المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم الفقه والأصول
المجموعة ولاية الفقيه في حكومة الإسلام
التوضيح
الدَّرْسُ السَّابِعُ وَ الثَّلَاثُونَ: عَدَمُ جَوَاز الجِهَاد فِي رِكَابِ الإمَامِ الجَائِرِ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدِ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
ورد في خبر عبد الله بن المغيرة قوله: إنَّ محمّد بن عبد الله سأل الإمام الرضا عن هذا الخبر، و سمعته يقول: إنَّ أبي حدّثني، عن أهل بيته، عن آبائه عليهم السلام (مراده من آبائه عليهم السلام إمَّا الصادق أو الباقر عليهما السلام حسب الظاهر) أنَّ البعض قد قال عنده إنَّ في منطقتنا معسكر و رباط يُسمّى قزوين، و إنَّ هناك عدوّاً اسمه الديلم، فهل يجوز لنا جهاده أو المحافظة على الثغور و النقاط العسكريّة؟!
فأجاب الإمام قائلًا: عليكم بهذا البيت فحجّوه. فأعاد الحديث ثانية، فقال الإمام عليه السلام ثانية: عليكم بهذا البيت فحجّوه. ألّا يعجبكم أن يكون الواحد منكم في بيته ينفق ممّا أنعم الله عليه من السعة و الأموال على عياله و ينتظر أمرنا (أي ينتظر ثورتنا و حكومتنا و إمارتنا و رئاستنا و إمامتنا) فإذا أدرك أمرنا و قيامنا كان كمن شارك مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في معركة بدر، و إن مات و هو منتظر لأمرنا فهو كمن يكون مع القائم
في فسطاطه. و جمع الإمام بين سبّابتيه و قال هكذا. ثمّ جمع الإمام بين السبّابة و الوسطى و قال: لا أقول هكذا، لأنَّ السبّابة و الوسطى أحدهما أطول من الاخرى.
(الوسطى أطول من السبّابة: أي إذا قلنا إنَّ ذلك الشخص مع القائم في فسطاطه بهذا النحو فهذا يلزم منه أن نقول: إنَّ القائم مقامه أكبر من مقام هذا الشخص المنتظر لأمرنا. أي أنِّي اريد أن أقول: إنَّ هذا الشخص مَعَ قَائِمِنَا كَالسَّبَّابَتَيْنِ لَا يَفْضُلُ أحَدُهُمَا عَلَى الآخَر.)
ينقل هذه الرواية محمّد بن عبد الله عن آبائه للإمام الرضا عليه السلام. فَقَالَ أبُو الحَسَنِ عَلَيهِ السَّلَامُ: صَدَقَ؛ فصدَّق الإمام الرضا عليه السلام الرواية، و حكم بصحّة كلام الراوي.
جواب و استدلال الإمام الواضح على كلامه من ذيل الآية المذكورة
الثالث: ورد في موثّقة سُماعة عن الصادق عليه السلام أنَّه:
قَالَ: "لَقِيَ عبَّادٌ البَصْرِيٌّ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ! تَرَكْتَ الجِهَادَ وَ صُعُوبَتَهُ وَ أقْبَلْتَ عَلَى الحَجِّ وَ لِينَتِهِ! إنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.۱
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ بْنُ الحُسَيْنِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا: أتِمَّ الآيَةَ!
فَقَالَ: {التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ
اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.۱
السائحون: الذين يتقرّبون إلى الله في سياحتهم من خلال ملاحظتهم للآثار و لجلال الله في الصحاري و الجبال و مشاهد هذا العالم. و الحافظون لحدود الله: الذين يحرسون القرارات و الأحكام و القوانين الإلهيّة.
"فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا: إذَا رَأيْنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُم فَالجِهَادُ مَعَهُمْ أفْضَلُ مِنَ الحَجِّ".
ينبغي الالتفات إلى مقصود و مُراد الإمام عليه السلام، فهو يريد أن يقول: إنَّ هذا الجهاد الذي يقوم به اولئك الذين يذهبون إلى هذه الجهة أو تلك و يجاهدون باسم الله تحت لواء مروان و عبد الملك بن مروان و غيرهما، ليس بجهاد في سبيل الله بل هو قتل للناس و أخذ لأموالهم، و هيمنة على الأموال و النفوس فهم ليسوا بحافظين لحدود الله، و لا يجاهدون وفقاً لآيات الله؛ فلا إمامة إمامهم صحيحة، و لا يقسمون الغنيمة التي يأخذونها بشكل صحيح. بل إنَّهم يهبون الغنائم بكاملها للأشخاص المنتمين إليهم، و يمارسون الظلم، و يقتلون النساء، و يحرقون الناس بالنار، فهذه التحشّدات و الفتوحات مخالفة لقانون القرآن و الإسلام، و ليس عملهم أكثر من طلب الأراضي و توسيع رقعة الممالك، و أنت تطلب منّي الجهاد تحت لوائهم!
فجهادي معهم يعني وضع علمي و درايتي تحت تصرّفهم، و تنازلي لآرائهم، و هذا يعني إعانتي لهم، و الوقوف مع من يمارس القتل باسم الجهاد لأجل التوسّع في الحكم و السلطة و الظلم و زيادة رقعة مملكته؛ و الحال هذه مثل القتال الذي يقوم به ناهبو العالم و الملوك السفّاحون باسم
الجهاد و باسم الإسلام. فقد انخدعت أنت بهذا الاسم، و تلومني أيضاً لأنِّي أحجّ و أترك الجهاد. الجهاد في سبيل الله امنيتي، فتعال و أرشدني إلى من يحمل صفات القائد التي ذكرها القرآن الكريم لُاقاتل تحت لوائه. و كما تري فهم ليسوا بما ينبغي، و ليس فيهم من هذه الصفات شيء، فلو ذهبتُ و جاهدت معهم، فأكون قد أعنتهم على الظلم بمقدار ما اقاتل في ركابهم و تحت لوائهم سواء قُتلت أم قَتلت، و ساعدتهم في إمارتهم و حكومتهم، و في استبدادهم و جبروتهم، و أكون قد ساعدت على تقويض القانون و الدين و سنّة الله، و لم يأمرني الله تعالى بأن اجاهد بهذا النحو تحت لواء هؤلاء؛ و إنّك لتقرأ صدر الآية فقط فلاحظ ذيلها أيضاً.
قال أحدهم: إنَّ هذا الخطيب الذي كان على المنبر لا يؤمن بالله أصلًا. و عند ما سئل لما ذا؟ قال: لأنَّه يقول: لَا إلَهَ، مع أنَّ الخطيب قد قال على المنبر: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ؛ و عند ما كان ذلك الشخص في المسجد سمع كلمة لَا إلَهَ و لم يسمع كلمة إلَّا اللهُ، لأنَّ الخطيب قد قالها أثناء خروجه من المسجد؛ فقال: إنَّ الخطيب يقول: لَا إلَهَ. و هذا أمر خال من الصواب، فكلام الله له صدر و ذيل. و الله لا يأمر الإنسان بالسير تحت لواء الباطل و الجور و الظلم، و لا يأمره بالتحرّك خلافاً لإدراكه و عقله و فكره.
يقول الإمام عليه السلام: أنا عليّ بن الحسين، و بغضّ النظر عن جميع جهات الإمارة و الرئاسة و الإمامة، فإذا وجد حاكم عادل متّصف بهذه الصفات المذكورة في القرآن فإنِّي اعينه و اقاتل معه.
الرابع: وَ في خَبَرِ أبي بَصيرٍ عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ [عَلَيْهِ السَّلامُ] عَنْ آبَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، المَرْويِّ عَنِ «العِلَلِ» وَ «الخِصال» قالَ: "قَالَ أمِيرُ المُؤمِنينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا يَخْرُجُ المُسْلِمُ فِي الجِهَادِ مَعَ مَنْ لَا يُؤْمَنُ فِي الحُكْمِ وَ لَا يُنْفِدُ فِي الفَيءِ أمْرَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ. فَإنَّهُ إنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ المَكَانِ كَانَ
مُعِيناً لِعَدُوِّنَا فِي حَبْسِ حَقِّنَا وَ الإشَاطَةِ بِدِمَائِنَا،۱ وَ مِيتَتُهُ مِيْتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ".
أي أنَّ قلب الإنسان لا يطمئنّ للأحكام التي يصدرها، بل يظلّ في حالة اضطراب، لأنَّه لا يعرف الحكم الذي يصدره أ هو حقّ أم باطل. فهل يكون أمره بالقتل هنا أو بالضرب هناك أو بالأسر أو بقطع الرقاب. أو أخذ الأموال واجب التنفيذ أو لا؟ فهذا الإنسان غير مأمون، و القلب لا يشعر بالأمن و الاطمئنان من حكمه، لما عُرف عنه من مخالفة الشرع في أحكامه. فالجهاد معه إذَن ليس جائزاً.
لا يخرج المسلم في الجهاد مع مَن لا يكون مأموناً في حكمه، و لا ينفّذ أمر الله في الغنائم، إذ يجب تقسيم الغنائم بما أمر الله، لا حسب مزاج الشخص؛ و المسلم لا يستطيع أن يُشارك في جهادٍ كهذا. و لو شارك المسلم في جهاد مع من يحكّم مزاجه، يكون قد أعان عدوّنا في حبس حقّنا و سفك دمائنا. و عليه، فقتله و هو بتلك الحال ميتة جاهليّة.
خبر «تحف العقول» حول حرمة سفك دم الكفّار في دار التقيّة
الخامس: وَ خَبَرِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شُعْبَةِ، المَرْويِّ عَنْ «تُحَفِ العُقُولِ» عَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ في كِتابِهِ إلَى المَأمونِ: وَ الجِهَادُ وَاجِبٌ مَعَ إمَامِ عَادِلٍ؛ وَ مَنْ قَاتَلَ فَقُتِلَ دُونَ مَالِهِ وَ رَحْلِهِ وَ نَفْسِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَ لَا يَحِلُّ قَتْلُ أحَدٍ مِنَ الكُفَّارِ فِي دَارِ التَّقِيَّةِ إلَّا قَاتِلٌ أوْ بَاغٍ؛ وَ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَحْذَرْ عَلَى نَفْسِكَ. وَ لَا أكْلُ أمْوَالِ النَّاسِ مِنَ المُخَالِفينَ وَ غَيْرِهِمْ. وَ التَّقِيَّةُ فِي دَارِ التَّقِيَّةِ وَاجِبَةٌ؛ وَ لَا حَنْثَ عَلَى مَنْ هَلَكَ تَقِيَّةً يَدْفَعُ بِهَا ظُلْماً عَنْ نَفْسِهِ.
دار التقيّة: هي الدار التي تكون السلطة و الأمر و النهي فيها بيد الحاكم الجائر. فعلى الإنسان في هذه الصورة أن يحفظ دمه. فالتقيّة تعني الحفظ:
(وَقَي يَقي وِقايَةً و وَقْياً و واقيَةً و وَقَّي) فُلَاناً: صانَهُ وَ سَتَرَهُ عَنِ الأذَى. (تَقَى يَتْقي تُقىً و تِقاءً و تَقيَّةً) بِمَعْنى اتَّقَي. (اتَّقَي اتِّقاءً وَ تَوَقَّى تَوَقِّياً) فُلَاناً: حَذَرَهُ وَ خافَهُ؛ تَجَنَّبَهُ.
فدار التقيّة: هي الموضع الذي يجب على الإنسان فيه أن يأخذ حذره، و يحفظ نفسه من شرّ العدوّ؛ و لا تقيّة عند ما يكون الإمام العادل هو الماسك للسلطة، و كلّ دم يسفك بأمره فهو دم مسفوك في محلّه، و ليس من موضع تقيّة و إن حكم بقتل جميع الكفّار؛ أي ليس موضع حفظ دم. و يكون عاصياً كلّ مَن تصرّف بخلاف قول الإمام العادل. و أمّا إذا كانت السلطة بيد الحاكم الجائر الذي لا تكون أوامره صادرة على أساس الحقّ، و كثيراً ما تصدر منه أوامر مخالفة للشرع، بل على الأغلب تكون كذلك (و الأصل أنَّ وجود الحاكم الجائر أمر مخالف للشارع). و على هذا، تكون الدماء المسفوكة قد سفكت على غير حقّ، و إن كانت دماء الكفّار و المشركين، إذ لا يكون سفك دماء الكفّار صحيحاً إلّا بأمر الحاكم العادل. و لا يحقّ للحاكم الجائر أن يقتل الكافر، لأنَّ الدار دار تقيّة، أي الدار التي يجب أن تُحفظ فيها الدماء.
يقول الإمام للمأمون: "لا يجوز قتل أيٍّ من الكفّار في دار التقيّة، إلّا أن يكون ذلك الكافر قد قَتَل شخصاً فيُقتل قصاصاً، أو تعدّي على مسلم فيُقتل عند ذلك، وَ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَحْذَرْ عَلَى نَفْسِكَ، فإنَّما يجوز قتل الكفّار عند ما لا يكون ثمّة خوف على النفس، و إلّا جاز قتلهم. و كذلك لا يجوز أكل أموال المخالفين و غيرهم تحت لواء الحاكم الجائر".
فوجوب التقيّة يكون في دار التقيّة حيث وجود الحاكم الجائر هناك؛ بحيث إذا لم يتَّقِ المرء، فإنَّه يُعَرِّض دمه و عرضه و جميع ما يمت إليه إلى الهلاك. فعندئذٍ يكون حفظ الدم في مرحلة كهذه من الواجبات. و لو حلف
الإنسان يميناً تقيّةً و كان هدفه حفظ نفسه، فلم يرتكب معصية و لا كفّارة عليه أيضاً.
السادس: رواية محمّد بن عبد الله السمندريّ؛ يقول: قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنِّي أكُونُ بِالبَابِ (يَعْنِي بَابٍ مِنَ الأبْوَابِ) فَيُنَادُونَ: السِّلَاح! فَأخْرُجُ مَعَهُمْ؟!
المراد من الباب أحد الأمكنة التابعة للحكومة.
فَقَالَ: "أ رَأيْتَكَ إنْ خَرَجْتَ فَأسَرْتَ رَجُلًا فَأعْطَيْتَهُ الأمَانَ وَ جَعَلْتَ لَهُ مِنَ العَهْدِ مَا جَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و آلهِ [وَ سَلَّمَ] لِلْمُشْرِكِينَ، أ كَانَ يَفُونَ لَكَ بِهِ؟! قَالَ: لَا وَ اللهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ؛ مَا كَانَ يَفُونَ لِي. قَالَ: فَلَا تَخْرُجْ. ثُمَّ قَالَ لِي: أمَا إنَّ هُنَاكَ السَّيْفُ".
عند ما كان يعطي أيّ مسلمٍ الأمان لمشرك في زمن النبيّ، فإنَّ أمانه يُحترم من قبل جميع أفراد الجيش، من أوّله إلى آخره، رئيسه و مرءوسه. و قول الإمام: «أمّا إنَّ هُنَاكَ السَّيْفُ» أي أنَّ هذا ظلم و قتل، و ليس دعوة إلى القرآن و الحقّ. و إنَّما يكون الجهاد محترماً عند ما يكون فيه أمان، فكلّ أمان محترم و على الجميع مراعاته. كما كان النبيّ- وفقاً لآيات القرآن- يُراعى أمان المؤمنين و المسلمين؛ و بما أنَّ الغنيمة يجب أخذها طبقاً للقاعدة القرآنيّة، فعمل هؤلاء إذَن هو خروج و قتل و ليس بجهاد.
السابع: خَبَر الحَسَنِ بْنِ العَبَّاسِ بْنِ الجَوْشيِّ عَنْ أبي جَعْفَرٍ الثَّانِي عَلَيْهِ السَّلَامُ في حَديثٍ طَويلٍ في بَيانِ {إِنَّا أَنْزَلْناهُ}قَالَ: وَ لَا أعْلَمُ فِي هَذَا الزَّمَانِ جِهَاداً إلَّا الحَجَّ وَ العُمْرَةَ وَ الجِوَارَ.۱
خبر عبد الملك: لو كان جهاد الحكّام خيراً لما سبقوا الإمام إليه
الثامن: خبر عبد الملك بن عمر، قال: قَالَ: قَالَ لِي أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "يَا عَبْدَ المَلِكِ! مَا لِي لَا أرَاكَ تَخْرُجُ إلَى هَذِهِ المَوَاضِعِ الَّتِي يَخْرُجُ إلَيْهَا أهْلُ بِلَادِكَ؟! قَالَ: قُلْتُ: وَ أيْنَ؟ قَالَ: جُدَّةَ وَ عُبَّادَانَ وَ المَصِيصَةِ وَ قَزْوِينَ. فَقُلْتُ: انْتِظَاراً لأمْرِكُمْ وَ الاقْتِدَاءَ بِكُمْ! فَقَالَ: إي وَ اللهِ! لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إلَيْهِ".
جَدَّة بفتح الجيم غلط، و جُدَّة بضم الجيم هي مدينة تقع على البحر الأحمر، و هي على مسافة قريبة من مكّة.
يُعلم من هذا الخبر أنَّه لا خير من هذا الجهاد، بل هو شرٌّ محض، و إنَّما الخير عندنا (أهل البيت) الذين لا نقرب هذا الجهاد.
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَانَ [نَوَاطٌ] يَقُولُونَ لَيْسَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ جَعْفَرٍ خِلَافٌ إلَّا أنَّه لَا يَرَى الجِهَادَ.
فَقَالَ: أنَا لَا أرَاهُ؟! بَلَى وَ اللهِ إنِّي لأرَاهُ وَ لَكِنْ أكْرَهُ أنْ أدَعَ عِلْمِي إلَى جَهْلِهِمْ.
أي أنِّي أوّل مسلم، و أوّل مجاهد في سبيل الله، و أوّل عامل بآيات القرآن الداعية إلى القيام و الجهاد. و أنَّ جهاد هؤلاء ناشئ عن الجهالة، و عن العمي و الجهل، و إن أردتُ أن اجاهد مع هؤلاء فعَلَيَّ أن أقضي على جميع إدراكاتي، و أصبح تابعاً لمحض ضلالهم و جهلهم، أ فهل هذا ممكناً؟ و هل يمكن لعاقل أن يخضع لآراء الظلم و البطلان؟ فالواقع الخارجيّ إذَن يوجب عَلَيَّ أن لا اجاهد، لا من لحاظ عدم رؤيتي لوجوب الجهاد.
الادلّة العامّة على ولاية الفقيه قائمة لإيجاب الجهاد في زمن الغيبة
يقول المرحوم صاحب «الجواهر» بعد نقل هذه الرواية: إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الَّتي مُقْتَضَاهَا كَصَرِيحِ الفَتاوَى عَدَمُ مَشْروعيَّةِ الجِهادِ مَعَ الجائِرِ وَ غَيْرِه. بَلْ في «المَسالِكِ» وَ غَيْرِها عَدَمُ الاكْتِفاءِ بِنائِبِ الغيبَةِ، فَلَا يَجوزُ لَهُ تَوَلِّيهِ.
بَلْ في «الرِّياض» نَفْيُ عِلْمِ الخِلافِ فِيهِ حَاكِياً لَهُ عَنْ ظاهِرِ «المُنْتَهى» وَ صَريحِ «الغُنْيَةِ» إلَّا مِنْ أحْمَدَ في الأوَّلِ؛ قَالَ: وَ ظَاهِرُهُما الإجْماعُ مُضَافاً إلَى مَا سَمِعْتَهُ مِنَ النُّصُوصِ المُعْتَبرَةِ وُجودَ الإمَام.
يقول: لَكِنْ إنْ تَمَّ الإجْماعُ المَزْبُورُ فَذَاكَ، وَ إلَّا أمْكَنَ المُناقَشَةُ فِيهِ بِعُمُومِ وَلايَةِ الفَقيهِ فِي زَمَنِ الغِيبَةِ الشَّامِلَةِ لِذَلِكَ المُعْتَضَدَةِ بِعُمُومِ أدِلَّةِ الجِهَادِ، فَتَرَجَّحَ عَلَى غَيْرِهَا.۱ انتهى موضع الحاجة.
و الحاصل، أنَّه ليس من المعلوم ثبوت الإجماع المدّعي (كما بيّن ذلك رحمه الله بقوله إنّ تَمَّ)، و ذلك لأنَّ الإجماع المحصّل منه غير حاصل، و المنقول منه غير حجّة.
و غير الإجماع المنقول لم ينقل هنا شيء آخر. و عموم أدلّة ولاية الفقيه التي بُحثت فيما سبق تدلّ على أنَّ جميع شئون ولاية الإمام هي للفقيه الأعلم و الأشجع و الأقوى، و المتّصل بوليّه أي إمام العصر، و الذي يستطيع أن ينهل من معين الولاية؛ فبإمكان شخص كهذا أن يأمر و ينهي. و عموم أدلّة العلم و إطلاق أدلّة الجهاد أيضاً قائمة في محلّها إلى يوم القيامة.
بناءً على هذا، فلا تفاوت في أدلّة الجهاد بين زماني الغيبة و الحضور، و في زمان ولاية الفقيه العادل عند ما تكون حكومته قائمة (أي يكون حاكماً مبسوط اليد) فيستطيع أن يقيم الجهاد، بل إقامة الجهاد من واجباته، كما بحثنا ذلك فيما سلف، حيث يلزم على الحاكم أن يقوم بالجهاد و لو مرّة في السنة حذراً من تعطيل هذا الفرض؛ و لمّا كانت عزّة الإسلام قائمة على أساس الجهاد، فتعطيل الجهاد يعني أنَّ حكم الناس
حكم الأموات، لأنَّ المذلّة و القعود سيكون سائداً. و كم كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يستبشر بالجهاد. و كم كان يُسرّ صلّى الله عليه و آله بالجهاد! فالجهاد يعني الحياة، و الجهاد ليس قتلًا للناس، بل هو طريق هداية الكافر للإسلام، و إظهارٌ للقرآن و إقامة للصلاة و للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في جميع أنحاء العالم. و هذه من أفضل الخصال التي يأمر القرآن الكريم بها بنحو الإطلاق و العموم.
و على هذا، فليس هناك أيّ وجه لتخصيص الجهاد بيد إمام العصر عليه السلام و سدّ بابه في زمان الغيبة. بل إنَّ الجهاد باقٍ في محلّه مع جميع شرائطه و آدابه، و لكن يجب أن يكون بإشراف الوليّ الفقيه الجامع للشرائط. فلو وُجِدَ فقيه عادل بجميع تلك الخصوصيّات، و بايعه الناس أيضاً و قامت الحكومة، فمن حقّ ذلك الفقيه أن يحكم بالجهاد عند رؤيته بضرورته، كما من حقّه أن لا يأمر بالجهاد إن لم يَرَ ضرورة داعية له.
و يجب أن يُعلم أن المقصود من تحقّق الجهاد في زمان الغيبة ليس أن يأمر الوليّ الفقيه كلّ يوم بالجهاد، بل المراد هو أنَّ أمر الجهاد بيده فيأمر به حينما يري المصلحة في ذلك، و لا يأمر به إن لم يَرَ مصلحة و الكلام أيضاً في الجهاد لا في الدفاع، فالدفاع واجب في مختلف الصور.
لكن بحثنا هو: أنَّ من وظائف حكومة الإسلام و الولاية هي إيجاد وزارة الجهاد التي عليها تربية المسلمين و تعليمهم فنون الحرب و إرسالهم إلى جهاد الكفّار. فهذه من وظائف الحكومة الإسلاميّة. و الضرورة قاضية بأن يكون للحكومة الإسلاميّة وزارة كهذه.
تفاؤل رسول الله بصهيل خيل المجاهدين
و قد كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يحبّ الجهاد كثيراً، و كان يبتهج و يسرّ بالجهاد غاية الابتهاج، لأنَّ الجهاد دعوة إلى الحياة، و دعوة إلى المبدأ، و دعوة إلى الوطن الأصليّ. و كأنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله كان يري نفسه غريباً
بين الناس في الأرض سوي مَن أسلم منهم، فهؤلاء من أهل الوطن. و لذا كان رسول الله يعشق أسلمة الناس، حتّى شوهد امور في بعض التواريخ عن كيفيّة سلّه السيف و الرمح و تحريكه الجيش و هي مدعاة للتعجّب، فقد كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يبيّن أحاسيسه حتّى بالنسبة إلى الفرس الذي يأخذونه إلى الجهاد، فكان يمسح على ظهر ذلك الفرس بيده أو بالمنديل و يلقي عليه قميصه أو يمسح التراب عنه بردائه، و كأنَّه كان يحادث ذلك الفرس (الفرس الذي يمتطونه و يقاتلون به).
ينقل الواقِديّ في «المغازي» أنَّه عند ما كان رسول الله ذاهباً إلى معركة تبوك أهْدي رَجُلٌ مِنْ قُضاعَةَ إلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلهِ] وَ سَلَّمَ فَرَساً، فَأعطاهُ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ وَ أمَرَهُ أنْ يَرْبِطَهُ حِيالَهُ، اسْتِئْنَاساً بِصَهِيلِهِ.
فَلَمْ يَزلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلهِ] وَ سَلَّمَ المَدينَةَ، فَفَقَدَ صَهيلَ الفَرَسِ فَسَألَ عَنْهُ صاحِبَهُ، فَقالَ: خَصَيْتُهُ يَا رَسولَ اللهِ.
لم يتعرّض له رسول الله بأيّ شيء، لكن يُعلم من الامور التي ذكرها في الجواب كم كان النبيّ منزعجاً (كأنَّه يريد أن يقول: إنِّي أعطيتك فرساً ذكراً يديم الصهيل و يملأ الصحاري و الفلاة بأصواته، و إنَّ صوت صهيل الخيول العربيّة التي تكون مع الغزاة تُرعب قلوب الكفّار و المشركين في ميدان الحرب و تزلزلهم، و كلّ صهلة فرس تساوي قوّة عدّة سيوف، فعلامَ خصيته؟! فإنِّي لم أشأ أن أعطيك فرساً مخصيّاً، و إنَّما أعطيتك فرساً فحلًا يصهل. و بالطبع، فإنَّ رسول الله لم يقل شيئاً، لأنَّ الرجل قد صار صاحب الفرس بعد أن أهداه له رسول الله، و يستطيع أن يعمل فيه ما يشاء، لكنَّ رسول الله قال له: خذ هذا الفرس و اربطه قريباً منّي باستمرار، أي أسمعني صوته لكي اسرّ و أبتهج بسماعه، لكنَّ ذلك الشخص قد فعل بالفرس ما فعل!)
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلهِ] وَ سَلَّمَ: "فَإنَّ الخَيْلَ فِي نَواصِيهَا الخَيْرُ إلَى يَومِ القِيَامَةِ. اتَّخِذُوا مِنْ نَسْلِهَا وَ بَاهُوا بِصَهِيلِهَا المُشْرِكِينَ. أعْرَافُهَا أدْفَاؤُهَا وَ أذْنَابُهَا مَذَابُّهَا. وَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشُّهَدَاءَ لَيَأتُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأسْيَافِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ لَا يَمُرُّونَ بِأحَدٍ مِنَ الأنْبِيَاءِ إلَّا تَنَحَّى عَنْهُمْ؛ حَتَّى إنَّهُمْ لَيَمُرُّونَ بِإبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ (خَلِيلِ الرَّحْمَنِ) فَيَتَنَحَّى لَهُمْ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ.
يَقُولُ النَّاسُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اهْرِيقُوا دِمَاءَهُمْ لِرَبِّ العَالَمِينَ؛ فَيَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ بَيْنَ عِبَادِهِ.
قَالُوا: وَ بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلهِ] وَ سَلَّمَ بِتَبُوكَ قَامَ إلَى فَرَسِهِ الظَّرِبِ فَعَلَّقَ عَلَيْهِ شِعَارَهُ وَ جَعَلَ يَمْسَحَ ظَهْرَهُ بِرِدَائِهِ.
قيلَ يَا رَسُولَ اللهِ! تَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِرِدَائِكَ؟!
قَالَ: "نَعَمْ؛ وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ جِبْرِيلَ أمَرَنِي بِذَلِكَ؛ مَعَ أنِّي قَدْ بِتُّ اللّيْلَةَ وَ إنَّ المَلَائِكَةَ لَتُعاتِبُني فِي حَسِّ الخَيْلِ وَ مَسْحِهَا.
وَ قَالَ: أخْبَرَنِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ: أنَّهُ يَكْتُبُ لِي بِكُلِّ حَسَنَةٍ أوفَيْتُهَا إيَّاهُ حَسَنَةً. وَ إنَّ رَبِّي عَزَّ وَ جَلَّ يَحُطُّ عَنِّي بِهَا سَيِّئَةً.
وَ مَا مِنِ امْرِئٍ مِنَ المُسْلِمِينَ يَرْبِطُ فَرَساً فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُوَّفِّيَهُ بِعَلِيفِهِ يَلْتَمِسُ بِهِ قُوَّتَهُ إلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ حَبَّةٍ حَسَنَةً، وَ حَطَّ عَنْهُ بِكُلِّ حَبَّةٍ سَيِّئَةً.
قِيلَ: يَا رَسولَ اللهِ! وَ أيُّ الخَيْلِ خَيْرٌ؟!
قَالَ: أدْهَمُ، أقْرَحُ، أرْثَمُ، مُحَجَّلُ الثُّلْثِ، مُطْلَقُ اليَمِينِ؛ فَإنْ لَمْ يَكُنْ أدْهَمُ فَكُمَيْتٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ".۱
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدرْسُ الثّامِنُ و الثَّلَاثُونَ: وُجُوبُ الجِهَاد فِي الحُكُومَةِ الإسْلَامِيَّةِ تَحْتَ وَلايَةِ الفَقِيهِ الإلَهِيِّ المُتَجَاوِزُ لِذَاتِهِ وَ المُتَّصِلُ بِاللهِ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
البحث المهمّ الذي يجب أن يُطرح هنا هو: هل أصل تأسيس الحكومة الإسلاميّة و تصدّي الوليّ الفقيه أمر لازم أو لا؟ و هل إقامة ولاية الفقيه واجبة على المؤمنين و المسلمين؟ و أ ليس هناك محلّ لتعيين حاكم الشرع في زمان الغيبة حيث يكون الإمام المعصوم في حالة استتار؟ و هل يختصّ هذا الأمر بالإمام المعصوم عليه السلام؟ و هل يُعدّ التصدّي لمقام الإمامة و الآمريّة و الولاية من قبل أيّ كان في زمن الغيبة غصباً لمقام الإمامة و الوصاية و الخلافة؟ و بناءً على هذا، فهل يكون تأسيس الحكومة بأيّ نحو كان إقامةً لحكومة في مقابل حكومته، و ولايةً في مقابل ولايته؟ و أن ليس هذا الأمر غير مستحسن فحسب، بل هو أمر مذموم أيضاً، لأنَّه غصب لمقامي الخلافة و الوصاية.
و لذا، فقد قال الكثير من الأخباريّين إنَّه لا ولاية في زمان الغيبة، و يجب ألَّا تقام الحدود، و إنَّ إقامة صلاة الجمعة حرام كذلك. كما شكّك
بعض الفقهاء أيضاً بوجوب صلاة الجمعة و احتملوا حرمتها انطلاقاً من أنَّ صلاة الجمعة تختصّ بالإمام المعصوم أو المأذون من قبله بالإذن الخاصّ. و لهذا، فلا يجوز إقامة صلاة الجمعة لغير الإمام أو المنصوب من قبله.
و في هذه الحالة، إمَّا أن يكون أصل صلاة الجمعة محرّماً، أو لو صلّى الإنسان صلاة الجمعة احتياطاً فعليه أن يصلّي صلاة الظهر كذلك؛ حيث إنَّه مع القطع باشتغال الذمّة لكنَّ اليقين من فراغها غير حاصل. و يحصل فراغ الذمّة بعمل المكلّف بالاحتياط في طرفي الشبهة، و هما صلاة الجمعة و صلاة الظهر.
و زاد البعض على ذلك قائلًا: وفقاً للروايات التي بين أيدينا فإنَّ الفساد يكثر في زمان الغيبة، و تشتدّ المنكرات، و يعمّ الظلم و الجور أنحاء العالم؛ و عند ما تمتلئ الأرض بالشرك و الظلم يكون خروج الإمام، حيث "يَمْلأ اللهُ بِهِ الأرْضَ قِسْطاً وَ عَدْلًا بَعْدَ مَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَ جَوْراً". و بناءً على هذا، فكلّما ازداد الفساد قَرُب الفرج.
و حتّى أنَّ بعض العوامّ يقولون: من الأفضل أن يزداد الفساد لكي يقترب ظهور الإمام، و إنَّ كلّ تقدّم و عمل لأجل الإصلاح بمثابة عمل مضادّ للإمام، لأنَّه يؤخّر ظهوره؛ و بما أنَّنا عشّاق لقاء الله فعلينا أن نقوم بما يعجّل ظهوره. فإذا قمنا بالعمل الصالح و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فسوف يظهر الصلاح في الخارج، و كلّما ظهر الصلاح و عمّ تأخّر ظهور الإمام!
إلى أن يقولوا: ليس هناك أيّ إشكال فيما لو ازداد علينا تعدّي حكّام الجور و الظلم، و عمّ الكفر في العالم، و ازدادت هيمنة اليهود و النصارى علينا؛ لأنَّه سيحلّ: "بَعْدَ مَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَ جَوْراً"، و هو ما ينبغي التفاؤل به خيراً باعتباره من مقدّمات ظهور الإمام.
و كان البعض في زمان الشاه محمّد رضا البهلويّ يقول: إنَّ شيوع التبرّج يقرّب ظهور الإمام، و لا ينبغي مخالفته، و لندع أمر الناس بالحجاب جانباً، كما لا ينبغي للنساء المؤمنات من رفض التبرّج، لأنَّ هذه الأعمال تؤخّر الظهور!
لكنَّ المرحوم الحاجّ السيّد حسين القمّيّ رحمة الله عليه جاء من العراق و عقد معاهدة مع محمّد رضا البهلويّ على لزوم السماح بحرّيّة الحجاب، و عدم إجبار الناس على نزعه، رحمة الله عليه رحمة واسعة.
لقد كان سيّداً غيوراً ثابت القدم، و تصدّي لتحرير النساء من قيود الدولة؛ فبعد مضي سنوات طويلة على عدم السماح بارتداء العباءة، حتّى أنَّ بعض النساء قد ضممن عباءاتهنّ إلى أكفانهنّ، لأنَّهنَّ كُنَّ يعلمن أن لن يأتي ذلك اليوم الذي يعدن فيه إلى حجابهنّ ما دمن أحياء! لكنّ وقفة ذلك الرجل جعلت الدولة تمضي على خمس موادّ، من ضمنها حرّيّة الحجاب للنساء، و أن ليس من إجبار للتبرّج لمن تريد لبس العباءة.
و لقد شهدنا في ذلك الزمان معارضة عدد من الناس له ممّن قالوا: إنَّ هذا السيّد قد جاء ليؤخّر ظهور صاحب الزمان! أو الحديث الذي جري أخيراً في المجالس عن التبرّج مرّة اخرى، و كانت أشرف البهلويّ (اخت الشاه محمّد رضا البهلويّ) قد قالت: إنِّي لن أسمح بذهاب جهود والدي هدراً، و ذلك العمل الذي كان يجب أن يُعاد مرّة اخرى (أي انتشار التبرّج في المدارس و الجامعات)، فقامت وزارة الثقافة على تثبيت هذا الأمر. عندها، سُرَّ البعض بذلك و قالوا: هذا العمل يساعد على ظهور صاحب الزمان و يعجّله!
و سمعت بنفسي من أحد الوعّاظ الذي قام بالبحث من على المنبر لمدّة ساعة، و أثبت بأدلّة شرعيّة مُتقنة أنَّ الدنيا هي لعُبَّاد الدنيا، و أن
لا علاقة لأئمّتنا بامتلاك الدنيا و الرئاسة و الآمريّة و الحاكميّة، و أن لا علاقة للتدخّل في الامور الاجتماعيّة و السياسيّة للناس و الرئاسة عليهم و الأمر و النهي بمسألة الإمامة أصلًا، و أنَّ قضيّة الإمامة و الولاية تنهج في مسار آخر، لم تكن ثورة سيّد الشهداء عليه السلام لمحاربة يزيد أساساً بأيّ وجه من الوجوه، و كلّ ما هنالك أنَّ الإمام عليه السلام كان مأموراً للمجيء إلى كربلاء ليقتل فيها، فسار الإمام ذلك المسير لأجل ذلك الميعاد الذي كان قد عقده الله معه في ميثاق «أ لست ...» و من ثمّ نال فوز الشهادة!
ردّ أدلّة القائلين بعدم جواز إقامة الحكومة الإسلاميّة و ... في الغيبة
علينا أن نعوذ بالله تعالى من قلّة الفهم و الجهل هذه، فكم على الإنسان أن يكون جاهلًا و بعيداً عن القرآن و السنّة لكي يكون نمط تفكيره بهذا النحو الذي رسمه لنا العدوّ، و أرادوا لنا أن نكون عليه.
بطلان قول: إنَّ العمل على إصلاح المجتمع يوجب تأخير الظهور
لا يعلم، اولئك المساكين أنَّ الظهور الحقيقي لصاحب الزمان عليه السلام ليس ظهوراً شخصيّاً و جسميّاً و عينيّاً فقط، و أنَّ ظهور صاحب الزمان يعني ظهور الدين، و ظهور الصدق و العدالة و التوحيد، و أنَّ الإمام يظهر بين الناس بمقدار ما يظهر الدين بينهم. و كلّما قال الناس الصدق أكثر و تعاملوا على أساس العدالة فإنَّ حقيقة الإمام تكون قد ظهرت فيهم أكثر، و بمقدار ما يرتكب الناس المعاصي و الجرائم فإنَّ حقيقة الإمام تكون غائبة عنهم أكثر. و عندها، فمن خلال هذه الأعمال يُبعدون أنفسهم عن ظهوره عليه السلام بدلًا من أن يقتربوا إليه، و يعملون خلافاً للكتاب و السنّة، و يكتفون من العشق للإمام عليه السلام بدعاء الندبة و البكاء، و من ثمّ يقومون بعدها بأيّ عمل كان من الاحتكار و الاستغلال و سائر الامور المادّيّة و الطبيعيّة التي قد نُهي عنها، و يكتفون بذلك مسرورين!
مع أنَّ هذا ليس كافياً، فدعاء الندبة يجب أن يُقرأ، و لكن بالشكل الذي يقرِّب الإنسان فكره بدعاء الندبة إلي حقيقة صاحب الزمان، لا أن
يبتعد عنه و يكتفي بالبكاء الظاهريّ، و يتحرّك في غياهب من الجهالة، بخلاف منهجيّة رضا الإمام عليه السلام.
و على كلّ تقدير، فقد تمسّك البعض بهذا المنطق بنسبة ما، و يقولون ببطلان كلّ النهضات قبل قيام الإمام عجّل الله فرجه الشريف، أيّاً كانت؛ و لا ينبغي لأيٍّ كان أن يلجأ لأعمال الخير و العدالة و لو بنحو الموجبة الجزئيّة، لأنَّ ذلك مخالف لنظريّته عليه السلام!
و يدور بحثنا الآن حول الامور التالية: أوّلًا: ما الذي تقوله لنا كلّيّات القرآن المجيد و السنّة النبويّة؟ و ثانياً: ما هي وظيفتنا في زمان الغيبة؟ و ثالثاً: ما هي الآيات و الروايات و التواريخ الموثّقة التي نمتلكها حول هذه القضيّة؟ و هل الأمر كما يقوله هؤلاء حقّاً، أو لا؟ إنَّ تأسيس الحكومة الإسلاميّة و تحقّق ولاية الفقيه و اتّباع الفقيه العادل الأعلم هو من ضروريّات الدين، و كلّ من لا يهتمّ بهذا الأمر فصلاته و صومه و حجّه و أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر ليس مقبولًا، و إنَّ تأسيس حكومة الإسلام من أهمّ وظائف المسلمين.
إطلاق آيات القرآن في لزوم القيام بالحقّ و نشر القسط في المجتمع
لدينا في القرآن المجيد آيات حول وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و القيام بالقسط، و هذه الآيات مطلقة و لا تختصّ بزمانٍ دون زمان. فإطلاقها إذَن يشمل زمان الغيبة. و هي موجّهة لكلّ فرد من المسلمين، تنهاهم عن الارتباط بروابط المودّة مع اليهود و النصارى، أو أن يفسحوا لهم المجال للنفوذ إلى أوساطهم؛ كقوله تعالى:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}.۱
و كالآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}.۱
يا أيُّها الذين آمنوا عليكم أن تكونوا قوّامين للّه و في سبيل الله، قوّامين في سبيل الله و لكلّ شيء في سبيل الله (أعمّ من الصلاة و الصوم و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الجهاد و الصدقات و الزكوات و النكاح و الكسب و العمل) و كلّ ما هو في سبيل الله فهو في عهدتكم. أي قوموا بالحقّ و ارفعوا لواء الحقّ لينعم الناس بثمار المعنويّة تحت لوائكم و في ظلّ نهضتكم. عليكم أن تكونوا شهداء بالقسط و العدل لجميع الناس في العالم (لا شهداء لأنفسكم و على الآخرين، بل شهداء بالصدق و بالحقّ). و إذا عاداكم البعض فلا يكن ذلك سبباً لا نحرافكم عن طريق العدالة، فتميلون بالحكم عليه و لصالح أصدقائكم. فعليكم في كلّ حال أن تحكموا بالعدالة، سواء كان لعدوّكم أم لصديقكم؛ فهذا الطريق و النهج هو أقرب للتقوي، و يحفظكم في حالة من الطهارة و يقيكم من الحوادث النفسانيّة و الشيطانيّة بصورة أفضل.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.٢
و يقول الله تعالى في هذه الآية بنحو العموم: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} و الحقّ بين الناس، و احملوا لواء العدالة، و ليس عليكم أن تكونوا قائمين بالقسط فقط، بل كونوا قوّامين بالقسط، أي ليس المطلوب أن تجروا و تطبّقوا العدالة و القسط على أنفسكم و أهل بيتكم فقط، بل يجب أن يكون قيام الجميع بكم، و أن تكونوا حرّاساً و حُماة للقسط و العدل، عليكم أن تكونوا شهداء للّه بالحقّ و الصدق، و إن كانت الشهادة عليكم أو على أقربائكم، فاشهدوا بالحقّ. و إذا رأيتم شخصاً فقيراً فلا تميل قلوبكم إليه بسبب فقره فتحكموا له، و لا تقولوا إنَّ هذا شخص ضعيف و مسكين، بل احكموا على أساس الحقّ، فالله أولي بذلك الفقير أو الغنيّ، و ولايته على هؤلاء أكبر من ولاية أنفسهم، و هو يلاحظ الحقّ أكثر و يحكم به. فلا تتّبعوا أهواءكم إذَن، و تحرّكوا دوماً في نهج العدالة، و بيّنوا الحقيقة صريحة و واضحة عند أدائكم للشهادة. لا بشكل مجمل و مُبهم بنحوٍ تصبح فيه نتيجتها لصالح من تحبّون، أو أن تعرضوا عن الشهادة و لا تقوموا بها مع علمكم و اطّلاعكم الكامل على الواقع، و اعلموا أنَّ الله مطّلع على أعمالكم و نيّاتكم و خبير بها، و سوف يسألكم عن كلّ ما تقومون به.
