ج ۱، ص ٤۰۱. و قد أورد عين هذا المتن بتفاوت« فَلِذَلِكَ نَسَبَهُ إلَيْنَا» في« بصائر الدرجات» ص ۸.
      يقول المجلسيّ رضوان الله عليه في بيانه في ذيل هذه الرواية: مَا فِي قَلْبِ سَلْمَانَ أي مِن مَرَاتِبِ مَعْرِفَةِ اللهِ وَ مَعْرِفَةِ النَّبِيِّ و الأئِمَّةِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيهِمْ. فَلَو كَانَ أظْهَرَ سَلْمَانُ لَهُ شَيْئاً مِن ذَلِكَ لَكَانَ لَا يَحْتَمِلُهُ وَ يَحْمِلُهُ عَلَى الكِذْبِ، وَ يَنْسِبُهُ إلى الارْتِدَادِ أوِ العُلُومِ الغَرِيبَةِ وَ الآثَارِ العَجِيبَةِ الَّتِي لَو أظْهَرَهَا لَهُ لَحَمَلَهَا عَلَى السِّحْرِ فَقَتَلَهُ؛ وَ كَانَ يُفْشِيهِ وَ يُظْهِرُهُ لِلنَّاسِ فَيَصِيرُ سَبَبَاً لِقَتْلِ سَلْمَانَ عَلَى الوَجْهَيْنِ ... إلى آخره.
      و يروي في« بحار الأنوار» ج ٦، طبعة الكمبانيّ، في نفس الصفحة، و في ص ٣٤٦ من الطبعة الحروفيّة، الحيدريّة،\iُ عن« الاختصاص» للشيخ المفيد، بسنده المتّصل عن عيسى بن حمزة، قال: قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ الحَدِيثَ الَّذِي جَاءَ فِي الأرْبَعَةِ، قَالَ: وَ مَا هُوَ؟! قُلْتُ: الأرْبَعَةُ الَّتِي اشْتَاقَتْ إلَيْهِمُ الجَنَّةُ. قَالَ: نَعَمْ، مِنْهُمْ سَلْمَانُ وَ أبُو ذَرٍّ وَ المقْدَادُ وَ عَمَّارُ. قُلْنَا: فَأيُّهُمْ أفْضَلُ؟! قَالَ: سَلْمَانُ. ثُمَّ أطْرَقَ، ثُمَّ قَالَ: عَلِمَ سَلْمَانُ عِلْماً لَوْ عَلِمَهُ أبُو ذَرٍّ كَفَرَ.\E« الاختصاص» ص ۱۱. و روي في« بحار الأنوار» ج ٦، ص ۷٦٢، طبعة الكمبانيّ، و ج ٢٢، ص ٣۷٣ و ٣۷٤، حديث ۱٢، الطبعة الحروفيّة، الحيدريّة؛ و\iُ« رجال الكشّيّ» بسنده عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام قال: دَخَلَ أبُو ذَرٍّ عَلَى سَلْمَانَ وَ هُوَ يَطْبَخُ قِدْراً لَهُ فَبَيْنَا هُمَا يَتَحَادَثَانِ إذَا انْكَبَّتِ القِدْرُ عَلَى وَجْهِهَا عَلَى الأرْضِ فَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ مَرَقِهَا وَ لَا مِنْ وَدَكِهَا شَي‌ءٌ. فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ أبُو ذَرٍّ عَجَباً شَدِيداً؛ وَ أخَذَ سَلْمَانُ القِدْرَ فَوَضَعَهَا عَلَى حَالِهَا الأوَّلِ عَلَى النَّارِ ثَانِيَةً وَ أقْبَلا يَتَحَدَّثَانِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَتَحَدَّثَانِ إذَا انْكَبَّتِ القِدْرُ عَلَى وَجْهِهَا فَلَمْ يَسْقُطْ مِنْهَا شَي‌ءٌ مِنْ مَرَقِهَا وَ لَا مِنْ وَدَكِهَا! قَالَ: فَخَرَجَ أبُو ذَرٍّ وَ هُوَ مَذْعُورٌ مِنْ عِنْدِ سَلْمَانَ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ إذْ لَقِيَ أمِير المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلامُ عَلَى البَابِ. فَلَمَّا أنْ بَصَّرَ بِهِ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ: يَا أبَا ذَرٍّ! مَا الَّذِي أخرَجَكَ وَ مَا الَّذِي ذَعَرَكَ؟ فَقَالَ لَهُ أبُو ذَرٍّ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! رَأيْتُ سَلْمَانَ صَنَعَ كَذَا و كَذَا فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلامُ: يَا أبَا ذَرٍّ! إنَّ سَلْمَانَ لَوْ حَدَّثَكَ بِمَا يَعْلَمُ، لَقُلْتَ: رَحِمَ اللهُ قَاتِلَ سَلْمَانَ. يَا أبَا ذَرٍّ! إنَّ سَلْمَانَ بَابُ اللهِ فِي الأرْضِ؛ مَنْ عَرَفَهُ كَانَ مُؤْمِناً، وَ مَنْ أنْكَرَهُ كَانَ كَافِراً؛ وَ إنَّ سَلْمَانَ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ.\E« رجال الكشّيّ» ص ۱۰.
      و بالطبع فإنَّ هذه الدرجات و المقامات قد كانت له بسبب عظمة نفسه و صبره و تحمّله في سبيل الله و في ذات الله، كما يتّضح ذلك من قياسه بأبي ذرّ في الرواية السابقة.
      يروي المجلسيّ في« بحار الأنوار» ج ٦، ص ۷٤۸، طبعة الكمبانيّ، و ج ٢٢، ص ٣٢۰، حديث ۸، الطبعة الحروفيّة، الحيدريّة،\iُ عن« عيون أخبار الرضا»، عن الدقّاق، عن الصوفيّ، عن الرويانيّ، عن عبد العظيم الحسنيّ، عن أبي جعفر الثاني( الإمام محمّد التقيّ)، عن آبائه عليهم السلام أنَّه:\E
      قَالَ: دَعَا سَلْمَانُ أبَا ذَرٍّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا إلى مَنْزِلِهِ فَقَدَّمَ إلَيْهِ رَغِيفَيْنِ، فَأخَذَ أبُو ذَرٍّ الرَّغِيفَيْنِ يُقَلِّبُهُمَا؛ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: يَا أبَا ذَرٍّ لأيِّ شَي‌ءٍ تُقَلِّبُ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ؟! قَالَ: خِفْتُ أنْ لَا يَكُونَا نَضِيجَيْنِ. فَغَضِبَ سَلْمَانُ مِنْ ذَلِكَ غَضَباً شَدِيداً، ثُمَّ قَالَ: مَا أجْرَأكَ حَيْثُ تُقَلِّبُ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ؟! فَوَ اللهِ لَقَدْ عَمِلَ فِي هَذَا الخُبْزِ المَاءُ الَّذِي تَحْتَ العَرْشِ، وَ عَمِلَتْ فِيهِ المَلَائِكَةُ حَتَّى ألقَوْهُ إلى الرِّيحِ، وَ عَمِلَتْ فِيهِ الرِّيحُ حَتَّى ألْقَتْهُ إلى السَّحَابِ، وَ عَمِلَ فِيهِ السَّحَابُ حَتَّى أمْطَرَهُ إلى الأرْضِ، وَ عَمِلَ فِيهِ الرَّعْدُ وَ الملَائِكَةُ حَتَّى وَضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ، وَ عَمِلَتْ فِيهِ الأرْضُ وَ الخَشَبُ وَ الحدِيدُ وَ البَهَائِمُ وَ النَّارُ وَ الحَطَبُ وَ المِلْحُ، وَ مَا لَا احْصِيهِ‌ أكْثَرُ، فَكَيْفَ لَكَ أنْ تَقُومَ بِهَذَا الشُّكْرِ؟! فَقَالَ أبُو ذَرٍّ: إلى اللهِ أتُوبُ وَ أسْتَغْفِرُ اللهَ مِمَّا أحْدَثْتُ وَ إلَيْكَ أعْتَذِرُ مِمَّا كَرِهْتَ. 
      قَالَ: وَ دَعَا سَلْمَانُ أبَا ذَرٍّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا ذَاتَ يَوْمٍ إلى ضِيَافَةٍ فَقَدَّمَ إلَيْهِ مِنْ جِرَابِهِ كِسَراً يَابِسَةً وَ بَلَّهَا مِنْ رَكْوَتِهِ؛ فَقَالَ أبُو ذَرٍّ: مَا أطْيَبَ هَذَا الخُبْزَ لَوْ كَانَ مَعَهُ مِلْحٌ! فَقَامَ سَلْمَانُ وَ خَرَجَ فَرَهَنَ رَكْوَتَهُ بِمِلْحٍ وَ حَمَلَهُ إلَيْهِ. فَجَعَلَ أبُو ذَرٍّ يَأكُلُ ذَلِكَ الخُبْزَ وَ يَذُرُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ المِلْحَ وَ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنَا هَذِهِ القَنَاعَةَ. فَقَالَ سَلْمَانُ: لَوْ كَانَتْ قَنَاعَةً لَمْ تَكُنْ رَكْوَتِي مَرْهُونَةً!« عيون أخبار الرضا» ص ٢۱٥ و ٢۱٦. 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

53
  • لاحظوا دقّة المطلب، ففي الوقت الذي كان فيه أبو ذرّ يجلس مع سلمان و يتناولان الطعام معاً، و على الرغم من رفاقتهما و إقامة عقد الاخوَّة بينهما، لكن كان هناك تفاوت في الإدراك بينهما إلى درجة أنَّ أبا ذرّ لو اطّلع على مدركات سلمان لقتله أو لرآه مهدور الدم، حيث سيري الشرك أو الكفر في عقيدته! لأنَّ سلمان وصل إلى مرحلة من مراحل التوحيد لم يدركها أبو ذرّ بعد، لأنَّ ذلك التوحيد في نظر أبي ذرّ عين عبادة الأصنام.

  • و هذا يشبه المطالب الرائجة في أيّامنا هذه على الألسن من أنَّ فلاناً ممّن يقول بوحدة الوجود، و أنَّه لا ينبغي لأحد أن يذكر وحدة الوجود، و أنَّ العقيدة في وحدة الوجود كفر و شرك!

  • وحدة الوجود من أرقي أسرار آل محمّد عليهم السلام‌

  • وحدة الوجود من أعظم و أعلى و أصعب و أدقّ مسائل الحكمة المتعالية، و فهمها ليس يسيراً هيّناً، فعلى الإنسان أن يجدّ و يكدّ طوال عمره علماً و عملًا. و هل سيفهمه الله أصل و حقيقة وحدة الوجود أو لا؟! فهذا من الأسرار التي لا يمكن البوح بها لأيٍّ كان.

  • لو قال إنسان آخر: الوجود واحد. فما ذا يفهم من هذا الكلام؟ يقولون إنَّ معني هذا الكلام هو وجود واحد متحقّق لا غير، إنّه وجود

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

54
  • الذات الإلهيّة المقدّسة، أي أنَّ جميع الأشياء هي الله، و لذا يتوهّمون بأنَّ الإنسان هو الله و الخنزير هو الله و الكلب هو الله و القاذورات هي الله و الزاني هو الله و المزني به هو الله!

  • هذا كفر و شرك؛ و القائل بوحدة الوجود لا يقول إنَّ الزاني و المزني يه هو الله، و إنَّ الكلب و الخنزير هو الله؛ و هو لا يقول إنَّ الإنسان هو الله، و لا يقول إنَّ من هو أرقي من الإنسان (الملائكة) هو الله، و لا يقول إنَّ الملائكة المقرّبين و الروح هم الله، و لا يقول إنَّ جبرئيل و الروح الأمين و روح القدس هم الله.

  • إنَّه يقول: إنَّ هؤلاء جميعاً موجودات متعيّنة و متقيّدة و محدودة و مشخّصة، و الله تعالى لا حدّ له، و حتّى النبيّ مع جميع تلك اللامحدوديّة التي يمتلكها بالنسبة لجميع الموجودات، لكنّه بالنسبة إلى الله محدود و ممكن. فهو لا يقول إنَّه الله؛ فالقائل بوحدة الوجود يقول بأنَّه ليس هناك شي‌ء غير الله.

  • هناك فرق بين أن نقول إنَّ جميع الأشياء هي الله (كُلُّ شَيْ‌ءٍ هُوَ الله) أو نقول لا شي‌ء موجود غير الله. فالقائل بوحدة الوجود يقول: لا وجود في العالم لغير الذات المقدّسة لواجب الوجود على الإطلاق، فالوجود الاستقلاليّ واحد فقط، و هو قد غمر جميع الموجودات وَ لَا تَشُذُّ عَنْ حيطَةِ وُجودِهِ ذَرَّة! و كلّ وجود تحسبونه وجوداً مستقلًّا فاستقلاله هذا ناشئ عن عدم إبصاركم و عدم إدراككم. الوجود المستقلّ هو وجوده وحده فقط، و وجود جميع الموجودات ظلّيّ و تبعيّ و اندكاكيّ و آليّ لأصل الوجود، و وجود الجميع قائم بتلك الذات المقدّسة للحيّ القيّوم.

  • القائل بوحدة الوجود يقول: ليس هناك ذات مستقلّة يمكن إطلاق الوجود عليها غير الذات الإلهيّة، و جميع عالم الإمكان مِنَ الذَّرَّةِ إلى‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

55
  • الدُّرَّة، فانٍ و مندكّ في وجوده، و ليس هناك وجود يمتلك الاستقلال، أو يستطيع أن يظهر نفسه في مقابل وجوده، فالجميع ظلال لوجوده.

  • لا أن يقول: كُلُّ شَي‌ءٍ هُوَ الله، فبلفظ «الشي‌ء» يُشار إلى الحدود الماهويّة.

  • و الحدود كلّها نواقص و عدم و فقر و احتياج، فأيّ مناسبة لها مع الله؟ و هذا من المسلّم كونه شركاً.

  • لكنَّ هذا المطلب الذي يجب أن يثبت بعد السنين المتمادية بالبرهان القاطع، أو يدرك بالقلب بواسطة السير و السلوك إلى الله، إذ وضعه الإنسان بين يدي الناس حتّى اولئك الذين هم من أهل العلم- لكن ممّن لا يمتلكون قدماً ثابتة في المعارف الإلهيّة- فما ذا يفهمون منه؟ يقولون إنَّ فلاناً من أهل وحدة الوجود، و وحدة الوجود شرك و كفر و ما شابه.

  • إنّك لا تفهم معني وحدة الوجود أصلًا! و لا تستوعبه! إنَّ وحدة الوجود سرّ آل محمّد، وحدة الوجود حقيقة الولاية، وحدة الوجود حقيقة النبوّة، وحدة الوجود حقيقة كلّ شي‌ء من جهة ربط الخاصّ بالذات الإلهيّة المقدّسة، وحدة الوجود هي ذلك المقام التوحيديّ الذي جاء به النبيّ، و سُفكت كلّ هذه الدماء لكي يقولوا لَا إلَهَ إلَّا اللهُ.

  • لا فرق بين وحدة الوجود و توحيد الوجود، فالتوحيد يعني جعله واحداً، و الوحدة تعني كونه واحداً، فما الفرق بين هذا و ذاك؟! فذاك من باب التفعيل، ثلاثيّ مزيد، و هذا من باب المجرّد، فاحذفوا لفظ التوحيد في الوجود الذي يقوم الإسلام عليه وضعوا مكانه لفظ الوحدة. فيكون لفظ الوحدة مكان التوحيد.

  • أنتم لا تستوحشون من التوحيد، فَلِمَ تخافون من الوحدة؟! هذه أسرار غامضة، لو أراد سلمان أن يبرزها لمن هو دونه لما تحمّلوها و لقالوا

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

56
  • هذا شرك.

  • هذه أسرار حقيقة القرآن و نهاية سير البشر، و على الجميع أن يطووا هذا الطريق إلى أن يصلوا إلى هناك، و قد جاء النبيّ لأجل إيصال هذا المعني، فلا يمكن تربية الإنسان دون أن يصل إلى ذلك المعني، و إلّا كان العالم عبثاً. كما أنَّه و من جهة اخرى، لا يستطيع بيان هذا المعني للجميع، لأنَّه غير قابل للإدراك للجميع.

  • و لذا، فهو يذكره لبعض خواصّه فقط الذين يمتلكون قابليّة ذلك و يستوعبونه، فيكون بهذا جزءاً من الأسرار.

  • خطبة «نهج البلاغة»: وَ لَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فِيّ بِرَسُولِ اللهِ ...

  • يوجد في بعض الروايات رموز من هذا القبيل ممّا قد بيّنه الأئمّة الأطهار لبعض خواصّهم، و ذلك عملًا بالسيرة التي أخذها كلّ واحد من الأئمّة عن الآخر، وصولًا إلى أمير المؤمنين عليه السلام و رسول الله صلّى الله عليه و آله.

  • ورد في «نهج البلاغة»:

  • وَ اللهِ لَوْ شِئْتُ أنْ اخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَ مَوْلِجِهِ وَ جَمِيعِ شَأنِهِ لَفَعَلْتُ! وَ لَكِنْ أخَافُ أنْ تَكْفُرُوا فِيَّ بِرَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. ألَا وَ إنِّي مُفْضِيهِ إلَى الخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ. وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ وَ اصْطَفَاهُ عَلَى الخَلْقِ مَا أنْطِقُ إلَّا صَادِقاً. وَ قَدْ عَهِدَ إلَيَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَ بِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ وَ مَنْجَى مَنْ يَنْجُو، وَ مَآلِ هَذَا الأمْرِ. وَ مَا أبْقي شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأسِي إلَّا أفْرَغَهُ فِي اذُنَيَّ وَ أفْضَى بِهِ إلَيَ‌- الخطبة.۱

  • أي أنِّي لو شئت لأخبرت كلّ واحد منكم بالطريق الذي جاء منه‌

    1. «نهج البلاغة» الخطبة ۱۷٣؛ و من طبعة مصر بتعليقة الشيخ محمّد عبده، ج ۱، ص ٣٢٤ و ٣٢٥.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

57
  • و بالطريق الذي يذهب إليه، و عن مبدئه و منتهاه، و عن جميع شئونه و حالاته و كيفيّاته و موقعه و ظاهره و باطنه.

  • و خلاصة الأمر، عن جميع أفكاره و نيّاته و اموره المتغيّرة، لكنّي أخاف إن أخبرتكم بذلك أن تكفروا في برسول الله، أي تدعوا رسول الله جانباً و تقولوا إنَّ كلّ ما هنالك فهو عند عليّ، فإنَّ هذه الامور التي يُخبر بها عليّ لم يخبر بها النبيّ؛ و عليه، فالأصل هو عليّ، و النبيّ شخصيّة ليس لها حساب!

  • مع أنَّ الأمر ليس كذلك، فكلّ ما لديّ هو من رسول الله، و أنِّي شعاع من النبيّ و تلميذه، و قد كان النبيّ استاذي، لكنّه لم يكن ليظهر أسراره، و أنا أيضاً لن اظهرها و إنَّما أقول: لو شئت لأخبرت، لكن هل اخبر بذلك؟ كلَّا؛ فكذا النبيّ لم يخبر به أيضاً؛ لأنَّكم لا تمتلكون القابليّة، فلو بيّنتُ لكم شيئاً لاتّخذتموني إلهاً و لأنكرتم رسول الله أيضاً.

  • ألَا وَ إنِّي مُفْضِيهِ إلَى الخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ. فاعلموا؛ أنِّي إن كنت لا اخبركم فهذا لا يعني أنِّي لا اخبر أحداً على الإطلاق، بل إنِّي ابيِّن هذه الأسرار و المطالب للخواصّ المأمونين الذين لا يكفرون فيَّ برسول الله.

  • هناك أشخاص معيّنون من الخواصّ ممّن اطمئنُّ إلى إعطائهم هذه المطالب و إيصالها إلى قلوبهم و بيانها لهم و إلقائها عليهم، لكنّي لا أطمئنُّ إليكم، عموماً.

  • ما ذا تريد أن تُبيِّن هذه الرواية؟ إنَّها توضّح أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يمتلك أسراراً لا يمتلك الجميع قابليّة تحمّلها، و هو نفسه يقول: إنّي لا أستطيع أن أبوح لكم بذلك، إذ إنِّي بهذا أهدم الشريعة، كما أنِّي في نفس الوقت لا أستطيع أن أتجاهل ذلك، لأنَّ الهدف من أصل بناء عالم‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

58
  • الخلقة هو تربية الإنسان الكامل، و كمال الإنسان إنَّما يكون بالعرفان و إدراك الأسرار، بل يجب أن اوصلها إلى الخواصّ الذين يؤمن ذلك منهم.

  • أبيات مشهورة للإمام زين العابدين في لزوم كتمان السرّ.

  • ثمّة أشعار للإمام زين العابدين عليه السلام، من المسلّم نسبتها إليه، ذكرت عنه في كتب مختلفة، منها كتاب «الوافي» للمرحوم الفيض‌۱، في المقدّمة، و منها «الاصول الأصيلة»٢، و هو كتاب مختصر للمحقّق الفيض أيضاً٣. كما ذكرها المحقّق الفيض في كتب اخرى مثل «المحجّة البيضاء»٤ و «الكلمات المكنونة»٥؛ و ذكرها الآلوسيّ في تفسير «روح المعاني»٦، و الغزالي و العلّامة الأمينيّ‌۷ أيضاً عنه عليه السلام.

  • إنَّ نسبة هذه الأشعار إلى الإمام زين العابدين عليه السلام مسلّمة من طريق الشيعة و السنّة۸، و هي من الأشعار المعروفة و المشهورة، يقول عليه‌

    1. «الوافي» الطبعة الحجريّة، سنة ۱٣٢٤ هجريّة، ج ۱، ص ۸؛ و الطبعة الحروفيّة، أصفهان، ج ۱، ص ۱۱.
    2. «الاصول الأصيلة» بتصحيح و تعليق المحدّث الارمويّ، ص ۱٦۷.
    3. يقول السيّد جلال الدين المحدّث الارمويّ في تعليقة ص ۱٦۷ من« الاصول الأصيلة»: إنَّ نسبة هذه الأشعار للإمام السجّاد عليه السلام مشهورة، و هي في غالب كتب المصنّف مأثورة عن الإمام عليه السلام، و حتّى الغزالي قد نقلها في كتبه و نسبها إلى الإمام السجّاد عليه السلام.
    4. «المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء» ج ۱، ص ٦٥، كتاب العلم من ربع العبادات.
    5. «الكلمات المكنونة» انتشارات فراهاني، ص ۸.
    6. السيّد محمود البغداديّ الآلوسيّ في تفسير« روح المعاني» ج ٦، ص ۱٩۰.
    7. «الغدير» ج ۷، ص ٣٥ و ٣٦؛ من تفسير الآلوسيّ، ج ٦، ص ۱٩۰.
    8. لقد نسب ابن أبي الحديد في« شرح نهج البلاغة» ج ۱۱، ص ٢٢٢، طبعة دار إحياء الكتب العربيّة، هذه الأشعار للحسين بن منصور الحلّاج. و هذه النسبة خاطئة، و ذلك أوّلًا: لأنَّ الحسين بن منصور لم يكن من أهل التقيّة و الكتمان، و قد أفشي الأسرار ممّا أدّى إلى قتله. يقول حافظ الشيرازيّ عليه الرحمة( في ديوانه، طبعة حسين پژمان، ص ٥۱، في الغزل الرقم ۱۱۱):
      مشكل خويش بر پير مغان بردم دوش‌***كو به تأييد نظر حلّ معمّا ميكرد
      ديدمش خرّم و خندان قدح باده به دست‌***و اندر آن آينه صد گونه تماشا ميكرد
      گفت آن يار كزو گشت سرِدار بلند***جرمش آن بود كه أسرار هويدا ميكرد
      --يقول:« ليلة أمس حملتُ مشكلتي إلى شيخ المجوس( المرشد) .. فهو قادر على أن يحلّ اللغز بتأييد من نظره.فرأيته فرحاً باسماً و في يده كأس الشراب .. و كان يتفرّج في مرآتها على مئات الاشكال.قال: إنَّ هذا الصديق( يقصد الحلّاج) الذي ارتفعت به قمّة المشنقة .. كان جرمه أنَّه أذاع الأسرار».ثَانياً: ما هي مناسبة قوله:
      وَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا أبُو حَسَنٍ‌***إلى الحُسَيْنِ وَ أوْصَي قَبْلَهُ الحَسَنَا
      --مع أنَّ الحلّاج الذي بينه و بين اولئك الأئمّة أكثر من قرنين من الزمان؟ثالثاً: لم يكن الحلّاج من أهل أتباع الشيخ و المراد ليعتبر نفسه في هذه الأبيات تابعاً لهؤلاء الأئمّة. فالحلّاج قد التقي بأكثر من أربعمائة شيخ، لكنّه لم يخضع للتربية و التعليم، و هذا الأمر هو الذي جعله يظهر و يبرز مطالب يحرم إظهارها ممّا أدّى إلى إضلال الخلق و هدر دمه.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

59
  • السلام:

  • إنِّي لأكْتُمُ مِنْ عِلْمِي جَوَاهِرَهُ‌***كَيْ لَا يَرَى الحَقَّ ذُو جَهْلٍ فَيُفْتَتَنَا
  • ***
  • يقول: إنّي لأخفي تلك الجواهر و النفائس من علمي و لا ابيّنها لكي لا يطّلع عليها الأشخاص الذين لا يتمكّنون من استيعابها، إنَّ أفكاري و علمي و جواهري تلك هي عين الحقّ، لكنّي اخفي هذا الحقّ لكي لا يطّلع عليه رجل جاهل، إذ لو اطّلع عليه فإنَّه يُفتتن، و يوقعنا في الفتنة و يثير الفساد و المشاكل و القيل و القال، و يخرج نفسه من الإيمان، و يسبب الاختلاف في العالم، و يجلب لنا المشاكل و الصعاب و مشاقّ الامور بسبب‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

60
  • دعوتي له إلى الحقّ، و الحقّ يعني ذلك العلم الحقّ الحقيقيّ، أو التوحيديّ الواقعيّ الذي لا يستطيع تحمّله.

  • إنَّ غالب الناس من ذوي الجهل، و هم محرومون من هذه المعاني الحقّة، و لا طريق لإيصال ذلك لهم، لأنَّهم لا يستطيعون إدراكها. و لذا، يكون اطّلاعهم على هذه الامور سبباً للفساد و الضياع.

  • وَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا أبُو حَسَنٍ‌***إلَى الحُسَيْنِ وَ أوْصَي قَبْلَهُ الحَسَنَا
  • ***
  • و إخفائي لجواهر العلم أمر لا يختصّ بي، إذ قد قام بذلك قبلي أبو الحسن أمير المؤمنين عليه السلام، فهو أيضاً لم يبيّن ذلك لأحد، و أعطي ذلك العلم إلى أبي فقط، و كان قد أوصي به قبل ذلك إلى عمّي الحسن المجتبي عليه السلام، و أوصاه أيضاً بإخفاء هذا العلم و عدم إيصاله إلى أحد.

  • وَ رُبَّ جَوْهَرِ عِلْمٍ لَوْ أبُوحُ بِهِ‌***لَقِيلَ لِي أنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الوَثَنَا
  • وَ لاسْتَحَلَّ رِجَالٌ مُسْلِمُونَ دَمِي***‌يَرَوْنَ أقْبَحَ مَا يَأتُونَهُ حَسَنَا
  • ***
  • المراد بجوهر العلم هو العلوم الأصيلة و الواقعيّة و غير القابلة للتشكيك و التي تعدّ جميع العلوم في مقابلها اعتباريّة و باطلة و مجازاً، بينما يكون ذلك العلم هو العلم الجوهر، أي العلم الأصيل بالواقع و الحقيقة. فكم من العلوم التي لو أظهرتها و بيّنتها لاتُّهمتُ بعبادة الأوثان و الخروج عن الإسلام! حيث يُتصوّر أن ليس للمسلم مثل هذه العقيدة، و ما هي إلّا عقيدة عبدة الأوثان! و عندها يستحلّ جماعة من المسلمين دمي و يقتلونني، إذ يرونني كافراً بسبب ما أقوله!

  • و هؤلاء المسلمون يرون قتلي- الذي هو أسوأ الأعمال- حسناً، و يقولون: إنَّ هذا الرجل كافر و مشرك و عابد للصنم؛ فيجب قتله و سفك دمه، يجب إزالة هذا القائل بوحدة الوجود عن وجه الأرض، و تطهير

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

61
  • الأرض من لوث وجوده لكي لا يظهر بين المسلمين نظير له، فيفعلون ذلك العمل مع كونه: أقْبَحَ مَا يَأتُونَهُ.

  • ثمة رجل في عالم الوجود، و هو أنا الإمام عليّ بن الحسين، و جميع تلك الحقائق قد اعطيت لي، و قتلي من أسوأ الأعمال، مع أنَّ الناس يرونه حسناً، و حتّى أنَّ البعض يأتون بهذا العمل قربة إلى الله بتوهّم أنَّهم يقومون بإزالة أساس الشرك من الدنيا!

  • و على هذا فما الذي يجب فعله؟ إنِّي لأكْتُمُ مِنْ عِلْمِي جَوَاهِرَهُ؛ عَلَيَّ أن أكتم جواهر علمي (العلوم ذات الجوهر، لا كلّ علم) فإنّي ابيّن جميع المطالب للناس. ابيّن في هذه الأدعية مطالب كثيرة و أتلو الصحيفة السجّاديّة و اجيب على أسئلة الناس، لكنّي لا ابيّن تلك الأسرار و الدقائق و اللطائف إلّا لُاولئك الخواصّ من الذين: يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ.

  • كان الائمّة عليهم السلام يبيّنون الاسرار لخواصّ أصحابهم‌

  • و هكذا كان الأمر بالنسبة للإمام الباقر عليه السلام مع بعض خواصّ أصحابه، و بالنسبة للإمام السجّاد عليه السلام مع الإمام الباقر عليه السلام، و عُمل بذلك من بعده بالنسبة للإمام الصادق عليه السلام، فقد كان لهم أيضاً أصحاب خاصّة يبيّنون لهم من تلك الأسرار و يؤكّدون عليهم بعدم إبرازها، فإنَّ هذه الأسرار تختصّ بهم. نعم؛ يسمح لهم ببيان ذلك في المورد الذي يرون في شخص ما قابليّة لها، و إلّا فلا.

  • و قد كان هؤلاء الأشخاص اناساً اعتياديّين جدّاً، و كثيراً ما لم يكونوا من أهل الكتب و التصنيف أو مشايخ الإجازة، و إنَّما كانوا سقّاء في البيت أو حاجباً له، لكنّهم كانوا طاهرين، و من أهل العشق و إحياء الليل، و خالين من الأهواء، و كانوا يسمعون اموراً من الأئمّة عليهم السلام فيستوعبونها و يعملون بها؛ لذا، فقد ارتفعت الحجب عن أعينهم و اتّصلوا بحقيقة التوحيد، مع أنَّهم كانوا- مثلًا- يأتون الإمام بالماء و يمارسون عمل‌۱

  • ولاية الفقيه في حكومة الإسلام ؛ ج‌٣ ؛ ص٦۱

    1. حسينى طهرانى، سيد محمد حسين، ولاية الفقيه في حكومة الإسلام، ٤جلد، دار المحجة البيضاء - بيروت - لبنان، چاپ: ۱، ۱٤۱۸ ه.ق.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

62
  • السقاية، و لم يكن يطّلع على الأمر أحد.

  • يأتي كبار المشايخ و صغارهم و يملئون بيت الإمام، آلاف من الطلّاب يأتون من البلدان المترامية و يكتبون الحديث دون أن يعرفوا مَن هو ذلك السقّاء في بيت الإمام، ذلك الشخص الذي يأمرونه و ينهونه، و قد يؤنّبونه فيما لو تأخّر قليلًا في جلب الماء! فلم يعرفوا أنَّه ممّن قد تجاوز المجرّات و بات يعيش في أعلى علّيين، و أنَّ على العديد من أمثالهم أن يستفيدوا من علومه.

  • لكنّ ما يؤسف له كثيراً هو تكبّر الإنسان الذي لا يستطيع التنازل و لا التصديق بأنَّ ذلك السقّاء في بيت الإمام عليه السلام الذي يذهب و يملأ جرّة الماء يمتلك مقاماً كهذا.

  • و كم من هؤلاء المُستخدمين، الذين يأتوننا بالماء أو يكنسون بيوتنا، تكون حالاتهم النفسانيّة و الروحيّة و ملكاتهم و معتقداتهم مشابهة لبايزيد البسطاميّ و معروف الكرخيّ.

  • كان بايزيد البسطاميّ و معروف الكرخيّ من هؤلاء الأشخاص، من الذين عدّهم المحدِّث العظيم و الخرّيت الجليل الحاجّ الميرزا حسين النوريّ رحمة الله عليه من الصوفيّين و اعتبرهم من زمرة أهل البيت، و يقول: «كانت لهم تلفيقات و تمويهات، و إنَّهم جاءوا إلى الأئمّة عليهم السلام و استفادوا منهم ثمّ خلطوا ذلك بمزخرفاتهم و تمويهاتهم و خدعوا الناس بألفاظ مثل: الصَّحْو، و السُّكْر، و العشق، و الوصل، و الفراق، و المشاهدة، و الإنّيّة، و الجذبة.»۱

    1. «مستدرك الوسائل» ج ٣، ص ٣٣۱، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح أحوال الكتب و مؤلّفيها، من آخر السطر السابع إلي السطر الحادي عشر: وَ لَيْسَ لِمَنْ تَقَدَّمَ الصَّادِقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، كَطاوُسِ اليَمَانِيِّ وَ مَالِكِ بْنِ دِينَارِ وَ ثابِتِ البُنَانِيِّ وَ أيُّوبَ السَّجِسْتَانِيِّ وَ حَبِيبِ الفَارِسِيِّ وَ صَالِحِ المُرّيِّ وَ أمْثَالِهِمْ كِتَابٌ يُعْرَفُ مِنهُ: أنَّ« المِصْباحَ» عَلَى اسْلُوبِهِ. وَ مِنَ الجَائِزِ أن يَكونَ الأمْرُ بِالعَكْسِ؛ فَيَكونُ الَّذِينَ عَاصَرُوهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ أوْ تَأخَّرُوا عَنْهُ سَلَكُوا سَبِيلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا المَقْصَدِ، وَ أخَذُوا ضِغْثاً مِنْ كَلِمَاتِهِ الحَقَّةِ وَ مَزجُوهَا بِضِغْثٍ مِنْ أبَاطِيلِهِمْ كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ كُلِّ مُبْدِعٍ مُضِلٍّ. وَ يُؤَيِّدُهُ اتِّصَالُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَ إلى الأئِمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ كَشَقِيقٍ البَلْخيِّ وَ مَعْرُوفٍ الكَرْخيِّ، وَ أبُو يَزيدَ البَسْطَامِيِّ( طَيْفُورِ السَّقَّاء) كَمَا يَظْهَرُ مِنْ تَراجِمِهِمْ فِي كُتُبِ الفَرِيقَيْنِ فَيَكُونُ مَا الِّفَ بَعْدَهُ عَلَى اسْلوبِهِ وَ وَتيرَتِهِ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

63
  • و تكون النتيجة أن تمرّ القرون بعد القرون، و يمضي أكثر من ألف سنة دون أن تصل يد الإنسان إلى ذرّة من مدارج بايزيد أو معروف تلك.

  • لما ذا نقوم بذلك؟ لما ذا نعزل أمر هؤلاء بهذا النحو؟ لِمَ لا نُقنِع أنفسنا بأنَّه من الممكن لشابّ أن يأتي فيخدم في بيت الإمام الصادق أو الرضا عليهما السلام فينال مقامات عالية و يصير من خواصّهم؟

  • يقول العلّامة الحلّيّ رضوان الله عليه في «شرح التجريد» في باب الإمامة، في شرح كلام الخواجة نصير الدين الطوسيّ رحمه الله «وَ تَمَيُّزُهُ بِالكَمالاتِ النَّفْسانيَّةِ وَ البَدَنِيَّةِ وَ الخارِجِيَّة»، و يتوسّع في الشرح حتّى يصل حيث يقول: وَ قَدْ نشَرُوا مِنَ العِلْمِ وَ الفَضْلِ وَ الزُّهْدِ وَ التَّرْكِ لِلدُّنْيا شَيْئاً عَظيماً، حَتَّى أنَّ الفُضَلَاءَ مِنَ المَشايخِ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِخِدْمَتِهمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَأبُو يَزِيدَ البَسْطَامِيُّ كَانَ يَفْتَخِرُ بِأنَّهُ يَسْقِي المَاءَ لِدَارِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ وَ مَعْرُوفٌ الكَرْخِيُّ أسْلَمَ عَلَى يَدَيِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَ كَانَ بَوَّابَ دَارِهِ إلَى أنْ مَاتَ؛ وَ كَانَ أكْثَرُ الفُضَلَاءِ يَفْتَخِرُونَ بِالانْتِسَابِ إلَيْهِمْ فِي العِلْمِ ... إلى آخره.۱

    1. «كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد» ص ٢٤٩، طبعة صيدا، سنة ۱٣٥٣.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

64
  • و لقد رأيت نفس هذه المطلب في عبارات الملّا محمّد تقي (المجلسيّ الأوّل) في «رسالة تشويق السالكين» التي كتبها حول لزوم التصوّف و السلوك، و أثبت أنَّ حقيقة التصوّف و التشيّع شي‌ء واحد؛ فقد نقل عين هذا المطلب عن العلّامة الحلّيّ في «شرح التجريد». ۱

  • إمكان كون كتاب «مصباح الشريعة» من تأليف فضيل بن عياض‌

  • كان فُضيل من أعاظم الصوفيّين الحقيقيّين و وثّقه النجاشي و الشيخ كان فُضَيل بن عياض من خواصّ أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام. فقد كان في أوّل أمره من اللصوص و قطّاع الطرق، و كان يقطع الطريق في نواحي خراسان بين أبيوَرْد و سرخس، و قصّته طويلة، فلقد وقعت آية من القرآن في قلبه و أحدثت فيه انقلاباً، فسار نحو المدينة إلى الإمام الصادق عليه السلام و صار من خواصّ أصحابه، و من الزهّاد و الصوفيّين بالمعني الحقيقيّ، و ذا سيرة طاهرة و مُعرِضاً عن الدنيا، من ۱- يقول: الصوفيّ بمعني الزاهد عن الدنيا و الراغب في الآخرة و الملتزم بتطهير الباطن، و كان جميع علماء الإسلام الأعلام صوفيّين. و من جملة من ذكرهم: الخواجة نصير الدين الطوسيّ، ورّام الكنديّ، السيّد رضي الدين عليّ بن طاوس، السيّد محمود الآمليّ صاحب كتاب «نفائس الفنون»، و السيّد حيدر الآمليّ صاحب تفسير «بحر الأبحار»، و ابن فهد الحلّيّ، و الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائيّ، و الشيخ الشهيد مكّي، و الشيخ بهاء الدين العامليّ، و القاضي نور الله الشوشتريّ الذي هو من السلسلة العليّة النوربخشيّة. و يثبت في كتاب «مجالس المؤمنين» بالدلائل القويّة أنَّ جميع المشايخ المشهورين كانوا من الشيعة.

  • و يقول العلّامة الحلّيّ في كتاب الإمامة من «شرح التجريد»: قد نقل متواتراً أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام كان سيّد و رئيس الأبدال، و كانوا يأتون إليه من جميع أنحاء العالم لأجل تعلّم آداب السلوك و الرياضات و طريق الزهد و ترتيب الأحوال و ذكر مقامات العارفين. و الشيخ أبو يزيد البسطاميّ كان يفتخر بأنَّه كان سقّاء في بيت الإمام الصادق عليه السلام، و الشيخ معروف الكرخيّ قدّس سرّه العزيز كان شيعيّاً خالصاً و بوّاباً لدار الرضا عليه السلام إلى أن مات (ملخّص الصفحات ۱۰ إلى ۱٥).

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

65
  • ذوي المقامات و الدرجات، بحيث يذكره الجميع شيعة و سنّة بالوثاقة و الجلالة.

  • و عدَّه النجاشيّ في «الرجال» من الموثّقين و مدحه، كما وثّقه المرحوم المحدّث القمّيّ في «سفينة البحار»، و قال بعد شرح حاله: ارتحل عن الدنيا في يوم عاشوراء سنة مائة و سبع و ثمانين في مكّة.

  • جاء فضيل إلى الإمام الصادق عليه السلام و صار من خاصّة أصحابه و أصحاب سرّه، و يذكره الجميع بالعدالة و الوثاقة، إلى أن استقرّ أخيراً في حرم الأمن و الأمان الإلهيّ بعد أن أفني عمره بالعرفان الإلهيّ و العبور من المهالك النفسيّة و المهلكات.

  • و الآن؛ بعد أن وصلنا بالمطلب إلى هنا، نستنتج: أنَّه من المحتمل جدّاً أن يكون كتاب «مصباح الشريعة» الذي يشتمل من أوّله إلى آخره على المطالب العالية و الراقية و الدقيقة و يدلّنا على طريق النجاة، و يشير إلى الرموز العرفانيّة و النفسانيّة، و المبوّب في مائة باب من الأبواب المختلفة (مثل باب الخشية، و الخضوع، و الصلاة، و التكبير، و غيرها) أن يكون من كلمات الإمام الصادق عليه السلام و قد علّمه لمثل فُضيل، و قام فُضيل بكتابته باسم «قَالَ الصَّادِقُ» من غير أن يذكر اسمه هو.

  • و قد الِّفت الكثير من الكتب في ذلك الزمان من غير أن يذكر مؤلّفوها أسماءهم، و امتنع بعض الأجلّاء عن ذكر اسمه لمعالجة حبّ الظهور، و لذا يبقي الكتاب من دون هويّة، و هذه خسارة أيضاً بالنسبة للأجيال القادمة، حيث سيواجهون المشاكل في سبيل معرفة هويّة الكتاب.

  • فلا بدّ من ذكر اسم المؤلّف على الكتاب، لأنَّه قد تطغي الشهرة على كتاب ما اليوم مع معرفة مؤلّفه من خلال بعض القرائن، و لكن ما أن يمضي على الكتاب قرن من الزمان، فسيصبح من الكتب المجهولة المؤلّف‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

66
  • و يسقط عن درجة الاعتبار، لأنَّ اسم المؤلّف لم يكن مكتوباً عليه.

  • و لذا، نري: أنَّ بعض الأجلّة من العلماء، مثل السيّد ابن طاوس و العلّامة الحلّيّ و الصدوق كانوا يكتبون أسماءهم على كتبهم باستمرار؛ و من الأجزاء الثمانية للعلوم: بيان اسم المؤلّف و المصنّف؛ فيشخّص وضعه و مستواه فيما لو كان قد حُذف اسمه بواسطة خصوصيّاته و أحواله التي تتحصّل من كتب الرجال، و يشخّص وضع كتابه أيضاً و درجة اعتباره.

  • لكنَّ البعض فيما مضي لم يكونوا يقومون بذلك، و من هنا صارت هناك كتب مجهولة المؤلّف و بعد مضي قرن صار الناس يبحثون عن مؤلّفيها دون جدوى.

  • و عليه، فلا يبعد أبداً أن يكون «مصباح الشريعة» من إملاء الإمام الصادق عليه السلام، و قام الفُضيل أو أمثاله بكتابته، و خصوصاً فُضيل الحائز على الخصوصيّات و المقامات و الدرجات التي ذكرت عنه.

  • يقول المرحوم النوريّ: إنَّ لفضيل نسخة عن الإمام الصادق عليه السلام، و هو من ضمن اولئك الأشخاص الستّة الذين ذكر النجاشيّ و الشيخ أن لهم نسخاً عن الصادق عليه السلام، دون أن تصل هذه النسخ إلى أيدينا. فمن الممكن أن يكون كتاب «مصباح الشريعة» هو تلك النسخة التي كتبها فُضيل.

  • و بالطبع، و كما بيّنا، فلا يمكن أن يكون كتاب «مصباح الشريعة» بقلم نفس الإمام، لما ذكر في صدر الكتاب، قوله: «الإمام الحاذق ... جعفر بن محمّد الصادق» و في صدر أبوابه أيضاً: «قال الصادق عليه السلام» و لكن، ما الإشكال في الالتزام ب-: أنَّ إملاء و إنشاء الكتاب من الإمام الصادق عليه السلام على شخص آخر قد قام بكتابته.

  • و كما يقول العلّامة النوريّ رحمه الله، فإنَّ فُضيل كان يشارك في‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

67
  • المجالس الخاصّة للإمام عليه السلام، و كان يستفيد من مواعظه و نصائحه؛ فما الإشكال فيما لو قام بتبويب تلك المواعظ و النصائح بنفسه و نسبها للإمام الصادق عليه السلام باعتبار أنَّ الكلام هو كلام الإمام عليه السلام.

  • و كونه قد أورد بعض المطالب بعنوان: «قالَ سُفيانُ بنُ عُيَيْنَة أو قَالَ رَبِيعُ بنُ خُثَيْم» لا يُنافي كونه من تأليفه و لم يكن من الإمام الصادق عليه السلام، بل نقل المطالب بشكل عامّ عن الإمام الصادق عليه السلام؛ غاية الأمر، أنَّه يذكر أحياناً مطلباً من عنده كتأييد بعنوان: «قال فلان»، و هذا ممّا لا إشكال فيه.

  • و على كلّ تقدير، فحيث إنَّ فُضيل رجل جليل و من أهل الوثوق و جميع العلماء قد عرفوه بالوثاقة، فلا يُحتمل في حقّه الكذب و التزوير و التمويه أبداً. فإذا كان هذا الكتاب من فُضيل فإنَّ تلك المطالب التي نقلها من سُفيان و أمثاله تكون من مطالبه هو، لا حكاية عن الإمام الصادق عليه السلام. و هذا لا يتنافى مع نسبة الكتاب للإمام، لأنَّ موارد و عبارات غير الإمام مشخّصة.

  • بناءً على هذا، يمكننا القول: من الممكن أن لا يكون هذا الكتاب قد كُتب في زمان الإمام عليه السلام، بل كُتب بعده، لأنَّ فُضيل قد عاش حوالى أربعين سنة بعد الإمام الصادق عليه السلام. و توجد بين سنتي ۱٤۸- حيث توفّي الإمام- و ۱۸۷، ٣٩ سنة، فقام خلال هذه المدّة بتتميم كلمات الإمام الصادق عليه السلام التي كتبها سابقاً، مع ضمّ بعض الامور و العبارات عن الآخرين، و سلّمها بصورة هذا الكتاب إلى اولئك الخواصّ من الأصحاب، لكي يأخذوها و يعملوا بها و يصلوا إلى حقائقها.

  • و يكون محصّل بحثنا على هذا النحو: لا يمكن أن ننسب هذا الكتاب تحقيقاً و بشكل جازم للإمام الصادق عليه السلام، لأنَّنا لا نمتلك‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

68
  • علماً وجدانيّاً بذلك، و من جهة اخرى أيضاً لا نستطيع أن ننفيه عن الإمام الصادق و لو بواسطة فُضيل، لأنَّنا لا نمتلك دليلًا على النفي، لكن حيث إنَّ مطالبه عالية جدّاً و نفيسة و أخلاقيّة، و بشكل عامّ فهذه المطالب العالية لا يمكن بيانها بهذه اللطافة إلّا من قبل معدن النبوّة (لأنَّ قائلها يجب أن يكون شخصاً عارفاً و فقيهاً و شيعيّاً إماميّاً بشكل قاطع) فعلى هذا، يمكننا العمل به؛ و هذا الكتاب أيضاً له حجّيّة بهذه الحدود. كما أنَّ السيّد ابن طاوس رحمة الله عليه، و كذلك الشهيد الثاني، و الكفعميّ، و المجلسيّ الأوّل، و ابن فهد، و السيّد القزوينيّ استاذ بحر العلوم، و الحاجّ المولي مهدي النراقيّ، و المحقّق الفيض الكاشانيّ، و جمع آخر من الأجلّة قد اعتبروا هذا الكتاب عن الإمام الصادق عليه السلام، و نقلوا من رواياته عنه عليه السلام. و عُدَّ من أفضل الكتب في السير و السلوك و الأخلاق.

  • يشترط في الإفتاء اليقين و نور الباطن إضافة إلى الاجتهاد الظاهري‌

  • يجب أن تكون الفتوى معاينة و على هذا الأساس يتّضح وزان و موقع الرواية التي كانت شاهداً لنا (التي أوردنا البحث في سند «مصباح الشريعة» من أجل إثبات سندها) و هي: قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَحِلُّ الفُتْيَا لِمَنْ لَا يَسْتَفْتِي مِنَ اللهِ بِصَفَاءِ سِرِّهِ، وَ إخْلَاصِ عَمَلِهِ وَ عَلَانِيَتِهِ، وَ بُرهَانٍ مِنْ ربِّهِ فِي كُلِّ حَالٍ.

  • إنَّ هذا المطلب راقٍ جدّاً، و إن كان المرحوم المجلسيّ رحمه الله قد فسَّر جملة: وَ مَنْ حَكَمَ بِخَبَرٍ بِلَا مُعَايَنَةٍ فَهُوَ جَاهِلٌ مَأخُوذٌ بِجَهْلِهِ وَ مَأثُومٌ بِحُكْمِهِ‌ بهذا النحو:

  • يحكم المفتي و يفتي من دون أن يفهم معني الخبر و يعلم وجه صدوره و من دون أن يكون عارفاً بوجه جمع هذا الخبر مع الأخبار الاخرى في صورة المخالفة و التعارض من أيّ جهة كانت.۱

    1. «بحار الأنوار» ج ۱، ص ۱۰۱، باب النهي عن القول بغير علم و الإفتاء بالرأي.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

69
  • لكنَّ الرواية في مقام بيان مطلب آخر، فهي تريد أن تقول: إذا كان المُفْتِي مطّلعاً على الامور الظاهريّة فقط، و عارفاً بموارد التعادل و التراجيح بشكل كامل، و قادراً على تشخيص موارد التقيّة من غيرها بشكل جيّد، إضافة إلى فهمه كلمات الأئمّة عليهم السلام بشكل جيّد أيضاً، أي أنَّه مطّلع على العلوم الاصطلاحيّة الظاهريّة بشكل كامل؛ فهذا أيضاً لا يكفي.

  • فالمُفْتِي يحتاج إلى شي‌ء آخر، و هو أن يستفتي من قلبه، و يسأل الله تعالى عن صحّة هذا المطلب و عدمه، و يجد في قلبه أنَّ الأمر كذلك، فيطمئنّ و يخرج من الحيرة و الشكّ، و عند ما يحصل ذلك المطلب أيضاً يكون عين الشريعة و لا يتجاوزها.

  • أي إضافة إلى وجوب كون المصداق الحقيقيّ لـ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا وَ نَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا وَ عَرَفَ أحْكَامَنَا، و وجوب كونه مطّلعاً على العلوم الاصطلاحيّة الظاهريّة و القرآن أيضاً، لكي يتمكّن من الإجابة و الدفاع عن فتواه بأدلّة القرآن و السنّة الصحيحة، بالإضافة إلى ذلك يجب أن يستفتي الله في قلبه، و يسأل قلبه و ضميره و يُلهم في قلبه، و يتّضح له من عالم الغيب أنَّ الأمر بهذا النحو، فهذا يسمّي: صَفَاءُ السِّرِّ.

  • و هذا الأمر مهمّ جدّاً، فيجب على الإنسان أن يصل إلى الاطمئنان و اليقين عند إقدامه على أيّ عمل. فالإفتاء و انطلاقاً من الروايات فقط، بأن يضع الإنسان الروايات المتعارضة إلى جانب بعضها ثمّ يختار أحد المتعارضين من خلال قاعدة التعادل و التراجيح أو قاعدة العامّ و الخاصّ و معرفة الناسخ و المنسوخ و أمثال ذلك، أو يتوصّل إلى فتوي و نظريّة ما بواسطة ترجيح بعض الروايات على بعضها الآخر بمرجّحات من باب التزاحم، و يدّعي قاطعاً بأنَّ المطلب بهذا النحو (مع أنَّه لا يكون قادراً على الخروج من عهدة ذلك، و لا يستطيع أن يُقسم عليه أيضاً) فالفتوى بهذا

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

70
  • الشكل أمر غير صحيح، و هو بمجرّده لا يكفي، و إنَّما على المفتي أن يفتي عن اطمئنان، و أن تكون تلك الفتوى توأماً مع مدركاته القلبيّة و السرّيّة إضافة إلى مدركاته الفكريّة. و لذا، لم يكن السيّد ابن طاوس يفتي، و كان يقول: إنّي عاجز عن أمر نفسي فكيف أقوم بامور الناس.

  • و يقول في كتاب «كشف المحجّة» لابنيه (محمّد و عليّ) اللذين كانا طفلين صغيرين، و قد كتب لهما هذا الكتاب على نحو الوصيّة: لقد طُلب منّي الفتوى لكنّي لم أقم بذلك، و ذلك لأنّي وصلت إلى هذه الآية من القرآن حيث يقول الله لحبيبه النبيّ:

  • {وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‌.}۱

  • فع ند ما يهدّد الله تعالى نبيّه بآية كهذه، فما ذا بمقدوري أن أفعل؟! و كيف سيعاملني الله؟! الإفتاء هو نسبة أمر إلى الله، أي ادّعاء أنَّ الله يقول كذا، و النبيّ يقول كذا، و ما لم يصل الإنسان إلى مرحلة اليقين، فالأمر مشكل جدّاً.

  • و لذا، فهناك عبارة في «المصباح» يقول فيها: إنَّ الفتوى يجب أن تكون معاينة، أي يري أنَّ الله تعالى يقول ذلك. و على هذا الأساس كان الأئمّة عليهم السلام يفتون، فقد كانوا بهذا النحو، و النبيّ كان كذلك أيضاً، و اولئك الفقهاء الأصيلون كالسيّد ابن طاوس كانوا بهذا النحو، أي أنَّهم كانوا يفتون بعد أن يدركوا المطلب بالمعاينة، و إلّا امتنعوا عن ذلك.

  • و كان هذا هو السبب في امتناع السيّد ابن طاوس و بعض الأجلّة عن الفتوى. و معلوم أنَّ أسباب الامتناع عن الفتوى كثيرة، و ما ذُكِر واحد منها،

    1. الآيات ٤٤ إلى ٤۷، من السورة ٦٩: الحاقّة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

71
  • فكان هؤلاء يعملون في الكثير من المسائل التي يمتلكون اليقين اتّجاهها، بينما كانوا يمتنعون عن الإفتاء في الكثير من المسائل التي لم تكن يقينيّة بالنسبة لهم.

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

72
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ الثَّامِنُ وَ العِشْرُونَ: وَلايَةُ عُدُول المُؤمِنينَ وَ بَيان حَقِيقَة وَلايَة الفَقِيهِ‌

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

74
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • معني حقيقة الولاية و ولاية الحيوانات و البهائم على أبنائها

  • يدور البحث حول حقيقة ولاية الفقيه و حدودها سعة و ضيقاً، أي حول مقدار سعة دائرة الولاية. و أمّا حقيقة معني الولاية فهي كما مرّ في أوائل البحث: حُصولُ الشَّيْئَيْنِ فَصاعِداً حُصولًا لَيْسَ بَيْنَهُما ما لَيْسَ مِنْهُما.

  • أي أن يقترب شيئان من بعضهما و يتّحدان بنحو لا يكون بينهما شي‌ء آخر غير ذاتيهما و هويتيهما.

  • و بناء على هذا، فكلّ موجود يمتلك في ذاته ارتباطاً و اتّصالًا و هو هويّة مع الذات المقدّسة؛ و ليس ثمّة فاصلة بين كلّ موجود و علّته الفاعليّة و علّة علله. و عليه، فلازم وجود كلّ موجود ما، أن يوجد هو، وجود ولاية، و ذلك بمعني أنَّ الموجودات هي ربط محض بالنسبة إلى الذات المقدّسة لحضرة الحقّ.

  • فالولاية إذاً بهذا المعني موجودة في جميع الموجودات، و آثارها متفاوتة فيها بحسب سعة و ضيق الموجودات، فيتحقّق معني الولاية بنحو

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

75
  • أكبر في بعض الموجودات التي تكون ماهيّتها أكبر و أقوي و سعة وجودها أكثر. بينما يكون وجود الولاية أقلّ في بعض الموجودات الاخرى التي تكون في مرحلة الذات و الماهيّة أضعف، و محدوديّتها أكثر من حيث السعة.

  • و على كلّ تقدير، فلازم وجود خلقة كلّ موجود من الموجودات هو التوأمة مع الولاية. و من آثار تلك الولاية الاختيار، و مالكيّة الأمر، و الحاكميّة، و التسلّط في الحدود التي تقتضيها تلك الولاية.

  • إنَّ هذه الولاية موجودة في جميع الموجودات؛ و أساساً، لا يمكن أن يكون هناك موجود من دون ولاية. و عليه، فالولاية تنتشر في جميع الموجودات، وَ لَا تَشُذُّ عَنْ حيطَةِ هُويَّتِها وَ إنِّيَّتِها ذَرَّةٌ أبَداً.

  • فالقطّة التي تحمل أبناءها بأسنانها و تنتقل بهم من بيت إلى بيت لأجل حفظهم من شرّ العدوّ، تقوم بعملها هذا على أساس الولاية، لأنَّها تري نفسها وليّ اولئك الأبناء، و تري في وجودها سيطرة و هيمنة تُملي عليها القيام بهذا العمل. و استعدادها للدفاع بجميع قواها عند ما يحاول عدوّ ما الهجوم على أبنائها، إنَّما يكون على أساس هذه الولاية.

  • و الدجاجة التي تحتضن البيضة حتّى تنمو، إنّما تقوم بهذا العمل بمقتضى تلك الولاية أيضاً. و أخيراً، فإنَّ تحوّل أيّ موجود من الموجودات هو على أساس الولاية. و حتّى- على سبيل المثال- تلك النواة التي تزرعها في باطن الأرض ليمتدّ طرف من جذورها بعد أن تنمو في الأرض، بينما يرتفع الطرف الآخر نباتاً، فهو على أساس الولاية، إذ لو لم يكن لديها ولاية لما كان بإمكانها التحرّك من مكانها، أو الإتيان بأيّ تحوّل أو تحرّك.

  • و لو لم يكن العالَم على أساس الولاية، لما كان عالماً يتحرّك، و لكان‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

76
  • عالماً معدوماً.

  • أي كان عالم العدم و الفناء. فجميع هذه الموجودات التي ترونها قد صارت على هذه الصور بواسطة الولاية، و كذلك عمل الإنسان أيضاً، فكلّ ما يأتي به الإنسان، و كلّ سعة يراها في ذاته إنّما تكون على أساس الولاية. فالأب الذي يقوم بحفظ أبنائه و حراستهم، فبلحاظ الولاية. فهذه هي الولاية التكوينيّة و الفطريّة التي أعطاها الله له.

  • و الشاهد على هذا المطلب هو أنَّه لو منعناه من العمل و نهيناه عن حماية أبنائه و أمرناه بترك ابنه الوليد في الصحراء، لما انصاع لهذا الكلام؛ أو لو طلبنا من القطّة التخلّي عن حماية أبنائها و عدم مراقبتهم و الانتقال بهم من بيت إلى بيت لرفضت ذلك، و لو أمرنا بخلاف هذا الأمر (كأن نأمرها بأخذ أبنائها إلى وكر العدوّ) لرفضت ذلك أيضاً.

  • يدل هذا الأمر على نشوء الأفعال الولايتيّة في الموجودات من غريزتهم و فطرتهم، و ذلك أمر لا يتبدّل و لا يتغيّر.

  • و الولاية التي للرجال على النساء بمقتضى الآية الشريفة: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ}‌۱، هي ولاية تكوينيّة و فطريّة، لأنَّ الرجل يمتلك عقلًا أقوي من القوّة العاقلة عند المرأة، و لذا كانت المرأة بالنسبة له ضعيفة، و كانت تحت هيمنته و إدارته و عصمته. و كان الرجل هو المسئول عن المحافظة عليها. و لذا، يكون هو الآمر و هي المأمورة، و هو الناهي و هي المنهيّة، و يكون عليها أن تطيعه في جميع الامور.

  • ولاية عدول المؤمنين، و ولاية فسّاقهم عند عدم وجود العدول‌

  • و كذلك ولاية عدول المؤمنين على أساس أموال الغُيَّب و القُصَّر

    1. صدر الآية ٣٤، من السورة ٤: النساء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

77
  • و أمثال ذلك من الموارد التي نعتقد ولاية عدول المؤمنين فيها، إذ تعلن الآية الكريمة: {وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}‌۱ هذه الحقيقة، و هذه الولاية هي في عدول المؤمنين أقوي، لأنَّ إيمانهم أقوي و تقواهم أكثر، و نفس هذه الوحدة الموجودة بين قلوب المؤمنين توجب أن يكون لهم ولاية على بعضهم في صورة عدم وجود وليّ أعلى كالإمام و الفقيه الأعلم، و توجب عليهم حماية و إدارة امور المؤمنين الضعفاء و العاجزين و الذين لا يتمكّنون من القيام بأعمالهم (كالمجانين و السفهاء و الأيتام و ما شابه).

  • و كذلك الولاية التي تكون لفسّاق المؤمنين في حالة عدم وجود عدولهم، لأنَّهم في نفس الوقت الذي هم فيه فسقة فهم مقدّمون علي غير المؤمنين، لأنَّهم يمتلكون الإيمان و هم مشمولون، لعموم الولاية: {وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.} و لا يصحّ تسليم الولاية للكافر مع وجود فُسّاق المؤمنين، لأنّه لا ولاية للكافر على المسلم بأيّ وجه كانت.

  • إنَّ ولاية الكافر على المسلم «سبيل»، و لم يجعل الله تعالى للكافرين على المؤمنين سبيلًا. فتلك الولاية إذَن تكون على أساس التكوين و الفطرة أيضاً.

  • و على كلّ تقدير، فجميع أقسام هذه الولاية تكوينيّة و الفطريّة ممضاة من قِبَل الشارع، لأنَّ أوامر الشرع هي على أساس الفطرة أيضاً، و قد سار على هذا المسلك، ففي كلّ موضع أيّد العقل و الفطرة فيه الولاية، قام الشرع بإمضاء ذلك أيضاً.

    1. صدر الآية ۷۱، من السورة ٩: التوبة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

78
  • و كذلك ولاية الفقيه فهي من هذا القبيل، غاية الأمر هي في مرحلة أعلى و أكبر و أوسع.

  • فللوليّ الفقيه وظيفتان:

  • الاولي: بيان الأحكام التي وصلت إليه من الشرع، و الإفتاء بما يجتهد فيه، و لن نخوض في هذا البحث حاليّاً، فتلك المسائل ترجع إلى الأحكام الكلّيّة التي يقوم الفقيه ببيانها، و محلّ بحثها في «الاجتهاد و التقليد» من كتاب الاصول.

  • معني الولاية إنشاء الحكم في الموارد الجزئيّة

  • الثانية: وظيفة الوليّ الفقيه من لحاظ أعمال الولاية. و هذا هو محلّ بحثنا، أي ما معني أن يعمل الفقيه ولايته في بعض الامور (خصوصاً الموارد الجزئيّة) فيقوم بالحكم و الأمر و النهي؟ إنَّ معني و مفاد حكم الفقيه في هذه الموارد هو الإنشاء. أي أنَّ الفقيه بعد أن يلاحظ جميع الأحكام و الأدلّة الواردة في الشرع المقدّس (الأعمّ من الأحكام الكلّيّة و الاستثناءات و التخصيصات و الأحكام الثانويّة، مثل الأحكام الإكراهيّة و الاضطراريّة و الأحكام الواردة في صورة النسيان و عدم الطاقة و الاستطاعة) و بعد جمعها و ضمّها إلى بعضها يقوم بالحكم في تلك الواقعة الخاصّة على موضوع خاصّ بالشروط الخاصّة، و ذلك بحسب قدرته النفسانيّة و طهارته الباطنيّة التي حصّلها، و بحسب المدارج النفسيّة التي عرج فيها، و نيله لذلك العالم من التجرّد و الإطلاق، و بقدر ارتوائه من مَعِين الشريعة، فتنشأ من ذلك أحكامه في الموارد المختلفة.

  • و ذلك خلافاً للفقيه في مقام الفتوى، إذ لا يكون له في ذلك المقام شغل بالجزئيّات، و إنمّا هو يفتي هناك باستمرار في صياغ الحكم الكلّيّ الذي عيّنته له شريعة الإسلام، كأن يقول مثلًا: الميتة حرام، لأنَّ القرآن‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

79
  • يقول:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ‌}۱؛ ثمّ يكون له حكم كلّيّ آخر و هو: كلّ حرام اضطرّ إليه يصير حلالًا ٢. و أمّا كون هذا المورد الخاصّ من موارد الاضطرار أو لا، فهذا لا علاقة له‌

  • ٢- روي في «اصول الكافي» ج ٢، ص ٤٦٢، المطبعة الحيدريّة، بإسناده المتّصل‌ عن عمرو بن مروان، قَالَ: سَمِعْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: رُفِعَ عَنْ امَّتِي أرْبَعُ خِصَالٍ: خَطَاؤُهَا، وَ نِسْيَانُهَا، وَ مَا اكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَ مَا لَمْ يُطِيقُوا؛ وَ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: {رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} وَ قَوْلُهُ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ}.

  • و كذلك ذكر مرفوعاً عن أبي عبد الله عليه السلام: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: وُضِعَ عَنْ امَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ: الخَطأُ، وَ النِّسْيَانُ، وَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَ مَا اضْطُرُّوا إلَيْهِ، وَ مَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَ الطِّيَرَةُ، وَ الوَسْوَسَةُ فِي التَّفَكُّرِ فِي الخَلْقِ، و الحَسَدُ مَا لَمْ يُظْهَرْ بِلِسَانٍ أوْ يَدٍ.

  • و في «تحف العقول» ص ٥۰، طبعة المطبعة الحيدريّة، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله: قَالَ: رُفِعَ عَنْ امَّتِي [تِسْعٌ‌]: الخَطأُ، وَ النِّسْيَانُ، وَ مَا اكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَ مَا اضْطُرُّوا إلَيْهِ، وَ الحَسَدُ، وَ الطِّيَرَةُ، وَ التَّفَكُّرُ فِي الوَسْوَسَةِ فِي الخَلْقِ مَا لَمْ يُنْطَق بِشَفَةٍ وَ لَا لِسَانٍ.

  • و ذكر في «وسائل الشيعة» ج ٤، ص ٦٩۰، حديث رقم ۷۱٢۰ (ج ٢ من كتاب الصلاة) أبواب القيام): ٦- وَ بِالإسْنَادِ عَنْ سَمَاعَةَ، قَالَ: سَألْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ فِي عَيْنَيْهِ المَاءُ فَيَنْتَزِعُ المَاءَ مِنْهَا فَيَسْتَلْقِي عَلَى ظَهْرِهِ الأيَّامَ الكَثِيرَةَ: أرْبَعِينَ يَوْماً أوْ أقَلَّ أوْ أكْثَرَ؛ فَيَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ الأيَّامَ إلَّا إيمَاءً وَ هُوَ عَلَى حَالِهِ. فَقَالَ: لَا بَأسَ بِذَلِكَ؛ وَ لَيْسَ شَي‌ءٌ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ إلَّا وَ قَدْ أحَلَّهُ لِمَنِ اضْطُرَّ إلَيْهِ. و حديث رقم ۷۱٢۱ بهذا النحو: عَنِ الحُسيْنِ بْنِ سَعِيد، عَنْ فَضَالَةَ، عَنْ حُسَيْن، عَنْ سَمَاعَةَ، عَنْ أبي بَصِيرٍ، قَالَ: سَألْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ المَرِيضِ، هَلْ تُمْسِكُ لَهُ المَرْأةُ شَيْئاً فَيَسْجُدُ عَلَيْهِ؟! فَقَالَ: لَا! إلَّا أنْ يَكُونَ مُضْطَرَّاً لَيْسَ عِنْدَهُ غَيْرُهَا؛ وَ لَيْسَ شَي‌ءٌ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ إلَّا وَ قَدْ أحَلَّهُ لِمَنِ اضْطُرَّ إلَيْهِ.

    1. صدر الآية ٣، من السورة ٥: المائدة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

80
  • بالمفتي، إذ عليه أن يبيّن الحكم الكلّيّ فقط.

  • و ليس الوليّ الفقيه كذلك، فهو يتدخّل في جميع الجزئيّات و يُعمل نظره في الموضوعات الخاصّة و المصاديق و يصدر الحكم. فلو سئل مثلًا عن جواز تناول الميتة في الوقت الذي تحلّ فيه مجاعة و قحط، فإنَّه يحكم بجواز أكل الميتة، مع علمه بالحكم الكلّيّ، و من ثمّ يحكم بجواز أكل الميتة. فمعني ولايته هو تشخيص الموضوع، و أنَّ الزمان هو زمان محنة و ابتلاء و مجاعة، و إذا لم يأكل الإنسان فإنَّه معرَّض للموت، و بعد أن يعتبر أكل الميتة- على أساس ولايته- جائزاً، و أحياناً واجباً، فهو يأمر الجميع بذلك.

  • فقد لاحظ في هذا الموضوع جميع تلك الأحكام بشكل مترابط، و توصّل إلى هذا الحكم الجزئيّ الذي أصدره للناس، هذا هو معني ولاية الفقيه.

  • و بناء على ما مرَّ، يكون هناك تفاوت بين الإفتاء و الولاية، إذ معني الولاية هو الأمر و النهي و الإيجاد و الإعدام للموضوعات الخارجيّة في عالم الاعتبار. فالذين تحت ولاية الوليّ الفقيه محكومون بتنفيذ أحكامه على أساس حكمه. و هو يقول بإعمال الولاية و الحكم في جميع الموضوعات الجزئيّة بناء على تلك المدركات التي يمتلكها و الأحكام التي يستنبطها من المدارك الشرعيّة، و انطلاقاً من ذلك الصفاء و النور و التجرّد الذي وصلت نفسه إليه. و حيث إنَّه يمتلك القدرة على تشخيص هذا الحكم الخاصّ لعامّة المكلّفين أو لبعضهم و يكون أمر ذلك بيده، و هذه مسألة مهمّة جدّاً.

  • إذ تارة يجعل الشارع المقدّس الحكم على الموضوعات الخارجيّة، مثل: المَاءُ طاهِرٌ و الخَمْرُ حَرامٌ و البَيْعُ حَلالٌ؛ فالحكم في هذه الأمثال قد جري على الموضوعات الخارجيّة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

81
  • و تارة اخرى يُجعل الحكم على الموضوعات الأعمّ من الخارجيّة و الاعتباريّة، فيسمح لنا الشارع بفرض موضوع اعتباريّ في مقابل الموضوع الخارجيّ، بمعني أن نقوم بترتيب الأثر إذا ما رأينا موضوعاً اعتباريّاً إلى جنب الموضوع الخارجيّ.

  • و يستطيع الشارع القيام بعمل كهذا، إذ عند ما يكون أصل الحكم بيده فسعته و ضيقه بيده أيضاً، و سعة و ضيق الحكم تتبع سعة و ضيق الموضوع.

  • فيستطيع في مورد ما فرض الحكم على الموضوع الخارجيّ، كما يستطيع في مورد آخر أن يعتبره على الأعمّ من الخارجيّ و الاعتباريّ، فيقول: صُومُوا لِلرُّؤْيَةِ وَ أفْطِرُوا لِلرُّؤْيَةِ. فصوموا عند ما ترون هلال شهر رمضان في السماء، و أفطروا عند ما ترون هلال شوّال.

  • و على هذا، فموضوع دخول شهر رمضان و حكمه الذي هو «صُومُوا» رؤية الهلال؛ و الموضوع لحكم الإفطار في شوّال هو رؤية الهلال أيضاً. فنفس رؤية الهلال في السماء إذَن لها موضوعيّة؛ ثمّ يضمّ الشارع حكم الحاكم برؤية الهلال إلى هذا الموضوع الخارجيّ و يقول‌۱: إذا حكم حاكم الشرع أيضاً بحلول الشهر أو انقضائه فيصدق كذلك: «صُومُوا وَ أفْطِرُوا»، مع أنَّ الحاكم لم يكن قد رأي الهلال بنفسه، و لا يكون أيضاً مُخبراً برؤيته الهلال لكي تتحقّق البيّنة بضميمة شاهد عادل و تكون في حكم العلم. كلّا و إنَّما الملاك هو نفس حكم الحاكم بأنَّ اليوم هو أوّل الشهر، إذ الحاكم بحكمه يجعل الهلال في السماء، و يعتبر وجوده.

  • فعند ما يمتلك الحاكم شأنيّة الحكم و يحكم برؤية الهلال و دخول الشهر- فلا علاقة لنا بمستنده، فمهما كان مستنده و من أيّ مصدر كان-

    1. هذا القول مستفاد من أدلّة ولاية الفقيه.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

82
  • فمعني عمله هذا أنَّه قد جعلتُ لكم هلالًا في السماء و فرضته و أوجدته، و كما يجب عليكم الإفطار أو الصيام على أساس وجود الهلال الخارجيّ، فعليكم أيضاً أن تصوموا و تفطروا على أساس هذا الهلال الجعليّ. و حكم الحاكم في هذه الصورة صحيح، و يقرّه العقلاء من دون إشكال فلِمَ ذلك؟ لأنَّه يترتّب عليه أثر من الناحية الشرعيّة، و هو الإفطار أو الصيام.

  • أمّا لو قال شخص في عالم الاعتبار: إنِّي جعلتُ هذه العمارة معدومة اعتباراً. فلا فائدة تترتّب على ذلك، لأنَّه لا يترتّب على اعتباره أيّ أثر. أمّا حين يكون نفس هذا الاعتبار منشأً للحكم و يترتّب عليه أثر، فلا إشكال في ذلك.

  • و هنا أيضاً قد جعل الشارع الحكم على رؤية الهلال (الأعمّ من الخارجيّ و الاعتباريّ)، بمعني أنّ حكم الحاكم بمنزلة جعل هلال اعتباريّ في السماء، و هذا له نتيجة شرعيّة. فالحكم بِيَدِ الشارع، و هو يستطيع أن يجري حكمه على الموضوع الخارجيّ فقط، كما يستطيع أن يجريه على الأعمّ من الموضوع الخارجيّ و الاعتباريّ، و ليس هناك أيّ إشكال في ذلك.

  • و بعبارة اخرى: كما يقول الشارع: صُومُوا لِلرُّؤْيَةِ وَ أفْطِرُوا لِلرُّؤْيَةِ، كذلك يصحّ أن يقول: صوموا بِحُكْمِ الحاكِمِ وَ أفْطِروا بِحُكْمِه؛ و أمثال هذه التعابير ترجع في النهاية إلى توسعة تلك الرؤية للهلال الواقعيّ الخارجيّ و جعلها تشمل عالم الاعتبار أيضاً. فهذا هو معني الجعل و حكم الحاكم.

  • إنَّ حقيقة الجعل الاعتباريّ ليست أمراً غير مأنوس أو غير عرفيّ و غير عاديّ، لأنَّ الاعتبارات تشكّل أساساً للكثير من أعمالنا في الخارج، كأن يقول شخص مثلًا: بعتك هذا المتاع، و يقول الآخر: قبلت، فهل بعتُ و قبلتُ سبب للانتقال الواقعيّ لذلك المتاع بالنحو الذي ينتقل فيه ذلك‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

83
  • الشي‌ء واقعاً من وجود البائع إلى وجود المشتري؟

  • الجواب كلّا، الأمر ليس كذلك، فالثَّمَن و المُثمن محفوظان في محلّهما، و إنَّما انتقل اختيار التصرّف بالثمن للمشتري في عالم الاعتبار فقط، و هذا النقل و الانتقال إنشاءٌ، و يكون إنشاء الانتقال في عالم الاعتبار، و الاعتبار محلّ لقبول جميع العقلاء.

  • و كذا الأمر في الأبواب المختلفة من الفقه، ففي النكاح مثلًا حيث تقول الزوجة: أنْكَحْتُكَ نَفْسي، و يقول الرجل أيضاً: قَبِلْتُ، لا يكون ذلك سوي إنشاء للنكاح في عالم الاعتبار، إذ إنَّ معني النكاح هو الوطء، فمعني كلام الزوجة إذَن هو: جَعَلْتُ نَفْسي لَكَ مَوْطوءَةً؛ على الرغم من عدم تحقّق النكاح بهذا المعني في عالم الخارج، فلم يحصل الوقاع و الجماع، لكنَّ الزوجة تري نفسها موطوءة في عالم الاعتبار فقط، كما يري الرجل نفسه واطئاً كذلك، و الشرع أيضاً يمضي هذا الإنشاء. و ذلك العمل الذي يتمّ في الخارج فيما بعد، و الذي هو النكاح الواقعيّ الخارجيّ (أي الوطء الخارجيّ) يكون مترتّباً على هذا الإنشاء القَبْلِيّ، و الإنشاء أمر جعليّ اعتباريّ يترتّب عليه الحكم الشرعيّ و جميع أحكام مسائل المعاملات و الإيقاعات من هذا القبيل.

  • و على هذا، فأمر الحاكم بالنسبة لرؤية الهلال مثلًا أو للتعبئة العامّة و تحريك الناس أو بالصلح أو بالتوقّف. و بشكل عامّ فكلّ أمر يقوم به، هو إنشاء في عالم الاعتبار. و هو يشخّص الوظيفة من باب كونه يري في نفسه سعة و ولاية على الناس. و على أساس الأحكام الشرعيّة الكلّيّة التي حصل عليها من الكتاب و السنّة و روايات المعصومين عليهم السلام. و بعد مراعاته- بصفاء قلبه و نورانيّته و تجرّده الباطنيّ- لجميع اصول و قواعد الحاكم و المحكوم، و الوارد و المورود، و العامّ و الخاصّ، و المطلق و المقيّد،

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

84
  • و الناسخ و المنسوخ من حيث المجموع في هذا الموضوع الخارجيّ، و جمعه لنتيجة ذلك كلّه، فلا يختلف الأمر عنده سواء قام بتعيين الوظيفة بلفظ «حَكَمْتُ» أم بأيّ لفظ آخر، فما أن يُحدّد التكليف، فيعني ذلك الحكم. هذا هو معني ولاية الفقيه و الحكم و الحاكم.

  • أهمّيّة هذه الولاية، الرَّادُّ عليهِ، الرَّادُّ علينا

  • و بالطبع فهذه حقيقة ذات أبعاد و آثار و امتداد، فعند ما يحكم الحاكم فإنَّ حكمه الاعتباريّ يمتلك الأهمّيّة إلى درجة يكون عند الشارع: الرَّادُّ عَلَيْهِ، الرَّادُّ عَلَيْنَا؛ وَ الرَّادُّ عَلَيْنَا، الرَّادُّ عَلَى اللهِ؛ وَ هُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللهِ.

  • بيان الائمّة للأحكام على أساس الولاية الكلّيّة و الإحاطة النفسانيّة

  • إنَّ الحاكم لا يحكم ما لم يَرَ جميع أطراف و جوانب المسألة و يلاحظها، و تستقرّ في قلبه، و يتيقّنها، و يطمئنّ منها و يسكن، لأنَّه يترتّب على حكمه مسئوليّة كبيرة على الناس، فالذي يخالف حكم الحاكم يُخالف حكم الله، و هو في حدّ الشرك بالله. هذا هو معني حكم الحاكم.

  • و من هنا نحصل على: أنَّ حكم الحاكم ينبثق من ولايته و سعته النفسانيّة، لا أنَّه قد وصلته بعض الروايات فحسب و استنتج تلك النتيجة طبقاً للقواعد و الضوابط كما يُتعامل مع القواعد الرياضيّة، و من ثمّ قام بالحكم على أساسها، بل- و كما بيّنا- فإنَّ نفس الحاكم ذات سعة و تجد أنَّها مسيطرة على الناس المولَّى عليهم، فللحاكم الحقّ في إلزام الناس بحكمه على ضوء ما تقدّم.

  • فإذا كان ثمّة حاكم يري في نفسه سيطرة كهذه فبإمكانه أن يحكم، و إلّا فلا. فحكم الحاكم يكون على أساس سعته النفسيّة و قدرته الوجدانيّة و نظرته الواقعيّة، و يجب أن يكون الأعلم و الأقوى في تنفيذ ذلك الحكم.

  • و أن يكون الأعلم، أي أن يكون قادراً على تشخيص المصالح و الموارد بنحو أفضل من جميع الناس؛ و أن يكون الأقوى أي أن يتمكّن‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

85
  • من تنفيذ هذا الحكم في الخارج بواسطة سعة نفسه؛ فهذا هو معني الولاية في الحاكم. و الحاكم إنَّما يتمكّن من القيام بأيّ عمل بواسطة ولايته هذه فيما لو لم يتجاوز حدود الشريعة و لم يخرج عن حدود الكتاب و السنّة.

  • و ولاية الأئمّة المعصومين عليهم السلام هي بهذا النحو، لكنّها تقع في مرحلة عليا و أكثر دقّة و ظرافة، و ذلك لأنَّ توحيدهم أقوي و ولايتهم أرقي و سعتهم أكثر؛ فأوامرهم و نواهيهم الولائيّة أيضاً تكون في الخارج لازمة و واجبة الاتّباع بطريق أولي. و نفس هذا المعني موجود فيهم أيضاً، لأنَّهم يحكمون في الخارج بالنسبة لجميع المكلّفين من خلال تلك السعة و الإحاطة النفسيّة المختصّة بهم.

  • و بالطبع و كما بيّنا، فالأئمّة عليهم السلام ليسوا مشرّعين للحكم، إذ التشريع للأحكام الكلّيّة مختصّ بالله عزّ و جلّ، و في الأحكام الجزئيّة هو لرسول الله، و الأئمّة عليهم السلام إنَّما يمتلكون الولاية في الامور الولايتيّة (المختصّ بالسياسة و إدارة العلاقات الاجتماعيّة بما يقتضي) و أوامرهم في حكم أمر الله و أمر رسول الله.

  • فمن هنا نحصل على: أنَّ تلك الطائفة من الروايات التي نُقلت عن الأئمّة عليهم السلام، و كلّ منها يبيّن لنا حقائق معيّنة، هي عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فهم لم يأخذوا جزئيّات تلك المسائل أباً عن جدّ وصولًا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، بل إنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قد أعطاهم ولاية كلّيّة (و قد كان إعطاؤها أيضاً دفعيّاً و آنيّاً) و جميع هذه المسائل تنبع من تلك الولاية الكلّيّة. أجل؛ فجميع المسائل الجزئيّة من أوّل باب الطهارة إلى آخر باب الديات- حيث يوجد في خصوص مسائل الصلاة أربعة آلاف مسألة- إنَّما تنشأ من تلك الولاية، و ليس من الصحيح أن نتصوّر أنَّ جميع‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

86
  • تلك المسائل الجزئيّة قد بيّنها الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله حضوريّاً لأمير المؤمنين صلوات الله عليه، و قام أمير المؤمنين أيضاً بحفظها أو كتابتها، و من ثمّ رواها لأبنائه الإمام الحسن و الإمام الحسين عليهما السلام، و قاما هما بدورهما بنقل ذلك للأئمّة من بعدهما إلى أن انتهى الأمر إلى القائم عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

  • و الصحيح هو أنَّ كلّ واحد من الأئمّة قد أعطي عالماً كلّيّاً من الولاية و عِلماً كلّيّاً لمن يأتي من بعده، و يري الإمام التالى جميع المسائل بواسطة تلك الولاية الكلّيّة فيشرحها و يبين حقائقها.

  • و هذه المسألة عين وجود الملكة و عدمها، فما لم يمتلك الشخص مثلًا ملكة الرسم فلا يستطيع أن يرسم صور الأشياء واحدة واحدة، بل لا يكون قادراً على رسم صورة واحدة. أمّا إذا كان حائزاً على ملكة الرسم، فإنَّه يعدّ رسّاماً كاملًا و يستطيع رسم أيّة صورة يريدها فوراً، و ليس من تحديد و نهاية لمجموعة الصور التي يمكنه رسمها.

  • و تلك الولاية أيضاً التي يودعها كلّ واحد من الأئمّة عليهم السلام إلى الآخر عند وفاته هي نفس الولاية الكلّيّة التي تنبع منها جميع العلوم. و مع وجود معني كهذا، لا يكون الإمام عليه السلام محتاجاً لسؤال أبيه عن جزئيّات المسائل و الموضوعات واحداً واحداً. و إنَّما يقوده الإمام عليه السلام إلى مصادر التشريع و محلّ نزول القرآن و مهبط الوحي على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و يوصله إلى ذلك العالَم و يجعله في متناوله بنحو تحصل لنفسه أيضاً الهيمنة و السيطرة على ذلك العالم و تنكشف له جميع الحقائق دون أيّ ذرّة من الاشتباه و الخطأ.

  • و بناء على هذا، فلا فرق بين أن يبيّن الإمام لابنه حكماً في موضوع خاصّ، أو أن يقوده إلي ذلك العالَم الكلّيّ حتّى يُبيّن نفس الابن الحكم في‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

87
  • تلك الواقعة. و لذا، نري في كثير من الروايات أنَّ نفس الأئمّة عليهم السلام كانوا يرجعون المسائل إلى أبنائهم، و عند ما كان الأبناء يجيبون كان ذلك يثير تعجّب الناس و يقولون للأئمّة إنَّكم قلتم إنَّكم لم تسمعوا هذه المسألة من آبائكم، فكيف أمكنكم بيان الحكم بهذه الخصوصيّة من الوضوح و الجلاء؟!

  • لقد وردنا حول الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف أنَّه وصل إلى مقام الإمامة في الرابعة من عمره، كما وصلنا حول الإمام محمّد التقيّ عليه السلام أنَّه كان في التاسعة أو السابعة من عمره عند ما روي عنه مسائل كثيرة، و لدينا حول الإمام الصادق عليه السلام أنَّه كان يبيّن المسائل في طفولته، مع أنَّ الإمام الباقر عليه السلام لم يكن قد بيّن له جزئيّات المسائل.

  • فجميع ذلك إذاً من هذا القبيل، فعند ما يُعطي لهم ذلك الأصل و المنهج و حقيقة القرآن و حقيقة روح النبوّة و تفوّض لهم حقيقة روح الولاية الكلّيّة، فإنَّهم يبيّنون الأحكام الجزئيّة للناس من تلك العوالم الكلّيّة، و لا تكون هذه الأحكام من عندهم، و إنَّما هي نفس الأحكام التي كان ينشئها رسول الله، سواء كانت قد انشئت في حياة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أم لا. لكن لو فُرض حصول موضوع كهذا في زمان رسول الله لكان رسول الله قد أنشأ الحكم أيضاً بهذا النحو، حيث يتّفق أن لا يُسأل النبيّ صلّى الله عليه و آله عن مسألة ما، فتبقي غير مبيّنة من قِبَله. و هناك الكثير من المسائل التي لم يبيّنها النبيّ الأكرم لعدم حصولها في زمانه.

  • مفاد: مَا مِنْ شَي‌ءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الجَنَّةِ وَ يُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ ...

  • و ما يُستفاد من كلامه صلّى الله عليه و آله: مَا مِنْ شَي‌ءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الجَنَّةِ إلَّا وَ قَدْ دَعَوْتُكُمْ بِهِ؛ وَ مَا مِنْ شَي‌ءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ إلّا وَ قَدْ نَهَيْتُكُمْ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

88
  • عَنْهُ‌۱، هو أنَّ مراده المسائل الكلّيّة، و التي من جملتها نصب أمير المؤمنين عليه السلام للولاية، حيث قد فُتحت جميع طرق الجنّة و اغلقت جميع طرق جهنّم بواسطته عليه السلام، لا أنَّ مراده عليه السلام هو: أنِّي قد بيّنت لكم جزئيّات جميع الأحكام، مثل سائر التصرّفات التفصيليّة في الصلاة، كرفع اليد أو وضع الإبهام في السجود.

  • صحيح أنَّه صلّى الله عليه و آله قد قال: صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي اصَلِّي‌٢؛ لكن لم يوفّق جميع الناس لرؤية جميع حركات النبيّ و جزئيّات صلاته، و بعد وفاة النبيّ اختلف أصحابه اختلافاً كبيراً، حتّى في صلاة الميّت، حيث اختلفوا في عدد تكبيراتها، أ هي أربع أو خمس أو ستّ، مع أنَّ النبيّ كان يصلّي صلاة الميّت باستمرار؛ لكن بما أنَّ الناس كانوا مطمئنّين لوجوده صلّى الله عليه و آله فقد كانوا يرون أنفسهم غير محتاجين إلى تعلّم المسائل، و لذا لم يكونوا مطّلعين حتّى على كيفيّة صلاة الميّت. و عندئذٍ، فكيف يمكننا القول إنَّ النبيّ قد بيّن جميع هذه المسائل لُامّته؟!

    1. «الوافي» ج ٣، ص ۱٢، الطبعة الحجريّة؛ و في« الكافي» عن عدّة، عن أحمد، عن ابن فضّال، عن عاصم بن حميد، عن الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سلَّمَ فِي حِجَّةِ الوَدَاعِ فَقَالَ: أيُّهَا النَّاسُ! وَ اللهِ مَا مِنْ شَي‌ءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الجَنَّةِ وَ يُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إلَّا وَ قَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ؛ وَ مَا مِنْ شَي‌ءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّار وَ يُبَاعِدُكُمْ مِنَ الجَنَّةِ إلَّا وَ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ الرواية.
      و روي في ص ۱٣ أيضاً من‌\iُ« الكافي» عن أحمد، عن عليّ بن نعمان، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي لَمْ أدَعْ شَيْئاً يُقَرِّبُكُمْ إلى الجَنَّةِ وَ يُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إلَّا وَ قَدْ نَبَّأتُكُمْ بِهِ‌\E- الرواية.
    2. « جواهر الكلام» ج ۱۰، ص ۱٣، الطبعة الحروفيّة، و ذكر في الهامش أنَّ مصدرها« صحيح البخاريّ» ج ۱، ص ۱٢٤ و ۱٢٥.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

89
  • إضافة إلى هذا، فليس من الكمال أن يتعلّم الإمام من أبيه جميع جزئيّات المسائل ليقوم بدوره بتعليم ما تعلّمه للإمام الذي يليه.

  • و لو تجاوزنا ذلك، فلو أراد الإنسان بيان الأمر بهذا النحو لاحتاج إلى سنوات طويلة ليتمكّن من تعلّم كتاب الصلاة فقط، فضلًا عن سائر الكتب. و كم كان عمر الأئمّة عليهم السلام لكي يتمكّنوا من ذلك؟ فهل كان الإمام محمّد التقيّ عليه السلام- لذي وصل إلى مقام الإمامة و هو في السابعة أو التاسعة من عمره- يجلس باستمرار عند أبيه فيعلّمه الأحكام واحداً واحداً؟!

  • من المسلّم أنَّ الأمر لم يكن كذلك، و الإمام الرضا عليه السلام قد أعطي الولاية للإمام محمّد التقيّ، أي أنَّه قد فتح قلبه لذلك العالَم الكلّيّ (الذي تترشّح و تنزل منه الأحكام الكلّيّة و الجزئيّة، و الذي له إحاطة على جميع العوالم و على جميع الموضوعات و الأحكام). و على هذا، فمن الممكن أن يكون الإمام محمّد التقيّ قد وصل إلى ذلك العالَم في لحظة واحدة. و هذا هو معني حقيقة الولاية.

  • إنَّ تلك السعة التي يمتلكها اولئك العظام عليهم السلام و يرون بواسطتها أنَّ أمرهم أمر الله، و يقولون بقاطعيّة: إنَّ الرادّ علينا رادّ على الله، إنَّما هي بسبب وصولهم إلى تلك الولاية الكلّيّة الإلهيّة، إذ عند ذلك تكون المخالفة لتلك الولاية مخالفة لعين ولاية الله، و سعتهم توجب أن يطيعهم جميع أفراد البشر من دون اعتراض، لأنَّهم يمتلكون الولاية الكلّيّة، و الولاية الكلّيّة عين ولاية الله، كما في القرآن الكريم‌: {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ.}۱

    1. صدر الآية ٤٤، من السورة ۱۸: الكهف.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

90
  • و في مقابل هذه الولاية الكلّيّة هناك الإمارات و القيادات و الولايات المجازيّة التي يظهرها بعض الناس بالنسبة لبعضهم الآخر مع كون ولايتهم باطلة. فالملوك و امراء الجور و الظلم و إن كانوا يرون أنفسهم أولياء للأمر، لكنَّ ولايتهم ولاية باطلة.

  • هنالك (أي عالَم الولاية الكلّيّة) الولاية الحقّ، و اولئك المطهّرون المتّصلة قلوبهم بعالم الولاية الإلهيّة الكلّيّة، ولايتهم ولاية الحقّ و لها سعة مستمدّة من: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ}‌۱، و ولاية الفقيه الوليّ الذي يجب أن يكون أعلم الامّة حتماً أقلّ من ذلك بدرجة. و سائر الولايات أيضاً كلّ منها يستفيد من تلك الولاية الكلّيّة بحسب استعدادها و قابليّتها و ماهيّتها.

  • يشترط في الفقيه إضافة إلى أعلميّته أقوائيّته في أداء الامور

  • بيان و مفاد: {زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ‌ }و المطلب الآخر هو: وجوب كون الفقيه الوليّ قويّ النفس إضافة إلى أعلميّته؛ فإذا كان هناك فقيه ضعيف النفس و لا يمتلك القدرة علي إجراء القوانين و الحدود مع كونه أعلم الامّة، فهو لا يستطيع أن يكون وليّاً. كما أنَّه إذا كان هناك فقيه قويّ النفس لكنّه ليس الأعلم فلا يستطيع أيضاً أن يكون وليّاً، لأنَّ قوّة النفس وحدها لا تكفي؛ فكم من الفقهاء يمتلكون قوّة النفس لكنّهم يستعملون قوّة النفس تلك في الطرق و الأعمال غير الصحيحة! فيجب أن تجتمع قوّة النفس مع الأعلميّة لكي تجتمع شرائط ولاية الفقيه، و لذا يقول القرآن الكريم: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى‌ إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا}

    1. قسم من الآية ٢٥٥، من السورة ٢: البقرة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

91
  • {وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.}۱

  • {وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ‌.}٢

  • تقول الآية الأخيرة: إنَّ هؤلاء الذين يظنّون أنَّ ذلك القائد الذي يجب أن يخضعوا له و يكونوا تحت ولايته و يقاتلوا لتحصيل حقّهم و يتمكّنوا من الرجوع إلى ديارهم و أبنائهم، يجب أن يكون شخصاً متموّلًا يملأ أعين الناس و أسماعهم و يكون باستمرار على مرأى و منظر منهم، فالشخص الفلاني يمتلك الشأن و الجاه و المقام و المال، يستطيع إذاً أن يكون قائداً و يمسك بزمام الأمر! و لذا قالوا: إنَّ طالوت هذا الذي تقول بأنَّ الله قد انتخبه لكم لا يمتلك القابليّة {وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ؛} و ليكن هو الخاضع لنا! فقال النبيّ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ؛} فلم أنتخب لكم هذا الشخص بنفسي، و إنَّما اختاره الله.

  • و هذا يعني أوّلًا: أنَّ هذه الحكومة حكومة إلهيّة، و لا يستطيع أيّ شخص أن ينتخب للناس حاكماً إلّا الذي قد اختاره الله إنَّ اللهَ اصْطَفاهُ؛ فالحكومة هي إلهيّة، و الله قد اصْطَفاه و اختاره (فهو صافٍ مصفّى و لائق لهذه المهمّة).

  • و ثانياً: لقد كان علمه كثيراً و جسمه قويّاً، و الله تعالي يُعطي ملكه‌

    1. الآية ٢٤٦، من السورة ٢: البقرة.
    2. الآية ٢٤۷، من السورة ٢: البقرة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

92
  • و قوّته لمن يريد، و بما أنَّ هذا الرجل يمتلك علماً كثيراً و جسماً قويّاً فقد انتخبه الله و زاده في العلم و الجسم؛ {وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ؛} فالله قد انتخب لكم طالوت الذي يمتلك بسطة في العلم و الجسم على أساس علمه و سعته.

  • و الشاهد في هذه الفقرة هو استدلال ذلك النبيّ حيث يقول‌: {زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ؛} فعِلم طالوت أكثر و جسمه أقوي.

  • أمّا أنَّ علمه أكثر، فلأنَّ زيادة العلم توضّح مسار تقدّم الإنسان. أمّا لو كان علمه أقلّ، و كان عاجزاً عن رؤية خفايا الامور و بواطنها، و مفتقراً للاطّلاع على الوقائع، و غير قادر على تقدير المصالح و المفاسد بشكل جيّد، في حال عدم وجود من هو أعلم منه في الامّة، فستكون حركته عندئذٍ في مستوي مُتَدَنٍّ.

  • و أمّا كونه أقوي جسماً، فيعني أنَّ قدرته أشدّ، إذ إنَّه بطل حرب، يسعى إلى ميدان القتال فيحمل بجسمه، و يطيح برءوس الأعداء و قادتهم في الأرض، و إذا كان القائد نحيفاً ضعيف المزاج و جاءه بطل من قادة العدوّ يطلب مبارزته، فإنَّه لن يستطيع القيام بذلك، و سوف يُقتل من أوّل الهجوم، و هذا يعطي لزوم القدرة الجسميّة أيضاً.

  • و العلم هنا كناية عن المعرفة، و الجسم أيضاً إشارة إلى القدرة، أي يجب أن يكون القائد في المستوي المطلوب من حيث العلم و الجسم و المعرفة و القدرة؛ ففي ذلك الزمان الذي كان فيه على القائد الذهاب إلى ميدان القتال، حيث كان القتال يجري وجهاً لوجه، كان على القائد أن يكون بأعلى مستويات القدرة البدنيّة، و من أبطال ذلك الزمان، كأمير المؤمنين عليه السلام الذي كان بطلًا في الظاهر أيضاً.

  • و أمّا في الزمان الذي لم يعد فيه القتال مبارزة وجهاً لوجه (و صارت الحرب فيه عبارة عن صراع فكر، و قدرة عمل خارجيّة، و عدم انخداع أمام‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

93
  • العدوّ، و هيمنة عليهم، و قدرة سلوك الطرق التي يتقنها العدوّ و التفوّق عليهم فيها) فيكون المراد من القوّة القدرة. و باختصار فالجسم هنا يطلق على القدرة، أي يصير هذا الشخص حاكماً عليكم فيما لو كان ممتلكاً لقدرة النفوذ و التقدّم، و لم يكن جباناً و خائفاً، و إنَّما شجاعاً و بطلًا. و لا يتراجع خوفاً من العدوّ، و لا يخشي تهديداته، و لا يفرّ من الحرب لبكاء و ضجيج عائلته و أقربائه و أصدقائه و قومه و أبنائه، فلا يفرّ من الزحف، و يكون قويّ القلب. و الخلاصة يجب أن يكون في العلم أعلم الناس إجمالًا، و في الجسم أيضاً أقدر الناس. فيحوي جهتي العلم و القدرة الخارجيّة، المعرفة و القدرة معاً.

  • فالآية تدلّ على أنَّ ولاية المسلمين يجب أن تكون لمن يمتلك القدرة على التنفيذ، و يستطيع أن يأمر الناس و يعبئهم، و أن يكون الناس مطيعين له، و لا ينهزم أمام العدوّ، و لا يخاف أو يجبن، بل يكون شجاعاً، و لا يهن و لا يتراجع أمام تهديدات العدوّ و إعلامه و إشاعاته. و هذا من شرائط ولاية الفقيه.

  • و قد ورد في رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال فيمن يتولّى الأمر: أقْوَاهُمْ عَلَيْهِ وَ أعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ فِيهِ‌۱؛ أي يكون أقوي الامّة في إنجاز العمل و الأعلم بأمر الله في تلك المسألة.

  • بناء على ما تقدّم، فشرائط ولاية الفقيه المستفادة من الروايات إلى الآن ثلاثة، هي: «الأعلميّة»، «الأورعيّة»، «الأقوائيّة»، يجب على الوليّ‌

    1. «نهج البلاغة» الخطبة ۱۷۱؛ و من الطبعة المصريّة بتعليقة الشيخ محمّد عبده، ج ۱، ص ٣٢۱. يقول عليه السلام: أمِينُ وَحْيِهِ، وَ خَاتَمُ رُسُلِهِ، وَ بَشِيرُ رَحْمَتِهِ، وَ نَذِيرُ نَقْمَتِهِ؛ أيُّهَا النَّاسُ! إنَّ أحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الأمْرِ أقْوَاهُمْ عَلَيْهِ وَ أعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ فِيه.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

94
  • الفقيه أن يكون في ورعه و تقواه أكثر من درجة العدالة- التي هي الملكة القدسيّة و صفاء الباطن و التجرّد النفسيّ-.

  • و أضاف البعض «الأشجعيّة» أيضاً، كما رأيته في بعض الكتابات، و لم يرد خصوص هذا العنوان في آية أو رواية، و لكن يمكننا استنتاج الأشجعيّة و الأبصريّة في الامور و أمثال ذلك من جملة: أقْوَاهُمْ عَلَيْهِ، فنقول: إنَّ الوليّ الفقيه يجب أن يكون الأقوى، و يمكن أن نستفيد عنوان الأقوائيّة هذا من جملة {وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ،} كما يمكن استفادته كذلك من رواية أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: أقْوَاهُمْ عَلَيْهِ وَ أعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ فِيهِ. و لازم عنوان القويّ هو أن تكون شجاعته أكثر و بصيرته في الامور ثاقبة، حيث تدخل جميع هذه الجهات في عنوان القويّ.

  • و على هذا، يُستفاد من مجموع البحث: يجب أن يكون الوليّ الفقيه هو الأعلم و الأورع و الأقوى. و ليس المراد من الأقوى في هذه الأزمنة أن يكون بدنه أقوي، كأن يكون بطل البلاد مثلًا، بل المقصود هو أن يكون الوليّ الفقيه ممتلكاً للقدرة و التمكّن و يستطيع إنفاذ أمره في الخارج و مقابل العدوّ، و إن كان عجوزاً ضعيفاً و مريضاً أيضاً.

  • أمّا الذي لا يمتلك القدرة السياسيّة و اتّخاذ القرار، و إن كان بطلًا و قويّ الجسم، بل و إن كان الأعلم و الأورع أيضاً، فلا يمكنه أن يكون وليّاً و حاكماً، لأنَّه لا يعرف كيفيّة إيقاع الهزيمة بالعدوّ، و لا كيفيّة التعامل مع اولئك الذين يريدون مصّ دماء المسلمين و استغلال أرواحهم و نواميسهم و أموالهم.

  • يجب أن يكون الحاكم شخصاً يهدي الجميع إلى الصراط المستقيم بأحسن السبل و أتقنها، و يكون فكره و سياسته بقوّة الإلهام الإلهيّ بنحو

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

95
  • يتمكّن من تطبيق خططه و إظهار ولايته في الخارج.

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

96
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ التَّاسِعُ وَ العِشْرون: مَعَ الأعْلَمِيَّة، يُشْتَرَطُ في وِلايةِ الفَقيهِ الإسْلامَ و التَّشَيّع.

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

98
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • من الروايات الدالّة على اشتراط أقوائيّة الوليّ الفقيه في الإتيان بالأعمال المطلوبة و تنظيم و ترتيب الامور الراجعة للولاية، هي رواية أمير المؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة» حيث‌ يقول:

  • أمِينُ وَحْيِهِ وَ خَاتَمُ رُسُلِهِ وَ بَشِيرُ رَحْمَتِهِ وَ نَذِيرُ نِقْمَتِهِ؛ أيُّهَا النَّاسُ! إنَّ أحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الأمْرِ أقْوَاهُمْ عَلَيْهِ وَ أعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ فِيهِ.۱

  • يقول ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»٢:

  • فَإنْ قُلْتَ: أيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أقْواهُمْ عَلَيْهِ وَ أعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ فيهِ؟ قُلْتُ: أقْواهُمْ، أحْسَنُهُمْ سياسَةً؛ وَ أعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ، أكْثَرُهُمْ عِلْماً وَ إجْراءً لِلتَّدْبير بِمُقْتَضَى العِلْم؛ وَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ فَرْقٌ واضِحٌ. فَقَدْ يَكونُ سائِساً

    1. «نهج البلاغة» الخطبة ۱۷۱؛ و من الطبعة المصريّة بتعليقة الشيخ محمّد عبده، ج ۱، ص ٣٢۱.
    2. «شرح نهج البلاغة» ج ٩، ص ٣٢٩، طبعة دار إحياء الكتب العربيّة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

99
  • حاذِقاً وَ لَا يَكونُ عالِماً بِالفِقْهِ، وَ قَدْ يَكونُ سائِساً فَقيهاً وَ لَا يُجْري التَّدْبيرَ عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ وَ فِقْهِه.

  • إذَن؛ فيجب أن يكون في نفس الوقت أقْوَاهُمْ عَلَيْهِ، أي أحسنهم سياسة و أعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ فِيهِ، أي أقدرهم و أعلمهم بتنفيذ أمر الله في ولايته. فيجب أن يكون أقدر من الجميع على تنفيذ و إجراء علمه بالكتاب و السنّة بين الناس، فهكذا شخص هو أحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الأمْرِ.

  • و من هنا نستفيد أنَّه إضافة إلى كونه أقْوَاهُمْ عَلَيْهِ، يلزم أن يكون أعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ فِيهِ أيضاً. لأنَّه من الممكن أن يكون فقيه ما، أعلم الامّة و أورعهم و أقواهم عليه أي أحسنهم سياسة، لكنّه لا يكون أفضل الناس و أعلمهم من ناحية تنفيذ أحكام الله في أمر الولاية فلا يستطيع تنفيذ أحكام الله في المجتمع كما ينبغي و يجب، و يكون عاجزاً في مسألة إجراء أحكام الكتاب و السنّة في المجتمع و دعوة الناس إلى الإسلام و الإيمان و العفّة و الطهارة و إقامة الصلاة و تقرّبهم إلى الله و رسوله و تأليف قلوبهم و تسكينها. فأعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ فِيهِ هو الشرط الرابع الذي يضاف إلى شرائط ولاية الفقيه، و هو ما نستفيده من هذه الرواية.

  • ثمّ‌ يقول عليه السلام: فَإنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ فَإنْ أبَى قُوتِلَ.

  • يحرم نكث البيعة بعد مبايعة الوليّ الحقّ‌

  • فإذا أراد أحدٌ إثارة الفساد و المعارضة بعد تسلّم الوليّ لزمام الامور، فعلى الوليّ أن يطلب منه الرضا بالحقّ و التخلّي عن الفساد و الغوغاء و الادّعاء و التسليم في مقابل حكم الكتاب و التوقّف عن إثارة الفساد طبقاً للآية الشريفة: {وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‌ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‌ءَ إِلى‌ أَمْرِ اللَّهِ.}۱

    1. صدر الآية ٩، من السورة ٤٩: الحجرات.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

100
  • فإذا قَبِلَ ذلك فهو، وَ إلَّا قوتِلَ؛ أي يجب أن يُجاهد و يُقاتل حتّى يرضخ، حتّى لو أدّى ذلك إلى القتل و النهب و الأسر. و عليه، فيدعي الشخص المتمرِّد و المعارِض للحكومة الإسلاميّة بعد ثبات النظام الإسلاميّ إلى الخضوع للحكومة، فإن لم يخضع يجب أن يُنهض لقتاله و مواجهته إلى أن يُقضي عليه و على حزبه و جميع رجاله و أعوانه، إلّا أن يتخلّوا عن المعارضة و يستسلموا.

  • وَ لَعَمْرِي لَئِنْ كَانَتِ الإمَامَةُ لَا تَنْعَقِدُ حَتَّى يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ فَمَا إلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ؛ وَ لَكِنْ أهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْه، ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أنْ يَرْجِعَ وَ لَا لِلْغَائِبِ أنْ يَخْتَارَ.

  • يقول: بعد بيعة أهل الحلّ و العقد للحاكم في بلد سُكناه لا يبقي لزوم لبيعة الجماعات التي تعيش خارج المدينة، و لا يمكننا إخبارهم، و عليهم جميعاً الخضوع لحكم الحاضرين، و يكون حكم الحاضرين سارياً على الغائبين، كما لا يستطيع الذين شهدوا و حضروا و بايعوا الرجوع عن البيعة و كسرها. لأنَّه إذا اريد جميع أبناء الامّة واحداً واحداً لأجل أخذ البيعة فَمَا إلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ؛ و هذا العمل غير ممكن أساساً.

  • و لهذا، فالسيرة قائمة على أن يُبايع الأشخاص الذين هم في العاصمة و بلد الحاكم، أي أنَّ بيعة أهل العقد و الحلّ وحدها النافذة و هي كافية للجميع.

  • و كلام أمير المؤمنين عليه السلام هذا دليل على الأمر الذي ذكرناه سابقاً من أنَّ أحد شرائط تحقّق الإمامة هو بيعة الناس، و ليس ذلك بمعني أنَّ مقتضي و شأنيّة الإمام [ترتبط] بالبيعة بنحو لو لم يبايعه الناس لما كان واجداً لمقام الإمامة، بل المراد هو أنَّ البيعة واجبة و ضروريّة في مقام فعليّة حكومة الإمام و قبول الناس له و إلزام و سيطرة حكومته بالنسبة للناس‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

101
  • و تنفيذ أوامره. و حتّى أنَّ إمامة أمير المؤمنين عليه السلام قد استقرّت بالبيعة.

  • كما يستفاد من كلام الإمام هذا و من سيرته أيضاً أنَّه بعد أن يبايع الناس لا يحقّ لمن لم يكن حاضراً حين البيعة أن يرفضها و يطالب ببيعة ثانية؛ حيث يقول عليه السلام: لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أنْ يَرْجِعَ وَ لَا لِلْغَائِبِ أنْ يَخْتَارَ، فالذين بايعوا لا يحقّ لهم كسر بيعتهم، و الذين لم يكونوا حاضرين لا حقّ لهم بالانتخاب.۱

  • إلى أن يقول عليه السلام: ألَا وَ إنِّي اقَاتِلُ رَجُلَيْنِ: رَجُلًا ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَ آخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ.