و لا شكّ في كون قوله تعالى في هذه الآيات {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاباً لعامّة المكلّفين من النساء و الرجال.
و قد ورد في سورة المائدة في ثلاثة موارد: ذيل الآيات ٤٤ و ٤٥ و ٤۷ بالترتيب، قوله تعالى: {وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ}، {وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ}.
أ فليست تصدق هذه العناوين (الفسق، الكفر، الظلم) في عصر الغيبة على مَن لم يحكم بما أنزل الله؟! و هل تُرك الناس في زمان الغيبة من دون
تكليف ليصبحوا مثل هَمَجٍ رعاع و كالحيوانات بَلْ هُمْ أضَلُّ؟! و هل جعلهم الله كالبهائم فلا يؤاخذهم إذا حكموا بخلاف ما أنزل؟!
و الخلاصة، هل يكون القرآن في آخر الزمان ميّتاً أو منسوخاً؟! و هل نَسَخَت الآداب الجاهليّة و التقاليد الوطنيّة و الآراء و الأفكار الشهوانيّة القرآنَ؟! أ فلم تعد آيات {مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} صادقة هنا؟! و على الإنسان أن يختار السكوت أمام كلّ ما يراه من قبح و فساد و ظلم- فرديّ أم اجتماعيّ- لأنَّ هذا القيام و الأمر بالمعروف مخالف لنهج و رأي الإمام بالحقّ؟!
إذا كان الأمر كذلك فهو عجيب حقّاً، لأنَّ ذلك الإمام سوف لا يكون إماماً بالحقّ، بل هو إمام بالظلم. فالإمام الذي لا يريد للإنسان أن يقوم بالعدل و يقوم بالحقّ و يغيث المظلوم، و يحبّ أن يستمرّ الظالم على ظلمه، أو يعينه للظالم، أو يدخل في أجهزة الظلمة، و يكون هذا الأمر منسجماً مع روحه؛ فهذا الإمام ليس صاحب الزمان، بل هو شيطان رجيم في جميع العوالم إلى يوم الوقت المعلوم. و هو القائم بإغواء البشر.
عند ما عاد النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله من معركة تبوك (لقد طالت معركة تبوك جدّاً، و حدثت فيها ملابسات، و هي و إن لم تتمّ، لكنّ طول السفر في الصيف و السير من المدينة إلى الشام قد سبّب الكثير من المشاكل و المشقّات) أخبر أنَّه لا تقع حرب بعد ذلك، أي أنَّه لن تقع أيّة حرب في حياة النبيّ- و كان الأمر كذلك، فقد كانت غزوة تبوك آخر غزوة لرسول الله- فعندئذٍ شرع المسلمون ببيع أسلحتهم قائلين إنَّ الجهاد قد انتهى، فاشتري المتمكّنون ماليّاً تلك الأسلحة. و عند ما علم النبيّ بذلك نهي عن هذا العمل؛ و قال: "لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ امَّتِي يُجَاهِدُونَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى
يَخْرُجَ الدَّجَّالُ"۱.
مَنْ رأَى سُلْطَانَاً جَائراً مُسْتَحِلَّا لِحُرُمِ اللهِ
روي الطبريّ في تأريخه عن أبي مِخْنَف، عن عَقَبة بن أبي العيزار أنَّه روي أنَّ سيّد الشهداء عليه السلام قد خاطب أصحابه و أصحاب الحُرِّ في البَيْضة بهذه الخطبة:
فَحَمِدَ اللهَ وَ أثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أيُّهَا النَّاسُ! إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و آلهِ قَالَ: مَنْ رَأى سُلْطَانَاً جَائِراً مُسْتَحِلَّا لِحُرُمِ اللهِ نَاكِثاً لِعَهْدِ اللهِ مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و آلهِ، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللهِ بِالإثم وَ العُدْوَانِ، فَلَمْ يُعَيِّرْ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَ لَا قَوْلٍ، كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ".٢
ثمّ يتابع الإمام عليه السلام خطبته، و اكتفينا هنا بذكر مطلعها كشاهد على ما نحن بصدده.
الجواب على ظاهر الروايات التي تدين كلّ وجوه القيام قبل الظهور
و يتمسّك الذين يقولون إنَّ على الإنسان ألَّا يلجأ إلى أيّ قيامٍ أو عملٍ في زمان الغيبة بعدّة روايات:
الاولي: الرواية التي يرويها الكلينيّ في «روضة الكافي» عن محمّد بن يحيي، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن
عيسى، عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام؛ قَالَ: "كُلُّ رَايَةٍ تُرْفَعُ قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ فَصَاحِبُهَا طَاغُوتٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ".۱
أي أنَّ صاحب تلك الراية طاغوت، و يسير في غير النهج الإلهيّ، و قد جعل نفسه معبوداً للناس. كما أنَّ الذين يتجمّعون حوله هم عبدة له، و عبادتهم تقع في غير السبيل الإلهيّة.
لا تختصّ الراية أيضاً براية واحدة «كُلُّ رَايَةٍ». فكلّ راية تُرفع (كُلُّ قد اضيفت إلى الراية، و الراية أيضاً نكرة و تفيد العموم)؛ بناءً على هذا، فهذا الحكم مستمرّ إلى قيام القائم. هذا هو مفاد الرواية.
و الآن؛ بغضّ النظر عن السند، فهل هذا المتن بنفسه مقبولًا، أو أنَّ المراد منه شيء خاصّ؟ يمكن الاستنتاج بقرينة قوله عليه السلام "قَبْلَ قِيَامِ القَائِم" أنَّ تلك الراية التي ترفع هي ليست كلّ راية تُرفع في طريق القائم و في نهج الدين و القرآن و الولاية، و في نهج رضا نفس القائم، و إنَّما هي تلك الراية التي تُرفع بخلاف راية القائم.
لأنَّ القائم عليه السلام له ثورة واحدة، و قيام واحد، و ذلك القيام هو بالحقّ، و يتحقّق ذلك القيام عند ما يكون في محلّه و موقعه و يستقرّ في مركزه. و كلّ من يرفع راية قبل قيام القائم، و إن كان باسم الدين، فإن لم يكن في نهج و مسير القائم فهو لأجل الذات و حبّ النفس أو الجاه، أو لأجل إيجاد محور ذاتيّ على الأقلّ؛ فتكون الولاية التي ينسبها إلى نفسه ضدّ ولاية القائم عليه السلام. لا أنَّها مندكّة و فانية في قيام القائم، و لا هي في مسير و نهج الإمام عليه السلام.
فإذَن؛ كلّ راية تكون قبل قيام القائم "فَصَاحِبُها طَاغُوتٌ"، لأنَّ قيام القائم يتحرّك نحو الله من خلال إزالة الإحساس بالذات و الاستكبار الموجود عند الناس. بينما هذه الراية هي لأشخاص يدعون إلى أنفسهم، و كلّ مَن يدعو إلى المحوريّة، و يجعل نفسه محوراً و مركزاً، فذلك طاغوت" يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ".
و يعتبر المجلسيّ في «مرآة العقول»۱ هذه الرواية موثّقة.
و الرواية الاخرى، يرويها العلّامة المجلسيّ في «بحار الأنوار» في أحوال الإمام الباقر عليه السلام، نقلًا عن «المناقب» لابن شهرآشوب.
يُرْوَى أنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ لَمَّا عَزَمَ عَلَى البَيْعَةِ قَالَ لَهُ أبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "يَا زَيْدُ! إنَّ مَثَلَ القَائِمِ مِنْ أهْلِ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ قِيَامِ مَهْدِيِّهِمْ مَثَلُ فَرْخٍ نَهَضَ مِنْ عُشِّهِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَسْتَوِيَ جَنَاحَاهُ؛ فَإذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَقَطَ فَأخَذَهُ الصِّبْيَانُ يَتَلَاعَبُونَ بِهِ. فَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ أنْ تَكُونَ المَصْلُوبَ غَداً بِالكُنَاسَةِ! فَكَانَ كَمَا قَالَ".٢
أي أنَّ زيداً خرج في الكوفة، و دعا الناس إلى البيعة ثلاثة أيّام (الأربعاء و الخميس و الجمعة)، فاجتمع حوله عددٌ من الناس، و كان خروجه يوم الأربعاء، و عند ما ظهر جيش الشام يوم الجمعة فَرَّ عنه جميع
مَن بايعه مِن الناس، و لم يبق معه إلّا ثلاثمائة شخص فقط، قُتلوا جميعاً، و اصيب زيد أيضاً بسهمٍ سقط على أثره في الميدان. فقاموا بصلبه في كناسة الكوفة. و بقيت جثّته على الصليب أربع سنوات.
و بما أنَّه كان على خلاف أمر الإمام و منعه فقد قُتل و صُلب كما قال الإمام، و علِّق في مزبلة الكوفة. و هذه الجملة التي قالها الإمام: "إنَّ مَثَلَ القَائِمِ مِنْ أهْلِ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ قِيَامِ مَهْدِيِّهِمْ مَثَلُ فَرْخٍ نَهَضَ مِنْ عُشِّهِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَسْتَوِيَ جَنَاحَاهُ"؛ تفيد هذا المعني. أي أنَّ كلّ مَن يقوم قبل قيام المهديّ فسوف يُبتلى بهذه الكيفيّة. و لذا، فلا ينبغي لأحدٍ- على نحو الإطلاق- أن يقوم قبل قيام المهديّ. فإطلاق الرواية إذَن يشمل جميع الأزمان، حتّى زمان الغيبة، و لا حقّ بالقيام لأحد، و إلّا كان كفرخ نهض من عشّه قبل أن يستوي جناحاه، فسيبتلي بالآفات و المصائب، و سيلاقي حتفه بهجمة عدوّه.
لكنَّ هذه الرواية بإطلاقها ليس في صدد بيان معني كلّ من يدافع عن أيّ حقّ. فمثله مثل الفرخ، بل يريد أن يقول الإمام عليه السلام هنا: إنَّ لدينا مهديّ واحد فقط، فمهديّ آخر الزمان شخص واحد، و ليس هناك مهديّ نوعيّ، و إنَّما المهديّ شخصيّ.
فالمهديُّ شخص من أهل البيت، قد ذُكِرَتْ جميع خصوصيّاته في الروايات من أنَّه يتولّى الولاية و الإمامة بعد الحادي عشر كما صرّح النبيّ أيضاً باسمه، و أنَّه مهديّ آخر الزمان. فذلك المهديّ هو الذي يقوم و يُخضع جميع الدنيا للواء عدله. و يقضي على جميع الأعداء بقوّة السيف، و لا يستطيع أحد مقاومته. فلو أراد أحد من أهل البيت الآن أن يخرج و يقوم بعمله فلن يتمكّن من ذلك، لأنَّ المهديّ هو الشخص الوحيد الذي تكون جناحاه قد استويا عند قيامه، و هو الذي يطير دفعة واحدة عند ما
يريد الخروج من عشّه و يعبر الأجواء و القمم و الجبال، و لا يقع ليأخذه الصبيان و يلعبوا به. و كلّ من أراد أن يقوم بعمله و قيامه قبل ذلك القيام، و يأخذ لواء المهديّ بيده للقضاء على العدوّ- أي أن يكون نفس المهديّ- فلن يكون مهديّاً، لأنَّ المهدويّة ليست نوعيّة و إنَّما هي شخصيّة، و قائمة به.
و على هذا، فإنِّي أنصحك يا أخي (أي كلام الإمام لأخيه زيد) فمع كمال العلم و الدراية و الحقيقة الذي تمتلكه، و مع سلامة نيّتك (بالقيام على الباطل) فإنِّي أنصحك من أنَّ هذا العمل لن يكون فيه مصلحة، لأنَّه وراء كلّ أمر ثمّة أمر أكثر غموضاً، و لكلّ ظاهر باطن، و لذلك الباطن أيضاً باطن؛ و قيامك هذا و إن كان لمنع الظلم و الفساد و قطع يد الأعداء عن التعدّي، و نيّتك أيضاً نيّة حقّ، لكن و بالالتفات إلى المسائل الاخرى التي أنت غافل عنها، فإنَّ دمك و دم غيرك من الأشخاص سوف يُسفك، و سوف تنتهي دون تحقيق الطموح؛ فلا تقم إذَن بهذا العمل، و أنّي أرى أنَّهم سوف يقتلونك غداً و يصلبونك في الكوفة، "فَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ"!
فأين هي دلالة هذه الرواية- بهذا النحو و مع حسنها- على عدم تمكّن أيّ أحد من إقامة الحكومة الإسلاميّة في زمان الغيبة؟ و أين يوجد فيها أن لا حقّ لأحدٍ في دفع الظلم؟ أو لا قدرة لأحد على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؟
قيام محمّد و إبراهيم ابني عبد الله المحض لم يكن صحيحاً
"إنَّ مَثَلَ القَائِمِ مِنْ أهْلِ هَذَا البَيْتِ"، أي أنَّ كلّ مَن يقوم مِن أهل هذا البيت، مثل محمّد (صاحب النفس الزكيّة) و إبراهيم الغَمْر ابنا عبد الله المحض، اللذان ثارا و قتلا بعد نصح الإمام الصادق عليه السلام لهما بترك هذا العمل.
لقد دعوا الناس لأنفسهما بعنوان المهدويّة، و قالا: نحن ذلك المهديّ الذي أخبر عنه النبيّ و قام عبد الله المحض ابن الحسن بن
الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام (أي ابن الحسن المثنّى) بدعوة الناس للبيعة بعنوان المهدويّة، و كذلك بايع بنفسه محمّداً بصفته المهديّ.
فيقول الإمام عليه السلام: لا تقوموا بهذه الأعمال، لأنَّ ذلك المهديّ شخصيّة خاصّة، فحتّى لو اجتمعت معكم الدنيا بأسرها و بايعتكم بعنوان المهدويّة فلن تصيروا المهديّ، لأنَّ المهديّ هو ذلك الشخصيّة الخاصّة، و على الإنسان أن يسعى إليه.
و على أساس هذا الكلام كانت الرواية المرويّة في «فرائد السمطين» و «عيون أخبار الرضا» أنَّه لما أراد الإمام الباقر عليه السلام أن يوصي بالولاية للإمام الصادق عليه السلام كان أخوه زيد بن عليّ بن الحسين حاضراً، و قال له ما مضمونه: لو فعلت ما فعل الإمام الحسن عليه السلام من نقله الإمامة و الولاية لأخيه لا لابنه لكان ذلك عملًا حسناً.
فأجابه الإمام عليه السلام: أنَّ هذا الأمر ليس بيدي، و نحن لا نملك الاختيار في ذلك، و لست الذي اريد إعطاء الولاية من نفسي لا بني جعفر، فإنَّ هذا الأمر معيّن من قبل، و خارج عن اختياري.
أسماء الائمّة الاثني عشر في «صحيفة فاطمة» عليها السلام
يروي في «فرائد السمطين» و «عيون أخبار الرضا» بسنده المتّصل عن أبِي نَضْرَة أنَّه قال: لما احتضر أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهما السلام دعا ابنه الصادق عليه السلام ليعهد إليه عهداً؛ فقال له أخوه زيد بن عليّ عليه السلام:
لَوِ امْتَثَلْتَ فِي تِمْثَالِ الحَسَنِ وَ الحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَرَجَوْتُ ألَّا تَكُونَ آتَيْتَ مُنْكَراً.
فقال الإمام الباقر عليه السلام في جوابه: "يَا أبَا الحُسَيْنِ! إنَّ الأمَانَاتِ لَيْسَ بِالمِثَالِ وَ لَا العُهُودَ بِالسَّوْمِ؛ وَ إنَّمَا هِيَ امُورٌ سَابِقَةٌ عَنْ حُجَجِ اللهِ
تَبَارَكَ وَ تَعَالَى".۱
ثمّ دعا جابر بن عبد الله؛ فقال له: يا جابر! حدّثنا بما عاينت في «الصحيفة».
فقال له جابر: نعم يا أبا جعفر؛ دخلت على مولاتي فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه و آله لُاهنئها بمولد الحسين عليه السلام، فإذا بيديها بيضاء من درّة.
فقلت لها: يا سيّدة النساء! ما هذه «الصحيفة» التي أراها معك؟
قالت: فيها أسماء الأئمّة من ولدي.
قلت لها: ناوليني لأنظر فيها.
قالت: يا جابر! لو لا النهي لكنت أفعل، لكنّه قد نهي أن يمسّها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو أهل بيت النبيّ. لكنّه مأذون لك أن تنظر إلى باطنها من ظاهرها.
قال جابر: فقرأتها، ثمّ بيّن أنَّ فيها أسماء الأئمّة الاثنا عشر، و قبلهم النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم الذي اسمه أبو القاسم محمّد بن عبد الله المصطفي و امّه آمنة، إلى الشخص الأخير الذي اسمه أبو القاسم محمّد بن الحسن الحجّة القائم و امّه جارية اسمها نرجس، صلوات الله عليهم أجمعين.
لقد استدعي الإمام الباقر عليه السلام في هذه الرواية جابر في حضور زيد، و قام جابر بذكر هذه الرواية عن «صحيفة فاطمة» لكي يطمئنّ زيد بأنَّ العهود و المواثيق ليست بالانتخاب و الاختيار، بل هي محدّدة من قبل.
و تدلّ جميع هذه المطالب على جلالة زيد و كونه عاملًا بالقسط، و أنَ
قيامه كان قياماً بالقسط، إلّا أنَّه لم يكن في مرتبة الإمام الباقر عليه السلام، و ما كان قد انكشف للإمام الباقر عليه السلام من العلوم لم يكن منكشفاً لزيد، و كان السبب الوحيد في جميع الاشتباهات التي ارتكبها زيد هو عدم امتلاكه مقام الإمام الباقر و حسب.
لقد كان زيد إنساناً كاملًا و جامعاً و فقيهاً و عالماً بالقرآن، و من أهل الزهد و العبادة، و ممّن قام في سبيل الله؛ و قد بكي عليه الإمام الصادق. لكنّه لم يكن في مقام الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام، إذ لم يكن يمتلك مقام الإمامة. و هذا هو الفرق بينه و بين الباقر و الصادق عليهما السلام.
لقد كان زيد عالماً، بينما كان الباقر و الصادق أعلم، ربّما لأنَّه قد أقدم على القيام مع وجود الأعلم فلم يثمر قيامه، و كان منشأً للكراهة أيضاً.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ التَّاسِعُ و الثَّلَاثُونَ: لَمْ يَكُن قِيامُ زَيد وَ يَحيَى بِعُنْوَانِ المَهْدَوِيَّة خِلَافاً لمُحَمَّدٍ وَ إبْرَاهِيم
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
كانت الثورات التي قامت بها مجموعة من أهل البيت إلى الآن بصور مختلفة. فإحداها كانت ثورة محمّد (صاحب النفس الزكيّة) بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب. أي حفيد الإمام الحسن المجتبي. كان عبد الله المحض من كبار القوم و شيوخهم، و من رؤساء بني الحسن، و لم يكن له في زمانه نظير في بني الحسن، و كان الإمام الصادق يحترمه كثيراً. و كان يزعم أنَّ قول النبيّ الذي مضمونه: «أنَّ المهديّ عليه السلام من صُلبي، و أنَّه يمنع الظلم و العدوان، و أنَّ اسمه اسمي» إنَّما كان يشير إلى ابنه محمّد. و لذا، دعا الناس إلى بيعته، و تحرّك محمّد أيضاً بهذا العنوان. و قد سجن المنصور الدوانيقيّ جميع بني الحسن، و قام بتعذيب عبد الله المحض، و أخيه الحسن المثلّث (الذي هو الجدّ الأعلى لُاستاذنا آية الله العلّامة الطباطبائيّ، فسادات طباطبا هم من بني الحسن، و من أولاد الحسن المثلّث) بأنواع العذاب بجرم اطّلاعهم على
مكان محمّد و أخيه إبراهيم، و امتناعهم عن إرشاده إليه، و كانوا جميعاً أبرياء من كلّ ذنب.
و قد أرسل الإمام رقعة إلى عبد الله المحض أبدي فيها غاية حزنه و تحسّره لأعمال المنصور، و هذه الرقعة منقولة في «الإقبال» للسيّد ابن طاوس.
كان المنصور يطالبه بأن يدلّه على مكان ابنه، بينما كان هو يقول: كيف ارشد هذه السفّاك إلى مكان ابني ليأخذه فيقطّعه إرباً! و الله إنَّ مصيبتي هذه أشدّ من مصيبة يعقوب، لأنَّ أبناء يعقوب أخبروه بأنَّ يوسف قد أكله الذئب و مات، بينما يطلب منّي المنصور أن اسلِّمه ابني ليقتله أمام عيني.
كان قيام محمّد بعنوان المهدويّة، و لذا منعهم الإمام الصادق عليه السلام، و لم يكن راضياً عن قيامهم. و أمّا بني الحسن كعبد الله المحض و سائر أبنائه و إخوانه المعدودون سبعة عشر رجل، فقد توفّوا مع ثمانية رجال آخرين في سجن المنصور في بغداد بعد أن أمضوا سنوات طويلة في ذلك السجن. و قد بكي الإمام عليه السلام لهم و أبدي حزنه عليهم، و طلب لهم الرحمة و المغفرة.
أمّا إبراهيم (أخو محمّد) فقد قام تبعاً بعد أخيه طلباً للثأر، و قتل أيضاً.
عدم تحمّل زيد لسبّ هشام و شتمه، ثمّ قيامه في الكوفة
و أمّا زيد و من بعده ابنه يحيي فقد كانا في زمان هشام بن عبد الملك، و قام هشام بتوجيه إهانة شديدة لزيد في مجلسه و شتمه و أساء له القول؛ فلم يستطع زيد تحمّل ذلك إذ كان رجلًا كاملًا و غيوراً و صاحب شخصيّة و عظمة، و من أهل التقوي، و عالماً بالقرآن؛ فخرج من مجلس هشام و هو يقول: إنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ قَوْمٌ قَطُّ حَرَّ السُّيوفِ إلَّا ذَلُّوا!
عند ما وصلت هذه الجملة لهشام؛ قال: لقد كنت أظنّ أنَّ هذا البيت (يعني بني فاطمة) قد اندثر بشكل كامل، و لم يبق شيء من آثاره، فكيف يصدر كلام كهذا من بيت زائل!
و خرج زيد في الكوفة، مع أنَّ داود بن عليّ بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، و هو من أحفاد أمير المؤمنين عليه السلام و كان رفيقه في السفر، قد منعه و نهاه عدّة مرّات؛ و قال له: لا تعتمد على بيعة أهل الكوفة فإنَّهم لا يَفون، و سيتصرّفون معك كما تصرّفوا مع أجدادك. و قد أخذ زيد بكلامه و قصد الرجوع إلى المدينة، لكنّ أهل الكوفة جاءوا إليه وسط الطريق مستنكرين هذا الكلام، و أظهروا استعدادهم الكامل ليكونوا سيوفاً مسلولة لنصرته، لأنَّهم يرونه مهديّ هذه الامّة، طالبين منه القيام و القضاء على الظلم و التعدّي، و القصّة طويلة جدّاً، و قد نقلها الكثير من الأجلّة.
جاء زيد إلي الكوفة، و بايعه حوالى ثلاثون ألف رجل، و بقي في الكوفة حوالى ثلاثة عشر شهراً؛ و يُقال: إنَّه ليلة أراد الخروج، كان عدد رجاله مائة و اثنين و عشرين رجلًا، و مع هذا فقد خرج. و العجيب أنَّ هذه القلّة قد ظفرت بالعدوّ، فقتلت منه عدداً كبيراً و اسر عدد آخر أيضاً، إلى أن قُتل زيد أخيراً، بعد أن لم يبق معه إلّا عدد قليل.
و قد رجع أحد رجال زيد إلى المدينة، و نقل قصّته للإمام الصادق عليه السلام، فبكي الإمام عليه السلام. و قال ذلك الرجل: إنَّهم دفنوا زيداً في أرض النهر و أجروا الماء حوله، لكنَّ أحد الجواسيس أخبر والى الكوفة فأخرج الجنازة و قطع رأسه و أرسله للشام أوّلًا ثمّ إلى المدينة، بينما صلب بدن زيد في الكوفة؛ و بقي مصلوباً لمدّة أربع سنوات.
فسأل الإمام عليه السلام عن السبب في دفنه بهذا الشكل الذي أتاح للعدوّ أن يجد مكانه؟ فقال ذلك الرجل: و الله ما كنّا نقدر على عملٍ غير
هذا، لأنَّ عددنا كان ثمانية رجال فقط، و كان الباقون بين قتيل و هارب، و قد أشرف الصبح على الطلوع. فسأل الإمام عليه السلام عن المسافة التي كانت تفصلهم عن نهر الفرات؟ فقال: على مرمي حجر. فقال الإمام عليه السلام: "لو أنَّكم وضعتم حديداً برجلي زيد و ألقيتموه في الفرات لكان أفضل من أن تدفنوه و يقوم العدوّ بإخراج جثّته و قطع رأسه و صلبه في كناسة الكوفة". فقال: و الله ما كنّا قادرين على هذا العمل أيضاً.
فقال الإمام عليه السلام: كيف كانت معركتكم؟ فقال: معركة الإسلام و الكفر. فقال الإمام: و ضدَّ مَن؟ فقال: مع الكفّار. فقال الإمام: أ وَ لَا توجد آية في القرآن فيما إذا كان قتالكم مع الكفّار فعليكم بقتل كلّ من تأخذونه و عدم إبقائه على قيد الحياة، لأنَّ الباقين منهم سيجتمعون و يتغلّبون عليكم؟
فالذين تأخذونهم بعد انتهاء الحرب هم أسري، فإن شئتم قتلتموهم أو أخذتم منهم الفدية و تركتموهم؛ لكنَّكم أخذتم اولئك في بحبوحة الحرب و حافظتم عليهم، و لذلك اجتمعوا و تغلّبوا عليكم و قتلوكم. فإذا كنتم تقاتلون الكفّار فَلِمَ لَمْ تعملوا بهذه الآية؟!
و لا يخفي أنَّ زيداً لم يُقتل بالسيف، لكنَّه اصيب بسهمٍ في جبينه المبارك فسقط على الأرض. و لم يتجرّأ أحدٌ على الاقتراب منه بسبب شجاعته.
فجاءه سهم من بعيد فأصاب جبينه و ألقاه صريعاً؛ و عند ما مات تفرّق رجاله. و مهما يكن من أمر، فقد كان قيام زيد ضدّ الباطل و الظلم.
شدّة تأثّر الإمام الصادق عليه السلام لشهادة عمّه زيد
و كان الفضيل بن يسار الذي كان من خواصّ الإمام الصادق عليه السلام في الكوفة ذلك الوقت، قد أتي الإمام الصادق عليه السلام بخبر يوم قيام زيد و يوم قتله فبكي الإمام عند ما سمع الخبر؛ و قال: "يا فُضَيل! كم
رجلًا قتلت من الكفّار؟ فقال: قتلت ستّة رجال. فقال الإمام: كيف سمع أهل الكوفة صوته و تركوه وحيداً، يا لهم من اناسٍ لا حميّة لهم"!
بناءً على هذا، فقد أمضي الإمام عليه السلام قتل الفضيل بن يسار لُاولئك الرجال. كما استنكر الإمام موقف أهل الكوفة في تركهم زيداً وحيداً دون أن ينصروه و يفوا بعهدهم. فجميع ذلك كان مورد إمضاء الإمام، و عمل زيد كان محلّ إمضاء، و كان الإمامان الباقر و الصادق عليهما السلام يؤيّدان القيام على الظلم و الجور في حدّ ذاته، و زيد أيضاً لم يدعُ إلى نفسه، و لم يدّعِ المهدويّة و الرئاسة أصلًا، بل دعا إلى الرضا من آل محمّد؛ و قال: إنّي أدعو لرئاسة و إمارة و إمامة من يكون مرضيّاً و ينتخبه الناس من بين آل محمّد للإمارة. و لم يشر إلى نفسه في ذلك أبداً.
ينقل الصدوق في «عيون أخبار الرضا»۱ عن ابن أبي عبدون، عن أبيه، أنَّه قال: قام زيد بن موسى بن جعفر على بني العبّاس (زيد بن موسى بن جعفر هو الذي قام في زمان الرضا و المأمون على بني العبّاس في البصرة، و أحرق بيوت بني العبّاس، فأرسل المأمون له جيشاً فظفر به و أسره، لكنّه بعد ذلك وهبه للإمام الرضا عليه السلام، أي أنَّه عفا عن ذنبه و لم يقتله).
لم يكن قيام زيد في محلّه، بل كان قياماً خاطئاً (و قد سُمّي زيد النار، لأنَّه أحرق بيوت بني العبّاس)، فآخذه الإمام الرضا عليه السلام على فعلته، على اغتراره بقول النبيّ في رواية سُمِعَتْ عنه: إنَّ كلّ مَن كان من ولد فاطمة فبدنه على النار حرام، و تلك الرواية مختصّة بذرّيّة فاطمة أي الحسن و الحسين، لا بجميع من يوجد من أولادها، حتّى لو ارتكبوا
المعاصي و المخالفات، و أنَّه لا ينبغي له أن يستغلّ هذه الرواية و يقوم بأعمالٍ من دون إذْن إمامه و وليّه فيبيح لنفسه ارتكاب مفاسد كهذه.
كان زيد من علماء آل محمّد، و يلي المعصوم في الولاية و العصمة
فلم تكن ثورة زيد بن موسى أمراً حسناً، و لم يكن الإمام الرضا عليه السلام راضياً عنها. و عند ما جاءوا بزيد إلى المأمون عفا عن جرمه كرامة لأخيه عليّ بن موسى الرضا عليه السلام أي أنَّه مَنَّ به على الإمام الرضا عليه السلام، و قال له: إنَّا نهب جرمه لك؛ و قال:
يا أبا الحَسَنِ! لَئِنْ خَرَجَ أخوكَ وَ فَعَلَ ما فَعَلَ، لَقَدْ خَرَجَ قَبْلُهُ زَيْدُ بْنُ عَليٍّ [عَلَيْهِ السَّلامُ] فَقُتِلَ؛ وَ لَوْ لَا مَكانُكَ مِنّي لَقَتَلْتُهُ! فَلَيْسَ مَا أتَاهُ بِصَغيرٍ.
فقال الإمام الرضا عليه السلام للمأمون:
"يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! لَا تَقِسْ أخِي زَيْدَاً إلَى زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَإنَّهُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ آلِ مُحَمَّدٍ؛ غَضِبَ لِلَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ، فَجَاهَدَ أعْدَاءَهُ حَتَّى قُتِلَ فِي سَبِيلِهِ.
ثمّ قال بعد ذلك: لقد حدّثني أبي موسى بن جعفر أنَّه سمع من أبيه جعفر بن محمّد أنَّه قال: رَحِمَ اللهُ عَمِّيَ زَيْدَاً، إنَّهُ دَعَا إلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ؛ وَ لَوْ ظَفَرَ لَوَفَى بِمَا دَعَا إلَيْهِ.
و إنَّه قد شاورني عند ما أراد الخروج فقلت له:
يَا عَمِّ! إنْ رَضِيتَ أنْ تَكُونَ المَقْتُولَ المَصْلُوبَ بِالكُنَاسَةِ فَشَأنُكَ!
فَلَمَّا وَلَّي، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ [عَلَيْهِ السَّلَامُ]: وَيْلٌ لِمَنْ سَمِعَ وَاعِيَتَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ"!
فقال المأمون: يَا أبَا الحَسَنِ! أ لَيْسَ قَدْ جَاءَ فِيمَنِ ادَّعَى الإمَامَةَ بغَيْرِ حَقِّهَا مَا جَاءَ؟! أي أنَّ زيد بن عليّ قد ادّعي الإمامة بِغَيْرِ حَقِّهَا، و ما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه و آله عن هؤلاء المدّعين يشمل حال زيد بن
عليّ أيضاً.
فَقَالَ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ لَمْ يَدَّعِ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ؛ وَ إنَّهُ كَانَ أتْقَى لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ؛ إنَّهُ قَالَ: أدْعُوكُمْ إلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ وَ إنَّمَا جَاءَ مَا جَاءَ فِيمَنْ يَدَّعِي أنَّ اللهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ ثُمَّ يَدْعُو إلَى غَيْرِ دِينِ اللهِ وَ يُضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَ كَانَ زَيْدٌ وَ اللهِ مِمَّنْ خُوطِبَ بِهَذِهِ الآيَةِ: {وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ}.۱
فيتحصّل من مجموع ما ورد حول زيد بن عليّ أنَّ الأخبار الواردة في مدحه و الثناء عليه فوق حدّ الاستفاضة، بل يمكن القول إنَّها تبلغ حدّ التواتر. فقد كان زيد يمتلك شخصيّة قويّة، و كان أفضل أولاد الإمام السجّاد عليه السلام بعد الإمام الباقر عليه السلام، و كان يعتقد بعظمة مقام الصادقَينِ عليهما السلام، لكنّه لم يكن يمتلك سعة يتحمّل ظلم كهذا مثل الإمام المعصوم. فلقد نفد صبره، فاعتمد على السيف، و قام على حكومة هشام بن عبد الملك الذي شتمه في مجلسه علناً و أساء له القول٢.
...۱
و لم يدلّ نهي الإمام الصادق عليه السلام زيداً عن القيام على عدم استحقاق سقوط حكومة هشام الجائر، بل كان يدلّ على أنَّ من الهدر و الضياع أن يُقتل رجل كزيد و هو بتلك الفضيلة و المتانة و الوزن دون أن يترتّب على قتله ثمرة معتبرة، أو يعود من ذلك فائدة كالتي حصلت من
مُنْخَرِقُ الخُفَّيْنِ يَشْكو الوَجَى | *** | تَنكُبُهُ أطْرافُ مَرْوٍ جِدادْ |
شَرَّدَهُ الخَوْفُ وَ أزْرَيَ بِهِ | *** | كَذاكَ مَنْ يَكْرَهُ حَرَّ الجِلادْ |
قَدْ كانَ في المَوْتِ لَهُ راحَةٌ | *** | وَ المَوتُ حَتْمٌ في رِقابِ العِباد |
شهادة سيّد الشهداء عليه السلام التي قد أثمرت. إذ كثيراً ما كان الإمام الصادق يوازن بين قيام زيد و النتيجة الحاصلة منه، و يري أنَّ كفّة حياة و وجود عمّه زيد الغالية أثقل بكثير و أكثر قيمة من شهادته، و لذا كان يتأسّف و يتحسّر على مثله، و ظلّ محزوناً و متألّماً على فقده.
لقد كان زيد ذو فضل و تقوي و علم، و يُعدّ من علماء آل محمّد، لكنّه ليس كالمعصوم في الولاية و العصمة، بل كان يليه في الدرجة، و كان ذو سعة ولايتيّة و وجوديّة كإسماعيل بن جعفر عليه السلام و محمّد بن عليّ النقيّ (الهاديّ) عليه السلام، اللذان لو لا البداء لانتقلت الإمامة إليهما، لكنّه لم يكن قد حاز مرتبة العصمة و الولاية؛ و يري زيد وجوب القيام بالسيف لإزالة الظلم في مختلف الأحوال. و لم تكن هذه النظريّة نقصاً و عيباً فيه، بل كانت نسبتها إلى نظريّة الإمام الصادق نسبة التامّ إلى الأتمّ و الكامل إلى الأكمل.
كان لكلّ من الأئمّة سلام الله عليهم أجمعين مع ولايتهم و عصمتهم و توحيدهم و طهارتهم، تعدّديّة في الطريقة و السلوك كالتعدّديّة الناشئة عن الاختلافات المكانيّة و الزمانيّة و الطبعيّة و الطبيعيّة التي يجمع بينها الوصول إلى الولاية و التوحيد و الذوبان في الحقيقة فقط.
و زيد و إن لم يكن قد وصل إلى هذه الدرجة من الولاية لكنّه طوي في حدّ نفسه مراحل طويلة من العبوديّة، و كان جامعاً للكثير من كمالات عالم التجرّد. و كان بحاجة لكشف حجاب واحد فقط لكي يصير مثل المعصوم. فهو إذَن، لم يكن كأيّ شيعيّ عاديّ، بل كان في ذروة العرفان و التوحيد. و لا يمكن بحال من الأحوال قياس مثل زيد إلى الكثير من الشيعة الذين هم بحسب الظاهر من أهل التسليم و الإطاعة الصرف لأئمّتهم، لكنَّ مقاماتهم العرفانيّة و الولائيّة و كمالاتهم التوحيديّة لا تحوز
تلك الأهمّيّة.
لم يكن نهي الإمام الصادق عليه السلام عن قيام زيد نهياً إلزاميّاً
و لم يكن نهي الإمام الصادق عليه السلام عن قيام زيد نهياً إلزاميّاً، بل كان نهياً تنزيهيّاً، بل كان نهياً إرشاديّاً ممَّا لا يمكن عد مخالفته ابتعاداً عن مقام الإمام، بل بدافع من الغيرة و العزّة و الإباء، و هذا ما يمنح زيداً درجة و مقاماً و منزلة، و تجعله في روح و ريحان و مقعد صدق. كما أنَّها لا تدعه في درجة و رتبة إمامة المعصوم، و تتركه في دقائق و ظرائف و مراتب السلوك و العرفان في درجة أدون، فهذه هي الحقيقة التي نرتئيها بالنسبة لزيد الشهيد سلام الله عليه.
و قد بحث المرحوم المجلسيّ في «مرآة العقول»۱ عن حال زيد و الأقوال الموجودة حوله بشكل مفصّل.
و من هنا يتحصّل أنَّ التوجيه الذي قام به البعض كصاحب «تنقيح المقال»- من أنَّ قيام زيد إنَّما كان بأمر الإمام الصادق عليه السلام، و أنَّه قد صدر هذا النهي و هذه الأخبار تقيّة لنفي انتساب ذلك للإمام- غير صحيح و لا وجه له.
هذه هي حقيقة قيام و مقام زيد، و الرواية التي ذكرت حول ذلك (أي قوله عليه السلام: يا زيد! إنَّ مثل قيام القائم قبل مهديّهم مثل فرخ نهض من عشّه من غير أن يستوي جناحاه. فإذا فعل ذلك سقط، فأخذه الصبيان يتلاعبون به، فاتّق الله في نفسك أن تكون المصلوب غداً في الكناسة) ترجع إلى ما ذكرناه، فالإمام عليه السلام كان يري بنور الولاية أنَّ هذا القيام لن تكون له أيّة نتيجة، و أنَّ زيداً سوف يُقتل و يُقطع رأسه و ينصب على سطح قصر هشام، ثمّ يؤتي به و ينصب في المدينة أمام أعين بني الحسن
و بني الحسين و العلويّين و الفاطميّين، و أنَّ بدنه سوف يبقي في كناسة الكوفة أربع سنوات أيضاً دون أن تترتّب أيّة فائدة على ذلك.
فطلب منه الإمام عليه السلام أن يصبر الآن، و أن يأتي بعلمه و تقواه و طهارته و شجاعته إلى مدرسة الإمام فيدرس و يدرّس و يعمل على نشر هذه الثقافة التي كانت قد اندرست. و عند ما يحين وقت القيام يكون قد آن الأوان لذلك؛ و قد اشتبه زيد فجمع كلّ قواه و قدرته في السيف، و فقد علمه و حياته أيضاً من دون نتيجة. و هذا هو سبب بكاء الإمام عليه السلام عليه.
و حاصل الكلام: عدم دلالة هذه الرواية على نفي حكومة الوليّ الفقيه الجامع للشرائط في زمان الغيبة؛ و خروج بعض أهل البيت المذكور في الرواية لا يعارض بحثنا.
مَا خَرَجَ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ إلَى قِيَامِ قَائِمِنَا أَحَدٌ ...
و أمَّا المطلب الآخر، فهو العبارة التي ذكرها الإمام الصادق عليه السلام للمتوكّل بن هارون في هذا المجال، حيث يتمسّك بها البعض في عدم جواز إقامة حكومة إسلاميّة في زمان الغيبة.
فعند ما أخذ المتوكّل بن هارون «الصحيفة السجّاديّة» من يحيي بن زيد و أتي بها إلى المدينة و جاء إلى الإمام الصادق عليه السلام، سأله الإمام عن أحوال يحيي، فأخبره بقتله، فاغتمّ الإمام لذلك. و عند ما أعطي «الصحيفة» للإمام بعد ذلك؛ قال الإمام عليه السلام:
"مَا خَرَجَ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ إلَى قِيَامِ قَائِمِنَا أحَدٌ لِيَدْفَعَ ظُلْماً أوْ يَنْعَشَ حَقّاً إلَّا اصْطَلَمَتْهُ البَلِيَّةُ؛ وَ كَانَ قِيَامُهُ زِيَادَةً فِي مَكْرُوهِنَا وَ شِيعَتِنَا!"۱
فيمكن أن يقال أن عبارة: "مَا خَرَجَ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ إلَى قِيَامِ قَائِمِنَا أحَدٌ لِيَدْفَعَ ظُلْماً أوْ يَنْعَشَ حَقّاً إلَّا اصْطَلَمَتْهُ البَلِيَّةُ" فيها إطلاق.