  • فالإمام عليه السلام إذَن يقول: بعد أن وصلت السلطة إلى يدي فإنِّي اقاتل رجلين:

  • الأوّل: رجل ادّعي ما ليس له، كأن يدّعي مثلًا كونه حاكماً بعد

    1. يروي في« صحيح مسلم» ج ٢، ص ۱٣٦، كتاب الإمارة، بابُ الأمر بِلُزومِ الجَماعة عندَ ظُهورِ الفِتَن و تَحذيرِ الدُّعاةِ إلى الكُفر، طبعة مصر، مطبعة عيسى البابيّ الحلبيّ، بثلاثة أسانيد متّصلة له عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مُطيع حين كان من أمر الحَرَّة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن و سادة فقال: إنِّي لم آتك لأجلس، أتيتك لُاحدِّثك حديثاً سمعته عن رسول الله صلّى الله عليه‌[ و آله‌] بقوله: سمعت رسول الله صلّى الله عليه‌[ و آله‌] و سلّم يقول: مَنْ خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ؛ وَ مَنْ مَاتَ وَ ليْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً.
      و يجب أن يُعلم أنَّ المراد بكسر البيعة و الطاعة من هذه الرواية و أشباهها هو نقض بيعة و طاعة الإمام الحقّ، و هذا بالطبع له معني صحيح. لكنَّ ابن عمر قد أوهم أنَّ المراد نقض البيعة من طاعة كلّ شخص، حتّى لو ادّعي كونه حاكماً بالظلم و العدوان، و حتّى لو كان يزيد بن معاوية. إنَّ تطبيق الرواية على هذا المورد و أمثاله ممّا هو نهج و دأب علماء العامّة من أعظم المصائب التي وردت على الإسلام و المسلمين

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

102
  • استقرار الحكومة، و يرفض هذه الحكومة و الولاية و البيعة و يعتبر نفسه حاكماً، و يجمع الناس حوله على هذا الأساس.

  • فهذا منطق خاطئ، إذ لا مجال في الإسلام لحكومتين، فالحكومة حكومة واحدة فقط، قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إذا تسلّم الحاكم الحكم على اسس صحيحة و موازين شرعيّة، و انتصب للسلطة و بايعه الناس، ثمّ ادّعي شخص آخر الحكومة فاقتلوه.۱

  • لأنَّ الحكومة الثانية باطلة، و ليس لأحد أن يدّعي الحكم في مقابل الحكومة الحقّة الحقيقيّة التي قد انعقدت بجميع الشرائط و اللوازم. فمن يأخذ البيعة لنفسه من الناس و يدّعي الحكومة فهو مُدَّعٍ مُبطِل و يجب قتله.

  • و يقول الإمام عليه السلام هنا أيضاً أنَّه بعد أن استقرّت الحكومة لي باتّفاق الجميع، و مع ملاحظة أنَّ الحكومة لا تقبل التعدّد، و لزوم كون الحاكم الإسلاميّ واحداً دوماً، فلو ادّعي رجل ما لَيْسَ لَهُ فإنِّي سوف اقاتله.

  • و الثاني: هو ذلك الشخص الذي يمنعُ الذي عليه. فعليه مثلًا أن يطيع الحاكم، و لكنّه يخالفه و يمتنع من إعطاء الحقوق و الالتزام بما تطلبه الحكومة و يستنكف عن ذلك. ففي هذه الصورة يحكم قانون الشريعة بوجوب مقاتلة ذلك الشخص إلى أن يخضع للحكومة.

  • و هذا من الأدلّة التي تدلّ على لزوم كون الحاكم هو الأقوى و الأقدر

    1. «صحيح مسلم» ج ٢، ص ۱٣۷، كتاب الإمارة، بابُ إذا بويعَ لِخليفَتيْن، طبعة مصر، مطبعة عيسى البابيّ الحلبيّ: وَ حَدَّثَنِي وَهَبُ بْنُ بَقِيَّةِ الوَاسِطِيّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنِ الجريريِّ عَنْ أبِي نَضْرَةَ عَنْ أبِي سَعِيدِ الخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ‌[ وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ: إذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا.
      و في تعليقته: أيْ فادْفَعوا الآخَرَ بِالقَتْلِ إذا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ بِدونِهِ؛ وَ مُقْتَضاهُ أنَّهُ لا يجوزُ عَقْدُ البَيْعَةِ لِخَليفَتَيْنِ في زَمَنٍ واحِدٍ، وَ إلَّا لَما جازَ قَتْلُ الآخَرِ مِنْهُما.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

103
  • على تنفيذ أحكام الإسلام.

  • علّة امتناع أمير المؤمنين عن قبول مبايعة الناس له بعد مقتل عثمان‌

  • لقد أحاط الناس بعد قتل عثمان بأمير المؤمنين عليه السلام و أرادوا مبايعته، فرفض ذلك، إلى أن مضت عدّة أيّام، كان الناس خلالها يصرّون على مبايعته، ثمّ قال لهم أخيراً: إنَّ مُبايعتي في الخفاء ليست أمراً صحيحاً، بل يجب أن يحضر جميع أهل المدينة بدون استثناء و أهل الحلّ و العقد ممّن يمكن حضورهم في المسجد، و يُبايعونني في الملأ العامّ. و أصرَّ أمير المؤمنين عليه السلام على هذا الأمر بقوّة، مع أنَّ بعض أصحابه كان معارضاً لذهابه إلى المسجد، حيث كان من المتوقّع أن يتعرَّض الإمام عليه السلام لضرر من كثرة ازدحام الناس. لكنَّ الإمام لم يلتفت لمعارضته و أصرَّ على كلامه مطالباً بأن تكون بيعته علناً أمام الملأ.

  • و بالطبع، فإنَّ الإمام عليه السلام في البداية رفض الأمر و لم يرضخ لطلبهم، و كان كلامه و منطقه أنَّه إذا قبلت استلام الحكم فسوف أعمل بحسب نظري، لا على سنّة السابقين و الخلفاء الذين أتوا، فكلّ منهم قد أحدث اعوجاجاً و انحرافاً في الشريعة، و قد اعتاد الناس على تلك الاعوجاجات، فلو أردت معاملة الناس الآن على أساس كتاب الله و سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لارتفعت الغوغاء و الضجيج و لترتّبت على ذلك المفاسد، فإن شئت استلام الحكم إذَن، فلن أتخطّى عن ذلك الميزان و الصراط أبداً!

  • و بناء على هذا، فوظيفة الحاكم هي العمل على أساس كتاب الله و السنّة دون اهتمام لعتاب أحد، أو إصغاء لإهانة أحد، أو التفات لمن يحيط به، أو ملاحظة للمصالح الآنيّة المؤقّتة على حساب الكتاب و السنّة، إذ يجب ظهور الحقّ و إعلانه على رءوس الأشهاد.

  • في ولاية الوليّ يتحمّل الوالي العالم كلّ ظلم يحدث في أيّة زاوية من‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

104
  • زوايا العالم، و لأيّ شخص كان من رجل أو امرأة أو يتيم ممّن هم تحت ولايته؛ و لذا، فللولاية مداليل و لوازم خطيرة جدّاً.

  • لا يستطيع المرء أن يتقبّل التوجيهات و التأويلات و اقتراحات الأشخاص بسهولة فيقول مثلًا: لا مصلحة الآن في القيام بهذا العمل، و إنَّما المصلحة في السكوت، و أمثال ذلك. هذا هو منهج و مذهب أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو منهج الحقّ و مذهب رسول الله صلّى الله عليه و آله، و قد جسّده عليه السلام في عهد حكومته.

  • عند ما أراد الناس مبايعة أمير المؤمنين بعد عثمان؛ قال عليه السلام في خطبته:

  • دَعُونِي وَ التَمِسُوا غَيْرِي! فَإنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَ ألْوَانٌ لَا تَقُومُ لَهُ القُلُوبُ وَ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ العُقُولُ.

  • تدور أهواء و آراء الناس حول السمعة و جمع الأموال و سرقة بيت المال، و قد تربّوا على أساس التمييز و الطبقيّة التي سنّها الخليفة الثاني و التي قُسّم بيت المال على أساسها.

  • إنَّ أوّل ظلم قام به ذلك الشخص الذي منحوه لقب العادل و أثنوا عليه هو قيامه بتقسيم بيت المال على أساس اختلاف الطبقات و المراتب الاجتماعيّة بين نساء النبيّ و المهاجرين و الأنصار و سائر الطبقات بحسب أحوالهم. فتبعه الناس في ذلك التصرّف. فلو أراد أمير المؤمنين عليه السلام الآن العودة إلى سنّة النبيّ و قطع تلك الأسهم فسوف يخالفه و يعارضه جميع اولئك الذين ذاقوا لذّة تلك الأموال التي اعتادوا عليها.

  • و على كلّ تقدير، فقد قال عليه السلام: إذا شئتم أن تُبايعوني فالأمر بهذا النحو.

  • وَ إنَّ الآفَاقَ قَدْ أغَامَتْ، وَ المَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

105
  • وَ اعْلَمُوا أنِّي إنْ أجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أعْلَمُ وَ لَمْ أصْغ إلَى قَوْلِ القَائِلِ وَ عَتْبِ العَاتِبِ.

  • حتّى أنَّه اقترح عليه في بدء خلافته اثنان من خواصّه (عبد الله بن العبّاس و مالك الأشتر) قائلين بأنَّه ليست هناك أيّة مصلحة في خلع معاوية من حكومة الشام في هذا الوقت، فأبقِ على الولاة الآن لمدّة قصيرة في إمارتهم و حكوماتهم، و عند ما تستحكم قواعد حكومتك اعمل بما يمليه عليك رأيك!

  • فعاتبهم أمير المؤمنين عليه السلام بشدّة، و آخذهم على ذلك الكلام معترضاً عليهم بأنَّ قيامه بهذا العمل سوف يكون تكراراً لتلك التأويلات و المماشاة، و ذلك التساهل الذي كان يقوم به الآخرون، و ليست هذه هي المحجّة، و إنَّما المحجّة الواضحة و الطريق البيِّن هي: بما أنِّي وليّ أمر المسلمين فيجب ألَّا أرضي بحصول ظلم- و لو لدقيقة واحدة- في أيّة ناحية من نواحي البلاد التي هي تحت سلطتي و تحت ولايتي.

  • وَ إنْ تَرَكْتُمُونِي فَأنَا كَأحَدِكُمْ؛ وَ لَعَلِّي أسْمَعُكُمْ وَ أطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أمْرَكُمْ! وَ أنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أمِيراً.۱

  • فما دمت أميراً عليكم، فجميع المسئوليّات في عهدتي، و من اللازم عَلَيّ العمل بكتاب الله و سنّة النبيّ من دون أيّ تغيير؛ أمّا فيما لو تولّي هذه المسئوليّة غيري فإنَّها تخرج من عهدتي، و لا يكون بمقدوري القيام بأيّ عمل، و سأدعم تلك الحكومة ما أمكنني في حدود شأني و قدرتي، و أكون أطوع و أسمع منكم جميعاً.

    1. «نهج البلاغة» الخطبة ٩۰، و من طبعة مصر بتعليقة الشيخ محمّد عبده، ج ۱، ص ۱۸۱ و ۱۸٢.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

106
  • الخطبة ۱٢٩ في «نهج البلاغة» حول شرائط الحاكم في الإسلام‌

  • و يقول عليه السلام في خطبة اخرى:

  • وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أنَّهُ لَا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الوَالِي عَلَى الفُرُوجِ وَ الدِّمَاءِ وَ المَغَانِمِ وَ الأحْكَامِ وَ إمَامَةِ المُسْلِمِينَ، البَخيلَ فَتَكُونَ فِي أمْوَالِهِم نَهْمَتُهُ.۱

  • لأنَّه ليس بمقدور البخيل، أداء حقّ الناس. و هو لا يتصرّف بمقتضى ذلك البخل في أمواله الشخصيّة فقط (بعد استلامه الرئاسة العامّة، و جميع الأموال العامّة بيده) بل في جميع هذه الأموال، مروراً بنواميس الناس و دمائهم و أموالهم؛ و لا يقتصر تصرّفه بحسب شهوته في بيته و أمواله فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى جميع الأموال العامّة أيضاً. و بناء على هذا، فكما تعلمون أنَّه لا ينبغي لمن يتولَّ على المسلمين أن يكون بخيلًا.

  • وَ لَا الجَاهِلَ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ.

  • كلّما كان فكر الوالى (الذي يتولّى تدبير أمر المجتمع) أنضج و درايته أحسن و علمه أوسع، فإنَّه يسير بالمجتمع نحو الكمال بشكل أفضل و أنقي. أمّا لو كان الوالى جاهلًا و غير مطّلع على الامور، فلا يكون أهلًا للقيادة، لأنَّ الجاهل لا يرشح منه إلّا الضلال، فبمقدار ما يكون جاهلًا فهو يعيق المجتمع عن سيره التكامليّ. و عليه، فلا يمكن للجاهل أن يكون والياً، لأنَّ الوالى الجاهل يضلّ الامّة بجهله.

  • وَ لَا الجَافِيَ فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ.

  • و ينبغي أن لا يكون الوالى شخصاً حادّاً و خشناً و جافياً، لأنَّه بجفائه يقطع علاقة الناس به. على الوالى أن يرتضي وجود الناس حوله، و أن يحويهم برعايته و تربيته، و أن يتعامل معهم بوجه سمح، و يرتبط بهم على‌

    1. نَهْمَة: بُلوغُ الهِمّةِ في الشَّهْوَةِ في الشَّي‌ءِ. يُقالُ لَهُ في هَذَا الأمْرِ نَهْمَةٌ، أيْ شَهْوَةٌ. وَ قَضَى مِنْهُ نَهْمَتَهُ، أيْ شَهْوَتَه.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

107
  • الدوام؛ يُرشد أيتامهم، و يصغي لكلام ضعيفهم و فقيرهم و مسكينهم، و يفسح لهم مكاناً عنده، و يكون له حضور بين الناس كما يكون للناس طريق إليه.

  • أمّا قاسي القلب و الحادّ الجافي، فالناس يفرّون منه.

  • وَ لَا الخائِفَ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ.

  • دُوَل: بضمّ الدال جمع دُولَة بمعني المال. و عُبِّرَ عن المال بالدولة لأنَّه يدور بين الأفراد باستمرار، و يتداول من يد إلى يد دون ما ثبات. و بهذا المعني وردت كلمة دُولَة في الآية الكريمة:{ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ}.۱

  • فيقول الإمام عليه السلام: لا ينبغي للحاكم أن يكون حائِفاً لِلدُّوَلِ. و الحائِف يعني الجائر و الذي ينهب أموال الناس ظلماً و جوراً، و يَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ، فيعطيه لجماعة دون جماعة، يعطي بيت المال لخواصّه و قومه و قبيلته، أو لزوجته كما فعل عثمان، حيث أعطي زوجته نائلة بنت فرافِصَة عقداً يساوي قيمته ثلث خراج إفريقيا، و كان له عطايا من هذا القبيل، و كان يدّعي بأنَّه: وليّ و مختار و يجوز له القيام بأيّ تصرّف!

  • على الحاكم أن لا يستحلّ أيّ ظلم و جور لأموال الناس، و لا يخصّ به طبقة خاصّة بأيّ وجه من الوجوه، و عليه أن يتعامل مع العامّة و الخاصّة بالسويّة، فلا يميّز قوماً على قوم أبداً (من حيث قطع الأراضي و إعطاء العطايا و أمثال ذلك). و عليه أن يقسّم جميع الأموال العامّة بين الناس بمقتضى الكتاب و السنّة، أو يصرفها في المصارف العامّة وفقاً لهذا الأساس أيضاً.

    1. قسم من الآية ۷، من السورة ٥٩: الحشر.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

108
  • وَ لَا المُرْتَشِيَ فِي الحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالحُقُوقِ.

  • و يجب أن يكون الحاكم نزيهاً، فلا يأخذ الرشوة في أحكامه (سواء كانت رشوة ماليّة أم مقاميّة أم اعتباريّة، أم كانت خوفاً من منصب أم لأجل كسب صداقة و أمثال ذلك) لئلّا يذهب بالحقوق هدراً.

  • و يجب أن يكون الحاكم شخصاً قاطعاً لا يمنعه شي‌ء عن أداء حقوق الناس، و لا تغريه الرشوة عن الحكم بغير الحقّ.

  • فَيَذْهَبَ بِالحُقُوقِ وَ يَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ.

  • إنَّ المرتشي يتخلّى عن الحكم عند إجرائه قبل أن يصل في الخارج إلى مرحلة التنفيذ، و قبل أن يصل إلى المرحلة الحاسمة و وضوح أمره على أساس الكتاب و السنّة، فيطبّق بالنتيجة حكماً آخر لم تتشخّص قاطعيّته من الكتاب و السنّة. و من المسلّم به أنَّ ذلك الحكم على خلاف الحقّ، لأنَّه حينما يعيّن الكتاب و السنّة حكماً فالتخطّي عنه بسبب الرشوة يعني تنفيذ حكم آخر بخلافه. و هذا وقوف في الحقوق دون المقاطع، أو تنفيذ لغير الحكم الذي قطع به الكتاب و السنّة.

  • وَ لَا المُعَطِّلَ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الامَّة.۱

  • على الوالى أن لا يعطّل سنّة الله و رسوله صلّى الله عليه و آله و سلّم خوفاً من هلاك الامّة بهذا العمل. عليه أن ينفّذ سنّة الله و رسوله، لأنَّ حكومة الإسلام حكومة قائمة على السنّة، فهي ليست كسائر حكومات الناس الاعتياديّة التي وظيفتها الوحيدة الإعمار، و زيادة الأرزاق، و توفير الخدمات، و حفظ الحدود، و الأمن الداخليّ و أمثال ذلك. فهذه امور تشترك‌

    1. «نهج البلاغة» الخطبة ۱٢٩؛ و من طبعة مصر بتعليقة الشيخ محمّد عبده، ج ۱، ص ٢٤۸ و ٢٤٩

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

109
  • فيها جميع دول العالم، فينصبّ همّ كلّ دولة و حكومة تأتي علي إعمار البلاد و راحة الناس و حفظ أمنهم الداخليّ و حدودهم و ثغورهم؛ و هذا غير كافٍ بالنسبة لحكومة الإسلام. فعلى حكومة الإسلام أن تُقيم السنّة، لأنَّها قائمة على أساس الإسلام، و الحاكم الإسلاميّ مسئول عن تطبيق القرآن الكريم و سنّة النبيّ بين الناس، فلو عطَّل الحاكم هذا المعني فلا يمكنه أن يكون حاكماً إسلاميّاً، و إن أمَّن المال و الثروة و المياه و الأطعمة و الرفاه و كلّ ما يحتاجه الناس، لأنَّه قد ترك العمل بسنّة الرسول الأكرم.

  • إنَّ معني قول أمير المؤمنين عليه السلام في: وجود عدم اتّصاف الحاكم بهذه الصفات (أي لا ينبغي للحاكم أن يكون بخيلًا و جافياً و حائفاً و مرتشياً و معطِّلًا للسنّة) هو لزوم كون الحاكم واجداً لخلاف هذه الصفات، أي: لا بُدَّ أنْ يَكونَ الوالي، الجَوادَ وَ صاحِبَ الوَفاءِ وَ الرَّجُلَ العادِلَ القَيِّمَ القائِمَ بِالقِسْطِ المُؤَيِّدَ لِلسُّنَّةِ وَ المُقَوِّي لِلشَّريعَة. فيجب توفّر هذه في الحاكم.

  • هل هذه الصفات إضافيّة و يجب أن نجعلها للحاكم، أم تنضوي تحت عناوين العدالة و الأورعيّة التي هي أسمي من العدالة، و التي هي من شروط الحاكم؟

  • من المقطوع به أنَّ الشقّ الثاني هو الصحيح، فلو قلنا: يجب أن يكون حاكم الشرع عادلًا، بل في درجة عليا من العدالة أيضاً، فهذا يعني أنَّه أورع الناس، فهو ليس بخيلًا و لا جافياً، بل ممّن ينفق الأموال على أساس الأوامر و القوانين الإلهيّة، و ليس مرتشياً و لا معطِّلًا للسنّة أيضاً. كان هذا البحث فيما يتعلّق بمسألة الأقوائيّة و أعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ فِيهِ.

  • دلالة آية: {وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}

  • وفقاً للآية القرآنيّة: لا حكومة للكافر على المؤمن و من الشروط التي يجب أن تتوفّر في الوليّ الفقيه أيضاً هو: شرط

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

110
  • الإسلام، إذ إنَّ حكومة الكافر على المسلمين غير جائزة؛ يقول الله تبارك و تعالى في القرآن الكريم:

  • {وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}.۱

  • فلم يجعل الله تعالى أيّة سبيل للكافرين على المؤمنين لكي لا يكون لهم تسلّطاً و استيلاءً و سيطرة عليهم- و حتّى لو كانت سبيلًا جزئيّة-. فلم يجعل الله تعالى سبيلًا كهذه بحيث تكون لصالح الكافرين على المؤمنين.

  • «عَلَى» بمعني السلطة و الاستيلاء. أي أنَّ نفوذ و قدرة و هيمنة و سيطرة الكفّار على المؤمنين أمر غير صحيح، أمّا العكس و هو أن يكون للمؤمنين على الكافرين سبيل فذلك أمر صحيح و سليم. فلم يكتف ب-: إنَّ اللهَ جَعَلَ لِلْمُؤْمِنينَ عَلَى الْكافِرينَ سَبيلًا فحسب، بل جَعَلَ عَلَيْهِمْ سُبُلًا؛ فتلك السبيل التي تكون للمؤمن على الكافر هي ممّا يوجب عزّة و شرف و إيمان و هداية و تربية الكافر.

  • و إنَّما أمر الله تعالي المؤمنين بالجهاد و بذل دمائهم، لأجل أن يؤمن‌

    1. ذيل الآية ۱٤۱، من السورة ٤: النساء. و العجيب أنَّ الله تبارك و تعالى يبيّن في الآية ۱٤٤ من نفس هذه السورة نتيجة ولاية الكفّار على المؤمنين، فيقول تعالى:
      {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً.} 
      و يظهر من هذه الآية بوضوح: أنَّ نتيجة ولاية الكفّار على المؤمنين هي الذلّ و الضياع في الدنيا و الآخرة و فقدان جميع القيم الإنسانيّة و الفضيلة و الشرف الإنسانيّينِ و هو ما قدّره الله بواسطة حكومة الكافرين عليكم و باختياركم، و ما قدرة الكافرين عليكم حين ولايتهم إلّا سلطة الله عليكم بسبب فسادكم الحاصل بإرادتكم و اختياركم. و يتّضح من الآية توحيد الله الأفعاليّ، إذ كانت سلطة و حكومة الكافرين على المؤمنين عين قدرة و حكومة الله على المؤمنين التي نالوها و تعلّقت بهم نتيجة اتّخاذهم لهؤلاء أولياء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

111
  • المشرك، فجعل الله تعالى سبيلًا كهذه للمؤمن على الكافر، لكنّه لم يجعل أيّ سبيل للكافر تكويناً و تشريعاً للتغلّب و السيطرة على المسلمين.

  • أمّا عدم تمكّن الكافر في عالم التكوين من امتلاك نفوذ على المؤمن فلأنَّ المؤمن- و انطلاقاً من الإيمان الذي يملكه و الذي قد نفذ في قلبه- لو جلس مع الكافر ألف سنة لما استطاع الكافر أن ينفذ إلي قلبه، لأنَّ الإيمان توأم النور، و الكفر توأم الظلمة، و النور غالب على الظلمة دوماً؛ و الإيمان حقّ و الكفر باطل، و الإيمان منتصر على الباطل على الدوام.

  • {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}.۱

  • {إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً}.٢

  • {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}.٣

  • الباطل هو الشي‌ء الذي لا يمتلك أصالة و استقلالًا، و ليس له أساس و دعامة. و يقابله الحقّ، و المؤمن متحقّق بالحقّ دائماً. الكافر يعني ذلك الذي يحجب وجه الإيمان، و يجعل الحقّ مستتراً من خلال التمويه و الخداع. إنَّ التمويه و الخداع ليس حقّاً، لكنّه باطلًا بصورة حقّ، و تصوير للحقّ بصورة الباطل، لا أنَّه تبديل للباطل بالحقّ و الحقّ بالباطل. بناء على هذا، فالكافر لا يجد من الناحية التكوينيّة سبيلًا على المؤمن مطلقاً.

  • و كذلك الأمر في عالم التشريع، لأنَّ الله تعالي لم يجعل أيّ حكم‌

    1. قسم من الآية ۱۷، من السورة ۱٣: الرعد.
    2. ذيل الآية ۸۱، من السورة ۱۷: الإسراء؛ و تمام الآية هكذا: وَ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِل كَانَ زَهُوقاً.
    3. الآية ۱۸، من السورة ٢۱: الأنبياء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

112
  • يكون للكافرين فيه على المؤمنين عنوان تسلّط و قدرة و امتياز و أفضليّة و آمريّة و نفوذ و هيمنة و استيلاء، بل سدّ كلّ ثغرة نفوذ للكافر على المؤمن، و أغلق طريقه. و الملفت أنَّه قد ذكر السبيل بصورة نكرة في سياق النفي، ممّا يفيد العموم، و أنَّ الله لم يجعل أيّة سبيل للكافرين على المؤمنين إطلاقاً، حتّى لو كانت تلك السبيل قصيرة و تمثّل سلطة جزئيّة و تفوّقاً في الجملة. و على هذا، فكلّ قانون يوجب حصول سبيل للكافر على المؤمن يكون بحكم هذه الآية منفيّاً و ممنوعاً.

  • و يؤيّد ذلك استشهاد الأئمّة عليهم السلام في كثير من الروايات- حين بيانهم حكماً يتضمّن عدم قدرة و تسلّط الكافر على المؤمن- بآية: {وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}. و على هذا، فمن المحال أن يتصدّى غير المسلم لمنصب ولاية الفقيه.

  • و هنا يطرح سؤال، هو: ما الإشكال في أن يدرس يهوديّ أو نصرانيّ و يصير أعلم مَن في الامّة و من ثمّ يتسلّم أمر الولاية؟

  • و الجواب: لا يجوز أن يتسلّم زمام الأمر و إن كان أعلم من جميع الامّة، لأنَّ من الشروط المسلّمة للوليّ الفقيه أن يكون مسلماً.

  • و الأمر كذلك في جميع الامور التي هي من شئون الولاية، فلا يمكن لغير المسلم أن يُنَصَّب في أيٍّ من المراكز الولايتيّة، كرئاسة الجمهوريّة و مقاعد مجلس الشوري الإسلاميّ و رئاسة الوزراء و سائر الكراسي الوزاريّة و منصب المدير العامّ، و بشكل عامّ في كلّ مركز يكون فيه رئاسة و ولاية على امور المسلمين، لأنَّ تنصيبه في هذه المواقع بمثابة إيجاد للسبيل، و ولايته منفيّة بآية نفي السبيل، و لأنَّ سلطة غير المسلم تدخل تحت عنوان الولاية، و عنوان ولاية الكافرين منفيّة بمقتضى هذه الآية.

  • طبقاً للآية .. انتفاء دخول ممثّلي أهل الذمّة في مجلس الشوري‌

  • و يصحّ انتخاب أشخاص من اليهود و النصارى بصفة ممثّلين في‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

113
  • مجلس الشوري، و لا يكون منافياً للآية القرآنيّة فيما لو كان مجلس الشوري الإسلاميّ مجلس وكالة، أي كما يرسل جميع المسلمين أشخاصاً من قبلهم ليمثّلوهم في المجالس، فلليهود و النصارى أن يوكّلوا من ناحيتهم أشخاصاً يقومون بنقل مطالبهم، و هذا لا إشكال فيه.

  • لكنَّ الكلام يدور حول ما إذا لم يكن مجلس الشوري الإسلاميّ بمجلس وكالة، بل هو مجلس ولاية عامّة. فمجلس الشوري له دور عمليّ، و القوانين التي يقرّها لها من يضمن تنفيذها في الخارج على أساس كونها مطابقة لقانون القرآن و الإسلام، و عدم اشتمالها على أيّة مخالفة، و يقوم أعضاء مجلس الشوري بأعمال البلاد بعنوان أولياء، غاية الأمر لا تكون الولاية فيه لشخص واحد بل هي للجماعة، فيقومون بالعزل و النصب و السلم و الحرب، و يصدرون جميع قرارات البلاد، فهكذا مجلس إذَن هو مجلسٌ ولايتيّ لا مجلس وكالة، و لا يحقّ لغير المسلمين أن يشاركوا فيه.

  • لم يكن من المقرّر في بداية الحركة الدستوريّة- عند ما تقرّر تأسيس المجلس- دخول اليهود و النصارى و مشاركتهم فيه أبداً؛ و بذل حملة لواء الدستوريّة الاولي، الذين كانوا يتولّون السياسة المزوّرة في الخفية و السرّ، جهوداً كبيرة في هذا المجال، لأنَّهم كانوا يريدون إخراج الحكم عن صفته الإسلاميّة و ترتيب مجلس بعيد عن سلطة فقهاء الامّة و منفصلًا عن ولاية الفقيه! و لذا، أدخلوا اليهود و النصارى بصفة ممثّلين عن أقلّيّات مذهبيّة في المجلس، و من ثمّ انتقل الدور إلى المجوس، أي الزرادشتيّين حيث لم يكن العلماء مستعدّين لإفساح المجال لممثّل الزرادشتيّين في المجلس بأيّ وجه من الوجوه.

  • ينقل في كتاب «تاريخ رجال إيران» عن أرباب جمشيد: أنَّهم ذهبوا إلي أحد كبار الساسة المعروفين في طهران (و ذكر اسمه و صفاته، و قد كان‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

114
  • من حملة لواء الدستوريّة) و طلبوا منه الموافقة على السماح للزردشتيّين بانتخاب ممثّل لهم في المجلس بصفة أقلّيّات مذهبيّة، و أعطوه ما شاء الله من المال إلى أن وافق أخيراً على أن يوضع في القانون الأساسيّ: أنَّ للزردشتيّين أن ينتخبوا ممثّلًا لهم في المجلس بصفتهم أقلّيّة دينيّة۱.

  • هذا ما بأيدينا حاليّاً من التأريخ، و لو أردنا أن نرجع حقيقة إلى الكتاب و السنّة و نعمل بهما، فيجب منع مشاركة اليهود و النصارى و الزرادشتيّين في مجلس الشوري، و كذلك كلّ جماعة خارجة عن الإسلام كالشيوعيّين و المشركين و الطبيعيّين و المرتدّين و الملحدين و غيرهم، و إن كانوا من مواطني البلاد الإسلاميّة.

  • كان بحثنا هذا حول ما يتعلّق بشرط الإسلام الذي ذكرناه.

  • و من الشروط الاخرى للحاكم الإسلاميّ هو: التشيّع، فيجب أن يكون الوليّ الفقيه الذي يتولّى زمام امور الناس شيعيّاً إضافة إلى كونه مسلماً. و لا نحتاج لإثبات اشتراط التشيّع في الوليّ الفقيه سوي نفس دليل اشتراط الإسلام، فعند ما نقول: يجب أن يكون الحاكم الإسلاميّ مسلماً فهذا

    1. «تاريخ رجال إيران» قرون ۱٢- ۱٣- ۱٤ هجريّ، تأليف مهدي بامداد، ج ۱، ص ٢۸۰؛ يقول في ترجمة أحوال أرباب جمشيد:
      أرباب جمشيد بن بهمن الزرادشتيّ اليزديّ، كان من الصرّافين المعروفين في طهران، و صار نائباً في الدورة الاولي لمجلس الشوري الوطنيّ عن الزرادشتيّين( لقد استمرّ المجلس الأوّل من ۱۸ شعبان ۱٣٢٤ إلى ٢٣ جمادي الآخرة ۱٣٢٦ ه-) في إيران.
      و قال أرباب جمشيد للكاتب في أحد الأيّام ضمن حديث: إنَّه في بداية تأسيس الحركة الدستوريّة و تدوين القانون الأساسيّ، لم يكن بعض النوّاب يميلون لإعطاء الزرادشتيّين ممثّلًا في مجلس الشوري الوطنيّ، و قد أعطيتُ مبلغاً كبيراً من المال للسيّد عبد الله البهبهانيّ الذي كان أكثر الأشخاص نفوذاً في المجلس إلى أن رضي أخيراً و استغلّ نفوذه لكي يُعطي مقعد للزردشتيّين، و بالفعل فقد تمّ ذلك و اعطي لهم ممثّل.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

115
  • يعني وجوب كونه شيعيّاً أيضاً.

  • إنّنا نتصوّر الآن أنَّ التشيّع و التسنّن حزبان مختلفان يقف كلّ منهما مقابل الآخر، و قد وجدا بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه و آله، و لذا نعدّ كلًّا من التشيّع و التسنّن فرقة من الإسلام، فعند ما نحتاج لإثبات اشتراط التشيّع في الوليّ الفقيه إلى إقامة الدليل، كما أقمناه لإثبات الإسلام فيه، مع أنَّ المسألة ليست بهذا النحو، لأنَّ الإسلام ليس شيئاً سوي التشيّع، فالإسلام هو نفس التشيّع.

  • و بعبارة اخرى: التشيّع و الإسلام يُحملان على بعضهما بحمل (الإسْلامُ هُوَ التَّشَيُّعُ وَ التَّشَيُّعُ هُوَ الإسْلامُ مَفْهوماً لَا مِصْداقاً) لا بالحمل الشائع الصناعيّ، كأن يوجد شيعة في الخارج و نقول بالحمل الشائع الصناعيّ: إنَّ التشيّع يحمل على هذا الفرد المسلم، كما يقال في زَيْدٌ قائِمٌ، بل ما نحن فيه هو من هذا القبيل: الإنْسانُ حَيوانٌ ناطِقٌ.

  • لقد وجد التشيّع في زمان رسول الله صلّى الله عليه و آله، و كان مؤسّسه نفس رسول الله، و حقيقته متّحدة مع حقيقة الإسلام، و الكثير من أهل السنّة كالسيوطيّ في تفسير «الدرّ المنثور» و غيره في كتب تفسيرهم ينقلون أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان جالساً عند الكعبة عند ما وصل أمير المؤمنين عليه السلام فالتفت النبيّ إلى أصحابه و قال: إنَّ هَذَا وَ شِيعَتَهُ هُمُ الفَائِزُونَ.

  • لقد جري ذكر اسم التشيّع لأوّل مرّة على لسان نفس النبيّ، و نسبه إلى أمير المؤمنين و أتباعه. بناء على هذا، فالإسلام مقترن مع الولاية، و أصل الإسلام هو نفس التشيّع، و أصحاب الفرق غير الشيعيّة هم اناس قد انفصلوا عن الإسلام و خرجوا عنه.

  • ليس الإسلام سوي التشيّع، و كانت هذه الحقيقة موجودة من زمان‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

116
  • النبيّ، و هي كذلك إلى زمان صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف. و سيتحقّق هذا الأمر عند ما يريد الله له ذلك، و هذا برهان قاطع في أيدينا دائماً.

  • و على الذين خرجوا و انفصلوا و اعتبروا أنفسهم محوراً، و تسمّوا بالإسلام، و اعتبروا أنفسهم سنّة أي تابعي سنّة رسول الله، و عدّوا الشيعة فرقة مستقلّة عن الإسلام، و جعلوهم الأقلّيّة؛ عليهم أن يعدّوا الجواب في محضر العدل الإلهيّ فرداً فرداً، و كلّهم مسئولون.

  • و بناء على هذا، فمن شرائط الوليّ الفقيه هو أن يكون شيعيّاً إماميّاً اثنا عشريّاً، بنصّ النبيّ الذي عيّن أوصياءه الاثنا عشر بعده، و هم لا يُنتخبون انتخاباً، بل ينصّبون نصباً، و هذه هي حقيقة التشيّع، و لا نحتاج لإثبات هذا الشرط إلى دليل غير ما أقمناه لشرط الإسلام.

  • بيان آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس سرّه حول حقيقة التشيّع‌

  • و كم كان قد أوضح استاذنا الجليل آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله تربته الشريفة هذا المطلب بنحو يمكن أن يُعَدّ من كلماته الخالدة، و لذا فقد اختيرت هذه العبارة و وضعت تحت صورته:

  • التشيّع هو حقيقة الاتّباع لسنة رسول الله صلّى الله عليه و آله المتجلّي في الولاية.

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

118
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ الثَّلاثُونَ: من شروط ولاية الفقيه: الهِجْرَة الى دارِ الإسْلامِ‌

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

120
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • و من شروط ولاية الفقيه إضافة إلى شرطي الإسلام و التشيّع هو: لزوم الهجرة إلى دار الإسلام. فبقاء أيّ فقيه في دار الكفر و عدم هجرته إلى دار الإسلام مانعٌ من تولّيه ولاية المسلمين.

  • {إِنَّ الَّذِينَ، آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى‌ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.}۱

  • الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله و الذين آووا و نصروا بعضهم أولياء بعض، كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ وَليٌّ لِلآخَرِ.

    1. الآية ۷٢، من السورة ۸: الأنفال.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

121
  • (كمهاجري مكّة الذين بعد أن آمنوا بالله هاجروا إلى رسول الله في المدينة و جاهدوا بأموالهم في سبيل الله، و أنصار المدينة الذين منحوهم المأوى و المسكن و قاسموهم طعامهم و شرابهم و قبلوهم و ساعدوهم في جميع أحوالهم) فجميع هؤلاء من المهاجرين و الأنصار {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}.

  • أمّا اولئك الذين آمنوا و لم يهاجروا فليس لهم أيّة ولاية بالنسبة لكم‌ {حَتَّى يُهاجِرُوا}، (فشرط الولاية: الإيمان و الهجرة)، أمّا الآن و قد آمنوا و لم يهاجروا فلو طلبوا منكم النصرة في الدين و العون و المساعدة، فعليكم أن تساعدوهم، إلّا إذا كان ذلك العدوّ قد ارتبط معكم بميثاق و معاهدة (معاهدة عدم الحرب) فلا يمكنكم في هذه الحالة من نصرة ذلك المستنصر (المؤمن غير المهاجر) لأنَّكم قد ارتبطتم بميثاق مع ذلك العدوّ.

  • و لا يجوز نقض الميثاق بأيّ وجه من الوجوه، أي كما لا يجوز نقض العهد و الميثاق مع المؤمن و المسلم، فكذلك لا يجوز نقض الميثاق مع العدوّ بأيّ وجه من الوجوه.

  • و الآية صريحة في أنَّ الذين آمنوا و لم يهاجروا {ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ}.

  • تفسير الطبرسيّ لآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا }...

  • يقول الشيخ الطَّبْرِسيّ‌ في «مجمع البيان» في تفسير هذه الآية: أي‌۱

  • ولاية الفقيه في حكومة الإسلام ؛ ج‌٣ ؛ ص۱٢۱

    1. حسينى طهرانى، سيد محمد حسين، ولاية الفقيه في حكومة الإسلام، ٤جلد، دار المحجة البيضاء - بيروت - لبنان، چاپ: ۱، ۱٤۱۸ ه.ق.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

122
  • ... ۱

    1. في تعليقة كتاب« الفردوس الأعلى» الذي هو من تأليفات المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء، ص ۱٣٩ يقول المرحوم آية الله السيّد محمّد عليّ القاضي حول كتاب« الاحتجاج»: لأحمد بن عليّ بن أبي طالب الطَّبْرِسيّ:
      وَ طَبْرِسيّ نِسْبَةٌ إلى طَبْرِس، وَ هِيَ رُسْتاقٌ بَيْنَ أصْفَهانَ وَ قاشانَ وَ قُمّ. و طَبْرِس بِالطَّاءِ المُهْمَلَةِ المَفْتوحَةِ وَ الباءِ المُوَحَّدَةِ السَّاكِنَةِ وَ الرَّاءِ المَكْسورَةِ وَ السِّينِ المُهْمَلَةِ، مُعَرَّبُ تَفْرِشِ الحَاليَّةِ بِإيران كَما عَنِ العَلّامَةِ المَجْلِسيّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيهِ. وَ القَوْلُ بِأنَّ الطَّبْرِسيَّ مَنْسوبٌ إلى طَبَرِسْتان- كَما هُو المَشْهور- اشْتِباهٌ مِنْ بَعْضِ السَّلَف؛ وَ مِنْهُ تَسَرَّبَ الوَهْمُ إلى أكْثَرِ الخَلَفِ كَما حَقَّقْنا ذَلِك تَفْصيلًا في المَقالَةِ الَّتي نَشَرْناها في مَجَلَّةِ« العِرْفان» ص ٣۷۱ إلى ٣۷٥، ج ٣، مج ٣٩، ط صَيْدا. و انْظُرْ أيْضاً إلى« تاريخ بَيْهَق» ص ٢٤٢، ط طهران؛ وَ إلى ذَيْلِ ذَلِك التَّاريخ، ص ٣٤۷- ٣٥٣؛ وَ إلى ما ذَكَرَهُ خَطيبُنا العَلّامَةُ الواعِظُ الجَرَنْدابيّ في تَعْليقاتِهِ عَلَى« شَرْحِ عَقائدِ الصَّدوق» ص ٥٩، ط ٢ تبريز إيران- انتهى.
      و يقول أيضاً المرحوم السيّد محمّد على القاضي في تعليقة كتاب« جنّة المأوى» تأليف الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء، ص ٢٦۷: الطَّبْرِسيّ مَنْسوبٌ إلى طَبْرِس( طبرش) مُعَرَّبُ« تَفْرِش» الحاليَّةُ بِإيران؛ و الشَّيخُ صاحِبُ« الاحْتِجاج» و الطَّبْرِسيّ صاحِبُ« مَجْمَع البيان» و ابنه صاحِبُ« مَكارِم الأخلاق» وَ حَفيدُهُ صاحِبُ« مِشكَاة الأنوار» مَنْسوبونَ إلَيْها، لا إلى« طبرستان» مازَندران كَما هُوَ المَشْهورُ شُهْرَةً لا أصْلَ لَها؛ وَ قَدْ حَقَّقْنا ذَلك في بَعْضِ مَقالاتِنا المنْتَشِرَةِ في مَجَلَّةِ« العرْفان» الصَّادِرَةِ في صَيْدا- لبنان.
      أقول: تارة يكون البحث في لفظ« الطَّبرسِيّ» و صحّة نسبته إلى طبرستان مازندران، و اخرى يكون البحث في محلّ و سكني صاحب كتاب« الاحتجاج» و أنَّه هل كان مازندران أم تفرش؟ و نحن نبحث في كلا الموضعين.
      أمّا في صحّة صيغة النسبة لطَبَرستان في لفظ الطَّبْرِسِيّ فهذا ليس مطابقاً لأيّ من قواعد العربيّة، لأنَّ القاعدة في صناعة صيغة النسبة من الكلمات المركّبة مثل سيبويه و بعلبك هي أن يُحذف الجزء الثاني و يُؤتي في آخر الكلمة بياء النسبة، و يقال سيبِيّ و بَعلِيّ. و أحياناً عند ما تكون الكلمة ثقيلة و خصوصاً في المركّبات الفارسيّة التي لا يلتفت العرب إلى تركيبها يؤتي بالياء في آخر النسبة و يقال أردستانيّ و خُجستانيّ نسبة إلى أردستان و خجستان. و أحياناً يبنون من جزئي الكلمة لفظاً مركّباً من أربعة أحرف على وزن جَعفَر و يجعلونه منسوباً، مثل حضرَمِيّ نسبة إلى حضرموت. لكنَّ هذا القسم سماعيّ و لا يمكن القياس عليه.
      و طبقاً لهذه القاعدة ففي النسبة إلى طبرستان يجب القول: إمَّا: طَبَرِيّ، أو طَبَرِسْتانيّ، أو طَبْرَسِيّ على وزن جَعْفَرِيّ، و قد اختار أئمّة اللغة الوجه الأوّل من هذه الوجوه، فيقولون في التواريخ و التراجم: طَبَرِيّ.
      و على كلّ تقدير، فلا يصحّ أن يقال في النسبة طَبَرْسِيّ؛ و على هذا الأساس و لكي لا يُشتبه في النسبة لِطَبَرِيَّة التي هي قصبة في الأردن و المنسوب إليها طَبَرِيّ مع الطَّبَرِيّ المنسوب إلى طَبَرستان، فقد استعملوا الطَّبَرِيّ خلافاً للقياس فرقاً بينهما.
      يقول في« أعيان الشيعة» ج ٩، ص ٦٥، الطبعة الثانية:« الطَّبْرِسِيّ» نسبة إلى طَبَرِسْتَان بِفَتحِ أوَّلِهِ وَ كَسْرِ ثَانِيهِ‌[ في« لغت‌نامة دهخدا»(« معجم دهخدا») طَبر( طَ بَ) معرَّب تَبَر و هو الفأس- انتهى. فهذا يكون بفتح الثاني لا بكسره. و علّة كثرة الطبر في مازندران هي: كان يصعب المسير على الجيش في المنطقة بسبب تشابك الأشجار و كثرتها، فيضطرّون لقطع الأشجار بواسطة الطبر]. و« آستان» تعني الناحية، أي بلاد الطبر، و« الطبر» هو مَا يقْطَعُ بِهِ الحَطَبَ وَ نَحْوُهُ لِكَثْرَةِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ. و الأكثر أن يقال في النسبة إلى طَبَرِسْتَان: طَبَريّ، و في النسبة إلى طَبَرِيَّة فلسطين: طَبَرانيّ عَلَى غَيرِ قِياسٍ لِلفَرقِ بَينهما كما قالوا: صَنْعانيّ و بَهْرانيّ و بَحْرانيّ في النِّسبةِ إلى صَنعاء و بَهراء و البَحْرين. و ما يُقال: إنَّه لَمْ يُسْمَعْ في النِّسبَة إلى طَبَرِسْتان طَبَريٌّ غَيرُ صَحيحٍ؛ بَلْ هُو الأكثر. و لَو قيل: إنَّه لَم يُسمَعْ في النِّسبَةِ إلَيها طَبَرْسيّ، لكانَ وَجْهاً لما في« الرياض» عَن صاحبِ« تاريخ قمّ» المُعاصر لِابنِ العميد من أنّ طبْرس ناحيةٌ معروفةٌ حَواليَ قمّ مُشتملةٌ على قُرًى و مَزارع كَثيرةٍ و أنّ هذا الطَّبْرَسيّ و سائرِ العُلماء المَعْروفين بالطَّبْرسيّ منسوبون إلَيها- إلخ.
      و أمّا البحث في محلّ إقامة و مواطن الأشخاص الذين عُرفوا بالطَّبَرْسِيّ؛ فنقول:
      ۱- الطَّبرسِيّ: أبو منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطَّبرسِيّ صاحب كتاب« الاحتجاج» من أهل ساري* و هي إحدى مدن مازندران. كما أنَّ تلميذه: محمّد بن عليّ بن شَهْرآشوب السَّرَويّ المازندرانيّ المتوفّي سنة ٥۸۸ منسوب إلى ساري؛ و قد كان في أواسط القرن السادس الهجريّ، و كان معاصراً لأبي الفتوح الرازيّ و الفَضْل بن حَسَن الطَّبْرِسِيّ صاحب كتاب« مجمع البيان» المتوفّي سنة ٥٤۸. و هو يروي عن الشيخ الطوسيّ بواسطتين، و عن الشيخ الصدوق بعدّة وسائط. و ينقل الشهيد الأوّل في« غاية المراد» كثيراً من فتاواه و أقواله. و كتاب« الاحتجاج على أهل اللجاج» كتاب معروف و معتمد عليه و جليل. و ينبغي أن يقال له الطبري
      ٢- الطَّبَرِيّ أو الطَّبرسِيّ: الحسن بن عليّ بن محمّد بن الحسن، عماد الدين، أو عماد الطبريّ، صاحب كتاب« أسرار الإمامة» و« كامل البهائيّ» و هو من مازندران أيضاً، و كان حيّاً إلى سنة ٦٩۸، و ينبغي أن يقال له الطبريّ.
      ٣- الطَّبْرِسِيّ: أبو عليّ الفَضْل بن الحَسَن بن فَضْل صاحب تفسير« مجمع البيان» و طَبْرِس، معرَّب تَفْرِش، و هي مدينة بين قم و كاشان و أصفهان. كان من أهل تفرش، ثمّ توطَّن في مشهد سناباد طوس، و ذهب إلى سبزوار بعد سنة ٥٢۰، و توفّي في ليلة عيد الأضحى في شهر ذي الحجّة الحرام من سنة ٥٤۸، و نقل نعشه إلى مدينة مشهد المقدّسة، و دفن قرب مسجد المقتل( قتلگاه).
      كان هذا الرجل من أعاظم رجال العلم و الأدب، و لم يكن له نظير في علم النحو و العربيّة، و له كتب اخرى غير« مجمع البيان»، و ينبغي أن يقال له و لابنه و لحفيده- اللذين سيأتي ذكرهما- الطَّبْرِسِيّ؛ و اشتهروا خطأً و اشتباهاً بالطَّبَرْسِيّ، و هو الذي يُدعى بالطَّبْرِسِيّ الكبير.
      ٤- الطَّبْرِسِيّ: أبو نَصْر رضيّ الدين الحَسَن بن الفَضْل بن الحَسَن صاحب الكتاب الجليل و الشريف« مكارم الأخلاق». و هو ابن صاحب تفسير« مجمع البيان»؛ و قد صرّحت مصادر الرجال و التراجم أنَّه كان فاضلًا محدّثاً جليلًا. و له كتب اخرى غير« مكارم الأخلاق».
      ٥- الطَّبْرِسِيّ: أبو الفَضْل عليّ بن الحَسَن بن الفَضْل بن الحَسَن صاحب كتاب« مشكاة الأنوار». و قد كتب هذا الكتاب تتمّة و تكميلًا لكتاب والده« مكارم الأخلاق».
      تبيّن ممّا ذكر أنَّ صاحب« مجمع البيان»: أبو الفَضْل عليّ بن الحَسَن، و ولده: أبو نَصْر الحَسَن بن الفَضْل، و حفيده: أبو الفَضْل عليّ بن الحَسَن، كانوا من تفرش، فينبغي أن يكون لقبهم الطَّبْرِسِي.
      وردت تراجم هؤلاء الأجلّاء في« روضات الجنّات» و« أعيان الشيعة» و« الكني و الألقاب» و« ريحانة الأدب». و قد أشبع البحث في« لغت‌نامة دهخدا»(« معجم دهخدا») فيما يتعلّق بكلمة الطبرسيّ و نسبتهم إليها.
      ٦- الطَّبرسِيّ: الحاجّ الميرزا حسين النوريّ بن العلّامة الشيخ محمّد تقيّ النوريّ صاحب كتاب« مستدرك الوسائل» و« النجم الثاقب» و« دار السلام» و« اللؤلؤ و المرجان» و كتب اخرى. و كان من أهل مازندران. علماً أنَّ ابن اخته الشهيد المظلوم: آية الله الحاجّ الشيخ فضل الله النوريّ كان معروفاً أيضاً بالطَّبَرْسِيّ؛ و هو من أهل مدينة نور في مازندران. و ينبغي أن يُدعى هذان الشيخان بالطَّبَريّ؛ و الطَّبرسِيّ غلط.
      و هناك رجال آخرون من أهل العلم و الأدب معروفون بالطَّبَرسِيّ، و قد وردت ترجمتهم في كتب التراجم، و نكتفي بهذا المقدار مراعاة للإيجاز و الاختصار. و أورد في كتاب« علماء معاصرين» القسم الثاني، ص ٢۷۸ و ٢۷٩، عن المرحوم آية الله الميرزا خال الميرزا محمّد الطهرانيّ العسكريّ رضوان الله عليه( خال والدنا) في كتاب« مستدرك البحار» ضمن إجازة الشيخ عبد الله السماهيجيّ: اشتبه عدّة علماء من علمائنا في مؤلّف كتاب« الاحتجاج» الذي هو أحمد بن أبي طالب، و نسبوا ذلك لأبي عليّ صاحب تفسير« مجمع البيان». و من جملة هؤلاء ابن أبي جمهور الأحْسَائيّ صاحب« غوالى اللئالى»؛ و صاحب« رسالة مشايخ الشيعة» و الفاضل أمين الأسترآباديّ صاحب« الفوائد المدنيّة»، و السيّد هاشم بن سليمان البحرانيّ مؤلّف كتاب« العلماء المعاصرين»: و منهم السيّد عبد المجيد الحائريّ معاصر صاحب كتاب« ذخيرة الدارين»- انتهى.
      لقد صرّح صاحب« أعيان الشيعة» في ج ٩، ص ٦۷، الطبعة القديمة، باشتباه هؤلاء العلماء الأعلام؛ و قال في ص ٦٦: في« رياض العلماء» أنَّ هذا الطَّبرسيّ المُتَرجَمُ( يعني أبو منصور: أحمد بن عليّ بن أبي طالب) غَيرُ صاحبِ« مَجمَع البَيان» لكنَّه مُعاصرٌ له و هُما شَيْخا ابنِ شَهْرآشوب و اسْتاذاه. قالَ: و ظَنّي أنَّ بَيْنهما قَرابةً و كذا بَيْنهما و بَيْن الشيخ حَسنِ بنِ عَليِّ بنِ مُحمّدِ بنِ عَليِّ بنِ الحَسنِ الطَّبرسيّ المُعاصِر للخواجةِ نَصير الدين الطُّوسيّ.
      *- يقول في« لغت‌نامة دهخدا» المجلّد ط، ص ۱٣٩ آخر العمود الأوّل: مؤلّف« روضات الجنّات»( ص ۱۸): أبو منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطَّبرسيّ من طبرستان بفتح الطاء و الباء و الراء و سكون السين، كما قيّدها الحازميّ و جري عليها العامّة، أو بفتح الأوّلين مع سكون السين. و كان هذا الرجل من أهل ساري التي هي من جملة بلاد مازندران المشهورة، كما ينتسب إليها تلميذه المشهور: محمّد بن عليّ بن شهرآشوب السرويّ المازندرانيّ رحمه الله ... إلى آخره.
      أمّا في« أعيان الشيعة» ج ٩، ص ٦٥ و ٦٦، الطبعة الثانية فترجمته كما شاهدنا في المتن؛ و بناء على قول الملّا عبد الله الأفنديّ صاحب« رياض العلماء» عن صاحب« تاريخ قم» الذي كان معاصراً لابن العميد، الذي اعتبره من أهل تفرش( إحدى نواحي قم المعروفة).

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

123
  • هَؤُلاء بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ في النُّصْرَةِ وَ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قَرابَةٌ مِنْ أقْرِبائِهِمْ مِنَ الْكُفّار.

  • و خلاصة المطلب: {أنَ‌ أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}، تعني: أولي ببعضهم في النصرة، و الولاية هنا بمعني النصرة، أي يجب على كلّ واحد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

124
  • منهم أن ينصر الآخر.