فكلّ قيام، لا يقتصر على عدم سرورنا، بل يوجب زيادة مكروهنا و بلاء شيعتنا أيضاً.
و هنا، يجب القول: إنَّ مراد الإمام من هذه العبارة هو قيام الأشخاص من أهل البيت (كما بيّناه في الرواية السابقة). "لَا يَخْرُجُ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ"، أي كلّ من أراد الخروج منّا أهل البيت لتكون نتيجة خروجه كقيام المهديّ من تطهير الدنيا من الشرك و الظلم، و رفع راية الإسلام على جميع أنحاء الكرة الأرضيّة، فسوف يواجه الهزيمة قطعاً، دون أن يصل قيامه إلى أيّة نتيجة، لأنَّ قيام المهديّ سوف يكون بعد حصول شرائط و معدّات توجب النصر و تحقيق نتيجة لذلك القيام. فكلّ من يقوم بهذا العمل قبله سوف يُهزم، لأنَّ قيامه ليس قياماً نوعيّاً بقدر ما هو قيام شخصيّ. فكلّ من يقوم منّا لإزالة ظلم أو إثبات حقّ و منح حياة فسوف تلتهمه البليّة إضافة لما في قيامه من زيادة مكروهنا بسبب نيل العدوّ به.
إنَّ الذين رحلوا ليسوا بمنفصلين عنّا؛ إنَّهم أبناؤنا و أعمامنا و أقوامنا و شيعتنا. إنَّهم يمتلكون في هذه الدنيا حياة، و لهم نساء و أطفال فكانوا يؤخذون و يُسجنون، و يتعرّضون للتعذيب و العقوبات التي لا تحتمل، و كلّ ما واجهوه سيحلّ بنا.
أضف إلى ذلك أنَّ هؤلاء الأعداء يوقعوننا في البلايا و يشاغلوننا بمختلف المصائب و المشاكل، فيضعون علينا الجواسيس، و يحبسون أنفاسنا. و كلّ ذلك لأنَّ العمل لم يبتنِ على النهج الصحيح، و أنَّ هذا الطير قد حاول الطيران قبل أن ينبت جناحاه و يشتدّ ريشه. و ليس لهذا الأمر من علاقة بولاية الفقيه!
ففي أيّ موضع ذكر فيه عدم استطاعة الناس في زمان الغيبة من اتّباع الفقيه العادل المتجاوز لذاته و المتّصل بالله؟! و الذي يمتلك ارتباطاً معنويّاً
بالإمام صاحب الزمان عليه السلام، و يسير في طريقه و منهاجه؟! فهو قيام في طول قيامه، و ليس هو خلاف قيامه. فالناس يحتاجون في إقامة الحكومة إلى رئيس، و عليهم العمل مع ذلك الرئيس، فكيف يمكن القول بأنَّه لا يمتلك حقّ منع الظلم و حقّ ترويج الحقّ و إعلانه، و عليه التزام الصمت؟!
غاية قول الإمام في رواية «الصحيفة»، القيام الذي يكون ضدّ الإمام
و هنا يُطرح سؤال، و هو: ورد في هذه الرواية: "مَا خَرَجَ وَ لَا يَخْرُجُ"، فالإمام عليه السلام قال: "مَا خَرَجَ وَ لَا يَخْرُجُ"، فلو كان الإمام قد قال: لَا يَخْرُجُ و حسب، لكان من المحتمل أن يُستفاد منها أنَّه لا حقّ للفقيه في زمان الغيبة أن يتولّى هذه الامور، و لكن قد ورد مَا خَرَجَ أيضاً. أي لم يخرج منّا أهل البيت أحدٌ إلّا كان ذلك موجباً لزيادة مكروهنا، مثل محمّد و إبراهيم (ابنا عبد الله المحض)، اللذان خرجا و كان خروجهما سبباً في زيادة مكروهنا و مكروه شيعتنا. و مثل زيد و يحيي إذ قد سبّب ذلك زيادة مكروهنا. أي أوقعنا و شيعتنا في مشاكل أكثر.
و السؤال هو: أنَّ الإمام عليه السلام قال: مَا خَرَجَ، أ فلم يخرج سيّد الشهداء عليه السلام؟ فهل يمكن أن نقول إنَّ خروج سيّد الشهداء عليه السلام أيضاً قد صار سبباً في زيادة سوء و مكروه الإمام الصادق عليه السلام و الشيعة؟!
لا يمكننا قول ذلك، لأنَّ عبارة مَا خَرَجَ و لَا يَخْرُجُ غير ناظرة إلى القيام بالحقّ الذي يكون من قبل نفس الإمام المعصوم أو في طريق الإمام صاحب الزمان عليه السلام. و إنَّما محطّ نظرها ذلك الخروج الذي يكون في خلافه، و إلّا فإنَّ سيّد الشهداء عليه السلام قد خرج أيضاً، و كان على الإمام أن يقول: إنَّ هذا القيام صار سبباً في زيادة مكروهنا و مكروه شيعتنا. مع أنَّ خروج سيّد الشهداء عليه السلام و بنصّ كلام الإمام الصادق
عليه السلام كان من ألزم اللوازم و الضروريّات، بحيث لو لم يقع هذا القيام لما بقي للإسلام اسم، فقد كانت النهضة الحسينيّة شرفاً و فضيلةً و بهجةً و مسرّة، و لم يكن فيها عنوان المكروه. فهل يستطيع أحد أن يتفوّه بهذا الكلام بالنسبة لسيّد الشهداء عليه السلام؟!
قد تقولون بأنَّ سيّد الشهداء عليه السلام قد خرج و أصابته البليّة أيضاً، و قد انهزم في المعركة؛ حسناً! و لكنَّ الحديث لم يدر حول إلَّا اصْطَلَمَتْهُ البَلِيَّةُ فقط، بل هناك أيضاً وَ كَانَ قِيَامُهُ زِيَادَةً فِي مَكْرُوهِنَا وَ شِيعَتِنَا، فهل يمكن تطبيق ذلك على سيّد الشهداء عليه السلام و القول إنَّ نهضته قد أدّت إلى زيادة سوء و كراهة و أتعاب الإمام الصادق و الشيعة؟ أ وَ هل يصحّ هكذا كلام؟!
بناءً على هذا، فكلام الإمام الصادق عليه السلام غير ناظر إلى هذا المورد، بل كان نظره إلى من يخرج أو سيخرج فيما بعد بخلاف الإمام صاحب الزمان، لا مَن يكون في نهجه.
لقد كان سيّد الشهداء عليه السلام نفسه إمام زمانه، فلم تكن نهضته مخالفة لإمام زمانه. و لم تكن نهضته سبباً في زيادة أتعاب الإمام و الشيعة مطلقاً، بل كانت سبباً لعزّة الإمام و افتخاره.
و ما نستفيده من هذه العبارة: أنَّ مراد الإمام عليه السلام، تلك الثورات التي تتمّ بعنوان المهدويّة و ما شابه، لكنّها ليست في طريق الولاية و التجاوز عن الذات و الاتّصال بالكلّيّة، أو في مسار الإمام صاحب الزمان عليه السلام.
و لكي يتّضح معني هذه الجملة بشكل أفضل، من المناسب أن ننقل الرواية الواردة في مقدّمة «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» كمقدّمة:
كيفيّة ظهور «الصحيفة» و مطابقتها مع التي كانت عند الإمام الصادق عليه السلام
ينقل عمير بن المتوكّل بن هارون الثقفيّ عن أبيه المتوكّل بن
هارون أنَّ المتوكّل يقول: لقيت يحيي بن زيد بن عليّ عليه السلام و هو متوجّه إلى خراسان بعد قتل أبيه، فسلّمت عليه؛ فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من الحجّ.
فسألني عن أهله و بني عمّه بالمدينة و أحفي السؤال عن جعفر بن محمّد عليه السلام. فأخبرته بخبره و خبرهم و حزنهم على أبيه زيد بن عليّ عليه السلام.
فقال لي: قد كان عمّي محمّد بن عليّ عليه السلام قد أشار على أبي بترك الخروج، و عرّفه إن هو خرج و فارق المدينة ما يكون إليه مصير أمره، فهل لقيت ابن عمّي جعفر بن محمّد عليه السلام؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعته يذكر شيئاً من أمري؟ قلت: نعم. قال: بِمَ ذكرني، خبّرني؟ قلت: جعلت فداك؛ ما احبّ أن استقبلك بما سمعته منه! فقال: أ بِالمَوْتِ تُخَوِّفُني؟! هاتِ مَا سَمِعْتَهُ.
فقلت: سمعته يقول: إنّك تُقتل و تُصلب كما قُتل أبوك و صُلب.
فتغيّر وجهه، و قال: {يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ}.۱
يا متوكّل! إنَّ الله أيّد هذا الأمر بنا و جعل لنا العلم و السيف، فَجُمِعَا لنا، و خصّ بني عمّنا (الإمام الصادق عليه السلام) بالعلم وحده. فقلت: جعلت فداك؛ إنّي رأيت الناس أميل إلى ابن عمّك جعفر عليه السلام منك و من أبيك!
فقال: إنَّ عمّي محمّد بن عليّ و ابنه جعفر عليهما السلام دعوا الناس إلى الحياة و نحن ندعوهم إلى الموت.
فقلت: يا بن رسول الله! أهم أعلم أم أنتم؟ فأطرق إلى الأرض مليّاً ثمّ رفع رأسه و قال: كُلّنا له علم غير أنَّهم يعلمون كلّ ما نعلم، و لا نعلم كلّ ما يعلمون.
ثمّ قال لي: أ كتبتَ من ابن عمّي شيئاً؟ قلت: نعم.
قال: أرنيه. فأخرجت إليه وجوهاً من العلم، و أخرجت إليه دعاءً أملاه عَلَيَّ أبو عبد الله، و حدّثني أنَّ أباه محمّد بن عليّ عليه السلام أملاه عليه، و أخبره أنَّه من دعاء أبيه عليّ بن الحسين عليهما السلام من دعاء «الصحيفة الكاملة السجّاديّة».
فنظر فيه يحيي حتّى أتي على آخره؛ فقال لي: أ تأذن في نسخه؟ فقلت: يا بن رسول الله! أ تستأذن فيما هو عنكم!
فقال: أمَّا لأخرجنَّ إليك صحيفة من الدعاء الكامل ممّا حفظه أبي عن أبيه، و إنَّ أبي أوصاني بصونها و منعها غير أهلها.
يقول المتوكّل: فقمت إليه فقبّلت رأسه و قلت له: وَ اللهِ يا بْنَ رَسولِ اللهِ، إنِّي لأدِينُ اللهَ بِحُبِّكُمْ وَ طاعَتِكُمْ؛ وَ إنِّي لأرْجُو أنْ يُسْعِدَنِي في حَيَاتِي وَ مَمَاتِي بِوَلَايَتِكُمْ.
فرمي صحيفتي التي كانت معه إلى غلام كان معه؛ و قال له: اكتب هذا الدعاء بخطٍّ بيِّنٍ حسن و اعرضه عَلَيَّ لَعَلِّي أحفظه، فإنِّي كنت أطلبه من جعفر حفظه الله فيمنعنيه.
قال المتوكّل: فندمت على ما فعلت، و لم أدرِ ما أصنع، و لم يكن أبو عبد الله عليه السلام تقدّم إليَّ أن لا أدفعه إلى أحد.
ثمّ دعا بعيبة فاستخرج منها صحيفة مقفلة مختومة، فنظر إلى الخاتم و قبّله و بكي، ثمّ فضّه و فتح القفل، ثمّ نَشَرَ الصحيفة و وضعها على عينيه و أمرّها على وجهه؛ و قال: و الله يا متوكّل لو لا ما ذكرت من قول ابن عمّي
من أنَّني اقتل و اصلب لما دفعتها إليك و كنتُ بها ضنيناً. و لكنّي أعلم أنَّ قوله حقّ أخذه عن آبائه، و أنَّه سيصحّ، فخفتُ أن يقع مثل هذا العلم إلى بني اميّة، فيكتموه و يدّخروه في خزائنهم لأنفسهم، فاقبضها و اكفنيها و تربّص بها، فإذا قضي الله من أمري و أمر هؤلاء القوم ما هو قاضٍ فهي أمانة لي عندك، حتّى توصلها إلى ابْنَيْ عمّي محمّد و إبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن عليه السلام فإنَّهما القائمان بهذا الأمر بعدي.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْس الأرْبَعُونَ: الصحيفة السجّاديّة و مفاد فَلَعَمْرِي مَا الإمَامُ إلَّا الحَاكِمُ بِالكِتَابِ ...
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
آية: {وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ}، و الشجرة الملعونة حول بني أُميّة
وصلنا في الكلام إلى حيث يقول المتوكّل: إنَّ يحيي قد أعطاني تلك الصحيفة و قال: هي أمانة لي عندك حتّى توصلها إلى ابْنَيْ عمّي محمّد و إبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن عليهما السلام، فإنَّهما القائمان في هذا الأمر بعدي. قال المتوكّل: فقبضت الصحيفة و لمّا قُتل يحيي بن زيد صرت إلى المدينة، فلقيت أبا عبد الله عليه السلام فحدّثته الحديث عن يحيي، فبكي و اشتدّ وجده به؛ و قال:
"رَحِمَ اللهُ ابْنَ عَمِّي وَ ألحَقَهُ بِآبَائِهِ وَ أجْدَادِهِ! وَ اللهِ يَا مُتَوَكِّلُ، مَا مَنَعَنِي مِنْ دَفْعِ الدُّعَاءِ إلَيْهِ إلَّا الَّذِي خَافَهُ عَلَى صَحِيفَةِ أبِيهِ؛ وَ أيْنَ الصَّحِيفَةُ؟! (لقد كان سبب المنع وصول هذه الصحيفة إلي يد الكفّار و بني اميّة).
فقلت: ها هي. ففتحها و قال:
هَذَا وَ اللهِ خَطُّ عَمِّي زَيْدٍ وَ دُعَاءُ جَدِّي عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ! ثمّ قال لابنه: قم يا إسماعيل؛ فائتني بالدعاء الذي أمرتك بحفظه و صونه. فقام إسماعيل فأخرج صحيفة كأنَّها الصحيفة التي دفعها إليَّ يحيي بن زيد. فقبّلها أبو عبد الله عليه السلام و وضعها على عينيه، و قال: هذا خطّ أبي و إملاء جدّي عليهما السلام بمشهدٍ منّي.
فقلت: يا بن رسول الله! رأيت أن أعرضها مع صحيفة زيد و يحيي، فأذن لي في ذلك. فقال: قد رأيتك لذلك أهلًا.
فنظرت فإذا هما أمر واحد، و ليس فيهما حرف واحد يخالف ما في الصحيفة الاخرى. ثمَّ استأذنت في دفع الصحيفة إلى ابْنَي عبد الله بن الحسن. فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها۱؛ نَعَمْ، فَادْفَعْهَا إلَيْهِمَا!
فلمّا نهضت للقائهما؛ قال لي: مكانك. ثمّ وجّه إلى محمّد و إبراهيم فجاءا؛ فقال: هذا ميراث ابن عمّكما يحيي من أبيه، فقد خصّكما به دون إخوته، و نحن مشترطون عليكما فيه شرطاً.
فقالا: رَحِمَكَ اللهُ! قُلْ، فَقَوْلُكَ المَقْبُولُ.
فقال: لا تخرجا بهذه الصحيفة من المدينة؟
قالا: و لِمَ ذاك؟
قال: إنَّ ابن عمّكما خاف عليها أمراً أخافه أنا عليكما.
قالا: إنَّما خاف عليها حينما علم أنَّه يُقتل.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: وَ أنْتُمَا فَلَا تَأمَنَا! فَوَ اللهِ، إنِّي لأعْلَمُ أنَّكُمَا سَتَخْرُجَانِ كَمَا خَرَجَ وَ سَتُقْتَلَانِ كَمَا قُتِلَ!
فقاما و هما يقولان: لَا حَوْلَ وَ لَا قَوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
فلما خرجا قال لي أبو عبد الله: يا متوكّل! كيف قال لك يحيي إنَّ محمّد بن عليّ و ابنه جعفراً دعوا الناس إلي الحياة و دعوناهم إلي الموت؟!
قلت: نعم؛ أصلحك الله؛ قد قال لي ابن عمّك يحيي ذلك.
فقال: يرحم الله يحيي، إنَّ أبي حدّثني، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السلام أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله أخذته نعسة و هو على منبره، فرأي رجالًا ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري. فاستوى رسول الله صلّى الله عليه و آله جالساً و الحزن يُعرف في وجهه، فأتاه جبرائيل عليه السلام بهذه الآية:
{وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً}.۱
({وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} عطف على {الرُّؤْيَا}. أي: وَ ما جَعَلْنا الشَّجَرَةَ المَلْعونَةَ في القُرْآنِ إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ؛ فسواء هذه الرؤيا أم الشجرة الملعونة فقد جعلناهما فتنة للناس).
"و قال جبرائيل لرسول الله: إنَّ المراد من الشجرة الملعونة في القرآن يعني بني اميّة. فقال رسول الله: يا جبرائيل! أ عَلَى عهدي يكونون و في زمني؟!
قَالَ: لَا! وَ لَكِنْ تَدُورُ رَحي الإسْلَامِ مِنْ مُهَاجَرِكَ فَتَلْبَثُ بِذَلِكَ عَشْرَاً، ثُمَّ تَدُورُ رَحي الإسْلَامِ عَلَى رَأسِ خَمْسَةٍ وَ ثَلَاثِينَ مِنْ مُهَاجَرِكَ فَتَلْبَثُ بِذَلِكَ خَمْساً، ثُمَّ لا بُدَّ مِنْ رَحي ضَلَالَةٍ هِيَ قَائِمَةٌ عَلَى قُطْبِهَا، ثُمَ
مُلْكُ الفَرَاعِنَة.
قَالَ: وَ أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}۱ تَمْلِكُهَا بَنُو امَيَّةَ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ القَدْرِ".
و تدلّ هذه الآية على أنَّ ليلة القدر أفضل من ألف شهر تحكم به بنو اميّة. (و قد حكم بنو اميّة ألف شهر، أي اثنان و ثمانين سنة و أربعة أشهر).
قال: فأطلع الله عزّ و جلّ نبيّه أنَّ بني اميّة تملك سلطان هذه الامّة و يدوم ملكها المدّة المذكورة؛ فلو طاولتهم الجبال لَطَالُوا عَلَيْهَا، حتّى يأذَن الله تعالى بزوال ملكهم، و هم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت و بغضنا. أخبر الله نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد و أهل مودّتهم و شيعتهم منهم في أيّام ملكهم.
قال: و أنزل الله تعالى فيهم: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ}.٢
و {نِعْمَتَ اللَّهِ} محمّد و أهل بيته، حبّهم إيمان يُدخل الجنّة، و بغضهم كفر و نفاق يُدخل النار.
فَأسَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و آلهِ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ وَ أهْلِ بَيْتِهِ.
قال: ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام:
"مَا خَرَجَ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ إلَى قِيَامِ قَائِمِنَا أحَدٌ لِيَدْفَعَ ظُلْماً أوْ يَنْعَشَ حَقّاً إلَّا اصْطَلَمَتْهُ البَلِيَّةُ وَ كَانَ قِيَامُهُ زِيَادَةً فِي مَكْرُوهِنَا وَ شِيعَتِنَا".
لقد كانت هذه هي القصّة المذكورة في مقدّمة «الصحيفة السجّاديّة».
و من بعدها تبدأ أبواب «الصحيفة»، و من ثمّ ذِكْر الأدعية.
شاهدنا في هذه العبارة هو قوله عليه السلام: "مَا خَرَجَ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ ..." و تدلّ هذه العبارة على أنَّ مَن يخرج منّا أهل البيت بعنوان الإمامة فسوف يُهزم، و أنَّ هذا الحكم مستمرّ حتّى قيام قائم آل محمّد الذي سيظهر؛ و الظهور مختصّ به عليه السلام. و إلى ذلك الزمان، فكلّ من يخرج منّا أهل البيت فسوف يكون خروجه هذا خلاف خروج قائمنا و مسبّباً لزيادة مصائبنا، و ليس في هذه الرواية دلالة على عدم جواز إقامة الحكومة الإسلاميّة في زمان الغيبة، و البيعة للحاكم الشرعيّ.
و خلاصة الأمر، لا يمكن رفع اليد عن أدلّة حكومة الوليّ الفقيه التي وصلتنا بواسطة هؤلاء الأجلّة بسبب هذه الرواية، و ترك الناس من دون قائد و زعيم شرعيّ كالهمج الرعاع في يد اليهود و النصارى و حكّام الجور. و بما أنَّه لا يمكن للمجتمع أن يكون من دون رئيس و قائد، فرئاسته تنحصر في أفضل الأشخاص من جهة العلم و الدراية و العقل و القدرة على الحكومة و الأورعيّة و تجاوز الهوي و الارتباط بالله.
و ليس معني و دلالة هذا الحديث الدعوة إلي ترك المجال مفتوحاً للظلم على الإطلاق، و ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؛ فجميع تكاليف و مسئوليّات المسلمين في زمان الحضور مستمرّة لهم في زمان الغيبة أيضاً، فيجب تطبيق الحدود و الأحكام الإلهيّة؛ غاية الأمر، أنَّ ذلك يتمّ في زمان الحضور بالأصالة من قبل الإمام، بينما يكون في هذا الزمان بنظر الإمام بالنيابة. هذا من ناحية دلالة هذا الحديث.
و أمَّا من ناحية السند: فـ «الصحيفة السجّاديّة» ك «نهج البلاغة» من الكتب المعتبرة، و قد عُدّت زبور آل محمّد، و هي من أفضل الكتب بين الشيعة من قديم الأيّام و لا زالت. و سندها أيضاً لا يحتاج إلي ذلك البحث
و تلك الدقّة. و هي عن الإمام السجّاد بشكل مسلّم. غاية الأمر، أنَّ ثمّة كلام في المراد بقوله: حَدَّثَنا، الوارد في أوّل «الصحيفة»:
حَدَّثَنا السَّيِّدُ الأجَلُّ، نَجْمُ الدِّينِ بَهَاءُ الشَّرَفِ أبو الحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أحْمَدَ بْنِ عَليِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى العَلَويِّ الحُسَيْنِيِّ، رَحِمَهُ اللهُ؛ قالَ فُلانٌ ... إلى أن يصل إلى عمير بن المتوكّل، عن أبيه المتوكّل بن هارون؛ و بهاء الشرف أبو الحسن و سائر الأشخاص المذكورين هنا هم من المعروفين و المميّزين في الرجال، و لا شكّ و لا شبهة فيهم. و هم أشخاص معروفون. أمَّا الشخص الذي يروون عنه فهو مجهول.
و من المسلّم به أنَّ صاحب «حدّثنا» يجب أن يكون شخصاً معاصراً لبهاء الشرف محمّد بن الحسن بن أحمد بن عليّ بن محمّد بن عمر بن يحيي العلويّ لكي يتمكّن من الرواية عنه.
و الأشخاص الذين كانوا في ذلك الزمان و رووا عن هذا السيّد الجليل (العلويّ الحسينيّ) عددهم كبير. و قد روي «الصحيفة» عن بهاء الشرف سبعة من كبار علماء الشيعة، ذكرهم المرحوم صاحب «المعالم» في إحدى إجازاته.
كلام العلّامة آغا بزرك الطهرانيّ حول قائل: «حَدَّثَنَا»
و بالمناسبة أنقل لكم هذا الكلام، و هو ما أخذته في التاسع عشر من رجب سنة ألف و ثلاثمائة و خمس و سبعين (يعني قبل خمس و ثلاثين سنة) في النجف عن المرحوم العلّامة النحرير، استاذنا في فنّ الدراية و الإجازات، المرحوم الحاج آغا بُزرگ الطهرانيّ رحمة الله عليه، و كان قد كتب هذا المطلب المبارك على ظهر الصفحة الاولي للصحيفة الخطيّة التي يقرأها، فأعطاني تلك «الصحيفة» فقمت بنسخ ذلك المطلب من خطّه و ألصقته على صحيفتي. و العبارة التي يذكرها في تلك «الصحيفة» هي
- إجمالًا- بالنحو التالى:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛الحَمْدُ لِوَلِيِّهِ وَ الصَّلاةُ عَلَى نَبِيِّهِ وَ وَصِيِّهِ؛ وَ بَعْدُ: فَاعْلَمْ أنَّهُ رَوَى الصَّحِيفَةَ عَنْ بَهَاءِ الشَّرَفِ المُصَدَّرِ بِهَا اسْمُهُ الشَّريفُ، جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُمْ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ جَعْفَرُ بْنُ نَجِيبِ الدِّينِ ...
يقول: اعلم أنَّ اولئك الأشخاص الذين رووا «الصحيفة» عن بهاء الشرف نجم الدين- طبقاً لكلام نجم الدين جعفر بن نجيب الدين محمّد بن جعفر بن هبة الله بن نماء (ابن نماء الحلّيّ) في الإجازة المسطورة في إجازة صاحب «المعالم» و تأريخ بعض تلك الإجازات سنة ستمائة و سبع و ثلاثون هجريّة. و قد وردت في كتاب الإجازات من «بحار الأنوار» ص ۱۰۸- هم سبعة أشخاص: أحدهم جعفر بن عليّ المشهديّ؛ و الثاني: أبو دالبقاء هبة الله بن نماء؛ و الثالث: الشيخ المقريّ جعفر بن أبي الفضل بن شعرة؛ و الرابع: الشريف أبي القاسم بن الزكيّ العلويّ؛ و الخامس: الشريف أبو الفتح ابن الجعفريّة؛ و السادس: الشيخ سالم بن قَبَارَوَيْه؛ و السابع: الشيخ عربيّ بن مسافر.
يقول: جميع هؤلاء من الأجلّة و المشاهير، و أبو الفتح الذي هو أحد السبعة و كان معروفاً بابن الجعفريّة، هو السيّد شريف ضياء الدين أبو الفتح محمّد بن محمّد العلويّ الحسينيّ الحائريّ، الذي قرأ عليه السيّد عزّ الدين أبو الحرث محمّد بن الحسن بن عليّ العلويّ الحسينيّ البغداديّ كتاب «معدن الجواهر» للكراجكيّ في جمادي الاولي سنة خمسمائة و ثلاث و سبعين في الحلّة السيفيّة (و المقصود مدينة الحلّة).
يقول: و قد ذكرت هذه الطائفة سنة خمسمائة و ثلاث و سبعين لكي يعرف ذلك العصر و الأشخاص الذين رووا «الصحيفة» عن بهاء الشرف.
بناءً على هذا، فالذي يقول: حَدَّثَنا ... هو واحد من اولئك السبعة لا غير. و أيّاً كان الراوي منهم، فهذه «الصحيفة» هي في كمال الإتقان، لأنَّ كلّا منهم فقيه صاحب رواية من الشيعة الاثني عشريّة الإماميّة، و من مشاهير علماء التشيّع.
و لقد أورد هذا المطلب صاحب «المعالم» في إحدى إجازاته، و ذكر هناك ثلاث إجازات بخطّ الشهيد الأوّل، و منها هذه الإجازة (أي إجازة نجم الدين جعفر بن نما)، و إجازة صاحب «المعالم» هذه قد ذكرها المجلسيّ في مجلّد الإجازات من كتابه الشريف «بحار الأنوار». و بإمكان من يروم مطالعتها أن يراجع جزء الإجازات في «البحار».
و على ما ذكر، فهذه الرواية واضحة الدلالة، كما أنَّ سندها صحيح و لا شكّ و لا تردّد فيه أيضاً. لكن لا يمكن التمسّك بها لإثبات عدم جواز تشكيل الحكومة الإسلاميّة، كما فعل البعض إذ ذكرها في زمرة أدلّة ذلك. كما لا يمكن التمسّك برواية المجلسيّ عن «المناقب» عن الإمام الباقر عليه السلام و التي قال فيها لزيد:
"يَا زَيْدُ! إنَّ مَثَلَ القَائِمِ مِنْ أهْلِ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ قِيَامِ مَهْدِيِّهِمْ مَثَلُ فَرْخٍ نَهَضَ مِنْ عُشِّهِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَسْتَوِيَ جَنَاحَاهُ ..." و قد بيّنا أنَّها لا تدلّ على هذا المعني. و أمَّا من ناحية السند فهي رواية موثّقة.
و إن كان ابن شهرآشوب قد أورد مطالب كتابه من دون ذكر السند، لكنّ الروايات التي ينقلها أكثر اعتباراً من أكثر الكتب التي تذكر مطالبها مع الإسناد. فـ «المناقب» لابن شهرآشوب، كتاب نفيس و معتبر جدّاً، و يُعدّ من ذخائر و نفائس الشيعة. فابن شهرآشوب رجل علم و دراية و فهم. و لقد قمتُ بعد مطالعة الكثير من «المناقب» بتطبيقه مع روايات أهل السنّة و التواريخ الواردة من طريقهم، فرأيت أنَّ هذا الرجل الجليل قد جمع لبّ
و حقيقة تلك المعاني التي يصدّقون بها. و خلاصة الأمر، فهو يحوي على الكثير من المطالب المجمع عليها عند الشيعة و التي لا يمكن لأهل السنّة إنكارها.
و قد أورد عين هذه الرواية أو ما يشبهها في مناقب الأئمّة الاثني عشر. و الحقّ يُقال: إنَّه كتاب نفيس و يليق بأن يُطبع بأفضل حلّة مع تعليقات مُفيدة و يجعل في متناول أيدي العلماء. فهو من حيث الاعتبار أكثر ثباتاً و قوّة من كثير من الكتب الاخرى المسندة، لأنَّ بعض الكتب المسندة التي تنقل الرواية مع سلسلة السند إمَّا أن يُشاهد في أسنادها ضعف أو تسقط عن درجة الاعتبار بسبب جهالة الراوي. أمّا هذا الشخص، فهو من حيث الإتقان و الثبت و الضبط في درجة أنَّه لا ينقل إلّا الشيء الذي يطمئنّ به، و الذي يكون من ناحية الدراية موجباً للاطمئنان و سكون الخاطر. فهكذا كان ابن شهرآشوب. و عليه، فذكره لهذا المطلب في كتابه خير داعٍ للوثوق به.
كُلُّ رَايَةٍ تُرْفَعُ قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ فَصَاحِبُهَا طَاغُوتٌ ...
و أمَّا المراد من الراية المذكورة في الرواية التي نقلها المرحوم المجلسيّ في «بحار الأنوار» و التي وردت في «روضة الكافي» أيضاً (أنَّ الصادق عليه السلام قال لأبي بصير: "كُلُّ رَايَةٍ تُرْفَعُ قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ فَصَاحِبُهَا طَاغُوتٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ" فلا يمكن أن تكون كلُّ راية في نهج و مسار القائم عليه السلام، و إنَّما المقصود الراية التي تكون في خلاف راية القائم.
و نقل هذه الرواية المرحوم المجلسيّ رضوان الله تعالى عليه في «مرآة العقول» و اعتبرها موثّقة؛ ثمّ قال بعد ذلك: قال الجوهريّ: الطَّاغُوتُ: الكَاهِنُ وَ الشَّيْطانُ وَ كُلُّ رَأسٍ فِي الضَّلَالِ. و يستعمل أحياناً في الواحد، كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ}۱. فضمير يَكْفُرُوا بِهِ مفرد و يرجع إلى الطاغوت. إذَن، الطاغوت هنا مفرد، و هو يعني ذلك المتعدّي و الظالم الذي يرجع الناس إليه في هذه الامور للتحاكم.
و يستعمل أحياناً في الجمع، كقوله تعالى: {أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ}٢. ضمير {يُخْرِجُونَهُمْ}، (واو الجمع) ترجع إلى الطاغوت. فالطاغوت هنا كان جمعاً، و المراد الجماعة الذين يخرجون أتباعهم من النور إلى الظلمات.
ثمّ يقول الجوهريّ: وَ طاغوتٌ إنْ جاءَ عَلَى وَزْنِ لَاهُوتٍ فَهُوَ مَقْلوبٌ لأنَّهُ مِنْ طَغَي؛ وَ لَاهُوتٌ غَيْرُ مَقْلوبٍ لأنَّهُ مِن لَاهَ بِمَنْزِلَةِ الرَّغَبوتِ وَ الرَّهَبوتِ [مِنَ الرَّغْبَةِ وَ الرَّهْبَةِ] وَ الجَمْعُ الطَّواغِيتُ.
قوله: لاهوت من لَاهَ و ليس من لَهَى، إذ لَهَى بمعني انصرف و مال إلى الاعوجاج، أمّا لَاهَ فبمعنى تألَّه و صار عارفاً بالله.
و على كلّ تقدير، فدلالة هذه الرواية واضحة، كما أنَّ سندها حسن جدّاً. لكنّها لا تقوم بحكم المنع من حكومة الشرع و ولاية الفقيه. و تبقي الأدلّة الدالة على وجوب تولّي الفقيه الجامع للشرائط زمام الامور في كلّ زمان، و وجوب انصياع المؤمنين و المسلمين إليه على إطلاقها، و هي تقف حاجزاً أمام كلّ من يمتلك في قلبه حبّاً لهذا المقام و لو بمقدار قيد شعرة. (و قد بحثنا فيما مضي حول ذلك بشكلٍ مفصّل، و لا لزوم لإعادة ذلك).
اللّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له: "اللّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أنَّهُ
لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَ لَا التِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الحُطَامِ، وَ لَكِنْ لِنَرُدَّ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَ نُظْهِرَ الإصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَ تُقَامَ المُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ".۱
فأمير المؤمنين عليه السلام الذي هو إمامنا و مقتدانا يقول: إنّك تعلم يا إلهيّ أنَّ تصدّينا لمقام الخلافة و الإمامة لم يكن لمنافسة الآخرين و حصر القدرة و السلطة في أيدينا و إبعاد الآخرين، "وَ لَا الْتِمَاسَ شَيءٍ مِنْ فُضُولِ الحُطَامِ"، و لا لنيل حطام الدنيا و الاستمتاع بزخارفها الفانية الزائلة، فلم يكن الأمر كذلك أبداً، و إنَّما هدفنا الوحيد من الإمارة و الحكومة هو ردّ المعالم الزائلة من الدين إلى موضعها، و إقامة أعلام الدين و دلائله الأصيلة (لقد سقطت رايات الدين إلى الأرض، و زالت الدلائل التي تجعل على طريق الوصول إلى المقصد، فَمَن يرد السير إلى التديّن مستعيناً بهذه الدلائل التي قد جعلوها سوف يجد نفسه بلا دين).
و لكي تُظهر الإصلاح في بلادك ليعيش الناس في ظلّ السلام و السكينة، و لكي تؤدّي عباداتك براحة بال و اطمئنان نفس بالنحو الأتمّ و الأكمل، و لكي يأمن المظلومون من عبادك (فلا يرزح المظلومون تحت نير الضغوط و البلايا، و لا يعانون من محاولات النهب، هم و قبائلهم، ليقوم الظالمون بابتلاع الدنيا من خلال استلامهم لزمام الامور، و كلّ مقاليد القدرة و السلطة).
و لكي نقيم الحدود المعطّلة كذلك، و نطبّق قوانين و قواعد الشرع بين الناس.
فالرئاسة و الإمارة لأجل ما تقدّم ذكره؛ و هذه مسألة مهمّة و صعبة. و الذين يدخلون في أجواء الرئاسة ممّن وصلت إلى مشامّهم رائحة الدين و معرفة الله، يدركون مدي صعوبة أمر الرئاسة، و هم في كلّ يوم يطلبون من الله موتهم لكي يستريحوا من أعباء هذه المسئوليّة الخطيرة. فليس ثمّة راحة أو رخاء العيش الدنيويّ، و مَن رام الهناء الاخرويّ فعليه بالتحلّي بالصبر على المشاقّ، إذ ليس لهم من الرئاسة و الحكومة و الإمارة سوي الهمّ و الغمّ و تراكم المسئوليّات العظام! فهذه هي حقيقة إمارتهم، و هي مسألة مهمّة جدّاً.
ثمّ يقول: "اللّهُمَّ إنِّي أوَّلُ مَنْ أنَابَ وَ سَمِعَ وَ أجَابَ؛ لَمْ يَسْبِقْنِي إلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و آلهِ وَ سَلَّمَ بِالصَّلَاةِ". إنَّ هذه المسئوليّات التي هي عبارة عن تحمّل هذا المقام، و إيصال حقّ المظلومين، و القضاء على الظالمين، و ردّ المعالم إلى حدودها، و سائر الأحكام الواردة في الشرع المقدّس (مسألة الإمامة و الولاية)- كما ذكرنا- مسألة مهمّة و عميقة و خطيرة جدّاً، و ليس بإمكان الإنسان التخلّي عن تلك الحقائق و إشغال نفسه بما هو أقلّ منها درجة.
فَلَعَمْرِي، مَا الإمَامُ إلَّا الحَاكِمُ بِالكِتَابِ ...
جاء في الرسالة التي أرسلها الإمام سيّد الشهداء لأهل الكوفة هذه الجملة:
"فَلَعَمْرِي، مَا الإمَامُ إلَّا الحَاكِمُ بِالكِتَابِ، القَائِمُ بِالقِسْطِ، الدَّائِنُ بِدِينِ الحَقِّ، الحَابِسُ نَفْسَهُ عَلَى ذَاتِ اللهِ، وَ السَّلَام"۱.
و شاهدنا في هذه الجملة قوله عليه السلام: "الحَابِسُ نَفْسَهُ عَلَى ذَاتِ اللهِ"، فلا يكون في سويداء قلبه و فكره و نيّته ثمّة شيء غير الله، و لا تكون
نفسه منفصلة عن الله عزّ و جلّ، و لا بعيدة عنه. و ليس له أن يتحرّك بفكره و همّه إلى هذه الجهة أو تلك و لو بشكل محدود.
فعلى الإمام أن يحبس نفسه على ذات الله تعالى، و أن لا يلتفت إلى أيّ فكرة أو خاطرة صادرة عن غير الله في أمره و نهيه و عليه إطاعة الله و التسليم له، و الفناء في ساحته، و النزول و المقام في حرم أمنه. و يُقسم الإمام: "فَلَعَمْرِي مَا الإمَامُ"! و ليس المقصود هنا الإمام المعصوم، بل معني القائد هو المراد؛ أي: لا يحقّ لأحد التصدّي للقيادة في العالم ما لم يكن ممتلكاً لهذه الخصوصيّات (حابساً لنفسه على ذات الله تعالى) أي لا يؤثّر فيه كلام غير الله عزّ و جلّ، أو أيّة خاطرة أو إنِّيَّة أو إحساس بالذات و وقوف عند الذاتيّات، من قبيل وقوفه عند عدم احترام البعض له، أو طريقة تصرّفهم معه، و أمثال ذلك. فعليه أن يتجنّب هذه الامور بشكل تامّ، كأمير المؤمنين عليه السلام، الذي يقول: لقد ضربني ضربة فاضربوه ضربة أيضاً، و إيّاكم أن تقتلوا أحداً آخر أو أن تُمثِّلوا به.
عند ما قُتل عمر، كان قاتله أبو لؤلؤة وحده، إذ كان قد أخفي نفسه تحت بساط المسجد، و قام بطعنه في نفس ذلك اليوم بتلك المدية في بطنه؛ فقام ابن عمر (عُبيد الله) بأخذ شخص إيرانيّ اسمه هرمزان و قتله بتهمة كونه متعاوناً مع أبي لؤلؤة. فقام أمير المؤمنين عليه السلام بجهود كبيرة من أجل قَتْلِ عبيد الله، لأنَّه قَتَلَ نفساً بغير ذنب؛ فقاتل عمر هو أبو لؤلؤة و ليس شخص آخر. و حتّى لو ثبت أنَّ الهرمزان كان متعاوناً مع أبي لؤلؤة، فجرمه لا يستدعي قتله. فبقتل عبيد الله الهرمزانَ، فقد صار قاتلًا و وجب عليه القصاص، لارتكابه القتل العمديّ من غير سبب.
لقد جدّ أمير المؤمنين عليه السلام في هذه القضيّة، أكثر ممّا كان جدّه في سبيل استلام الحكم. لما ذا؟ فهكذا الإمام حقّاً. و عند ما يُضرب
على فرقه و يشقّ رأسه في المحراب، يقول: ضربة بضربة، لا تأخذوا أحداً آخر، لا تضعوا أيديكم على سيوفكم و تقولوا بين القبائل: قُتِلَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ و تعملوا سيوفكم بالناس! و حتّى الذين كانوا متعاونين مع ابن ملجم كالأشعث بن قيس و وردان و شبيب، نراه لم يقتلهم أو يأمر بقتلهم، لأنَّ لهؤلاء جزاء آخر، إذ إنَّهم أعانوا القاتل دون المشاركة في التنفيذ، و هذا له حكم آخر.
من ذا الذي يستطيع الالتزام بهذا الحكم؟! فالحاكم بين اولئك أنَّه فيما لو قتل لهم واحد فسيقتلون بدله من غير القاتل، متعلّلين بأنَّ هؤلاء كانوا متعاونين مع القاتل، بخلاف حكم الإسلام المستمدّ من قوله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ۱. فلا يصحّ قتل نفسين مقابل نفس واحدة، و على المتولّي لزمام الامور أن يعمل وفق السنّة الإلهيّة، و أن لا يتأثّر بالأهواء و الآراء و الأفكار، و لا تهزّه أو تجعله ينزلق، بل عليه أن يعمل وفق قانون الله. و عند ذلك يكون أمير المؤمنين، بينما يكون الآخرون معاوية.