  • تفسير البعض للولاية في هذه الآية بمعني الإرث‌

  • كلام هارون مع الإمام موسى بن جعفر عليه السلام حول إرث العمّ وَ قيلَ في التَّوارُث؛ (و هذا منقول عن ابن عبّاس و الحسن و مجاهد و قُتادة و السدّيّ)۱، لأنَّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم قد عَقَدَ عَقْدَ اخوّة في صدر الإسلام للمرّة الاولي بين المهاجرين، و المرّة الثانية في المدينة بين المهاجرين و الأنصار. و كان المؤمنون يرثون بعضهم على أساس عقد الاخوّة، حيث كان الإرث على أساس عقد الاخوّة الإسلاميّة، فكلّما مات أحد هذين الأخوين المسلمَينِ ورثه الآخر دون قومه و عشيرته كأولاده و أبويه. فالإرث للُاخوّة في الدين فقط. و ظلّ هذا الحكم مستمرّاً إلى حياة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حيث نُسخ هذا الحكم بالآية الشريفة: {وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‌ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ‌}٢، التي قرّرت الرجوع ثانية إلى أساس القرابة في التوارث.

  • و لذا، فسّر البعض الولاية في هذه الآية بمعني الإرث؛ {ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ}، أي أنَّ هجرة المؤمن من شروط التوارث، فلا يكفي توفّر الإيمان و الإسلام بين الأفراد لكي يتوارثوا، و لا بدّ من شرط الهجرة في حكم التوارث.

  • و الشاهد على هذا المدّعي هو الرواية التي ينقلها استاذنا العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه في تفسيره عن «معاني الأخبار» للشيخ الصدوق، و عن «الاختصاص» للشيخ المفيد، عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في كلام دار بينه و بين هارون الرشيد؛ يقول هارون فيه:

    1. «مجمع البيان» ج ٢، ص ٥٦۱، طبعة صيدا.
    2. قسم من الآية ۷٥، من السورة ۸: الأنفال.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

125
  • وَ لِمَ ادَّعَيْتُمْ أنَّكُمْ وَرِثْتُمْ رَسُولَ اللهِ، وَ العَمُّ يَحْجُبُ ابْنَ العَمِّ؟ وَ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ وَ قَدْ تُوُفِّيَ أبُو طَالِبٍ قَبْلَهُ وَ العَبَّاسُ عَمُّهُ حَيٌّ؟!

  • بناء على هذا، فلا يمكن لعليّ بن أبي طالب أن يرث النبيّ بواسطة إرث النبيّ المنقول إليه من إرث أبيه، فالذي كان حيّاً من أعمام رسول الله هو العبّاس فقط، جدّنا (أي جدّ بني العبّاس) و يجب أن يكون هو الوارث لرسول الله صلّى الله عليه و آله، و مع وجود العبّاس فعليّ بن أبي طالب- الذي هو ابن العمّ- مع وجود العمّ؟! و لما ذا تدّعون هذا الادّعاء؟!

  • و الرواية لها تكملة، إلى أن يصل حيث يقول الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام:

  • فَقُلْتُ: إنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُوَرِّثْ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ؛ وَ لَا أثْبَتَ لَهُ وَلايَةً حَتَّى يُهَاجِرَ.۱

  • و أبونا عليّ بن أبي طالب عليه السلام قد هاجر، بينما أبوكم العبّاس لم يهاجر، فالعبّاس قد عصي و لم يهاجر، فلذا مُنع عنه الإرث، و بما أنَّ جدّنا عليّ بن أبي طالب كان مسلماً و مهاجراً في نفس الوقت فقد ورث النبيّ.

  • و ما ترونه الآن في كتاب الإرث، حيث يقولون: إنَّ ابن العمّ إذا كان للأب و الامّ معاً يحجب العمّ الذي يكون من طرف الأب فقط؛ فهو على هذا الأساس، لأنَّ أمير المؤمنين عليه السلام كان ابن عمّ النبيّ صلّى الله عليه و آله من ناحية الأبوين، بينما العبّاس كان عمّ النبيّ من ناحية الأب فقط؛ فهذا الحكم باقٍ إلى الآن بهذا الملاك، و إن زال عنوان الهجرة. و نحن الشيعة نقدّم ابن العمّ للأب و الامّ على العمّ للأب.

    1. «الميزان في تفسير القرآن» ج ٩، ص ۱٤۷.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

126
  • و أمّا العلّة التي جعلت أمير المؤمنين عليه السلام يرث رسول الله دون العبّاس فهي عدم هجرة العبّاس.

  • فَقَالَ: مَا حُجَّتُكَ فِيهِ؟

  • فَقُلْتُ: قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالى: {وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا.} وَ إنَّ عَمِّيَ العَبَّاسَ لَمْ يُهَاجِرْ!

  • فَقَالَ إنِّي سَائِلُكَ: هَلْ أفْتَيْتَ بِذَلِكَ أحَداً مِنْ أعْدَائِنَا؟ أمْ أخْبَرْتَ أحَداً مِنَ الفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ المَسْألَةِ بِشَي‌ءٍ؟!

  • فَقُلْتُ: اللّهُمَّ لَا! وَ مَا سَألَنِي إلَّا أمِيرُ المُؤْمِنِينَ!- الحديث.۱

  • الشاهد في ذلك: فقد استدلّ الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام هنا بالآية المباركة: {وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ}، على عدم وجود حقّ للعبّاس في وراثة رسول الله، لأنَّه لم يهاجر. و على هذا، فالولاية هنا تشمل معني الإرث أيضاً.

  • يروي ابن شهرآشوب في «المناقب»٢، في باب ميراث رسول الله صلّى الله عليه و آله عن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن و مُعَتِّب و مُصادف اللذان كانا غلامَي الإمام جعفر الصادق عليه السلام ضمن خبر: عند ما دخل هشام بن الوليد المدينة جاء بني العبّاس و اشتكوا الإمام الصادق عليه السلام بتهمة أخذه لنفسه ما تركة ماهِر الخِصِّيّ و عدم إعطائهم منه شيئاً. فألقي الإمام عليه السلام هنا خطبة مطوّلة، و من جملة ما جاء فيها:

  • إنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ، كَانَ أبُونَا

    1. «الميزان في تفسير القرآن» ج ٩، ص ۱٤۷
    2. «المناقب» ج ۱، ص ۱۸٣ و ۱۸٤، الطبعة الحجريّة؛ و من الطبعة الحروفيّة ج ۱، ص ٢٦۱.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

127
  • أبُو طَالِبٍ المُوَاسِيَ لَهُ بِنَفْسِهِ وَ النَّاصِرَ لَهُ؛ وَ أبُوكُمُ العَبَّاسُ وَ أبُو لَهَبٍ يُكَذِّبَانِهِ وَ يُؤَلِّبَانِ عَلَيهِ شَيَاطِينَ الكُفْرِ؛ وَ أبُوكُمْ يَبْغِي لَهُ الغَوَائِلَ وَ يَقُودُ إلَيْهِ القَبَائِلَ فِي بَدْرٍ، وَ كَانَ فِي أوّلِ رَعِيلِهَا وَ صَاحِبَ خَيْلِهَا وَ رَجِلِهَا المُطْعِمَ يَوْمَئذٍ وَ النَّاصِبَ الحَرْبِ لَهُ.

  • ثُمَّ قَالَ: فَكَانَ أبُوكُمْ طَلِيقَنَا وَ عَتِيقَنَا؛ وَ أسْلَمَ كَارِهاً تَحْتَ سُيُوفِنَا. لَمْ يُهَاجِرْ إلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ هِجْرَةً قَطُّ؛ فَقَطَعَ اللهُ وَلَايَتَهُ مِنَّا بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} فِي كَلَامٍ لَهُ.

  • ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَولًى لَنَا مَاتَ فَحُزْنَا تُراثَهُ إذْ كَانَ مَولَانَا وَ لأنَّا وَلَدُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ امُّنَا فَاطِمَةُ أحْرَزْتُ مِيْرَاثَهُ.

  • و أورد العلّامة المجلسيّ في «بحار الأنوار»۱ هذا الحديث في أحوال الإمام جعفر الصادق عليه السلام، و قال في بيان له: ألَّبْتُ الجَيْشَ: أيْ جَمَعْتُهُ؛ وَ التَّأليب: التَّحْريض؛ وَ الرَّعيل: القِطْعَةُ مِنَ الخَيْل. كما ذكر العلّامة الشيخ محمّد حسين المظفّر هذا الحديث أيضاً في كتاب «الإمام الصادق» عليه السلام، ضمن خطبه، و قال في ذيله: إنَّ شأن الإمام الصادق عليه السلام كان أرفع من أن يقف في موقف واحد مع بني العبّاس من أجل المال، و لكن أظنُّ أنَّه أراد كشف بعض أحوال العبّاس التي كانت قد بقيت مجهولة، و ذلك لأنَّ الإمارة و السلطة سوف تصلهم عن قريب، و يجب أن يعلم الناس شأن الذين سيكونون مالكين لرقابهم من الآن فيما بعد. و هذه الكلمات مع اختصارها تتضمّن فوائد جليلة للتأريخ. و لا أظنّ أنَّ هذه المواقف ذكرت عن العبّاس في التأريخ!٢

    1. «بحار الأنوار» ج ٤۷، ص ۱۷٦، الطبعة الحروفيّة
    2. «الإمام الصادق» ج ٢، ص ۸.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

128
  • و يتابع صاحب «مجمع البيان» المطلب فيقول:

  • وَ قيلَ: في التَّناصُرِ وَ التَّعاوُنِ وَ المُوالاةِ في الدِّينِ؛ عَنِ الأصَمّ.

  • أي على المؤمنين أن يكونوا متحابّين و متعاونين و متناصرين بأعمالهم، فيمدّ أحدهم للآخر يد المساعدة، و يكون هذا نصيراً لذاك و معاوناً له.

  • إذَن، فالتعاون و التناصر هو المقصود من الولاية.

  • اعتبر البعض الولاية في هذه الآية بمعني نفوذ الامان‌

  • وَ قيلَ: في نُفوذِ أمانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعضٍ.

  • ما هو معني الأمان؟ هو من أحكام الإسلام، و إذا أمّن أحد المسلمين كافراً (سواء كان رجلًا أم امرأة)، فعلى جميع المسلمين أن يحترموا أمانه، و لا يحقّ لهم التعرّض لذلك الكافر.

  • فالمقصود من الولاية في هذه الآية إذَن، هو نفوذ أمان بعضهم على بعض. بمعني امتلاك اولئك الذين آمنوا و هاجروا حقّ الأمان، و إذا أمَّنوا أحداً فعلى جميع المسلمين و المؤمنين أن يحترموا أمانهم. فَإنَّ واحِداً مِنَ المُسْلمِينَ لَوْ آمَنَ إنْساناً نَفَذَ أمانُهُ عَلَى سائِرِ المُسْلمِين.

  • أمّا إن كان المؤمن ليس من المهاجرين، فأمانه غير نافذ. و عليه، فلا اعتبار لإيوائه إن آوي أحد الكفّار، و يحقّ للمسلمين أن يقبضوا على ذلك الكافر و تجاهل شروط الأمان.

  • بقاء لزوم الهجرة إلى دار الإسلام إلى يوم القيامة

  • ثمّ يقول الشيخ الطبرسيّ بعد ذلك: اختلفوا في أنَّه هل تصحّ الهجرة بعد الفتح أو لا؟ فقال بعض: لا تصحّ، لأنَ‌ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ‌. حيث كانت مكّة دار الشرك قبل الفتح و المدينة بيضة الإسلام، و كان واجباً على جميع المسلمين أن يهاجروا الى المدينة، و بعد فتح مكّة، صارت دار الإسلام أيضاً. و من ثمّ الطائف و جميع مدن الحجاز فشملها دار الإسلام، و رُفع لزوم الهجرة إلي المدينة. و على‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

129
  • هذا، فقد كان حكم وجوب الهجرة إلى ما قبل فتح مكّة. و بعد فتح مكّة، لم يبق معني لأن يهاجر المسلم من مكان إلى آخر في البلاد الإسلاميّة.

  • نعم؛ تجب الهجرة من دار الكفر و دار الشرك إلى دار الإسلام، و قد ارتفع هذا العنوان بفتح مكّة.

  • وَ لأنَّ الهِجْرَةَ، الانْتِقالُ مِنْ دارِ الكُفْرِ إلَى دارِ الإسْلامِ. وَ لَيْسَ يَقَعُ مِثْلُ هَذا في هَذا الزَّمانِ لاتِّساعِ بِلادِ الإسْلام؛ إلّا أنْ يَكونَ نادِراً لا يُعْتَدُّ بِه.

  • بأن يتواجد مسلم في بعض بلاد الكفر، أو يدخل أحد الكفّار في الإسلام هناك، فالهجرة إلى دار الإسلام واجبة عليه، و إلّا فمع هذا الاتّساع في بلاد الإسلام، حيث في كلّ مكان ثمّة مسلمون و راية إسلاميّة، فلم يبق معني للهجرة في هذه الحالة.

  • وَ قيلَ: إنَّ هِجْرَةَ الأعْرابِ إلَى الأمْصارِ باقِيَةٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَة.

  • لأنَّه ما إن أوجب رسول الله الهجرة عليهم حتّى وجب على جميع الأعراب- من البدو الذين يعيشون في الصحاري- أن يأتوا إلى البلاد التي تخفق فيها راية الإسلام، و التي فُتحت بيد المسلمين، و ينُفّذ فيها أحكام الإسلام، ليتعلّموا أحكام الإسلام و شعائره.

  • فلهذا، كانت هجرة الأعراب نحو الأمصار من الأحكام. و عليه، فيمكن القول: إنَّ وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام إنّما هو على أساس هذا الحكم الأوّليّ. غاية الأمر، كانت دار الإسلام في زمان رسول الله صلّى الله عليه و آله مختصّاً بالمدينة المنوّرة، و اتّسع بعد ذلك فشمل المدن الاخرى. أمّا البدو الأعراب، فبما أنَّهم لم يكونوا يعيشون في الأماكن التي ترفرف فيها راية الإسلام، و كان إسلامهم شكليّاً دون أن يطّلعوا على شعائر الدين، فكان واجباً عليهم أن يهاجروا إلي المدن لكسب‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

130
  • التعاليم الدينيّة هناك.

  • و لهذا قال البعض: إنَّ وجوب هجرة الأعراب إلى المدن باقية إلى يوم القيامة، لوجوب تعلّم أحكام الدين على الجميع. و هذا القول عن الحسن.

  • وَ الأقْوَى أنْ يَكونَ حُكْمُ الهِجْرَةِ باقِياً؛ لأنَّ مَنْ أسْلَمَ في دارِ الحَرْبِ ثُمَّ هاجَرَ إلَى دارِ الإسْلامِ كانَ مُهاجِراً.

  • فالأقوى أن يكون حكم الهجرة باقياً إلى يوم القيامة، و على كلّ من أسلم في دار الحرب أن يسرع في المجي‌ء إلى دار الإسلام.

  • في ذلك الزمان الذي كتب الطبرسيّ فيه تفسيره- أي قبل حوالى تسعة قرون‌۱- كان العالَم مقسوماً إلى قسمين: دار الإسلام، و دار الكفر. فإذا أسلم شخص في دار الكفر وجب عليه أن يهاجر إلى دار الإسلام. و على هذا، فحكم الهجرة باقٍ على الدوام.

  • ثمّ يقول: وَ كانَ الحَسَنُ يَمْنَعُ أنْ يَتَزَوَّجَ المُهاجِرُ إلَى أعْرَابِيَّة. وَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أنَّهُ قالَ: لا تَنْكِحوا أهْلَ مَكَّةَ فَإنَّهُمْ أعْرابٌ.٢

  • كلّ ما أوردناه إلى هنا نقلًا عن «مجمع البيان».

  • يقول استاذنا الأعظم آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سره في تفسيره، في ذيل الآية:

  • وَ قَدْ جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُمْ وَلايَةً بِقَوْلِهِ‌: {أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}.

    1. وفاة الشيخ أبو عليّ الفضل بن عليّ بن الحسن بن فضل الطبرسيّ صاحب« مجمع البيان» في سنة ٥٤۸ هجريّة. و بناء على هذا، فحياته كانت في أواخر القرن الخامس و النصف الأوّل من القرن السادس، و لهذا فقد مضت منذ ذلك الزمان إلى الآن( ۱٤۱۰ هجريّة) تسعة قرون.
      -« مجمع البيان» ج ٢، ص ٥٦٢، طبعة صيدا.
    2. «مجمع البيان» ج ٢، ص ٥٦٢، طبعة صيدا.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

131
  • و الولاية أعمّ من ولاية الميراث و ولاية النصرة و ولاية الأمان، و ذلك في مقابل كلام «مجمع البيان» الذي قال فيه: قال البعض: إنَّ المراد من الولاية التعاون، و قال بعض: النصرة، و بعض قال: التوارث، و قال بعض آخر: إنَّ المقصود منها الأمان. فيقول رحمه الله: لا وجه لأن نخصّ الولاية بأحد هذه المعاني، و الولاية أعمّ من ذلك؛ حيث إنَّ عموم مَا لَكُم مِن وَلَايَتِهِم مِن شَيْ‌ءٍ و عموم اولَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ، يشمل جميع هذه الأقسام.

  • فَمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كافِراً، كانَ نافِذاً عِنْدَ الجَميع. فعلى جميع المسلمين إذَن أن يحترموا أمانه.

  • فَالْبَعْضُ مِنَ الجَميعِ وَليُّ البَعْضِ مِنَ الجَميعِ؛ كَالمُهاجِرِ هُوَ وَليُّ كُلِّ مُهاجِرٍ وَ أنْصاريٍّ، وَ الأنْصاريُّ وَليُّ كُلِّ أنْصاريٍّ وَ مُهاجِرٍ. كُلُّ ذَلِكَ بِدَليلِ إطْلاقِ الوِلايَةِ في الآيَة.

  • فَلا شاهِدَ عَلَى صَرْفِ الآيَةِ إلَى ولايَةِ الإرْثِ بِالمُؤَاخاةِ الَّتي كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ [وَ سَلَّمَ‌] جَعَلَها في بَدْءِ الهِجْرَةِ بَيْنَ المُهاجِرينَ وَ الأنْصارِ، وَ كانوا يَتَوارَثونَ بِها زَماناً حَتَّى نُسِخَت.۱

  • حرمة التعرّب بعد الهجرة

  • قال ابن الأثير الجزريّ في «النهاية»: وَ فيهِ «ثَلَاثٌ مِنَ الكَبَائِرِ؛ مِنْهَا: التَّعَرُّبُ بَعْدَ الهِجْرَةِ» ...

  • و في رواية عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أنَّ ثلاثة من الكبائر، أحدها التعَرُّبُ بَعْدَ الهِجْرَةِ. أي ليس للمسلم من عودة إلى محيط الشرك و الكفر (موطنه الأوّل) أو إلى أيّ مكان آخر يصدق عليه التعرّب و البدويّة، و عليه أن يبقي في دار الإسلام إلى الأبد.

  • التعَرُّبُ بعدَ الهِجرَة، يعني تقبّل الآداب و السنن الأعرابيّة بعد

    1. «الميزان في تفسير القرآن» ج ٩، ص ۱٤٤ و ۱٤٥.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

132
  • الهجرة، كما يعني أيضاً الذهاب و الرجوع إلى العيش البدويّ بعد العيش في بلاد الإسلام، و هو غير جائز و محرّم، و يعدّ من كبائر المحرّمات.

  • و يفسّر ابن الأثير «التعرُّبُ بعدَ الهِجرَة» بهذا النحو:

  • هُوَ أنْ يَعودَ إلَى الباديَةِ وَ يُقيمَ مَعَ الأعْرابِ بَعْدَ أنْ كانَ مُهاجِراً. وَ كانَ مَنْ رَجَعَ بَعْدَ الهِجْرَةِ إلَى مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، يَعُدّونَهُ كَالمُرْتَدِّ.

  • يَعُدّونَهُ كَالمُرْتَدِّ، أي يُعَدّ مرتدّاً كلّ من هاجر ثمّ عاد بعد هجرته إلى موطنه الأوّليّ، فهو كمن أسلم ثمّ ارتدّ عن الإسلام.

  • وَ مِنْهُ حَديثُ ابْنِ الأكْوَع. يقول: إنَّ حديث ابن الأكوع من هذا القبيل، لمّا قُتل عثمان خرج إلى الربذة و أقام بها، ثمّ إنَّه دخل على الحجّاج يوماً فقال له: يا بْنَ الأكْوَعِ! ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ وَ تَعَرَّبْتَ!

  • وَ مِنْهُ حَديثُهُ الآخَرُ، تَمَثَّلَ في خُطْبَتِهِ: «مُهاجِرٌ لَيْسَ بِأعْرابيٍّ». جَعَلَ المُهاجِرَ ضِدَّ الأعْرابيِّ. فجعل المهاجر ضدّ الأعرابيّ، فكلّ من لم يكن مهاجراً يصدق عليه عنوان الأعرابيّ.

  • وَ الأعْرابُ ساكِنوا الباديَةِ مِنَ العَرَبِ الَّذينَ لا يُقيمونَ في الأمْصارِ؛ وَ لا يَدْخُلونَها إلَّا لِحاجَةٍ.

  • وَ العَرَبُ اسْمٌ لِهَذا الجِيلِ المَعْروفِ مِنَ النَّاسِ- وَ لا واحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ- وَ سَواءٌ أقامَ بِالباديَةِ أوِ المُدُنِ؛ و النَّسَبُ إلَيْهِما: أعْرابيٌّ وَ عَرَبيّ.۱

  • و يقول ابن الأثير الجزريّ أيضاً: ورد في رواية عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنَّه قال: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ؛ وَ لَكِنْ جِهَادٌ وَ نِيَّةٌ.

  • و في حديث آخر: لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ.

  • إنَّما تنقطع توبة الإنسان بلفظ أنفاسه الأخيرة عند رفع قدمه من هذه‌

    1. «النهاية» لابن الأثير، ج ٣، ص ٢۰٢، مادّة عَرَبَ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

133
  • الدنيا و وضعها في العالم الآخر، فهنالك لا تكون توبته محلًّا للقبول من قبل الله عزّ و جلّ، كما في تلك الآية المباركة:

  • {وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ.}۱

  • و لا توبة لمن شاهد الموت بعينيه و رأي أنَّه مرتحل عن الدنيا إلى عالم الآخرة و صار أمره إلى خاتمته، فالتوبة لمن اختار طريق الحقّ مع إمكان سلوك طريق الباطل. أمّا حين ينتهي المرء إلى خاتمته المحتومة، فلا فائدة من توبته في ذلك الحين.

  • و عليه، فالحديث يقول: إنَّ الهجرة مستمرّة ما دام للإنسان حواسّ و اختيار، و لا ينقطع زمان الهجرة عنه إلّا بالموت.

  • ثمّ يقول ابن الأثير:

  • الهِجْرَةُ في الأصْلِ الاسْمُ مِنَ الهَجْرِ ضِدِّ الوَصْل. وَ قَدْ هَجَرَهُ هَجْراً وَ هِجْراناً.

  • ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الخُروجِ مِنْ أرْضٍ إلَى أرْضٍ، وَ تَرْكِ الاولَى لِلثَّانيَة. يُقالُ مِنْهُ: هاجَرَ مُهاجَرَةً.

  • ثمّ يقول: وَ الهِجْرَةُ هِجْرَتانِ.

  • إحداهما: التي وعد الله عليها الجنّة في قوله‌: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}.٢

  • فكان الرجل يأتي النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و يدع ماله و لا يَرْجِعُ في شَي‌ءٍ مِنْهُ وَ يَنْقَطِعُ بِنَفْسِهِ إلَى مُهاجَرِهِ.

    1. صدر الآية ۱۸، من السورة ٤: النساء
    2. صدر الآية ۱۱۱، من السورة ٩: التوبة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

134
  • وَ كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ يَكْرَهُ أنْ يَموتَ الرَّجُلُ بِالأرْضِ الَّتي هاجَرَ مِنْها.

  • فَمِنْ ثَمَ‌ قالَ: «لَكِنَّ البَائِسَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ» يَرْثي لَهُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ أنْ ماتَ بِمَكَّة.

  • فليس إذَن لموضوع الأرض و التراب أهمّيّة كبيرة إلى الحدّ الذي يعدّ النبيّ صلّى الله عليه و آله سعداً بائساً. و البائس: هو الذي ابتلي بالبؤس و الشدائد، و باختصار مَن تعلّقت به الشقاوة. و كانت تعاسة و شقاوة سعد بن خولة بسبب هجرته إلى المدينة ثمّ رجوعه إلى مكّة.

  • وَ قالَ حينَ قَدِمَ مَكَّةَ: «اللّهُمَّ لَا تَجْعَلْ مَنَايَانَا بِهَا». (و لم يكن بعد الفتح، بل حين مجيئه إلى العمرة أو الحجّ بعد صلح الحديبيّة).

  • فَلَمّا فُتِحَتْ مَكَّةُ صارَتْ دارَ الإسْلامِ كَالمَدينَةِ، وَ انْقَطَعَتِ الهِجْرَة.

  • لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ

  • إذَن، هذا نوع من الهجرة. و أمّا القسم الثاني فهي الهجرة التي ليس لها مرتبة و فضل القسم الأوّل.

  • وَ الهِجْرَةُ الثَّانيَة: مَنْ هاجَرَ مِنَ الأعْرابِ وَ غَزا مَعَ المُسْلِمينَ وَ لَمْ يَفْعَلْ كَما فَعَلَ أصْحابُ الهِجْرَةِ الاولَى فَهُوَ مُهاجِرٌ، وَ لَيْسَ بِداخِلٍ في فَضْلِ مَنْ هاجَرَ تِلْكَ الهِجْرَةَ. وَ هُوَ المُرادُ بقَوْلِهِ: «لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ».

  • فَهَذا وَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ الحَديثَيْن. (أي اتّضح بهذا وجه الجمع بين الحديثين اللذين يقول النبيّ في أحدهما: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، أي بعد فتح مكّة، و يقول هنا: لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، أي أنَّ الهجرة واجبة على الجميع من ولادتهم حتّى آخر لحظات حياتهم في هذه الدنيا). و ذلك بأن نقول: إن المراد من الهجرة في الرواية الاولي الهجرة إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله بترك المرء بيته و موطنه و يهاجر إلي‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

135
  • رسول الله. و أمّا المراد من الهجرة في الحديث الثاني فعمل اولئك الذين يكونون في بيوتهم و لا يهاجرون إلى رسول الله، لكنّهم ممّن هم من زمرة جنود الإسلام، و يقاتلون في سبيل الله مع المجاهدين و ينصرون الإسلام و يَقتلون أو يُقتلون، و هذه الهجرة باقية إلى آخر العمر.

  • ثمّ يقول: وَ إذا اطلِقَ في الحَديثِ ذِكْرُ الهِجْرَتَيْنِ فَإنَّما يُرادُ بِهِما هِجْرَةُ الحَبَشَةِ وَ هِجْرَةُ المَدينَة۱.

  • كانت هذه مجموعة المعاني التي ذكرت للتَعَرُّب و الهجرة، و الروايات التي كانت لازمة لتفسير الآية المباركة في سورة الأنفال.

  • و الآن ما هو شاهدنا في هذه الآية المباركة؟

  • إنَّ محلّ شاهدنا هو كما قاله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله تربته الزكيّة: إنَّ هذه الولاية لا تنحصر في خصوص الإرث، و إنَّما هي أعمّ، أي أعمّ من ولاية التعاون و التناصر و غيرهما. و على هذا فهي تشمل جميع أقسام الولاية.

  • {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}.

  • فجميع أقسام الولاية هنا ثابتة لهؤلاء، و منها ولاية الفقيه التي هي ولاية على جميع الامّة.

  • فالامور الحاصلة من مجموع هذه المباحث هي:

  • الأوّل: أنَّه يجب أن يكون الفقيه مهاجراً، فلا ينال ولاية الفقيه من لم يكن مهاجراً.

  • و الفقهاء الذين هم الآن في دار الكفر، لا يمكنهم أن ينالوا ولاية

    1. «النهاية» لابن الأثير، ج ٥، ص ٢٤٤، مادّة هَجَرَ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

136
  • الفقيه، و لا بدّ لهم من الهجرة إلى بلاد الإسلام.

  • و كذا الحال بالنسبة لذوي المراكز الولايتيّة، مثل: رئيس الوزراء و الوزراء و المدراء العامّين، و الولاة و المحافظين و الحكّام المدنيّين و أعضاء مجلس الشوري (حيث قد بيّنا أنَّ مجلس الشوري مجلس ولايتيّ و ليس مجلس وكالة) فعلى هؤلاء جميعاً أن يكونوا قد هاجروا إلى دار الإسلام، أي أن يكونوا في بلاد الإسلام، و مهاجرين إلى بلاد الإسلام، و يعيشون تحت راية الإسلام، و إلّا فلا ولاية لهم بنصّ الآية:

  • {وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ}.

  • فالذين آمنوا و لم يهاجروا ليس لهم عليكم أيّة ولاية بأيّ نوع من أنواعها. أي لا يمكنهم أن يكونوا رؤساء وزارات و لا مدراء عامّون، و لا حتّى رؤساء دوائر. أجل؛ يجوز لهم العمل كموظّفين مأمورين و ليس رؤساء و آمرين. و لا يحقّ لهم التدخّل في أيّ من تلك المراكز الولايتيّة و شئون الآمرين.

  • و هنا يطرح سؤال، و هو: ما المراد من بلاد الكفر؟ و الجواب: المراد من بلاد الكفر تلك البلاد التي تخفق فيها راية الكفر، و يحكم شعبها قانون الكفر، مثل بلاد اليهود و النصارى و الشيوعيّين و السيخ و المشركين و عبدة البقر و أمثالهم.

  • وجوب الهجرة على جميع المسلمين في العالم إلى دار الإسلام‌

  • و على جميع المسلمين أن يأتوا من تلك البلدان إلى دار الإسلام (أي إلى البلد الإسلاميّ بعد تأسيس الحكومة الإسلاميّة)، لأنَّ الحكومة الإسلاميّة منحصرة بهذا المكان، فعلى جميع المسلمين الذين يعيشون في أنحاء العالم حاليّاً- وفقاً لهذه الآية- أن يأتوا للسكنى في إيران، لأنَّ إيران هي بلد الإسلام، و رايتها راية الإسلام.

  • و لكن، هل لهم الحقّ في العيش في بعض البلدان الإسلاميّة الاخرى،

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

137
  • مثل الباكستان التي حكومتها و قوانينها في الظاهر إسلاميّة؟

  • و الجواب: لا إشكال في ذلك، إن لم يكن للكفر هناك نفوذ، و إلّا فالحياة في تلك البلدان أيضاً محلّ إشكال. و كذلك الأماكن التي يوجد فيها اسم الإسلام دون أن يكون مسمّي الحكومة الإسلاميّة موجوداً، كالعراق الذي هو بلد إسلاميّ بالاسم (بل ليس هو بلداً إسلاميّاً حتّى من ناحية الاسم، إذ هل تسمح حكومة البعث و جهازها الحزبيّ بأن يكون هناك اسم الإسلام؟!) و كالبلدان العربيّة الاخرى كالسعوديّة و المغرب و الأردن التي تحكم حكوماتها باسم الإسلام دون أن يكون مسمّي الإسلام موجوداً فيها، بل و الكفر فيها ذو نفوذ، فالحياة في بلاد كهذه محرّمة، و يجب على جميع المسلمين أن يهاجروا من تلك الأماكن و يأتوا إلى دار الإسلام.

  • حرمة ولاية المسلم الذي لم يقطع علاقته ببلاد الكفر بالكامل‌

  • الثاني: لا يتحقّق عنوان الهجرة بأن يأتي الرجل من البلدان الأجنبيّة إلى البلاد الإسلاميّة بجواز سفر فحسب، بل عليه أن ينقل بيته و حاجياته و كسبه و مسكنه و وضعه المعيشيّ إلى دار الإسلام، و ينقطع عن تلك الحياة.

  • و على هذا، فالمرتبطون ببلاد الكفر بأن يكون لهم هناك عوائل أو أبناء أو لهم ملك و تجارة أو كسب و عمل من طبابة أو هندسة مثلًا، و يتردّدون أحياناً إلى دار الإسلام يُعدّون مهاجرين، و لا حقّ لهم بولاية الفقيه و بالمراكز الوزاريّة و مجلس الشوري الإسلاميّ و لا بأيّ منصب إداريّ كبير. و من العجيب أنَّ عدداً من هؤلاء قد جاءوا إلى بلاد الإسلام في بداية الحكومة الإسلاميّة و احتلّوا مراكزاً ولائيّة، أو أرادوا أن يشغلوا بعض المراكز المهمّة، مثل بني صدر و قطب زادة و الدكتور شايگان!

  • الثالث: يحرم على القاطنين في بلاد الإسلام أن يختاروا التعرّب، أي أن يخرجوا من بلاد الإسلام في دار الكفر ليعيشوا هناك.

  • فالمسلمون الذين يذهبون إلي خارج البلاد و يعيشون هناك في‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

138
  • انجلترا أو أمريكا أو الهند (لا الباكستان، لأنَّ دولتها إسلاميّة) أو في الصين أو اليابان أو روسيا فحرام عمل كلّ هؤلاء، و قد ارتكبوا- وفقاً لكلام النبيّ- معصية كبيرة لا تُغتفر؛ و إن لم يُعاملهم الكفّار معاملة سيّئة و تقبّلوهم بمنتهى المحبّة و الصداقة، و لكن ما داموا يعيشون أجواءً مفتوحة و بإمكانهم التحرّك بحرّيّة، فعليهم العودة إلى دار الإسلام.

  • و المراد من السكنى في بلاد الكفر هو مجرّد الإقامة، سواء صار الشخص من مواطني ذلك البلد أو مجرّد مُقيم. فالإقامة في بلاد الكفر غير جائزة إلّا لضرورة محدّدة بنظر الحاكم، كأن يُرسل الحاكم أشخاصاً للعمل الدبلوماسيّ، أو يري ضرورة في إرسال مجموعة لغرض الدراسات العليا، أو يسمح بالسفر للمرضي لعلاجهم هناك؛ و إذا لم يمض الحاكم ذلك و لم يسمح به فلا حقّ لهم بالسفر. و أقصى ما سوف يترتّب على ذلك أن المريض سوف يموت هنا كسائر الأشخاص الذين يموتون في البلاد الإسلاميّة، إذ للإنسان موت واحد لا أكثر، فلما ذا يذهب للموت هناك؟! و كثيراً ما حدث للذاهبين إلي هناك أن واجهوا الموت الذي يفرّون منه.

  • يقول رسول الله صلّى الله عليه و آله: إنَّ سعد بن خولة بائس، لأنَّه هاجر لكنّه عاد ثانية إلى مكّة. فمع أنَّ بيت الله مطاف إبراهيم و إسماعيل لكنّه بتلك الحال لم يكن بيد النبيّ، فهو دار الشرك و دار الكفر، و قد سأل النبيُّ صلّى الله عليه و آله اللهَ أن لا يجعل موته هناك حتّى يخرج منه. أمّا بعد أن ارتفعت راية الإسلام هناك فقد صارت تلك البلاد دار الإسلام. و على هذا، فيحرم على جميع المسلمين الذهاب و السكنى في بلاد الكفر من غير ضرورة.

  • و في الواقع، لو عمل المسلمون بهذه المقرّرات من بداية تشكيل الحكومة الإسلاميّة في إيران و اجتمع جميع مسلمي الدنيا في إيران لتحقّقت‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

139
  • قوّة عظيمة حيث تجتمع جميع رءوس الأموال و الطاقات الفكريّة، لكنّنا نراهم قد شدّوا رحال الهزيمة و الفرار!

  • يقال لمن تخصّص بأحد الفنون أو الدراسات أخصّائيّ، فإن كان أصحاب التخصّص من غير الملتزمين و تنقصهم الغيرة الدينيّة، و تعشعش الخيانة في ذاتهم و كيانهم، فما قيمتهم يا تري؟! فالنتيجة الحاصلة منهم ليس أكثر من ذهاب الثروات الماليّة و الإنسانيّة لتقع تحت راية الكفر كما هو حاصل، و تري ظاهر اولئك الاطمئنان مع أنَّهم يموتون هناك، و لا شكّ من حشرهم مع اليهود و النصارى في جهنّم.

  • فيا أيّها المؤمنون! لا تقولوا: إنَّنا نُرسل أبناءنا إلى هناك و هم يراسلوننا و يقولون إنَّهم يصلّون و يصومون و يحيون المناسبات الإسلاميّة و أمثال هذا الكلام. فلا تنخدعوا بهذا الكلام، فكم مَن غرّته هذه العبارات، فكانت النتيجة أن جنوا ثمرات الشؤم من وبال تربية الأجانب التي لا همّ لها سوي القضاء على الدين و الشرف و الإنسانيّة.

  • لقد عيّن لنا الإسلام منهاجاً و قال: يجب أن يكون الوليّ الفقيه مهاجراً إلى دار الإسلام. و على هذا، فالمجتهد الأعلم الذي يعيش في أمريكا مثلًا، أو الأشخاص الذين دخلوا الحكومة الإسلاميّة، و كانوا في الخارج، و قضوا السنين الطويلة من عمرهم هناك، و ما أن سمعوا باسم الحكومة في إيران حتّى هرعوا لاستلام المناصب الحكوميّة (من وزارة أو نيابة، أو حتّى رئاسة وزراء و رئاسة جمهوريّة) و رشّحوا أنفسهم لتلك المناصب، مع ذلك الوضع الغير متناسب، مع الذقون الحليقة و ربطات العنق و الأحزمة التي ربطوها في أعناقهم خمسين سنة. فلا يمكن لهؤلاء أن يُنتخبوا للولاية. و لقد منَّ الله على الناس بعدم استلامهم هذه المراكز. أو أنَّ الذين استلموها فقدوها بسرعة، و إلّا لو كانوا قد أخذوها لكانت عاقبة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

140
  • الأمر سيّئة جدّاً. و هذا خلاف صريح للآية القرآنيّة التي تقول: {وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ }و ذلك في جميع شئون الولاية، أعمّ من ولاية الفقيه أو الامور الولايتيّة التي تحت يده، مثل مجلس الشوري و أهل الحلّ و العقد (إذا اعتبرناهم أخصّ من مجلس الشوري كشوري المحافظة على الدستور مثلًا) و كذلك مجلس الوزراء و سائر المراكز.

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

142
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ الْحَادِيَ و الثَّلاثوُن: من شروط ولاية الفقيه: الذُّكُورَة

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

144
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • و من شروط ولاية الفقيه: الذكورة.

  • فيجب أن يكون الوليّ الفقيه رجلًا ليصبح حاكماً و صاحب ولاية.

  • و نستفيد في هذا المجال من آيتين قرآنيّتين و روايتين، بالإضافة لما استفدناه من الإجماع و السيرة و الروايات المتواترة و المتضافرة و المستفيضة التي أوردناها بشكل مفصّل في «رسالة بديعة» في ذيل تفسير آية: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ}‌۱، فلأجل عدم الإطناب، نكتفي هنا بهاتين الآيتين و الروايتين لاستفادة هذا الشرط في الحاكم الفقيه في الإسلام.

  • {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ}.

    1. الآية ٣٤، من السورة ٤: النساء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

145
  • يقول الطريحيّ في «مجمع البحرين»: إنَّ معني و مفاد الآية المباركة هو: أي للرجال عليهنّ قيام الولاء و السياسة. و علّل ذلك بأمرين:

  • أحدهما: موهبيّ من الله تعالى، و هو أنَّ الله فضّل الرجال عليهنّ بامور كثيرة، من كمال العقل و حُسن التدبير و تزايد القوّة في الأعمال و الطاعات. و لذلك خصّوا بالنبوّة و الإمامة و الولاية و إقامة الشعائر و الجهاد و قبول شهادتهم في كلّ الامور و مزيد النصيب في الإرث، و غير ذلك.

  • و ثانيهما: كسبيّ، و هو أنَّهم يُنفقون عليهنّ و يعطونهنّ المهور، مع أنَّ فائدة النكاح مشتركة بينهما. و «الباء» في قوله:{ بِما فَضَّلَ اللَّهُ‌ }و في قوله: {بِما أَنْفَقُوا،} للسببيّة، و «ما» مصدريّة. أي بِسَبَبِ تَفْضيلِ اللهِ وَ بِسَبَبِ إنْفاقِهِم. فبناء على هذا، فالحكم في هذه الآية معلّل بعلّة. لم جعل الله تعالى الرجال قوّامين على النساء؟ و الجواب: لهاتين العلّتين: الموهبيّة و الكسبيّة الموجودتين في الرجال، و المفقودتين في النساء.

  • و أورد ابن الأثير في «النهاية» أنَّه ورد في الدعاء: لَكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيَّامُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ‌؛ و في رواية: أنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ‌؛ و في اخرى: أنْتَ قَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ‌. و هي من أبنية المبالغة، و هي من صفات الله تعالى. و معناها: القائم بامور الخلق و مُدبِّر العالَم في جميع أحواله.

  • و أصلها من الواو: قَيْوام و قَيْوِم و قَيْوُوم على وزن: فَيْعال و فَيْعِل و فَيْعول؛ و معناه: أنَّ قيام و قوام امور السماء و الأرض هو بالله عزّ و جلّ.

  • ثمّ يتابع ابن الأثير المطلب إلى أن يصل حيث يقول: و مِنْهُ الحَدِيثُ: مَا أفْلَحَ قَوْمٌ قَيِّمُهُمُ امْرَأةٌ۱. فقد أورد الرواية بهذا اللفظ، كما أنَّه ستأتي‌

    1. «النهاية» ج ٤، ص ۱٣٥، مادّة قَيَمَ، كلمة قَيِّم

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

146
  • رواية فيما بعد عن النبيّ صلّى الله عليه و آله أنَّه قال: لَن يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا امْرَأةً.

  • و قال في تفسير «مجمع البيان»: «يُقالُ: رَجُلٌ قَيِّمٌ وَ قَيَّامٌ وَ قَوّامٌ؛ و هذا البناء للمبالغة و التكثير. وَ أصْلُ القُنوتِ دَوامُ الطَّاعَةِ؛ وَ مِنْهُ القُنوتُ في الوَتْرِ لِطولِ القِيامِ فيه». يقول الله تعالى‌: {فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ.} (أي أنَّ النساء الصالحات هنّ اللواتي يطعن أزواجهنّ على الدوام في حضورهم و غيبتهم، و يحفظن ناموسهم‌۱ و أموالهم وفقاً لأوامر الشرع، فهؤلاء هنّ النساء اللواتي ذكرهنّ الله بهذه الصفة).

  • شأن نزول آية: الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ، طبقاً لنقل المفسّرين‌

  • ثمّ يقول صاحب «مجمع البيان»: قال مقاتل: نزلت الآية في سعد بن ربيع بن عمرو، و كان من النقباء، و في امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، و هما من الأنصار، و ذلك أنَّها نَشَزَتْ عَلَيْهِ فَلَطَمَها.

  • و النشوز بمعني الترفّع و التكبّر. نَشَزَتِ الأرْضُ: أي ارتفعت. و نَشَزَتِ المَرْأة: أي تكبّرت على زوجها و لم تمكّنه من حقّه، و طلبت التعالى عن محلّها و مقامها، و لم تمكّن زوجها من حقّه.

  • عند ما نشزت حبيبة على زوجها سعد و لطمها، انطلق أبوها معها إلى النبيّ فقال: أفْرَشْتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَهَا.

  • فقال النبيّ: لِتَقْتَصَّ مِنْ زَوْجِهَا. فهي تملك حقّ القصاص، لأنَّها قد تعرّضت للطمة فيجب أن تذهب و تلطمه. فَانْصَرَفَتْ مَعَ أبِيهَا لِتَقْتَصَّ مِنْهُ.

  • فَقَالَ النَّبِيُ‌: ارْجِعُوا! فَهَذَا جَبْرَائِيلُ أتَانِي، وَ أنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَة:

  • {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَ‌}

    1. الناموس: صاحب السرّ المطّلع على باطن الأمر.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

147
  • {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً.}۱

  • فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أرَدْنَا أمْراً وَ أرَادَ اللهُ أمْراً؛ وَ الَّذِي أرَادَ اللهُ خَيْرٌ وَ رَفَعَ القِصَاصَ‌٢:

  • إن للرجال قيمومة على النساء بسبب الفضيلة التي جعلها الله لهم عليهنّ، و بسبب الإنفاق الذي يقومون به من أموالهم على النساء. و عليه، فالنساء الصالحات هنّ من يطعن أزواجهنّ باستمرار، و يحفظن ناموسهم و فراشهم و أموالهم و شرفهم و كرامتهم في غيابهم. أمّا اولئك النساء اللاتي تخشون عصيانهن، و لا يؤدّين حقوقهنّ، و لا يمكّن الزوج من حقوقه الواجبة، فعليكم في البدء أن تعظوهنّ و تنصحوهنّ، فإن لم ينفع ذلك فاعتزلوهنّ في المضاجع و اهجروهنّ، فإن لم ينتج ذلك أيضاً فاضربوهنّ.

  • أي أنَّ المرأة التي تمتنع عن إعطاء زوجها حقّه، و عن مضاجعته، و التي يُرى فيها عصيان و استبداد، فعلى الرجل أن ينصحها أوّلًا، و من ثمّ يمتنع عن مضاجعتها، و بعد ذلك في المرحلة الثالثة أن يضربها. إذَن، للزوج الحقّ بعد النصيحة و الموعظة و الهجر في المضاجع أن يضربها.

  • و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: لقد أتي جبرائيل بهذه الآية الآن، و لقد أردنا أمراً (و هو أن تذهب تلك المرأة و تقتصّ من زوجها بلطمه) لكنَّ الله تعالى أراد أمراً آخر، و ما أراده الله خير. و لذا رفع القصاص، و لم يكن لهذه المرأة حقّ في الاقتصاص من زوجها.

  • عمومات حكم القصاص و تخصيصها في مورد حبيبة زوجة سعد

  • و لنَرَ الآن ما هي واقعيّة ذلك الكلام الأوّل للنبيّ- أنَّ لها حقّ القصاص- و كيف حكم النبيّ بأن تقتصّ هذه المرأة من زوجها، فتأتي الآية

    1. الآية ٣٤، من السورة ٤: النساء.
    2. «مجمع البيان» ج ٣، ص ٤٣، طبعة صيدا.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

148
  • على خلاف ذلك؟

  • كلٌّ من حُكم النبيّ و حُكم الله صحيح في محلّه؛ فعند ما حكم النبيّ صلّى الله عليه و آله بوجوب القصاص، إنّما حكم بذلك للإطلاقات الواردة في القصاص، مثل:

  • {وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}‌۱. و كذلك الآيات الاخرى حول القصاص، مثل: {وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ‌}٢؛ و أمثال ذلك.

  • فمن حقّ المرأة أن تقتصّ من زوجها فيما لو أدّى إلى جرحها؛ و ديتها بمقدار دية الرجل، و هو إلى ثلث الدية، حيث لا يكون ثمّة تفاوت بين الرجل و المرأة. و لكن عند ما يتجاوز الأمر ثلث الدية، تكون دية المرأة نصف دية الرجل. و هنا حيث قام هذا الرجل بلطم زوجته، فلو كان ثمّة دية فهي دون الثلث، إضافة لاختيارها القصاص، و لها ذلك.

  • و لكن، إلى ذلك الوقت لم يكن قد ورد حكم النشوز بعد، الذي يعني: يحقّ للرجل أن يضرب زوجته إذا عصمته و لم تمكّنه من نفسها، فذلك ذنب.

  • فعلى هذا، كان حكم النبيّ بالقصاص عملًا بإطلاق آية: {وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ }(و حيث لم يكن لخصوص النشوز موضوعيّة لتقييد الحكم) و بعد ذلك يأتي جبرائيل و يخصّص قائلًا: يكون حكم القصاص في الموارد التي لا يكون فيها نشوز من طرف المرأة، و أمّا حيث يكون هناك‌

    1. الآية ۱۷٩، من السورة ٢: البقرة.
    2. قسم من الآية ٤٥، من السورة ٥: المائدة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

149
  • نشوز، فالحكم: استحقاق المرأة للضرب.

  • و حيث إنَّ اللطمة التي وجّهها هذا الرجل لزوجته كانت في حالة نشوزها، فيكون الموضوع قد تغيّر، أي أنَّ الموضوع قد تخصّص بقيد خاصّ و خصوصيّة معيّنة.

  • و لذا، فقد تحقّق هنا موضوعان: الأوّل: جناية الرجل على المرأة من دون أن تكون هناك أرضيّة نشوز، فيكون القصاص عندئذٍ باقياً، بمقتضى العموميات، و الحكم هو القصاص. و الثاني: الجناية التي حصلت على المرأة في خصوص الضرب في حالة نشوزها، حيث إنَّه بواسطة هذا القيد يتحقّق موضع آخر و يتبدّل حكمه أيضاً.

  • و على هذا، فالذي أراده النبيّ هو حكم بالحقّ على أساس ذلك الحكم الكلّيّ، و لم يكن الحكم الثانويّ قد نزل بعد؛ و عند ما جاء الحكم الثانويّ، فقد اقتضت إرادة الله تعالى أن يكون الأمر بهذا النحو. و هو خير طبعاً.

  • و الآن، هل نسخ الحكمُ الثانويّ الحكمَ الأوّل، أو أنَّه خصّصه؟

  • في الحقيقة، كلّ تخصيص هو نسخ في الأفراد، كما أنَّ كلّ نسخ هو تخصيص في الأزمان. إنَّ حكم القصاص قد جُعل على عنوان كلّيّ، و هذا القيد الذي يمتلك حكماً خاصّاً لم يكن قد بُيّن إلى ذلك الزمان، و عند ما حان وقت بيانه جاء جبرائيل و بيّنه. و عند ما اتّضح الحكم صار المطلب على قسمين: القسم الأوّل: أن يأتي الحكم على موضوع هو عبارة عن الضرب الحاصل من دون نشوز. و القسم الآخر: هو عبارة عن الضرب الحاصل مع النشوز. و كلّ واحد من هذين الموضوعين له حكم مختلف.

  • يقول صاحب «مجمع البيان» في تتمّة كلامه: الرِّجالُ قَيِّمونَ عَلَى النِّساءِ، مُسَلَّطونَ عَلَيْهِنَّ في التَّدْبيرِ وَ التَّأديبِ وَ الرِّياضَةِ وَ التَّعْليمِ‌ {بِما

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

150
  • فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ}.

  • إنَّ تعبير كهذا- كما يقول العلّامة في تفسيره- هو من أدب القرآن، حيث قد بيّن السبب، لذا يقول صاحب «مجمع البيان»:

  • هَذا بَيانُ سَبَبِ تَوْليَةِ الرِّجالِ عَلَيْهِنَّ. أي إنَّما وَلَّاهُمُ اللهُ أمْرَهُنَّ لِما لَهُمْ مِنْ زيادَةِ الفَضْلِ عَلَيْهِنَّ بِالعِلْمِ وَ العَقْلِ وَ حُسْنِ الرَّأيِ وَ العَزْمِ.۱

  • و بما أنَّ أساس العائلة يجب أن يكون قائماً على التدبير العقليّ، و لا شكّ في أنَّ القوّة العاقلة عند الرجال هي أقوي منها عند النساء، فتوجب تلك الفضيلة الطبيعيّة أن تكون سياسة و تدبير امور البيت بيد الرجل لا المرأة.

  • فيجب أن يكون الأمر في البيت بيد الرجل لا بيد المرأة. فإذا تولّت المرأة أمر البيت فإنَّها تسير به نحو الفساد.

  • يقول المحقّق الكاشانيّ في «تفسير الصافي»: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} يَقومونَ عَلَيْهِنَّ قِيامَ الوُلاةِ عَلَى الرَّعيَّةِ {بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ} بِسَبَبِ تَفْضيلِهِ [أي تَفْضيلِ اللهِ‌] الرِّجالَ عَلَى النِّساءِ بِكَمالِ العَقْلِ وَ حُسْنِ التَّدْبيرِ وَ مَزيدِ القُوَّةِ في الأعْمالِ وَ الطَّاعَاتِ.

  • إلى أن يقول: في «العِلَلِ» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: سُئِلَ ما فَضْلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ؟ فَقَالَ: كَفَضْلِ المَاءِ عَلَى الأرْضِ؛ فَبِالمَاءِ تُحْيَى الأرْضُ وَ بِالرِّجَالِ تُحْيَى النِّسَاءُ. وَ لَوْ لَا الرِّجَالُ مَا خُلِقَتِ النِّسَاءُ! ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: أ لَا تَرَى إلَى النِّسَاءِ كَيْفَ يَحِضْنَ، وَ لَا يُمْكِنُهُنَّ العِبَادَةُ مِنَ القَذَارَةِ؛ وَ الرِّجَالُ لَا يُصِيبُهُمْ شَي‌ءٌ مِنَ الطَّمْثِ؟٢

    1. «مجمع البيان» ج ٣، ص ٤٣، طبعة صيدا.
    2. «تفسير الصافي» ج ۱، ص ٣٥٣، المطبعة الإسلاميّة، سنة ۱٣۸٤.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

151
  • يقول الزمخشريّ في «الكشّاف»: {قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ}: يَقومونَ عَلَيْهِنَّ آمِرينَ ناهينَ، كَما يَقومُ الوُلاةُ عَلَى الرَّعَايَا؛ وَ سُمُّوا قُوَّماً لِذَلِكَ. وَ الضَّميرُ في {بَعْضَهُمْ‌} لِلرِّجالِ وَ النِّساءِ جَمِيعَاً. يَعْني: إنَّما كانوا مُسَيْطِرينَ عَلَيْهِنَّ بِسَبَبِ تَفْضيلِ اللهِ بَعْضَهُمْ (وَ هُمُ الرِّجالُ) عَلَى بَعْضٍ (وَ هُمُ النِّساءُ). وَ فيهِ دَليلٌ عَلَى أنَّ الوَلايَةَ إنَّما تُسْتَحَقُّ بِالفَضْلِ لا بِالتَّغَلُّبِ وَ الاسْتِطالَةِ وَ القَهْرِ.

  • و يصل الزمخشريّ بالمطلب إلى حيث يقول:{قانِتاتٌ‌} يعني مُطيعاتٌ قائِماتٌ بِما عَلَيْهِنَّ لِلأزْواج. فالرجل يتحمّل المشقّات في الخارج، و عند ما يأتي إلى البيت فعلى المرأة أن تقوم بتهيئة وسائل الراحة و العيش و السكن له.

  • {حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ‌} الغَيْبُ خِلافُ الشَّهادَةِ؛ أي حافِظاتٌ لِمَواجِبِ الغَيْبِ. إذا كانَ الأزْواجُ غَيْرَ شاهِدينَ لَهُنَّ؛ حَفِظْنَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ حِفْظُهُ في حالِ الغَيْبَةِ مِنَ الفُروجِ وَ البُيوتِ وَ الأمْوال.