إنَّ على والى الحكومة و الولاية الذي هو أعلم و أبصر و أفقه أبناء الامّة أن يكون مرتبطاً بعالم الغيب، و عليه ألّا يغفل أو ينقطع ارتباطه بالسماء، و ألّا تجذبه المراجعات و ضجيج عالم الكثرة و غوغاء الأهواء و الأفكار و النظرات إلى أيّة جهة، فيقوم بتحصيل حقائق ذلك العالم في الليالى بقدم ثابتة في محراب العبادة و يحفظها، ليستفيد في النهار من تلك الذخيرة في عالم الكثرة. {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ، إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا}.٢
عند ما تخيّم حلكة الليل و تعمّ العالم، تكون الفرصة أكثر مناسبة للوقوف في محراب العبادة و للقول القويم، فتجعل تلك الحلكةُ القدمَ أكثر ثباتاً و إحكاماً في جلب المنافع و الفيوضات الربّانيّة. لكن، ما أن يحلّ النهار فاسبح أيّها النبيّ في بحر الكثرات هذا، فإنَّ لك سبحاً طويلًا؛ فخذ من الليل و اصرف في النهار.
روي ابن فهد الحلّيّ في «عدّة الداعي» عن سيّد الأوصياء، عن سيّدة النساء فاطمة الزهراء سلام الله عليها، أنَّها قالت:
"مَنْ أصْعَدَ إلَى اللهِ خَالِصَ عِبَادَتِهِ أهْبَطَ اللهُ أفْضَلَ مَصْلِحَتِهِ".
فالذي يُصعد إلى الله خالص العبادة، أي العبادة الخالصة و الطاهرة و الدعاء الخالص و الطاهر اللذين يكونان خاليينِ من كلّ لون و شبهة، فينزل الله عليه أفضل مصلحة من عنده. فعلى حاكم الشرع أن يرفع إلى الله أفضل عبادته و أفضل دعائه و افتقاره القلبيّ لكي ينزل الله عليه أفضل المصلحة.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ الحادِي وَ الأربَعُونَ: فِي الرِّوَايَاتِ أيْضاً تَرْجِعُ المُتَشَابِهَاتُ إلى المُحْكَمَاتِ وَ الظَّوَاهِرُ إلى النُّصُوصِ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
كما أنَّ في القرآن الكريم محكمات ففيه اخر متشابهات، و ما ينصّ عليه القرآن هو إرجاع المتشابهات إلى المحكمات؛ كذلك في أخبار الأئمّة عليهم السلام محكمات و متشابهات، و يجب إرجاع المتشابهات من أحاديثهم إلى المحكمات منها وفقاً لكلامهم عليهم السلام. و قاعدة المجمل و المبيّن و المتشابه و المحكم جارية في كلّ مكان، و كذا الحال بالنسبة للمحاورات العرفيّة أيضاً.
فعند ما نواجه خطاباً وارداً في سياق معيّن مثلًا، فعلينا أن نلاحظ صدره و ذيله معاً و نزنهما، فإن كان ثمّة إجمال في جملة ما، فالجملة الاخرى تكون بياناً لها، و إن كان ثمّة مطلب خفيّ في موضع، فالقرينة الاخرى تبيّنه.
يجب تخصيص إطلاق روايات حرمة القيام بزمان عدم الإمكان
و الأخبار التي تدلّ- ظاهراً- على عدم جواز القيام في زمن الغيبة؛ مثل: "كُلُّ رَايَةٍ تُرْفَعُ قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ فَصَاحِبُهَا طَاغُوتٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ عَزَّ
وَ جَلَّ"، و ما شابه ذلك ممّا هو محلّ بحثنا، فيجب أن يُفسَّر مدلولها على أساس إرجاعها إلى المحكمات.
أوضحنا في الدروس السابقة أنَّ المقصود منها هو ليس عدم القيام أبداً و بشكل مطلق، و إنَّما المقصود هو عدم القيام في موارد خاصّة، و حيث يكون القيام خلاف أئمّة الحقّ عليهم السلام، أي بخلاف منهجهم و خطّهم و إرادتهم. و أمّا إذا سار في منهجهم و مسلكهم فلا ينبغي القول عندئذٍ إنَّه قد مُنع عن هكذا قيام؛ لأنَّ آيات القرآن و الأخبار الكثيرة المتواترة المستفيضة (بالتواتر المعنويّ) تفيد: على الإنسان الوقوف ضدّ الظالم، و أخذ حقّ المظلوم، و عدم الخضوع لولاية الكفّار؛ و أنَّ حقيقة الإسلام ترتبط باستقلال الإيمان و الخروج عن زيّ عبوديّة الكفر.
و هذه المسائل ليست واحدة أو اثنتين بحيث يمكن للإنسان أن يغضّ النظر عنها بسهولة، خصوصاً مع حثّ القرآن و أخبار أهل البيت و بناء أصل ولاية الفقيه عليها. و كما ذكرنا أيضاً فولاية الفقيه أمرٌ عقليّ، أي بعد أن علمنا أنَّه لا بدّ لكلّ جماعة لأجل استمرارها من رئيس، و إن كانت بعيدة كلّ البعد عن الحضارة و المدنيّة، بل و إن كانت تلك الجماعات من الحيوانات أيضاً، علمنا أن وجود الرئيس لكلّ جماعة أمرٌ فطريّ. و على هذا فلا يمكن للّه العليّ الأعلى أن يترك جماعة تعيش فيما بينها من دون رئيس و مدبِّر. و الإنسان مدنيّ بالطبع، و لا مفرّ له من العيش مع أخيه الإنسان تحت إدارة واحدة تجمع شتات و تفرّق الجميع. و حينها، فلا بدّ للوليّ من أن يكون: أفضل و أحسن و أطهر و أعقل و أعلم و أقدر أبناء ذلك المجتمع، بحكم العقل. و هذا هو معني ولاية الفقيه.
و على هذا، فلا يمكن لهذه الطائفة من الأخبار أن تمنع من وجود الرئيس، إذ لا بدّ لكلّ مجتمع من رئيس.
فمَن هو الرئيس الجيّد؟
إمَّا أن يكون الفقيه العالم و العادل و أفقه الامّة أو غيره. فإن كان غيره لزم تفضيل المفضول على الفاضل، و هو غير صحيح. و عليه، فينحصر في الأوّل.
و قول ابن أبي الحديد: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي فَضَّلَ المَفْضولَ عَلَى الأفْضَلِ، كلام خاطئ جدّاً؛ فالله تعالى لن يرجّح المفضول على الأفضل أبداً. فترجيح المفضول على الفاضل حكم شريعة الغاب. و إنَّما رجّح المفضول على الأفضل في سقيفة بني ساعدة، حين ابتعدوا عن حكم الله و خضعوا لشريعة الغاب! فحكم الله هو ترجيح حكم الأفضل على الفاضل عقلًا و فطرة. و تفسير ذلك: أنَّ احتياج المجتمع لرئيس من المسلّمات، مع كونه أفضل الأفراد، و لا تعني ولاية الفقيه شيئاً غير هذا.
و ليست هذه المسألة بتلك الدرجة من التعقيد ليعسر و يشقّ علينا فهمها و التعامل معها؛ فهي تعني رجوع الإنسان إلى مرجعٍ بحيث يتكفّل اموره الدينيّة و الاجتماعيّة بأفضل وجه من خلال رجوعه إلى الفقيه الأعلم و الأتقى و الأفضل. و هذا هو معني حكومة الفقيه و حكومة الإسلام. و حاكم الإسلام هو الشخص الذي يكون حكمه نافذاً على الإنسان، سواء كان نفوذ حكمه في زمن التقيّة و عدم تأسيس الحكومة الإسلاميّة، أو في زمان الظهور و بسط يد حاكم الشرع و عدم التقيّة. إذ تارة يبايع الناس الحاكم بشكل علنيّ، و يقوم الحاكم بتعريف نفسه إلى الملأ، فهذا يكون ظهوراً. و أمّا في حال عدم الإعلان، فتلك هي التقيّة.
و على كلّ تقدير، فيجب أن يكون الحكم بيد أعلم الامّة و حسب، بما يترتّب عليه إقامة تلك الحكومة و مقارعة الظلم، و إحقاق حقوق المظلومين، و ردع الأعداء و الظالمين، و حماية حدود المسلمين و قضاء
حوائجهم في امور الدين و الدنيا.
و على هذا الأساس، فإذا رأينا رواية ما تقول بعدم جواز أيّ قيام حتّى زمن الظهور، و إنَّه باطل بالضرورة الدينيّة، فلا يكون معناها بهذا الإطلاق الذي نتخيّله، و لا بدّ من توجيهها ضمن ذلك المساق الخاصّ السالف الذكر؛ و إلّا، لكانت منافية لضرورة الدين.
آيات وجوب الهجرة و دفع الظلم و عدم تمكين الظالمين
و من جملة أدلّة وجوب قيام دولة الإسلام و الخروج من تحت قيمومة الكفر و الظلم هذه الآيات المباركات:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً ، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ، فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً ، وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.۱
الذين يموتون و تستوفي ملائكة الغضب أرواحهم (أي تسحبها بما للكلمة من معني و تحفظها لديها) حال كونهم ظالمين لأنفسهم؛ تقول لهم الملائكة: أين كنتم في هذه الدنيا؟ و لِمَ ظلمتم أنفسكم و صرتم أشقياء إلى هذا الحدّ؟ و لِمَ تحمّلتم الظلم؟ فيقولون: لقد كنَّا مستضعفين في الأرض، أي كنّا عرضة لتعدّي و تجاوز الظالم و تحكّمه و تسلّطه فأخضعنا لعبوديّته و استعبدنا لنفسه، و لذلك سواء شئنا أم أبينا فقد بتنا معدودين من
المستضعفين الضعفاء تحت حكومة الاستبداد تلك، و لم نتمكّن من فعل شيء أكثر من هذا، فكنّا نعيش تحت قدرة الآخرين القاهرة، فما كنّا جناة و لا أردنا ظلم أنفسنا. فتقول لهم الملائكة: أ لم تكن أرض الله واسعة؟! فَلِمَ لَمْ تهاجروا؟ لتخرجوا من تحت لواء الكفر، و لواء اولئك الذين يعيشون هنا، فتذهبون إلى مكان آخر! فأرض الله واسعة، و لو هاجرتم لكنتم تعيشون بحرّيّة بحيث لا تظلمون أنفسكم و لا تكونون عرضة لتجبّر المستكبرين.
و الذين ظلموا أنفسهم و قبضت الملائكة أرواحهم و أخرجتها، فمأواهم جهنّم و ساءت مصيراً. ما عدا اولئك الرجال أو النساء أو الولدان الذين استضعفوا و ليس باستطاعتهم الهجرة، و لا يمتلكون القدرة و لا القوّة الفكريّة أو الماليّة، و لا القوّة البدنيّة، و ليس لهم من سبيل للخروج من زيّ الكفر و لوائه، أو طريق للفرار و الهجرة. فهؤلاء هم المستضعفون. و ليس اولئك العصاة و أصحاب العلم و الدراية الذين يقولون: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}. فليس بمستضعف مَن يمتلك القدرة على الهجرة، لكنَّ المستضعفون هم اولئك الذين لا يمتلكون القدرة على الهجرة: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}، فعسى العليّ الأعلى أن يعفو عنهم، و الله غَفُورًا رحِيمًا.
و من يهاجر في سبيل الله، {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً}، يا له من تعبير رائع!
«مُرَاغَم» تعني: الأماكن الكثيرة التي يمكن فيها تمريغ رءوس و عقائد الكفر بالتراب و إلقاء العدوّ و أبطاله أرضاً، و التي يتمكّن فيها من قتل أكبر الشجعان الذين يتآمرون على الدين و شرفه و عزّته.
فليس من الصحيح البقاء في مكّة، و القول: لا يمكننا الدفاع عن
ديننا و لسنا أحراراً لأنَّنا تحت ولاية رؤساء قريش الذين يمارسون الضغوط ضدّنا، لأنَّ الله تعالى يقول: تحرّكوا، اخرجوا من تلك الجدران، و تعالوا إلى أرض الله الواسعة هذه، إلى المراغم الكثيرة التي تظهرون بها دينكم بكلّ حرّيّة، حيث صلاتكم جهاراً و بإمكانكم أن تأمروا بالمعروف و تنهوا عن المنكر.
المُراغَم من رَغم، و هي تلك البقاع التي يمكن للإنسان فيها أن يُدافع عن حقّه بكلّ ما للكلمة من معني، و أن يصل فيها إلى أهدافه و طموحاته الخاصّة. و ليس من فائدة من دون الهجرة، باستثناء من لا يتمكّن عليها و هم المستضعفون.
إنَّ الهجرة واجبة على الجميع، سواء الهجرة الظاهريّة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، أم الهجرة الباطنيّة من الكفر إلى الإسلام الظاهريّ و الإسلام الباطنيّ. و كلّ من يهاجر و يخرج من بيته يجد في الأرض حرّيّة وسعة، بحيث يتمكّن من رفع اللواء و الراية، و مواجهة العدوّ بالسلاح، و العيش على أساس الإيمان و الإسلام و الاعتقاد به.
و كلّ من يخرج من بيته مهاجراً إلى الله و رسوله- و إن لم يصل إلى الله و رسوله، و مات في طريقه هذا- فأجره على الله و لن يضيع. لأنَّه و إن لم يصل إلى الله و رسوله، لكنّه قد خرج من بيته بنيّة الوصول إلى الله و رسوله، و هذه النيّة كافية لعدّه مهاجراً، و إذا أدركه الموت في الطريق فالله غفور رحيم، و سوف يوفيه أجره.
تدلّ هذه الآية بوضوح على عدم قبول مبرّرات التخلّي عن المسئوليّات بحجّة الوقوع تحت ضغط الأجنبيّ و قدرته و تعليماته و رئاسته؛ فالآية قد رفعت العذر و قالت: المعذورون هم بعض النساء و الأبناء و الرجال الذين لا يمتلكون القدرة و لا يستطيعون الهجرة لا غير.
ورد في التفسير أنَّه يجب الهجرة حتّى على الوِلْدان، أي الأبناء الذين وصلوا إلى مرحلة العقل و اقتربوا من البلوغ و لهم القدرة على الهجرة، فالهجرة عليهم واجبة و إن لم يبلغوا. و كذا تجب الهجرة على اللواتي يقدرن عليها.
الهجرة تعني الخروج من تحت لواء الظلم و الكفر، و إذا لم يهاجر الإنسان متعلّلًا بعجزه و مسكنته و تعاسته و ذلّته و قوّة العدوّ الأجنبيّ، فلا يُقبل منه، أي من هذه الأعذار، و يشمله بلاغ الآية القائل: إنَّ ملائكة الغضب تقبض أرواح هؤلاء إلى جهنّم، و تدين مَن يريد الاحتجاج بها بقوّة المنطق و البرهان، قائلة: لما ذا بقيت قابعاً في بيتك حتّى جاء العدوّ لعقر دارك؟!
مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
"مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ". فمن قُتل دفاعاً و ردَّ من يحاول الاعتداء عليه فهو شهيد، لأنَّ من يُدافع حفاظاً على حفظ روحه تجاه من يريد قتله ظلماً إنَّما يدافع عن مظلمته؛ و كذا من يُقتل دفاعاً عن عرضه أو ماله فيُعدّ شهيداً أيضاً.
و ينبغي الحيطة و الحذر لئلّا ينحرف تفكيرنا بحيث نستبدل تلك المحكمات و الضروريّات الدينيّة بمطالب خلاف الواقع.
فالهجرة في هذه الآية المباركة واجبة، و الله تعالى يقول: {وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً}، و ذلك بالنسبة للنبيّ، فالله تعالى يأمر نبيّه بترك مكّة و الذهاب إلى المدينة، على الرغم من كون مكّة المشرّفة هي بيت إبراهيم و آدم، و موطن أجداد رسول الله و الرجال الموحّدين منذ آلاف السنين، و مدفن كبار المؤمنين منهم سبعون نبيّاً مدفونون في أطراف بيت الله، على الرغم من كلّ ذلك، فعليه ترك
المكان الذي دُفن فيه إسماعيل و هاجر، و الذهاب إلى المدينة و عدم البقاء في مكّة، فلم تعد مكّة دار النور، بل هي دار الظلمة. و بعد هجرة النبيّ إلى المدينة، جاء مرّة أو مرّتين إلى مكّة، لكنّه لم يلبث فيها إلّا قليلًا، و كان يقول: لا احبّ أن أعود ثانية إلى تلك المدينة التي هاجرت منها، مع أنَّ الله تعالى يعلم شدّة شوقه القلبيّ و رغبته في مكّة، لكنّ مكّة قد فقدت معنويّتها بعد ما ارتفع فيها لواء أبي سفيان و مَن سار في ركبه، و بات الإنسان فيها تحت الظلم و الضغط، فغدت دار الظلمة، و على النبيّ أن يطوي الصحاري ليجد مكاناً على بُعد ثمانين فرسخاً في المدينة، حيث يجد {مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً} ليتمكّن بعد ذلك من هزيمة الكفّار و إعلاء الدين و إقامة الحكومة.
لقد تمّ تأسيس حكومة الإسلام منذ ذلك الوقت الذي جاء فيه النبيّ إلى المدينة، فطيلة بقاء النبيّ في مكّة (ثلاث عشرة سنة) لم يكن ثمّة حكومة، و لم يكن حتّى مجرّد دعوة خاصّة أو عامّة دون لتأسيس حكومة؛ و قد شكّلت الحكومة عند ما هاجر النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم.
ينبغي للحاكم إصلاح نفسه قبل إصلاح الناس
يكتب سيّد الشهداء عليه السلام إلى أهل الكوفة: "فَلَعَمْرِي، مَا الإمَامُ إلَّا الحَاكِمُ بِالكِتَابِ، القَائِمُ بِالقِسْطِ، الدَّائِنُ بِدِينِ الحَقِّ، الحَابِسُ نَفْسَهُ عَلَى ذَاتِ اللهِ؛ وَ السَّلَام".
أي الحاكم الذي حبس نفسه على أوامر الله و نواهيه و رضاه و مطلوباته و تجلّياته، و لم يكن له من همّ و غمّ سوي تحصيل رضا الله، و كلّ نومه و يقظته و حركاته و سكناته موقوفة على الله، فهذا هو الإمام.
و جملة "فَلَعَمْرِي مَا الإمَامُ" مطلقة، و لئن كان لفظ الإمام ينحصر في ذلك الزمان برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السلام و الإمام الحسن و الإمام الحسين عليهم السلام، و لا يزال بقيّة الله
عجّل الله تعالى فرجه الشريف الفرد المنحصر به إلى هذا الزمان، و لا يستطيع أيّ شخص أن يسمّي نفسه بالإمام؛ لكنّ إطلاق الإمام تعني: لا بدّ لكلّ مَن يتولّى زمام الامور في كلّ زمان أن يتحلّى بصفات: القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحاكم بالكتاب، "الحَابِسُ نَفْسَهُ عَلى ذَاتِ اللهِ"؛ أي لا يكون في عقله و فكره غير الله و الطريق و الفكر الإلهيّينِ، و غير سعادة و فوز الناس.
إنَّ ابن أبي الحديد في آخر «نهج البلاغة» بعد إكماله شرح حِكَم أمير المؤمنين عليه السلام- تسعمائة و تسع و ثمانين حكمة من الحكم المنسوبة إلى الإمام عليه السلام- قد أورد في الحكمة الخامسة عشر بعد المائة:
"يَنْبَغِي لِمَنْ وَلِيَ أمْرَ قَوْمٍ أنْ يَبْدَأ بِتَقْوِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ أنْ يَشْرَعَ فِي تَقْوِيمِ رَعِيَّتِهِ؛ وَ إلَّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَامَ اسْتِقَامَةَ ظِلِّ العُودِ قَبْلَ أنْ يَسْتَقِيمَ ذَلِكَ العُودُ".
و هذا تشبيه عجيب، إذ من الواضح أنَّهم إذا أرادوا نصب خيمة كما هو متعارف في مكّة أو عرفات أو مِنى أو سابقاً في أيّام قراءة العزاء حيث كانوا ينصبون الخيم (لا أنَّهم لم كونوا يستطيعون إقامة العزاء في مكان مسقّف، و إنَّما للخيمة موضوعيّة، حيث تشير إلى خيم سيّد الشهداء عليه السلام، فكانوا في مجالس العزاء التي يقيمونها يريدون الجلوس تحت الخيم و يقرءون العزاء تحتها بنفس الطريقة التي جاء بها سيّد الشهداء عليه السلام إلى كربلاء، و قد كانت فكرة جيّدة أيضاً)، فكانوا إذا أرادوا نصب خيمة يضعون عموداً تحتها و قد يحتاجون في بعض الخيم الكبيرة إلى عمودين، فيثبّتون العمود أوّلًا و من ثمّ ينصبون الخيمة فوقه، و لم يُرَ إقامة خيمة من دون نصب ذلك العمود. فقيام و ثبات الخيمة بعمودها.
فيقول الإمام عليه السلام: إنَّ من يتولّى أمر الناس بمنزلة العمود للخيمة، لكنَّ إمارته على الناس بحكم الخيمة. و من المحال أن يتحقّق إصلاح و تقويم الناس إلّا باستقامة ذلك الشخص. و من المحال أن يتمكّن إنسان من إقامة العدالة الاجتماعيّة بين الناس قبل أن يكون هو نفسه طالباً للعدالة بشكل واقعيّ و ممتلكاً لروح العدل. كما أنَّه من المحال أن يتمكّن إنسان من أن يجعل الناس مصلّين من غير أن يكون هو من المصلّين قبلهم. أو أن يُلجئ الناس إلى الجهاد من غير أن يكون هو من المجاهدين في سبيل الله. أو أن يعرِّف الناس بالقرآن و بتعاليمه قبل أن يفهم هو نفسه القرآن و يعمل به.
يقول الإمام عليه السلام: إنَّ من يتولّى أمر الناس في حكم عمود الخيمة، و من المحال أن تظلّل هذه الخيمة الناس قبل أن يُقام عمودها هذا.
على الفقيه الحاكم أن يطالع باستمرار عهد الإمام لمالك الاشتر
عند ما أراد أمير المؤمنين عليه السلام إرسال مالك الأشتر إلى مصر، كتب له كتاباً، و قد بيّنا فيما سبق شيئاً قليلًا منه، و هو يحمل في الواقع صفة برنامج و نهج عمليّ لمالك. و لكنَّ معاوية قد اغتال مالكاً قبل أن يصل إلى مصر و يطبّق هذا الدستور و النهج. أي بواسطة أحد غلمان عثمان أو عمر ممّن كان يرافق مالكاً في السفر، و اتّبع معه طريقة التعارف و المودّة و الخلوص، و تظاهر له على أنَّه من خواصّه الخصّيصين به، و قبل أن يصل مالك إلى مصر وضع له سمّاً في العسل و أطعمه إيّاه، فاستشهد مالك في ذلك المكان. ثمّ وقع هذا الكتاب بِيَدِ بني اميّة و جعل بنو اميّة سواء في مصر أم في المغرب (الأندلس) هذا الكتاب برنامجاً عمليّاً لهم و نسبوه إلى أنفسهم. و بعد ما انتهت حكومة بني اميّة في المغرب (الأندلس)، و جاء هذا العهد إلى هذه المنطقة عُرِفَ سرّ الأمر و منشأ القضايا و منطلقاتها و مخارجها، ذلك و إن قوّضت حكومة بني اميّة في المشرق من قبل بني
العبّاس، لكنَّ حكومتهم في المغرب قد دامت إلى مائتين و بضعة سنوات. و قد ترجموا هذا الكتاب و العهد فيما بعد إلى لغات مختلفة. و يقال: إنَّه قد نُظِّمت القوانين الأساسيّة لجميع الامم الراقية في الدنيا هذه الأيّام على أساس هذا الكتاب.
يقول المرحوم النائينيّ في «تنبيه الامّة و تنزيه الملّة» إنَّ آية الله الفقيه الكبير الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ رحمة الله عليه كان يطالع هذا العهد باستمرار، لأنَّه دستور أمير المؤمنين عليه السلام لوليّه مالك الذي اختاره كحاكم لمصر. و بما أنَّ الحاج الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ أيضاً كان الوليّ الفقيه للمسلمين، كان يطالع هذا العهد دائماً لكي لا يتخطّاه في أيّ وقت من الأوقات، و لئلّا يقع الإنسان في الفرعونيّة أو يأخذه التجبّر.
و أمر هذا العهد يدعو إلي الدهشة و الإعجاب، لاحتوائه على كلّ شيء. يقول المرحوم النائينيّ: من المناسب أن يتأسّى جميع العلماء بالمرحوم الحاجّ الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ، و أن يحملوا هذا العهد معهم و يطالعونه باستمرار، و لا يكتفوا بمطالعته مرّة واحدة و يقولون إنَّه ما دمنا قد طالعنا «نهج البلاغة» مع شرحه فلا حاجة إلى ذلك بعد. فهذا العهد يبقي كمثل الصلاة، فعند ما نكون قد صلّينا صلاة الصبح و يحلّ الظهر فعلينا أن نصلّي أيضاً، و كذا عند العصر و المغرب و العشاء، و يستمرّ الأمر في الغد بهذا النحو، دون أن يحقّ لنا القول بأنَّ الله واحد و الله أكبر و انتهى الأمر، فلما ذا نكرّر ذلك مرّتين، و ذلك لأنَّ «الله أكبر» الاولي كانت تكبيرة مختلفة، و «الله أكبر» الثانية تكبيرة اخرى مختلفه؛ فالطعام الذي نتناوله عند الصبح أو الظهر و إن كان متساوياً في الشكل و الكمّيّة لكنّه غذاءان و له أثران. و يعتبر هذا العهد بحكم غذاء الروح، كالصلاة التي يجب أداؤها باستمرار.
أجل؛ فعند ما يقول الإمام عليه السلام: "ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ!" فكأنَّه يوجّه خطابه لنا، و علينا أن نقرأ عبارته بشكل متواصل لتأنس أرواحنا و تنسجم مع مطالبه، و إلّا فإنَّنا سنفقد أنفسنا من حيث لا نشعر. لأنَّ تأثير الرئاسة و الحكومة على الإنسان تدريجيّ كمهبّ الريح الحاملة بين ثناياها ذرات بعض الأشياء التي لا ينتبه الإنسان إليها إلّا بعد تلاشيها؛ فالرئاسة تصيب الإنسان بروح الأنانيّة و الاستكبار و الإحساس بالذات و التمسّك بالرأي شيئاً فشيئاً؛ فيأمر و ينهي بعنوان الرئاسة دون أن ينتبه إلى فقدانه لنفسه! و ليس هناك من حيلة في ذلك إلّا أن يجعل الإنسان نفسه في حالة مستمرّة من المسكنة و العبوديّة، و ليس هناك من طريق سوي مطالعة هذا العهد بشكل دائم.
و من جملة الامور التي ينبّه فيها أمير المؤمنين عليه السلام مالكاً فيما يخصّ بناء النفس، حيث يقول:
"ثُمَّ امُورٌ مِنْ امُورِكَ لا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا؛ مِنْهَا إجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ".
أي بعد أن بيّنا لك المسائل التي تتعلّق بالأصناف السبعة من الامّة، نشرع الآن بالامور التي تخصّك، و عليك أن تباشرها بنفسك، و لا تستطيع أن توكلها للآخرين.
و من جملتها: إذا لم يتمكّن كتّابك من متابعة مراجعات العمّال و الناس لك، و كتابة التقارير في ذلك بسبب كثرة المراجعات و تراكمها. فعليك عند ذلك أن تتّجه بنفسك إلى عمّالك لتسمع احتياجاتهم و مطالبهم منهم شخصيّاً لكي لا تُنسي الامور المتعلّقة بهم بسبب انشغالك بامور الناس.
على الفقيه حاكم الشرع قضاء حوائج الناس يوم مراجعتهم
"وَ مِنْهَا إصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ
صُدُورُ أعْوَانِكَ؛ وَ امْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ".
و من جملة ما يلزمك القيام به هو قضاء حاجات الناس اليوميّة من دون تأجيل أو تأخير إلى الغد. فتلك الحاجات التي تُتعب أعوانك و موظّفيك و تعجزهم عن تنفيذها في وقتها أو يكون من الصعب عليهم ذلك بسبب الأعمال الكثيرة الحاصلة من مراجعات الناس فيميلون إلى تأجيلها، فيضطرّون الناس إلى إرجاء معاملاتهم إلى الغد و بعد الغد، فالذي عليك و الحال هذه أن تقوم بنفسك بإنجازها؛ فليس من حقّ الموظّف أن يؤخِّر عمل اليوم إلى الغد، و إن اضطرّ إلى ذلك فقم بنفسك بعمل ما عجز عنه موظّفوك؛ كما عليك أن تقوم بهذه المهمّة يوميّاً لكي لا تتأخَّر معاملات الناس؛ و ذلك لأنَّ كلّ يوم هو ظرف لعمله و حاجاته، و الغد ظرف آخر و له مظروف آخر.
على الفقيه حاكم الشرع أن يجعل أفضل أوقاته للعبادة
"وَ اجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللهِ أفْضَلَ تِلْكَ المَوَاقِيتِ، وَ أجْزَلَ تِلْكَ الأقْسَامِ؛ وَ إنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ إذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ وَ سَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ".
أي اجعل أفضل الأوقات التي تصرفها مع الناس للخلوة بينك و بين الله، فاجعل أجزل تلك الأوقات و أفضلها ذلك الوقت، و إن كانت جميع هذه الأوقات للّه، و جميع هذه الأعمال له إذا كانت النيّة صالحة و كانت الرعيّة تعيش بسلامة. لكنَّ ذلك الوقت الذي تُريد أن تشتغل فيه بينك و بين الله بالتضرّع و المناجاة، يجب أن يكون أفضل و أطهر أوقاتك.
لاحظوا علوّ المعني الذي يبيّنه، إذ يقول عليه السلام: إنّك تصرف جميع أوقاتك للناس، و بصفتك فقيهاً فإنَّك تفتي و تدرّس و تجيب على أسئلة الناس و توزّع مخصّصات الطلّاب الشهريّة، فعليك القيام بامور الناس و الإجابة على مسائلهم الخطّيّة، فإن لم تجب على استفتاءات الناس،
فسوف يبقي الاستفتاء الفلاني الذي جاء من الهند مثلًا بلا جواب إلى ما شاء الله. و سوف تشغل نفسك و لا يبقي لك حال للعبادة، فتؤدّي صلاتك في النتيجة و أنت في حالة من الكسل و التعب، فلا تملك حالًا لأداء النوافل و لا للتوجّه و التفكّر، و كثيراً ما تؤخّر الصلاة عن أوّل الوقت و تكتفي بأقلّ الواجب، و ذلك أيضاً بسبب الكسل.
فالكادّ ليله و نهاره، و الباذل قصارى جهده و طاقته في تدبير الامور الاجتماعيّة، سوف لا يبقي له حال للصلاة، و عندها يؤدّي صلاته بحالٍ من الكسل. أي أنَّه يجعل أسوأ و أدون حالاته و أوقاته للصلاة.
فعند ما يكون نشيطاً و في حال حسن يتكلّم و يخطب و يدرّس و يبحث و يقوم بأعمال الناس و الوزراء و السفراء بحيويّة، و يظلّ في حالة انتباه خشية صدور جملة منه على غير وجه الصواب، و أمّا الصلاة فتبقي للأوقات الاخرى!
بينما يقول الإمام عليه السلام: إنَّ العكس هو الصحيح؛ فما دمت تعمل لخدمة الناس، و هم ملك و عبيد للّه، فإن كانت نيّتك صافية و صادقة فسوف تهدي الناس بشكل صحيح، أمّا إذا تجاوزت الصراط و نهج الحقّ و الحقيقة فهدايتك لهم سوف لن تكون هداية؛ فما ينبغي عليك هو أن تأخذ من الله على قدر طاعتك لتعطي إلى الناس؛ و هكذا تأخذ من الله و تنفق على الناس، فإن لم يكن لديك حال فكيف ستوزّع على الناس؟! {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ}۱.
يُحكى أنَّ الشيخ الأنصاريّ رحمة الله عليه أمر طلّابه يوماً بلزوم إتيان صلاة الليل، و كان يؤكّد على هذا الأمر إلي درجة كبيرة. فقال بعض
طلّابه معترضاً: إنّك تري بأنَّ جميع أوقاتنا تمضي بالدرس و البحث و المطالعة، و ليس لنا فراغ أصلًا لصلاة الليل، فما العمل؟ فهل تُقدّم صلاة الليل علي هذه الامور؟
فقال الشيخ، ما مضمونه: إنَّ هذا الكلام إنَّما هو علل و أعذار؛ ثمّ خاطب ذلك الشخص قائلًا: يا هذا! أ فلست تُدَخِّن النارجيلة (الغرشة)؟ فافرض نفسك أنَّك تدخّن نرجيلة، فإنّها تستمرّ خمس دقائق أو عشرة و ربّما أكثر، فاجعل صلاة الليل هذه مكان نرجيلة واحدة، و تخلّي عنها من أجل أداء صلاة الليل.
و الواقع أنَّنا أيضاً نختلق الأعذار، فعند ما نجلس لتناول الطعام، أو نتكلّم حول الآداب الاجتماعيّة، أو نصرف أوقاتنا بالمجاملات، لا نحسب لذلك حساباً على الإطلاق؛ أمّا إذا أردنا أن نصلّي صلاة تستغرق دقيقتين فنكون كمن يعالج نزع الروح و تشتعل النار في أنفسنا!
يقولون: على الإنسان أن يتدخّل في الامور الاجتماعيّة، و إلّا فمن سيكون للمساكين و الأيتام و ما شاكل من هذه الامور؟ و نقول: مَن الذي يجب عليه أن يعالج امور هؤلاء؟ هل هو ذلك الشخص الذي لم يُقِمْ علاقته مع الله؟!
يقول الإمام عليه السلام مخاطباً مالك: إنَّ جميع التوجيهات التي أعطيتها لك لها محلّها؛ لكن عليك أن تخلو في أفضل أوقاتك مع الله و تكون بقيّة الأوقات للناس. فإذا جري الأمر بهذا النحو فسوف ينال جميع الناس البركة، و إلّا فسوف تُضَيِّع نفسك كما يَضِيع سائر الناس كذلك.
لغاندي جملة جميلة جدّاً، يقول فيها: إنَّ الاوروبّيّين قد عرفوا الطبيعة و الدنيا لكنّهم لم يعرفوا أنفسهم، و بما أنَّهم لم يعرفوا أنفسهم فقد أضاعوا أنفسهم و أضاعوا الدنيا كذلك!
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وَ لْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَكَ إقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً. فَأعْطِ اللهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَ نَهَارِكَ؛ وَ وَفِّ مَا تقَرَّبْتَ بِهِ إلَى اللهِ مِنْ ذَلِكَ كَامِلًا غَيْرَ مَثْلُومٍ وَ لَا مَنْقُوصٍ، بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ".
فعليك إذاً أن تهتمّ بالفرائض اهتماماً بالغاً، و يجب أن تكون أفضل أعمالك التقربيّة عباداتك؛ فقم في المحراب أكثر، مهما أمكن، و أتعب بدنك و رجليك فذلك ليس مهمّاً، و صُم في أيّام الصيف الحارّة، و حمِّل بدنك المشقّة؛ قُم بذلك، فإنَّ العواقب و خيمة جدّاً، و لا تظنّ بأنِّي قد جعلتك والياً من قِبَلِي و أرسلتك لتكون حاكماً على مصر لتذهب إلى هناك و تقول و تدّعي بأنَّك نائب أمير المؤمنين، و مسئوليّتك تنحصر بمراجعة أعمال الناس، و الإعجاب بنفسك و مراقبتهم فحسب، و أنَّ عليك بذل جميع طاقاتك في الامور الاجتماعيّة و الإصلاحات فقط، و المقدار القليل من العبادة يكفي.
"وَ إيَّاكَ وَ الإعْجَابَ بِنَفْسِكَ وَ الثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَ حُبَّ الإطْرَاءِ! فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ أوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إحْسَانِ المُحْسِنِينَ.
امْلِكْ حَمِيَّةَ أنْفِكَ وَ سَوْرَةَ حَدِّكَ وَ سَطْوَةَ يَدِكَ وَ غَرْبَ لِسَانِكَ! وَ احْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ البَادِرَةِ وَ تَأخِيرِ السَّطْوَةِ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الاخْتِيَارَ. وَ لَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ المَعَادِ إلَى رَبِّكَ!"
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ الثَّانِي وَ الأرْبَعُونَ: حُقُوقُ الوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَ حُقوقُ الرَّعِيَّةِ عَلَى الوَالِي
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
وَ لَوْ كَانَ لأحَدٍ أَن يَجْرِيَ لَهُ وَ لَا يَجْرِي عَليْهِ
من جملة خطب «نهج البلاغة» خطبته في حقّ الوالى على الرعيّة و الرعيّة علي الوالى. و مع أنَّ هذه الخطبة ليست مفصّلة لكنّها ذات مغزى عميق جدّاً، مع كون جملها قصيرة و مختصرة لكنّها تحتوي على معانٍ راقية جدّاً. و هي صادرة عن مصدر التوحيد حقّاً. و فيها تبيان للرموز العرفانيّة و الولايتيّة المحضة، و الحقوق الحقّة التي للوالى على الرعيّة و للرعيّة على الوالى بنحو الإجمال.
وَ مِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ خَطَبَها بِصِفِّين:
"أمَّا بَعْدُ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُم حَقّاً بِوِلَايَةِ أمْرِكُمْ، وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ.
فَالحَقُّ أوْسَعُ الأشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَ أضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ. لَا يَجْرِي لأحَدٍ إلَّا جَرَي عَلَيْهِ، وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ إلَّا جَرَي لَهُ. وَ لَوْ كَانَ لأحَدٍ أنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ،
لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَ لِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ؛ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى العِبَادِ أنْ يُطِيعُوهُ، وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلًا مِنْهُ، وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ المَزِيدِ أهْلُهُ".
الحقّ أوسع الأشياء في التواصف، فعند ما يريد الإنسان أن يعرِّف الحقّ فإنَّ ذلك يكون من أوسع الأشياء، إذ يفيض في الشرح حول النحو الذي يجب أن تكون عليه العدالة الاجتماعيّة، و ضرورة تحقيقها في المجتمع، و عدم إمكانيّة تحقيق أيّ تقدّم أو تحرّك ما لم تظهر العدالة الفرديّة و الاجتماعيّة في العالم، و يقوم كلّ شخص من أيّ صنف أو قوم أو طائفة أو قبيلة كان بالكلام حول الحقّ؛ لكن عند ما يطلب منه تطبيق الحقّ في وجوده و في حقّ عائلته و أبنائه و حيث يكون الحكم بالحقّ في غير صالحه فلا يكون حينها مستعدّاً لذلك، و يتشبّث بمختلف الوسائل لكي ينفي الحقّ عن نفسه و يمنع انطباقه عليه.
فدائرة التناصف ضيّقة جدّاً في مقام الحقّ، و علي كلّ شخص إنصاف الناس من نفسه أو نفسه من الآخرين! فعند ما نبحث عن وصف الحقّ فإنَّنا نسمعه من ألسنة الجميع، بينما نجد عند البحث عنه في وجود الأشخاص أنَّه قليل و نادر جدّاً.
و قوله عليه السلام: «لا يجري لأحد إلّا جري عليه، و لا يجري عليه إلّا جري له»: (لأنَّ الحقّ معني يجب أن تُقاس جميع النفوس على أساسه. و عليه، فعند ما يُجعل أصل الحقّ ميزاناً و محوراً فإنَّه يحكم لصالح الأفراد أحياناً بينما يحكم عليهم أحياناً اخرى، سواء في ذلك الامور الشخصيّة أم الامور التي لها علاقة مع بعضهم فيها. و بشكل عامّ، فحيث يحكم الحقّ لصالح الإنسان فإنَّه يحكم عليه أيضاً، و حيث يحكم على الإنسان فإنَّه يحكم له كذلك. فالحقّ سيف ذو حدّين، و لا يحسب حساباً لأحد، و عند ما
يقطع لا يميّز بين الصديق و العدوّ، و لا يلاحظ زيداً أو عمراً و لا الخصوصيّات و الإمكانات، أو الرئاسة و المرءوسيّة، و الحاكميّة و المحكوميّة. فالحقّ حقٌّ و سيف قاطع).
و لو كان لأحد أن يجري له الحقّ و لا يجري عليه لكان ذلك مختصّاً بالله سبحانه و تعالى دون خلقه، لأنَّ الله بيده القدرة على جميع عباده، و حكمه الكلّيّ جارٍ في جميع مراتب القضاء و القدر. و هو يجري وفق العدالة و الحقّ في جميع الظروف و الماهيّات و الشبكات المترتّبة و المختلفة لنزول الحكم الكلّيّ الإلهيّ (و بما أنَّ الله تعالى قاهر و قادر، و بما أنَّ قضاءه في صروف مجاري الأحكام على العدل؛ لذا، فهذا الحقّ يختصّ بالله دون العباد. أي أنَّ الحقّ من طرف واحد و ليس من طرفين، فللّه تعالى على خلقه الحقّ، بينما ليس للخلق حقّاً على الله، لأنَّ قدرة الله نافذة و قاهرة. و عليه، فحقّه الأصيل يقضي على كلّ حقّ متوهّم، فلا يبقي ثمّة شيء غير المتوهّم. و حيث إنَّ أحكامه تجري في مجاري عالم الإمكان وفقاً للعدالة تكويناً و تشريعاً، فالحقّ يختصّ به، و ليس ثمّة ظلم أو شائبة ظلم أو توهّم ظلم ليطلب منه الخلق استحقاقاً لأنفسهم).
و مع ذلك، فلم يجعل الله تعالى الحقّ هنا من طرف واحد، بل جعل لعباده على نفسه حقّاً. فالحقّ الذي له على عباده هو أن يطيعوه، و جعل جزاء عباده على نفسه زيادة الثواب تكرّماً و تفضّلًا و توسّعاً بنحو يوجب زيادة الرحمة و النعمة منه تعالى.
أي أنَّ الله حقّ و متحقّق بالحقّ أيضاً إلى درجة أنَّه مع كونه هو الذي أوجد مخلوقاته، فهم مخلوقون و عابدون له و متّصفون بالعبوديّة المطلقة بالنسبة إلى ساحته المقدّسة، و لا يَعْدُون كونهم تجلّياً و ظهوراً له، و وجودهم و عدمهم بيده. و مع هذا، فلم يرد الله تعالى أن يجعل الحقّ من
طرف واحد تفضّلًا منه و توسّعاً. فجعل جزاء عباده في التزامهم بأوامره زيادة الثواب و سعة الرحمة، أي ألزم نفسه أن يتفضّل عليهم.
و هذه الجملة في غاية الروعة و الشموخ، فلم يقل أمير المؤمنين: إنَّ الله قد جعل لعباده استحقاقاً على نفسه بأن يمنحهم الثواب أو الأجر، بل قال تأدّباً: "وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ ..." أي أنَّه مع أنَّ كلامنا في حقوق الطرفين و استحقاق كلّ منهما على الآخر لكنّه لم يستعمل لفظ الاستحقاق هنا تأدّباً؛ فقال: "وَ جَعَلَ جَزَاءَهُم عَلَيْهِ ... ."
و خلاصة المطلب و زبدته: أنَّ الله تعالى مع عظمته و قدرته و كماله و جامعيّة صفاته و جماله و جلاله إذ أوجد الموجودات و المخلوقات و العباد و أخرجها من كتم العدم إلى الوجود، مع أنَّها لا شيء محض، و مع ذلك فقد جعل لهم حقّاً بنحو لو أطاعوه فإنَّه يمنّ عليهم بجزيل الثواب و مضاعفة الجزاء و الأجر.
"ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ؛ فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأ فِي وُجُوهِهَا، وَ يُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً وَ لَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إلَّا بِبَعْضٍ".
(أي يوجد بين الناس أيضاً مَنْ لَهُ الحَقّ و مَنْ عَلَيْهِ الحَقّ).
و من شدّة عدله و سعة قسطه جعل جميع هذه الحقوق متكافئة و متساوية، و في كلّ موضع جعل فيه حقّاً لأحد استوجب ذلك حقّاً للآخر عليه بمقداره. و قد أوجب هذه الحقوق المتساوية و المتكافئة بشكل تامّ من دون أيّ ظلم على جميع مَنْ لَهُ الحَقّ و مَنْ عَلَيْهِ الحَقّ وفقاً للقسط و العدل.
قيام مناهج الدين بمراعاة حقوق الوالى و الرعيّة
"وَ أعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الحُقُوقِ حَقُّ الوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَ حَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الوَالِي. فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى
كُلٍّ؛ فَجَعَلَهَا نِظَاماً لُالْفَتِهِمْ، وَ عِزّاً لِدِينِهِمْ.
فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إلَّا بِصَلَاحِ الوُلَاةِ، وَ لَا تَصْلُحُ الوُلَاةُ إلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ؛ فَإذَا أدَّتِ الرَّعِيَّةُ إلَى الوَالِي حَقَّهُ وَ أدَّى الوَالِي إلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الحَقُّ بَيْنَهُمْ؛ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ؛ وَ اعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ العَدْلِ؛ وَ جَرَتْ عَلَى أذْلَالِهَا السُّنَنُ؛ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ، وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ الأعْدَاءِ".
قوله: «عَزَّ الحَقُّ بَيْنَهُمْ» الحقّ يعني ذلك السيف القاطع و الثبات و الواقعيّة التي يجب أن تُقاس بها جميع الامور، و بينما يصبح الحقّ عزيزاً، فنقيضه الذي هو البطلان و الظلمة و الوهن و الاعتبار زائل. فالحقّ يمتلك شرافة و قوّة فعليّة، بينما الباطل يزول لأنَّه ذليل و منفعل.
قوله: «وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ الأعْدَاءِ» أمّا من الناحية الداخليّة فلأنَّ الجميع يكونون في حالة انسجام و إخلاص و اعتدال مع الوالى، و يكونون حافظين لحقوق بعضهم، و أمّا من ناحية الخارج فلأنَّ الجماعة بهكذا تنظيم لا تسمح للعدوّ الخارجيّ بالقضاء عليها، ممّا يبعث الأمل على بقاء هذه الدولة، و إدخال اليأس في مطامع الأعداء، إذ ليس لهم من ثغرة ينفذون منها.
"وَ إذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ واليَهَا، وَ أجْحَفَ الوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الكَلِمَةُ؛ وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الجَوْرِ، وَ كَثُرَ الادْغَالُ فِي الدِّينِ، وَ تُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ.
فَعُمِلَ بِالهَوَى، وَ عُطِّلَتِ الأحْكَامُ، وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ؛ فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ وَ لَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ".
قوله: «فَعُمِلَ بِالهَوَى» الهوي: أي الأفكار الشيطانيّة و الخيالات و التوهّمات التي هي ضدّ الحقّ. و كلّ ما ذكر من معني للحقّ فيقابله الهوي.
و قوله: «وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ» العلل: جمع علّة، و المراد بها العيب و النقصان؛ فيصبح أبناء هذا المجتمع أشخاصاً ذوي علل نفسيّة و روحيّة و يتحوّل المجتمع إلى مجتمع مريض.
"فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الأبْرَارُ، وَ تَعِزُّ الأشْرَارُ، وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ العِبَادِ. فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ، وَ حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ".
ففي تلك الحكومة مع هذه الظروف يصبح أهل البرّ و الصلاح أذلّاء، و يفقدون قوّة الفعل و يصيرون في موقف الانفعال و ردّة الفعل، لأنَّ قوي الأشرار تتغلّب عليهم، و ترسخ الأفكار و الأهواء الشيطانيّة، فتصيب الأبرار الذلّة و يعزّ الأشرار! و تصبح الساحة ساحة شيطانيّة و ساحة شرّ، فتزداد ذنوب الناس كما تزداد عقوبة الله و مؤاخذته لهم. و كلّما ازداد الفساد ازدادت المؤاخذة و المسئوليّة.
و عليه، فعليكم أيّها الناس "بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ". بأن تقدّموا النصيحة و الموعظة و الإنذار لبعضكم لكي لا تسمحوا بتحوّل المجتمع إلى هذا الشكل، و لتجعلوا المجتمع يتقدّم علي أساس الحضارة الإلهيّة و حسن التعاون، و لا تسمحوا للأشرار بالتسلّط على أريكة الهوي و الشيطنة و العزّة.
على عباد الله أن يتعاونوا بمقدار جهدهم لإقامة الحقّ فيما بينهم
"فَلَيْسَ أحَدٌ وَ إنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللهِ حِرْصُهُ وَ طَالَ فِي العَمَلِ اجْتِهَادُهُ، بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللهُ سُبْحَانَهُ أهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ. وَ لَكِنْ مِنْ حُقُوقِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إقَامَةِ الحَقِّ بينَهُمْ".
يبيّن عليه السلام في هذه الجملة القصيرة الحقوق الثلاثة المهمّة للدولة على الشعب: الأوّل: الطاعة. و الثاني: النصيحة. و الثالث: التعاون. و سنتكلّم إن شاء الله فيما بعد عن الحقّ الأخير.
"وَ لَيْسَ امْرُؤٌ وَ إنْ عَظُمَتْ فِي الحَقِّ مَنْزِلَتُهُ وَ تَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ
فَضِيلَتُهُ، بِفَوْقِ أنْ يُعَانَ عَلَى ما حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ. وَ لَا امْرُؤٌ وَ إنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ وَ اقْتَحَمَتْهُ العُيُونُ، بِدُونِ أنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أوْ يُعَانَ عَلَيْهِ.۱
يقول عليه السلام: إنّي و إن كنت أمير المؤمنين و "عَظُمَتْ في الحَقِّ مَنْزِلَتي وَ تَقَدَّمَتْ في الدِّينِ فَضيلَتي... ." لكنّي مع هذا محتاج إليكم، و عليكم أن تقدّموا لي المعونة فرداً فرداً. فجميعكم و حتّى أقلّ الأشخاص فيكم بل و غلمانكم و حديثو الإسلام فيكم و الذين لا شأن لهم و لا اعتبار في نظر الناس و نفوسهم، كلّ هؤلاء يمتلكون شخصيّة إسلاميّة و عليهم أن يقدّموا المساعدة، كما على الناس أن تساعدهم أيضاً. فالجميع في ولاية الإسلام كجسد واحد، يرتبطون ببعضهم و يشكّلون أجزاءً لازمة و ضروريّة لإقامة الصلاح.
و عند ما يقول هنا عليه السلام: "بِفَوْقِ أنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ"، فإنَّه يبيّن حقوق الوالى على الرعيّة و حقوق الرعيّة على الوالى بنحو الإجمال. و حقوق الوالى على الرعيّة ثلاثة امور:
الأوّل: حفظ أرواحهم و أموالهم و أعراضهم. و الثاني: الحرّيّة في الطريقة و السلوك و الآداب. و الثالث: القيام بما يحتاجون إليه من السلامة و الصحّة و الطبّ و الغذاء و رفع الفقر و المسكنة و العسر، و كذلك ما يحتاجون إليه من الامور المعنويّة، مثل: سلامة الروح و النفس، الإيمان،
و حفظ العقائد، و تأمين المتطلّبات الروحيّة و المعنويّة و التسهيلات في المعابد و المساجد، و تيسير الوصول إلي الثقافة الإسلاميّة الأصيلة بشكل عامّ (حيث إن جميع هذه الامور تنضوي تحت الحاجات المادّيّة و المعنويّة، و سوف يأتي البحث عنها إن شاء الله). فعلى الوالى أن يُراعى هذه الامور بالنسبة إلى الرعيّة.
يقول الإمام عليه السلام: إنّي بحاجة إلي أن تنصحوني و تعينوني!
فَأجَابَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِهِ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يُكْثِرُ فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَ يَذْكُرُ سَمْعَهُ وَ طَاعَتَهُ لَهُ.
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ، وَ جَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ، أنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ.
وَ إنَّ أحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، وَ لَطُفَ إحْسَانُهُ إلَيْهِ؛ فَإنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى أحَدٍ إلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللهِ عَلَيْهِ عِظَماً".
أي أنَّ أحقّ الناس بأن يعظّم جلال الله سبحانه في نفسه و أن يري ما سواه حقيراً و صغيراً هو مَن عظمت نعمة الله عليه؛ فمَن ازدادت نعمة الله و لطفه و إحسانه عليه يكون أحقّ الناس في تحقيق هذا المعني، لأنَّه لا تعظم نعمة الله على أحد إلّا ازداد حقّ الله عليه و عظم. فحقّ الله يكون أكثر على مَن كانت نعمة الله عليه أكبر. فعند ما ينعم الله على شخص بالمعرفة و يغرس عظمته و جلاله في قلبه، فإنَّ هذا موجب لأن يري الإنسانُ الله عظيماً و ما سواه صغيراً، و لا يري وجوداً لأيّ موجود في مقابل وجوده، و لا شأناً و قيمةً لأيٍّ من الامور مقابل الله عزّ و جلّ.
إنَّ أسوأ حالات الولاة حبّ الفخر و التمجيد عند الناس
"وَ إنَّ مِنْ أسْخَفِ حَالاتِ الوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ أنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الفَخْرِ، وَ يُوضَعَ أمْرُهُمْ عَلَى الكِبْرِ. وَ قَدْ كَرِهْتُ أنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ
أنِّي احِبُّ الإطْرَاءَ وَ اسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ؛ وَ لَسْتُ بِحَمْدِ اللهِ كَذَلِكَ. وَ لَوْ كُنْتُ احِبُّ أنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أحَقُّ بِهِ مِنَ العَظَمَةِ وَ الكِبْرِيَاءِ".
«وَ إنَّ مِنْ أسْخَفِ حَالاتِ الوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ»: فهذا قبيح جدّاً، لكن ليس عند عامّة الناس، فكثيراً ما يعدّ عامّة الناس حبّ الفخر و الكبر عند الولاة أمراً ممدوحاً، و هو قبيح عند صالح الناس؛ فالرجال الصالحون يرون حبّ الفخر عند الولاة أمراً سخيفاً، و يعتبرون من أسخف حالات الولاة أن يكون عندهم التفاخر و أن يبنوا ولايتهم على أساس الأنانيّة و الكبر. لكن صار الأمر بهذا النحو، فقد اعطيت لهم الولاية، و هم يرون أنفسهم مسلّطين على النفوس تكويناً و يتّبعون التفرعن في أوامرهم و نواهيهم.
«وَ قَدْ كَرِهْتُ أنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أنِّي احِبُّ الإطْرَاءَ وَ اسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ» لم يقل عليه السلام: إنّي لا احب أن يمدحني أحد، و إنّما قال: إنِّي لا اريد أن يجول في ظنّكم أنَّ عليّاً ممّن يحبّ أن يُمدح، فإنِّي أكره و أستاء حصول ظنّ كهذا لديكم من أنَّني احبّ الإطراء و المدح و التمجيد و استماع الثناء؛ فإنِّي لا احبّ سماع ثنائكم "وَ لَسْتُ بِحَمْدِ اللهِ كَذَلِكَ".
يقول عليه السلام: أحمد الله إنِّي لست كذلك، أي أنَّ الله تعالى قد أراد ذلك و قد تجلّي الجمال الإلهيّ و ظهر و برز فِيَّ بنحو زالت منّي هذه الصفة، و لو لم يرد الله ذلك لما زالت. فلم يقل عليه السلام: لَسْتُ كَذَلِكَ، و إنَّما قال: "لَسْتُ بِحَمْدِ اللهِ كَذَلِك"، يعني أنَّ ذلك هو من الله أيضاً.
و على فرض أنّي كنتُ احبّ المدح و الثناء، فإنّي أترك ذلك، لأنّي أرى بأنِّي- حين مدحهم إيّاي- أكون قد أنزلتُ الله عن مقامه و درجته و عمّا هو أحقّ به من العظمة و الكبرياء، و ذلك لأنَّه لا وجود لشيء غير
وجود الله، و لا عظمة لشيء غير العظمة الإلهيّة؛ فعليٌّ الوالى في الولاية الإمكانيّة، فانٍ في الذات الإلهيّة، فإذا جعلوني في مقابل الله و قاموا بمدحي، أكون قد أنزلتُ من عظمته، و أنّي لا احبّ أن انزل من عظمة الله أو أحطّ ممّا يليق به و يحقّ له من الكبرياء و العظمة.
العظمة و الكبرياء له وحده، و رداء لملكه، فهل يليق أن انزله عن تلك العظمة و الكبرياء و أنسب شيئاً إلى نفسي مجازاً و كذباً؟!
"وَ رُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ البَلَاءِ؛ فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِاخْرَاجِي نَفْسِي إلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَ إلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أفْرُغْ مِنْ أدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لا بُدَّ مِنْ إمْضَائِهَا".
فقد يحلو للناس الثناء الذي يقع بعد التعب و بذل الجهد و العرق و الجهاد في سبيل الله، فإذا مدحهم الآخرون في هذه الحال ربّما كان هذا الثناء حلواً بالنسبة للكثير منهم.
لكن؛ أيّها الناس! لا تثنوا عَلَيَّ، و لا تمدحوني، و لا تذكروني بالحسن و الجميل، لأنَّ جميع هذه الأعمال التي أقوم بها إنَّما هي من أجل التزامي بعهدي مع الله و معكم و لأخرج عن العهود و الفرائض التي جعله الله في عهدتي، و ممّا لم أكن قد خرجت منها لحدّ الآن. فجميع هذه المشقّات التي ترون أنِّي أتحمّلها، إنَّما هي لتنفيذ أمر الله بالنسبة لي و لكم. فإنِّي مسئول عنكم أيّها الناس، و ملتزم اتّجاهكم، و عَلَيَّ حقوق تجاه الله عزّ و جلّ يجب تنفيذها، و ما هذه الأتعاب و المشقّات إلّا للخروج من خوف عقاب هذه الحقوق التي لم أخرج من عهدتها لحدّ الآن، و من هذه الفرائض التي يجب أن آتي بها بالضرورة.
فلما ذا تثنون عَلَيَّ؟ فليس عندي من شيء يُثني عليه! فليس لي من حقّ تجاهكم، و لا منّة لي عليكم، و هدفي في كلّ عمل أعمله أن لا أتجاوز
عن ميزان الحقّ بيني و بين الله، و لكي أكون في مقام العبوديّة عبداً صرفاً للّه؛ فلست أملك شيئاً زائداً على ما في عُهدتي و مسئوليّتي من تكاليف لُانسبه إلى نفسي، فإنِّي عبد صِرف و عبد رقّ للّه عزّ و جلّ، و جزائي عليه لا عليكم. فليس لمدحكم و تمجيدكم و ثنائكم من أثر عَلَيَّ.
لقد قام أمير المؤمنين عليه السلام هنا بمعجزة حقيقيّة! تأمّلوا بدقّة في هذه الجملة القصيرة، كيف بيَّن عليه السلام حقيقة مقام العبوديّة؛ حقّاً إنَّ على الأنبياء أن يأتوا ليجلسوا في هذه المدرسة و يسمعوا كلمات أمير المؤمنين عليه السلام و كيفيّة بيانه للمعارف الإلهيّة بهاتين الكلمتين!
"فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الجَبَابِرَةُ؛ وَ لَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أهْلِ البَادِرَةِ؛ وَ لَا تُخَالِطُونِي بِالمُصَانَعَةِ".
أي كونوا مستقيمين و مباشرين، و لا تتعرّضوا لأيّ انفعال، و لا تتنازلوا عن ذواتكم لأجل ولايتي أبداً، و لا تخضعوا للانفعالات، و لا توافقوا على كلّ ما أقوله من دون أن تروه أو تفهموه، فإنِّي لا أرضي بمثل هذه الامور، فلا تُصانعوني، و لا تداروني، و لا تخلطوا الامور بالمجاملات و تدعوها تمرّ بهذا النحو!
لا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل
"وَ لَا تَظُنُّوا بِيَ اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَ لَا التِمَاسَ إعْظَامٍ لِنَفْسِي؛ فَإنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الحَقَّ أنْ يُقَالَ لَهُ، أوِ العَدْلَ أنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ العَمَلُ بِهِمَا أثْقَلَ عَلَيْهِ.
فَلَا تَكُفُّوا عَن مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أوْ مَشْورَةٍ بِعَدْلٍ؛ فَإنِّي لَسْتُ فِي بِفَوْقِ أنْ اخْطِئَ وَ لَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي، إلَّا أنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أمْلَكُ بِهِ مِنِّي.
فَإنَّمَا أنَا وَ أنتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أنْفُسِنَا، وَ أخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إلى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ؛ فَأبْدَلَنَا بَعْدَ
الضَّلَالَةِ بِالهُدَى، وَ أعْطَانَا البَصِيرَةَ بَعْدَ العَمى"۱.
فمهما كنّا فنحن عباد مملوكون للّه، و كلّ ما يحصل لنا فهو بيد الله، فكيف نعجب بأنفسنا إذَاً؟! و كيف يكون لنا في ذواتنا شعور بعدم الحاجة إلى الرعيّة في الامور الاجتماعيّة؟!
لقد كان هذا إجمال الخطبة التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ الثَّالِثُ وَ الأرْبَعُون: الذَّاتِيَّةُ أكْبَرُ آفَاتِ الوَالِي
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
الروايات و النصائح في ذمّ حبّ الجاه و العجب و مدح الناس
الخطبة التي ذكرناها من «نهج البلاغة» حول حقّ الوالى على الرعيّة و حقّ الرعيّة على الوالى تحتوي على مطالب نفيسة جدّاً، و يمكن استنتاج بعض النكات الملكيّة و الملكوتيّة منها.
و من جملة المطالب التي يؤكّد عليها أمير المؤمنين بشدّة هي لزوم أن يجد الوالى حالة من التواضع و عدم الاستكبار و الإعجاب بالنفس أثناء ولايته. فقال عليه السلام: «وَ إنَّ مِنْ أسْخَفِ حَالاتِ الوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ أنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الفَخْرِ، وَ يُوضَعَ أمْرُهُمْ عَلَى الكِبْرِ».
و يتحصّل من مجموع هذه الخطبة: أنَّ الإمام عليه السلام يقول: إنَّ الحقّ الذي لي عليكم و الحقّ الذي لكم عَلَيَّ حقّان متساويان و متكافئان، و لا أستطيع أن أنسب إلى نفسي بسبب الحقّ الذي لي عليكم شأناً و مقاماً و مركزاً اعتباريّاً بأيّ وجه من الوجوه، لأنَّ ما أنا فيه تكليف قد وضعه الله في عهدتي.
فولايتي تكليف إلهيّ، و عند ما أقوم بما امرت به، فإنَّما أكون قد عملت بواجبي و خرجت من تبعاتي و ما أحذره من خوف الله عزّ و جلّ.
و من جملة ما أفاده عليه السلام من مطالب: ليس هناك ثمّة استغناء عمّن يعينه في سبيل الله، و إن كانت منزلته عند الله سبحانه و تعالى عظيمة و مقامه رفيعاً. و لا يشذّ عن هذه القاعدة حتّى أفقر الناس و أحقرهم، و لهم حصّة من الإعانة و المساعدة كذلك.
أي أنَّ عجلة الولاية المتشكّلة من الوالى و المولّى عليهم كلّها عجلة واحدة و جهاز واحد مرتبط و منوط ببعضه، و كلّ من هذه الأجزاء و الأعضاء و القطع و الروابط، غايتها حفظ ذلك الأمر الوجدانيّ المراد من هذا الجهاز. و إذا تجاوز أيّ واحد من هذه الأجزاء وظيفته، فإنَّه لا يضيّع نفسه فحسب، بل يخرّب المجتمع و يتلف الجهاز أيضاً. فقد أورد ابن أبي الحديد في شرح هذه الخطبة كلاماً مشابهاً لكلام الإمام عليه السلام "وَ لَيْسَ امْرُؤٌ وَ إنْ عَظُمَتْ فِي الحَقِّ مَنْزِلَتُهُ" عن زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام أنَّه قال لهشام بن عبد الملك: إنَّهُ لَيْسَ أحَدٌ وَ إنْ عَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ، بِفَوْقِ أنْ يُذَكَّرَ بِاللهِ وَ يُحَذَّرَ مِنْ سَطْوَتِهِ؛ وَ لَيْسَ أحَدٌ وَ إنْ صَغُرَ، بِدونِ أنْ يُذَكِّرَ بِاللهِ وَ يُخَوِّفَ مِنْ نِقْمَتِهِ۱.
و قال أيضاً: وَ مِنْ كَلامِ الحُكَماءِ: قُلوبُ الرَّعيَّةِ خَزائِنُ و اليها؛ فَما أوْدَعَهُ فيها وَجَدَهُ٢.
فإن كان ثمّة عدل و محبّة و عطف و صدق لم يكن هناك من استكبار
و استعباد، فسوف يجد ذلك، و إلّا فإن كان لديه ظلم و إجحاف و إحساس بالفوقيّة و الأفضليّة فسوف يجد ثمرة هذه المعاني أيضاً. و ستظهر أخيراً و في يوم من الأيّام جميع نتائج هذه البذور التي زرعها الوالى في قلوب الرعيّة و تصل إلى مرحلة الحصاد.
وَ كانَ يُقالُ: صِنْفانِ مُتَباغِضانِ مُتَنافيانِ: السُّلْطانُ وَ الرَّعيَّةُ، وَ هُما مَعَ ذَلِكَ مُتَلازِمانِ؛ إنْ صَلَحَ أحَدُهُما صَلَحَ الآخَرُ، وَ إنْ فَسَدَ فَسَدَ الآخَرُ۱.
أي أنَّ نسبة عنوان الولاية و السلطنة مع عنوان الرعيّة، و عنوان الولاية و التولّي مع عنوان المولّى عليه، و عنوان الآمريّة مع عنوان المأموريّة هي نسبة فعل و انفعال، و تنبع من مصدرين و مبدأين متنافيينِ، و ذلك لأنَّ الوالى آمر و الرعيّة مأمور. و بما أنَّ الجانبينِ فعل و انفعال فالتباغض و التنافي من لوازم هذين الصنفين، و مع ذلك فإنَّهما متلازمان مع بعضهما، و صلاح كلّ منهما صلاح للآخر، كما أنَّ فساده فساد للآخر.
يقول ابن أبي الحديد في شرح هذه الخطبة: قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و آلهِ: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ".٢
وَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و آلهِ [وَ سَلَّمَ]: "لَوْ لَا ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ لَصَلُحَ النَّاسُ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَ هَوًى مُتَّبَعٌ، وَ إعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ".٣
و يقول أيضاً: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: "احْثُوا فِي وُجُوهِ المَدَّاحِينَ التُّرَابَ".٤
وَ كانَ يُقالُ: إذا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقولُ فيكَ مِنَ الخَيْرِ ما لَيْسَ فيكَ، فَلا تَأمَنْ أنْ يَقولَ فيكَ مِنَ الشَّرِّ ما لَيْسَ فيكَ٥.
وَ كانَ يُقالُ: لا يَغْلِبَنَّ جَهْلُ غَيْرِكَ بِكَ، عِلْمَكَ بِنَفْسِكَ۱.
وَ قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُقَفَّعِ في «اليَتيمَة»: إيّاكَ إذا كُنْتَ وَالِياً أنْ يَكونَ مِنْ شَأنِكَ حُبُّ المَدْحِ وَ التَّزْكيَةِ، وَ أنْ يَعْرِفَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْكَ! فَتَكونَ ثُلْمَةً مِنَ الثُّلَمِ يَقْتَحِمونَ عَلَيْكَ مِنْها، وَ بَاباً يَفْتَتِحونَكَ مِنْهُ، وَ غيبَةً يَغْتابونَكَ بِها وَ يَسْخَرونَ مِنْكَ لَها. وَ اعْلَمْ: أنَّ قابِلَ المَدْحِ كَمادِحِ نَفْسِهِ، وَ أنَّ المَرْءَ جَديرٌ أنْ يَكونَ حُبُّهُ المَدْحَ هُوَ الَّذي يَحْمِلُهُ عَلَى رَدِّهِ، فَإنَّ الرَّادَّ لَهُ مَمْدوحٌ وَ القابِلَ لَهُ مَعيبٌ٢.
المدح، أي الثناء على صفات الوالى و أفعاله و خدماته و ما شابه، و التزكية، هي تصوير عيوبه عند الناس بشكل حسن. فعلى رغم وجود عيوب و معاصي عند الوالى- كالكذب و أكل حقّ الناس و التورية باسم المصلحة فجميع هذه الامور ذنوب- لكنّهم يقولون: إنَّ هذه الامور لازمة له، و هي من المقتضيات الضروريّة التي يلجأ إليها مرغماً لتوازن التعامل مع جميع هذه الجموع، و هذا أمر طبيعيّ بالنسبة للوالى!
يقول: «فَتَكونَ ثُلْمَةً مِنَ الثُّلَمِ يَقْتَحِمونَ عَلَيْكَ مِنْها، وَ بَاباً يَفْتَتِحونَكَ مِنْهُ»؛ فلم يقل: إنَّهم يجعلون هذا باباً يدخلون من خلاله إليك و إلى أفكارك، و إنَّما يجعلون نفسك و وجودك باباً يفتتحونك و يمزّقونك بواسطته و يدخلون في نفسك، فترتكب جميع هذه السيّئات و البلايا و المعايب. بينما يُحسّنون لك ذلك و لا يَعدُّونه عيباً! فترتكب العمل القبيح و يمدحونك، و تمنع حقّ الناس فيبرّرون لك، و تقوم بالمخالفات فيجدون لك التفسيرات المرضيّة، فيجعلونك عاملًا بكلّ ذلك عن رغبة منك! و عند ما
يعرف الناس نقطة ضعفك، فسوف يتسلّلون إلى داخلك ليورِّطوك بمختلف السيّئات. و عندها، تصبح محوراً للغيبة، فيغتابك الناس في مجالسهم فيما تقوم به من أعمال قبيحة، مع أنَّ اولئك يمتدحون هذه الأعمال أمامك!
فهؤلاء يمجّدونك في الظاهر، لكنّهم يعيبونك في الباطن و يذمّون فيك الكذب و التكبّر و يسخرون منك و يحطّون من هيبتك بسبب تصرّفاتك.
أسخف حالات الوالى أن يكون ممّن يحبّ أن يمدحه الناس
و اعلم، أنَّ مَن يَقبل المدح فكأنَّما مدح نفسه، و ما أقبح أن يمدح الإنسان نفسه و يصف أفعاله و صفاته! فليس هناك أيّ فرق بين أن يمدح الإنسان نفسه و بين رضائه بمدح الآخرين له؛ و اللائق لمن يحبّ المدح حقّاً أن يردّ مدح الآخرين، فعلى من يحبّ أن يسمع مدح الناس له حقيقةً، عليه أن يمتلك صفات حسنة تؤهّله للمدح. و عند ما يمتلك تلك الصفات الحسنة، فإنّه سوف ينهاهم عن مدحه، و ذلك لإثبات تحقّق تلك الطهارة فيه! و إلّا كان ذلك عيباً فيه.
فهو يريد أن يقول: إنَّ للمدح مفهوماً و مصداقاً. فمفهوم المدح هو عنوان المدح الذي يقال فيه بالحمل الأوّليّ الذاتيّ: المَدْحُ نَقيضُ الذَّمِّ؛ و أمّا مصداق هذا المفهوم في الخارج، فهو الذي يطلق عليه المدح بالحمل الشائع، أي الصفة التي تتحقّق في الإنسان فيصدق عليه بواسطتها هذا المدح.
و يقول: إنَّ هذين الأمرين يلتبسان أحياناً، فيخدع الإنسان نفسه أحياناً بعنوان الحمد و مفهومه، دون أن يكون الحمد متحقّقاً في وجوده، أو يحصل مورد للمدح فيه، بل و يكون وجوده غير قابل للمدح، لكنّه مع هذا ينسب عنوان الحمد و المدح إلى نفسه. فإن أردت أن تكون شخصاً يحبّ المدح حقيقة، فينبغي لصفة حبّ المدح و هذه الغريزة أن تدعوك
لردع المدّاحين و عدم قبول ذلك المدح.
فإن كنت تحبّ نفسك و تحبّ مدح نفسك، فعليك أن تقوم بذلك، و إلّا كان قبولك هذا المدح منهم عيباً فيك.
فَإنَّ الرَّادَّ لَهُ مَمْدوحٌ وَ القابِلَ لَهُ مَعيبٌ.
فالذي يردّ المدح هو الممدوح و المرضي حقيقة، و الذي يقبل المدح هو المعاب. فمن يقبل المدح يكون بالحمل الشائع معيباً، بينما الناس يمدحونه بالحمل الأوّليّ، و هذا بمثابة كلام الإمام عليه السلام، حيث يقول: أسْخَفِ حالاتِ الوُلاة أن يُظنَّ بهم حبّ الفخر و المدح.
و ما أكثر وجود من يحبّ أن يمدحه الناس و يمجّدونه في أوساطنا. و حقّاً إنَّ هذا الأمر يشكّل ثلمة تدخل في الإنسان فتتّسع شيئاً فشيئاً حتّى تحيط بكلّ وجوده مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُر، فيتبدّل صفاؤه و واقعيّته إلى إحساس بالكبر و حبّ الذات و الأوهام، و عندها تنعكس هذه الصفة في الخارج و تضيع صفات الإنسان الحسنة شيئاً فشيئاً، فيتحوّل تدريجيّاً مَن كان يتمتّع بالصفات الحسنة إلى حامل للصفات السيّئة مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُر.
و المشاهد أنَّ الكثير ممّن كانوا في بداية الأمر أشخاصاً جيّدين حقيقة، قد أثَّر فيهم المدح من دون مورد، أو حتّى المدح الذي يكون في محلّه، فأدّي إلى انهزامهم نفسيّاً أمام الواقعيّات بالشكل الذي قد احتلّ مدح و ثناء الآخرين لهم حيّزاً كبيراً من كيانهم! و صاروا يتوهّمون أنَّ مدح الناس لهم و ثناءهم عليهم صحيح و في محلّه، فنسبوه إلى أنفسهم. أي باتوا يغلّبون الظنّ و التوهّم على الحقّ و الحقيقة. فأخرجوا كيانهم عن الصراط المستقيم و المنهج القويم و الحقّ، و مالوا إلى الظنّ حتّى أصبحت جميع أفكارهم وهميّة، و حسبوا أنَّ جميع مَن على الأرض إنَّما يدور في دائرة تسلّطهم، و رأوا أنفسهم الوليّ الحقيقيّ و القيّم الواقعيّ للناس، فوضعوا
لأنفسهم مكانة خاصّة منفصلة عن مكانة الناس. و ليس هذا كلّه إلّا الوهم الواهي و الخيال البحت.
ليس هناك أيّ تفاوت بين الوالى و المولّى عليه عند الله تعالى، فعند ما يقول الله تعالى: إنَّ التقرّب وحده هو الذي يوجب الفضيلة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ}۱، فكيف يستطيع ذلك الشخص الوالى أن يقول و يدّعي بأنَّه أفضل من ذلك الرجل الحقير المسكين المفتقر إلى قُوتِه اليوميّ؟! و من أين يستطيع أن يدّعي مثل هذا الادّعاء؟!
و أمّا المدح الاعتباريّ، فلا يدعو الإنسان للأفضليّة على الناس العاديّين فحسب، بل هو ترجيح على الأعاظم من غير مرجّح، يدعو الإنسان لأن يري نفسه الوحيد الفريد في عالم الولاية الاعتباريّة، أي الولاية الشيطانيّة، و هذا من أعظم المهلكات. أي ابتلاؤه بهذه الصفات الاعتباريّة و غرقه في الخيالات و الامور الوهميّة في مقابل الله تعالى، و في مقابل سبيل الله الذي يدعو الإنسان إلى التسليم و الفناء و العبوديّة.
وَ كانَ يُقالُ: مَحَلُّ المَلِكِ مِنْ رَعِيَّتِهِ مَحَلُّ الرُّوحِ مِنَ الجَسَدِ؛ وَ مَحَلُّ الرَّعيَّةِ مِنْهُ مَحَلُّ الجَسَدِ مِنَ الرُّوحِ. فَالرُّوحُ تَألَمُ بِألَمِ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أعْضاءِ البَدَنِ؛ وَ لَيْسَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الأعْضاءِ يَألَمُ بِألَمِ غَيْرِهِ. وَ فَسادُ الرُّوحِ فَسادِ جَميعِ البَدَنِ؛ وَ قَدْ يَفْسُدُ بَعْضُ البَدَنِ، وَ غَيْرُهُ مِنْ سائِرِ البَدَنِ صَحيحٌ٢.
مفاد: ظُلْمُ الرَّعيَّةِ اسْتِجْلابُ البَليَّة
وَ كانَ يُقالُ: ظُلْمُ الرَّعيَّةِ اسْتِجْلابُ البَليَّة۱.
وَ كانَ يُقالُ: العَجَبُ مِمَّنْ اسْتَفْسَدَ رَعيَّتَهُ وَ هُوَ يَعْلَمُ أنَّ عِزَّهُ بِطاعَتِهِمْ٢.
وَ كانَ يُقالُ: مَوْتُ المَلِكِ الجائِرِ خِصْبٌ شامِلٌ٣.
وَ كانَ يُقالُ: لا قَحْطَ أشَدَّ مِنْ جَوْرِ السُّلْطانِ.٤ و٥
...۱
وَ كانَ يُقالُ: أيْدي الرَّعيَّةِ تَبَعُ ألْسِنَتِها؛ فَلَنْ يَمْلِكَ المَلِكُ ألْسِنَتها حَتَّى يَملِكَ جُسومَها.
و ذلك لأنَّ الحاكم العادل و الرءوف لا يضيّع حقّ الأفراد، و لا يقطع الأراضي لقومه و أصدقائه، و لا يُسلّمهم زمام الامور و ما شابه من تلك الأعمال. و عندها تكون أيدي الرعيّة أيضاً في خدمته، فيدفعون الضرائب لحكومته، و يبذلون الجهود لاستقرار مُلكه، و يُدافعون عن الوطن أمام اعتداء العدوّ. فاليد و البدن يتّبعان اللسان. و عليه، فلا يملك السلطان لسان الرعيّة إلّا بعد أن يملك أبدانهم و أيديهم و أجسامهم.
الرعيّة تتبع عواطفها تجاه الولاة و الحكّام باستمرار
وَ لَنْ يَملِكَ جُسومَها حَتَّى يَمْلِكَ قُلوبَها فَتُحِبَّهُ.
وَ لَنْ تُحِبَّهُ حَتَّى يَعْدِلَ عَلَيْها في أحْكامِهِ عَدْلًا يَتَساوَى فيها الخاصَّةُ وَ العامَّةُ، وَ حَتَّى يُخَفَّفَ المُؤَنَ وَ الكُلَفَ، وَ حَتَّى يُعْفيَها مِنْ رَفْعِ أوْضاعِها
وَ أراذِلِها عَلَيْها.
فالرعيّة لن تحبّ الحاكم إلّا إذا قام بثلاثة امور:
الأوّل: نشر العدالة بين جميع الرعيّة من غير فرق بين الخاصّة و العامّة.
(و لهذا المطلب محلّ رفيع في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر و لسائر الحكّام، إذ إنَّه يؤكّد كثيراً على السويّة بين الأقرباء و الخاصّة و بين العامّة من الناس، لكي لا يقوم الحاكم بمنح الأراضي و الأموال لأقربائه و مَن يرتبط به بنسبة أكبر و يضيّع بالنتيجة حقّ العامّة، بل عليه أن يلاحظ العدالة بين الخاصّة و العامّة بمستوى واحد من حيث جميع جهات الحقوق و الواجبات. و يقول هنا أيضاً: فالرعيّة لا تحبّ الحاكم إلّا إذا أقام العدالة بالمساواة بين الخاصّة و العامّة).
الثاني: أن يخفّف من أعباء الحياة و حدّة الأوامر و النواهي و ما يلقي على كاهل الرعيّة من أعمال.
الثالث: أن لا يُعيِّن عليهم الأراذل و المنحطّين، و أن لا يكون رؤساء الإدارات و المسئولون أو الولاة المعيّنون هنا و هناك من أهل الرذيلة و الدناءة و اللصوصيّة و الرشوة و الكذب، إنَّ هكذا عمل بمثابة مقصّ يقصّ به جناح حكومته. فعلى الحاكم أن يزيل أمثال هؤلاء من طريق الرعيّة.
وَ هَذِهِ الثَّالِثَةُ تَحْقِدُ عَلَى المَلِكِ العِلْيَةَ مِنَ الرَّعيَّةِ، وَ تَطْمَعُ السَّفَلَةَ في الرُّتَبِ السَّنيّةِ۱.
إحضار عمر لعمرو بن العاص و ولده لشكاية شابّ مصريّ
و يقول ابن أبي الحديد في شرح هذه الخطبة: جاء رجل من مصر إلى عمر بن الخطّاب للتقاضي فَقالَ: يا أميْرَ الْمُؤمِنينَ! هَذا مَكانُ العائِذِ بِكَ!
قالَ لَهُ: عُذْتَ بِمَعاذٍ، ما شَأنُكَ؟!
قالَ: سابَقْتُ وَلَدَ عَمْرِو بْنِ العاصِ بِمِصْرَ فَسَبَقْتُهُ، فَجَعَلَ يُعَنِّفُني بِسَوْطِهِ وَ يَقولُ: أنَا ابْنُ الأكْرمَيْنِ! وَ بَلَغَ أباهُ ذَلِكَ فَحَبَسَني خَشْيَةَ أنْ أقْدُمَ عَلَيْكَ.
فَكَتَبَ إلَى عَمْرٍو: إذا أتاكَ كِتابي هَذا فَاشْهَدِ المَوْسِمَ أنْتَ وَ ابْنُكَ!
فَلَمّا قَدِمَ عَمْرٌو وَ ابْنُهُ، دَفَعَ الدِّرَّةَ إلَى المِصْريِّ وَ قالَ: اضْرِبْهُ كَما ضَرَبَكَ!
فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ وَ عُمَرُ يَقولُ: اضْرِبِ ابْنَ الأميرِ! اضْرِبِ ابْنَ الأميرِ! يُرَدِّدُها حَتَّى قالَ: يا أميرَ المُؤْمِنينَ! قَدِ اسْتَقَدْتُ مِنْهُ.
فَقالَ- وَ أشارَ إلَى عَمْرٍو-: ضَعْها عَلَى صَلْعَتِهِ!
صَلِعَ يَصْلَعُ صَلَعاً، أي سَقَطَ شَعْرُ رَأسِهِ، فَهُوَ أصْلَع.
فَقالَ المِصْريُّ يا أميرَ المُؤْمِنينَ! إنَّما أضْرِبُ مَنْ ضَرَبَني!
فَقالَ: إنَّما ضَرَبَكَ بِقُوَّةِ أبيهِ وَ سُلْطانِهِ؛ فَاضْرِبْهُ إنْ شِئْتَ؛ فَوَ اللهِ لَوْ فَعَلْتَ لَما مَنَعَكَ أحَدٌ مِنْهُ حَتَّى تَكونَ أنْتَ الَّذي تَتَبَرَّعُ بِالكَفِّ عَنْهُ!
ثُمَّ قالَ: يَا بْنَ العاصِ! مَتَى تَعَبَّدْتُمُ النَّاسَ وَ قَدْ وَلَدَتْهُمْ امَّهاتُهُمْ أحْراراً؟!۱
انتقاد كيفيّة عدالة عمر من جهات مختلفة
فهذه الواقعة التي يذكرها ابن أبي الحديد و يفتخر بها على الآخرين أيضاً في كلّ مكان كونها تدلّ على عدل عمر، و يعدّونها رمزاً للعدالة و الحرّيّة، فيها إشكالات من عدّة جهات:
الأوّل: أنَّه طلب من ذلك الشابّ أن يأخذ الدرّة و يضرب بها ابن عمرو بن العاص. فقام الشابّ بالاقتصاص. ثمّ طلب من بعد ذلك أن
يضرب أباه، لأنَّ الابن قد استغلّ مكانة أبيه في اعتدائه؛ فاعترض عليه ذلك الرجل المصريّ قائلًا: إنَّ أباه لم يضربني فكيف أضربه!