  • رواية البيهقيّ عن أسماء بنت يزيد و رسالة نساء المدينة للنبيّ‌

  • أَنَّ حُسْنَ تَبَعُّلِ إحْدَاكُنَّ لِزَوْجِهَا وَ طَلَبَهَا مَرضَاتَهُ وَ اتِّبَاعَهَا مُوَافَقَتَهُ و وردت روايات كثيرة في هذا المجال، فقد سئل النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم عن السبب في أنَّ الله جعل الرجال في هذه الآية قوّامين على النساء، و لما ذا ندب الله الرجال للجمعة و الجماعة و الجهاد و الحجّ و المرابطة و الأعمال الثقيلة، و لم يندب لها النساء؟ و هل النساء يشاركن الرجال في الأجر و الثواب أو لا؟ فالروايات كثيرة جدّاً، لكنّنا نأتي هنا برواية هي أتمّ الروايات دلالة. ذكر السيوطيّ في ذيل هذه الآية المباركة، و استاذنا العلّامة قدّس الله سرّه في تفسيره الشريف، عن البيهقيّ، عن أسماء الأنصاريّة بنت يزيد- كانت من الأنصار- أنَّها جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم عند ما كان جالساً بين أصحابه.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

152
  • فَقَالَتْ: بِأبِي أنْتَ وَ امِّي! إنِّي وَافِدَةُ النِّسَاءِ إلَيْكَ؛ وَ اعْلَمْ نَفْسِي لَكَ الفِداءُ أنَّهُ مَا مِنِ امْرَأةٍ كَائِنَةٍ فِي شَرْقٍ وَ لَا غَرْبٍ سَمِعَتْ بِمَخْرَجِي هَذَا إلَّا وَ هِيَ عَلَى مِثْلِ رَأيِي.

  • إنَّ اللهَ بَعَثَكَ بِالحَقِّ إلَى الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ؛ فَآمَنَّا بِكَ وَ بِإلَهِكَ الَّذِي أرْسَلَكَ! وَ إنَّا مَعْشَرَ النِّسَاءِ مَحْصُورَاتٌ مَقْصُورَاتٌ؛ قَوَاعِدُ بُيُوتِكُمْ وَ مَقْضَى شَهَوَاتِكُمْ وَ حَامِلَاتُ أوْلَادِكُمْ. وَ إنَّكُمْ مَعَاشِرَ الرِّجَالِ فُضِّلْتُمْ عَلَيْنَا بِالجُمُعَةِ وَ الجَمَاعَاتِ وَ عِيَادَةِ المَرْضَى وَ شُهُودِ الجَنَائِزِ وَ الحَجِّ بَعْدَ الحَجِّ؛ وَ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَ إنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إذَا خَرَجَ حَاجّاً أوْ مُعْتَمِراً أوْ مُرَابِطاً حَفَظْنَا لَكُمْ أمْوَالَكُمْ وَ غَزَلْنَا لَكُمْ أثْوَابَكُمْ وَ رَبَّيْنَا لَكُمْ أوْلَادَكُمْ! فَمَا نُشَارِكُكُمْ فِي الأجْرِ يَا رَسُولَ اللهِ؟!

  • لقد أنهت المسألة باعجوبة، و أدّت حقّ المطلب بهذا السؤال، إذ جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه و طلبته للمحاكمة و المقاضاة بكلماتها هذه مطالبة إيّاه بيان المسألة و حقيقتها.

  • فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّم إلَى أصْحَابِهِ بِوَجْهِهِ كُلِّهِ، ثُمَّ قَال: هَلْ سَمِعْتُمْ مَقَالَةَ امْرَأةٍ قَطُّ أحْسَنَ مِنْ مَسْألَتِهَا فِي أمْرِ دِينِهَا مِنْ هَذِهِ؟!

  • فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله! مَا ظَنَنَّا أنَّ امْرَأةً تَهْتَدِي إلَى مِثْلِ هَذَا!

  • فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ إلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: انصَرِفِي أيَّتُهَا المَرْأةُ، وَ أعْلِمِي مَنْ خَلَّفَكِ مِنَ النِّسَاءِ: أنَّ حُسْنَ تَبَعُّلِ إحْدَاكُنَّ لِزَوْجِهَا وَ طَلَبَهَا مَرضَاتَهُ وَ اتِّبَاعَهَا مُوَافَقَتَهُ يَعْدِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ. فَأدْبَرَتِ المَرْأةُ وَ هِيَ تُهَلِّلُ وَ تُكَبِّرُ اسْتِبْشَاراً.۱

    1. «الدرّ المنثور» ج ٢، ص ۱٥٣؛ و« الميزان» ج ٤، ص ٣۷٢.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

153
  • (أي أنَّ ذلك الرجل الذي يرابط على الحدود و لا ينام طيلة الليل إلى الصباح و يحافظ على الحدود، و امرأته التي تنام في البيت و تحافظ على أبنائه، يُحسب لهما نفس الثواب. فالزوج يجاهد في ميدان الحرب، يتحمّل الجوع و يبذل عرقه و يجهد نفسه، بينما تقوم زوجته بإدارة شئون المنزل فقط و تنال نفس ذلك الثواب. و يقوم الزوج بأداء الحجّ و العمرة، و يشارك في تشييع الجنائز، و عيادة المرضي، فتنال زوجته ثواب كلّ هذه الأعمال دون أيّ نقص أو زيادة. فهل ثمّة شي‌ء أفضل من هذا؟).

  • عند ما سمعت تلك المرأة هذا الكلام من النبيّ خرجت و هي تهتف مسرورة: لَا إلَهَ إلَّا الله، لَا إلَهَ إلَّا الله، اللهُ أكْبَرُ، اللهُ أكْبَرُ.

  • فالله يحفظ للنساء عظمة و جلالة مقامهنّ بسبب هذه الطاعة، و بسبب قيامهنّ بهذه الوظيفة (من جلوسهنّ في البيت، و تحمّلهنّ للحمل و الولادة، و إرضاع الأطفال، و تربيتهم، و إرشادهم ليكونوا مجاهدين في سبيل الله، و حفظ استقرار البيت إلى أن يعود الزوج من السفر، دون أن يختلّ نظام بيته و يضيع) و سيعطيهنّ الله بمقدار ثواب و أجر أزواجهنّ. فيا لكلمات رسول الله صلّى الله عليه و آله! و هو عين الحقيقة و الواقعيّة.

  • لو فقدت مكيّفة الهواء جزءاً صغيراً واحداً لتعطّلت عن الحركة. و ذلك الرجل الذي يُشارك في القتال في الصفّ الأوّل هو بحاجة إلى تلك المرأة العجوز التي تغسل الخضار خلف الجبهة مثلًا لكي توصل له الغذاء و الطعام، لأنَّه لولاها لضعفت بنيته عن الجهاد بما ينبغي. على المجاهد أن يضرب بالسيف، و على الحارس أن يؤدّي وظيفته، و على المرابط و المجاهد أن يقوم بدوره، كما أنَّ على الطبّاخ أن يقوم بوظيفة الطبخ. و خلاصة القول: لو قام كلٌّ بوظيفته من أجل رضا الله، فسوف يتقدّم الإسلام، و سوف يصل ذلك المجاهد و المرابط إلي هدفه؛ و الأجر و الثواب- حينها- سيتقسّم على الجميع.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

154
  • ليس الله بظالم، و عند ما جعل وظيفة الإنسان على أساس المصلحة بنحو لا يكون فيه ذهاب إلى الحرب أو تدخّل في الامور السياسيّة؛ فهل من الممكن أن يقوم الإنسان بكلّ ذلك طاعة للّه و خضوعاً له و تقرّباً إليه، فلا يعطيه الأجر؟! و لِمَ لا يعطيه و هو ليس بظالم؟!

  • يقول رسول الله صلّى الله عليه و آله: كلّ هذا الثواب لَكُنَّ، لأنَّ هذه المرأة سألت: مَا نُشَارِكُكُمْ فِي الأجْرِ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فنحن نريد أن نكون شركاءكم في الأجر، فما السبب و العلّة في عدم مشاركتنا لكم في الأجر؟ فقال النبيّ: إن كنتنّ نساء صالحات، يجعلكنّ الله تعالى شريكات في الأجر.

  • لقد عدَّ النبيّ الأكرم ثلاثة امور:

  • الأوّل: أنَّ حُسْنَ تَبَعُّلِ إحْدَاكُنَّ لِزَوْجِهَا؛ فبعض النساء لا يقمن في بيوتهنّ بحسن التبعّل، ممّا يسبّب لأزواجهنّ حالة إزعاج و عصبيّة دائمة، و إحساس بالمرارة في سائر أوقاتهم، و هذا تصرّف غير سليم؛ فيجب أن تمضي الحياة بالسعادة و الهناء على الدوام؛ فَلِمَ لا تكون المرأة حَسنة التبعّل لتوفّر على زوجها تحمّل الآلام؟!

  • الثاني: وَ طَلَبَهَا مَرْضَاتَهُ‌؛ فتنتظر ما الذي يريده زوجها منها. فلو قال لها: إنّي لست راضياً على ذهابك إلي المجلس الفلاني، فلا تصرّ و تطالب بالذهاب. عند ما يجعل الله تعالى الرجل قيّماً على المرأة فهي لا تستطيع الخروج من المنزل من دون إذنه. فلما ذا تصرّ مطالبة بتحصيل إذن الخروج، و تزيد في إصرارها و ضغطها بنحو يؤدّي إلى أن يجلس الرجل في بيته مع ألف همٍّ و غصّة و انزعاج حتّى تذهب هي للمشاركة في العرس الفلاني؛ فهذا السلوك خلاف المنهج الإلهيّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

155
  • الثالث: وَ اتِّبَاعَهَا مُوَافَقَتَهُ‌؛ بأن تتّبع المرأة مطالب و آمال زوجها المشروعة.

  • لاحظوا كيفيّة بيان النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم هذه الأوامر الرفيعة لنا.

  • و بالطبع، فقد كانت تلك المرأة على درجة عالية من الفهم، إذ لمّا قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: يَعْدِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ‌ (يعني إذا جلست النساء في البيت، و عملت بتكاليفها، و نمّت علومها القرآنيّة، و قامت بأعمالها العباديّة، و استمرّت في وظائف الامومة من الحمل و الرضاع و الولادة، و التي هي جهاد في سبيل الله، إذ كلّ ولادة جهاد في سبيل الله، فسوف يكتب لهنّ جميع ذلك الأجر الذي كُتب للرجال على تلك الأعمال) فرحت تلك المرأة كثيراً و رضيت بحكم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.

  • هذه آية من آيات القرآن التي يُستفاد منها شرط الذكوريّة في ولاية الفقيه.

  • و الآية الاخرى، هي قوله تعالى‌: {وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.۱

  • أي كلّ ما للرجال على النساء من حقوق، هي ذات الحقوق التي للنساء على الرجال، و يجب أن تؤدّي تلك الحقوق للنساء بالمعروف.

  • هنا يوجد أمر يستحقّ الذكر و هو [حول قوله تعالى‌]: {وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}. فلو عملت المرأة بجميع وظائفها و أدّت الحقوق التي جعلها الله مسئولة عنها، كما لو قام الرجل بأداء كلّ الحقوق التي جعلها الله عليه‌

    1. ذيل الآية ٢٢۸، من السورة ٢: البقرة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

156
  • من دون زيادة أو نقصان، لأوجب سنخ الخلقة و نظام البدن و الفكر و التعقّل (في العلم و الجسم) و باختصار، لأوجبت جميع الغرائز في الرجل أن يكون له في التكوين درجة من الأفضليّة و التفوّق على النساء.

  • و لذا فهذه الآية من حيث الدلالة مثل آية: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ}.

  • و أمّا الروايات:

  • رواية أبى بكرة: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً

  • الرواية الاولي: الرواية التي نقلها الشيعة و السنّة معاً في جميع الكتب، و هي قول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:

  • لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأةً. فالذين يجعلون المرأة في مركز الحاكم و الرئيس، و الوليّ و السلطان، و رئيس الوزراء، و الوزير، و المدير العامّ، و أمثال ذلك، لن يفلحوا أبداً. و «لَنْ‌» تفيد النفي المؤبَّد، أي لن يفلحوا أبداً.

  • نقل هذه الرواية البخاريّ في موضعين من صحيحه (الأوّل في كتاب المغازي، و الثاني في كتاب الفتن) عن عثمان بن هيثم، عن عوف، عن حسن، عن أبي بَكرَة: قَالَ: لَقَدْ نَفَعَنِيَ اللهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلهِ‌] وَ سَلَّمَ أيَّامَ جَمَلٍ بَعْدَ مَا كِدْتُ أنْ الْحَقَ بِأصْحَابِ الجَمَلِ فَأُقَاتِل مَعَهُمْ.

  • و تلك الكلمة هي:

  • قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ، أنَّ أهْلَ فَارِسٍ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرى، قَالَ‌: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأةً.۱ و لذا نري حكومتهم و سلطنتهم قد اندثرت.

    1. «صحيح البخاريّ» ج ٣، ص ٦۰، كتاب المغازي؛ و أيضاً في ج ٤، ص ۱٥٤، كتاب الفتن، المطبعة العثمانيّة المصريّة، سنة ۱٣٥۱ ه-.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

157
  • و هذا الحديث في جميع نسخ «صحيح البخاريّ» القديمة و الجديدة، و في جميع شروحه، مثل: «إرشاد الساري» و «عمدة القاري».

  • و نقله النسائيّ في «السنن» بسند آخر عن كتاب القضاء، عن أبي بكرة بهذه العبارة:

  • قَالَ: عَصَمَنِيَ اللهُ بِشَي‌ءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ لَمَّا هَلَكَ كِسْرى؛ قَالَ: مَنِ اسْتَخْلَفُوا؟ قَالُوا: بِنْتَهُ؛ قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأةً.۱

  • و نقل هذه الرواية الترمذيّ بعين رواية النسائيّ، لكن يقول أبو بكرة في ذيلها: عند ما تحرّكت عائشة قاصدة البصرة تذكّرت كلام رسول الله صلّى الله عليه و آله، فَعَصَمَنِيَ اللهُ بِهِ‌. فقد حفظني الله بتلك الكلمة التي سمعتها من النبيّ، و لم الوّث نفسي بالحرب مقابل أمير المؤمنين عليه السلام.

  • قالَ أبو عيسَى: هَذا حَديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ‌٢.

  • و قد ورد هذا الكلام الحقّ الذي روي عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله بعبارات مختلفة.

  • ففي «تحف العقول»: وَ قَدْ وَرَدَ أيْضاً: وَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ أسْنَدُوا أمْرَهُمْ إلَى امْرَأةٍ.٣ و لكن أورده في «البحار» عن «تحف العقول» بلفظ أسْدَوْا، بدلًا من أسْنَدُوا، فقال: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ أسْدَوْا

    1. «سنن النسائيّ» ج ۸، ص ٢٢۷، كتاب آداب القضاة، المطبعة المصريّة- الأزهر.
    2. «سنن الترمذيّ» ج ٤، ص ٥٢۷ و ٥٢۸، باب ۷٥ من كتاب الفتن، مطبعة مصطفي البابيّ الحلبيّ.
    3. «تحف العقول» ص ٣٥، المطبعة الحيدريّة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

158
  • أمْرَهُمْ إلَى امْرَأةٍ۱.

  • يقول ابن الأثير في «النهاية» في مادّة (قيم): مَا أفْلَحَ قَوْمٌ قَيِّمُهُمُ امْرَأةٌ.٢

  • و أورد الحاجّ الملّا أحمد النراقيّ الرواية بهذه العبارة: لَا يَصْلَحُ قَوْمٌ وَلَّتْهُمُ امْرَأةٌ.٣

  • و أوردها الشيخ محمّد حسن صاحب «الجواهر» بهذه العبارة: لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ وَلِيَتْهُمُ امْرَأةٌ.٤

  • و أوردها ابن الأثير في تعليقة «النهاية» عن الهرويّ و «لسان العرب» بهذه العبارة: مَا أفْلَحَ قَوْمٌ قَيِّمَتُهُمُ امْرَأةٌ٥

  • و على أيّ تقدير، فهذا الحديث مشهور و مستفيض، إذ نقل عبارته علماء الشيعة و السنّة في كتبهم (من التفسير و التأريخ و السيرة) كما أورده كبار الفقهاء في كتبهم الفقهيّة و استشهدوا به في كثير من المواضع. و حيثما جري الحديث عن الرئاسة و الولاية، فأوّل رواية تُروى هي هذه الرواية. و قد استدلّ بها الجميع على عدم جواز تولّي المرأة لزمام أمر الجماعة.

  • بناء على هذا، فالشهرة العظيمة المحقّقة البالغة حدّ الإجماع، توجب قبول هذه الرواية و العمل بمقتضاها.

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد

    1. «بحار الأنوار» ج ۷۷، ص ۱٣۸، الطبعة الحروفيّة الحيدريّة.
    2. «النهاية» ج ٤، ص ۱٣٥.
    3. «مستند الشيعة» ج ٢، ص ٥۱٩، كتاب القضاء.
    4. «جواهر الكلام» ص ٢، كتاب القضاء، طبعة الحاجّ موسى الملفّق.
    5. «النهاية» ج ٤، ص ۱٣٥.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

159
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ الثَّاني و الثَّلاثوُن: من شئون ولاية الفقيه: عَدَم جَواز عُضْويَّة النِّساء في مَجْلِسِ الشُّوري‌

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

161
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • الرواية الثانية التي تدلّ على اشتراط الذكورة في ولاية الفقيه‌

  • هي عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة ألقاها بعد حرب الجمل.

  • يقول عليه السلام في هذه الخطبة: مَعَاشِرَ النَّاسِ! إنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الإيمَانِ، نَوَاقِصُ الحُظُوظِ، نَوَاقِصُ العُقُولِ؛ فَأمَّا نُقْصَانُ إيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلَاةِ وَ الصِّيَامِ فِي أيَّامِ حَيْضِهِنَّ؛ وَ أمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الأنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ؛ وَ أمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُ امْرَأتَيْنِ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الوَاحِدِ. فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ، وَ كُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ؛ وَ لَا تُطِيعُوهُنَّ فِي المَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَطْمَعْنَ فِي المُنْكَرِ.۱

  • هنا يعلن الإمام عليه السلام و ينبّه على أنَّ النساء الخيّرات‌

    1. «نهج البلاغة» الخطبة ۷۸؛ و من طبعة مصر بتعليقة الشيخ محمّد عبده، ج ۱، ص ۱٢٩.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

162
  • و المرضيّات و إن كنَّ خلاف الاخريات، لكنّ نفوسهنّ قريبة جدّاً من الامور الاعتباريّة و التخيليّة و الأوهام، و قابليّة الانجذاب و التغيّر فيهنّ شديدة، و لو أمَرْنَ و نَهَيْنَ لكان خراب الدنيا بأيديهنّ. فبناء على هذا، عليكم بالتعامل مع خيارهنّ ممّن لكم صلة و شغل معهنّ و أيديكم على عصا باستمرار، دون أن تفسحوا لهنّ المجال.

  • وَ لَا تُطِيعُوهُنَّ فِي المَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَطْمَعْنَ فِي المُنْكَرِ. فإذا أطعتموهنّ في المعروف يطمعن في المنكر بالتدريج. أي أنَّ إرادتهنّ تتعلّق بالأعمال المنكرة فيأمرنّكم بالأعمال المنكرة فتطيعوهنّ.

  • يقول الشيخ محمّد عبده في شرح هذه الجملة من قول الإمام:

  • لا يُريدُ أنْ يُتْرَكَ المَعْروفُ لِمُجَرَّدِ أمْرِهِنَّ بِهِ؛ فَإنَّ في تَرْكِ المَعْروفِ مُخالَفَةَ السُّنَّةِ الصَّالِحَةِ، خُصوصاً إذا كانَ المَعْروفُ مِنَ الواجِباتِ.۱

  • كأن تأمر المرأة زوجها بالصلاة أو بالحجّ الواجب أو أمثال ذلك، فهل يستطيع المرء الامتناع عن الإتيان بهذا العمل المعروف لأنَّ المرأة قد أمرته به، مع أنَّ في ترك المعروف تركاً للواجب و للسنّة الصالحة؟

  • بَلْ يُريدُ أنْ لا يَكونَ المَعْروفُ صادِراً عَنْ مُجَرَّدِ طاعَتِهِنَّ. فَإذا فَعَلْتَ مَعْروفاً فَافْعَلْهُ لأنَّهُ مَعْروفٌ؛ وَ لَا تَفْعَلْهُ امْتِثالًا لأمْرِ المَرْأةِ.

  • أي أنَّ أمر المرأة هنا ساقط بكلّ ما للكلمة من معني، و إنَّما يُؤتي بالمعروف لكونه معروفاً، إذ على الإنسان أن يأتي بكلّ معروف و يترك كلّ منكر.

  • ثمّ يقول بعد ذلك: وَ لَقَدْ قالَ الإمامُ قَوْلًا صَدَّقَتْهُ التَّجارِبُ في الأحْقابِ المُتَطاوِلَة. (التجارِب بكسر الراء، و التجارُب غلط، لأنَّ صيغة

    1. «شرح نهج البلاغة» للشيخ محمّد عبده، ج ۱، ذيل الخطبة ۷۸، ص ۱٢٩.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

163
  • الجمع التي تكون أكثر من أربعة أحرف لا تكون على وزن تفاعُل، و ورد في هذا الباب أربع صيغ جميعها على وزن تفاعل مثل تجارب)، فقول الإمام هذا قد صدّقته التجارب و شهدت على صحّته (فكلّ من أطاع امرأة فقد آل أمره إلى الفشل، و كلّ مجتمع يطيع امرأة سوف ينجرّ إلى الفساد و الهلاك).

  • وَ لا اسْتِثْناءَ مِمَّا قالَ إلَّا بَعْضاً مِنْهُنَّ وُهِبْنَ فِطْرَةً تَفوقُ في سُمُوِّها مَا اسْتَوَتْ بِهِ الفِطَنُ أوْ تَقارَبَتْ؛ أوْ أخَذَ سُلْطانٌ مِنَ التَّرْبيَةِ طِباعَهُنَّ عَلَى خِلافِ مَا غُرِزَ فيها وَ حَوَّلَها إلَى غَيْرِ ما وَجَّهَتْها الجِبِلَّةُ إلَيْهِ.

  • وَ اكْفُفْ عليهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إيَّاهُنَّ؛ فَإنَّ شِدَّةَ ...

  • و يقول الإمام عليه السلام في موضع آخر: وَ اكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إيَّاهُنَّ؛ فَإنَّ شِدَّةَ الحِجَابِ أبْقَى عَلَيْهِنَّ. وَ لَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأشَدَّ مِنْ ادْخَالِكَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ؛ وَ إنِ اسْتَطَعْتَ أنْ لَا يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ.۱

  • هذه الجمل من وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام للإمام الحسن المجتبي عليه السلام المذكورة في «نهج البلاغة».

  • فكيف يجوز- مع وجود هذه الأخبار و الآيات- السماح للنساء بالدخول في أوساط الرجال، و بالمبادرة في القبض و الأخذ و البطش و الأمر و النهي و رفع الصوت و المحاججة و المخاصمة و سائر الامور التي يحتاجها القضاء و الحكومة. و قد تطرّقنا للموضوع هنا بصورة إجماليّة، و ذكرناه‌

    1. «شرح نهج البلاغة» ج ٢، باب الكتب، الرسالة ٣۱: وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام للإمام الحسن عليه السلام، في مكان يدعي حاضِرين، كتبها أثناء رجوعه من صفّين. و هذه الفقرة في آخر الوصيّة، و أُوردت في« نهج البلاغة» طبعة مصر بتعليقة الشيخ محمّد عبده، ج ٢، ص ٥٦.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

164
  • مفصّلًا في «رسالة بديعة».

  • هذه هي روح القوانين التي جعلها الله تبارك و تعالى للمرأة و في حقّها. و هي في التحقّق و الثبوت بمثابة ضروريّات الإسلام.

  • الدخول في مجلس الشوري من شئون الولاية، لا مصداقاً للوكالة

  • و يظهر ممّا بيّناه عدم جواز عضوية المرأة في مجلس الشوري، حتّى لو كنّ فقيهات و واصلات إلى درجة الاجتهاد و قادرات على استنباط الأحكام حتّى يقال إنَّ النساء كنّ يبحثن في زمن الصحابة في العقائد و الأحكام، فلما ذا نمنعهنّ نحن عن عضوية مجلس الشوري؟!

  • فترجع علّة منعهنّ، لامتلاك مجلس الشوري في زماننا هذا، الرئاسة العامّة على جميع الامور الولايتيّة؛ فالهداية و الإرشاد في التحرّكات السياسيّة بيد مجلس الشوري، و تعيين نهج الحكومة في الامور الاجتماعيّة و الحضاريّة من صلاحيّات مجلس الشوري أيضاً، بالإضافة لشئون الحياة الاقتصاديّة و الأخلاقيّة و التعليميّة و الإداريّة و الثقافيّة، بل و تقرير الصلح و الحرب في كلّ زمان خاضع لإدارة مجلس الشوري أيضاً. مجلس الشوري هو الذي يسيّر امور الدولة، إذ بيده تنصيب الوزراء و عزلهم.

  • و بناء على هذا، فتسمية مجلس الشوري بمجلس الرئاسة العامّة أولي، لأنَّ دوره في المجتمع دور القيّم المتكفّل بالامور. فليس من شأنه الوكالة من قبل عموم الناس لكي يقال: لا فرق حينئذٍ سواء كان أعضاؤه رجالًا أم نساء، فكما نستطيع توكيل رجل يمكننا توكيل امرأة أيضاً؛ فالقضيّة ليست بهذا الشكل، و المسألة ليست مسألة وكالة.

  • و ما توهّمه البعض من تحقّق هذه الرئاسة بواسطة انتخاب و توكيل أبناء الشعب لأعضاء مجلس الشوري توهّم باطل؛ و ذلك:

  • أوّلًا: لأنَّ هذا النوع من النيابة و الاختيار و إن كان يتحقّق من قبل الشعب، لكنّه في الحقيقة ليس وكالة، بل هو إعطاء للولاية بشروطها

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

165
  • الخاصّة، بنحو لا يستطيع أبناء الشعب نقضها بعد تحقّق التوكيل.

  • فهذا إذاً، إعطاء لولاية ثابتة، لا لوكالة (الوكالة هي من العقود الجائزة و القابلة للنقض في كلّ حين).

  • و ثانياً: أنَّ هذه الولاية و القيمومة ليست ثابتة لأبناء الشعب حتّى يتمكّنوا من نقلها لأعضاء الشوري بواسطة الوكالة.

  • و محصّل الكلام: بناء على الفلسفة الإسلاميّة، لا يمتلك كلّ فرد من أبناء الشعب ولاية على نفسه لكي يتمكّن أن يعطيها إلى عضو مجلس الشوري بواسطة التوكيل. فالوكالة تنقل الحقّ الثابت من الموكّل إلى الوكيل، لا أنَّها توجِد له حقاً أساسياً.

  • و بناء على الاصول الإسلاميّة المسلّمة، فليس للمؤمنين حقّ الاختيار لأنفسهم، و جميعهم تحت ولاية الإمام الوليّ، فكيف يستطيعون إذاً، و هم لا يملكون حق الاختيار لأنفسهم، أن ينتخبوا وكيلا عنهم؟ لكي يختار لهم، و يتصرف في امورهم و شئونهم! و يقوم بالأخذ و القتل و البطش و البسط! فالولاية مختصّة بالله و بالأشخاص الذين يعيّنهم الله فقط.

  • و على أساس هذا الكلام، لو كان جميع أعضاء مجلس الشوري فقهاء جامعين للشرائط و صائنين للنفس، و حافظين للدين و الإيمان، فعندئذٍ يكونون واجدين للولاية الشرعيّة في الامور، لا للوكالة، و إن لم يكونوا فقهاء فدخولهم في هذا المنصب ليس له مُجوِّز شرعيّ أصلًا، لأنَّه يكون دخولًا في أمر الوليّ من دون استحقاق، و تصرّف في شئون الولاية بدون إذْن و إجازة.

  • نعم؛ بناء على مفاهيم الفلسفة الغربيّة التي تؤمن بوجود ولاية لكلّ فرد من أفراد الشعب يستطيع أن يعطيها لشخص آخر، فمسألة الوكالة تامّة. و ما يقولونه من أنَّ عضو الشوري وكيل إنَّما هو مأخوذ عن تلك‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

166
  • المذاهب الغربيّة، لا أنَّه مصطلح واقعيّ و أصيل و مستنبط من الإسلام.

  • و كلّ ما قلناه هو مع التسامح و غضّ النظر عمّا هو مسلّم و محقّق في محلّه من انحصار الحكم و الولاية بالإمام صلوات الله عليه، و في الفقيه الأعلم الأورع الخبير البصير، ذلك الفقيه الذي تتجلّى أنوار الملكوت في قلبه، و الذي قد اعطي الفرقان و النور الإلهيّ بواسطة تفويض الإمام هذه الجهة له و نيابته عن الإمام فيها.

  • فإذا كان الأمر كذلك، فالمجلس ليس ولايتيّاً، بل هو مجلس للشورى، و ليس علي عهدته وضع القوانين لكي يكون له جانب ولائيّ.

  • و بناء على افتراض كون مجلس الشوري تحت إشراف الوليّ الفقيه، و ينعقد للتشاور في الامور فقط دون أن يكون له جانب تقنينيّ، فهل تكون عضوية النساء في مجلس كهذا جائزة أو لا؟ و ما ينبغي قوله هو عدم جواز عضويتهنّ و إن كان المجلس بهذه الصورة. إذ بناء على هذا الفرض فالمانع من دخول المرأة في مجلس الشوري هو الأخبار التي تدلّ على: أنَّ المَرْأةَ لَا تُسْتَشَارُ. (فالمرأة لا تستشار في الامور السياسيّة و الولايتيّة خصوصاً في أوساط الرجال).

  • و هذا فيما لو لم نقل بإطلاق الآية المباركة: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ}‌۱، أو قوله تعالى: {وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}٢، و أمثال هذه الموارد، لكانت هاتان الآيتان مانعتين أيضاً من هذا المعني (أي عضوية النساء في مجلس الشوري).

  • و على كلّ حال، فتأسيس مجلس كهذا يكون مركزاً للإدارة و القرار،

    1. صدر الآية ٣٤، من السورة ٤: النساء.
    2. قسم من الآية ٢٢۸، من السورة ٢: البقرة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

167
  • و محوراً لصدور الأحكام و القوانين، إذا لم يبني عَلَى ما ذَكَرْناهُ مِنْ مُفادِ الفَلْسَفَةِ الإسْلاميَّةِ وَ الرُّوحِ الإسْلامِيّة، فسوف يكون خلاف ولاية الإمام و الفقيه، في حين أنّ البيعة هي شأن الولاية، و هي أعلى مراتب الرئاسة و أقصى درجات القيمومة، و علي هذا، يكون تسمية أعضاء المجلس بالولي و الكفيل، أولي من تسميتهم بالوكيل، و لهذا يكون دخولهن مخالفة لقول الله عزّ و جلّ:{ الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ‌}.

  • دلالة: {فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ}‌

  • و إن قال قائل: إنَّ مدلول الآية ينحصر في البيوت و المنازل و قيمومة الرجال على النساء في مجال الزواج. {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} في البُيوتِ؛ أي في دائرَةِ الزَّواجِ في مُحيطِ المُعاشَرَةِ النِّكاحيَّةِ، وَ إقامَةِ الشُّئونِ البَيْتيَّة.

  • نقول جواباً على ذلك: للآية إطلاق، و {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} لا ينحصر في: قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ في البُيوتِ، أو قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ المُتَزَوِّجات؛ بل إنَّ جنس الرجل- على نحو الإطلاق و العموم- قوّام على جنس المرأة. و ليس في هذه الآية تقييد راجع إلى البيوت أو قيمومة الرجال على خصوص نسائهم، و إلّا لقال: الرِّجالُ قَوَّامونَ عَلَى نِسائِهِمْ.

  • و لا ينافي الإطلاق ذيل الآية: {فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ.} (و معني النساء الصالحات في الآية المستمرّات في طاعة أزواجهنّ، الحافظات لعرضهنّ و ناموس و أموال و شئون أزواجهنّ في غيابهم، طبقاً لصيانة و حفظ الله)، فذيل الآية خاصّ بأمر العائلة.

  • و على هذا، فيبقي إطلاق الآية في محلّه، و ذيلها من الفروع المتشعّبة عن ذلك الأمر الكلّيّ، و ذلك الإطلاق، و اختصاصه بمورد الزواج لا يكون مقيّداً لإطلاق صدر الآية، و لا مخصّصاً لعمومه.

  • و لو سَلَّمْنا قولكم من: اختصاص هذه الآية بدائرة الزواج، فنقول: كيف يجعلها قيّمة على جميع بيوت و منازل الامّة (وَ هيَ الدَّوْلَةُ

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

168
  • الإسْلَاميَّة) بعد أن سحب قيمومتها و مديريّتها و اختيارها في بيتها (عشّها الصغير) على الرغم من كونها قيمومة جزئيّة و ليست بالمؤثّرة؟! أ فليست قيمومة الحكومة- و التي تساوي الإدارة العامّة- أعظم من قيمومة البيوت؟!

  • هل من المعقول أن يقول الله: ليس بإمكان المرأة أن تكون قيّمة على بيتها، لكنّها في نفس الوقت تستطيع أن تكون قيّمة لجميع رجال و نساء الامّة؟!

  • هل يمكن لمسلم أن يتفوّه أو يتصوّر أنَّ الله تبارك و تعالى قد جعل المرأة قيّمة على ملايين النفوس (سواء الذكور أم الإناث) لكنّه لم يجعلها قيّمة علي زوجها؟! بل لم يجعلها في درجة زوجها أيضاً، لا لَهُ وَ لا عَلَيْه، و قال: يجب أن تكون المرأة أدني من الرجل، و يكون الرجل صاحب قيمومة عليها.

  • ثمّ نلاحظ أنَّه قد جعل كمال المرأة في هذا، فقال: {فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ}.

  • و قال تعالى في آية اخرى: {وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى}‌۱.

  • فهل من الممكن أن نجمع بين هذين المطلبين و نقول: إنَّ الله تبارك و تعالى يقول: على النساء أن يقرن في بيوتهنّ، و من جهة اخرى لا إشكال في حضور النساء في مجالس الرجال، و رفع أصواتهنّ، و أدائهنّ للخطب، و المحاضرات، و قيامهنّ بالمنازعات و المخاصمات و المجادلات و المحاججات؟!

  • فهذه الامور ضروريّة لمن يتصدّى للُامور العامّة، خصوصاً إذا كان‌

    1. صدر الآية ٣٣، من السورة ٣٣: الأحزاب.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

169
  • الأمر ممّا يحتاج إلى بحث و حوار، و كذا هو شأن مجلس الشوري على ما نري.

  • و لو قال شخص: إنَّ آية: {وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ‌} مختصّة بنساء النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم.

  • لقلنا جواباً على ذلك: ما هو وجه الاختصاص لنساء النبيّ عن سائر النساء، بعد أن كان ملاك الفساد مشتركاً؟

  • هل يستطيع شخص أن يتفوّه بقول: اختصاص أمر عدم التبرّج و التزيّن و الحضور في مجالس الرجال بنساء النبيّ، لكنّه غير وارد في حقّ سائر النساء؟! و لا إشكال في: التَّبَرُّج على غرار {تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى}‌؟!

  • و كذلك الفقرات الموجودة قبل هذه الآية، مثل‌: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ...}؛ فنقول: إنَّ هذا الأمر مختصّ بنساء النبيّ، فلو تكلّمنّ بصوت ناعم و لطيف مع الرجل الأجنبيّ، ففيه إشكال؛ بينما لا إشكال في ذلك لسائر النساء و البنات! فمن المشكل لزوجة النبيّ أن تتكلّم بكلام ناعم و هادئ لئلّا يطمع الذي في قلبه مرض بالنظر إليها بنيّة السوء، لكن لا إشكال في ذلك بالنسبة للنساء الاخريات!

  • أي نقول: إنَّ الله تعالى قد أراد حفظ نساء النبيّ فقط، أمّا لو وقعت سائر نساء الامّة في الهوي و الهوس فلا إشكال في ذلك؟!

  • هل يستطيع أحد القول بأن: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}‌۱ مختصّ بنساء النبيّ؟!

  • و إضافة إلى ذلك، فإنَّ نساء النبيّ لسن أضعف من سائر النساء في العقل و الدراية لكي يكون حكم الاستقرار في البيت و القرار فيه‌

    1. قسم من الآية ٣٢، من السورة ٣٣: الأحزاب.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

170
  • و عدم الخروج مختصّاً بهنّ، و ليست سائر النساء أقوي منهنّ لكي يكون الحكم بعدم القرار و التصدّي و الخروج مختصّاً بهنّ.

  • ما عدا ذلك كلّه، فنحن نري أنَّ القرار في البيوت و الجلوس في المنازل و القيام بشئونها لا يختصّ بنساء النبيّ، فنري شمول التكاليف لكافّة النساء- نساء النبيّ و غيرهنّ- في موارد عديدة مثل الجهاد و الجمعة و الجماعات و الحضور عند القبر مع الجنازة و غير ذلك. و ليس من تخصيص لنساء النبيّ في ذلك دون غيرهنّ.

  • اعتراض عامّة المسلمين على عائشة في خروجها بادّعاء الصلح‌

  • و لم نسمع في زمان النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و لا الخلفاء من صدور و لو أمر واحد يحضّ فيه النساء للخروج أو التصدّي للحكومة و الرئاسة.

  • أمّا ذلك المورد الوحيد الذي خرجت فيه عائشة على أمير المؤمنين عليه السلام، فقد تعرّضت فيه للذمّ و اللوم من قبل الكثيرين، و كذا الحال في الأزمنة التي تلت ذلك الزمان، و لم يتعرّضوا لها بسبب حربها مع عليّ عليه السلام فحسب، بل لكونها امرأة و ليس من وظيفة المرأة الخروج من البيت، و ليس ثمّة من داعٍ لخروجها.

  • و أرسل إليها أمير المؤمنين عليه السلام في تلك الأثناء كتاباً يقول فيه: إنَّ النبيّ لم يأمرك بالخروج من بيتك، فلِمَ تركت قول الله و رسوله جانباً و جئت لتجعلى نفسك في معرض الرجال؟ فلم تجبه عائشة بشي‌ء.

  • و عند ما انتهت معركة الجمل جاء أمير المؤمنين عليه السلام خلف هودج عائشة و ضرب بقضيبه على خيمتها قائلًا: يا حميراء! رسولُ الله أمَرَكِ بهذا؟ أ لَم يأمرك أن تقرّي في بيتكِ؟ فعلى أيّ أساس قمت بهذا التبرّج و البروز و الظهور؟ و الله إنَّ ذنب اولئك الذين أخرجوك للطلب بدم عثمان هو أكبر من ذنب قاتلي عثمان، حيث طرحوا الآية القرآنيّة جانباً، و أخرجوا المرأة من بيتها و حملوها على الجمل، و خالفوا القرآن لأجل‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

171
  • الرئاسة و الحكم! و لم تستطع عائشة مع جميع بلاغتها و براعتها أن تجيب أمير المؤمنين عليه السلام بشي‌ء.

  • و أشكل الجميع على عائشة؛ فعبد الله بن عمر قد أشكل عليها، و امّ سلمة أرسلت إليها رسالة اعتراضيّة، و زيد بن صوحان و مالك الأشتر اعترضا عليها مطالبين إيّاها بالحجّة الشرعيّة التي دعتها للخروج من المنزل، و هل جعل الله إصلاح ذات البين بيد النساء؟! و كان عليها أن تقوم بتكاليفها، فكانت مورداً للذمّ و اللوم بشكل متواصل إلى آخر عمرها.

  • عند ما تُسَلَّم الرئاسة إلى النساء- و قد رأينا نموذجاً من ذلك في الإسلام- يترتّب على ذلك مفاسد، من قبيل أن يُقتل اثنا عشر ألف شخص، إلى غير ذلك من المفاسد التي حلّت بالإسلام و المسلمين بعد ذلك، إذ لا تزال آثار حرب الجمل باقية إلى اليوم.

  • و على كلّ تقدير، و كما ذكرنا في «رسالة بديعة» فالشواهد دالّة على عدم جواز عضويّة النساء في مجلس الشوري.۱

  • كون مجلس المحافظة على الدستور رجالًا، لا يدفع إشكال عضويّة

  • لقد بحثت في أحد الأيّام هذا الموضوع مع أحد السادة (المدافعين عن حضور المرأة في مجلس الشوري)، فأراد بيان و شرح وجهة رأيه، و بعد عجزه عن إيراد مجوّز عقليّ و شرعيّ مُطلق، مال إلى التشكيك في صغري المسألة، فقال: لا يتجاوز عدد المشاركات في المجلس الواحدة أو الاثنتين، و الغلبة و الأكثريّة للرجال، فما الإشكال في هذه الصورة؟!

  • فقلت: أوّلًا: في هذه الأيّام هناك أكثر من اثنتين أو ثلاث من النساء في المجلس، لكن لو أراد الشعب أن ينتخب جميع نوّابه من النساء، فأيّ قانون يستطيع منعه من ذلك؟! فقانون السماح لهنّ بالعضويّة غير صحيح‌

    1. انظر:« رسالة البديعة» ص ۱٤۰، الطبعة الاولي.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

172
  • من أساسه.

  • ثانياً: إنَّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين، فيكفي في سقوط قرارات المجلس عن الحجّيّة أن تكون فيه واحدة أو اثنتان من النساء حتّى لو كان جميع أعضائه من الرجال.

  • فلا مجوّز لأساس ورود هذا العنوان (المرأة) في مجلس الرجال مع هذه الخصوصيّات، حتّى مع وجود امرأة واحدة جالسة في إحدى زوايا المجلس و ليس لها من إبداء أيّ رأي، لأنَّ مجرّد وجودها بين هؤلاء الرجال تعدّ عضوة في المجلس و لها الأثر في رسميّة المجلس أو عدم رسميّته، و هو ما يصدر من هذا المجلس.

  • و ما عدا ما تقدّم، أ فليست الولاية تختصّ بالرجال؟! فبأيّ دليل شرعيّ تقوم بهذا العمل في هذا المجلس، مع كونه مجلساً ولائيّاً أو مجلس رئاسة عامّة، و مع كونه قد عُيِّن بصفته عجلة من عجلات آلة الرئاسة العامّة الكبرى، و الآيات القرآنيّة الصريحة و الأخبار و السيرة المستمرّة بين المسلمين من زمان النبيّ إلى اليوم دالّة على عدم إدخال أيّاً من الخلفاء و الحكّام و السلاطين الإسلاميّين المرأة في مجالس مشورتهم؟!

  • فأجاب هنا قائلًا: إنَّ هذا المجلس و إن كان مجلس تقنين و النساء أيضاً يشاركن فيه، لكنّ الرأي النهائيّ بِيَدِ شورى المحافظة على الدستور، و جميع أعضاء هذه الشوري من الرجال؛ فالحكم في الواقع يتمّ بيد الرجال، لا ذلك المجلس الذي يصدر الحكم مع المشاورة. فذلك الحكم و ذلك القانون الذي يصدر عنه بما أنَّ إقراره و تنفيذه في الخارج منوط بتصويت شورى المحافظة على الدستور فالجانب القانونيّ للحكم إذَن يأتي من قبل شورى المحافظة على الدستور، فشوري المحافظة هي التي تقرّ القانون و إلّا فلا. و عليه، فالمجلس هو مجلس الرجال، و لا دخل للنساء في‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

173
  • الامور الولائيّة.

  • فقلت له: إنّك تخطئ! و ذلك:

  • أوّلًا: ليس جميع أعضاء شورى المحافظة على الدستور مجتهدين، بل هو مركّب من ستّة فقهاء و ستّة علماء حقوق.

  • ثانياً: ليست وظيفة شورى المحافظة على الدستور جعل القانون و الحكم، فالحكم يصدر من قبل المجلس، و وظيفة شورى المحافظة السيطرة على الحكم لا جعله.

  • و هناك فرق بين الحاكم و بين الذي ينظر في حكم الحاكم ليري هل هو مطابق للإسلام أو لا؟ فالحكم هو عمل أعضاء المجلس الذين يقومون بالبحث و وضع القانون و إصدار الحكم، و ليست هناك أيّة دخالة لشورى المحافظة على الدستور في ذلك الحكم، و لا يمكنهم الزيادة و النقصان في الحكم الذي يصدره اولئك و لو بصفة عضو واحد، فيقولون مثلًا إنَّ الأكثريّة كانت هناك ثلاثمائة شخص و نحن الآن هنا سبعة أشخاص، فتصبح ثلاثمائة و سبعة أشخاص. كلّا فحتّى لو كانوا يحسبون ثلاثمائة و شخص واحد أيضاً؛ فليس لهم من حكم أصلًا، و شغل أعضاء شورى المحافظة على الدستور السيطرة و قياس الحكم الصادر من المجلس من حيث مطابقته لحكم الإسلام، فليس لعملهم أيّة علاقة بأصل الحكم.

  • لو أردتم السفر بالطائرة إلى مشهد، فلا بدّ من توفّر جملة شروط لازمة لهذا السفر، كوجود الطائرة، و الوقود، و الطيّار، و المال المطلوب، و بذل الجهد اللازم، و الحصول علي تذكرة السفر، و ما إلى ذلك.

  • لكن عند ما تريدون الصعود إلى الطائرة، فإنَّ هناك شخصاً واحداً يأخذ تذاكركم، و يتأكّد من مدي صحّتها، و هو مسئول السيطرة. فليس ذلك الشخص هو الذي منحكم الحركة، إذ كانت الحركة و بقيّة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

174
  • الشروط سلسلة من المقدّمات المنجزة، و ما دور مسئول السيطرة إلّا التأكّد من كون صاحب التذكرة هو أنت أو لا.

  • فعمل شورى المحافظة على الدستور هو السيطرة و مطابقة الحكم، أي ملاحظة كون القانون الذي صوّبه المجلس مطابقاً للشرع أو لا؟

  • و كمثال على ذلك: لو كان هناك قانون يطابق الشرع فهل يتمكّن أعضاء شورى المحافظة على الدستور من القول:- فيما لو كان هذا الحكم مخالفاً للمصلحة في نظرهم الشخصيّ- لا نقرّ هذا القانون؟ فإنّهم لا يستطيعون ذلك، و سيكونون مدانين فيما لو رفضوا، و سيقال لهم لما ذا ترفضون هذا القانون ما دام إسلاميّاً؟!

  • فوظيفتهم هي مجرّد ملاحظة الحكم و مطابقته، ليس أكثر من ذلك، و ليس بإمكانهم القول: «حَكَمْتُ» أو «مَا حَكَمْتُ».

  • و على هذا، فليس أعضاء شورى المحافظة على الدستور في سلسلة الآمريّة و الحاكميّة؛ فالحاكم و الآمر هم أعضاء مجلس الشوري بما هم أعضاء (نساء كانوا أم رجالًا).

  • كان هذا إجمال المسألة حول ولاية الفقيه، فالذكوريّة من شروطها. و على أساس هذا المطلب، فلا يحقّ للمرأة أن تتصدّى لجميع المراكز التي فيها شائبة ولاية، مثل رئاسة الوزراء، و الوزارة، و رئاسة الدوائر، و البلديّات، و مركز الحاكم المدنيّ، و إدارة القري و المحلّات، و لكلّ مركز فيه جانب ولائيّ.

  • كانت هذه المباحث حول مسألة جواز ولاية المرأة. أمّا الجوانب الاخرى كالاستشارة و غيرها فموضوعها مستقلّ و يستحقّ البحث. و في الحقيقة لو تمسّكنا بمسألتنا المتقنة و المحكمة هذه، فسوف تتجلّى في الدنيا متانة الإسلام و أحكامه، و قدرته القياديّة لجميع الناس إلي الحقّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

175
  • و ليس ثمّة من مبرّر للتنازل عن حقّانيّة القرآن و تلك الثوابت الحقّة و المسلّمة في القرآن، تحت عنوان مواكبة قافلة العصر! فالتخطّي عن الثوابت المسلّمة هو عين التخلّف.

  • من شروط ولاية الفقيه: العقل و البلوغ‌

  • من شروط الوليّ الفقيه (الفقيه الحاكم) هو لزوم كونه بالغاً و عاقلًا.

  • و البلوغ من الشروط الشرعيّة للتكليف لا العقليّة، أمّا العلم و القدرة عقلًا فهما شرطان عامّان للتكليف. فلا يمكن أن يتعلّق حكم بشخص إلّا أن يكون ذلك الشخص قادراً على إتيانه و عالماً به في نفس الوقت. و على هذا، فلا يتعلّق أيّ حكم إلّا بالقادر و العالم؛ أمّا البلوغ و العقل فقد اشترطهما الشرع في التكليف.

  • و لإثبات شرطيّة البلوغ و الرشد إضافة إلى العقل في ولاية الفقيه، فلا بدّ من التمسّك بآيتين من القرآن الكريم، ناهيك عن سائر الأدلّة.

  • فبالنسبة إلى البلوغ، يقول تعالى: {وَ ابْتَلُوا الْيَتامى‌ حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ}.۱

  • فالمراد أنَّه يُمتحن الأيتام الذين لم يصلوا إلى سنّ البلوغ بواسطة إعطائهم المال ليقوموا بالبيع و الشراء، ليري قدرتهم و سيطرتهم على إنجاز المعاملات و البيع و الشراء، و مدي اطّلاعهم على مصالحهم و مفاسدهم، و نسبة إمكان وقوعهم تحت نفوذ الناس المغرضين و الاستغلاليّين و المحتالين، و تضرّرهم في معاملاتهم و عدم ذلك. حتّى إذا ما وصلوا إلى سنّ البلوغ (أي حين ظهور ذلك الاستعداد المزاجي في وجودهم) و بلوغهم الاحتلام‌ {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ‌}؛ ليخرجوا بذلك من قيمومتكم، و يصبحوا مختارين في أعمالهم.

    1. صدر الآية ٦، من السورة ٤: النساء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

176
  • و بناء على هذا، فمن القطعيّ وجوب كون الفقيه الحاكم- الذي تكون جميع أموال المسلمين تحت تصرّفه- بالغاً و رشيداً قطعاً، ليتمكّن من إمساك زمام امور الناس و التصرّف بالأموال العامّة.

  • و أمّا اشتراط العقل و عدم السفاهة، فتدلّ عليه الآية المباركة: {وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً}۱

  • أوّلًا: تقول الآية: المال، قيام الناس؛ فمن لا مال له لا قيام له. و مَن لا يملك في بلده زراعة و اقتصاداً و اكتفاءً ذاتيّاً، فليس قائماً على رجليه، و عموده الفقريّ مكسور. فالمال و إن كان أمراً دنيويّاً، إلّا أنّ حياة الإنسان الدنيويّة مرتبطة به، و لا ينبغي للمسلم أن يعطي حقّ التصرّف في ماله للسفيه و غير المتديّن و غير الملتزم، ليُتَصَرَّف في ماله في الامور غير المشروعة. فيجب أن يكون وليّ مال الإنسان شخصاً مدبّراً و عاقلًا كالوليّ الفقيه.

  • ثانياً: تقول الآية المباركة: لا تعطوا حقّ التصرّف في أموالكم للسفهاء، لأنَّ فيها قوامكم و قيامكم و ثبات كيانكم، أي عليكم أن تعطوها لغير السفيه؛ فالوليّ الفقيه يجب أن يكون عاقلًا و راشداً، أي ذو بصيرة ثاقبة. و قادراً على التوصّل بفكره للتصرّف في الأموال بأحسن وجه.

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد

    1. صدر الآية ٥، من السورة ٤: النساء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

177
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ الثَّالِثُ و الثَّلاثوُنَ: يَكُونُ تَعيين الوليّ الفقيهِ بِنَظَرِ أهْلِ الحَلِّ وَ العَقْدِ لا بِرأي أكْثَريَّة عَامَّة الشَّعْب.

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

178
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • من شرائط ولاية الفقيه الثبوتيّة: الأعلميّة بأمر الله، الأورعيّة،

  • الأقوائيّة، الذكوريّة، البلوغ، كمال العقل، الهجرة إلى دار الإسلام، و التشيّع و الإسلام و هما أمر واحد؛ كما يُستفاد من بعض الروايات لزوم كون الوليّ الفقيه طاهر المولد، أي لا يكون من أبناء الزنا.

  • كيف نصل إلى الوليّ الفقيه في مقام الإثبات؟ و من أين؟ و ما هو الطريق إليه؟ و الجواب: يختصّ طريق الوصول إليه بتشخيص أهل الفنّ و الخبرة؛ {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.۱

  • فعلى الإنسان أن يرجع في كلّ موضوع من الموضوعات إلى أهل الخبرة في ذلك الفنّ للحصول على اليقين، و الخروج من الشكّ و التردد، إذ إنَّ أهل الخبرة هم وحدهم الذين يعرفون ذلك الموضوع، لا جميع‌

    1. ذيل الآية ٤٣، من السورة ۱٦: النحل؛ و ذيل الآية ۷، من السورة ٢۱: الأنبياء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

179
  • الناس. فلا طريق للناس أبداً إلى تلك الطرائف و الدقائق و الدرجات العالية التي تكون موجودة في نفس الفقيه. فالناس لا يرون سوي الصورة، و لا يدركون سوي انعكاس الظاهر، فهم ينجذبون لمن كان ظاهره أكثر رونقاً و خداعاً. و لا يفهم تلك الدقائق اللطيفة إلّا أهل الفنّ، الذين لهم قدرة التشخيص و التفريق بين المهمّ و الأهمّ و العالم و الأعلم و التقي و الأتقى.

  • إنَّ رجوع الناس في امورهم إلى أهل الاختصاص في كلّ موضوع من الموضوعات من المسائل الارتكازيّة و العرفيّة و الطبيعيّة و التجريبيّة؛ فلا يقومون بالاختيار العشوائيّ في حالة التردّد و الشكّ في تحديد الشخص المطلوب، بل يرجعون إلى أهل الخبرة ليأخذوا رأيهم في تحديد الشخص الأفضل تخصّصاً و الأكثر بصيرة و خبرة في ذلك الفنّ.

  • فإذا أرادوا إجراء عمليّة جراحيّة (و كان عندهم في هذا المجال أطبّاء متعدّدون) فلا يختارون لذلك طبيباً بشكل عشوائيّ، بل يرجعون إلى الأطبّاء الآخرين المطّلعين على وضعه بشكل كامل، فيقوم أهل الخبرة منهم بترجيح طبيب على الآخرين.

  • و لو جعلنا اختيار الأخصّائيّ بيد عامّة الناس فسيبطل حكمهم، لأنَّ عامّة الناس لا يملكون خبرة في هذا الموضوع، و رأي الأكثريّة ساقط عن درجة الاعتبار بشكل كلّيّ في هذا المجال، لأنَّ أكثريّة الناس يتحرّكون و يسعون على أساس ما يحملونه في ضمائرهم و آرائهم و أفكارهم و مقاصدهم.

  • دلالة: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ...} و آية: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ...}

  • يتحرّك أكثريّة الناس وفقاً لمنطق الانفعال لا العقل إنَّ أفكار عامّة الناس على مستوي متدن و هابط، و لا يستطيعون إدراك تلك الخصوصيّات اللازمة في الشخص الأخصّائيّ. و قد وردت حول هذه المسألة آيات في القرآن الكريم:

  • يقول تعالي في سورة الزمر: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

180
  • لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ}.۱

  • فلا يتساوى الذين يعلمون مع الذين لا يعلمون. و أصحاب الفهم و الإدراك يدركون أنَّه لا ينبغي لهذه الامور أن تكون بيد الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، بدرجة واحدة في مسألة انتخاب الوليّ الفقيه.