فموقف الخليفة غير صحيح، لأنَّ عمرو بن العاص لم يضرب ذلك الرجل، بل الضارب هو الابن وحده، و قد اقتصّ المضروب منه، و لا حقّ له بضرب عمرو بن العاص؛ و كان على الخليفة- الذي يري نفسه خليفة- أن يحاسب عمرو بن العاص بصفته الوليّ و الحاكم، و أن يعاقبه على سوء استغلاله لموقعه بالإضافة إلى حبسه ذلك الشابّ.
و الثانية: أنَّ عمر قد رفع عن نفسه عب التعزير، و طلب من ذلك الشابّ المصريّ أن يضربه، و ذلك لئلّا يتعرّض الحاكم المعيّن من قبله لأذًى، و لئلّا تتأزّم علاقتهما بسبب ذلك. و لذا، امتنع عن ضربه و تعزيره!
و عليه، فالذنب ذنبه هو، لأنَّه لم يؤدِّب الحاكم؛ و ذلك نظير ما جاء في مسألة زنا المُغيرة بن شُعْبَة، الذي زنا عند ما كان حاكماً على البصرة، و شهد عليه الشهود؛ فما أن وصل الدور إلى الشاهد الرابع حتّى قال عمر: أعوذ بالله ممّن يشهد على صحابة رسول الله؛ فعند ذلك خاف الشاهد و لم يشهد. و بهذا تمّت تبرئة المغيرة بن شعبة، و عزّر الشهود الثلاثة الذين شهدوا عليه بالزنا و جري عليهم الحدّ لقذفهم المغيرة! و نُقلت هذه القضيّة في مختلف الكتب.
و الثالثة: لما ذا تحكم على هذا الرجل بأن يضرب عمرو بن العاص مع احتمال أن ينتقم منه عمرو بن العاص عند عودتهما. فقد قام عمرو بن العاص بحبس الرجل عند ما أراد المجيء إليك شاكياً. و في حال ضربه الآن بالدرّة أمام جميع هؤلاء الناس، فإنَّه لن يتمكّن من العودة إلى مصر بعد ذلك، لأنَّ العودة إلى مصر مع هذه الظروف تعني الموت.
فهذه هي عدالة عمر التي ملأت أسماع الدنيا! لقد كانت جميع
المفاسد التي ظهرت في الإسلام ناتجة عن ظلم عمر. فهو الذي قام بتقسيم بيت المال على أساس الطبقيّة، في حين كان النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يقسّمه بالتساوي بين الجميع من عرب و عجم، معاهد و غير معاهد، من كان في بدر أو احد أو الأحزاب أو لم يشارك أصلًا في أيٍّ من هذه الحروب؛ لكنَّ عمر جعل حصّة العرب أكثر من حصّة العجم، و وضع أحكاماً خاصّة بالعرب، و فرّق بين الأسود و الأبيض، و أوصل شوكة العرب إلى أقصى حدٍّ، مع إذلاله للعجم بكلّ ما يتمكّن، كما منح حديثي العهد بالإسلام حصّة أقلّ؛ حيث كانت حصّة ذوي السابقة في الإسلام خمسة آلاف درهم من بيت المال، و حصّة البدريّين أكثر، و حصّة المشاركين في احد و الأحزاب أقلّ بالترتيب، و كان يعطي لكلّ من نساء النبيّ عشرة آلاف أو خمسة آلاف درهم. فهذا التمييز من بدعه.
يقول النبيّ صلّى الله عليه و آله: إنَّ كلّ شخص يُسلم فقد صار مسلماً، و يتمتّع بالحقوق بدرجة مساوية للآخرين، فلا يمكن إعطاء شخص أكثر بسبب تقدّمه في الإسلام.
و بمرور السنين الطويلة على سياسة عمر في تقسيم الأموال، فقد صار من الصعب على البعض أن يتنازلوا عمّا درّت عليهم تلك السياسة من أموال بأيّ وجه من الوجوه! فكانت تلك المفاسد و الحروب و التفرعن كتحصيل حاصل. و عند ما استلم أمير المؤمنين عليه السلام الحكومة قال: إنِّي لن أسمح بالتجاوز في تقسيم بيت المال- الذي ينبغي أن يكون بالتساوي- و لو بدرهم واحد. فرأي هؤلاء أنَّ أمير المؤمنين قد قسّم المال بينهم و بين غلمانهم المعتقين بالتساوي، و أنَّه ينظر إلى الجميع بعين واحدة؛ فاعترضوا عليه بأنَّ هؤلاء الغلمان من عتقائهم و بأيديهم، فكيف يتساوون معهم في الحصص؟!
قام الإمام عليه السلام بمنع كلّ حيف و ميل، و كلّ تمييز في غير محلّه. و لذا قاموا عليه، فكانت فتنة «معركة الجمل» و من بعدها حرب صفّين، و من بعدها معركة النهروان، و استمرّ الوضع على هذا النحو إلى يومنا هذا؛ و ما كان ذلك إلّا من آثار عدل عمر!
على الإنسان أن يتأمّل في الأمر بواقعيّة، فقد جاء ذلك الرجل إلى عمر شاكياً فكتب عمر إلى واليه بأن يأتي مع ابنه في موسم الحجّ إلى المدينة. ثمّ أمر ذلك الرجل بأن يضرب رأسه بالدرّة، و لم يقم هو بتأديب عمرو أو ضربه بالدرّة! فكم أنتجت هذه التصرّفات غير العادلة من فجائع و مشاكل و إغارة على أموال الناس و نفوسهم؟! فكلّ ما حلّ ناشئ من تلك التصرّفات غير العادلة؛ فهل يصحّ بعد ذلك تجاهل كلّ هذه الامور، و عدّ هذه القضيّة من أعلى مراتب إجراء العدالة عند عمر، مع أنَّه قد قام بنقيض هذه القضيّة في مواضع مشابهة؟!
أضف إلى ذلك، أنَّ الجملة التي ينقلونها عن عمر في قوله: «متى تعبّدتم الناس و قد وَلَدَتْهُمْ امَّهاتُهُمْ أحْراراً.»۱ فهي مرويّة عن أمير المؤمنين عليه السلام، و ينقلها ابن أبي الحديد في مواضع من «نهج البلاغة». و إن كان عمر قد قالها، فهو قد أخذها عن أمير المؤمنين عليه السلام.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّد
الدَّرْسُ الرَّابِعُ وَ الأرْبَعُونَ: حَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلى الوَالِي مُعَالَجَةُ امُورِهِمْ بِنَفْسِهِ وَ بَسْطُ العَدَالَةِ وَ حَقُّ الوَالِي عَلَى الرَعِيَّةِ السَّمْعُ وَ الطَّاعَة
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
من عوامل الفساد: نفوذ أقرباء الوالى و خواصّه في ولايته
من جملة الامور التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام في رسالته لمالك الأشتر حول الامور الولايتيّة، لزوم النظارة على أعمال العمّال، و معالجة الأعمال و امور القضاة بنفسه.
و هذا التوجيه إنَّما هو لكيلا يغضّ الوالى النظر عن انحراف الأفراد و المسئولين المنصوبين من قبله بسبب ثقته بهم و اطمئنانه إليهم، و خوفاً من أن يتعامل مع تصرّفاتهم بحسن الظنّ فينجرّ إلى عدم اعتبار مخالفاتهم بسبب اطمئنانه بصحّة أعمالهم استصحاباً، فينظر إليهم نظرة أهل الأمانة و العدالة و التخصّص في مجالهم؛ مع أنَّه من الممكن أن تصدر منهم مخالفات، لا بنحو الاشتباه فحسب، بل تعمّداً أيضاً بنحو لا تكون قابلة للعفو و التستّر بأيّ وجه من الوجوه. و من جهة اخرى، لا يكون للناس طريق مباشر للاتّصال بالوالى ليذكروا حاجاتهم عنده، فينحصر الطريق بالقاضي أو العامل المعيّن عليهم. و بما أنَّ الوالي له اطمئنان تجاه
المتصدّين للُامور، فهو لا يحتمل و الحال هذه صدور المخالفة منهم.
و يرجع سبب اطمئنان الوالى الكامل بهم لعدم سماعه منهم عن أخطائهم، و ما يأخذونه من الرشاوي و ما يرتكبونه من ظلم، أو ما يصدرونه من فتاوي مخالفة للحقّ، أو المبالغ الإضافيّة التي يدفعونها من بيت المال لمن يهمّهم أمره؛ لأنَّهم عند ما يلتقون بالوالى يكونون بغاية الأدب و الاحترام و رعاية الاصول المتعارفة التي تستدرّ تصديق و تأييد الوالى غير العالم بالغيب، و ممّن يحكم من خلال من يراه ظاهراً؛ و الظواهر معجبة جدّاً و خادعة و تُسبّب اغترار المرء و انخداعه. و كثيراً ما يكون بعض الأشخاص المتّصلين بالوالى هم من أبنائه و المنتسبين إليه، ممّن لا يحتمل صدور المخالفة منهم أصلًا، و يخال أعمالهم كأعماله في الصحّة و الإتقان، أو هم من كتّابه، أو من المكلّفين بجمع الزكوات و الوجوه من الناس، أو من المسئولين عن صندوق ماله ممّن يطمئنّ إليهم تماماً. لذا، تراه لا يقتنع بكلام الآخرين فيما لو ذكروا له عيوبهم، و لا يتقبّل عدم استقامة ذلك الشخص الفلاني الذي يعرفه منذ أكثر من ثلاثين سنة مثلًا.
أي أنَّ هؤلاء اناساً جيّدين في بادئ الأمر، لكنّهم يبتلون أثناء العمل بحبّ جمع المال و خصلة الظلم بالتدريج دون اطّلاع من الوالى الذي يستمرّ في التعامل معهم من خلال نظرته الاولي.
و يُشاهد نظير هؤلاء بين العلماء و أهل الحوزات أيضاً، حيث يوجد من الذين هم في مسلك المرجعيّة الدينيّة ممّن قد فسدوا شيئاً فشيئاً (من أبناء المرجع أو أقربائه أو أهله و المنتسبين إليه) فحجبوا الناس عن العالِم، و جعلوه في جوٍّ مكهرب بالموانع و القيود بحيث أخضعوه لنفوذهم و سيطرتهم، و لم يعد متصوّراً له إمكان التخطّي عن هذه الحلقة المحاصرة بأيّ وجه من الوجوه، فينقطع اتّصاله مع عامّة الناس، و ينحصر ما يعرفه
عن الناس بما يقوله الخواصّ فقط، فيتحوّل ذلك الوالى و الحاكم إلى ما يشبه الخاتم بيد اولئك الخواصّ، يحرّكونه كيفما يشاءون وفقاً لميولهم و أفكارهم. و ينحصر- في النتيجة- طريق تطبيق فقاهة و رأي ذلك الفقيه و سرايتهما إلى الخارج عَبْرَ بوَّابة أفكار الجماعة المحيطة به؛ و بما أنَّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين باستمرار، فلا يكون الحاكم على الامّة الإسلاميّة الفقيه الفلاني، بل رأي الشخص الفلاني من المحيطين به، الذي تسري آراء و أفكار ذلك الفقيه إلى الخارج من خلال نظره و جرحه و تعديله. و هذه من أكبر الآفات و أخطرها۱!
و لذلك كان أتقياء الأجلّاء و الأعلام من العلماء؛ أوّلًا: يهتمّون بمتابعة تربية أولادهم و أقربائهم بشكل جيّد باستمرار، و قد يطردونهم إذا صدر منهم خطأ في بعض الأحيان، و لا يفسحون لهم المجال في مجالسهم، و لا يعيرونهم اهتماماً. و ثانياً: يختارون لمجلس استفتائهم أشخاصاً من الناس المعروفين بالعبادة و التهجّد و الصدق ممّن عُرِفوا بطهارة الذيل، و مع هذا فهم لا يتركون المشاورة في متابعة الأعمال، و فضلًا عن هذا كلّه تراهم
لا يقطعون اتّصالهم بالعامّة أبداً، و لا يكون طريق وصولهم إلى العامّة من خلال الخاصّة، و يحرصون على أن يكون طريقهم للعامّة مفتوحاً و قادرين على الاتّصال بهم. و إذا صدر أحياناً خطأ من بعض الخواصّ فيقومون بتحذيرهم و يحاولون إصلاح الخطأ، و إن لم يكن الخطأ قابلًا للمعالجة، فإنَّهم يطردون ذلك الشخص من مجلس استفتائهم أو من غرفة استقبالهم، و أمثال ذلك، و لا يسمحون لأنفسهم بأن يصبحوا العوبة لآراء اولئك و أهوائهم.
و السبب الوحيد في هذا الخلل هو حسن الظنّ بالبعض من دون مبرّر، فبعض الخواصّ و الطلّاب و المحبّين و الأقرباء يفسدون الإنسان أحياناً من خلال علاقتهم به، و يغتالون فكره بالتدريج، فهم يقصدون القيام بأعمال حسنة حسب اعتقادهم و يهدفون خدمة المجتمع و المسلمين، و لكنَّ الأمر قد يكون بخلاف ذلك. و يكون هذا ظلماً في حقّ الناس دون أن ينتبه الفقيه شخصيّاً لذلك. و هذا خطر عظيم جدّاً؛ و يشير إليه أمير المؤمنين عليه السلام في رسالته تلك لمالك الأشتر و يكشف سرّه.
قصّة الرجل الكوفيّ و شكواه ظلم و إلى الكوفة عند المأمون
أورد ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» قصّة في شرح الخطبة (٢۱٤) حول حقّ الوالى على الرعيّة و حقّ الرعيّة على الوالى؛ و يقول: جاء أهل الكوفة إلى المأمون و تظلّموا من و اليهم، فقال لهم المأمون:
ما عَلِمْتُ في عُمَّالى أعْدَلَ وَ لَا أقْوَمَ بِأمْرِ الرَّعيَّةِ، وَ لَا أعْوَدَ عَلَيْهِمْ بِالرِّفْقِ مِنْهُ. فَقالَ لَهُ مِنْهُمْ واحِدٌ: فَلا أحَدَ أوْلَى مِنْكَ يا أميرَ المُؤْمِنينَ بِالعَدْلِ وَ الإنْصافِ! وَ إذا كانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَمِنْ عَدْلِ أميرِ المُؤْمِنينَ أنْ يُوَلِّيَهُ بَلَداً بَلَداً حَتَّى يَلْحَقَ أهْلَ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ عَدْلِهِ مِثْلُ ما لَحِقْنا مِنْهُ، وَ يَأخُذوا بِقِسْطِهِمْ مِنْهُ كَما أخَذَ مِنْهُ سِواهُمْ؛ وَ إذا فَعَلَ أميرُ المُؤْمِنينَ ذَلِكَ لَمْ يُصِبِ الكوفَةَ مِنْهُ أكْثَرَ مِنْ ثَلاثِ سِنينَ! فَضَحِكَ وَ عَزَلَهُ۱.
و القصّة ليست فكاهيّة، بقدر ما هي حادثة واقعيّة. فعند ما نصب المأمون ذلك الوالى ربّما لم يكن يعلم واقعاً بأنَّه سوف يكون ظالماً، و إنَّما كان يتوهّم أنَّه إنسان جيّد و عادل و صاحب حميّة إلى درجة كبيرة، و لم يكن له من جهة اخرى اتّصال بأهل الكوفة لكي يطّلع على ممارساته و أعماله. و ربّما كان هذا الوالى في بداية أمره شخصاً متديّناً و عادلًا أيضاً، لكنَّ أصل الولاية ممّا يؤثّر في انحراف الإنسان، و ذلك الإحساس بحبّ الذات و حبّ النفس الذي يظهر في الوالى يجرّه إلى أوامر باطلة و تصرّفات في غير محلّها؛ و لذا، تصدر منه أعمال مخالفة للحقّ و يرتكب الظلم، دون أن يحتمل المأمون صدور مخالفة منه بسبب اطمئنانه به. لذا، فنفس المأمون مسئول عن الظلم الذي حلّ بأهل الكوفة. و تمضي ثلاث سنوات أيضاً، يتلظّى الناس المساكين خلالها في نار الظلم، دون أن يهتدي أيّاً منهم إلي السبيل الذي يوصلهم إلي شخص الحاكم لشرح ما حلّ بهم۱.
لقد كان جواب الرجل للمأمون بهذه الصورة منطقيّاً و صحيحاً جدّاً، لأنّه قد أوضح له في ستارٍ من الكناية أنَّه إذا كان هذا الشخص عادلًا إلى هذه الدرجة و أكثر عدالة من الجميع فإنَّ مقتضي عدلك هو أن تقسّم عدالته على جميع الرعيّة، و عليه فأرسله إلى جميع الأماكن لكي نستريح نحن من شرّه، حيث إنَّ حصّتنا منه لا تكون أكثر من ثلاث سنوات.
فهذه المطلب ينبّهنا إلى مسئوليّتنا، و إلى أنَّ علينا أن نزيل الأخطاء التي ارتكبناها لحدّ الآن، و أن نعمل بتوجيهات أمير المؤمنين عليه السلام التي ذكرت، و أن نمارس ذلك كما مارسه الأجلّاء من علمائنا المتّقين عند ما عملوا بها، و أن نبدّل نهجنا المنحرف عن الصراط، و إلّا فلا يكون هناك أيّ فرق بين أفعالنا و أفعال المأمون- الذي كان حاكماً على المسلمين- من ناحية المحتوي و العمل الخارجيّ، لما سوف يستتبع من نتائج سيّئة جدّاً۱.
يقول عمر: بما أنّي قد فررتُ يوم أُحد، فلا حقّ لولدي بالجائزة
و يروي ابن أبي الحديد أيضاً عن فُضيل بن عيّاض أنَّه قال حول عمر بن الخطّاب: أعْطَىَ رَجُلًا عَطاءَهُ أرْبَعَةَ آلافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ زادَهُ ألْفاً؛ فَقيلَ لَهُ: أ لَا تَزيدُ ابْنَكَ عَبْد اللهِ كَما تَزيدُ هَذا؟! فَقالَ: إنَّ هَذا ثَبَتَ أبوهُ يَوْمَ احُدٍ وَ إنَّ عَبْد اللهِ فَرَّ أبوهُ وَ لَمْ يَثْبُتْ٢.
و عليه، فقد ثبتت عدالة عمر من خلال إعطائه لهذا الشخص و عدم إعطائه لابنه. و لا يخفي أنَّه مع هذا الكلام، لا بدّ من نظر، حيث:
أوّلًا: إنَّ هذه القضيّة توضِّح أنَّ عمر قد فرَّ يوم احد (وَ إنَّ عَبْد اللهِ فَرَّ أبُوهُ وَ لَمْ يَثْبُتْ) و ترك النبيّ وحيداً بين المشركين ليخرج سالماً بنفسه. فبأيّ دليل جاء ليجلس مكان النبيّ صلّى الله عليه و آله و يسمّي نفسه خليفة المؤمنين و يمدّ يده إلى أموال و أعراض و أرواح الناس؟!
ثانياً: بأيّ مجوِّز يقوم بتقسيم بيت المال على أساس نظره، مع أنَّ النبيّ صلّى الله عليه و آله قد قال بأنَّه يجب أن يوزَّع بين الجميع بالسويّة؟ فهل بيت المال هو من الأموال الشخصيّة لكي يتصرّف فيه بأيّ نحوٍ شاء، فيعطي القليل منه لشخص بينما يزيد لآخر؟ فإنَّ الألف درهم التي زادها لذلك الشخص هي حقّ لشخص آخر، و تصرّف منه في حقّ الآخرين، و هذا ظلم.
و هذا الأمر محلّ للتأمّل و الدقّة و لا يجب أن نستصغره، إذ لا تزال الدنيا إلى هذه الأيّام تكتوي بنار التمييز و التفرقة. و قد كانت غيبة الإمام صاحب الزمان عليه السلام بسبب هذه النظرات الشخصيّة، و التبريرات التي لا محلّ لها. عند ما يقول رسول الله صلّى الله عليه و آله إنَّ الشخص الذي أسلم حديثاً فقد صار مسلماً، و يتمتّع بحقوق متساوية مع الآخرين، فلا فرق بين العرب و العجم، و ذوي السابقة و غيرهم، و الكبير و الصغير، و يكون دمه كسائر الدماء، فمن يَقتل مسلماً يجب أن يُقتل، و دماء الجميع متساوية سواء كان القاتل صاحب سابقة في الإسلام أو لم يكن. حيث ترتبط هذه الامور بالدرجات الاخرويّة؛ هذا و رغم كون الإنسان مسلماً أو مجاهداً أو مشاركاً في بدر أو احد ... لا ينبغي أن يجعل ذلك وسيلة للتمييز في الدنيا، و يصير باعثاً على إعطائه حقّاً أكبر من بيت المال.
فيجب تقسيم بيت المال بالتساوي بين المسلمين، أمّا الأعمال و الجهود المبذولة في سبيل الله، فلها أجرها عند الله في الآخرة،
و لا يستدعي ذلك أن يصبح طعامه ألذّ، بينما يعيش الذين لا سابقة لهم في الفقر و المسكنة و الجوع. فأيّة علاقة للإسلام و العزّة و التضحية في سبيل الله مع ازدياد المال؟!
من الواضح جدّاً أنَّ اولئك الذين قسّموا بيت مال الإسلام قد قسّموه على أساس هذه الامور المادّيّة و الاعتباريّة، كالسابقة في الإسلام و المشاركة في بدر و احد، أو الصحبة للرسول و غير ذلك. و هذا أكبر ظلم ألحقوه بالإسلام. و مع ذلك، تراهم يعتبرون هذه القضيّة رمزاً لعدالة عمر، و محبّته للإسلام و ما شابه! و لعلّ جميع هذه الوقائع تزوير و مغالطات و انحراف بالحكم الإلهيّ الأساسيّ عن مجراه الواقعيّ. إنَّ العدالة هي أكبر و أغلي شيء تقوم عليه الشريعة في الدنيا، و هي قوام العالم. و العدالة لا تعني لزوم التعامل مع الجميع بنحو واحد، و إنَّما العدالة هي أن يُعطي كلّ شخص حقّه، فالعدالة: وَضْعُ كُلِّ شَيءٍ في مَوْضِعِه. و العدالة عين الحقّ، الحقّ و العدالة لهما معنيان مختلفان. أي أنَّهما بالحمل الأوّليّ الذاتيّ متفاوتان، لكنّهما متساويان بالحمل الشائع، فحيثما يكون هناك حقّ تجد العدالة، و كلّ شيء يحمل عليه و يصدق عليه عنوان العدالة في الخارج يصدق عليه الحقّ أيضاً.
عند ما قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنَّ العالم يقوم على أساس الحقّ، هذا يعني أنَّ العالم يقوم على أساس العدالة، و يجب أن يُعطي كلّ شخص بمقدار حقّه و ميزانه. فحقوق كلٌّ من المرأة و الطفل مختلفة، و يجب أن تُعطي لهم على أساس ذلك الاختلاف؛ فليس معني العدالة أن يتعامل مع جميع هؤلاء بنحو واحد، إذ عند ذلك يتحقّق خلاف العدالة باستمرار.
لو أردنا إعطاء الطفل الرضيع الطعام الذي يأكله الشابّ مدّعين اقتضاء العدالة بهذا المعني، و ذلك من مفهوم المساواة بين جميع أفراد الامّة،
فهكذا عدالة، سوف تقضي على ذلك الطفل. فإذا كان للشابّ قدرة رفع مائة كيلوغرام، فإنّنا لا نستطيع إجبار المرأة أو الطفل على رفع هذا المقدار، لأنَّ ذلك يقضي عليهم. فالعدالة إذَن، بالحمل الشائع تساوق الحقّ، و لا تفيد (إعْطاءُ كُلِّ ذي حَقٍّ حَقَّه) التساوي من جهة المقدار، لأنَّ المساواة في المقدار عين الظلم، و إذا أردنا أن نراعي المساواة في جميع الشئون- كما يُفتخر بذلك في كثير من البلدان- فإنَّ النتيجة المترتّبة على ذلك هي الظلم. و من الثابت عدم صحّة هذا المعني و كونه عين الظلم.
فالمساواة هنا هي عين الإرفاق و مراعاة عدم التساوي. إنَّ أساس العالم قائم على العدالة. و تقتضي العدالة القائمة على نظام التكوين أن يكون ثمّة تباين بين استفادة الموجودات من مواهب عالم المادّة. فانتفاع الشجرة الباسقة من الهواء و النور و الماء و الأرض يختلف عن انتفاع النبتة الخضراء اليانعة. كما أنَّ الاختلاف بينهما من ناحية القوّة و المتانة كبير أيضاً.
الكتابة المذكورة على الأضلع الثمانية لقبر أرسطو
طلبَ منّي المرحوم والدي رحمة الله عليه في أحد الأيّام في بداية دراستي أن اسجِّل هذه الجمل و أحفظها؛ فقمت بكتابتها و حفظها. و هذه الجمل هي: العَالَمُ حَديقَةٌ سِياجُها الشَّريعَةُ؛ وَ الشَّريعَةُ سُلْطانٌ تَجِبُ لَهُ الطَّاعَةُ؛ وَ الطَّاعَةُ سِياسَةٌ يَقومُ بِها المُلْكُ؛ وَ المُلْكُ نِظامٌ يَعْضُدُهُ الجَيْشُ؛ وَ الجَيْشُ أعْوانٌ يَكْفُلُهُمُ المَالُ؛ وَ المَالُ رِزْقٌ تَجْمَعُهُ الرَّعِيَّةُ؛ وَ الرَّعِيَّةُ سَوادٌ يَسْتَعْبِدُهُمُ العَدْلُ؛ وَ العَدْلُ أساسٌ بِهِ قِوامُ العالَمِ. فَبِالعَدْلِ قِوامُ العالَمِ، فَبِالعَدْلِ قِوامُ العالَمِ، فَبِالعَدْلِ قِوامُ العالَمِ! و منذ ذلك الحين إلى اليوم، و قد مضي حوالى خمسين سنة، لم أعثر على هذه الجمل و مصدرها، لكن قبل سبع سنوات، بينما كنتُ اطالع تفسير الطنطاويّ۱ في إحدى الليالى، وجدت أنَّه قد كتب فيه: يُقالُ: إنَّ أرَسْطاطاليسَ أوْصَي أنْ يُدْفَنَ وَ يُبْنَي
عَلَيْهِ بَيْتٌ مُثَمَّنٌ، يُكْتَبُ في جِهاتِهِ ثَمانُ كَلِماتٍ جامِعاتٍ لِجَميعِ الامورِ الَّتي بِها مَصْلَحَةُ النَّاسِ؛ وَ تِلْكَ الكَلِماتُ الثَّمان هيَ عَلَى هَذَا المِثالِ.
و تفيد هذه العبارة نفس معني العبارة التي ذكرها لي المرحوم الوالد تقريباً. و لا بدّ أنَّه كان قد نقلها من سندٍ آخر، نطّلع على عبارته فيما بعد إن
شاء الله أيضاً۱.
فالمساواة هي أنَّ العالم حقيقة هو في حكم البستان، و حفظ مجموع البستان و الأشجار و النباتات و كلّ من يعيش فيه بالعدل. فإن لم يكن ثمّة عدل، فلا يستطيع أيُّ فرد أن يستفيد من استعداداته الكامنة و التمتّع بالمواهب الإلهيّة.
يروي الغزّاليّ عن رسول الله صلّى الله عليه و آله أنَّه قال: "يَوْمٌ مِنْ وَالٍ عَادِلٍ أفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً؛ ثُمَّ قَالَ: ألَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَ كُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"٢.
و يُجمل القول أمير المؤمنين عليه السلام في نفس هذه الخطبة التي تدور حول حقّ الوالى على الرعيّة و الرعيّة على الوالى: يجب أن يُقام العدل بين الوالى و الرعيّة، إذ إنَّ أوّل حقّ للوالى على الرعيّة و ما للرعيّة على الوالى هو العدل، و بقيّة الحقوق تتفرّع منه؛ و لذلك ذكر العدالة من بين حقوق الوالى و بقيّة المسائل من ضمن الحقوق.
و العدالة أمر مفروغ منه، و لا ينبغي ذكره في زمرة الحقوق في الحقيقة، فإنَّما تطبّق الامور بواسطة العدالة في الوالى و الرعيّة، أي أنَّه من دون العدالة لا يثبت أيّ حقّ أصلًا. و العدالة ما بِهِ يُنْظَر، لا ما فيهِ يُنْظَر. و بما أنَّها حقّ مشترك بين الوالى و الرعيّة، فلا نعدّها من حقوق الرعيّة و لا من حقوق الوالى.
يقول الإمام السجّاد: "فَإذَا أدَّتِ الرَّعِيَّهُ إلَى الوَالِي حَقَّهُ، وَ أدَّى الوَالِي إلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الحَقُّ بَيْنَهُمْ ... وَ إذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ واليَهَا، وَ أجْحَفَ الوَالِي بِرَعِيَّتِهِ اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الكَلِمَةُ ... ."۱
أي عند ما يُقام الحقّ و تُقام العدالة فجميع الجهات الاخرى ستتحقّق في ظلّهما، و إذا ما حصل اختلاف و زال الحقّ من البين، فإنَّ جميع المفاسد تنبع من ذلك.
خطبة الامير حول ما للوالى و الرعيّة كلٌّ على الآخر من حقوق
أوّل حقّ للوالى على الرعيّة هو حقّ الطاعة
و يقول أمير المؤمنين عليه السلام في آخر الخطبة التي يأمر الناس فيها بالسير إلى الشام لمحاربة القاسطين:
"أيُّهَا النَّاسُ! إنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَ لَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ! فَأمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَ تَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَ تَعْلِيمُكُمْ كَيْ لَا تَجْهَلُوا وَ تَأدِيبُكُمْ كَيْ مَا تَعْلَمُوا. وَ أمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ: فَالوَفَاءُ بِالبَيْعَةِ، وَ النَّصِيحَةُ فِي المَشْهَدِ وَ المَغِيبِ، وَ الإجَابَةُ حِينَ أدْعُوكُمْ وَ الطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ".٢
قوله عليه السلام: «النصيحة لكم» النصيحة من مادّة النصح، أي طلب الخير في جميع الامور و الإرشاد و الدلالة و المساعدة و العون و كلّ ما ينضوي تحت عنوان النصيحة.
و عند ما يكون شخص ما مريداً لخير شخص آخر حقيقة، فإنَّه يلاحظ له جميع جهات الحُسن، و ينفي عنه جميع جهات الضعف و الذلّة و التردّي و النكبة.
قوله عليه السلام: «و توفير فيئكم عليكم» أي فلا أقوم بأيّ حيف أو ميل، و اقسّمه بينكم بنحوٍ كافٍ و وافٍ و بشكلٍ صحيح و سليم.
قوله عليه السلام: «و تعليمكم كيلا تجهلوا، و تأديبكم كيما تعلموا» أي ليس حقّكم عَلَيَّ فقط هو أزيد من مالكم أو أبني لكم البيوت أو اعمّر زراعتكم أو آتيكم بالماء و الكهرباء، بل عَلَيَّ تَعْلِيمُكُمْ، أي أنَّكم جاهلون (امَّه و رعيّة) و أنا و اليكم، و حقّكم عَلَيَّ هو أن اوَزِّع عليكم من جميع تلك الثمرات الفكريّة التي امتلكها، و أن أدعوكم إلى الإسلام و الإيمان و الإيقان، لكي تخرجوا من حالة الجهل، و أن اؤَدِّبكم كما يشذّبون الشجرة و يقلّمون الأغصان الزائدة منها لكي تُصبح جاهزة لإعطاء الثمر.
و أنتم أيضاً نفوسٌ هيولانيّة، تمتلكون القابليّة لكلّ شيء، فإن لم تُشَذّبوا و تُؤدَّبوا بالرياضات، أي إن لم تؤدّبوا بالآداب الشرعيّة، فستصبحون كالشجرة غير المشذّبة، و لن يمكن الاستفادة منكم أبداً، فيجب أن تقلّم أغصان الشجرة و تُحرق. أمّا إذا أدّبتكم فإنَّكم تنتجون إنساناً كاملًا؛ و هذا حقّ لكم عَلَيَّ.
و أمّا حقّي عليكم فهو: أن تفوا ببيعتكم لي عند ما بايعتموني بالإمامة و الإمارة. و الحقّ الآخر هو: النصيحة في الحضور و الغيبة، فعليكم أن تنصحوني سواء في حضوري أم في غيبتي، لا أنَّكم تنصحون و تطلبون لي الخير في حضوري بينما تفعلون ما تريدون في غيابي. فيجب أن تكونوا ناصحين من أعماق قلوبكم. و الثالث هو: الإجابة حين أدعوكم، و الطاعة حين آمركم.
و عبارة الإمام عليه السلام في الواقع هي نفس المفاد الذي ذكرناه في الخطبة (٢۱٤) حول حقّ الوالى على الرعيّة. و قد ذكرنا هناك أنَّه يُستفاد منها ثلاثة امور:
الأوّل: السمع و الطاعة. و الثاني: النصح. و الثالث: التعاون. و هنا يرجع المطلب أيضاً إلى الامور الثلاثة. فالنصيحة في المشهد و المغيب أي في الحضور و الخفاء هو عنوان النصح. "وَ الإجَابَةُ حِينَ أدْعُوكُمْ وَ الطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ"، يرجع إلى الطاعة. و أمّا الوفاء بالبيعة فيقع تحت عنوان التعاون. فالتعاون عنوان عامّ يشمل الوفاء بالبيعة و أمثال ذلك. فهذه من الحقوق التي للرعيّة على الوالى و للوالى على الرعيّة.
فلنرَ الآن تفسير تلك الحقوق التي للوالى على الرعيّة و للرعيّة على الوالى؛ إنَّ أوّل حقّ للوالى، أي للدولة الإسلاميّة (ولاية الفقيه) على الناس هو حقّ الطاعة، و يسمّي هذا في تأريخ الإسلام: حَقٌّ بِالسَّمْعِ وَ الطَّاعَة (و هو بحرف الجرِّ مصطلح).
فيقولون: حقّ بالسمع و الطاعة، و هذا مأخوذ أيضاً من روايات النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، حيث يقول (ما معناه): على الامَّة أن تُطيع الوالى و الحاكم بالسمع و الطاعة. و لعُبادة بن الوليد في كتاب «الموطَّأ» لمالك رواية تفيد بأنَّ النبيّ قد عبَّر عن ذلك بعنوان الحقّ بالسمع و الطاعة في الشدّة و الرخاء، و في النشاط و الكسل، أي أنَّ على الامّة أن تُطيع الوالى؛ و هذا مأخوذ من الآية القرآنيّة:
{إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.۱
و على هذا، فأصل إطاعة الامّة للوالى موافق لهذه الآية القرآنيّة الشريفة.
إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ تفيد السمع و الطاعة مطلقاً
و أمّا مفاد الآية: {إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}،
فلا يختصّ بالحكم في المنازعات و المرافعات و المناقشات، فعلى الامّة أن ترجع إلى الله و رسوله بشكل عامّ لكي يُطبَّق عليها حكم الله و رسوله؛ و عليهم أن يقبلوا ذلك بالسمع و الطاعة.
و تقع هذه الآية الشريفة في مجموعة آيات متوالية ترتبط ببعضها و تُبيِّن مطالب مهمّة.
أمّا الآيات التي سبقتها، فهي: {وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}.۱
{وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}.٢
{وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}.٣
فهم حيث يكون الحقّ لهم يقبلون، و أمّا إذا كان عليهم فهم يعرضون. أي أنَّ هؤلاء- باختصار- لا يتّبعون الحقّ و الصدق، و إنَّما يتتبّعون أهواءهم و رغباتهم، سواء انسجمت مع الحقّ أم لم تنسجم.
مفاد: أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ ...
{أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.٤
فلما ذا يكون هؤلاء بهذا الشكل، فهل في قلوبهم مرض يمنعهم من قبول الحقّ و يجعلهم يرتضون مدركاتهم و أهواءهم؟! (القلب مريض) أي أنَّهم يشكّون و يرتابون في صدق رسول الله، و يخشون ألَّا يكون النبيّ صادقاً في كلامه و أن يكون ثمّة ظلم و جور في حكمه! أم أنَّهم يخافون أن يحيف عليهم الله و رسوله؟ أي أن يظلماهم و يأخذوا منهم شيئاً لأنفسهما.
{أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ} معناه أنَّهم يخافون أن ينتزع الله و نبيّه منهم خيراً أو عزّة أو فلاحاً بواسطة أحكامهما، و يأخذان ذلك لأنفسهما. {بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
ثمّ يقول بعد ذلك: {إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.۱
ثمّ يقول بعدها: {وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ}.٢
{وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}.٣
فالله تعالى يقول للنبيّ: قل لهم لا تقسموا، و عند ما آمركم بالحرب أطيعوا (فاذعنوا بالمعروف من دون ضجيج و جدال، و انهضوا إلى الحرب؛ فما فائدة القسم إذا أعقبه الإنكار؟!).
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.٤
أي أنَّ النبيّ ليس مسئولًا عن عملكم، فقد حمّلناه مسئوليّة دعوتكم فقط، فإن أطعتموه فأنتم الذين تسعدون بذلك٥، ثمّ يأتي بعد هذه
...۱
الآيات بآية تكون بمنزلة النتيجة.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ الخَامِسُ وَ الأرْبَعُونَ: أوَامِرُ الوَالى لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي صُورَةِ المَعْصِيَةِ وَ العِلْمِ بِالخِلاف
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
يقول الله تعالى بعد الآيات المذكورة في سورة النور:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ}.۱
تأتي هذه الآية الشريفة بعد آيات تدلّ على وجوب الطاعة بالنحو الأكمل، و تعتبر أنَّ جميع المفاسد ناتجة عن عدم طاعة الكفّار لرسول الله و اعوجاجهم الفكريّ و تأمر المؤمنين بلزوم الانصياع لرسول الله بالسمع و الطاعة، و تَعِدُ المؤمنين بخلافة الأرض و حكومة الدين و العبادة الخالصة من دون خوف و رعب. و من هنا يستفاد ابتناء هذا الوعد على هذه الطاعة؛ أي أنَّ اولئك الذين يطيعون الله {إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ}۱ و يتقبّلون كلام الله و رسوله بقلوبهم و أرواحهم، فإنَّ نتيجة عملهم هي استخلافهم في الأرض، و خروجهم آخر الأمر من تحت لواء الشرك ليعبدوا الله من دون أيّ تقيّد أو تشويش، و سوف يتبدّل خوفهم أمناً، و يُجعل دين الله ذلك الدين المرضيّ المرتضى في متناولهم، و يتمكّنون في دينهم و مبادئهم. و كلّ ذلك من جرّاء الطاعة للّه و لرسوله و للحاكم المعيّن من قبل رسول الله و من قِبل المعصوم.
حكم الحاكم ليس قطعيّاً، و يُحتمل فيه الخطأ
و يدور بحثنا الآن حول: هل تجب إطاعة أوامر و نواهي الوليّ الفقيه مطلقاً، و مهما كانت صورتها و كيفيّتها؟ أو أنَّ وجوب الطاعة منحصر في صورة عدم علم المكلّف بالخلاف؟ و مثال ذلك، لو حكم الوليّ الفقيه بأنَّ هذه الليلة هي الليلة الاولي من شهر رمضان، و بناءً على ذلك فعلى الناس أن يصوموا غداً، و كان البعض يعلم أنَّ غداً هو آخر شهر شعبان، إذ وفقاً للحسابات التي جرت على الشهر السابق الذي شوهد الهلال فيه، فينبغي أن يكون اليوم مثلًا هو الثامن و العشرون، و يوم الغد هو التاسع و العشرون فعند ما يقول الفقيه: عليكم أن تصوموا غداً؛ فإنَّ ذلك مخالف للواقع بشكل قطعيّ، لأنَّ الشهر لا يمكن أن يكون ثمانية و عشرون يوماً، فهل يجب و الحال هذه اتّباع الفقيه هنا أيضاً؟
كما لو امتنع الحاكم عن الحكم برؤية الهلال بعد مضي تسع و عشرين يوماً من شهر رمضان، لأنَّه لم يثبت له و يجعل شهر رمضان ثلاثين يوماً، بينما نحن نكون قد رأينا الهلال بأعيننا ليلة الثلاثين؛ فهل يجب اتّباع أمره هنا، بأن نصوم الغد و نجعل العيد بعد الغد؟ أو أنَّ حكم الحاكم في هذه الصورة ليس حجّة و نستطيع، بل يجب علينا أن نفطر و نعمل وفق عملنا؟
و مهما كان الأمر، فإنَّ من المسلّم به أنَّ حكم الفقيه لا موضوعيّة له، و إنَّما هو طريق و أمارة للواقع، فحكم الفقيه هو إحدى الأمارات، و الأمارات إنَّما تكون حجّة عند ما لا تكون مخالفة للواقع، و جميع أدلّتنا الشرعيّة هي من الأمارات، حتّى قول النبيّ و قول المعصوم أيضاً هما أمارة على الواقع، غاية الأمر نحن نقبل قول المعصوم من دون أيّ تردّد و نتّبعه لأنَّ عصمته مانعة عن احتمال الخلاف، فتكون هذه الأمارة مصيبة للواقع قطعاً.
و ذلك لأنَّ الحكم الموجود في عالم الواقع واحد لا أكثر، و حكم المعصوم ليس بخلافه، بل هو عين الحكم الواقعيّ؛ و حكم الفقيه أيضاً بهذا النحو، غاية الأمر أنَّه لا عصمة للفقيه، و يحتمل فيه الخلاف، و نحن نتعبّد في موارد احتمال الخلاف بالعمل و الالتزام، لكن في موارد القطع بالخلاف فلن يكون للتعبّد من معني معقول. و على هذا، فجميع الأمارات- و منها قطع الحاكم- هي حجّة فيما لو لم يكن هناك قطع بالخلاف عند المكلّف.
فحكم الحاكم ليس حكماً واقعيّاً، و إنَّما هو حكم ظاهريّ، و قد يطابق الواقع أو لا يطابقه؛ و إنَّ لِلَّهِ تَبارَكَ وَ تَعالَى حُكْماً يَشْتَرِكُ فيهِ العالِمُ وَ الجاهِلُ، فالحكم الواقعيّ هو المجعول للجميع بشكل متساوٍ، و هذا محلّ اتّفاقنا. إذ لو لم نقل بذلك للزم التصويب، و ذلك: إمَّا أن يكون هنالك في الواقع حكم و قد جُعل لنا حكم آخر على خلافه، أو أنَّ الواقع خالٍ من الحكم و ما يحكم به الحاكم هو الحكم الواقعيّ المجعول لنا، أو بأيّ نحو أوجب التصويب. و هو باطل عندنا على جميع التقادير.
و على هذا، فلا نستطيع اعتبار حكم الحاكم حكماً واقعيّاً في مقابل حكم الله، بل هو حكم ظاهريّ، من قبيل الأمارات التي تُثبت لنا حكماً ظاهريّاً. فتارة تصيب الواقع، و تُخطئ اخرى. و عندئذٍ يجري الكلام المذكور في الجمع بين الحكم الواقعيّ و الحكم الظاهريّ و ذلك النزاع
و طريق البحث، فيأتي التصحيح هنا أيضاً.
يقول المرحوم الآخوند: إنَّ الحكم الظاهريّ ليس حكماً، و إنَّما هو عنوان المُعَذِّريّة و المنجِّزيّة. فهناك حكم واقعيّ واحد لا غير. و الأمارات الدالّة عليه إمَّا أن تكون مصيبة فتوجب تنجّزه و تجعل الحكم إلزاميّاً أو لا تصيب الواقع فتكون بالنتيجة موجبة للمعذّريّة و عدم التنجّز.
و قام البعض بردّ هذا الكلام و قال: إنَّ التعذير و التنجيز ليسا عين الحكم، و إنَّما هما من اللوازم العقليّة للحكم، فإذا ورد حكم و كان مطابقاً للواقع فلازمه التنجيز، و إلّا فالتعذير. و لا نستطيع القول بأنَّ الجعل قد تعلّق بنفس المعذّريّة و المنجّزيّة.
و أمّا المرحوم ضياء الدين العراقيّ فقد صوّر الحكم الظاهريّ بجعل الحكم المماثل، أي أنَّنا نمتلك حكمين؛ أحدهما الحكم الواقعيّ، و الآخر الحكم الظاهريّ. و الحكم الظاهريّ أيضاً حكم على حدة مجعول لنا مماثل للحكم الواقعيّ.
و قد رفعوا الإشكال المفترض بهذا النحو: لا يُعقل أن تكون هناك منجّزيّة للحكمين المتضادّين معاً حين جعلهما، لكن عند ما لا يكون الحكم الواقعيّ منجّزاً (لأنَّه قد قامت أمارة على خلافه، و إنَّما تكون له شأنيّة التنجيز فحسب) فما الإشكال في أن يكون للحكم الظاهريّ تنجيز؟
فإذا جعل الحكم الواقعيّ على الوجوب مثلًا، لكن بما أنَّه لم يتنجّز على المكلّف بسبب عدم إصابة الأمارات، و لم يعلم المكلّف به لكي يتنجّز عليه، فلا يمكنه أن يسوق المكلّف و يبعثه نحو المطلوب. و عند ذلك يجعل له حكم آخر يكون منجّزاً و يُعدّ حكماً ظاهريّاً. فقد قام رحمه الله بتصحيح المسألة بهذا النحو.
و ردّ المرحوم النائينيّ كِلا الأمرين بقوله: ليس هناك شيء غير
الطريقيّة، فالأمارة طريق إلى الواقع. و هناك حكم واحد فقط و هو الحكم الواقعيّ، فإذا قامت الأمارة عليه فقد قام الطريق عليه، و إلّا فلا يكون هذا الطريق قد قاد إلى الواقع. و التعذير و التنجيز أيضاً من آثار ذلك الواقع، و لا معني لجعل الحكم المماثل أيضاً، و إنَّما الأمارة هي طريق محض في صورة الإصابة و عدمها، كسائر الطرق المجعولة عند العقلاء.
و جعل الأمارة طريقاً للواقع ليس من مبتدعات الشارع و مخترعاته، بل هي طريق متداول بين العقلاء، إذ عند ما يجعل قانون ما و من ثمّ تقوم عليه أمارة فإنَّهم يعملون بها من باب الطريقيّة، لا أنَّهم يثبتون للأمارة المعذّريّة أو المنجّزيّة أو جعل الحكم المماثل. و على هذا، فليس ثمّة شيء غير الطريقيّة.
لا يقبل حكم الحاكم عند اليقين بالخلاف
فبناء على كلام النائينيّ، أو كلام الآقا ضياء الدين، أو المرحوم الآخوند، فلا حجّيّة لحكم الحاكم في صورة العلم بالخلاف. إذ لو قلنا بالحجّيّة فسوف نقع في التصويب على كلّ هذه التقادير، و على الجميع أن يجدوا المخرج من هذا الأمر.
و على كلّ تقدير، فبناء على مسلك التعذير و التنجيز أو الحكم المماثل أو الطريقيّة، فإنَّما يكون حكم الحاكم مُمضياً عند ما لا يكون لدينا علم بالخلاف، و إلّا فلا يكون حجّة أصلًا۱.
و لذا، ففي صورة حكم الحاكم بعدم دخول شوّال مع علم المكلّف
بخلافه، كأن يكون قد رأي الهلال، فإنَّه و الحال هذه لا يستطيع أن يصوم و يجب عليه الإفطار. نعم؛ في تلك المسائل التي يلزم فيها تحقيق عنوان الاتّحاد و الاجتماع حول حكمه، فيجب أن يحترم حكمه؛ إنَّ الذي يريد الإفطار مثلًا لا يمكنه أن يجاهر في الإفطار أمام الملأ العامّ، و الإتيان بصلاة العيد على مرأى من عامّة الناس، و ما ينبغي له هو أن يتمّ ذلك في المنزل. و هذا من الآثار المترتّبة على الجانب الاجتماعيّ لحكم الحاكم.
و هكذا الأمر في سائر الموارد المشابهة. كما أنَّ الموقف من فتوي الفقيه أيضاً بهذا النحو. ففتوى الفقيه تكون في المسائل الكلّيّة، بينما حكم الحاكم في المسائل الجزئيّة. فإذا كانت فتوي الفقيه في المسألة الكلّيّة مطابقة للواقع فهي حجّة، و إلّا فلا. و إذا أفتي الفقيه بحكم ما و كان لدينا علم بالخلاف ففتواه ليست بحجّة، لأنَّ فتوي الفقيه أمارة، و الأمارة لا حجّيّة لها في صورة العلم بالخلاف. كما أنَّ فتوي الفقيه في البديهيّات و المسلّمات و اليقينيّات و الوجدانيّات لا حجّيّة لها، و فتواه في اصول الدين التي يجب أن يصل إليها الإنسان بالأدلّة العقليّة بالقطع و اليقين ليست حجّة أيضاً. هذا تمام معني الأماريّة.
فلو حكم فقيه ما مثلًا في مسألة كلّيّة، كما لو حكم في وجوب إقامة الصلاة مثلًا لا باستحبابها المؤكّد، و تمكّن المكلّف من الوصول إلى الإمام و سؤاله عن وجوب إقامتها و عدمه، و أجابه الإمام بعدم الوجوب و بأنَّها مستحبّ مؤكّد، فإنَّ فتوي الفقيه في هذه الصورة لا تكون حجّة.
و محصّل الكلام هو: أنَّ موضوع جميع الأمارات الشكّ، و ما لم يكن هناك شكّ فلا موضوعيّة. و الأمر بهذا النحو بالنسبة للقاضي أيضاً، فحكم القاضي حجّة على نحو الطريقيّة لا الموضوعيّة.
فلو ادّعي عمرو مثلًا مالًا على زيد، و أتي على مدّعاه بشاهد و بيّنة،
فحكم القاضي بأنَّ المال لعمرو وفقاً لشهادة الشهود، ففيما لو كان عمرو كاذباً في ادّعائه، و كان الشهود قد أدّوا الشهادة زوراً و كذباً، فهل ينتقل المال إلى ملكيّة عمرو و يزول حقّ زيد بماله و لا يجوز له استرداده من عمرو و لو بالسرقة لو تمكّن منها مثلًا دون أن يلتفت عمرو أو يترتّب على ذلك مفسدة؟ أو أنَّ المال لا ينتقل لملكيّة عمرو واقعاً، فيستطيع زيد أن يقوم بتصرّف ما من هذا قبيل؟
قال البعض بعدم ملكيّة عمرو، و إنَّه لا إشكال في أن يقوم زيد بسرقة ماله، بينما قال البعض الآخر بأنَّ المال يخرج من ملكيّة زيد و ينتقل إلى ملكيّة عمرو بواسطة حكم الحاكم، و ذلك لأنَّ حكم الحاكم يمكنه أن يغيّر عنوان الملكيّة، و كون هذا الشاهد قد شهد زوراً، و ارتكب معصية أمر يرتبط بيوم القيامة، لكنَّ القوانين و القرارات الاجتماعيّة تتطلّب حكماً آخر.
أو نقول بوجوب العمل بحكم الحاكم من باب: إن لم نعمل به فلا تكون له أيّة فائدة أصلًا. فإذا تقرّر أن يرجع المتداعيان إلى الحاكم و أن يقوم الحاكم بالحكم فيجب أن يكون الحكم على أساس البيّنات و الأيمان؛ و قد يطابق كلّا من الشاهد و اليمين الواقع أحياناً، كما من الممكن أن لا يطابقاه. و ليس لنا من طريق لفصل الخصومة غير هذا الطريق. و قد قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: "إنَّمَا أقْضِي بَيْنَكُمْ بِالأيْمَانِ وَ البَيِّنَاتِ".۱
و الحكم الداوديّ الذي يكون بحسب الواقع إنَّما يختصّ بحسب النصوص و الروايات بالإمام صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، و الحكم في زمان الغيبة على أساس الأيمان و الشهادات. و من المسلّم أنَّ الحكم بهذه الطريقة قد يخالف الواقع في بعض الأحيان.
وجوب العمل وفق حكم القاضي و إن بان خلافه
و إذا تقرّر أن يعمل بخلاف حكم الحاكم، فإنَّ ذلك يوجب إلغاءه و تعطيله، و لذا قالوا من باب الاضطرار: إنَّ العمل بحكم القاضي واجب حتّى و لو انكشف الخلاف، و ليس من حقّ الطرفين تخطّيه، و لو كانا على يقين من أنَّ الواقع بخلافه، و كلّ ذلك احتراماً لحكم الحاكم. و هذا من باب التعبّد في مقابل الحقّ؛ أي و إن كان الإنسان يعلم أنَّ المال ماله، لكنّ الأمر ليس كذلك في حال منعه من قبل الشارع في مورد معيّن من ماله، بسبب طروء دعوى ما عليه، و لا بدّ من الخضوع لأمر حكم الحاكم احتراماً له و لدفع المفاسد.
و لدينا الكثير من نظير هذه المسألة في الأحكام، حيث يتبدّل الحكم بسبب تبدّل بعض العناوين، و نؤمَر بتنفيذ بعض الامور على الرغم من علمنا بالواقع، و قطعنا بخلاف ما نؤمر به!
فالبيت الذي يكون محلّ نزاع بين زيد و عمرو مثلًا و يرجعان إلى الحاكم فيه، يقول أحدهما إنَّ كلّ البيت هو لي، بينما يقول الآخر إنَّ البيت
كلّه لي أنا. و لا يأتي أيّ منهما بشاهد على مدّعاه و يكونان متساويين من جميع الجهات في إقامة الدعوي. فهنا يقوم الحاكم بتنصيف البيت بناءً على قاعدة العدل و الإنصاف، فيعطي لكلّ منهما نصف البيت؛ و لا حلّ غير ذلك أيضاً، لأنَّنا نعلم أنَّه في هذا المورد لا مزيّة لأحدهما و لا مرجّح له على الآخر. و هما متساويان من كلّ الجهات. ولدي الحاكم علم إجمالي بأنَّ المال إمَّا لهذا أو لذاك، و لا يرجع إلى بيت المال و لا لأيّ شخص ثالث. و إن كان لزوم المخالفة القطعيّة و الموافقة القطعيّة هنا وارداً.
و توضيح ذلك: أنَّ لزوم المخالفة القطعيّة هنا لأجل كون البيت إمَّا لزيد أو لعمرو، و نحن نعلم قطعاً بعدم صحّة كون نصف البيت لزيد و نصفه لعمرو، و جميع البيت هو لأحدهما. فعند ما نحكم بالتنصيف نكون قد حكمنا قطعاً بنصف البيت لغير صاحبه الحقيقيّ و بنصفه الآخر لصاحبه الحقيقيّ. فهذا من الموارد التي صارت فيها المخالفة القطعيّة موازية للموافقة القطعيّة، و حلّ بينهما الصلح و الصفاء. و ليس لدينا في النتيجة من حلّ سوي هذه الطريقة التي تستلزم الموافقة القطعيّة و المخالفة القطعيّة معاً.
و أمّا الصورة الاخرى للمسألة فهي أن نقول بأنَّنا لا نعمل هنا بقاعدة العدل و الإنصاف، بل نعمل بالقرعة، و القُرْعَةُ لِكُلِّ أمْرٍ مُشْكِلٍ. و هنا يوجد بحث حول جريان أدلّة القرعة في باب القضاء و عدمه. فلو فرضنا أنَّها تجري، و قلنا إنَّ أدلّة القرعة مقدّمة على التنصيف، فإنَّ أدلّة القرعة تقول بلزوم إعطاء البيت إمَّا لهذا الشخص أو لذاك؛ فإذا اعطي لهذا الشخص فهو موافقة احتماليّة و مخالفة احتماليّة؛ و إذا اعطي لذاك الشخص الآخر فهناك أيضاً موافقة احتماليّة و مخالفة احتماليّة. و الموافقة الاحتماليّة أولي من المخالفة القطعيّة.
فلو حكمنا بالتنصيف بمقتضى العدل و الإنصاف فإنَّه يلزم المخالفة القطعيّة؛ لكن لو أعطينا البيت لواحد منهما بواسطة القرعة- حيث إنَّ القرعة هنا لها نوع من الأماريّة- فإنَّ ذلك موجب للموافقة الاحتماليّة، و ليس لدينا قطع بالمخالفة. لكنّهم لم يعلموا بالقرعة في بعض الموارد، و يقدّمون قاعدة العدل و الإنصاف هذه، و التي هي قاعدة عرفيّة و عقليّة، و خصوصاً في الموارد التي يكون المال فيها قابلًا للقسمة إلى اثنين مثل البيت. و يكون الأشخاص الموجودين في ذلك البيت على نحو المالكيّة قادرين على أن يكونوا مالكين لذلك البيت.
أمّا إذا كان المال فرساً مثلًا، و يختصّ بشخص واحد، و لا يستفيد منه إلّا واحد فقط، و ليس بإمكاننا العمل بقاعدة اليد، و ليس ثمّة دليل من الشخصين على دعواهما؛ فهل يحكم القاضي هنا بالتنصيف على أساس قاعدة العدل و الإنصاف؟ أو نقول بوجوب العمل بالقرعة و صرف النظر عن التنصيف، كالتصرّف بالخاتم و ساعة اليد التي تتعلّق بها ملكيّة واحدة و مالك واحد غالباً؟
على كلّ تقدير، فالحكم يفرق في الموضوعات المختلفة؛ فنعمل بقاعدة القرعة في الأشياء غير القابلة للتنصيف كما في الخاتم و الفرس و الساعة، بينما نحكم في المنزل و البستان و المعمل و أمثال ذلك بالتنصيف على أساس قاعدة العدل و الإنصاف.
و كلامنا الآن في الموارد التي يحكم القاضي فيها بالتنصيف و تلزم منها المخالفة القطعيّة، فعند ما يحكم الحاكم برؤية الهلال، فيجب احترام حكمه، و إن علمنا بخلافه. و تجب إطاعته في الموارد التي توجب مخالفة حكم الحاكم المعارضة للحكومة و التأثير على ارتباط ولايته بالناس (مثل أداء صلاة العيد، و تناول الطعام مجاهرة) فإطاعة الحاكم واجبة في مثل هذه
الموارد و ارتكاب المخالفة القطعيّة. فجهة حفظ كيان ولاية الحاكم مقدّمة على إقامة صلاة العيد.
و على هذا فإذا حكم حاكم في مورد ما و كان للمجتهد الجامع للشرائط علم بخلافه فليس له أن يتظاهر بخلاف حكم الحاكم، كأن يفطر جهاراً أو يقيم صلاة العيد، و يجري هذا حتّى مع مَن كان أعلم من الحاكم أيضاً، و ذلك لما لجانب الوحدة الذي ذكرناه بالنسبة لحكم الحاكم من أهمّيّة، و لكون الحكومة واحدة؛ إذ بعد تحقّق الحكومة يكون حكم الحاكم واجب الإطاعة حتّى على المجتهد الأعلم، و عند ذلك يحرم الإفطار و إقامة الجماعة بالشكل المذكور.
لَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللهَ، لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ
لكنَّ الكلام فيما لو أمر الوليّ الفقيه بمعصية ما، فهل نستطيع العمل بذلك أو لا؟ و الجواب: لا نستطيع الالتزام و العمل؛ لأنَّ- و كما بيّنا- لحكمه أماريّة فحسب؛ إنَّ اللهَ لا يَأمُرُ بِالظُّلْمِ وَ القُبْحِ وَ الإثْمِ وَ العُدْوانِ، بَلْ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَ الإحْسَانِ. فلا طاعة لحكم الحاكم بالظلم.
و وردت روايات عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم تدلّ على هذا المعني؛ منها هذه الرواية:
"لَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللهَ".۱
"لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ"۱. و لفظ الطاعة جنس في سياق النفي، أي لا يجوز إطاعة كلّ شخص و مخلوق يقوم بإصدار أمر و نهي فيه معصية للّه عزّ و جلّ.
"لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ"٢.
و ثمّة رواية عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول فيها: "مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ"٣. (في أمرنا: أي في ولايتنا و في حكومتنا).
أورد البيهقيّ في كتاب «شعب الإيمان» عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: "مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أعَانَ عَلَى هَدْمِ الإسْلَامِ"٤.
فلا يحقّ للإنسان أن يصغي إلى من كان صاحب بدعة. و من جهة اخرى فقد ورد في القرآن الكريم أيضاً: {وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}.٥
(الفرط: أي الظلم و الاعتداء و التجاوز؛ و كلّ شيء يتجاوز الحدّ و يصل إلى درجة الإسراف يُسمّى فرطاً).
{وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ}.٦
تدلّ كلّ هذه النصوص بوضوح على المنع من إطاعة حاكم الشرع فيما لو أمر بالمعصية أحياناً، على الرغم من حمله سمة الحكومة الشرعيّة و كون حكومته صحيحة و واجدة لجميع شرائط الحكومة؛ فإنَّما يكون حكم الحاكم و الوالى نافذاً ما دام في المعروف لا في المنكر؛ و إذا أمر بالمنكر أو بالمعصية، فعلى الإنسان أن يردّ حكمه و لا يعمل به.
روايات العامّة في وجوب إطاعة ولاة الجور
لكنَّ أهل السنّة ينقلون في كتبهم روايات عجيبة و غريبة من أنَّ النبيّ صلّى الله عليه و آله قد قال بشكل عامّ: إنَّ علي الإنسان أن يطيع أيّ حاكم و آمر كان، و مهما كان وضعه، حتّى لو اعتدي على الإنسان و انتهك ماله، بل حتّى لو كان ملوّثاً بألوان المعاصي، و كان ينهب أموال الناس ظلماً و تجبّراً و عدواناً! فعند ما يكون هناك والياً و آمراً، فعلى الناس تنفيذ أوامره من دون أيّ تردّد؛ و ذكروا روايات شديدة اللهجة و بألسنة مختلفة تدعو إلى التعجّب! و ما هو مدعاة للتعجّب الرضوخ لُاولئك الذين غصبوا الحكومة و الخلافة و انحرفوا بها عن مسارها الواقعيّ، الذين نشروا أحاديثاً موضوعة بين الناس لضمان استقرار خلافتهم و استمرارها، و قد تمسّكوا بتلك الأحاديث ليثبّتوا ظلمهم و جورهم على أساسها!
يذكر في «الغدير» عن «صحيح البخاريّ» في باب السمع و الطاعة؛ و عن «صحيح مسلم» بلفظ «صحيح البخاريّ» أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: "اسْمَعُوا وَ أطيعوا وَ إنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشيٌّ كَأنَّ رَأسَهُ زَبيبَةٌ!"۱.
أي حتّى لو حكمكم غلام أسود حبشيّ بصفة والٍ و آمر فاسمعوا له
و أطيعوا.
و ينقل في «الغدير» أيضاً عن «صحيح مسلم» و «سنن البيهقيّ» أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: "يَكونُ بَعْدي أئِمَّةٌ لَا يَهْتَدونَ بِهُدايَ وَ لَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَ سَيَقومُ فيهِمْ رِجالٌ قُلوبُهُمْ قُلوبُ الشَّياطينِ فِي جُثْمانِ إنْسٍ".
قالَ حُذَيْفَةُ: قُلْتُ: كَيْفَ أصْنَعُ يا رَسولَ اللهِ إنْ أدْرَكْتُ ذَلِكَ؟! قالَ: ت"َسْمَعُ وَ تُطيعُ لِلأميرِ وَ إنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَ اخِذَ مالُكَ، فَاسْمَعْ وَ أطِعْ!".۱
وَ سَألَ سَلمَةُ بْنُ يَزِيدَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلهِ] وَ سَلَّمَ فَقالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ! أ رَأيْتَ إنْ قامَتْ عَلَيْنا امَراءٌ يَسْألونا حَقَّهُمْ وَ يَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأمُرُنَا؟!
فَأعْرَضَ عَنْهُ؛ ثُمَّ سَألَهُ؛ فَأعْرَضَ عَنْهُ؛ ثُمَّ سَألَهُ، فَجَذَبَهُ الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ؛ فَقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آله] وَ سَلَّمَ: "اسْمَعوا وَ أطِيعُوا فَإنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلوا وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ".٢
فهم يعرفون تكليفهم، و أنتم أيضاً تعرفون تكليفكم. و هم لهم وظيفة، و أنتم لكم وظيفة أيضاً. و لا يُدفن شخصان في قبر واحد، و موسى على دينه و عيسى على دينه كذلك.
بناء على رأي العامّة: فسق الحاكم لا يوجب خلعه من الولاية
كما نقل عن «الغدير» أيضاً عن الباقلاني في «التمهيد» أنَّه قال: لقد أورد جمهور من أصحاب الحديث و الأعيان من العلماء هذه الجملة:
لا يَنْخَلِعُ الإمامُ بِفِسْقِهِ وَ ظُلْمِهِ بِغَصْبِ الأمْوالِ وَ ضَرْبِ الأبْشارِ وَ تَناوُلِ النُّفوسِ المُحَرَّمَةِ وَ تَضْييعِ الحُقوقِ وَ تَعْطيلِ الحُدود.
ثمّ يقول الباقلاني في شرح هذا الكلام الذي نقله عن إجماع أهل الحديث و كلام العلماء: و على هذا فلا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه و تخويفه و ترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي الله. و احتجّوا في ذلك بأخبار كثيرة متضافرة عن النبيّ صلّى الله عليه و آله، و عن الصحابة في وجوب إطاعة الأئمّة (الحكّام) و إن جاروا و استأثروا بالأموال، و أنَّه قال صلّى الله عليه و آله: "اسْمَعوا وَ أطيعوا وَ لَوْ لِعَبْدٍ أجْدَعَ، وَ لَوْ لِعَبْدٍ حَبَشيٍّ، وَ صَلُّوا وَراءَ كُلِّ بَرٍّ وَ فاجِرٍ".
و روي أنَّ النبيّ قال: "أطِعْهُمْ وَ إنْ أكلُوا مالَكَ وَ ضَرَبوا ظَهْرَكَ، وَ أطيعوهُمْ ما أقاموا الصَّلَاةَ".
يقول الباقلانيّ: في أخبار كثيرة وردت في هذا الباب، و قد ذكرنا ما في هذا الباب في كتاب «إكفار المتأوّلين» و ذكرنا ما روي في معارضتها، و قلنا في تأويلها بما يغني الناظر فيه إن شاء الله.
و يقول الباقلاني في «التمهيد» أيضاً: و ليس ممّا يوجب خلع الإمام حدوث فضل في غيره و يصير به أفضل منه، و إن كان لو حصل مفضولًا عند ابتداء العقد لوجب العدول عنه إلى الفاضل، لأنَّ تزايد الفضل في غيره ليس بحدث منه في الدين و لا في نفسه يوجب خلعه. و مثل هذا ما حكيناه عن أصحابنا أنَّ حدوث الفسق في الإمام بعد العقد له لا يوجب خلعه، و إن كان ما لو حدث فيه عند ابتداء العقد لبطل العقد له و وجب العدول۱.
يقول المرحوم الأمينيّ: و ممّا أو عز إليه الباقلاني من الأخبار الكثيرة الدالّة على وجوب طاعة الأئمّة (الحكّام) و إن جاروا و استأثروا بالأموال و لا ينعزل الإمام بالفسق، ما يلي .. ثمّ يذكر خمس روايات:
الرواية الاولي: عن حذيفة بن اليمان أنَّه قال:
قالَ: قُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ إنَّا كُنَّا بِشَرٍّ فَجَاءَ اللهُ بِخَيْرٍ فَنَحْنُ فيهِ فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذا الخَيْرِ شَرٌّ؟ قالَ: نَعَمْ!
قُلْتُ: وَ هَلْ وَراءَ هَذَا الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قالَ: نَعَمْ!
قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ!
قُلْتُ: كَيْفَ يَكونُ؟!
قالَ: يَكونُ بَعْدي أئِمَّةٌ لَا يَهْتَدونَ بِهُدايَ وَ لَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتي وَ سَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمانِ إنْسٍ. قُلْتُ: كَيْفَ أصْنَعُ يَا رَسولَ اللهِ إنْ أدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قالَ: تَسْمَعُ وَ تُطيعُ لِلأمِيرِ وَ إنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَ اخِذَ مالُكَ، فَاسْمَعْ وَ أطِعْ!۱
و قد أورد هذه الرواية مسلم في صحيحه و البيهقيّ في سننه.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ السَّادِسُ وَ الأرْبَعُونَ: الشِّيعَةُ تَرَى الحَاكِمَ جَائِزُ الخَطَأ فِي حُكْمِهِ بَيْنَما العَامَّةُ تَرَى حُكْمَهُ لازِم التنْفِيذِ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
لقد بيّنا فيما سلف أنَّ أحكام الحاكم و مرجع التقليد و القاضي مجرّد أمارة على الواقع، و لا موضوعيّة لها. و لذلك فهم يستطيعون العدول عن الحكم الذي يحكمونه أو النظريّة التي يعطونها؛ فإذا ثبت للحاكم أو القاضي أنَّ حكمه لم يكن مطابقاً للواقع و قد اقتضته بعض الظواهر و القرائن فوقع فيه اشتباه، فعليه أن يرجع عنه فوراً و يلتزم بما هو الواقع. و كذلك إذا أفتي المرجع بفتوى معيّنة ثمّ اتّضح أنَّ فيها خدش ما، فعليه أن يعدل من نظره و رأيه، إذ لا موضوعيّة له، و أنَّه لا يملك سوي الطريقيّة. و هذا هو معني الطريقيّة أيضاً.
و المسألة في القاضي أيضاً بهذا النحو، فلو حكم القاضي، ثمّ اتّضح أنَّ ثمّة اشتباه في حكمه هذا. فعليه الرجوع.
استفادة المحاكم الثلاث من عهد الإمام لمالك الاشتر
توجد ثلاث محاكم بين المحاكم المتعارفة اليوم: المحكمة الابتدائيّة، التي يرجع إليها المتداعيان فيقوم القاضي بالحكم لأحدهما على
الآخر. ثمّ محكمة الاستئناف، و هي مترتّبة على المحكمة الاولي، بحيث لو اعترض مَنْ عَلَيْهِ الحُكْم فبإمكانه الرجوع إلى محكمة الاستئناف التي هي عبارة عن إعادة النظر في حكم ذلك القاضي السابق. و عليه، فأمّا أن يمضي حكمه السابق، أو يردّه و يصحّحه. و إذا كان الحكم قابلًا للتأمّل في محكمة الاستئناف- على الرغم من ثبوت حكم القاضي الأوّل- فثمّة محكمة أعلى من جميع هذه المحاكم، و هي محكمة التمييز، أو الديوان العالى. إذ يوجد في محكمة التمييز و الديوان العالى أشخاص أعلى رتبة من قضاة المحاكم، يقومون بالنظارة على أحكامهم، و يرجع إليهم من عنده اعتراض على أحكام المحكمة السابقة؛ فيقوم المتصدّون بإعادة النظر في الأحكام الصادرة. و عندئذٍ، فأمّا أن يبتّوا الحكم السابق أو يصدروا حكماً جديداً.
و جميع هذه الدواوين الثلاثة مستفادة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك الأشتر. و قد بيّنا أنَّ أصل هذا العهد قد وقع بأيدي الاوروبّيّين في الأندلس بعد زوال الحكومة الأمويّة، فقاموا بترجمته إلى اللغات المختلفة قبل أن يصل مضمونه إلينا! و قد شكّلوا محاكمهم و إداراتهم على أساسه. فالمحاكم الموجودة في عالمنا اليوم (أعمّ من المحاكم الابتدائيّة و الاستئناف و التمييز)- منها محاكمنا أيضاً قد بُنيت على أساس تلك التنظيمات الاوروبّيّة و الغربيّة- هي في الواقع متّخذة من عهد أمير المؤمنين عليه السلام هذا.
و هذا يدلّ على أنَّ القاضي يستطيع أن يعدل عن حكمه فيما إذا وقع في الاشتباه، و عليه الرجوع عن حكمه السابق، و أنَّ حكم القاضي لا موضوعيّة له، و إنَّما هو طريق محض للواقع.
لقد بيّنا هذا العهد إجمالًا فيما مضي، و ما يهمّنا هنا الفقرة القائلة:
"ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الامُورُ، وَ لَا تُمْحِكُهُ الخُصُومُ، وَ لَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الفَيْءِ إلَى الحَقِّ إذَا عَرَفَهُ".
إذ من الممكن للإنسان أن يزلّ، و عندئذٍ فالتمادي في الزلل غير صحيح؛ فإذا فهم القاضي أنَّه قد زلّ في المسألة، فـ لا يَتَمادَى فيها، وَ لا بُدَّ وَ أنْ يَرْجِعَ.
"وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الفَيءِ إلَى الحَقِّ إذَا عَرَفَهُ". الحصر بمعني ضيق الصدر، فلا ينبغي للقاضي أن يضيق صدره أو ينزعج من الرجوع إلى الحقّ عند ما يعرفه، و لا يقول إنّي قد حكمت و لا أرجع عن حكمي، فلا ينبغي أن يكون الأمر بهذا النحو. فعند ما يعلم القاضي أنَّه قد صدرت منه زلّة فعليه أن يفيء إلى الحقّ، أي يرجع إليه بسرعة، و عند ما يجد إشارةً و دليلًا على خلاف حكمه الأوّل، أو إذا أقام مَنْ عَلَيْهِ الحَقّ شواهد حيّة لصالحه، فعليه أن يرجع عن حكمه الأوّل. و هذا نفس عمل و دور محكمة الاستئناف التي قد اسّست هذه الأيّام على أساس توجيه كلام الإمام عليه السلام. ثمّ يستمر الإمام عليه السلام في كلامه إلى أن يقول:
"ثُمَّ أكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ". أي ابذل الجهد و اعمل و اسْعَ في البحث و التفحّص عن أحكام و قضاء القضاة، و انظر في كيفيّة قضاوتهم، و مدي صحّته.
نعلم بشكل مسلّم أن لا موضوعيّة لصرف و تعاهد القضاء و الفحص و المخالفة؛ و إنَّما يكون ذلك لرفع الاشتباه فيما لو حصل في حكم القضاة، و للاطّلاع و التأكّد من اعتدال حالة القاضي و عدم انفعاله أثناء الحكم، و عدم ارتشائه فيه. فإذا لم يكن الأمر كذلك و كان ثمّة اشتباه ما، فيجب أن يُردّ ذلك الحكم. فإنَّما قوله عليه السلام: "أكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ"، ليتمّ إصلاح
الاشتباه الحاصل من القضاة، فيما لو كان قابلًا للإصلاح و الرجوع في المحكمة العليا لولي الأمر. و ليقوم اولئك القضاة المنصوبين في محكمة التمييز (من ذوي المقام الرفيع و الصلاحيّة الواسعة في مجال القضاء) بمراجعة اولئك القضاة لمعالجة الاشتباه الحاصل منهم.
و على هذا، فالمستفاد ممّا ذكر: أنَّ حكم القاضي قابل للردّ، و ذلك لأنَّه طريق، و الطريق تخطئ تارة و تصيب اخرى، و ليس من الصواب التمادي في الاشتباه؛ و يجب الرجوع عن حكم القاضي في كلّ مورد اطّلع هو أو اطّلعت المحكمة العليا على اشتباهه فيه.
و هذا المطلب الذي بيّناه يتعلّق بتتمّة بحث رجوع الحاكم أو الفقيه عن حكمه.
يعتبر العامّة الولاة الجائرين و الظالمين أُولي الامر و يجب اتّباعهم
أمّا فيما يتعلّق بتلك المسألة التي طُرحت، فقد وصلنا بالبحث بذكر رواية عن «الغدير» من طريق العامّة تُفيد أنَّ حكم الحاكم محترم حتّى و إن كان جانياً و جائراً، و حتّى لو كان مختلساً لأموال الناس و يضربهم، و ينتهك أعراضهم، و يمارس أنواع الفحشاء و المنكرات؛ فعلى جميع الامّة أن تُطيع أمره و تسمع له، و لا يحقّ لأحد أن يقوم ضدّه، و على الجميع أن يكونوا مطيعين له بشكل تامّ.
الرواية الثانية: عن مالك الأشجعيّ؛ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول:
"خيارُ أئِمَّتِكُمُ: الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَ يُحِبّونَكُمْ، وَ تُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَ يُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ؛ وَ شِرارُ أئِمَّتِكُمُ: الَّذِينَ تُبْغِضونَهُمْ وَ يُبْغِضونَكُمْ، وَ تَلْعَنونَهُمْ وَ يَلْعَنونَكُمْ.
قالَ: قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ! أ فَلَا نُنابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قالَ: لَا! ما أقَامُوا فيكُمُ الصَّلَاةَ. ألَا وَ مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأتِي شَيْئاً مِنْ مَعصيَةِ اللهِ فَلْيَكْرَهْ
ما يَأتي مِنْ مَعْصيَةِ اللهِ وَ لَا تَنْزِعَنَّ يَداً مِنْ طاعَةٍ".۱
الرواية الثالثة: سأل سلمة بن يزيد الجعفيّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
يا رسول الله! إنْ قامَتْ عَلَيْنا امَراءُ يَسْألونَنا حَقَّهُمْ وَ يَمْنَعونَنا حَقَّنا فَما تَأمُرُنا؟! "قالَ: فَأعْرَضَ عَنْهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلهِ] وَ سَلَّمَ؛ ثُمَّ سَألَهُ، فَقالَ: اسْمَعوا وَ أطِيعُوا! فَإنَّما عَلَيْهِمْ ما حُمِّلوا وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ".٢
الرواية الرابعة: عن المقداد أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: "أطيعوا امَرَاءَكُمْ مَا كَانَ؛ فَإنْ أمَروكُمْ بِما حَدَّثْتُكُمْ بِهِ فَإنَّهُمْ يُؤْجَرونَ عَلَيْهِ وَ تُؤْجَرونَ بِطاعَتِكُمْ. وَ إنْ أمَروكُمْ بِشَيءٍ مِمَّا لَمْ بِهِ فَهُوَ عَلَيْهِمْ، وَ أنْتُمْ مِنْهُ بُرَآءُ.
ذَلِكَ بِأنَّكُمْ إذا لَقِيتُمُ اللهَ قُلْتُمْ: رَبَّنَا! لَا ظُلْمَ. فَيَقولُ: لَا ظُلْمَ. فَيَقولونَ: رَبَّنَا أرْسَلْتَ إلَيْنا رُسُلًا فَأطَعْنَاهُمْ بِإذْنِكَ؛ وَ اسْتَخْلَفْتَ٣ عَلَيْنا خُلَفاءَ فَأطَعْناهُمْ بِإذْنِكَ؛ وَ أمَّرْتَ عَلَيْنا امَراءَ فَأطَعْناهُمْ. قالَ: فَيَقولُ: صَدَقْتُمْ، هُوَ عَلَيْهِمْ وَ أنْتُمْ مِنْهُ بُرَآءُ"!٤
لاحظوا مدي الوضع في هذه الرواية! وَ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا خُلَفاءَ. فمتى استخلف الله عليهم خلفاء كهؤلاء و أمرهم بإطاعتهم؟! لقد تركوا الخلفاء المعصومين جانباً و أتوا بهؤلاء إلى السلطة و اعتبروهم واجبي الطاعة! فكانت نتيجة عملهم أن يدفعوا ضريبة ما جنوه بأنفسهم.
الخامسة: عن سويد بن غفلة قال: إنَّ عمر بن الخطّاب قال لي:
يَا أبَا امَيَّةَ! لَعَلَّكَ أنْ تَخْلِفَ بَعْدي؛ فَأطِعِ الإمَامَ وَ إنْ كَانَ عَبْداً حَبَشِيَّاً! إنْ ضَرَبَكَ فَاصْبِرْ، وَ إنْ أمَرَكَ بِأمْرٍ فَاصْبِرْ، وَ إنْ حَرَمَكَ فَاصْبِرْ، وَ إنْ ظَلَمَكَ فَاصْبِرْ؛ و إنْ أمَرَكَ بِأمْرٍ يُنْقِصُ دينَكَ فَقُلْ: سَمْعاً وَ طَاعَتاً، دَمِي دُونَ ديني۱.
فلا عليك أن تبذل دمك حفاظاً للدين؛ فإذا رأيت أمراً يوجب نقصان دينك فقل سمعاً و طاعة؛ أي يجب أن تظلّ هاتان الكلمتان على شفتيك حتّى لو كان ذلك يُسبّب نقصان دينك!
فهذه خمس روايات نقلها العلّامة الأمينيّ رحمة الله عليه٢؛ و أنقل
متكلّمو العامّة يُعذرون مَن يمارس الظلم من قِبَل حكام الجور
لكم رواية اخرى شبيهة جدّاً بهذه الروايات:
روي الماورديّ في «الأحكام السلطانيّة و الولايات الدينيّة» ص ٥، عن هشام بن عروة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، روي عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنَّه قال:
"سَيَليكُمْ بَعْدي وُلَاةٌ فَيَلِيكُمُ البَرُّ بِبِرِّهِ وَ يَليكُمُ الفَاجِرُ بِفجُورِهِ؛ فَاسْمَعوا لَهُمْ وَ أطِيعُوا في كُلِّ مَا وَافَقَ الحَقَّ. فَإنْ أحْسَنوا فَلَكُمْ وَ لَهُمْ؛ وَ إنْ أسَاءُوا فَلَكُمْ وَ عَلَيْهِمْ".۱
و بعد أن ينقل المرحوم الأمينيّ الروايات الخمس عن الباقلاني ينقل أيضاً في ذيلها شرحاً للباقلانيّ في تفسيرها و بيانها، حيث يقول في تتمّة كلامه: لا يجوز أن يُعزل الإمام بسبب فسقه، فكلّ من كان حاكماً حتّى لو فسق لا يجوز عزله.
ثمّ يذكر الباقلاني كلام النوويّ في «شرح مسلم» الذي يذكره في هامش «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاريّ» الجزء الثامن، الصفحة السادسة و الثلاثين، في ذيل هذه الأحاديث التي رواها عن طرق مسلم، من أنَّه يُبيّن معني الحديث بهذا النحو:
لا تَنازَعوا وُلَاةَ الامورِ فِي وِلَايَتِهِمْ، وَ لَا تَعْتَرِضوا عَلَيْهِمْ إلَّا أنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَراً مُحَقَّقاً تَعْلَمونَهُ مِنْ قَواعِدِ الإسْلَامِ. فَإذَا رَأيْتُمْ ذَلِكَ فَأنْكِروهُ عَلَيْهِمْ؛ وَ قُولُوا بِالحَقِّ حَيْثُما كُنْتُمْ. وَ أمَّا الخُروجُ عَلَيْهِمْ وَ قِتالُهُمْ فَحَرامٌ
بِإجْماعِ المُسْلِمينَ وَ إنْ كَانُوا فَسَقَةً ظالِمينَ.
و يقول في تتمّة كلامه: وَ قَدْ تَظاهَرَتِ الأحَادِيثُ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ؛ وَ أجْمَعَ أهْلُ السُّنَّةِ أنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ السُّلْطانُ بِالفِسْقِ. إلَى أنْ قَالَ: فَلَوْ طَرَأ عَلَى الخَليفَةِ فِسْقٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ خَلْعُهُ إلَّا أنْ تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ وَ حَرْبٌ. وَ قَالَ جَماهِيرُ أهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَ المُحَدِّثِينَ وَ المُتَكَلِّمينَ: لَا يَنْعَزِلُ بِالفِسْقِ وَ الظُّلْمِ وَ تَعْطِيلِ الحُقوقِ، وَ لَا يُخْلَعُ، وَ لَا يَجوزُ الخُروجُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ بَلْ يَجِبُ وَعْظُهُ وَ تَخْويفُهُ.
ثمّ نقل العلّامة الأمينيّ عن التفتازانيّ في «شرح المقاصد» ص ٢۷٢ أنَّه: إذا مات الإمام و تصدّي للإمامة مَن يستجمع شرائطها من غير بيعة و استخلاف، و قهر الناس بشوكة انْعَقَدَتْ لَهُ الخِلافَةُ، وَ كَذا إذَا كَانَ فَاسِقاً أوْ جَاهِلًا عَلَى الأظْهَر.