  • و يقول تعالى في سورة الرعد: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‌ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ.}٢

  • فيقول تعالى هنا على نحو الاستفهام الاستنكاريّ: هل يمكن التسوية بين الأعمى و البصير، أو بين الظلمات و النور؟! فالجهل عمي و ظلمة، و العلم بصيرة و نور. و لا يمكنكم أن تجمعوا بين النور و الظلمة، و بين العمي و البصر لتجعلوهم معاً منشأً واحداً للأثر و في درجة واحدة!

  • الآيات الدالّة على أنَّ عامّة الناس يفرّون من الحقّ‌

  • انتخاب العوامّ تبع للمزاجيّة و التفكير السطحيّ و النظرة الساذجة و يقول تعالى في سورة المؤمنون‌:{ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ* وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}.٣ لقد أتينا بالحقّ للناس (و الحقّ يعني الأصالة و الواقعيّة، كما أنَّ وجود النبيّ حقّ و متحقّق بالأصالة و الواقعيّة) لكنَّ أكثر الناس يمتنعون عن قبول الحقّ، و طباعهم معرضة عنه، فلم تصل تربية الناس و تكاملهم النوعيّ إلي ذلك المستوي في الرشد و الارتقاء لحدّ الآن، أي إلى المستوي الذي يكون الطبع الأوّليّ للناس هو الانجذاب للحقّ، و السعي إليه حتّى لو خالف لذّاتهم الشهوانيّة و ميولهما الطبيعيّة و المادّيّة.

    1. ذيل الآية ٩، من السورة ٣٩: الزمر.
    2. قسم من الآية ۱٦، من السورة ۱٣: الرعد.
    3. ذيل الآية ۷۰ و الآية ۷۱، من السورة ٢٣: المؤمنون.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

181
  • لا يزال الناس إلى الآن في مستوي بسيط و رهين للأفكار البهيميّة، و لم يخرج عامّة الناس إلى الآن من هذه الحدود لكي يتّجهوا نحو الحقّ، فطباعهم الأوّليّة تُعرِض عن الحقّ و تهرب منه. و ليس بإمكان الحقّ من اتّباع آرائهم و أفكارهم.

  • عبّرت الآية عن آرائهم و أفكارهم بصفتها أهواء، و الأهواء هي الأفكار الفارغة الخاوية. فلو اتّبع الحقّ و الأصالة و الواقعيّة و الحقيقة أهواء و أفكار هؤلاء الناس الخاوية و الخالية و الفاقدة للاعتبار لفسدت السماوات و الأرض و من يعيش بينهما. فليس بمقدور الحقّ إذَن أن يتّبع الأكثريّة.

  • لقد جئنا لهؤلاء الناس بحقيقة الذكر و التذكير بالحقّ، و بما يلزم للإنسان ما يذكّره، و أرشدناهم إلى ذلك؛ لكنّهم أعرضوا عن ذكر الله و لم يصغوا.

  • و يقول تعالى في سورة المائدة: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‌.}۱

  • قل يا أيّها النبيّ أن ليس الخبيث و الطيّب في مستوي واحد، و لا هما متساويان، و إن كان للخبيث كثرة في العالم (سواء كثرة عدديّة أم تخيّليّة و تخيّل إجمالى)، و إن أعجبك و نال استحسانك الخبيث و كثرة الذين يعيشون في الأهواء و الآراء الشيطانيّة؛ فعليك أن لا تهتمّ بالخبيث، و أن لا تغترّ بكثرته، و لا ينبغي لك أن تعجب به؛ و اتّبع الطيّب و الحقّ و إن قلّ عدده!

  • فَاتَّقُوا اللهَ؛ بناء على هذا، فاتّقوا الله يا اولي الألباب و أصحاب العقول، و إذا كان عندكم ميل نحو الفلاح و أمل به فعليكم أن تسيروا على‌

    1. الآية ۱۰۰، من السورة ٥: المائدة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

182
  • هذا المنهاج.

  • و يقول تعالى في سورة الأنعام: {وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ‌}.۱

  • إنَّ هذه الآية واضحة و صريحة جدّاً في: أنَّ أكثريّة من في الأرض اناس ضالّون و مضلّون، أي قاصرون و ناقصون. فأكثر من في الأرض اناس غير ناضجين، و كأنَّهم فاكهة غير ناضجة، و شجرة غير مقلّمة، و غابة متشابكة الأشجار. فيجب أن يخضعوا للتربية، و تخضع نفوسهم للتهذيب و التزكية حتّى يُشذّبوا، و على البستانيّ أن يربّيهم و يشذّ بهم ليمكن الاستفادة منهم.

  • و مع ما يحمل الأكثريّة من آراء و أهواء، فلا يتحرّكون و لا يسعون إلّا نحو المادّيّات و الملذّات الصوريّة و ذات الجمال الطبيعيّ و التخيّلات الاعتباريّة و الأماني الفانية، و تراهم يضحّون بأنفسهم في سبيلها، فحربهم و سلمهم يقومان على هذا الأساس؛ كما أنَّ معاملاتهم و علاقاتهم و اجتماعاتهم و سوقهم على هذا المنهاج و الطريقة أيضاً. و إذا أردت اتّباعهم فسوف يضلّونك عن سبيل الله. و بما أنَّ سبيل الله هو سبيل الحقّ، فيجب أن يقطع جميع الطرق و يتقدّم عليها، و إذا أردت اتّباع هؤلاء فسوف يهبطون بك إلى أساس أفكارهم، ممّا يؤدّي إلى تخلّفك عن طيّ طريق الحقّ و ضلالك.

  • إنَّ جملة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ‌} في حكم التعليل، أي بسبب اتّباع الناس الظنّ، و عدم وصولهم إلى الحقّ و العلم و الواقعيّة و اليقين، فإنَّما جميع تحرّكاتهم و فعّاليّاتهم في الدنيا على أساس الاحتمال و الخرص‌

    1. الآية ۱۱٦، من السورة ٦: الأنعام.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

183
  • و التخمين.

  • و يقول تعالى أيضاً في سورة الأنعام: {وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.}۱

  • فكثير من الناس يضلّون غيرهم من دون علم و دراية بآرائهم و أهوائهم الخاوية. و حيثما كان الأمر بيد الأكثريّة فلم تكن النتيجة سوي الضلال.

  • يبيّن الله تعالى في سورة الشعراء في ثمانية مواضع حالات امم ثمانية أنبياء (قوم خاتم النبيّين صلّى الله عليه و آله و سلّم، و قوم النبيّ موسى، و قوم إبراهيم، و نوح، و هود، و صالح، و شعيب، و لوط) و يذكر علاقاتهم بأنبيائهم، و يقول في آخر كلّ موضع:

  • {وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.}

  • فلو بني هؤلاء الأنبياء مواقفهم على أساس رأي الأكثريّة لكانت شعوبهم قد أمرتهم بترك الجهاد و التبليغ و الأمر و النهي و الصوم و الزكاة و الإنفاق على الفقراء، و بالمشاركة في مجالسهم و محافلهم، و بمساعدتهم في أعمالهم المخالفة للشرع، و في إسرافهم و تبذيرهم و لهوهم و لعبهم.

  • لو كان رأي الأكثريّة (حتّى الأكثريّة القريبة للإجماع) فإنَّ أكثريّة أهل مكّة و قريش، التي كادت تكون إجماعاً، رأت قتل النبيّ و تمزيقه إرباً إرباً لكي تتخلّص من الأفكار الجديدة التي أتي بها إليهم؛ فهذا الرجل رجل ضالّ بزعمهم!

  • هذه هي نتيجة اتّباع الأكثريّة. و هجرة النبيّ الأكرم إلى المدينة أيضاً من نتائج رأي الأكثريّة الذي كان قد استقرّ على لزوم قتل النبيّ، ممّا دعاه‌

    1. قسم من الآية ۱۱٩، من السورة ٦: الأنعام.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

184
  • صلوات الله عليه إلى الهجرة.

  • {بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ}.۱

  • جاءهم بالحقّ (أي أنَّ قلبه و قرآنه و نزوله و كلامه و تصرّفه في المجتمع، جميع ذلك كان حقّاً).

  • {وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ}.٢

  • {وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}.٣

  • {وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا}.٤

  • {وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}.٥

  • {وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.٦

  • {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ.}۷

  • {كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}.۸

  • كتاب آياته مُفصّلة و مُبيّنة و واضحة، يُتلى عليكم بلسان عربيٍّ فصيح و واضح (لقد جعله الله قرآناً لكي يكون قابلًا للقراءة و لكي تقرءوه)، و هذا القرآن بشير و نذير للذين يفهمون و يعلمون (يُبشّر بالسعادة و ينذر

    1. ذيل الآية ۷۰، من السورة ٢٣: المؤمنون.
    2. ذيل الآية ۷۸، من السورة ٤٣: الزخرف.
    3. صدر الآية ۱۰٢، من السورة ۷: الأعراف.
    4. صدر الآية ٣٦، من السورة ۱۰: يونس.
    5. ذيل الآية ۱۱۱، من السورة ٦: الأنعام.
    6. ذيل الآية ۱۰٣، من السورة ٥: المائدة.
    7. ذيل الآية ٦٣، من السورة ٢٩: العنكبوت.
    8. الآيتان ٣ و ٤، من السورة ٤۱: فصّلت.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

185
  • بالشقاوة و التعاسة)، و لكن مع الأسف فإنَّ أكثريّة الناس قد أعرضوا عن هذا القرآن «فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ» و لا يصغون إليه، يتلى عليهم القرآن و لكنّهم لا يسمعون!

  • {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}.۱

  • يقول تعالى بنحو التعجّب: أم تحسب أنَّ أكثر الناس يسمعون أو يعقلون؟! كلّا فلا يظنّ ذلك أبداً، بل إنَّ أكثريّة الناس لا تسمع و لا تعقل.

  • و جاءت عبارة: {وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‌ }و ما شابهها في عدّة مواضع من القرآن.

  • و تكرّرت هذه الآية: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ‌ }في عدّة مواضع من القرآن.

  • و قال تعالى في سورة الأنبياء:{ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ.}٢

  • و قال تعالى في سورة الشوري‌:{ فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُم}.٣

  • و بناء على هذا، فعامّة الناس يخضعون للأحاسيس، و لم يرتقوا إلى درجة التكامل العقليّ؛ فإذا تقرّر إعطاؤهم حقّ انتخاب الرئيس و الحاكم فسوف يكون اختيارهم على أساس التخيّلات و الأوهام الواهية، فينخدعون بمجرد رؤية صورة أو استماع خطبة، و من ثمّ يؤيّدون على هذا الأساس! مع أنَّه من الممكن أن يكون صاحب الصورة أو الخطبة ذاك من‌

    1. صدر الآية ٤٤، من السورة ٢٥: الفرقان.
    2. ذيل الآية ٢٤، من السورة ٢۱: الأنبياء.
    3. صدر الآية ۱٥، من السورة ٤٢: الشوري.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

186
  • الماكرين الذين أعدّوا أنفسهم لصيد العوامّ.

  • و كم شاهدنا في زماننا تكرار حالة انجذاب الناس إلى شخص و انتخابهم له من خلال نصب الصور و الإعلانات و كتابة اسمه على الجدران و الأبواب؛ و ما أن تتغيّر الساحة و تتبدّل الدعايات حتّى يأتي آخر يستقطب الناس إليه بتلك الطريقة السالفة، من خلال الصورة و الإعلان و الادّعاءات الفارغة و الواهية!

  • هل يمكن في الإسلام- ذلك الدين المؤسَّس لأجل مواكبة الحقّ و انتهاج الأصالة و الواقعيّة- أن يضع اختيار و انتخاب الوليّ الفقيه بيد أدني الناس علماً و تقوي و إدراكاً؟! على الرغم من كون الوليّ الفقيه هو العقل الامّة المنفصل، و المتولّي لمسئوليّة رقيّ و تكامل الأفراد و المجتمعات إلى مآل الهداية و السعادة في الدنيا و الآخرة، و بناء المدينة الفاضلة، و إقامة القسط و العدل في جميع أنحاء العالم، و قيادة الامّة إلى ذروة العرفان و التوحيد الإلهيّ! أبداً، أبداً!

  • فعامّة الناس ينتخبون من يكون سلوكه منسجماً مع أذواقهم و أمزجتهم و منهجيّتهم في الحياة؛ و من الواضح في هذه الحالة مدي انحلال المجتمع و هبوطه إلى وادي الرغبات و الأنانيّة السحيق، و ذلك لابتعاده عن محور العدل و أصالة العقل.

  • الإشكال الوارد على مؤيّدي فكرة انتخاب الاكثريّة من العامّة

  • و هنا يُطرح سؤال، و على أتباع الديمقراطيّة الذين يعطون حقّ انتخاب الحاكم و القائد لعامّة الناس أن يجيبوا عنه؛ و السؤال هو:

  • إنَّ عموم الشعب- في أيّ تجمّع كانوا- ليسوا بمستوى واحد من حيث الفهم و الشعور و الدراية، و اختلافهم و كونهم في مراتب متفاوتة ملحوظ، فمنهم من بذل جهوداً مضنية و تحمّل الكثير من أجل بناء نفسه، فصار حكيماً و فيلسوفاً و صاحب دراية، و من أهل الكفاية، و عارفاً ذا

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

187
  • ضمير حيّ مطّلع على الحقائق، و عارف بمصالح و مفاسد الناس، و له قدرة في معرفة البشر و تشخيص الأعقل و الأعلم و الأورع و الأشجع و الأقوى و الأبصر في الامور و المصالح من أبناء الامّة؛ فينتخب مَن هو أهلًا للقيادة و الرئاسة. و ما أقلّ هكذا أشخاص في كافّة المجتمعات البشريّة، و ما أصعب الوصول إليهم.

  • و هناك طبقة اخرى ممّن لم يصلوا إلى هذه الدرجة من الكمال، لكنّهم ساروا في مجال تقوية القوي العلميّة و العمليّة و عملوا على تكميلها، و سعوا في سبيل ارتقاء الدرجات العلميّة و العمليّة و التربويّة ليوصلوا أنفسهم إلى الكمال. و عدد مثل هؤلاء ليس بقليل في المجتمعات البشريّة؛ لكنّهم يمثّلون نسبة ضئيلة جدّاً قياساً إلى عامّة أبناء الشعب.

  • و هؤلاء و إن لم يصلوا إلى درجة الطبقة الاولي في تشخيصهم للحقّ من الباطل، لكنّهم على معرفة إلى حدّ ما.

  • و الطبقة الثالثة هي عامّة الناس، و هؤلاء ليسوا ممّن لم يرتق إلى المستوي العالى من العلم و العمل فحسب، بل و لم يسيروا في هذا الصراط خطوة واحدة أيضاً، و هم يتّبعون المظاهر و الألوان و الروائح، و ينجذبون لكلّ ما تراه عيونهم، حتّى لو كان فارغاً من المعنويّات و الواقعيّة. و هؤلاء ينتخبون صاحب المظهر المناسب، و من كانت صوره المعلّقة على الأبواب و الجدران أكثر، و من كانت دعايته أفضل.

  • بناء على هذا، فلو فرضنا إعطاء حقّ انتخاب القائد لجميع الناس، فيجب أن يكون إعطاء هذا الحقّ متناسباً مع ميزان عقولهم و علومهم و بصائرهم و درايتهم، فيعطي للشخص العامّيّ صوت واحد، بينما يعطي لطالب العلوم العصريّة الحقّ بعشرة أصوات، و لطالب العلم الدينيّ بمائة صوت، و للعالم الحقّ بألف صوت، و للحكيم الإلهيّ بعشرة آلاف صوت،۱

  • ولاية الفقيه في حكومة الإسلام ؛ ج‌٣ ؛ ص۱٩۱

    1. حسينى طهرانى، سيد محمد حسين، ولاية الفقيه في حكومة الإسلام، ٤جلد، دار المحجة البيضاء - بيروت - لبنان، چاپ: ۱، ۱٤۱۸ ه.ق.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

188
  • و للعالم الربّانيّ و العارف المتجاوز لذاته و هوي نفسه و الواصل إلى الحقّ و الحقيقة مائة ألف صوت.

  • و على هذا، فينبغي القول: يا أدعياء الحرّيّة و عشّاق الجاهليّة! هل تعطون الناس حقّ انتخاب القائد و الرئيس و الحاكم على أساس هذا الميزان؟ و هل تقسّمون الناس إلى مجموعات و طبقات مختلفة، فتعطون الناس الأصوات كلٌّ حسب طبقته؟!

  • من البديهيّ أنَّ الأمر ليس كذلك؛ و إنَّما على حساب سواد المجتمع و عدد الأفراد. (فتارة يكون أحد الأفراد من العلماء الأفاضل، و تارة من الجهّال؛ و تارة يكون المنتخِب هو العقل المفكِّر للدولة، و تارة خاوي الفكر!) و هذا أمر خاطئ في منطق العقل و الدراية.

  • فهذه الطريقة و هذا المنهج يسقطان قيمة العقل و العقلاء و العلم و العلماء، و يجعلان رأي و نظر العالم و العلماء و الخبراء بالمجتمع في مستوي واحد مع رأي الجهلة، و يساوي بين أصحاب الدراية و المعرفة و بين الناس الاعتياديّين! فكيف يجيبون على هذا السؤال؟ و كيف يدافعون عن ذلك أمام العدل و الشرف الإنسانيّين؟ و كيف يواجهون محكمة العدل الإلهيّة بعد أن أضاعوا حقوق عامّة الناس بترك انتخاب القائد الذي يقتنع به عقلاء المجتمع و مفكّروه؟ إنَّهم- و كنتيجة حتميّة- سيجرّون المجتمع إلى هاوية الفساد و الضلال.

  • هذا الإشكال وارد على حملة لواء الديمقراطيّة الجاهليّة. و لمّا كانت أجواء الانتخابات في جميع أنحاء العالم على أساس الأكثريّة، فالإشكال يشمل الجميع.

  • إنَّ الله تبارك و تعالى قد ألهم بذلك، فهيّا و أجيبوا عليه، و هيهات! و أنّي لكم من أن تُجيبوا عليه، فهو غير قابل للإجابة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

189
  • عند ما يتقرّر أن نختار لمنصب الوليّ الفقيه أفضل الأشخاص و أكثرهم حرصاً، و أن يجعل الوليّ في كلّ بلد أعقلهم و أكثرهم إدراكاً لمصالح البلد الواقعيّة، فلا يمكن أن نجعل انتخاب الوليّ الفقيه- ذلك الأعقل- بيد العوامّ أو نجعلهم (العوامّ) في مستوي واحد مع أصحاب النضج الفكريّ في المجتمع من حيث الدرجة و الكفاية و الدراية، و أن نحسب قيمة آرائهم بشكل مساوٍ لقيمة آراء اولئك، مع احتمال وجود قيمة فكر عالم واحد في مجتمع تعادل قيمة فكر جميع أفراد المجتمع، فيجعل ذلك الشخص مع شخص عامّيّ في مستوي واحد، مع كون عدم معرفة الثاني يمينه من شماله، و يُعطي لكلّ منهما الحقّ بصوت واحد في الانتخابات!

  • فهذا العمل إسقاطٌ للجانب العقليّ في المجتمع و ابتعاد عن الأصالة و الواقعيّة، و جعله قائماً على الأفكار الضعيفة و الأوهام.

  • الشوري في الإسلام لاهل الحلّ و العقد، و ليس لأكثريّة العامّة

  • الإسلام دينٌ اسّس على الأصالة و الحقيقة و الواقعيّة و لا غير. لذا، فهو يجعل طريق تعيين الوليّ الفقيه (مع تلك الخصوصيّات و المقامات في عالم الثبوت التي تكلّمنا حولها) بيد أهل الخبرة و الالتزام و الحلّ و العقد، ممّن يمتلك كلّ منهم من القيمة الفكريّة و التخصّص و التقوي ما يساوي قيمة ألف أو عشرة آلاف شخص من أبناء الامّة؛ فمسألة تشخيص الوليّ الفقيه في عهدة أهل الحلّ و العقد و الخبرة.

  • بناء على هذا، فلا جدوى من اللهاث وراء الأكثريّة.

  • فمثلًا، أخذ الآراء للمرشّحين لعضويّة مجلس الشوري- في هذه الظروف- و الانتخابات الحاليّة- و وفقاً لرأي الأكثريّة- ليس له أيّ أساس من القرآن و الروايات.

  • فقد رأينا في قضيّة بني صدر كيف قد انْتُخِبَ لرئاسة الجمهوريّة بنسبة كبيرة جدّاً من آراء الشعب؛ فكيف انتخبوه؟ و كيف ظهر للعيان،

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

190
  • و إلى أين وصلت عاقبة الأمر؟ و لو لم تُكشف حقيقته في تلك الظروف لاستمرّ نهجه في البلاد إلى مئات السنين، و من رحمة الله على الشعب و عنايته الغيبيّة أن فضحه و أفهم الشعب واقع حاله. و ما كانت تلك السقطة إلّا بسبب تحكيم الأهواء و تسليم الأمر بيد أكثريّة الناس.

  • إن شاء الله، سنقوم بتبيان- فيما لو سنحت لنا الفرصة-: أنَّ الإسلام لا يعبأ بمسألة الدعاية في الانتخابات، و لا ينبغي الاهتمام بهذا الموضوع. و لا ينبغي انتخاب من يريد تعريف نفسه للناس من أجل التقدّم و الفوز على الآخرين عن طريق الدعاية و إلصاق الصور على الجدران؛ فلا اعتبار لهكذا أشخاص لابتعادهم عن التقوي المعنويّة، و نفس العمل الدعائيّ يدلّل على الانحطاط الروحيّ و فساد النفوس؛ فمن يقوم بذلك ساقط عن درجة الاعتبار في شرع العقل و عقل الشرع.

  • فالذي يستطيع تسلّم زمام امور الناس هو مَن لا يحمل في قلبه حبّ التغلّب على الآخرين (سواء كان بصفة نائب في المجلس أم عضو في مجلس الخبراء) بل عليه أن يري نفسه خادماً من الخدم، و أن يعدّ الاشتغال في هذا المركز أمراً لا قيمة له من الناحية الدنيويّة، و يدخل في الامور من أجل القيام بتكليفه، و معالجة امور المسلمين، و التكفّل بأيتام آل محمّد فحسب، لا أن يشغل هذه المراكز عن طريق إبعاد الآخرين عنها من خلال صرف الأموال الطائلة في نصب الملصقات و الصور و الدعايات، فهذه دعايات كفر؛ و هذه الدعايات دعايات شيطانيّة، و نهجها و طريقتها ليسا على أساس الحقّ.

  • على الذين يسيرون على نهج الحقّ و يهدفون خدمة الإسلام و البلاد أن يقدّموا أنفسهم من دون أيّ عمل دعائيّ فيه تنافس. و على جميع أبناء الشعب أيضاً أن يفكّروا و يشاوروا كبارهم من دون دعاية ظاهريّة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

191
  • و خارجيّة، و على أهل الحلّ و العقد أيضاً تشخيص من يمتلك أهليّة هذا المقام و إيصاله إليه. هذا الطريق هو المتحصّل من الروايات و الآيات.

  • دلالة آية: {وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‌}

  • و أمّا كون النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم قد عمل في معركة احد برأي الأكثريّة، و اتّبع الأكثريّة، و أوكل مسألة الحرب للشورى، و عمل على أساس الآية القرآنيّة: {وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}۱؛ فقد كان ذلك لأنَّ شيوخ المدينة و كبار السنّ فيها قالوا لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: يا رسول الله! لا نري مصلحة في الخروج من المدينة للحرب، و إنَّهم سوف يُقاتلون في المدينة، و لم يحدث أن قاتلوا من داخل المدينة و انتصر عليهم عدوّهم، و إنَّ العدوّ سيحطّ الرحال خارج المدينة، و من ثمّ يرجع بعد أن تنفد مئونته، و نكون أثناء الحصار في بلدنا، و تقوم نساؤنا و أطفالنا برمي الحجارة و السهام عليهم لتفريقهم.

  • و أمّا الشباب الذين لم يكونوا قد شاركوا في المعركة السابقة (في ميدان بدر)، و سمعوا بقصص و تضحيات البدريّين، فقد قالوا بأنَّهم يريدون الخروج و القتال خارج المدينة، و تلقين العدوّ درساً يُبقي ذكر شجاعتهم مدي التأريخ!

  • و لم يكن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم يميل إلى القتال خارج المدينة، و كان يرجّح أن يبقوا داخلها. فقام كلّ واحد من هؤلاء الشباب و أخذ يذكر فصلًا مشبعاً من مزايا القتال خارج المدينة، و من أنَّه سوف يكون ميدان جهاد و حرب و تضحية و فداء، و سواء قُتل الإنسان أم قَتل فمصيره إلي الجنّة، و أنَّ البقاء في المدينة عار علينا، و سوف يقال بأنَ‌

    1. قسم من الآية ۱٥٩، من السورة ٣: آل عمران.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

192
  • الكفّار قد جاءوا لحربنا فخاف النبيّ و المسلمون منهم و لم يخرجوا من بيوتهم. فهذا أمر مشين بالنسبة لنا، فعلى الرجل أن يحمل سيفه و يخرج، و أمثال هذه العبارات.

  • و الخلاصة، أنَّ النبيّ لم يكن يميل بشكل من الأشكال إلى القتال خارج المدينة، و اختار رأي القلّة من الأصحاب، و كانت المصلحة في ذلك أيضاً. لكنَّ الإنسان سواء قُتل أم قَتل يدخل الجنّة، فنحن نريد أن نُقتل، و قد وعدنا الله بقبض سبعين منّا، و نحن نتمنّى القتل. و ما كانوا يعلمون أنَّهم سيفرّون من هذه الحرب و يتركون النبيّ و أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وحيدين في ساحة القتال بين يدي العدوّ.

  • و على كلّ تقدير، فقد ماشي النبيّ في تلك المرحلة آراءهم مكرهاً فخرج من المدينة، و إن كان البعض من الذين كانوا يحثّون و يحرّضون على الخروج من المدينة قد وقفوا على المسألة و اعتذروا من النبيّ و طلبوا منه البقاء في المدينة، لكنّ النبيّ رفض ذلك قائلًا: إنَّ الله عند ما يلبس نبيّاً لأمة الحرب لا يرضي له أن ينزعها دون أن يُقاتل.

  • لم يختر النبيّ هنا رأي الأكثريّة، و إنَّما سايرهم. و ثمّة فرق بين المماشاة و المسايرة و بين اختيار رأي الأكثريّة.

  • فقد يحصل للإنسان أحياناً أن يقرّ رأي الأكثريّة بعد المشورة و يعتبره أمارة على الواقع، بما أنَّ الأكثريّة قد اختارت ذلك، فهو أقرب وصولًا إلى الواقع؛ فيكون هذا الإقرار اتّباعاً لرأي الأكثريّة.

  • و قد يختار الإنسان رأي الأكثريّة أحياناً اخرى لا لأنَّها أكثريّة، و إنّما مماشاة لها، و مثال ذلك لو أراد أحدكم أن يطبخ طعاماً في بيت، و في البيت شخصان من كبار السنّ و عدّة أطفال، فسألهم عمّا يرغبون من الطعام. فاختار الكبيران نوعاً معيّناً، بينما رغب الأطفال جميعاً في نوع آخر، ففي‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

193
  • هذه الحالة ستنفّذ طلبات الأطفال مراعاة لهم، لا لأنَّ ما اختاروه هو الأفضل.

  • فمماشاة و مسايرة الأطفال أو الشباب أو الأكثريّة من الطبقات المختلفة أمر يختلف عن اختيار رأي الأكثريّة. و جميع الصدمات التي تعرّض لها النبيّ إنّما كانت من هذه الجهة، و هذا غير اختيار رأي الأكثريّة.

  • مفاد و معني الاخذ بالمجمع عليه و ترك الشاذّ النادر

  • نعم؛ توجد هنا مسألة، و هي إذا كان كلا الطرفين متساويين في إصابة الواقع، و كان أحدهما أكثر عدداً، فالكثرة هنا أمارة على الحقّ.

  • كأن يكون للأكثريّة و الأقلّيّة رأيان مختلفان في مسألة ما، و يكونان- أي الأقلّيّة و الأكثريّة- متساويين من جميع الجهات من حيث الإحكام و المتانة و القيمة، و كان اختيار أحد الطرفين بالنسبة لنا أمراً مشكلًا، ففي هذه الصورة و مع وجود التساوي من جميع الجهات، فإنَّ أمارة المجموعة الأكثر عدداً أكثر للواقع.

  • و ذلك مثل مقبولة عمر بن حنظلة التي يقول فيها الإمام الصادق عليه السلام: انْظُرُوا إلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، وَ نَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا وَ عَرَفَ أحْكَامَنَا، فَارْضَوْا بِهِ حَكَماً.

  • فيسأل الراوي: إن اختار كلّ منهما قاضياً لنفسه، فما العمل في حال اختلاف القاضيان في الحكم؟

  • فيقوم الإمام عليه السلام هنا ببيان الميزان للاختيار، و يقول: الحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أفْقَهُهُمَا وَ أفْضَلُهُمَا وَ أصْدَقُهُمَا فِي الحَدِيثِ وَ أوْرَعُهُمَا.

  • ثمّ يقول الراوي: كِلَاهُمَا عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ؛ فهما من هذه الجهة متساويان.

  • فيقول الإمام عليه السلام: يُنْظَرُ إلَى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِمَا عَنَّا فِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ المُجْمِعُ عَلَيْهِ أصْحَابُكَ، فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِهِمَا وَ يُتْرَكُ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

194
  • الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أصْحَابِكَ؛ فَإنَّ المُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ.

  • فالإمام عليه السلام يقول هنا: عليك بملاحظة الأكثريّة، فإذا كان كلا الفقيهين ناظرين في حكمنا و حلالنا و حرامنا، و كلاهما أفقه و أبصر و أورع و أصدق في الحديث (يعني كانا كاملين من ناحية المضمون و الأساس العلميّ) فيقدّم هنا الرأي المطابق مع المجمع عليه على ذلك الرأي الشاذّ النادر. فقد جُعل هنا رأي الأكثريّة و الإجماع أمارة و علامة و آية على الحقّ. و هذا لا إشكال فيه.

  • و هذا لا يعني ترجيح رأي الفقيه ابتداءً على أساس الأكثريّة و الشهرة. فالأكثريّة هنا ليست ميزاناً، بل أصالة و واقعيّة ذلك الفقيه هي المرجّح و الأمارة على الواقع، و تأتي أصدقيّة الفقيه و أعدليّته في الدرجة الثانية، بينما تأتي موافقة المشهور كأمارة على الواقع في الدرجة الثالثة.

  • فلا نستطيع إذَن أن نعطي الرأي في الانتخابات للأكثريّة ابتداءً. و تدلّ مقبولة عمر بن حنظلة على هذا المعني؛ فعلينا أوّلًا الرجوع إلى الأشخاص المؤمنين الملتزمين و الأخصّائيّين و أهل الحلّ و العقد، و إذا اختلف أهل الحلّ و العقد مع جميع تلك الشروط و اختارت مجموعة منهم شخصاً للحكم بينما اختارت مجموعة اخرى آخراً فلا مانع في هذه الحالة من مراعاة جانب الأكثريّة. و مقبولة عمر بن حنظلة ناظرة إلى هذه النقطة.

  • و على هذا، فيجب أن يكون الأخذ برأي الأكثريّة على أساس عنوان الخبرويّة و القوانين الواردة في الإسلام و ميزان الحقّ، لا على عنوان الأكثريّة فحسب.

  • و لا ينبغي أن يكون الرأي في المجلس على أساس أكثريّة الأصوات؛ إذ بإمكان الفقيه أن يعمل بما يري فيه مصلحة بحسب نظره (بعد مقام الثبوت لجميع الشرائط) سواء كان ذلك مطابقاً للأكثريّة أم‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

195
  • غير مطابق.

  • فإذا صوّت أكثريّة المجلس على رأي ما، يجوز له ترجيح رأي الأقلّيّة، كما يمكنه أن يقرّ ما تبنّاه من رأي و إن خالف إجماع المجلس علي ذلك. و هذا هو معني الولاية.

  • لأنَّ المجلس مركّب من مشاورين و معاونين خاضعين لولاية الفقيه، لا في مرتبة و مقام الولاية.

  • و كلام أمير المؤمنين عليه السلام لعبد الله بن عبّاس الوارد في «نهج البلاغة» يشكّل شاهداً على كلامه.

  • وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَبْدِ اللهِ بنِ العَبَّاسِ وَ قَدْ أشَارَ إلَيْهِ فِي شَي‌ءٍ لَمْ يُوَافِقْ رَأيَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‌: لَكَ أنْ تُشِيرَ عَلَيَّ وَ أرَى؛ فَإنْ عَصَيْتُكَ فَأطِعْنِي!۱

  • بيّن عبد الله بن عبّاس رأيه في مسألة من المسائل لأمير المؤمنين عليه السلام، و لم يكن ذلك الرأي موافقاً لرأي الإمام (و كأنَّ عبد الله بن عبّاس كان يمتلك ثقة عالية بعقله و درايته و نظره، فأراد فرض رأيه على أمير المؤمنين عليه السلام).

  • فقال له الإمام عليه السلام: عَلَيَّ أن اشاورك، لكنَّ الرأي لي بعد المشاورة. و إذا استدعيتك للمشورة و طلبت رأيك، فهذا لا يعني أنِّي قد جعلت رأيك عدلًا لرأيي؛ أبداً.

  • مشورة النبيّ مقدّمة لأخذه الرأي النهائيّ‌

  • و لو شاور النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم مائة ألف شخص فلا تكون آراؤهم عِدلًا لرأيه أبداً، فالرأي هو رأي النبيّ.

  • فليس من حقّهم أن يقولوا: نحن خمسة أشخاص و النبيّ شخص‌

    1. «نهج البلاغة» الحكمة ٣٢۱؛ و من طبعة محمّد عبده، ج ٢، ص ٢۱٢.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

196
  • واحد، و نحن خمسة أصوات مخالفة في قبال صوت واحد للنبيّ و على النبيّ أن يتبعنا لأنَّ الأكثريّة معنا!!

  • {وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}.۱

  • يا أيّها النبيّ! شاور الناس و أصحابك في كلّ حادثة، لكنّ الرأي رأيك أنت، و لا يحقّ لك أن تعمل بآرائهم.

  • {فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‌.} فبعد مشاورتهم و اتّضاح الأمر لك، فعليك البتّ في الأمر و العمل بما ترجّحه؛ و توكّل على الله.

  • ليست المشورة انتخاباً لرأي الأكثريّة، بل هي استيضاح المطلب لنفس الإنسان، و يكون الرأي النهائيّ لصاحب المشورة. و في مقام الولاية، لا يستطيع أحد أن يكون في درجة نفس الوليّ من حيث الفكر و الرتبة و ليس بالضرورة أن يكون المستشار في مستوي المستشير، و لا هي معياراً لرفع المستشار إلى درجة الوليّ.

  • ظنّ عبد الله بن عبّاس أنَّ موقعيّته تؤهّله لأن يفرض رأياً على أمير المؤمنين عليه السلام، باعتباره من القادة المقرّبين و المختصّين بالإمام عليه السلام، و من طلّاب مدرسته القرآنيّة، و قد ائتمنه الإمام على بعض المسائل و المواقف، و كان يجالس الإمام و يتحدّث معه و يسايره! فعند ما شاوره الإمام عليه السلام في مسألة ما، كان يتوقّع أن يفرض رأيه على أمير المؤمنين عليه السلام.

  • فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لَكَ أنْ تُشِيرَ عَلَيَّ وَ أرَى؛ فَإنْ عَصَيْتُكَ فَأطِعْنِي!

  • إذا جعلتك مستشاراً لي، فليس لك إلّا أن تبدي رأيك لي، و الاختيار

    1. قسم من الآية ۱٥٩، من السورة ٣: آل عمران.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

197
  • لي؛ و إذا عملتُ بما يخالف رأيك، فمن الواجب عليك أن تطيعني؛ و إيّاك أن تصرّ على رأيك و تخالف أمري كأن تقول: ما دام خالفني أمير المؤمنين فمن حقّي أن أعمل بما أرى!

  • فاختيار الرأي محفوظ لي وحدي؛ فَإنْ عَصَيْتُكَ فَأطِعْنِي: فإذا عصيتك بمخالفة رأيك، فما يجب عليك هو الطاعة لي، لأنَّه أنا الوليّ و أنت المولّى عليه، و لا يستوجب حقّ المشاورة أن يكون رأيك عِدلًا و موازناً لرأيي. فالرأي هو رأي الوليّ الفقيه فقط؛ و في شرع الإسلام، لا يحقّ لغير الفقيه الأعلم و الأورع و الجامع للشرائط، الإلهيّ و العارف بالله و بأمر الله، أن يتّخذ قراراً في أيّ شأن من الشئون العامّة للمسلمين.

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد۱

  • ولاية الفقيه في حكومة الإسلام ؛ ج‌٣ ؛ ص٢۰۱

    1. حسينى طهرانى، سيد محمد حسين، ولاية الفقيه في حكومة الإسلام، ٤جلد، دار المحجة البيضاء - بيروت - لبنان، چاپ: ۱، ۱٤۱۸ ه.ق.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

198
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ الرّابِعُ و الثَّلاثوُنَ: اعْتِمادُ وِلايَة الفَقيهِ عَلَى القُدْرَتينِ العَقْليَّة وَ الخارِجيَّة

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

200
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • بيّنا فيما سبق أنّه: كما أنَّ لولاية الفقيه شروطاً خاصّة في مقام الثبوت لا يتحقّق أصل الولاية بدونها، فلها من مقام الإثبات أيضاً موازين و طرق لا تثبت الولاية من دون مراعاتها. من جملتها، أنَّ الشارع المقدّس لم يقرّر لها أيّ طريق من خلال آراء الأكثريّة.

  • و كما يستطيع الشارع المقدّس أن يجعل أصل الشي‌ء بيده، فله أن يقوم بنفسه بجعل طريق الوصول إليه أيضاً. أي كما يكون أصل كلّ شي‌ء بجعل الشارع، فالطريق الموصل إليه أيضاً بيده. فيستطيع أن يسدّ طريقاً و يفتح آخر.

  • و هو لم يجعل آراء الأكثريّة طريقاً موصلًا إلى هذه الحقيقة، لأنَّ آراء الأكثريّة غالباً ما تكون مقترنة مع الفساد و البطلان و الجهل و ممارسة الأغراض الشخصيّة و الأهداف المادّيّة و النوايا الشهويّة، و هذه الامور تبعد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

201
  • الإنسان عن الحقيقة و الواقعيّة، و لا يمكن جعلها مرآة لأمر معنويّ و واقعيّ و حقيقيّ.

  • و على هذا الأساس، فعند ما بُعِثَ النبيّ بالرسالة، لم يجعل الوصول إلى ذلك من خلال آراء أكثريّة الناس، و وجدنا أكثريّة الناس قد وقفت ضدّ الأنبياء باستمرار، و سفكوا الدماء، و نشروا الأنبياء بالمناشير، و ألقوهم بالقدور المملوءة بالزيت المغليّ، و اضطرّوهم إلى ترك الديار و الهجرة، و آراء الأكثريّة كانت وراء كلّ تلك الفجائع.

  • إثبات ولاية الفقيه بواسطة نفس الطرق العقلائيّة

  • أمّا في ولاية الفقيه، و إن لم يكن فيها معني نصب إلهيّ بالمعني الأوّليّ كما في الإمامة، لكنَّ الشارع هنا أيضاً لم يجعل آراء الأكثريّة طريقاً، و حصر الطريق في تشخيص أهل الخبرة، الذين يسمّون اصطلاحاً بأهل الحلّ و العقد، و ذلك لأنَّهم يستطيعون في مقام الإثبات من التعرّف إلى الفقيه الأعلم و الأورع و الأشجع و الأقوى و الخبير بالمصالح و الامور و ما إلى ذلك، و من ثمّ تعريفه للناس و مبايعته لكي تتمّ إقامة الحكومة بواسطة هذه البيعة.

  • و بيعة أهل الحلّ و العقد هذه هي التي تعيّن مصير الناس، و قد كان إشكالنا أيضاً على حملة لواء الأكثريّة و القائلين باعتبار قول الأكثريّة في الدنيا هو: يجب- وفق منطق العقل- أن يكون لذوي الدراية و العلم حصة أكبر من الرأي. لأنَّ جعل العالِم الذي تعب طوال عمره حتّى وصل إلى درجة إدراك و تشخيص الحقيقة في مستوي واحد مع الجاهل العامّيّ، ما هو إلّا تضييع لحقّ العلم و المجتمع. و جعل عظمة و شخصيّة هذه الطائفة في حكم الحيوانات و تحويلهم إلى مجرّد أرقام مضافة و تشبيههم بالأغنام و سائر الحيوانات.

  • هناك فرق بين العالم الذي يمكنه تسلّم مقاليد حكم الشعب بلحاظ

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

202
  • معرفته و قوّة فكره، و بين ذلك الشخص الذي لم يتبيّن الطريق و لا يعرف اليمين من الشمال. فجعل هذين الشخصين متساويين و عِدلين في إدراك مصالح البلاد العليا أمر خاطئ من وجهة النظر الإسلاميّة، بل حتّى في سائر المذاهب. و كلّ من يقوم بهذا العمل يكون قد انحدر بميزان الواقعيّة و الحقيقة إلى مستوي الإحساسات و التأثّرات. و هذا العمل (الإحصاء) بأن يضاف العالم إلى الجاهل كإضافة الاثنين إلى واحد، و النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين باستمرار.

  • و إقامة أيّة حكومة على هذا الأساس مؤشّر على أنَّها قائمة على التخيّلات و التوهّمات و الاعتباريّات؛ و سوف لن يكون بناؤها على أساس الحقّ و الدراية و المصلحة الواقعيّة العامّة مطلقاً.

  • و قد نقدنا طريقة حلّ المتبنّين لمنهج رأي الأكثريّة، و قلنا لهم: إذا تقرّر أن يكون لرأي الأكثريّة دخل في مثل هذا المقام، فيجب أن يكون ذلك بشكل مضاعف، فيُعطى للجاهل مثلًا صوت واحد، بينما يُعطي للطالب الجامعيّ عشرة أصوات، و للطلّاب المجتهدين مائة صوت، و للعالِم أكثر فأكثر، حتّى تصل حصّة البعض في بعض الموارد إلى عشرة آلاف أو مائة ألف أو مليون صوت.

  • هذا إشكال على حملة لواء الحضارة و المدنيّة الحديثة، الذين يرون أنفسهم متطوّرين في الدنيا، و في نفس الوقت يعتبرون الآراء على أساس الأكثريّة. فيجب أن يقال لهم: عليكم طبقاً لمنهجكم أن تتّبعوا طريقة كهذه، لا أن تجعلوا الفيلسوف الفلاني و العالِم في درجة واحدة مع الشخص العامّيّ و العاديّ.

  • لقد كان هذا نقداً عليهم، و طريق حلّ لكيفيّة تنظيم رأي الأكثريّة على الفرض المتصوّر، لا أنَّ هذا الفرض هو المعمول به إسلاميّاً و قد جعله‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

203
  • الشرع.

  • أبداً؛ فلا يقرّ الإسلام هذا الطريق، لأنَّ اتّباعه يستتبع بنفسه مشاكل في الخارج، فلم يعيّن الشرع هكذا عمل، كما أنَّه لم يمدحه و لم يقرّه.

  • دلالة عهد الإمام لمالك على انحصار تعيين القاضي بنظر الحاكم‌

  • ينحصر طريق الانتخاب في الإسلام بأهل الحلّ و العقد، و قد رأينا في الحكومات الإسلاميّة، و في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قد فوّض حقّ انتخاب القاضي لأهل الحلّ و العقد.

  • جاء في عهد أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر:

  • ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الامُورُ.

  • و ذلك لأنَّ القضاء و رفع الخلاف بين الناس لا علاقة له بالآراء العامّة.

  • و حيث إنَّ الحكم ينحصر بالإسلام، فلم يعيّن أمير المؤمنين عليه السلام أشخاصاً للتقنين بصفة مجلس مقنّن، لأنَّ الحكم حكم الحاكم، فليس في مقابله حكم ليحتاج إلى التعيين.

  • و يقسّم أمير المؤمنين عليه السلام في هذا العهد أفراد الناس إلى سبعة طوائف: الكُتَّاب، و عمّال الديوان، و التجّار، و أهل الصناعات، و الجيش، و القضاة و أهل المشورة، و أهل المسكنة، أي المحتاجون للحماية و المراعاة من الضعفاء و المساكين و ذوي العاهات و العلل.

  • و يقول الإمام لمالك الأشتر: من بين هذه المجموعات السبع، عليك بتعيين القضاة بنفسك، أي ليس من الصحيح إيكال حقّ القضاء للأكثريّة (إذ كما في أيّامنا هذه حيث يتمّ تعيين القضاة في أمريكا بواسطة الأكثريّة).

  • و كان توفيق الفكيكيّ في شرحه لعهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر قلقاً جدّاً من هذه الناحية؛ فيقول [ما خلاصته‌]:

  • من جوانب عظمة عهد أمير المؤمنين عليه السلام هي جعله انتخاب‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

204
  • القاضي بيد الحاكم الذي هو الوليّ و والى الحكومة في الإسلام. فحاصل إيكال الأمريكيّون أمر انتخاب القضاة للأكثريّة- و جعلوا انتخابهم بواسطة آراء الأكثريّة كما في أعضاء البرلمان و القوّة المقنّنة- هو وجود نفس المفاسد الموجودة في المجالس المقنّنة المنتخبة عن طريق آراء الأكثريّة، و التوصيات و الألاعيب في القوّة القضائيّة أيضاً. فيأمل المنتخِبون من المنتخَب بأن يجسّد آمالهم و يحقّق مطالبهم. و القضاة الذين ينتخبون هناك للسلطة القضائيّة، ينتخبون على هذا الأساس. و لذا، فمن بداية جلوسهم على كرسي القضاء عليهم أن يحقّقوا طوال العمر مطالب اولئك الذين انتخبوهم. و هذه الطريقة تسبّب في إيجاد مفاسد كبيرة جدّاً، إذ تسقط مكانة القضاء، إذ سيبذل القضاة كلّ جهودهم من أجل التنافس على المقام و المنصب كسائر الناس، ممّا يترتّب عليه تلك النتائج الفاسدة.

  • و الإسلام بعظمته لم يوكل حقّ القضاء للأكثريّة، و كذا الحال بالنسبة لإيكال حقّ الوكالة في مجلس الشوري (و اعتباره مجلساً مقنّناً)، و مجلس الشوري يعني مجلس أهل الحلّ و العقد. فوضعه بيد الأكثريّة غير صحيح. إنَّ أهل الحلّ و العقد هم الذين يحتاجهم المجتمع لكي يشاورهم في الامور و يستعين بآرائهم، و لا يمكن لآراء الأكثريّة أن تكون طريقاً و أمارة لمعرفة تعيين أهل الحلّ و العقد.

  • العلم الوجدانيّ لكلّ شخص هو الذي يقوده إلى ولاية الفقيه‌

  • و لو أشكل البعض قائلًا: لو لم تكن آراء الأكثريّة هي الطريق لمعرفة أهل الحلّ و العقد، فكيف يمكن معرفتهم؟ و ما هو الطريق الموصل إليهم؟ فلا بدّ من وجود جماعة اخرى ترشدنا إليهم. و عندئذٍ ننقل الكلام إلى هذه الجماعة و نقول: من هم هؤلاء الأشخاص الذين يدلّونا على أهل الحلّ و العقد؟ فلا بدّ من القول إنَّه هناك جماعة اخرى يجب أن تدلّنا على هؤلاء الأشخاص، و هَلُمَّ جَرّاً. و هذا هو التسلسل بعينه،

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

205
  • و التسلسل باطل.

  • و الجواب: أنَّ المسألة ليست بهذا الشكل، فآراء أهل الحلّ و العقد التي لها حجّيّة في تعيين الرئيس هي في النتيجة حكم، و ليست دلالة على الطريق. فأهل الحلّ و العقد معروفون في المجتمع بأنفسهم، و هم قائمون بأنفسهم، و طريق الوصول إليهم هو العلم الوجدانيّ في كلّ شخص. فأهل الحلّ و العقد لهم ملامح خاصّة و عنوان مشخّص خارجيّ مستقلّ عن سائر الطبقات.

  • و علينا الرجوع إليهم بعنوان‌ {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}۱

  • فكما نرجع في بناء المنزل إلى البنّاء، و في علاج الأمراض إلى الأطبّاء الحاذقين، و نشاور في قضيّة الاقتصاد التجّار من أهل الخبرة، فعلينا الرجوع إلى أهل الحلّ و العقد في مسائل الحكومة و ولاية الفقيه، و هم اناس معروفون في المجتمع كسائر الأخصّائيّين، فلا حاجة إلى انتخابهم عن طريق الناس عموماً عبر آراء الأكثريّة.

  • فعند ما يعرف الناس في مدينة ما بنّاءً ماهراً في فنّه، فإنَّهم يرجعون إليه، كما يعرفون الطبيب الفلاني كأفضل جرّاح، بعد أن برهن على تبحّره و تخصّصه و مهارته و التزامه و عدالته من خلال الجهود التي كان يبذلها في العمليّات الجراحيّة المختلفة، و عدم ملاحظته عند قيامه بوظيفته لأيّ علاقة شخصيّة على الإطلاق. فوجود شخص كهذا يعرّف نفسه بنفسه، و لذا يرجع إليه الناس. و كذا في سائر الحرف و الصناعات.

  • و الأمر في مسائل الأحكام الدينيّة و الولاية من هذا القبيل أيضاً، و هو

    1. وردت هذه الجملة في موضعين من القرآن الكريم: الأوّل: ذيل الآية ٤٣، من السورة ۱٦: النحل. الثاني: ذيل الآية ۷، من السورة ٢۱: الأنبياء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

206
  • ليس شيئاً معقّداً لكي نخرجه بصور اخرى، و نحتاج لحلّه إلى عمليّة تحليل رياضيّة، كعمليّات الجذر التكعيبيّ أو المعادلات الجبريّة الرياضيّة من الدرجة الثالثة.

  • و يرجع الناس في مشاكلهم إلى الأشخاص الذين هم الأفضل، في فنّهم و في علمهم، و بصيرتهم في علم الدين أكثر، و دقّتهم في المطالب أعمق، و فكرهم أنقي و أصدق؛ و يكون فكرهم و طهارتهم الباطنيّة و علمهم أمارةً على ولاية الفقيه، فيجب الرجوع إلى هكذا أشخاص و الفحص عن آرائهم بالنسبة إلى الحاكم في الحكومة الإسلاميّة (الذي يجب أن يكون بقيّة الفقهاء خاضعين لحكومته) و مبايعة كلّ من ينتخبونه بعد ملاحظتهم للمصلحة.

  • و على هذا فطريق الوصول إلى أهل الخبرة هو العلم الوجدانيّ للناس، فيقول الإمام الصادق عليه السلام في الحديث الذي ذكرناه حسب رواية الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام: وَ اضْطَرُّوا بِمَعَارِفِ قُلُوبِهِمْ ... فالجميع مجبورون و مضطرّون بحسب علمهم الوجدانيّ و معرفتهم القلبيّة لكي يقبلوا ذلك.

  • فلم يعد باستطاعة أحد بعد ذلك أن يدّعي عدم علمه و عدم اطّلاعه و معرفته بطريق الحلّ و إلى من يرجع في مسائله، كما يدّعيه البعض في مقام الاعتذار من أنَّه لا يمتلك التوفيق لصلاة الليل، فما الذي يمكن عمله لينال ذلك التوفيق؟! فلا محلّ لهذه الأعذار، فمن كان قاصداً لذلك فلينهض من نومه و يصلّي صلاة الليل، و إلّا فكلّ ذلك تبريرات غير وجيهة.

  • لو أخبركم أحد الأشخاص مثلًا أنَّه سيأتي شخص إلى بيتكم عند أذان الصبح و يؤمّن ما تريدونه من احتياجاتكم المادّيّة مثلًا، أو ليعطيكم الكتاب الفلاني النفيس النادر الذي كنتم تبحثون عنه سنيناً طويلة، أو ليمنحكم خاتماً ثميناً تعادل قيمته مقدار دخلكم الشهريّ، أو ليؤدّي‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

207
  • ديونكم، و أمثال ذلك؛ فهل تستطيعون النوم طوال الليل؟ أو أنَّكم تظلّون حاملين همّ من سيوقظكم، فتنتظرونه قرب الباب لتبادروا لفتحها له خشية أن ينتظر ذلك القادم خلف الباب فيشعر بالأذى و يعود إلى أدراجه. و قد لا يتمكّن المرء من النوم في تلك الليلة، لشدّة رغبته و انتظاره لفتح الباب في تلك اللحظة المعيّنة لذلك القادم!

  • فهنا لا مجال للأخذ و الردّ، فنفس السبب الذي جعل الإنسان يقظاً لا ينام و دعاه ليكون حاضراً عند الأذان لفتح الباب لذلك الشخص القادم، يجب أن يدعوه للقيام لصلاة الليل.

  • و من هنا يُعلم أنَّ ما اتي به مجرّد تبرير، و قد موَّه الأمر على نفسه و تجاهل الحقيقة عند ما قال إنَّ الله لم يوفّقه. و كأنَّ الإنسان يظنّ واقعاً أنَّ الملائكة المقرّبين (مثل جبرائيل و إسرافيل) يجب أن يهبطوا من أعالي السماوات ليأخذوا بيده و يوقظوه، مع أنَّ الأمر ليس كذلك، فإذا أمر اللهُ تعالى الإنسان بأمر، فإنَّ سعي الإنسان لتنفيذه يكون ذلك توفيقاً. و إذا لم يسعَ يكون قد جرَّ نفسه بنفسه إلى الشقاوة.

  • و كذلك أهل الخبرة الذين هم أهل الحلّ و العقد، فيمتلك جميع الناس طريق معرفتهم من أعماق قلوبهم و من ضمائرهم و معارف قلوبهم و علمهم الوجدانيّ، و إذا رجعوا إليهم فإنَّهم يصلون إلى الواقع، بينما إذا أرادوا إهمال علمهم الوجدانيّ و التصرّف على أساس آراء و أفكار العامّة، و لم يعملوا وفق ذلك العلم اليقينيّ و الوجدانيّ و القلبيّ الذي يمتلكونه، و اتّبعوا أقاويل الناس (من أنَّ زيداً أفضل من عمرو) عن هوي و هوس، فحينئذٍ سيحتجب الحقّ خلف الحجب، و لا يمكن للوهلة الاولي تمييز الحقّ من الباطل بواسطة الامور المصطنعة.

  • أمّا إذا اتّبعوا الحقّ ببصيرة قلوبهم و تشخيص وجدانهم و معارف‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

208
  • قلوبهم فسوف يتعرّفون على أهل الحلّ و العقد، ممّن يمتلكون في مقام الثبوت لياقة هذا المقام حقيقةً. و إن لم يرجعوا إليهم فسوف يحتلّ مكانهم آخرون.

  • كما احتلّ كرسي الإمارة و الولاية و الإمامة آلاف الأشخاص منذ أكثر من ألف سنة باسم الإمام أو الخليفة، و تمّ ذلك بمن انتحلوا اسم أهل الحلّ و العقد و عملوا تحت هذا العنوان، فاتّبعهم الجهلة و العوامّ على تلك الحال المعروفة إلى هذه الأيّام.

  • فطريق الوصول إلى أهل الحلّ و العقد إذَن هو ذلك الإلهام و تلك الإدراكات العاديّة و الضروريّة للإنسان، و ليس هناك من طريق خاصّ لمعرفتهم و الوصول إليهم سوي هذا الطريق. و عليه، فآراء الأكثريّة ليست طريقاً موصلة.

  • فالذين يجتمعون في مجلس الشوري بعنوان أهل الخبرة و أهل الحلّ و العقد، و يقومون بمساعدة ولاية الفقيه ليسوا مستقلّين، و لا يمتلكون نظراً و فكراً و قانوناً خاصّاً، و لا يستطيعون جعل قانون آخر مقابل قانون الوليّ الفقيه، و لا يرون الوليّ الفقيه مجبوراً على العمل طبق آرائهم أو الخضوع لأمرهم أو مماشاتهم في بعض الموارد؛ فهذا ما لا يمكن اعتباره صحيحاً.

  • و أساساً، لا يوجد في الإسلام مجلس بهذه الصورة و الكيفيّة، و إنَّما هناك مجلس أهل الحلّ و العقد فقط، و ليس من الضروريّ أن يكون عدد أعضائه كبيراً، و كما يصطلح عليه في هذه الأيّام بحدّ النصاب المقرّر. بل ما إن يجتمع عدد من أهل الخبرة و التجربة و الفكر و أصحاب الغيرة و التديّن، فذلك يكفي لإدارة هذا المجلس.

  • أرسطو هو مؤسّس مبدأ تفكيك القوي الثلاث‌

  • لقد كان أرسطو وراء أصل تفكيك القوي (أي القوي الثلاث:

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

209
  • التشريعيّة و القضائيّة و التنفيذيّة) إذ كان يري الذين يتسلّمون السلطة و الحكم و يتولّون على الناس ملوكاً ظالمين و جائرين، و كانوا يمسكون بكامل السلطات و يسيطرون على الامور بشكل كامل (سواء الامور التنفيذيّة أم القضائيّة أم في مجال السنن و الآداب التي كانوا يعلّمونها للناس) فهم الذين يصدّرون الأوامر، و هم الذين يضعون القوانين. و باختصار فقد كانوا فَعّالٌ لِما يَشاءُ وَ حاكِمٌ لِما يُريدُ في جَميعِ شُئُونِهِمْ وَ آثارِهِمْ؛ و لذا اقترح أرسطو هذا الاقتراح لكي لا يتمكّن السلطان في البلاد التي يكون حاكمها سلطاناً جائراً- و كان الأمر و لا يزال في جميع الأماكن بهذا النحو- من أن يفعل ما يشاء و يرتكب أيّ ظلم يريده.

  • فاستلام السلطة و علوّ المقام و الرفعة و تخيّل الإنسان نفسه في عالم من التصوّر الموهوم و السمو الاعتباريّ يبدّل شخصيّته الأوّليّة و يفسد و يضيّع الإنسان الطاهر بشكل كامل؛ فقد كان كثير من الملوك- في بداية أمرهم- اناساً صالحين و جيّدين، كما كان الكثير من الحكّام أيضاً من المناسبين لهذا المنصب؛ لكن ما أن تبدّلت الظروف حتّى صارت سلطتهم تتصرّف في جوّ موهوم اعتباريّ شيطانيّ بالشكل الذي صاروا يرون أنفسهم أصحاب النفوذ و القدرة و الولاية الواقعيّة على الناس، ففقدوا بالنتيجة تلك الصفات الحسنة و المُثلى و تحوّلوا إلى حكّام و ملوك جائرين و ظالمين! و أساساً، فقاعدة السلطنة و الحكومة ليست غير هذا.

  • و السبب في قول الإسلام بوجوب كون الحكومة بيد الإمام المعصوم المعيّن من الله تعالى مع تلك الخصوصيّات، و لا سبيل غير ذلك، هو هذا الذي ذكرناه.

  • أجل؛ فأرسطو، و لكي يعالج ظلم الحكّام، قال: يجب أن تفكّك تلك القوي عن بعضها. فتكون هناك قوّة تشريعيّة تقوم باتّخاذ القرار في الامور

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

210
  • المتداولة بين الناس طبقاً للمصالح العامّة.

  • بينما تقوم مجموعة اخرى مستقلّة عنها بفصل الخصومات بين الناس و حلّ النزاعات.

  • و تقوم مجموعة ثالثة أيضاً بتنفيذ الأحكام و المسائل، و يكون لها حكم الرقابة و الإشراف على تنفيذ امور الناس.

  • ففصل هذه القوي الثلاث عن بعضها بهذا النحو لكي لا تكون مرتبطة ببعضها بنحوٍ تؤثّر إحداهما على الاخرى، بل لكلّ منها استقلاليّة، و تكون تحت نظر الحاكم دون التمكّن من السيطرة الكاملة عليها. فإذا تمكّن الحاكم من السيطرة على الامور فستكون سيطرته محدودة، لا سيطرة تامّة و استبداديّة بذلك الشكل الذي يجرُّ به جميع الشعب باتّجاه شهواته، و يجعلهم طعمة له.

  • و قد دوّن هذا الرأي في منتصف القرن الثامن عشر الميلاديّ من قبل مونتِسكيو، أحد روّاد اليقظة الفكريّة في فرنسا، و منذ ذلك الحين تقبّل العالَم (إلّا في دول قليلة) هذه القوي الثلاث.

  • و بالرغم من ذلك لم يُقضَ على الاستبداد عمليّاً، كما أنَّ هدف أرسطو لم يتحقّق، فكلّ مَن تسلّم مقاليد الحكم، راح ينازع هذه القوي الثلاث حتّى إلغائها و إخضاعها لقدرته و نفوذه و حكمه ليحكم جميع أبناء الشعب من خلال واجهتها.

  • اقتراح النائيني في تفكيك القوي على فرض وجود الحكومة الجائرة

  • فمونتسكيو هو الذي دوّن القوي الثلاث و عرّفها لتصبح متداولة بين المجتمعات.

  • و حتّى أنَّ المرحوم آية الله الحاجّ الميرزا محمّد حسين النائينيّ رضوان الله عليه قد تقبّل هذا الرأي في كتاب «تنبيه الامّة و تنزيه الملّة» و امتدح مبتدعه و مبتكره، و اعتبر رأيه هذا ناشئاً من النبوغ، و كان يعتقد أنَ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

211
  • رأياً كهذا يمنع ظلم الحكّام من أهل الجور و ينظّم أمره في الحكومة، و يقول بعد ذلك في جملة (تتمّة لهذا المطلب): إنَّ هذا المطلب يبعث على غبطتنا نحن المسلمين أيضاً، و يجب أن نعترف هنا بسرورنا، و مع وجود جميع هذه الأحكام المتقنة و المحكمة و المستدلّة الموجودة فلِمَ لا نسعى إليها و نتّبع تلك الأحكام الدقيقة؟ لكي يأتي الأجانب و يجعلوا لنا القوانين و يفرضوها علينا، و يكون علينا أن نتقبّل عاجزين تلك القوانين بصفتها قوانين متقنة.۱

  • و كان كلام المرحوم النائينيّ هذا في كتاب «تنزيه الملّة» مبتنياً على أساس الاستدلال على صحّة و إتقان الحكومة الدستوريّة، لأنَّ هذا الكتاب قد الِّف لتصحيح القوانين الدستوريّة، و جهد فيه لتطبيق قوانينه مع أحكام الإسلام.

  • لقد رتّب أساس ذلك الكتاب على أساس الحكومة الجائرة لحكّام‌

    1. أوردنا هنا ترجمة عبارته نقلًا عن الطبعة الثانية لهذا الكتاب، ص ٩٥ تحت عنوان« الحكومة في نظر الإسلام»؛ يقول رحمه الله: الحقّ أنَّ جودة استنباط و حسن استخراج أوّل حكيم تعرّض لهذه المعاني، و استفاد و استنبط المسئولة و الاتّحاديّة و المقيّدة و الدستوريّة، و محدوديّة نمط السلطة العادلة الولايتيّة، و بناء أساسها على هذين الأصلين المباركين( الحرّيّة و المساواة)، و المسئوليّة المترتّبة عليهما، و توقّف حفظ مقوّماتها على هذين الركنين الركينين على ضوء ما بيّناه، و رتّبها بشكل قانونيّ بنحو مطّرد و رسميّ بهذا الشكل التامّ، و استخرج إمكان إقامة القوّة المسدّدة و الرادعة الخارجيّة مكان قوّة العصمة العاصمة، أو على الأقلّ ملكة التقوي و العلم و العدالة، في كيفيّة انبعاث الإرادات النفسيّة من الملكات و الإدراكات، و جعل السلطات في وجودها الخارجيّ خاضعة لآراء القوّة المسدّدة و تحت مسئوليّتها، كما جعل القوّة المسدّدة مسئولة أمام أفراد الشعب من خلال تجزئة السلطات و حصر سلطة المتصدّين للُامور بالسلطة التنفيذيّة فقط من دواعي الشرف و الاعتزاز له و من موجبات سرورنا و غبطتنا.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

212
  • الجور، على اعتبار عدم إمكاننا حاليّاً من قلب نظام الحكم الملكيّ و اقتلاع الحكّام الظالمين من المجتمع الإسلاميّ؛ فعلينا إذاً- من باب الاضطرار، و في مرحلة أدني- أن نكتفي و نرضى بأقلّ الظلم؛ و أقلّ الظلم هو أن نأتي إلى ذلك الملك المتسلّط على الناس- الذي يقوم باختلاس أموال الناس و سفك دمائهم و زهق أرواحهم من دون أيّ رادع، كما يقوم بإعطاء الامتيازات للأجانب دون رادع- فنحدّد من سلطته و نقيّده على الأقلّ ببعض الحدود من خلال تفكيك قوي الحكومة و إخراجه من حالة العنان المرخي، و ليس هناك من حلّ غير تفكيك القوي الثلاث و تأسيس مجلس يجتمع فيه الناس و يتشاورون فيه حول امورهم فتصدر الأحكام منه على أساس رأي الأكثريّة.

  • و يجب أن يتمّ التفكيك بين القوي التنفيذيّة و القوّة القضائيّة أيضاً. فإذا كانت كلّ هذه القوي مستقلّة و منفصلة عن القوي الاخرى، و مستقلّة أمام سلطة ذلك الحاكم، فعندئذٍ يمكن للناس أن تتنفّس و تصل إلى بعض حقوقها؛ و بهذا الشكل يمكن تخفيف وطأة الظلم و الاستبداد المحض بنسبة معيّنة.

  • لقد بنيت هذه الرسالة على هذا الأساس، و إلّا فهو رحمه الله يعترف بعدم شرعيّة هذه الحكومة. و أنَّ حكومة الجور لا تنسجم مع مذهب التشيّع من الأساس إلّا بنحو الموجبة الجزئيّة. و لذا، كان يقول مراراً و تكراراً في هذا الكتاب: مع وجود الحكومة الإسلاميّة، و بالأخصّ الحكومة الشيعيّة، فلا معني للخضوع للظلم و إقرار الحكومة الجائرة في مقابل حكومة الفقيه العادل. و الإسلام و التشيّع أبطل هذا الأمر من الأساس.

  • لكن ما العمل و قد تولّي هؤلاء الحكومة، و إزاحتهم عنها غير ممكنة لنا، لكن في المرحلة الثانية- و من باب أنَّ الضَّروراتُ تُقَدَّرُ بِقدَرِها- نقوم‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

213
  • بتحديد حكوماتهم الجائرة بهذه الحدود.

  • و كلامنا هو: أنَّ كلام المرحوم النائينيّ قد ارتضي بتجزئة القوي، لكنَّ تجزئة القوي و استقلالها أمر خاطئ قياساً باسس الدين.

  • ففي دين الإسلام، يجب أن يكون الحاكم- الذي يترشّح منه أصل الحكم- هو الأنقى، و الأعقل، و الأطهر، و الأقوى فكريّاً و الأعرف بالإسلام و بالنبيّ، و الأكثر تجرّداً من بين أبناء الامّة.

  • فالحكم ينزل منه و ينحدر بشكل مخروطيّ، و كلّما انحدر نزولًا اتّسعت دائرة المخروط أكثر إلى أن يصل إلى مستوي عامّة الناس؛ فتكون القوي الثلاث مندكّة في إرادته و أمره. فيجب أن يكون التنصيب و العزل برأي القاضي، فبيده عزل و نصب القضاة و أئمّة الجمعة.

  • كما أنَّ بيده تعيين المستشارين و الوزراء و الحكّام و الولاة و إرسالهم إلى المناطق. و على الجميع أن يرسلوا له التقارير في جميع امورهم، و يكون هو على رأس ذلك المخروط الكبير، و جميع المسئوليّات أيضاً في عنقه. و هذا مقام رفيع جدّاً و جليل و قد وضعه الله بيد من هو أهلًا لذلك.

  • و من جهة اخرى، فجميع وزر و وبال و ثقل ذنوب الامّة في عنقه. فلو قام بأيّ تعدٍّ في الجملة، فإنَّ الله تعالى يبتليه بعذاب لا يعذّبه آلاف الآلاف من الأشخاص العاديّين، لأنَّ صدور الباطل منه و إن قلّ، فإنَّه واسع من خلال نزوله المخروطيّ، فيشمل بالنتيجة جميع أبناء الامّة.

  • أمّا لو قام شخص في زاوية من زوايا البلاد و ناحية من نواحي هذا المخروط بخطإ ما، فإنَّ ذنبه سيختصّ به و لا يسري من أسفل إلى أعلى.

  • هذا هو مقام ولاية الفقيه الذي كان التأكيد عليه إلى هذا الحدّ في الروايات. و لا طريق للوصول إليه سوي أهل الحلّ و العقد. فالإمامة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

214
  • و الزعامة مقام كبير، لارتباط نظام الامّة بها.

  • نهج البلاغة: وَ الإمَامَة نِظَاماً لِلُامَّةِ وَ الطَّاعَةَ تَعظِيماً لِلإمَامَة

  • يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى حكمه المذكورة في «نهج البلاغة»، و عبارتها طبقاً لنسخة فتح الله الكاشانيّ و المطابقة لنسخة شرح الخوئيّ التي هي بقلم الحاجّ الميرزا محمّد باقر الكمره‌اي، ما يلي:

  • وَ الإمَامَة نِظَاماً لِلُامَّةِ وَ الطَّاعَةَ تَعظِيماً لِلإمَامَةِ.۱

  • أي أنَّ الله تعالى جعل الإمامة لكي يكون للُامّة نظام، فلو لم تجعل الإمامة و لم يكن للناس رئيس و إمام (الرئيس و الإمام الذي ذكر الله أوصافه و أمر باتّباعه) لا نفرط نظام الامّة؛ و يجب على الامّة أن تطيع الإمام احتراماً و تقديساً لمقام الإمامة، لأنَّه إذا لم يقدّس مقام الإمام فلا فائدة للُامّة من الإمامة، و سيكون نظامها الذي هو الإمامة من دون فائدة أيضاً.

  • و إنَّما تؤثّر الإمامة و تجسِّد لمفهومها مصداقاً و تأخذ مكانها و تصل إلى النتيجة المطلوبة، عند ما يكون جميع أبناء الامّة مطيعين للإمام.

  • فإذا أطاعوا الإمام، فعندها تمسك الإمامة بنظام الامّة و توصلها على أساس ذلك النظام إلى مصالحها الحقيقيّة و كمالها المطلوب.

  • نقلنا الرواية عن «نهج البلاغة» طبقاً لنسخ النهج المتعارفة الموجودة بأيدينا و بما أمكننا مراجعته، و ربّما كانت عبارة وَ الأمَانَاتِ نِظَاماً لِلُامَّةِ موجودة في جميع النسخ. فأصل عبارة الإمام في صدر الرواية هو قوله: فَرَضَ اللهُ الإيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ ... ثمّ قام ببيان فلسفة جعل و تشريع‌

    1. «نهج البلاغة» قسم الحِكَم، الحكمة ٢٥٢؛ و من طبعة مصر بتعليقة الشيخ محمّد عبده، ج ٢، ص ۱٩۱. و قد ضبطها بهذه العبارة: وَ الأمَانَاتِ نِظَاماً لِلُامَّةِ وَ الطَّاعَةَ تَعْظِيماً لِلإمَامَةِ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

215
  • الصلاة و الزكاة و الجهاد و غيرها واحداً واحداً إلى أن قال: وَ الأمَانَاتِ نِظَاماً لِلُامَّةِ؛ أي جعل الأمانات لنظام الامّة، و عدَّ الإطاعة و الانصياع أيضاً تقديساً لمقام الإمامة. هذا ما وجد في النسخ المتعارفة و المتداولة بين الأيادي.

  • لكن قال لي ذات يوم المرحوم العالم الجليل الحاجّ السيّد جواد المصطفويّ رحمة الله عليه، مؤلّف كتاب «الكاشف عن ألفاظ نهج البلاغة»- و الحقّ يقال: إنَّ هذا الكتاب المؤلَّف من الخدمات الكبرى لـ «نهج البلاغة» و هو كتاب نفيس جدّاً-: جاء في بعض النسخ الخطّيّة لـ «نهج البلاغة» بدلًا من‌ (وَ الأمَانَاتِ) عبارة: (وَ الإمَامَةَ نِظَاماً لِلُامَّةِ)؛ و هذه العبارة هي أفضل، سواء من ناحية الطبع و السياق أم من ناحية المعني.

  • و عند ما راجعنا فيما بعد النسخ المختلفة لـ «نهج البلاغة» اتّضح أنَّه إضافة إلى النسخ الخطّيّة التي ذكرها، فقد جاءت هذه العبارة في «شرح نهج البلاغة» للملّا فتح الله، و في الجزء الحادي و العشرين من «شرح نهج البلاغة» للخوئيّ بلفظ «وَ الإمَامَةَ» و هذا أيضاً صحيح، و سياقه واضح جدّاً. و يريد الإمام أن يقول: إنَّ الله تعالى قد جعل الإمامة نظاماً للُامّة، و إطاعة الامّة تعظيماً لمقام الإمامة.

  • تفسير آية: {وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً}

  • و ينقل أبو الفداء الدمشقيّ في الجزء الثالث من تفسيره المعروف ب- «تفسير ابن كثير» في تفسير الآية ۸۰، من السورة ۱۷: الإسراء: {وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً،} السلطان يعني القدرة (القدرة النفسيّة)، أي انصرني بقدرة الجدارة و الصلاحيّة لأتمكّن من تنفيذ أوامرك. و تمام الآية: {وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً.}۱

    1. الآية ۸۰، من السورة ۱۷: الإسراء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

216
  • لقد أعطيتني مقام النبوّة لكنّي ضعيف و ليس لي معين و لا نصير، فلا حكومة لي و لا سلاح و ليس هناك من يسمع كلامي و لا من يضمن تنفيذ نبوّتي و عَلَيَّ أن أستمرّ في الدعوة بشكل دائم، و يستمرّ المشركون في عنادهم و تعدّيهم أيضاً دون أن تترتّب فائدة على ما أقوم به من دعوة و تبليغ، و لا يتمّ العمل بمجرّد الإرشاد و التبليغ، فهؤلاء يزدادون في شدّة و عصبيّة يوماً بعد يوم، و ليس للإسلام موضع قدم في الدنيا أصلًا.

  • فلا بدّ من وجود السيف، و أن يكون ثمّة سوط لأتمكّن من تطويع المتمرّدين و المعتدين.

  • إنَّ حرّيّة المتمرّد و المتجاوز حجر عثرة أمام حرّيّة البريئين و المظلومين. و هذا ما سمح لأبو سفيان و جماعته و أعوانه و أتباع مسلكه، أن يُلجئوا أمثال سلمان و أبي ذرّ للتواري في الصحاري، و أن يحتجزوا خَبَّاب بن الأرَت و أمثاله عراة الأبدان على رمال صحاري الحجاز، و حجارته اللّاهبة، و يقومون بتعذيبهم و إحداث جراح في أبدانهم، و يضعون الملح على جروحهم بشكل أثّر في أبدانهم بشكل عجيب، حتّى جي‌ء بخبّاب بن الأرت إلى عمر بعد مدّة طويلة، فطلب منه أن يُريه مواضع التعذيب، و عند ما كشف خبّاب عن بدنه و أراه ظهره، بهت عمر لرؤية آثار التعذيب!

  • طلب النبيّ صلّى الله عليه و آله من الله أن يعطيه الحكومة ليتمكّن من تطبيق هذا الدين و القانون الإلهيّين بين الناس بواسطته.

  • رواية قتادة في تفسير: {وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً}

  • يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية؛ قال قتادة:

  • إنَّ نَبيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ، عَلِمَ أنْ لَا طاقَةَ لَهُ بِهَذا الأمْرِ إلَّا بِسُلْطانٍ؛ فَسَألَ سُلْطاناً نَصيراً لِكِتابِ اللهِ وَ لِحُدودِ اللهِ وَ لِفَرائِضِ اللهِ وَ لإقامَةِ دينِ اللهِ. فَإنَّ السُّلْطانَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ؛ جَعَلَهُ بَينَ أظْهُرِ عِبادِهِ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

217
  • وَ لَوْ لا ذَلِكَ لأغارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلأكَلَ شَديدُهُمْ ضَعيفَهُمْ.

  • أي قد علم النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أن لا طاقة له على تنفيذ أمر النبوّة و إبلاغ الرسالة إلّا بسلطان و قدرة من الله، و من خلال حكومة و نظام يحصل عليهما من الله عزّ و جلّ (السلطان بمعني القدرة، لا بمعني الملك و التسلّط). {وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً}، يعني قُدْرَةً و ابَّهَةً. أي السلطان الذي ينصرني و يعينني في هذا الطريق الذي يمكن نشر دين الله من خلاله.

  • كان النبيّ على يقين قاطع من إتيانه السلطة و القدرة من الله، و لذا طلب منه تعالى سلطاناً نصيراً. أي سلطاناً يكون منصوراً لا يُهزَم، و قوّة لا تتراجع، و إرادة و اهتماماً و ولاية تكون بارزة و قاهرة للكفّار و المعاندين، لتطبيق كتاب الله في الواقع الخارجيّ.

  • فلو لم يكن هذا السلطان موجوداً لما أمكن تنفيذ الحدود الإلهيّة، و قد طلب النبيّ هذا السلطان لأجل فرائض الله، و لأجل إقامة دين الله، لأنَّ القدرة الإلهيّة و لسلطان الممنوح من الله و الذي يسمح للإنسان بتأسيس الحكومة هو رحمة من الله، إذ أنزل هذا السلطان بين الناس لكي يطبّق النبيّ الأحكام الإلهيّة التي هي حقّ بينهم. و لو لم يتحقّق ذلك لأغار بعض الناس على بعض، و لأكل قويّهم ضعيفهم، و أغنياؤهم فقراءهم.

  • ثمّ يقول بعد ذلك:

  • وَ اختارَ ابنُ جَرير قَوْلَ الحَسَنِ وَ قُتادَةِ وَ هُوَ الأرْجَحُ؛ لأنَّهُ لا بُدَّ مَعَ الحَقِّ مِنْ قَهْرٍ لِمَنْ عاداهُ وَ ناوَأهُ.

  • وَ لِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى‌: { أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

218
  • عَزِيزٌ}.۱

  • يقول الله تعالى: لقد أرسلنا أنبياءنا بالبيّنات (المعجزات و البراهين و الحجج القاطعة و الأدلّة الساطعة) إلى الناس، و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان لكي يقوم الناس بالقسط، و يعملوا بالعدالة فيما بينهم، فلا يستبيحوا ظلم بعضهم البعض، و لا يأكلوا حقوق بعضهم، و لا يعتدوا على أعراض و أموال بعضهم. و الخلاصة، لكي يتحقّق قيام معنويّ و قيام مادّيّ بالقسط و العدل من جميع الجهات بين الناس، و يتعامل الناس فيما بينهم على أساس العدل.

  • ثمّ يقول بعد ذلك:  و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ، كما أنَّ فيه منافع للناس أيضاً. و لأجل أن يمتحن الله و يميّز الذين ينصرونه تحت راية النبيّ بهذا الحديد.

  • من فوائد نزول الحديد (أي إيجاده و السماح بالتعامل به) بين الناس هي قيام الناس بالحقّ، بأن يصنعوا السيوف و الرماح و السهام و يحملونها و ينهضوا لنصرة و مساعدة الأنبياء، و يقاتلوا تحت رايتهم ضدّ المعاندين ليقضوا على المعتدين و يجتثّوا الغدد السرطانيّة التي تصيب كلّ المجتمع. فهذه فائدة الحديد.

  • و لم نرسل من نبيّ إلّا و أرسلنا معه ربّيّون، أي أشخاصاً طاهرين و أنقياء و إلهيّين و متربّين على يديه، و مربّين للبشر، يجاهدون في ركابه و يقاتلون الكفّار. هذا كلّه من فوائد الحديد.

  • و الحديد يعني الحكومة، يعني ولاية الفقيه، فإذا أرسل الله نبيّاً إذَن دون أن يكون لديه حديد، فإنَّه يكون قد أرسل نبيّاً من دون ضمانة

    1. الآية ٢٥، من السورة ٥۷: الحديد.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

219
  • للتنفيذ، إلّا أن يقوم بتأسيس الحكومة، و الحكومة تعني الحديد.

  • ثمّ يقول ابن كثير:

  • و فِي الحَدِيثِ: إنَّ اللهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالقُرْآنِ‌ [وَزَعَ يَزَعُ وَ يَزِعَ وَزْعاً فُلاناً وَ بِفُلانٍ: كَفَّهُ وَ مَنَعَهُ‌] أي لَيَمْنَعُ بِالسُّلْطَانِ عَنِ ارْتِكابِ الفَواحِشِ وَ الآثَامِ ما لا يَمْتَنِعُ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ بِالقُرْآنِ وَ ما فيهِ مِنَ الوَعيدِ الأكيدِ وَ التَّهْديدِ الشَّديدِ، وَ هَذا هُوَ الوَاقِعُ.۱

  • أي ما يوجب في القرآن (من آيات جهنّم و العذاب و القيامة و عاقبة الأعمال) ما لم يكن هناك سلطان، و لم تُطبَّق تلك الآيات بين الناس، فإنَّ الناس لم يصلوا بأنفسهم إلى تلك الدرجة من العقل و الدراية لكي يلتفتوا إلى القرآن و يعملوا به ليصلوا إلى الحقيقة و الواقع. فهم يحتاجون إلى السلطان ليؤدِّب من يرتكب مخالفة أو جناية، وفقاً لآيات القرآن و يُقيم عليه الحدّ الإلهيّ.

  • فضمان تطبيق القرآن هو ولاية القرآن، و ضمان تطبيق القرآن هو هو نبوّة القرآن، و ضمان تطبيق القرآن هو إمامة القرآن. فحقيقة روح رسول الله صلّى الله عليه و آله تلك التي هي سلطنته، و حقيقة روح أمير المؤمنين عليه السلام، و في كلّ زمان حجّة ذلك العصر إلى صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه، و ولاية الفقيه في ظلّ ولاية صاحب الزمان عليه السلام لمن يتمكّن من تطبيق القرآن بين الناس، و إلّا لألقي الناسُ- لو تركوا و أنفسهم- القرآنَ جانباً و لم يعملوا به، و كان الكثير من الناس لا يأبهون به.

    1. «تفسير ابن كثير» ج ٤، ص ٣٤٢، ذيل الآية ۸۰، من السورة ۱۷: الإسراء، طبعة دار الفكر، بيروت.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

220
  • بل إنَّ أكثر الناس إن لم يكن ثمّة رادع و مانع و خوف و تهديد خارجيّ ولايتيّ للفقيه لا يأبهون بالقرآن! و إنَّما يكون القرآن عزيزاً و محترماً بين الناس عند ما يمتلك ضمانة التطبيق. و ضمان تنفيذه هو الوليّ الفقيه الذي عُبِّر عنه في هذه الرواية بالسلطان.

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

222
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ الْخامِسُ و الثَّلاثوُن: وَظيفَةُ الوَليّ الفَقيهِ إقامَة العَدْلِ وَ الصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ حِفْظ الحُقُوق الخاصَّة لِلمُسْلِمينَ وَ اهْل الذِّمَّة.

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

224
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • آية: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ}.

  • وظيفة الوليّ الفقيه الجهاد و الامر بالمعروف و النهي عن المنكر

  • إنَّ الحكومات العادلة التي اقيمت و تُقام بين الامم و الشعوب المختلفة في العالم إنَّما تكون على أساس حفظ سنن تلك الامم و الشعوب، و الحفاظ عليهم طبيعيّاً و مادّيّاً. أي أنَّ أفضل حكومة عندهم تلك التي تضمن الأمن الداخليّ، و تحفظ الحدود من اعتداء الأجانب و الأعداء، و تعمل على إعمار البلاد، و سلامة الشعب، و تحافظ على العادات و التقاليد الخاصّة لتلك الامّة؛ و لا تتخطّى أيّ من تلك الحكومات هذه الامور الأربعة. و أمّا حكومة الإسلام التي يتولّاها الوليّ الفقيه فهي لا تتولّى الامور العمرانيّة و الأمن الداخليّ و حفظ الحدود و العادات و التقاليد الاجتماعيّة فحسب، بل هي مسئولة عن توجيه الناس إلى الصلاة، أي عن إقامة الصلاة، و إيتاء الزكاة، أي جمع الزكوات و إيصالها إلي مستحقّيها، و عن‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

225
  • الأمر بالمعروف، أي عن هداية الناس إلى كلّ ما هو معروفاً عند الله و رسوله على ضوء الآيات القرآنيّة، و إبعاد الناس و منعهم عن كلّ ما هو منكر في القرآن الكريم و سنّة الرسول. فهذه من وظائف حكومة الإسلام. و لا يمكن للحكومة الإسلاميّة أن تستقرّ إلّا إذا اهتمّ الحاكم بهذه الامور، و سعي لتحقيق هذا المعني في الامّة الإسلاميّة.

  • جاء في سورة الحجّ قوله تعالى‌:{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ.}۱

  • إنَّ الذين يحملون لواء الحكومة الإسلاميّة و اذن لهم بالحرب و الدفاع و المحافظة على مقدّسات و بيضة الإسلام، هم الذين إذا ما مكّنّاهم في الأرض و آتيناهم القدرة فسيقومون بهذه الامور الأربعة:

  • الأوّل: إقامة الصلاة؛ فلا يكفي كونهم من المصلّين، بل عليهم إقامة الصلاة في البلاد الإسلاميّة، فعليهم الاهتمام ببناء المساجد، و أن لا يتوانوا في ذلك، كأن يقولون: دعوا المساجد الآن، و عليكم ببناء المدارس!

  • بناء المدرسة شي‌ء مطلوب في مكانه، و لكنَّ المسجد هو القاعدة الاولي، و على جميع أفراد المجتمع أن يجتمعوا في المساجد و إعمارها بحشود المصلّين، كما يجب أن تبني في كلّ محلّة مسجد كبير تقام فيه الصلوات الخمس في المسجد الجامع. و أساساً، لا معني لتأسيس ولاية الفقيه من دون إقامة صلاة الجماعة من قبل شخص الوليّ الفقيه.

  • اهتمّ جميع الخلفاء الذين جاءوا بعد النبيّ اهتماماً بالغاً بإقامة الصلاة في أوقاتها. و حتّى خلفاء الجور فقد كانوا يتركون أهمّ أعمالهم و يذهبون‌

    1. الآية ٤۱، من السورة ٢٢: الحجّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

226
  • إلى المسجد الجامع عند حلول وقت الصلاة، فيقيمون الصلاة ثمّ يعودون إلى وظائفهم.

  • فإقامة الصلاة في المجتمع الإسلاميّ و حثّ الناس عليها و ضروريّاتها من أوّليّات حكومة الوليّ الفقيه.

  • و الثاني: آتَوُا الزَّكاةَ؛ فيجمعون الزكاة و يؤدّونها إلى المستحقّين من المساكين و الفقراء و أصحاب الديون العاجزين عن أدائها {لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ‌}۱، و إيصالها بشكل عامّ إلى الأصناف الثمانية التي ذكرت في القرآن.

  • و الثالث: الأمر بالمعروف؛ بشكل ينتشر فيه المعروف على جميع المستويات العامّة في البلاد.

  • و الرابع: النهي عن المنكر؛ إلى أن لا يبقي له أثر.

  • فجميع هذه الامور من الوظائف الأساسيّة للوليّ الفقيه.

  • {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى‌ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.٢

  • فالله تعالى يدافع عن الذين آمنوا من مكر و خداع العدوّ و ما يتعرّضون له من تعذيب و ظلم، و مِن كلّ مَن يحمل نوايا سوء و خيانة

    1. قسم من الآية ٦۰، من السورة ٩: التوبة
    2. الآيات ٣۸ إلى ٤۰، من السورة ٢٢: الحجّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

227
  • تجاههم و يقصد التظلم و التعدّي على هذا الحريم المقدّس للعترة الإلهيّة المبنيّة على أساس التقوي و الصدق و العصمة و العدالة و الإيمان و الإيقان، و الله تعالى لا يحبّ كلّ خوّان كفور.

  • و لقد اذن للذين يقاتلهم المشركين و الكفّار، و يعتدون عليهم و يهاجمونهم، بحمل السلاح و مقاتلة المعتدين و الدفاع عن حقّهم (ضدّ الظلم الذي قد حلّ بهم).

  • {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، أي، و بما أنّهم مقاتَلين، صاروا مَظْلومينَ مَقْهورينَ؛ فيجب أن يحملوا السلاح و يدافعوا عن حقّهم، و يجب الوقوف ضدّ كلّ خوّان و كفور ممّن لا يبالى بالإسلام و يحارب المؤمنين و يهتك حقوقهم و يظلمهم و مقابلته بالمثل، كما من الواجب و اللازم عليهم أن يشكّلوا محوراً على أساس الحكومة و استقرار الولاية ليتمكّنوا من الدفاع و الهجوم على ذلك الأساس، و أنَّ الله على نصرهم لقدير.

  • إنَّ هؤلاء و إن كانوا قليلين إلى درجة يمكن إحصاؤهم في مدّة قصيرة، لكنّهم على الحقّ و تعلّقت نيّاتهم و إراداتهم بالثبات و الواقعيّة، و الله زاد تلك الإرادة و النوايا قوّة و رشداً و نصرهم، و هو على نصرهم لقدير.

  • فعلى هذه الجماعة إذاً و بمقتضى الإذن الإلهيّ أن تذهب و تدافع عن حقّها، لكونها من اناس قد أخرجهم العدوّ بلا حقّ من بيوتهم و أرضهم و بلادهم و ديارهم، و أبعدهم عن مكّة من دون أيّ ذنب. و كان ذنبهم الوحيد أنَّهم قالوا: رَبُّنَا اللهُ. و بما أنَّهم عصوا و تمرّدوا على عبادة الآلهة المتعدّدة، و تخلّوا عن طاعة أرباب الدنيا و الشرك بالله و إطاعة الكبراء، و أقرّوا بإطاعة الله عزّ و جلّ وحده، فقد صاروا عرضة للظلم و قهر العدوّ، و كان هذا أكبر ذنب لهم ليخرجوهم من بيوتهم و بلادهم و يضطرّونهم‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

228
  • للّجوء إلى الصحاري و الهجرة إلى المدينة على شكل أقلّيّة.

  • و ليس إذْن القتال الذي نعطيه لهؤلاء الناس ليحفظوا به أرواحهم فحسب، بل لحفظ ناموس الإسلام، و شرف القرآن، و شرف مسجد و روح رسول الله.

  • لأنَّه إن لم يأذن الله و لم يدفع الناس بعضهم ببعض (أي الكفّار بالمؤمنين) فستزول و تدمّر جميع المعابد الموجّهة لعالَم المعني و الروحانيّة بأيّ صورة و كيفيّة كانت (سواء كانت بشكل صومعة أم كنيسة و دير أم مساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً) و لا يبقي في العالم ثمّة مسجد أو كنيسة.

  • فإنَّما يُعطي الإذن بالقتال للحكومة الإسلاميّة لحفظ و إقامة المساجد، و سينصرها الله تعالى يقيناً، و الله يتعهّد نصرة مَن ينصره؛ و الله قويّ عزيز، أي أنَّه صاحب قدرة و عزّة معاً، و لا يحلّ فيه فتور أو انكسار أو ثلمة.

  • و الذين اذِنَ لهم بالذهاب و قتال الظالمين لحفظ بيضة الإسلام و الحكومة التي أسّسها الوليّ الفقيه هم اناس: {إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ}. فقد جاءت هذه الآية كتفسير و بيان لُاولئك الأفراد، و قد ذكرتهم بهذه الصفات الأربعة: فإنَّهم إن تمكّنوا في الأرض و استلموا الحكم، لا يتّجهون إلى العمران الظاهريّ- الذي هو جهة مشتركة بين جميع ملل الشرك و الكفر و الإسلام- فقط، لأنَّ هذا الجانب مشترك و لا يوجب مزيّة للإسلام على سائر الأديان. و إنَّما يعتقدون أنَّ ما يوجب المزيّة لحكومة الإسلام على سائر الأديان و الذي يجعل الإسلام إسلاماً هو: أنَّ على الوليّ الفقيه إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في جميع بلاد الإسلام على سعتها و تراميها.

  • إنَّ إرسال الانبياء لإخراج الناس من نير الظالمين‌

  • وردت رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام تُبيِّن علّة بعثة الأنبياء

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

229
  • و علّة بعثة خصوص النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم.

  • كانت بعثة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لأجل دعوة الناس إلى الله فقط، و إخراجهم من العهود الجاهليّة و طاعة العتاة و العصاة من أهل الظلم و الجور، و الخروج بهم من طاعة الأرباب المتنوّعة الذين يستعبدون الناس و يستغلّونهم في الأرض و يدعونهم إلى عبوديّتهم. فلقد بُعث النبيّ صلّى الله عليه و آله ليمسك بعنان الناس الذين كانوا في حالة طاعة للعباد، و يعيدهم إلى إطاعة الله مع جميع ما يستلزمه ذلك من لوازم و آثار.

  • و كلام أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة التي ذكرها عند ما كان متوجّهاً إلى صفّين في منطقة ذي قار، هو:

  • أمَّا بَعْدُ: فَإنَّ اللهَ تَبارَكَ وَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِالحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ عِبَادِهِ إلَى عِبَادَتِهِ؛ وَ مِنْ عُهُودِ عِبَادِهِ إلَى عُهُودِهِ؛ و مِنْ طَاعَةِ عِبَادِهِ إلَى طَاعَتِهِ؛ وَ مِنْ ولَايَةِ عِبَادِهِ إلَى وِلَايَتِهِ؛ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ دَاعِياً إلَى اللهِ بِإذْنِهِ وَ سِرَاجاً مُنِيراً.۱

  • لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ عِبَادِهِ إلَى عِبَادَتِهِ. «اللام» هنا للتعليل، فعلّة بعثة محمّد صلّى الله عليه و آله بالحقّ هي أن يخرج الله عباده من عبادة عباده إلى عبادته؛ فكلّ من يحني رأسه لغير الحقّ فقد عظّم الشرك و عبادة الأصنام و الثنويّة و الوثنيّة. و كلّ من أطاع عبداً أو شخصاً أو رئيساً أو ملكاً حاكماً غير الله فقد توجّه بقلبه إلى عالم الاعتبار و الوهم و الشرك و الثنويّة و الظلم؛ و {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.٢

    1. «روضة الكافي» ص ٣۸٦، حديث ٥۸٦، تصحيح و تعليق على أكبر الغفاريّ، طبعة الحيدريّ.
    2. ذيل الآية ۱٣، من السورة ٣۱: لقمان.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

230
  • فمن عَبَدَ أحدَ عباد الله و توجّه بقلبه إليه فقد خرج من عالم التوحيد. لقد جاء النبيّ ليخرج القلوب من عبادة عباد الله و يسوقها إلى عبادة الله و يأمرها بذلك (العبادة في مرحلة الطاعة و في مرحلة العمل معاً). و لذا يقول عليه السلام بعد ذلك: وَ مِنْ عُهُودِ عِبَادِهِ إلَى عُهُودِهِ؛ ليخرجها من عهود الناس و يدخلها في عهود الله. أي يحلّل الناس من جميع التعهّدات و الاتفاقيّات التي عقدها عباد الله مع غير الله، التي أسرتهم عبيداً أو جعلتهم خدماً أو غلماناً لهم، و يعدّونهم آمرين و مسيطرين عليهم، و يعدّون أنفسهم مأمورين و أذلّاء و مساكين؛ و لإزالة الآلهة الكاذبة و إحلال الإله الحقيقيّ و الواقعيّ مكانهم.

  • أ لم يكونوا يقولون للشاه الظالم و الجبّار في زمان الطاغوت: الربّ المعظَّم، فقد كانوا في المحاكم العسكريّة التي يشكّلونها يشرعون عملهم بعبارة: باسم الربّ المعظَّم و ملك الملوك! و من العجيب أن يدور في هذه الأيّام الكلام باسم ملك الملوك و الربّ المعظَّم بعد مضي ألف و أربعمائة سنة، و مع وجود تعاليم كهذه عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و تلك التوجيهات عن أمير المؤمنين عليه السلام و جميع هذه الخطب و التنبيهات. فهذا أمر عجيب جدّاً، إذ ما إن يغفل الإنسان عن الله شيئاً ما، حتّى يرجع إلى عناوين الفرعونيّة و النمروديّة و الشيطانيّة تلك.

  • هذه هي المسائل التي ظهرت للناس بالشكل الأعلى و الأتمّ، مع أنَّ هؤلاء المساكين الذين فتحوا أبواب المدنيّة الكبير للشعوب، قد ذهبوا و أسيادهم جميعاً إلى جهنّم، و أصبح مفاد الآية القرآنيّة: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ}‌۱ بيّناً واضحاً.

    1. ذيل الآية ۷٣، من السورة ٢٢: الحجّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

231
  • كانت جميع الجهود التي بذلها النبيّ و أولياء الله و المجاهدون في سبيل الله و خطب أمير المؤمنين عليه السلام من أجل أن يقولوا للإنسان: أيّها الإنسان! لما ذا خرجت عن الطاعة و العهد و الميثاق الذي أمضيته و خضعت أمام هؤلاء الاعتباريّين الذين يتوهّمون أنفسهم آلهة، و يحسبون أنفسهم آمرين و ناهين، و يسحقون البلاد تحت أقدامهم.

  • اعلم أنَّ هؤلاء جميعاً مساكين و ضعفاء و أشقياء و مبتلون، فهم ليسوا حتّى مثلك من هذه الناحية، بل أدني منك بألف درجة، لأنَّك تمتلك في بعض الأوقات توفيق قول يا الله، بينما اغلقت قلوب اولئك المساكين إلى درجة أنَّهم لا يستطيعون قول كلمة يا الله و لو لمرّة واحدة؛ فما الداعي لاتّباعهم إذَن؟

  • لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ عِبَادِهِ إلَى عِبَادَتِهِ؛ وَ مِنْ عُهُودِ عِبَادِهِ إلَى عُهُودِهِ؛ وَ مِنْ طَاعَةِ عِبَادِهِ إلَى طَاعَتِهِ.

  • فالله تعالى أرسل النبيّ ليخرج جميع عباده (لا اولئك الذين هم في مكّة و المدينة فحسب، و إنَّما كلّ من يصدق عليه عنوان‌ العبد في جميع أنحاء العالم، و كلّ إنسان في الشرق و الغرب يطلق عليه اسم العبد و يعتبر من عباد الله) ليخرجهم من طاعة العباد الآخرين و إدخالهم في طاعة الله تعالى.

  • وَ مِنْ وِلَايَةِ عِبَادِهِ إلَى وِلَايَتِهِ. و من ولاية عباده (أي من تحت إشرافهم و سيطرتهم و قدرتهم و قربهم المعنويّ و هيمنتهم و حراستهم و تصرّفهم و إرادتهم) ليخرجوهم من ولاية عباد مثلهم و يقولوا لهم أن لا وليّ للإنسان غير الله: {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ‌}۱. إن‌ {الْعِزَّةَ لِلَّهِ}٢.{اللَّهُ وَلِيُ}‌

    1. صدر الآية ٤٤، من السورة ۱۸: الكهف.
    2. قسم من الآية ۱٣٩، من السورة ٤: النساء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

232
  • {الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}‌۱. فالذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات باستمرار. و لازم الظلمة التعفّن و القذارة و الخباثة، أمّا لازم النور فالبهجة و الفرح و السرور و البصيرة.

  • و سيمتلك العباد الذين يخرجون من الظلمات إلى النور و يدخلون تحت ولاية الله سعة الصدر و قوة الإرادة، و ثبات النيّة، و متانة الاختيار، بحيث لا تتزلزل قلوبهم حتّى لو اضطرب جميع العالم و تغيّر.

  • فوظيفة النبيّ إذاً هي أن يربّي من الناس أشخاصاً كهؤلاء. فتأسيس حكومة النبيّ و بعثته كانتا لإدخال الناس جميعاً في عبادة الله و إخراجهم من عبادة سائر العباد إلى عبادة الله، و من عهود سائر العباد إلى عهد الله، و من طاعة سائر العباد إلي طاعة الله، و من ولاية سائر العباد إلى ولاية الله تعالي.

  • و إذا كانت وظيفة النبيّ هكذا، فستكون وظيفة الذين تسلّطوا على المسلمين، بعنوان الرئاسة و الإمارة و الحكومة و ساروا على أساس ولاية النبيّ، كذلك أيضاً.

  • فالاكتفاء بالعمران الظاهريّ و إنقاذ الناس من الأزمات المعيشيّة لا يكفي وحده لحلّ مشاكلهم، فحتّى يعيش جميع أبناء المجتمع في مستوي واحد من الطمأنينة الفكريّة؛ على الوليّ الفقيه أن يهتمّ بدعوة الناس إلى الله جماعة و أفراداً، فيقود الجميع باطنيّاً إلى الله سواء في تجمّعات و أنظمة المساجد أو فرداً فرداً، و يعرّفهم بالله و يجعلهم من الملتزمين بالمواثيق الإلهيّة. و باختصار، يكون لهم قائداً و موجّهاً في طريق الله فرداً

    1. صدر الآية ٢٥۷، من السورة ٢: البقرة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

233
  • فرداً. و هذه وظيفة إلهيّة قد عيّنها و أقرّها الله لهم.

  • و هذا هو معني العدالة الوارد في كثير من آيات القرآن الذي يعني: أنَّ النبيّ قد جاء ليعمل بين الناس بالعدل. فالعدالة تعني إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، و حقّ حياة الشخص المسلم هو أن يجد الطريق إلى ربّه، و ألّا يغلق طريقه بمرور الأيّام، و أن ترفع الموانع المعيقة لتقدّمه و تكامله، و تهيّأ له وسائل و شرائط الوصول إلى الكمال الفرديّ ليصل إلى الكمال المطلوب (و ليس في الامور الاجتماعيّة و السياسيّة فحسب، بل في حركته الفرديّة نحو الله أيضاً).

  • فيكون الوليّ الفقيه قد أدّى واجبه و مسئوليّته تجاه الامّة عند ما يحقّق هذا المعني، و إلّا فسوف يُحاسب أمام الله سبحانه بسبب تقصيره في إقامة العدالة.

  • مفاد آية: {وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}‌

  • قال الله تعالى في الآية التي ذكرت في البحث الماضي:{ فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}‌۱.

  • العدل معناه أن يصل جميع أفراد المجتمع إلى حقوقهم، فيجب أن يصل جميع المسلمين إلى حقوقهم. و المسلم هو الشخص الذي أسلم و هاجر إلى بلاد الإسلام و كان يعيش في دائرة و حكومة و ولاية الإسلام، فهكذا إنسان هو من أبناء البلاد الإسلاميّة، و على الوليّ الفقيه أن يتعامل معه على أساس العدالة.

  • لا يوجد في القوانين الوضعيّة الحاليّة و المعروفة باسم قوانين حقوق البشر و أمثال ذلك، لا يوجد أيّ قانون يجعل لعنوان المذهب أصالة

    1. صدر الآية ۱٥، من السورة ٤٢: الشوري.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

234
  • و مركزيّة، و كتّاب تلك القوانين يطلقون قوانينهم لتشمل جميع أفراد البشر بشكل متساو بما يمكن لأيّ إنسان من أيّ جنس كان أن يتزوّج من أيّ جنس أراد، بغضّ النظر عن الدين و المذهب.

  • و لا فرق في هذا الحقّ بين الرجل و المرأة، فلكلّ منهما أن يتزوّج بمن يرغب من جنسه أو من الأجناس الاخرى.

  • و في الواقع لا يمكن تسمية هذا تساوياً في الحقوق، لأنَّه إذا عملنا على أساس التساوي، فإنَّ الظلم سيكون في بعض الموارد.

  • فمثلًا، لو أردنا أن نأمر شابّاً بطلًا و شيخاً فانياً و طفلًا في العاشرة من العمر بأن يرفع كلّ منهم جسماً وزنه مائة كيلوغرام عن الأرض بشكل متساوٍ، فالتعامل معهم هنا بالتساوي يكون ظلماً محظاً بالنسبة لهم؛ أمّا لو قمنا بهذا الحكم تجاه ثلاثة من الشباب المتساوين أو المتقاربين من ناحية القدرة، فسيكون ذلك الحكم على أساس العدل.

  • و كذلك فالحكم بتساوي الحقوق بين الأشخاص المختلفين من ناحية حضور الذهن و التمكّن و الاستعداد هو عين الظلم. و عليه، فنفس كلام اولئك الذين يقولون إنَّ المساواة عين العدل في أيّ موضع كانت هو الظلم بعينه، لأنَّ العدل عبارة عن إعطاء كلّ شخص حقّه على أساس الاستعداد و القدرة و السعة الوجوديّة لذلك الشخص، لا فرض الحكم بشكل متساوٍ على الجميع.

  • فالتساوي بهذا المعني الذي يذكرونه هو عين الظلم. و لا يوجد- أساساً- في عالم الطبيعة و التكوين تساوٍ بهذا النحو (بأن يوجد بين الموجودات الخارجيّة موجود مساوٍ لجميع الموجودات في الحقوق من جميع الجهات).

  • فلو وضعنا لقمة من الطعام الدسم و الحلو في فم الطفل الرضيع- الذي‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

235
  • يحتاج في تغذيته إلى حليب الامّ (لأنَّه لا يمتلك أسناناً لمضغ الطعام)- فإنَّ تلك اللقمة ستقتله فوراً من دون شكّ؛ كما أنَّه لو أعطينا طعاماً عاديّاً للمريض الراقد في المستشفي و الذي قد منعه الطبيب من تناول الأطعمة العاديّة و المتعارفة، فإنَّه سوف يموت على الفور؛ بينما لا إشكال في إعطاء تلك الأطعمة الثقيلة للكبير الذي يستطيع أن يهضمها.

  • و عليه، فالمساواة في إعطاء الطعام في جميع الموارد، و في الأمر و النهي، و في تحمّل المشاكل؛ و كذلك المساواة في الفهم و العلم بالنسبة لجميع الموارد و المصاديق هو ظلم محض. و هي من المسائل غير المعقولة بلحاظ الوجدان و العقل و الشرع.

  • عدم تساوي الحقوق بين المسلمين و أهل الذمّة في دولة الإسلام‌

  • و في النظام الإسلاميّ، يمتلك الذين آمنوا بالنبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و اعتقدوا بشكل كامل بالقرآن و الإسلام قلبيّاً أحكاماً خاصّة، إذ إنَّهم قد التزموا بأن يحملوا على كواهلهم عب‌ء دولة الإسلام الثقيل، و أن يضحّوا و يجاهدوا في سبيل حفظ النظام، فهم جزء من جسم حكومة الإسلام، و قد وضع لهم الإسلام سلسلة من الأحكام الخاصّة بهم تتميّز عن غيرها بالشدّة.

  • و أمّا غير المسلمين (اليهود و النصارى و المجوس) الذين لا يؤمنون أصلًا برسول الله و بدين الإسلام و القرآن، و لكنّهم لجئوا إلى البلد الإسلاميّ لتمضية حياتهم، و انضمّوا بصفة أهل ذمّة تحت لواء ذلك الدين الذي لا يرتضونه أساساً، و لهم أحكام و قوانين خاصّة بهم، فمثل هؤلاء لا يمكن المساواة بينهم و بين المسلمين في المسئوليّة في جميع الأحكام السياسيّة و الاجتماعيّة.

  • يقوم نظام الإسلام على أساس الفكر و العمل، و يبني حكومته على هذا الأساس. و عليه، فينقسم القاطنون في البلاد الإسلاميّة إلي طائفتين‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

236
  • مختلفتين:

  • الطائفة الاولي: الناس المعتقدون بالنظام الإسلاميّ و يُعِدُّون أنفسهم لأيّ نوع من الجهاد البدنيّ أو الماليّ و المادّيّ أو النفسيّ من أجل استقلال هذا النظام. و هم المسلمون الذين هاجروا إلى هذه البلاد و صاروا من أبناء البلاد الإسلاميّة (بناء على هذا، فالذين اختاروا الإسلام لكنّهم لم يهاجروا من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لا يُعَدُّون من أبناء البلاد الإسلاميّة)، و تلك الجماعة من الناس المؤمنين و الملتزمين الذين يعيشون في دار الإسلام (سواء كانوا قد ولدوا هناك أم في بلاد الكفر و من ثمّ هاجروا إلى مقرّ الحكومة الإسلاميّة) متساوون مع جميع المسلمين في الحقوق، و تربطهم رابطة الولاء.

  • و يضع الإسلام على عاتق هذه المجموعة من السكّان جميع المسئوليّات الصعبة اللازم علاجها من أجل استقرار و ثبات النظام، لأنَّهم آمنوا و أقرّوا بحقّانيّة النظام، و مستعدّون للبذل و العطاء علماً و عملًا من أجل استقراره و حفظه.

  • و لذا، فالنظام الإسلاميّ يطبّق جميع بنود القانون عليهم و يلزمهم بإطاعة كلّ التشريعات الدينيّة و الأخلاقيّة و السياسيّة و المدنيّة للدولة، و بكلّ شكل من أشكال التضحية في سبيلها، كما يمنحهم حقّ الاشتراك في جميع الشئون الولايتيّة و السياسيّة للناس القائمة على أساس الصلات و التعهّدات الواقعيّة، كمجالات مجلس الشوري، و المديريّات الاجتماعيّة، و القضاء، و الحكومة، و الجهاد، و بالسير طولًا في نهج و سياسة الحكومة الإسلاميّة و نهجها الفكريّ مع ولاية الفقيه في رفع لواء الإسلام و إقامة أحكام القرآن.

  • لا يوجد مبدأ كالإسلام في محافظته على حقوق الاقلّيّات‌

  • و الطائفة الثانية: أهل الذمّة؛ كاليهود و المسيحيّين و الزرادشتيّين‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

237
  • الذين كان لهم كتاب و يعتقدون بالله، لكنّهم لا يرتضون النظام الإسلاميّ، و ارتضوا البقاء تحت لواء و راية الإسلام مع إطاعة قوانينه (سواء ممّن ولدوا في البلاد الإسلاميّة أم ممّن جاءوا من خارج البلاد الإسلاميّة و طلبوا العيش في ذمّة الإسلام و تحت ظلّ رايته).

  • فالإسلام يتعهّد لهذه الجماعة من الطوائف غير المسلمة بحفظ أرواحهم و أموالهم و أعراضهم و دينهم و ثقافتهم و آدابهم، مع تطبيق القوانين الداخليّة للبلاد عليهم، و يثبّت لهم بعض الحقوق، و السماح بحرّيّة المشاركة في جميع الشئون التجاريّة و الزراعيّة و الصناعيّة و الخدماتيّة في الدولة، ما عدا المراكز الولايتيّة و الرئاسيّة؛ كما يمنحهم- كالمسلمين- حرّيّة العمل ضمن أجواء الحضارة و المدنيّة.

  • و يمنعهم كذلك من التجارات المحرّمة و الممنوعة شرعاً التي قد حرّمت على المسلمين. كما يعفيهم من وظيفة الدفاع عن حياض الدولة و الجهاد و حماية الحدود التي هي من الوظائف الصعبة، إذ تختصّ هذه الوظيفة في عهدة المسلمين.

  • و يترك لهم الحرّيّة في الأحكام العباديّة، مع مراعاة عدم بناء الكنائس و البِيَع، و يجعل لهم في أحكام الديات و القصاص و الجروح و القتل و سائر موارد الضرب و التعدّي حقوقاً تتناسب و علاقتهم مع المسلمين.

  • و الإسلام لا يهدر دماءهم و لا يجعلها بلا قيمة، و قد جعل ديتهم مساوية لعشر دية المسلم تقريباً، لأنَّهم يعتقدون بالتوحيد دون النبوّة و خاتميّة النبيّ، بخلاف المشركين الذين لا قيمة لهم أصلًا، و قد عدّ دماءهم مهدورة.

  • و عليه، فوجود فوارق بين هاتين الطبقتين من الناس الذين يعيشون‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

238
  • في البلاد الإسلاميّة، و تقسيمهما إلى مسلم و ذمّيّ من الضروريّات؛ و الاعتراض على هذا الاختلاف و التمييز في الحكم بين طبقتين من سكّان المجتمع الإسلاميّ اعتراض بعيد عن الموضوعيّة، و حاكٍ عن عدم الإنصاف، لأنَّ السائد في جميع الدول و المذاهب الحاليّة في العالم هو أنَّه إذا ما قامت حكومة لأحدهم فإنَّه أوّل ما يبادر به هو القضاء على معارضيه بشكل كامل.

  • و حتّى في الدول الوطنيّة، التي يقال إنّها تتعامل مع الناس بشكل حرّ، فهي و إن كانت تعدهم في بداية الأمر بالمساواة في الحقوق و أمثال ذلك من الوعود المعسولة، لكن ما أن تستلم السلطة حتّى تقضي على معارضيها بمختلف المبرّرات. بل إنَّه لم يُرَ أنَّ حكومة قامت في الدنيا و اكتفت بالقضاء فقط علي (عقائد و أفكار و قناعات و مؤامرات) تلك المذاهب و الأحزاب المعارضة للحكومة و الثورة، بل إنها تقضي على أصل وجودهم جميعاً.

  • و قضيّة التمييز العنصريّ في أمريكا بين السود و البيض أمر مشهور، و مع أنَّه قد اقِرَّ قانون المساواة بين السود و البيض في المجلس، لكنّ القضيّة لم تحلّ لحدّ الآن، و هي ليست قابلة للحلّ أيضاً، و في كلّ يوم تُسفك دماء جديدة، و لا يزال هؤلاء المساكين يتعرّضون يوميّاً لقهر و ظلم و إساءة البيض.

  • يقول سيّد قطب في كتاب «العدالة الاجتماعيّة في الإسلام» ما مفاده: إنَّ الشيوعيّين يقومون بالقضاء دفعة واحدة على المسلمين في معسكراتهم بتقليل عددهم من اثنين و أربعين مليوناً إلى ستّة و عشرين مليوناً خلال ربع قرن فقط، و يحرمونهم من أخذ بطاقات التموين و الامور التي هي من أهمّ ضروريّات الحياة؛ قائلين لهم: إذا أردتم الطعام و احتجتم‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

239
  • إليه فاطلبوا ذلك من الله، فلا طعام لكم عند الدولة.

  • بينما انظروا إلى النهج و القانون العظيم الذي يحمي به الإسلام أهل الكتاب، إذ يقول لهم: بما أنَّكم تقولون و تعتقدون بالله فاعتقادكم هذا بالتوحيد له قيمة؛ و عليه، فلا نعتبركم مثل المشركين و المادّيّين و عبدة الأصنام، بل نعطيكم حقّ الحياة، و بإمكانكم العيش في بلاد الإسلام و في ذمّته و كنفه.

  • و لكن، بما أنَّكم لا تشاركون في تلك الأعمال التي يقوم بها المسلمون بالتضحية بأرواحهم انطلاقاً من عقيدتهم لتثبيت نظام الإسلام (لأنَّكم لستم مسلمين و لستم مقتنعين بنظام الإسلام) فنحن لا نتوقّع منكم تلك الخدمات؛ و لذا، فقد رُفِعَت عنكم امور الحرب و حفظ الحدود و الجهاد و ما شاكلها. و بما أنَّكم تعيشون في كنف حكومة الإسلام فعليكم أن تدفعوا الجزية التي تصرف بدورها في إعمار البلاد و إصلاح المدن و تنظيمها و أمثال ذلك. و هذا أيضاً لأجلكم و لحفظ أرواحكم و أموالكم و أعراضكم في كنف دولة الإسلام. فلا يسمح الإسلام بسرقة بيوتكم، و إذا حصل ذلك فإنَّ دولة الإسلام تقبض على اللصّ و تحاكمه و تعيد إليكم الأموال المسروقة، و في حال سرقة أمتعتكم من أحد المسلمين فستقوم الدولة بقطع إصبعه، نعم سيكون ذلك و إن كان السارق مسلماً و أنتم غير مسلمين.

  • فالإسلام يعمل على مداراتكم في جميع هذه الامور المدنيّة، و لقد ترككم أحراراً في عباداتكم الفرديّة أيضاً، و أنتم تعيشون بكامل الراحة، لكن لم يجوِّز لكم تناول الشراب و لعب القمار و أكل لحم الخنزير، كما لا يمكنكم بناء الكنائس و البِيَع (لأنَّ أساس إقامة الحكومة الإسلاميّة لهداية الناس إلي التوحيد، لا لدعوتهم إلي مراكز الفساد و الفحشاء و الشرك‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

240
  • و الوثنيّة و الثنويّة و العداء للإسلام) و أنَّ دية دمائكم أيضاً قد جُعلت أقلّ من دية المسلمين.

  • أجل؛ فلو قتل أحدكم شخصاً آخر منكم فإنَّه يُعامل بالقانون السائد بينكم، أمّا لو قتل مسلم أحداً منكم فدية دم المقتول التي يجب أن يعطيها المسلم تساوي تقريباً عُشر دية المسلم، و يرجع ذلك لعظمة الإسلام الذي تعيشون في دولته.

  • و قد رأينا بأنفسنا في هذا العهد و التأريخ أنَّ اليهود و المسيحيّين و الزرادشتيّين يعيشون في ذمّة الإسلام براحة بال و اطمئنان على الرغم من جميع الحروب التي وقعت بين المسلمين و الكفّار. و قد اعترف جميع المؤرّخين و منهم المستشرقين أيضاً أنَّ ما قامت به حكومة الإسلام تجاه الأقلّيّات ليس له سابقة في أيّة حكومة. فلو أراد الإنسان و الحالة هذه أن يساوي بين اليهود أو المسيحيّين أو الزرادشتيّين الذين هم في ذمة الإسلام و بين المسلمين لكان هذا ظلماً، و الظلم خطأ و قبيح.

  • و إن كنّا نقول بأنَّهم من أبناء هذه البلاد فهذا لا يعني أنَّهم يشاركون المسلمين في هذه الحقوق.

  • فلا يحقّ للمسيحيّ و اليهوديّ بالزواج من المرأة المسلمة. و على كلّ من يعيش في بلاد الإسلام و في ذمّة الإسلام أن يحمل بطاقة هويّة مميّزة تُظهر أنَّه مثلًا مسيحيّ، لا أن تكون هويّته مثل هويّة المسلمين الذين يعيشون في البلد.

  • فمن الممكن للمسيحيّ أن يُسمّى نفسه إسماعيل أو إبراهيم أو ببعض الأسماء المشتركة، أو الشهرة المشتركة مع المسلمين بنحو لا يُعرف فيه أصلًا كونه مسلماً أو غير مسلم. و من الممكن أن يدخل في دوائر الدولة، و حتّى أن يشغل مراكز حسّاسة مثل رئاسة الوزراء، كما

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

241
  • حصل ذلك في زمان الطاغوت. و كم منعوا من امور؟! و كم أعاقوا من اخرى؟! و السبب في ذلك كلّه أنَّهم كانوا يقولون إنَّ كلّ من يعيش في إيران فهو من أبناء هذا البلد. أي يبتني الأصل على العيش في هذه المنطقة، فاليهوديّ و المسلم و النصرانيّ و المشرك سواء! فليكن المواطن كما يريد، فمن يدخل ضمن هذه الحدود و يعيش في هذا البلد فهو إيرانيّ؛ مع أنَّ هذا منافٍ للنظرة الإسلاميّة مائة في المائة.

  • يعتبر الإسلام العقيدة الإسلاميّة هي الحدود، لكنّه يقول: كلّ من أسلم و هاجر إلى البلاد الإسلاميّة و عاش هناك فهو من أبناء البلد الإسلاميّ. بينما لا يُعَدُّ الذين هم خارج البلاد الإسلاميّة من أبناء البلد الإسلاميّ و إن كانوا مسلمين. و يكون الذين يعيشون ضمن البلد الإسلاميّ دون أن يقتنعوا بالإسلام في ذمّة الإسلام، و تختلف حقوقهم عن حقوق المسلمين، فينبغي أن تكون لديهم بطاقة هويّة ليعرفهم الناس و الدولة، و عليهم أن يدفعوا الجزية للدولة الإسلاميّة. و على الحكم الإسلاميّ في المقابل أيضاً أن يساعدهم و يدعوهم إلى الإسلام و يستميل قلوبهم إليه ليقبلوا الإسلام شيئاً فشيئاً.

  • و إنَّما غالب الذين صاروا مسلمين قد تمّ انتقالهم هذا عن طريق التوعية و الإرشاد التدريجيّ، و من خلال محافظة الدولة عليهم و اهتمامها بهم.

  • حدود الإسلام هي العقيدة، و تراب المسلم محترم‌

  • فحدود الإسلام هي حدوده الشرعيّة و الاعتقاد به فقط. و لذا، فهذه الحدود التي عيّنها الرؤساء غير الملتزمين بالإسلام للبلاد غير صحيحة و جعليّة و اعتباريّة.

  • فحدود الإسلام حيث تقوم حكومة الإسلام، و حيثما تقوم حكومة الإسلام فهناك تكون حدود الإسلام؛ و عندئذٍ، يُعدّ ذلك التراب محترماً

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

242
  • ببركة تلك الحكومة.

  • و عليه، فحدود الإسلام هي العقيدة، و المسلم الذي يكون في غرب العالم يشترك في العقيدة مع المسلم الذي يعيش في شرق العالم، فهما ضمن حدود الإسلام المشتركة واقعاً، و ذاك التراب الذي يعيش فيه ذلك المسلم يكون محترماً ببركة هذه العقيدة.

  • من مسئوليّات الوليّ الفقيه أن يتولّى المحافظة على الحدود الترابيّة للبلاد أيضاً. و أن لا يسمح للدولة المعتدية و المهاجمة بأن تأخذ منه شبراً واحداً، لأنَّ الدولة المعتدية و المهاجمة لا تخرج عن إحدى هاتين الصورتين:

  • فإمّا أن تكون من الدول الإسلاميّة، فيكون مجيئها و احتلالها لأرض المسلمين و إخراجهم من بيوتهم و تخريب وضعهم الحياتيّ تعدّياً، و يجب إرجاع المعتدي إلى حدّه، حتّى لو كان مسلماً، إذ لا يجوز الاعتداء على المسلم، و لذا لو كان المعتدي مسلماً و قد اعتدي على حدود الإسلام، فإنَّ دفعه من أهمّ الضروريّات ۱.

  • و أمّا أن تكون تلك الدولة المعتدية كافرة؛ و عندئذٍ، فوجوب القيام بوجهها و إخراجها من بلاد المسلمين من ضروريّات الإسلام.

  • ۱- في صباح يوم الجمعة ۱٦ رجب سنة ۱٤۰٥ ه-، قال الدكتور السيّد عبد الباقي المدرّس، ابن المرحوم آية الله السيّد حسن المدرّس رضوان الله عليه من إذاعة إيران ما يلي: عند ما سافر المرحوم المدرّس في تلك السنوات إلى خارج البلاد- ذهب إلى البلاد العثمانيّة- قال للسلطان العثمانيّ: إنّنا ندافع عن حدودنا ضدّ أيٍّ كان، سواء كان يضع على رأسه عمامة أم قبّعة أو غير ذلك، فإنّنا نطلق عليه النار، و عندها نأتي إلى جثّته و نري، إن كان مسلماً فإنّنا نصلّي عليه و ندفنه.

  • (نقلًا عن «المذكّرات» الخطّيّة للمؤلّف، رقم ۱۷، ص ٦٣).

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

243
  • و عليه، فيشتبه اولئك الذين يقولون إنَّ الحدود هي حدود العقيدة فقط، و لا يجب الاهتمام بالحدود الترابيّة للإسلام، لأنَّ الحدود الترابيّة محترمة ببركة العقيدة، و على المسلم ألّا يسمح بضياع أرضه حتّى لو كلّفه ذلك بذل نفسه، لأنَّ راية الإسلام إنَّما تخفق في أرضه، و دخول الكفر في بلاد الإسلام هو دخول في حريم الإسلام و دخول في بيته الشخصيّ.

  • و إن قلنا: إنَّ الاعتبار للحدود فقط و لا اعتبار للعقيدة (كما يري ذلك غالب دول العالم في هذه الأيّام من أنَّ كلّ شخص يعيش في حدود ترابيّة معيّنة يعتبر من أهل تلك البلاد مهما كانت عقيدته) فهذا أيضاً غير صحيح. و هذا مناف و مخالف لمنهج الإسلام.

  • فالإسلام يقول: إنَّ عنوان التراب لا قيمة له، و القيمة للعقيدة و هي التي تمنح القيمة للتراب بالتبع، و وفقاً لهذه الفلسفة فالمساواة بين جميع اولئك الذين يعيشون في حدود الحكومة الإسلاميّة و معاملتهم بمستوى واحد من ناحية الحقوق المعنويّة و السياسيّة (من جهة كونهم يعيشون في ذلك التراب) ظلم.

  • فلا يمكن أن تحسب نفس الحقوق و نفس الأحكام من جميع الجهات للمسلم الذي آمن بالإسلام، و الذي يضحّي في سبيله بروحه و ماله و عرضه، فيقوم بحفظ الحدود و الجهاد و التضحيات و الفداء من أجل إعلاء كلمة الإسلام، و الذي يعشق الإسلام و الحكومة الإسلاميّة و يسعى بماله و روحه من أجل تقدّم دولة الإسلام، و لأبناء الأقلّيّات اليهوديّة أو المسيحيّة أو الزرادشتيّة الذين لا يعتقدون بأيّ من هذه المعاني، بل تراهم يسعون قلبيّاً لهزيمة الإسلام لتستلم السلطة اليهوديّة أو النصرانيّة أو الزرادشتيّة. (و كثيراً ما يقومون بأعمال في سبيل ذلك في الخفاء).

  • و عليه، فيلزم على الحاكم الإسلاميّ الذي هو الوليّ الفقيه أن يحفظ

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

244
  • الحدود المميّزة بين المسلمين و أهل الذمّة، و يعطي حقّ كلٍّ منهم لصاحبه وفقاً لقانون القرآن و سنّة رسول الله التي وردت في الكتب الفقهيّة بشكل مبسوط، و ألّا يسمح باختلاط الحقوق و تداخلها، و ألّا يكون ثمّة تساوٍ في الحقوق أيضاً (بالبيان الذي مرَّ).

  • وَ العَدْلُ إعْطاءُ كُلِّ ذي حَقٍّ حَقَّهُ، لَا إعْطاءُ الحَقِّ الواحِدِ المُساوي لِجَميعِ الأفْرادِ عَلَى السَّواءِ.

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

246
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ السَّادِسُ وَ الثَّلاثُونَ: الجِهادُ وَاجِبٌ كِفائيّ في كُلِّ عَصْرٍ وَ بِاشْرافِ ولايَة الفَقيهِ‌

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

248
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • قمنا بعرض إحدى وظائف حكومة الإسلام و ولاية الفقيه،

  • و هي إنشاء و إيجاد الامور التي استند إليها الشرع الإسلاميّ المقدّس. و التي يقوم عليها الدين و المذهب، بما أنَّ حكومة الإسلام و ولاية الفقيه تختلف عن سائر الولايات و الحكومات.

  • فالهدف الأصليّ لتلك الحكومات هو حفظ الأمن في الداخل، و حفظ الحدود من تجاوز الأعداء، و تهيئة أجواء الراحة العامّة (الخدمات)، و تعليم الناس و تربيتهم على السنن الموروثة و المناهج التي اعتادوا عليها و تكيّفوا معها. هذه هي غاية آمال و تطلّعات الدول المقامة في العالم.

  • و تمتاز حكومة الإسلام على تلك الحكومات بامتلاكها لزوم تنفيذ حاكميّة الإسلام، و وجوب السير بالناس على أساس الأحكام و القوانين الواردة في القرآن الكريم و سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم،

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

249
  • و إقامة الصلاة في الأرض، و جعل الناس ممّن يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، طبقاً للآيات التي ذكرت و التي مرّ تفسيرها، من قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ}۱ ...

  • و من الوظائف الاخرى للوليّ الفقيه هي رعاية المسائل الاجتماعيّة التي تخضع لولايته على أساس العقيدة و المذهب. فيجب أن يكون في حكومة الإسلام وزارة للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و معالجة أعمال المعروف و المنكر و القبائح و المفاسد التي توجد في الحكومة، و ترغيب الناس أيضاً بأصل عمل المعروف و الفحص عن أحواله على أنحائه و أقسامه.

  • يجب استعمال المصطلحات الإسلاميّة في بلاد الإسلام‌

  • لقد ذكرت في الرسالة التي كتبتها على مسودّة القانون الأساسيّ و قدّمتها لقائد الثورة الكبير: يجب أن تتشكّل وزارة باسم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لتقوم بوظائفها٢. و تشكّلت هذه الوزارة باسم وزارة الثقافة و الإرشاد الإسلاميّ، و لكن ليس بتلك الصورة التي تتكفّل بها جميع أطراف و جوانب المسألة، و بنحو يُعرف فيه المُنكَر من جميع الجهات فيُنهى عنه، و المعروف من جميع الجهات ليسند و يؤمر به.

  • ثمّ إنَّ لفظ الثقافة و الإرشاد الإسلاميّ يختلف عن لفظ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فقد ورد في الإسلام اصطلاح الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و علينا نحن أيضاً أن نؤسّس وزارة علي‌

    1. صدر الآية ٤۱، من السورة ٢٢: الحجّ.
    2. طبعت هذه الرسالة كملحق في كتاب« وظيفة فرد مسلمان در احياي حكومت إسلام»(/ أي« وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام»).

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

250
  • هذا الأساس تطبيقاً للنظريّة الإسلاميّة. فالثقافة و الإرشاد عبارتان مطلقتان و عامّتان، و تستعملان في كلّ عقيدة و مذهب، حتّى بين اليهود و الزرادشتيّين و الشيوعيّين. و أمّا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فهو من مصطلحات الإسلام و علينا ألّا نتجاوزه.

  • فيجب ألّا يُغَيِّر اللفظ أيضاً، لأنَّه و إن كان اسم وزارة الإرشاد الإسلاميّ لا يشمل غير الإسلاميّ، لكنّ لفظ الإرشاد له معني عامّ. فالإرشاد يعني الدلالة و الهداية نحو الرشاد و الارتقاء. و يستعمل المسلمون هذه الكلمة و يرتضونها، كما يستعملها غير المسلمين أيضاً، فاليهود و النصارى و البوذيّون و السيخ و الاشتراكيّون و غيرهم يقومون أيضاً بإرشاد شعوبهم بشكل جيّد، لكنَّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بهذا اللفظ غير موجود عندهم، و إذ إنَّ معروف الإسلام و منكره غير موجود عندهم، فهذا اللفظ و الاصطلاح، و كنتيجة يمكن القول هذا العنوان مختصّ بالإسلام.

  • و كما نسعى نحن في الواقع نحو الحقيقة، فلا يجوز أن نغيِّر ظواهر العبارات و المصطلحات الإسلاميّة.

  • فيجب أن نكتب رسائلنا على ضوء سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و الأئمّة الأطهار عليهم السلام مبتدئين بعبارة بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم. و بسم الله الرحمن الرحيم هي من مختصّات الإسلام، و لا يستعمل اليهود و النصارى هذه العبارة. أمّا لفظ بِسْمِهِ تَعالَى؛ فليس بهذا النحو، فهو لفظ عامّ مشترك، و الجميع قائلون به.

  • و على هذا، فعند ما يقول المسلم بسمه تعالى، و إن كان يريد ذلك الواحد الذي لا شريك له، لكنّه يكون قد أتي بلفظ تشترك جميع الفرق معه فيه، و أين هذا اللفظ من عالم عظمة و جلالة لفظ بسم الله الرحمن الرحيم.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

251
  • فعلينا هنا استعمال عبارة بسم الله الرحمن الرحيم حتماً، و إظهار و إبراز تلك العظمة التي تصدّرت بها السور القرآنيّة، و عمق و أصالة الرحمانيّة و الرحيميّة للّه تعالى.

  • و لذا كان القرآن المجيد يبدأ كلّ سورة ببسم الله الرحمن الرحيم. و كذلك على الإنسان في بداية كلّ عمل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، و كذا ينبغي أن يتصرّف الإنسان في مطلع الرسائل و سائر الامور اليوميّة، لأنَّه إذا فُقد الاصطلاح فسيتبعه المصطلح، و بزوال الاسم يزول المسمي أيضاً.

  • و يجب أن نقول أيضاً: إنَّ المسلمين يصلّون، لا أنَّهم يقومون بالمناجاة. فالمناجاة تعني الدعاء و التوجّه إلى الله تعالى، و كلّ عبادة أعمّ من الصلاة تسمّي بالمناجاة. فاليهود و النصارى و حتّى بعض الفرق الباطلة عندهم مناجاة خاصّة بهم، لكنّ لفظ «الصلاة» من مختصّات الإسلام، و كذا «الزكاة» من مختصّاته أيضاً. و علينا أن نتّبع الإسلام في اللفظ أيضاً.

  • مسألة استعمال المصطلحات من المسائل المهمّة جدّاً، فالكثير من تلك الألفاظ الأصيلة في القرآن و السنّة، و التي كانت رائجة بيننا قد زالت شيئاً فشيئاً و حلّ محلّها ألفاظ و مصطلحات اخرى، فزالت تلك المسمّيات و المصطلحات تبعاً لها! و هذه مسألة مهمّة جدّاً، و على الوليّ الفقيه ملاحظتها.

  • و من جملة وظائف الوليّ الفقيه هي إيجاد وزارة الحجّ، لأنَّ الحجّ أحد أركان الإسلام. و من البديهيّ أنَّه لا يمكن أن يكون أيّ شعب مسلم في أيّ بلد كان و ليس له وزارة حجّ. و يجب أن تكون وزارة الحجّ مستقلّة، لا ضمن وزارة الداخليّة أو وزارة الأوقاف.

  • الجهاد واجب كفائيّ في كلّ زمان إلى يوم القيامة

  • و من وظائف الوليّ الفقيه الاخرى تشكيل وزارة الجهاد؛ الجهاد في‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

252
  • سبيل الله. أي أنَّ وظيفة الحاكم أن يربّي شعباً مجاهداً في سبيل الله باستمرار و يرسلهم إلى الجهاد، لا أنَّه يعلّمهم و يربّيهم لأجل الجهاد، بل المطلوب تحقّق جهاد عمليّ في الخارج، لأنَّ الجهاد من أركان الإسلام.

  • و الآيات الواردة في القرآن الكريم حول الجهاد مطلقة و لا تختصّ بزمان النبيّ، بل هي شاملة لزمان النبيّ و جميع المعصومين عليهم السلام.

  • و بمقتضى إطلاق الآيات، فالجهاد واجب في زمان الفقيه العادل الجامع للشرائط الذي استقرَّت له الحكومة، و ترك الجهاد يوجب زوال و هزيمة الإسلام. و لا نقصد من الجهاد الذي نبحثه الآن الدفاع، فالدفاع لا يحتاج إلى دليل شرعيّ، و الآيات الواردة في القرآن المجيد و الروايات عن الأئمّة عليهم السلام حول الدفاع إنَّما هي إمضاء لحكم عقليّ و فطريّ، مفاده أنَّ على كلّ إنسان أن يدافع عن حدوده و شئونه و أن يردّ العدوّ الذي يريد الاعتداء على مقدّساته.

  • الجهاد يعني الحركة الابتدائيّة نحو العدوّ. أي أن تقوم جماعة ما بقيادة قائد التحرّك نحو العدوّ من دون أن يكون العدوّ في حالة هجوم عليهم، و من ثمّ دعوتهم إلى الإسلام، و قتالهم في صورة الرفض و الاستنكاف. و الجهاد الذي له تلك الأهمّيّة في الإسلام، و الذي اعتمد عليه و قيل في حقّه: إنَّ كلّ قطرة دم للمجاهد في سبيل الله لها تلك المزايا و القيمة، هو هذا الجهاد الذي يُدخل فيه المسلمون الكفّار المحرومين من التوحيد و العقائد الحقّة و نبوّة رسول الله و الولاية و المبتلين بالشرك و عبادة الأصنام و الآداب الجاهليّة و سننهم الوطنيّة، يدخلونهم به في الإسلام و يجعلونهم في دينهم، و يقولون لهم: وجداننا لا يرتضي أن تظلّوا محرومين من هذه المائدة الجميلة و الأطعمة اللذيذة التي قد نلناها (من التوحيد و المعارف و القرآن و عظمة الإنسان و حقارة غير الله و أرباب الدنيا

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

253
  • و المناجاة و الحجّ و سائر اللذائذ التي نتمتّع بها)، بل عليكم أن تأتوا إلى هذه المائدة أيضاً. و لذا، فإنَّ المسلمين يبذلون دماءهم لأجل هداية الغير.

  • فالمقصود من الجهاد هو قتال الكفّار من أجل دعوتهم للإسلام، و هذا أمر باقٍ إلى الأبد، و هو من المسائل المهمّة في الإسلام. فعند ما يزول الجهاد من بين المسلمين يحلّ التوقّف و الركود، و يفقد الإسلام عظمته و عزّته و اقتداره و يسقط.

  • فعلى عاتق المجتهد أن يقيم وزارة الجهاد عند ما تتحقّق له الحكومة، و تصل شأنيّة الحكومة إلى مرحلة الفعليّة، و يبايعه المسلمون للحكم، و يصبح مقام الولاية الإلهيّة مسلّماً له.

  • الآيات القرآنيّة الدالّة على إطلاق وجوب الجهاد.

  • تدلّ آيات القرآن على إطلاق الجهاد، و أنَّه واجب في كلّ زمان و على كلّ مؤمن (على نحو الوجوب الكفائيّ كما سيأتي بيانه)، و هذا الحكم جارٍ في كلّ زمان، و لا يختصّ بزمان دون زمان، مثل سائر الأحكام، فكما أنَّ الصلاة و الزكاة و الصوم امور واجبة على جميع المسلمين في كلّ زمان و لا تختصّ بزمان معين، فالجهاد كذلك؛ يقول تعالى:

  • {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ.}۱

  • «صاغرون» أي حتّى يعطوا الجزية و هم باقون على دينهم تحت لواء الإسلام و في ظلّ حكومته، أو أن يُسلموا. فللآية إذَن إطلاق؛ و يقول تعالى أيضاً:

  • {وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ‌

    1. الآية ٢٩، من السورة ٩: التوبة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

254
  • إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.}۱

  • {وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}٢.

  • حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ: أي حتّى يستقرّ الإسلام و دين الحقّ و دين الله في العالم بكلّ ما للكلمة من معني (بأوامره و نواهيه و بعقوده و مواثيقه و سننه و عاداته).

  • {فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}٣.

  • (يَشْرونَ أيْ يَبيعونَ. شِراء بمعني البيع. وَ شَرَوْهُ بِثَمَنِ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ٤؛ أي أنَّ إخوة يوسف قد باعوه، على خلاف اشْتَرَى التي هي بمعني الشراء).

  • إنَّ اولئك الذين باعوا الدنيا بالآخرة متخلّين عن الدنيا ساعين نحو الآخرة، و الذين آمنوا و اتّبعوا النبيّ هم اناس قد تحقّقت قلوبهم بالحقّ، فقد اشتروا الآخرة و باعوا الدنيا، و هم الذين يجب أن يجاهدوا و يقاتلوا في سبيل الله، و كلّ من يقاتل في سبيل الله، سواء قُتل أم انتصر على العدوّ، فعلى كلّ حال سوف يؤتيه في المستقبل أجراً عظيماً.

  • {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‌}٥.

    1. الآية ۱٩٣، من السورة ٢: البقرة
    2. الآية ٣٩، من السورة ۸: الأنفال.
    3. الآية ۷٤، من السورة ٤: النساء
    4. الآية ٢۰، من السورة ۱٢: يوسف.
    5. الآية ۱٤٢، من السورة ٣: آل عمران.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

255
  • أَمْ حَسِبْتُمْ‌: استفهام استنكاريّ، أي: لا تظنّوا أبداً أنَّ الذي لم يجاهد و لا صبر له سوف يدخل الجنّة؛ و يقول تعالى بعد ثلاث آيات اخرى:

  • {وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ‌}۱.

  • و هذه الآية مطلقة أيضاً، لأنَّ الله تعالى يقول، قد كان الكثير من الأنبياء كذلك؛ و من هنا يُعلم أنَّ كلام البعض ممّن قال: إنَّ الجهاد هو في الإسلام فقط و لم يكن في الشرائع السابقة جهاد، و إنَّ سائر الأنبياء لم يجاهدوا، هو كلام غير موزون، لأنَّ هذه الآية تقول: {وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ}‌؛ أي كم من نبيّ من الأنبياء قد قاتل و جاهد في سبيل الله مع الرِّبِّيِّين، و الأشخاص الذين ربّاهم من الناس الإلهيّين و عباد الله.

  • و عليه، فلو راجع الإنسان نهج الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام فسوف يجد أنَّ الجهاد أمر عقليّ و فطريّ إضافة إلى كونه أمراً شرعيّاً، لأنَّ الإنسان لا يستطيع رؤية أعداء الدين يعيشون في الضلالة و الضياع، بينما يتمتّع هو بنعمة الهداية. فالجهاد يعني تحقيق صبغة الإيمان و التوحيد، و قد كانت هذه سنّة حسنة للأنبياء، و كان الله تعالى قد أوجب الجهاد على الأنبياء.

  • كلام الشيخ في وجوب الجهاد مرّة واحدة في السنة على الاقلّ‌

  • يقول شيخ الطائفة الحقّة الشيخ الطوسيّ رحمة الله عليه في «المبسوط» في أوّل كتاب الجهاد:

  • وَ عَلَى الإمامِ أنْ يَغْزُوَ بِنَفْسِهِ أوْ بِسَراياهُ، في كُلِّ سَنَةٍ دَفْعَةً حَتَّى لا يَتَعَطَّلَ الجِهادُ٢.

  • إنَّ تعطيل الجهاد كتعطيل الحجّ، فكما أنَّه لا يمكن أن يُترك بيت الله‌

    1. الآية ۱٤٦، من السورة ٣: آل عمران.
    2. «المبسوط» ج ٢، ص ٢، طبعة المرتضوي.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

256
  • خالياً من الحجّاج، لا يمكن أيضاً أن تُعطَّل حكومة الإسلام عن الجهاد.

  • و يقول رحمه الله أيضاً في الصفحات التالية في تتمّة المطلب بعد بيان بعض شرائط الجهاد:

  • وَ إذَا اجْتَمَعَتِ الشُّروطُ الَّتي ذَكَرْناها فيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الجِهادُ، فَلا يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُجاهِدَ إلَّا بِأنْ يَكونَ هُناكَ إمامٌ عادِلٌ أوْ مَنْ نَصَبَهُ الإمامُ لِلجِهادِ؛ ثُمَّ يَدْعوهُمْ إلَى الجِهادِ فَيَجِبُ حينَئِذٍ عَلَى مَنْ ذَكَرْناهُ الجِهادُ. وَ مَتَى لَمْ يَكُنِ الإمامُ وَ لَا مَنْ نَصَبَهُ الإمامُ سَقَطَ الوُجوبُ بَلْ لا يَحْسُنُ فِعْلُهُ أصْلًا. اللّهُمَّ إلَّا أنْ يَدْهَمَ المُسْلِمينَ أمْرٌ يُخافُ مَعَهُ عَلَى بَيْضَةِ الإسْلامِ وَ يُخْشَى بَوارُهُ أوْ يُخافُ عَلَى قَوْمٍ مِنْهُمْ.

  • أي أنَّه في مسألة الدفاع حين يتعرّض الإسلام للخطر، أو تتعرّض جماعة خاصّة من المسلمين للخطر فلا يعود وجود الإمام و الوليّ الفقيه و الحاكم و أمثالهم شرطاً لازماً، بل يجب على نفس الناس التحرّك و الدفاع عن الإسلام و المسلمين.

  • أمّا في الموارد التي لا يكون فيها هجوم على الإسلام، و لم يكن ثمّة عنوان دفاع، بل كان المورد جهاداً ابتدائيّاً، فلا يستطيع الناس النهوض من عند أنفسهم و الذهاب إلى الجهاد، لأنَّ الجهاد يحتاج إلى قائد، و يجب أن يكون القائد إماماً عادلًا، يخضع الجميع لقيادته و ولايته.

  • لا يصحّ قتل الناس و لو كانوا كافرين بِيَدِ أيٍّ كان، و لا يجوز ذلك، أي لا يستطيع المسلم أن يذهب من نفسه و يقتل كافراً أو مشركاً، أو أن يدعوه إلى الإسلام بالسلاح و الحرب، فهذا الحقّ حقّ ولايتيّ، و يجب أن يكون تحت نظر الوليّ الفقيه المطّلع على جميع خصوصيّات الفقه بالضرورة (مثل الأحكام و المسائل و كيفيّة الجهاد و كيفيّة الأمان و كيفيّة الأسر و الغنيمة).

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

257
  • و يجب أن يكون هذا الفقيه إنساناً كاملًا، إضافة إلى وجوب كونه قائداً أيضاً، أي يكون قد بايعه أهل الخبرة من المسلمين لإقامة حكومة الإسلام، و أن يكون خاضعاً لولاية إمام العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف في زمن الغيبة و مرتبطاً به معنويّاً و باطنيّاً. و أن يكون جهاده بإذن و إجازة و إرشاد من الإمام عليه السلام، كما يجب أن يكون عارفاً بالمسائل العسكريّة و امور الحرب و الصلح، فيعرف كيف يوقّت جهاده و امتناعه عن ذلك، و كيف يحدّد العدوّ الذي عليه أن يجاهده، و الناحية من الثغور الإسلاميّة التي عليه أن يجاهد فيها.

  • و خلاصة القول: أنَّ الجهاد ليس أمراً فرديّاً مثل الصلاة أو الصوم، و إنَّما هو أمر اجتماعيّ و عامّ، فيجب أن يتمّ في ظلّ ولاية الوليّ الفقيه.

  • و يتابع الشيخ قدّس الله نفسه المطلب، إلى أن يقول:

  • وَ الجِهادُ مَعَ أئِمَّةِ الجَوْرِ أوْ مِنْ غَيْرِ إمامٍ أصْلًا، خَطاٌ قَبيحٌ يَسْتَحِقُّ فاعِلُهُ بِهِ الذَّمَ وَ العِقابَ إنْ اصيبَ لَمْ يُؤْجَرْ وَ إنْ أصابَ كانَ مَأثوماً.

  • فسوف يؤاخذهم الله على ذهابهم من أنفسهم، و قتلهم من قتلوا، لأنَّهم لم يكونوا مأمورين بذلك، و لم يكونوا تحت ولاية إمام حقّ أو وليّ منصوب من ناحيته.

  • وَ مَتَى جاهَدوا مَعَ عَدَمِ الإمَامِ وَ عَدَمِ مَنْ نَصَبَهُ فَظَفِروا وَ غَنِموا، كانَتِ الغَنيمَةُ كُلُّها لِلإمامِ خاصَّةً وَ لَا يَسْتَحِقّونَ هُمْ مِنْها شَيْئاً أصْلًا.

  • فحكم الإسلام إذَن هو: أنَّ من يجاهد بدون إذْن الإمام، فكلّ غنيمة يغنمها تكون للإمام، و لا حقّ له بالاستفادة من تلك الغنيمة على الإطلاق.

  • المرابطة في رتبة متأخّرة عن الجهاد، و هي من ٣ إلى ٤۰ يوماً

  • وَ المُرابَطَةُ فيها فَضْلٌ كَثيرٌ وَ ثَوابٌ جَزيلٌ إذا كانَ هُناكَ إمامٌ عادِلٌ؛ وَ حَدُّها ثَلاثَةُ أيَّامٍ إلَى أرْبَعينَ يَوْماً؛ فَإنْ زادَ عَلَى ذَلِكَ كانَ جِهاداً.

  • إنَّ أحد التشريعات الإسلاميّة هي المرابَطة. فعلى الوليّ الفقيه أن‌۱

  • ولاية الفقيه في حكومة الإسلام ؛ ج‌٣ ؛ ص٢٦۱

    1. حسينى طهرانى، سيد محمد حسين، ولاية الفقيه في حكومة الإسلام، ٤جلد، دار المحجة البيضاء - بيروت - لبنان، چاپ: ۱، ۱٤۱۸ ه.ق.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

258
  • يُقيم مرابطة باستمرار، و المرابطون عبارة عن جماعة من جند الإسلام ينفذون إلى أرض الكفر و يستقرّون هناك، فيحفظون حدودهم بهذه الطريقة ليمنعوا العدوّ من الهجوم على بلادهم، كما أنَّهم ينفذون بذلك في بلاد الكفر بالتدريج، فهذا هو المرابطة.

  • يقول الشيخ محمّد حسن صاحب «الجواهر» رضوان الله عليه في كتاب الجهاد۱: هُوَ ذِرْوَةُ سَنامِ الإسْلامِ وَ رابِعُ أرْكانِ الإيمانِ وَ بابٌ مِنْ أبْوابِ الجَنَّةِ وَ أفْضَلُ الأشْياءِ بَعْدَ الفَرائِض.

  • هذه العبارات التي ينقلها الشيخ محمّد حسن في «الجواهر» هي عين مفاد الروايات، غاية الأمر أنَّه لم يوردها بصفة رواية، لكنّه أخذ ذلك المتن في تعريف الجهاد من الروايات.

  • ذِرْوَة أو ذُرْوَة: هي أعلى نقطة في الأماكن المرتفعة. ذِرْوَةُ الجَبَل أي أعلى نقطة فيه.

  • هُوَ ذِرْوَةُ سَنامِ الإسْلَام: فهذا الجهاد هو أعلى نقطة في الإسلام.

  • سَنامُ الجَمَل: أي الشي‌ء الذي يضعوه على الجمل لكي يركبوه. ذِرْوَةُ سَنامِ الإسْلَام: أي أعلى نقطة مرتفعة في الإسلام.

  • وَ رَابِعُ أرْكانِ الإيمان: أي أنَّ سقف الإيمان يقع من دونها.

  • وَ بابٌ مِنْ أبْوابِ الجَنَّةِ.

  • وَ أفْضَلُ الأشْياءِ بَعْدَ الفَرائِضِ: أي الفرائض الواجبة من الصلاة و الصوم و الحجّ و الزكاة و الخمس.

  • وَ سِياحَةُ امَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الَّتي قَدْ جَعَلَ اللهُ عِزَّها بِسَنابِكِ خَيْلِها وَ مَراكِزِ رِماحِها.

    1. «جواهر الكلام» ج ٢۱، ص ٣، الطبعة السادسة، الآخونديّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

259
  • لقد كان للناس في الامم السابقة سياحة، و قد ورد في القرآن الكريم: {التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ‌}۱. فقد كانت إحدى عبادات الناس الدوران في الصحاري و الجبال منفردين، و السير في آثار الله، و النظر و التفكّر لتتفتّح قلوبهم، و قد جعل الله سياحة امّة نبيّنا في الجهاد، لكن أيّ جهاد هذا؟ و أيّة سياحة؟ تلك السياحة التي جعل الله عزّها بسنابك خيلها.

  • سَنابِك جمع سُنْبُك؛ و بِسَنابِكِ خَيْلِها: أي أنَّ الله عزّ و جلّ قد جعل عزّة امّة محمّد صلّى الله عليه و آله و شرفها بسنابك خيلها، أي موضع الحوافر التي تضعها الخيل على الأرض حين تسير نحو الجهاد. وَ مَراكِزِ رِماحِها؛ (رِماح جمع رُمْح): أي المواضع التي تثبّت بها الرماح في الأرض حتّى تدور المعركة في أطرافها، أو المواضع التي ينغرز فيها الرمح في صدر العدوّ فيلقيه أرضاً.

  • هذا هو عزّ الإسلام و عزّ امّة النبيّ الذي جعله الله تعالى في الجهاد في سبيله و في سبيل رسوله. و هذه من الامور الدقيقة جدّاً.

  • الخَيْرُ كُلُّهُ في السَّيْفِ وَ تَحْتَ ظِلِّ السَّيْفِ‌

  • وَ فَوْقَ كُلِّ بِرٍّ بِرٌّ فَإذا قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ بِرٌّ.

  • وَ الخَيْرُ كُلُّهُ في السَّيْفِ وَ تَحْتَ ظِلِّ السَّيْفِ.

  • وَ لَا يُقيمُ النَّاسَ إلَّا السَّيْفُ.

  • وَ السُّيوفُ مَقاليدُ الجَنَّةِ وَ النَّارِ.

  • وَ لِلجَنَّةِ بابٌ يُقالُ لَهُ بابُ المُجاهِدينَ، يَمْضونَ إلَيْهِ فَإذاً هُوَ مَفْتوحٌ وَ هُمْ مُتَقَلِّدونَ سُيوفَهُمْ.

  • وَ مَنْ غَزا غَزْوَةً في سَبيلِ اللهِ فَما أصابَهُ قَطْرَةٌ مِنَ السَّماءِ أوْ صُداعٌ‌

    1. صدر الآية ۱۱٢، من السورة ٩: التوبة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

260
  • إلَّا كانَتْ لَهُ شَهادَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ.

  • وَ أنَّ المَلَائِكَةَ تُصَلّي عَلَى المُتَقَلِّدِ بِسَيْفِهِ في سَبيلِ اللهِ حَتَّى يَضَعَهُ؛ وَ مَنْ صَدَعَ رَأسُهُ في سَبيلِ اللهِ غَفَرَ اللهُ لَهُ ما كانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ ذَنْبٍ.

  • مضافاً إلى قوله تعالى‌: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى‌ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.}۱

  • و قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‌ وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً* دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}٢.

  • إنَّ التكليف ساقط عن اولي الضَّرر الذين لا يستطيعون الجهاد في سبيل الله. و أمَّا المؤمنون غير اولي الضرر و القادرون على الجهاد (بما أنَّ الجهاد واجب كفائيّ و ليس واجباً عينيّاً على كلّ مسلم) فالذين لم يجاهدوا باختيارهم و كانوا من القاعدين (أي اشتغلوا بأعمال اخرى كالصلاة و الصيام و الحجّ و سائر أعمال الخير) لن تكون درجتهم مساوية لدرجة المجاهدين في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم. فالله تعالى قد فضّل المجاهدين بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله على القاعدين، و جعلهم في درجة أعلى منهم. و قد وعد الله الجميع خيراً (سواء القاعدين أم المجاهدين)، لكن: {فَضَّلَ اللَّهُ‌

    1. الآية ۱۱۱، من السورة ٩: التوبة
    2. الآيتان ٩٥ و ٩٦، من السورة ٤: النساء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

261
  • الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً}؛ و الأجر العظيم عبارة عن علوّ الدرجة و الرحمة و المغفرة من الله تفضيلًا لهم.

  • و يستفاد من هذه الآية أوّلًا: أنَّ الجهاد غير واجب على القاعدين، لأنَّ القعود عن الجهاد في حال وجوبه يؤدّي إلى الوقوع في الذنب، و لا معني لأن نقول بعد ذلك إنَّ الله تعالى قد فضّلهم عليهم درجة أو أعطاهم أجراً عظيماً.

  • فلا معني للفضيلة و التفضيل إلّا حيث يكون هناك فضيلة في المفضول و الفاضل معاً، فعندئذٍ يكون للفاضل فضيلة على المفضول. أمّا عند ما يكون العمل ساقطاً عن درجة الاعتبار بشكل كامل فلن يكون هناك مجال للفضيلة.

  • و من هنا يُستفاد: أنَّ وجوب الجهاد كفائيّ إلّا عند ما يَدْهَمُ المُسلِمينَ أمْرٌ؛ حيث يصير الأمر حينها بعنوان دفاع، و غالباً ما يكون وجوب الدفاع وجوباً عينيّاً. و إذا لم يكن لواجدي الشرائط من سبيل لإخراج الكفّار، فيجب عندئذٍ حتّى على الرجل العجوز و الأعمى و المريض و الطفل و المرأة أن يتحرّكوا للدفاع أيضاً لإخراج العدوّ من الأرض الإسلاميّة.

  • الآيات الواردة حول لزوم الجهاد في سبيل الله و عظمته‌

  • و أمّا الجهاد الذي هو دعوة الكفّار ابتداءً إلى الإسلام، فهو واجب كفائيّ، و ليس واجباً على جميع الأشخاص. و مع ذلك، فالمجاهد أفضل من القاعد و إن كان مشغولًا بأعمال خير أيضاً.

  • و قد ذكر لهم في هذه الآية ثلاث فضائل:

  • الاولى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً}.

  • الثانية: {وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‌}.

  • الثالثة: {وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً}. لكنّه‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

262
  • قد فضّل المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً: {دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.

  • يقول صاحب «الجواهر» رضوان الله عليه بعد ذكر هذه الآيات و إكمال المطلب‌۱:

  • نعَمْ، فَرْضُهُ عَلَى الكِفايَةِ بِلا خِلافٍ أجِدُهُ فيهِ بَيْنَنا بَلْ وَ لَا بَيْنَ غَيْرِنا ... إلَّا ما يُحْكَى عَنْ سَعيدِ بْنِ المُسَيِّبِ فَأوْجَبَهُ عَلَى الأعْيَانِ لِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالَى: {انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}‌٢. ثُمَّ قالَ: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً}٣.

  • وَ النَّبَويِ‌: مَنْ مَاتَ وَ لَمْ يَغْزُ وَ لَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ.

  • فصاحب «الجواهر» رحمه الله يُشكِل بهذا النحو: مهما فحصتُ لم أجد خلافاً من كون وجوب الجهاد كفائيّاً إلّا من سعيد بن المسيِّب الذي رآه عينيّاً و أورد عليه ثلاثة أدلّة:

  • الأوّل: الآية الشريفة: {انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا}.

  • الثاني: الآية الشريفة: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً}.

  • الثالث: الرواية المرويّة عن النبيّ صلّى الله عليه و آله عن طريق العامّة من أنَّه: مَنْ مَاتَ وَ لَمْ يَغْزُ ....

  • و ينقل هذه الرواية أبو داود في «السنن»، كما ينقلها الكثير من صحاح أهل السنّة أيضاً.

    1. «جواهر الكلام» ج ٢۱، ص ٩.
    2. صدر الآية ٤۱، من السورة ٩: التوبة.
    3. صدر الآية ٣٩، من السورة ٩: التوبة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

263
  • و إشكال المرحوم صاحب «الجواهر» هو: أنَّ آية: {انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا}، تتعلّق بعنوان تبوك، ففي غزوة تبوك كانت التعبئة عامّة بلا شكّ، فالنبيّ صلّى الله عليه و آله أعلن أنَّ على جميع مَن في المدينة الخروج ما عدا النساء و أهل الزمانة و آخرين. و من البديهيّ أنَّ الآية تختصّ بتلك الظروف الخاصّة، و ليس وجوبها تعميماً للجميع و في جميع الأحوال.

  • و كذلك الآية التي تقول: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً}، فهي تتعلّق بهذه المعركة أيضاً. و لذا، صار الأشخاص الثلاثة كعب بن مالك و رفيقاه الذين لم ينفروا عرضة لسخط الله و النبيّ، فأعرض عنهم النبيّ الأكرم و المؤمنون و المسلمون بعد الحرب و ضيّقوا عليهم. و القصّة طويلة، إلى أن ذهبوا و تضرّعوا، و قبل الله توبتهم بعد أربعين يوماً. و تختصّ آية: {وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ...}۱ بهم.

  • و إشكال المرحوم صاحب «الجواهر» هو: عند ما يكون عندنا دليل على الوجوب العينيّ في قضيّة شخصيّة، فهذا لا يوجب كون الوجوب عينيّاً في جميع الموارد.

  • و أمّا الحديث النبويّ: مَنْ مَاتَ وَ لَمْ يَغْزُ ... فأوّلًا: راويه أبو هريرة، و رواية أبي هريرة غير قابلة للقبول.

  • ثانياً: ربّما كان معناه هو أنَّ مَن مات و قد أنكر عنوان الجهاد في الإسلام أصلًا، و لم يقبل هذا الأصل، فقد رحل عن هذه الدنيا على النفاق، لا أنَّه إن لم يقاتل في حدّ نفسه.

  • ثمّ يتابع المطلب، إلى أن يقول:

  • بِشَرْطِ وُجودِ الإمامِ عَلَيْهِ السَّلامِ وَ بَسْطِ يَدِهِ أوْ مَنْ نَصَبَهُ لِلْجِهادِ وَ لَوْ

    1. صدر الآية ۱۱۸، من السورة ٩: التوبة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

264
  • بِتَعْميمِ وِلايَتِهِ لَهُ وَ لِغَيْرِهِ في قُطْرٍ مِنَ الأقْطارِ؛ بَلْ أصْلُ مَشْروعيَّتِهِ مَشْرُوطٌ بِذَلِكَ فَضْلًا عَنْ وُجوبِهِ.

  • فيقول رحمه الله: إنَّ جميع ما ذكرناه من الآيات و الروايات حول الجهاد و الفضائل التي بيّنت للمجاهدين إنَّما يكون في صورة كون الإمام مبسوط اليد أو كان الشخص الذي نصبه الإمام للجهاد موجوداً و أمر الإنسان بالجهاد، و إن كان النصب للجهاد بواسطة تعميم الولاية.

  • أي أنَّ الإمام المعصوم لم ينصب شخصاً كهذا بنفسه و خصوصه للجهاد، و إنَّما يكون قد أعطي الولاية بواسطة ولاية الفقيه العامّة لشخص في خصوص مسألة الجهاد، أو في سائر المسائل و الجهاد من جملتها. و إذا أثبتنا بأدلّة ولاية الفقيه أنَّ جميع شئون و مناصب الإمام هي للفقيه أيضاً، فعندئذٍ يكون الجهاد من شئونه أيضاً.

  • فمن خلال تعميم أدلّة ولاية الفقيه إذَن يكون ذلك الحكم الجهاديّ الذي كان للإمام عليه السلام في زمانه ثابت للفقيه أيضاً، سواء كان الإمام حيّاً و حاضراً و كان الفقيه في نقطة قريبة أم بعيدة في الدنيا، و كان نائباً عن الإمام في تلك المنطقة، أم كان في زمن الغيبة و كانت أدلّة ولاية الفقيه بعمومها تشمل أمره بالجهاد.

  • الروايات الدالّة على شرط الولاية في مشروعيّة الجهاد

  • فبناء على تعميم أدلّة ولاية الفقيه، نستطيع إثبات وجوب الجهاد و إطلاقه؛ بل إنَّ أصل مشروعيّة الجهاد مشروطة بالولاية، فضلًا عن وجوبه، لأنَّ الجهاد ليس أمراً شخصيّاً و فرديّاً، و إنَّما هو أمر يحتاج إلى الولاية. و لا يستطيع الإنسان أن يقوم به من نفسه. بل تتمّ جميع هذه الامور ضمن ولاية ذلك الوليّ الذي له على الإنسان ولاية شرعيّة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۳

265
  • و قد أتي صاحب «الجواهر» بعدّة شواهد من الأخبار لهذا المعني‌۱.

  • الأوّل: خبر بشير الدَّهَّان، عن الصادق عليه السلام؛ يقول: قُلْتُ لَهُ: إنِّي رَأيْتُ فِي المَنَامِ أنِّي قُلْتُ لَكَ: إنَّ القِتَالَ مَعَ غَير الإمَامِ المَفْرُوضِ طَاعَتُهُ حَرَامٌ مِثْلُ المَيْتَةِ وَ الدَّمِ وَ لَحْمِ الخِنْزِيرِ؟ فَقُلْتَ لِي: هُوَ كَذَلِكَ! فَقَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ علَيْهِ السَّلَامُ: هُوَ كَذَلِكَ! هُوَ كَذَلِكَ!

  • الثاني: خبر عبد الله بن المُغيرة الذي يقول: سمعتُ محمّد بن عبد الله يقول للإمام الرضا عليه السلام: حَدَّثَنِي أبِي عَنْ أهْلِ بَيْتِهِ عَنْ آبَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أنَّهُ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إنَّ فِي بِلَادِنَا مَوْضِعَ رِبَاطٍ يُقَالُ لَهُ قَزْوِينُ وَ عَدُوّاً يُقَالُ لَهُ الدَّيْلَمُ؛ فَهَلْ مِنْ جِهَادٍ أوْ هَلْ مِنْ رِبَاطٍ؟ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا البَيْتِ فَحُجُّوهُ!

  • فَأعَادَ عَلَيْهِ الحَدِيثَ. فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا البَيْتِ فَحُجُّوهُ! أ مَا يَرْضَى أحَدُكُمْ أنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالِهِ مِنْ طَوْلِهِ يَنْتَظِرُ أمْرَنَا؛ فَإنْ أدْرَكَهُ كَانَ كَمَنْ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ بَدْراً؛ وَ إنْ مَاتَ مُنْتَظِراً لأمْرِنَا كَانَ كَمَنْ كَانَ مَعَ قَائِمِنَا صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ هَكَذَا فِي فُسْطَاطِهِ- وَ جَمَعَ بَيْنَ السَّبَّابَتَيْنِ- وَ لَا أقُولُ هَكَذَا- وَ جَمَعَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَ الوُسْطَى- فَإنَّ هَذِهِ أطْوَلُ مِنْ هَذِهِ؟! فَقَالَ أبُو الحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صَدَقَ.

  • و يظهر أنَّ محمّد بن عبد الله هو ابن عبد الله بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فهو محمّد بن عبد الله بن جعفر الصادق.

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد

    1. «جواهر الكلام» ج ٢۱، ص ۱۱.