قال في البدء: تَصَدَّى لِلإمامَةِ مَنْ يَسْتَجْمِعُ شَرائِطَها؛ حتّى و لو كان بالقهر و القوّة. ثمّ قال بعد ذلك: حتّى إذا كان غير مستجمع لشرائط الإمامة أيضاً (فلم يكن عادلًا و لم يكن عالماً)؛ فإذا جاء و استلم الحكومة بقوّة السيف، فحكومته و إمامته ممضاة على الأكثر؛ إلَّا أنَّهُ يَعْصي فِيمَا فَعَلَ. وَ يَجِبُ طاعَةُ الإمامِ ما لَمْ يُخالِفْ حُكْمَ الشَّرْعِ سَواءٌ كانَ عادِلًا أوْ جائِراً.
و أضاف قائلًا: إنَّه قد ذكر نظير هذا الأمر القاضي الإيجيّ في «المواقف»، و أبو الثناء في «مطالع الأنظار»، و كذلك من شرّاح «المواقف»: السيّد الشريف الجرجانيّ، و المولي حسن الچلبيّ، و الشيخ مسعود الشيروانيّ، و كذلك الماورديّ في «الأحكام السلطانيّة»، و الجوينيّ في «الإرشاد»، و القرطبيّ في تفسيره.
كلام الاميني حول عواقب الالتزام بمعذوريّة حكّام الجور
يقول المرحوم الأمينيّ: لقد حلّ في الإسلام كلّ هذه المشاكل و المصائب بسبب هذه الروايات، ثمّ يقوم بشرح مُشبع عن العواقب
الفاسدة لهذا الأمر.
و هذه الروايات التي تقول: إنَّ الحاكم إذا كان جائراً فإنَّه لا ينعزل، و لا حقّ للناس بالاعتراض، و حتّى لو قام بضربهم و أخذ أموالهم و الاعتداء على شرفهم، فلا حقّ لهم بالخروج عليه، و إنَّما عليهم أن يكونوا تحت أمره بالسمع و الطاعة. كانت نتيجتها مجيء هؤلاء الخلفاء واحداً بعد الآخر، و ارتكابهم لأيّ جريمة شاءوا.
و هنا يكرّر المرحوم الأمينيّ القول: على هذا الأساس صار الأمر بهذا النحو، و على هذا الأساس جرت الامور بهذا الشكل.
وَ عَلَى هَذا الأساسِ تَمَكَّنَ مُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفْيانَ مِنْ أنْ يَجْلِسَ بِالكُوفَةِ لِلبَيْعَةِ وَ يُبايِعَهُ النَّاسُ عَلَى البَراءَةِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أبي طالِبٍ۱.
فقد كان هذا هو شرط بيعة معاوية، إذ جاء و تسلّط على الناس بالقوّة، و بيعته هذه أيضاً- بناءً على هذه الروايات- بيعة شرعيّة و ممضاة، و على الناس أيضاً أن يسمعوا و يطيعوا، و بما أنَّه حكم حاكم فلا حقّ لهم بالخروج عليه و قتاله، و عليهم أن يقولوا سمعاً و طاعة، و إن كان قد اشترط في بيعته سبّ عليّ بن أبي طالب!
و على هذا الأساس أقرّ عبد الله بن عمر بيعة يزيد الخمور؛ و عند ما أراد أهل المدينة نقض بيعة يزيد جمع خدمه و حشمه و أولاده و معارفه و قال: لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة. و إنَّ أعظم الغدر نكث البيعة، و لست براضٍ أن ينقض أيّ واحد منكم بيعته ليزيد، و إذا قام أحد منكم بذلك فإنَّه ليس منّي.
و على هذا الأساس يقوم حميد بن عبد الرحمن: دخلت علي يسير
الأنصاريّ (أحد صحابة رسول الله صلّى الله عليه و آله) عند ما كانوا قد جعلوا يزيد بن معاوية خليفة؛ فَقالَ: إنَّهُمْ يَقولونَ: إنَّ يَزيدَ لَيْسَ بِخَيْرِ امَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ، وَ أنَا أقولُ ذَلِكَ؛ وَ لَكِنْ لأنْ يَجْمَعَ اللهُ أمْرَ امَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلهِ] وَ سَلَّمَ، أحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ يَفْتَرِقَ. قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلهِ] وَ سَلَّمَ: لَا يَأتِيكَ فِي الجَمَاعَةِ إلَّا خَيْرٌ۱.
ثمّ يقوم المرحوم الأمينيّ بنقل عدّة قضايا اخرى في هذا النحو، إلى أن يصل حيث يقول: وَ عَلَى هَذا الأساسِ يَتِمُّ اعْتِذارُ شِمْرِ بْنِ ذِي الجَوْشَنِ قاتِلِ الإمامِ السِّبْطِ فيما رَواهُ أبو إسحاق.
دفاع الشمر عن فعله مستنداً إلى رواياتهم في وجوب طاعة الولاة
عند ما قتل الشمر الإمام الحسين عليه السلام، اعتذر بهذا العذر قائلًا: إنَّه أمر الوالى، و إنَّ ولاتنا المعيّنين لنا قد أمروني بذلك، و أمر الوالى واجب الطاعة. بناء على هذا، فلسنا في قتل الإمام الحسين غير مُذنبين فحسب، بل و سننال الثواب بسبب إطاعتنا لأمر الوالى ..
يروي أبو إسحاق: كانَ شِمْرُ بْنُ ذِي الجَوْشَنِ يُصَلِّي مَعَنا ثُمَّ يَقولُ: اللّهُمَّ إنَّكَ شَريفٌ تُحِبُّ الشَّرَفَ، وَ إنَّكَ تَعْلَمُ أنِّي شَريفٌ فَاغْفِرْ لي! قُلْتُ: كَيْفَ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ وَ قَدْ أعَنْتَ عَلَى قَتْلِ ابْنِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلهِ] وَ سَلَّمَ؟!
قَالَ: وَيْحَكَ! كَيْفَ نَصْنَعَ؟ إنَّ امَراءَنا هَؤُلَاءِ أمَرُونَا بِأمْرٍ فَلَمْ نُخالِفْهُمْ؛ وَ لَوْ خالَفْناهُمْ كُنَّا شَرّاً مِنْ هَذِهِ الحُمُرِ الشِّقَاةِ٢.
و في لفظ آخر يقول الشمر: اللّهُمَّ اغْفِرْ لي فَإنِّي كَريمٌ، لَمْ تَلِدْني
اللّئَامُ! فَقُلْتُ لَهُ: إنَّكَ لَسَيِّئُ الرَّأيِ وَ الفِكْرِ! تُسارِعُ إلَى قَتْلِ ابْنِ بِنْتِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلهِ] وَ سَلَّمَ وَ تَدْعُو بِهَذا الدُّعاءِ؟! فَقالَ: إلَيْكَ عَنّي! فَلَوْ كُنَّا كَمَا تَقولُ أنْتَ وَ أصْحابُكَ لَكُنَّا شَرّاً مِنَ الحُمُرِ في الشِّعَابَ۱.
هذه جملة من الروايات التي نُقلت عن أهل السنّة؛ فلنرَ الآن إلى أين ينتهي هذا النمط من التفكير بالامّة الإسلاميّة، و إلى أين يسير بها؟ و ما الذي سيحلّ على الإسلام و المسلمين؟ و كيف سيقوم ولاة الأمر بإدارة الحكومة الإسلاميّة، و عملهم بمنهج معاكس لمنهج رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، الذي جعل الطاعة منحصرة في اتّباع الحقّ؟
و إنَّما يُتّبع كلام المعصوم لانطباقه على الحقّ لا لموضوعيّته، و نحن إنَّما نقبل كلام المعصوم لأنَّه معصوم و عين الحقّ، و إلّا فلا موضوعيّة لكلام أيٍّ كان في مقابل الحقّ. و هذه كلّها أمارات و طرق.
و الآن مع وجود حديث الغدير و حديث الثقلين و حديث المنزلة و أمثال ذلك، فهل يكون هناك معني لقولهم: اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنا امَراءَ؟!
فالله تعالى يقول لهؤلاء: يا أيُّها الكاذبون! هل جعلت عليكم هؤلاء الامراء أئمّة و خلفاء، و قلت لكم لا تثريب عليكم في كلّ ظلم يقومون به؟! فسوف تطالبون أنتم أيضاً يوم القيامة بادّعائكم أنَّ هؤلاء قد ظلموكم، و خروجكم عن الدين اتّباعاً لهم، و بادّعاء أنَّ الله هو الذي أمركم بإطاعتهم، و أنَّه المسئول عن جميع هذه المظالم!
و من هنا يتّضح السرّ في مدي قلق الدول الأجنبيّة من التشييع بشكل خاصّ و عدم خشيتهم من أهل السنّة! لِمَ؟ لأنَّ حكومة أهل السنّة حكومة وضعيّة و غير أصيلة، و هم قد أقرّوا هذا الشكل، لأنَّ الولاة الذين يطلبونهم
هم كولاة السنّة، ممّن يأمرون الناس بكلّ شيء يُريدونه. و يعتبرهم الناس اولي الأمر.
لكنَّ ذلك المذهب الملتزم بالحقّ، و الذي لا يرضي بأدنى تجاوز لحدود الحقّ، هو مذهب الشيعة الذي يقول بلزوم جعل الحقّ ميزاناً لجميع الامور، و الرضا بالحقّ أينما كان، و الابتعاد عن أيّ انحراف حيثما كان، و أنَّ على الحاكم الرجوع عن حكمه فيما إذا حكم و كان في حكمه أيّ اشتباه، و إلّا فهو مسئول، و على القاضي أن يرجع عن حكمه، و على مرجع التقليد أن يرجع عن فتواه بمجرّد التفاته إلى اشتباهه، و إلّا فهو في جهنّم.
و قد نقلنا عبارة عن أمير المؤمنين عليه السلام ينهي فيها عن الثناء عليه، و يقول فيها بأنَّ كلّ هذه الجهود المضنية التي يبذلها إنَّما هي للخروج من عهدة المسئوليّات الملقاة على عاتقه من الله تعالى تجاه الناس؛ و يبيِّن فيها أنَّه لم يتمكّن حتّى الآن من أداء حقوق الناس و الخروج من عهدة الفرائض! فعلامَ يثنون عليه؟!
و على كلّ تقدير، فمن الواضح لنا أنَّه: "لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ، وَ لَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللهَ"، و أمثال هذه العبارات التي وردت عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله الدالّة على لزوم كون أوامر و نواهي الحاكم (الذي يحكم باسم الحكومة الإسلاميّة بأيّ صورة و كيفيّة كانت) غير مخالفة للشرع، و إلّا فاعتبارها ساقط، و لا ينبغي تنفيذها.
الحقّ الثاني للوالى على الرعيّة: حقّ النصح
و الحقّ الثاني الذي للوالى على الرعيّة، و للحاكم و الدولة الإسلاميّة على الامّة- و على جميع أبناء الامّة أن يحترموا هذا الحقّ بالنسبة للجهاز الحاكم، سواء كان لنفس الحاكم أم لموظّفيه و مَن يندبه- هو حقّ النُّصح.
و النصح يعني إرادة الخير، فعلى الناس أن يكونوا مُريدين لخير
الحكومة، و مُحبّين و أعوان و مساعدين لحكومة الإسلام عن صدق و صفاء و واقعيّة. و قد تكرّر ذكر كلمة النصح في القرآن المجيد و الأحاديث النبويّة. و هذه الكلمة أفضل بمراتب من كلمتي لُوياليسم۱ و نياليسم، و تعنيان الولاء و الإخلاص للدولة زمن الثورة؛ و كلمة آليجَنس٢ التي تعني في الإنجليزيّة الوفاء و البيعة.
لقد استعمل الإسلام النصح و بيَّن هذه الحقيقة بشكل لطيف و جميل جدّاً، و قال: على الامّة أن تكون نصوحة و مخلصة لمسئوليها في حكومة الإسلام، كالأب في نصحه و عطفه على ولده لما فيه خيره، و يستفاد هذا الحقّ من الخطبة ۱٤ حول (حقّ الوالى على الرعيّة).
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وَ لَكِنْ مِنْ حُقُوقِ اللهِ عَلَى العِبَادِ، النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ". فلم يقل عليه السلام عليهم أن ينصحوا فحسب، بل قال: بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ؛ أي عليهم أن يعملوا بكلّ طاقاتهم لإصلاح الامّة.
عند ما يمرض الابن فمن الممكن أن يأمر الأب بإرساله إلى طبيب، كما أنَّ من الممكن أيضاً أن يذهب الأب بنفسه فيأخذه إلى الطبيب، و أحياناً يمكن أن يكون المرض خطيراً بشكل يعمل فيه الأب على نجاة ولده بمختلف الطرق و الوسائل، فينهض من فراشه منتصف الليل و يتحمّل كلّ الصعاب من أجل سلامة طفله، و هو ما يسمّي بـ : مَبلَغ الجُهْد؛ أي حيث لا يتوانى عن بذل أيّ جهد أو القيام بأيّة حركة، ما دام فيه عِرق ينبض و هو قادر.
و جاءت آية: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا* ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}۱ بهذا المعني أيضاً. أي على الامّة أداء النصيحة بكلّ ما يمكن، سواء باللسان أم بالقلم أم بالعمل، و لا ينبغي الاكتفاء بذكر مساوئ الحاكم و ما في الحكومة الإسلاميّة من نواقص و أمثال ذلك. فلو نُسب لابن أحدكم عيوباً معيّنة، فهل تنشرونها و تشيعونها بين الناس، أم تحاولون التستّر عليها و تسعون لإظهار محاسنه و إصلاحه قولًا و فعلًا؟ فعلى الامّة أن تسعى لإصلاح الحكومة؛ و هذا هو معني مبلغ الجهد.
الحقّ الثالث للوالى على الرعيّة: التعاون
و الحقّ الثالث للوالى على الرعيّة: التعاون؛ فعلى الامّة أن تُعِين الحاكم في تنفيذ غاياته و أهدافه الإسلاميّة (تلك الأهداف التي ترشح عن فكره) فعلى الامّة أن تسعى لتحقيق تلك الأهداف و تبذل الجهود لذلك؛ و هو حقّ للوالى علي الرعيّة.
و قد ورد هذا الحقّ أيضاً في الخطبة ٢۱٤، و كذلك في الخطبة ٣٤. أمّا في الخطبة ٢۱٤ فيقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إقَامَةِ الحَقِّ بَيْنَهُمْ"؛ و أمّا في الخطبة ٣٤، فقد ذكر ذلك بعنوان: الوَفَاءُ بِالبَيْعَةِ. و مع أنَّه قد ذكر الإطاعة و السمع بعبارة: "وَ الإجَابَةُ حِينَ أدْعُوكُمْ"، لكنّه لم يذكر التعاون بهذا التعبير، و إنّما قال: على الامّة أن تكون وفيّة في بيعتها للحاكم، الذي هو أنا.
و يختلف عنوان الوفاء بالبيعة عن عنوان التعاون، و إن كانت حقيقتهما واحدة. فالبيعة للحاكم تعني بيع الروح (باع يبيع من باع يبيعُ بَيْعاً). فالبائع يبيع نفسه و روحه و إرادته و شخصيّته و تصرّفه للحاكم، و يجعل إرادة و اختيار الحاكم فوق إرادته و اختياره، و يتخلّى عن ذلك فيما
يقوم به من أعمال و نشاطات تنفيذاً لأوامر و نواهي الحاكم و تطبيقاً لمشيئته. و هذا هو المعني التطبيقيّ للبيعة. فالوفاء بالبيعة يعني قبول رأي و اختيار الحاكم كيفما كان، و ارتضاؤه بالقلب و الروح. و هذا هو معني التعاون في الامور الحكوميّة، سواء الجزئيّة منها أم الكلّيّة، و الذي هو في عهدة جميع الامّة من أجل حفظ كيان الإسلام، و حفظ شخصيّة الحاكم، و تنفيذ البرامج التي يريدها.
هذه هي الحقوق الثلاثة التي للوالى على الرعيّة، و ثمّة ثلاثة حقوق اخرى للرعيّة على الوالى، يأتي التعرّض لها إن شاء الله.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
الدَّرْسُ السَّابِعُ وَ الأرْبَعُونَ: لِلرَّعِيَّةِ عَلَى الوَالِي حَقُّ الحُرِّيَّةِ وَ المُرَاقَبَةِ وَ الاهْتِمامِ بِصحَّةِ أبْدَانِهِمْ وَ أنْفُسِهِمْ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
للرعيّة على الوالى ثلاثة حقوق:
الأوّل: حفظ أرواحهم و أموالهم و أعراضهم.
الثاني: حقّ الحرّيّة في الوسيلة و الهدف للمسلمين، و كذا الحال بالنسبة لليهود و النصارى الذين هم في ذمّة الحاكم الإسلاميّ ما لم يتآمروا على الحكومة.
الثالث: حقّ الرعاية و الحماية لأجسامهم و أرواحهم.
أمّا الحقّ الأوّل، الذي هو حفظ أرواحهم و أموالهم و أعراضهم فيدلّ عليه الخطب الواردة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله في عرفات و مِنى.
خطبة رسول الله صلّى الله عليه و آله في عرفات في حجّة الوداع
نصب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم خيمته في حجّة الوداع في اليوم التاسع (عرفة) في نَمِرَة۱ و عند زوال الشمس حيث لا بدّ للحجّاج
أن يكونوا في عرفات، طلب رسول الله صلّى الله عليه و آله ناقته القَصْواء۱ فامتطاها و سار بها إلى أن وصل إلى وسط وادي عرفات، ثمّ وجّه خطابه إلى الناس قائلًا:
"إنَّ دِمَاءَكُمْ وَ أمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. ألَا كُلُّ شَيءٍ مِنْ أمْرِ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي؛ وَ دِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ؛ وَ إنَّ أوَّلَ دَمٍ أضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةِ بْنِ الحَارِثِ؛ وَ كَانَ مُسْتَرْضِعاً فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَهُ هُذَيْلٌ. وَ رِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ؛ وَ أوَّلُ رِباً أضَعُ رِبَانَا رِبَا العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَإنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ".٢
و تدل هذه الرواية الشريفة بنحو النصّ على حرمة دم المسلم و ماله، إلى الحدّ الذي يقول فيه رسول الله صلّى الله عليه و آله: إنَّ حرمته كحرمة شهر ذي الحجّة و كحرمة الحرم- و الذي هو مكان محترم و لا يجوز القيام فيه بأعمال و تصرّفات كثيرة يجوز ارتكابها في مكان آخر- و كحرمة يوم عرفة الذي لا يحقّ لأحد فيه أن يعتدي على أموال و نفوس الآخرين؛ أيّاً مَا كَانَ.
و لذلك نجد فقهاءنا رضوان الله عليهم، بل فقهاء أهل السنّة الذين ينقلون و يقبلون هذه الروايات أيضاً، يعتبرون حفظ أموال المسلمين و أرواحهم من الاصول المسلّمة. فعلى الوالي و الحاكم أن يحافظ على أموال
و دماء المسلمين. أي من مسئوليّات الحكومة أن لا تسمح بهدر دماء المسلمين و تلف أموالهم؛ فإذا سُفِك دم ما فالدولة هي المسئولة عن ذلك، إذ عليها ألّا تسمح بسفك دماء أبناء الشعب. فحراسة الشعب و المحافظة عليه من مسئوليّات الدولة، و لهذه المهام تمّ تأسيس القوّات المسلّحة و جهاز الشرطة في حكومة الإسلام، و على أساس توجيه رسول الله القاضي بلزوم حفظ دماء الناس.
و كذا يجب المحافظة على أموالهم و عدم السماح بسرقتها؛ فالحاكم الإسلاميّ مكلّف بأن يُبادر إلى الاقتصاص بشكل فوريّ فيما إذا سفك دم أحد ما، و إلى إقامة الحدّ على السارق و قطع يده- فيما لو تحقّقت شرائط الحدّ- حين ارتكابه للسرقة، ليشعر الناس بأمان كامل على أرواحهم و أموالهم، و يعيشوا في طمأنينة في أيّ مكان و ظرف كانوا، في الصحاري و البحار، و في منازلهم و أوطانهم، و في سفرهم و حضرهم؛ فهذا من وظائف الحكومة الإسلاميّة.
أمّا الربا فإنَّه ليس من الأموال، لما قام به النبيّ صلّى الله عليه و آله من إسقاط جميع الأموال التي كانت في ذمم الناس بصفة ربح و فائدة من جرّاء القروض الممنوحة في الجاهليّة. و لتطبيقه هذا الحكم على العبّاس أوّلًا الذي كان يرابي و يأخذ الفوائد من الناس على قروضه. فالواجب أداء أصل المال فقط؛ {فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ}.۱
فعلى حكومة الإسلام أن تُقيم معاملاتها و اقتصادها على أساس {لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ}. و الربا حرام حتّى لو كان درهماً واحداً. و جميع الأنظمة المصرفيّة التي تعتمد الربا و الفوائد على المال مرفوضة و مخالفة
للُاصول الإسلاميّة المسلّمة، حتّى لو كانت بنسبة واحد في المائة أو أقلّ من ذلك.
و دماء المواطنين في الحكومة الإسلاميّة و أرواحهم محترمة، سواء كان انتماؤهم بعنوان الإسلام أو بعنوان ذمّة الإسلام. و بالطبع، و كما بيّنا سابقاً، فدية المسلم تختلف عن دية الذمّيّ، و لا يمكننا القول بأنَّ اليهود و النصارى متساوون مع المسلمين في جميع الحقوق و حتّى في قيمة أرواحهم بمجرّد كونهم في ذمّة الإسلام و يعيشون في بلد الإسلام، و بمجرّد انتماء اولئك للبلد الإسلاميّ.
فقيمة نفس المسلم في دية الخطأ- أو قتل العمد إذا تمّ التنازل إلى الدية- تساوي ألف دينار مسكوك من الذهب؛ بينما دية الذمّيّ تساوي ثمانمائة درهم، أي أقلّ من عشر دية المسلم. فمن مسئوليّات الحكومة حفظ أرواح المسلمين و أهل الذمّة الذين هم في ذمّة الإسلام، و يجب على الحاكم ألّا يسمح بقتل مسلم أو ذمّيّ. و أمّا من لا يعيش في ذمّة الإسلام فليس له قيمة، و دمه أيضاً غير محترم.
نجد أنَّ فقهاءنا رضوان الله عليهم قد تمسّكوا في كتبهم الفقهيّة بحديث: "النَّاسُ مُسَلَّطُونَ عَلَى أمْوَالِهِمْ وَ أنْفُسِهِمْ".
أي ليس لأحد أن يُجبر آخراً على عمل، أو أن يسفك دمه، أو يأكل ماله، أو يأمره (قهراً أو كرهاً) بصرف ماله في مجال خاصّ.
و يقول النبيّ صلّى الله عليه و آله: إنَّ دماءكم و أموالكم محترمة مثل هذا اليوم (عرفة). أي هي محترمة بأعلى درجات الاحترام. و كما ليس لأحد أن يأخذ مال شخص آخر و يصادره و يتصرّف فيه، فكذلك ليس له أن يجبر صاحب ذلك المال على صرف ماله في طريق خاصّ كإيجار بيته مثلًا لشخص معيّن، أو بيعها بقيمة أقلّ من قيمة السوق، أو تسليمها إلي
فلان من الناس. و بشكل عامّ، فكلّ شيء يخالف إطلاق الرواية مرفوع بحديث "النَّاسُ مُسَلَّطُونَ عَلَى أمْوَالِهِمْ وَ أنْفُسِهِمْ".
و هنا لا بدّ من وقفة، إذ: هل هذه الرواية هي عين الرواية الواردة عن المعصوم عليه السلام؟ أو هي مفاد و مضمون نفس خطبة رسول الله صلّى الله عليه و آله حيث يقول: "أمْوَالُكُمْ وَ أنْفُسُكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا؟"
و النتيجة واحدة على كلا التقديرين، لكنّ نفس هذه الرواية قد رويت في بعض كتب العامّة بهذا اللفظ عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و قد تلقّاها أصحابنا أيضاً بالقبول، و لذا ذكروها في كتبهم الفقهيّة، و على الرغم من عدم وجود سند لهذه العبارة عن المعصوم عند الخاصّة، و لكنّ فقهاءنا قبلوها و عملوا بها؛ و ذلك لأنَّا لا نردّ جميع الروايات المنقولة عن العامّة، بل نقبل الروايات التي تكون مقبولة و مطمئنّة. و هذه الرواية من تلك الروايات القابلة للقبول. هذا مع ما للخطب الواردة عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في عرفات التي تؤيّد هذا المطلب.
خطبة الرسول الاكرم صلّى الله عليه و آله في مني بعد تركه عرفات
و أمّا خطبة النبيّ صلّى الله عليه و آله في مني، فهي شاهد على كلامنا أيضاً. فحين توجّه النبيّ من عرفات إلى مني أردف الفضل بن العبّاس خلفه، و عند ما و صلوا إلى وادي مُحَسِّر حرّك ناقته قليلًا و سار من الطريق المنتهية إلى جمرة العقبة إلى أن وصل إلى هناك، و بعد رمي جمرة العقبة، و حينما كان النبيّ بين الجمرات ركب ناقته أو بغلته الشهباء و أنشأ هناك خطبة مطوّلة، و هي الخطبة المعروفة و المشهورة لرسول الله صلّى الله عليه و آله التي تبدأ بـ :
"نَضَّرَ اللهُ وَجْهَ عَبْدٍ سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَ حَفِظَهَا ثُمَّ بَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيْهٍ، وَ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أفْقَهُ
مِنْهُ. ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إخْلَاصُ العَمَلِ لِلَّهِ، وَ النَّصِيحَةُ لأئِمَّةِ الحَقِّ، و اللزُومُ لِجَمَاعَةِ المُؤْمِنِينَ؛ فَإنَّ دَعْوَتَهُمْ مُحِيطَةٌ مِنْ وَرَائِهِمْ.
ثمّ قال: لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنَنِي عَلَى مِثْلِ حَالِي هَذِهِ وَ عَلَيْكُمْ هَذَا! هَلْ تَدْرُونَ أيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ وَ هَلْ تَدْرُونَ أيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ وَ هَلْ تَدْرُونَ أيُّ يَوْمٍ هَذَا؟!
فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ! هَذَا البَلَدُ الحَرَامُ، وَ الشَّهْرُ الحَرَامُ، وَ اليَوْمُ الحَرَامُ.
قَالَ: فَإنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَ أمْوَالَكُمْ كَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا، وَ كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا! ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟! قَالُوا نَعَمْ!
قَالَ: اللّهُمَّ اشْهَدْ!
ثُمَّ قَالَ: وَ اتَّقُوا اللهَ {وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}۱. فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا!"
فيدعو هنا أيضاً إلى حفظ المال و حدوده، و إلى تقوي الله و إعطاء الناس حقوقها و أملاكها و عدم البخس و النقصان في ردّ أموال الناس و إعطائها في المعاملات و في دفعها بنحو كامل لهم، و عدم الفساد في الأرض، و إلى لزوم ردّ الأمانات لأصحابها.
هدر دماء الجاهليّة و الربا المأخوذ في ذلك الزمان
ثُمَّ قَالَ: "النَّاسُ فِي الإسْلَامِ سَوَاءٌ. النَّاسُ طَفُّ الصَّاعِ لآدَمَ وَ حَوَّاءَ. لَا فُضِّلَ عَرَبِيٌّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَ لَا عَجَمِيٌّ عَلَى عَرَبِيٍّ إلَّا بِتَقْوَى اللهِ! ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!
قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللّهُمَّ اشْهَد!
ثُمَّ قَالَ: كُلُّ دَمٍ كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي. وَ أوَّلُ دَمٍ
أضَعُهُ، دَمُ آدَمَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الحَارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؛ وَ كَانَ آدَمُ بْنُ رَبِيعَةَ مُسْتَرْضِعاً فِي هُذَيْلٍ، فَقَتَلَهُ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ؛ وَ قِيلَ: فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَهُ هُذَيْلٌ. ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟! قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللّهُمَّ اشْهَدْ!"
و على كلّ تقدير، فبما أنَّ ابن عمّي هذا عند ما قُتل كان مُشركاً و لم يؤخذ بثأره إلى الآن فلا حقّ لأوليائه الذين هم أولياء الدم من الآن فصاعداً بالاقتصاص من الذين قتلوه بعد أن دخلوا في الإسلام، فقد سفك دمه في الشرك، و قتلته الآن مسلمون، و دم المشرك مهدور؛ فلا يمكن أخذ الدية من المسلم مقابل دم المشرك. و لذا، تسقط الدية.
ثُمَّ قَالَ: وَ كُلَّ رِباً كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي؛ وَ أوَّلُ رِباً أضَعُهُ رِبَا العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ. ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟! قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللّهُمَّ اشْهَدْ!۱
كما نلاحظ هنا أنَّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله قد اعتبر دم المسلم و ماله محترماً بالنحو الذي بيّنه في خطبة عرفات و بنفس الشكل الذي استشهد به؛ فدم غير المسلم و ماله غير محترمين ما دام لم يدخل في عهدة الإسلام. بينما دماء و أموال المشركين الذين يدخلون في عهدة الإسلام- بواسطة المعاهدة- لها قيمة و محفوظة، إذ إنَّ عنوان المعاهدة يجعل المسلمين متعهّدين بحفظ دم الكفّار، فكلّ مشرك يدخل في ذمّة الإسلام فدمه و ماله محترمان على أساس تلك المعاهدة. أمّا في غير هذه الصورة فغير المسلم و إن لم يُعاهد، فليس له أيّ احترام أو قيمة.
إنَّ قيمة الأشخاص عند الله بإيمانهم و إسلامهم، فمن لا يؤمن بالله و الإسلام مثله كمثل البهائم، حتّى أنَّه لا يجب دفن جسده أيضاً فيما لو
سقط ميّتاً في الصحراء، و يبقي هناك إلى أن يذوب بحرّ الشمس أو تفترسه الحيوانات، مثله في ذلك كمثل الحيوان الميّت.
فالإسلام هو الشيء الوحيد الذي يمنح الإنسان قيمة و يجعله صاحب شرف، و جميع المسلمين، عالمهم و جاهلهم، كبيرهم و صغيرهم، أسودهم و أبيضهم، طفلهم الرضيع و عجوزهم متساوون من حيث قيمة الدم. فلو قتل شيخ عجوز طفلًا رضيعاً حديث الولادة و هو عالم و متعمّد، فإنَّ أولياء الدم يستطيعون قتل ذلك الشيخ العجوز، و إن امتلك الأموال الطائلة و العلم الوفير و الجاه العظيم. فدماء الجميع متساوية، و شرف الإسلام يعطي القيمة للمنتمي إليه.
يقول النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله: إنَّ جميع الناس من آدم، و هم كطفّ الصاع. فعند ما يُملأ الوعاء لا يبقي فيه موضع أو مجال، و الناس أيضاً من جهة انتسابهم لآدم و حوّاء متساوون، و هم عند الله في ذلك كطفّ الصاع. فالذي يُميّزهم و يفضّل بعضهم على بعض هو الإسلام و الإيمان و التقوي. و لذا، يفقد الكفّار و المشركون القيمة لعدم إيمانهم بالمبدإ.
فالسيّد و الخادم متساويان في القيمة و الدم. كما أنَّ أموالهم متساوية القيمة. فإذا ارتبط السيّد مع خادمه في معاملة، فلا يمكنه أن يعطيه مقداراً معيّناً و يأخذ منه ضعف ذلك، فهذا لا يجوز و إن كانت المعاملة مع خادمه، لأنَّ الربا في المكيل و الموزون حرام، و يجب أن يُراعى الكيل و الوزن، و تتمّ المعاملة بكيل و وزن متساويين. و الدماء أيضاً متساوية؛ فلو قامت السيّدة بقتل خادمتها مثلًا، فبإمكان أولياء الدم الاقتصاص من نفس السيّدة و يقتلونها في مقابل قتلها للخادمة. و هذا حكم عامّ، و على الوليّ الفقيه و على الدولة الإسلاميّة أن يحافظا على جميع المسلمين و يحموهم على ضوء ما ذكرناه.
لَا يَحِلُّ دَم امْرئ مُسلِمٍ إلَّا بِإحْدَى ثَلَاثٍ
لكنَّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله قد استثني حرمة دم المسلمين في ثلاثة موارد، إذ يجوز قتل المسلم فيها، و هي: الأوّل: الارتداد، و الثاني: زنا المُحْصِن، و الثالث: القصاص۱.
يروي الفرّاء في (الأحكام السلطانيّة) عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنَّه قال:
"لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إيْمَانٍ، وَ زِناً بَعْدَ إحْصَانٍ، وَ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ".٢
فيحرم سفك دم الرجل المسلم أو المرأة المسلمة إلّا بإحدى ثلاثة امور:
الأوّل: الكفر بعد الإيمان، بأن يرتدّ الإنسان بعد إسلامه، و ذلك بالشروط و الخصوصيّات المذكورة في الكتب الفقهيّة؛ لأنَّ الارتداد يوجب الكفر، و الكفر بهذا الشكل موجب للقتل. و بالطبع، لا بدّ من ثبوت الارتداد عن طريق المحكمة، و ليس لكلّ شخص التصرّف في القتل. فلو تلفّظ شخص- مثلًا- أمام شخص آخر بكلام يدلّ على الارتداد، فليس من
حقّ المستمع أن يقتل القائل، لأنَّ هذه الوظيفة من مسئوليّات الحاكم.
كما لا يخفي أنَّ هذا الحكم مختصّ بالرجال، و أمّا لو ارتدّت المرأة؛ فلا تقتل، بل تحبس إلى أن تتوب و ترجع للإسلام.
الثاني: زنا المُحْصِن. الإحصان يعني الصيانة؛ فتارة يزني الرجل دون أن يكون محصناً أو المرأة دون أن تكون محصنة، أي لا يكون هناك قدرة لدي الرجل للوصول إلى زوجته أو لا يكون للمرأة زوج، ففي هذه الصورة لا يكون حكم الزاني الرجم.
أمّا إذا كانت الزانية ذات زوج و كانت تحت إحصانه، أو كان الرجل متمكّناً من الوصول إلى زوجته، فيكون ارتكاب الزنا في هذه الصورة موجب للرجم؛ فلا يجلدان، لأنَّ الجَلْد ليس حدّهما، و لا بدّ لهما من الرجْم. أمّا إذا كان الرجل لا يمتلك زوجة أساساً، أو كان لديه زوجة لكنّها كانت مسافرة و لا يتمكّن من الوصول إليها، فعلى كلا التقديرين كان الزنا زنا غير المحصن و حكمه الجلد؛ و هنا يجب أن يُضرب مائة جلدة فقط.
الثالث: قتل النفس، أي قتل المسلم دون ارتكاب المقتول قتل أحد. فلو قتل المسلم مسلماً آخر فيستطيع أولياء الدم أن يقتلوا القاتل. فلم يجعل الإسلام حرمة للدم في هذه الموارد الثلاثة، و قد استثناها من ذلك الحكم. فإذا قام أحد المسلمين بواحد من هذه الامور الثلاثة فعلى حاكم الشرع أن يقتله بعد ثبوت الأمر. و أمّا حرمة الناموس، فهي في عهدة حاكم الشرع أيضاً كحرمة النفوس؛ فحاكم الشرع مسئول عن حفظ نواميس المسلمين. و ناموس المسلم يعني ابنته و ابنه و عياله و مَن يرتبط به. فلو قام الإنسان بسفر ما و بقيت عائلته بمفردهم، فعلى الحاكم أن يحميهم من تعدّي اللصوص و أصحاب النوايا السيّئة و أن يعدّ جهازاً أمنيّاً لهذا الأمر، و يهتمّ بهم كاهتمامه بحراسة نفسه و أمواله. فعلى الحاكم المسلم أن
لا يمسح بانتهاك أعراض المسلمين، كمنعهم من الذهاب إلى الأماكن التي يتعرّضون فيها للتعدّي، أو التي يحتمل الاعتداء عليهم فيها، كدور السينما و المسابح، و التي هي من أماكن الفحشاء و المنكر- في المجتمعات الوضعيّة-؛ و على الحاكم المسلم إغلاق هذه الأماكن و تغييرها.
و إضافة إلى ذلك، فإنَّ إقامة الحدود على المعتدين و الزناة من الجلد و الرجم يوجب حفظ النواميس. فلو أقام الحاكم الحدّ على المعتدي، فإنَّ هذا يوجب حذر الباقين و امتناعهم عن هذه الأعمال.
و من موارد الحكم بالقتل في الزنا هو الزنا الإكراهيّ. فلو دخل رجل إلى بيتٍ ما و أكره امرأة على الزنا فلا تُقتل تلك المرأة و إن كانت محصنة، لأنَّها كانت مكرهة و لو ثبت الإكراه عند الحاكم، فإنَّها لا تُجلد أيضاً، بينما يجب قتل الزاني.
و عقوبة الزنا الرجم في عدّة موارد؛ أحدها: زنا المحصنة. و الثاني: الزنا بالمحارم (البنت و الاخت و الامّ). و الثالث: زنا الذمّيّ بالمرأة المسلمة، حيث يجب قتل الذمّيّ. و منها أيضاً: مورد الإكراه، حيث يجب أن يُرجَم المُكرِه.
المحافظة على أرواح و أموال و أعراض المسلمين في عهدة الوالى
على حاكم الشرع الذي هو حامي و حافظ نواميس المسلمين أن يطبّق الحدود، و يحفظ جميع نواميس الناس من خلال تطبيقه للحدود. و عليه، فإنَّ لحفظ نواميس الناس دائرة واسعة من تصحيح و تحسين عمليّة التثقيف الإسلاميّة في المدارس و المراكز، و التوجيه العامّ الذي يرفع مستوي العفّة، و يُخفّف من مستوي الفحشاء، و يجعل الرجال و النساء في درجة من المصونيّة و العفّة الباطنيّة، كما يجب أن تتمّ الحراسة الخارجيّة بواسطة رجال جهاز الأمن (الشرطة) بشكل جيّد، و من الضروريّ أيضاً تنفيذ
الأحكام السياسيّة و الجنائيّة بكلّ قوّة لكي تحفظ نواميس الناس، و إلّا فليس تحقيق ذلك بالأمر الهيّن.
و أمّا حفظ الأعراض فهو أيضاً في عهدة الحاكم. فلا ينبغي للحاكم أن يسمح بهتك عرض مسلم، و هذه مسألة مهمّة جدّاً. فنحن لا نجد في أيٍّ من قوانين الدنيا أنَّ حفظ أعراض الناس من مسئوليّات الحاكم و المحكمة و الدولة، كما أنَّ صيانة الأخلاق و العقيدة و الإيمان أيضاً ليس في عهدتهم، فاولئك يهتمّون بحفظ المسائل الجسميّة فقط، بينما المهمّ في الإسلام هو حفظ الامور المعنويّة و الروحيّة، و هذا ما سنتعرّض له إن شاء الله فيما بعد.
و سيقتصر كلامنا حول مسألة العِرض فقط؛ فحفظ العرض من مسئوليّات الحاكم، و لا ينبغي له أن يسمح بهتك عرض مسلم. كما أنَّ عليه مساعدة الفقراء من بيت مال المسلمين، و توزيع حصصهم من الزكاة و الصدقات، بالإضافة إلى تدبير امور المحتاجين و المساكين بأيّ طريق ممكن وفقاً للقواعد و التوجيهات الواردة في الشرع و سنّة النبيّ صلّى الله عليه و آله، و من دون أن ينتبه الآخرون إلى ذلك. و المراد بذوي الحاجات أمثال أصحاب الأمراض و العاهات، كمن كُسرت رجله مثلًا، أو المبتلين بالقروض، أو المحتاجين إلى بيت للسكن، أو كمن يحتاج لمبلغ من المال لكي يزوّج بعض أبنائه أو يجهّز بعض بناته، و ما شابه ذلك.
و لا يعني هذا أنَّ يسمح لهم الحاكم بالجلوس في منازلهم و يتركون العمل و الكسب فيتحوّلوا إلى عبء على المجتمع، بل يقوم بتأمين حاجاتهم و جبران نقائصهم بشكل متوازن مع طبيعة عملهم و كسبهم.
ليس الإسلام دين الإسراف، و على الحاكم أن يراقب الجميع من خلال دقّة نظر فاحصة؛ إذ لا ينبغي له أن يعطي شيئاً لمن له القدرة على العمل، لأنّه يلجأ إلي التقاعس و الاستجداء كحال كثير من المتسوّلين ممّن
يعيشون بين الناس، بل لا بدّ من اعتقال هؤلاء و تعزيرهم و ضربهم حتّى يتركوا الاستجداء؛ و ذلك لحرمة الاستجداء في الإسلام بأيّ لباس كان.
و الحاكم مكلّف بتأسيس جهاز و دائرة خاصّة لمعالجة حاجات الناس، فكم من محتاج يعيش أشدّ حالات العسر و الضيق و قد منعته عفّته من أن يعلم بحاله حتّى أقرب الناس إليه كالأهل و الأقرباء و الجيران! فعلى الحاكم أن يهتمّ بهكذا اناس و يسدّ احتياجاتهم إلى درجة الاكتفاء لا أكثر؛ كما عليه تأديب غير المحتاجين ممّن يعيشون كلّا على المجتمع، و يضع عليهم الجواسيس بشكل سرّيّ ليتمكّن من منعهم من الاستجداء ثانية، فإذا تكرّر ذلك منهم، فلا بدّ و الحال هذه من اعتقالهم و تعزيرهم، و كلّما تكرّر منهم الاستجداء تكرّر التعزير أيضاً. و ينبغي له أن يوفّر لهؤلاء فرص عمل مناسبة ليتركوا هذه التصرّفات. فهذا من مسئوليّات الحاكم، أي يجب أن تكون أعراض و نواميس الناس- رجالًا و نساءً- محفوظة.
و هذه مسألة مهمّة جدّاً، فكثيراً ما يُشاهَد اناس يقومون بالاستجداء و يريقون ماء وجوههم دون أيّ إباء عن ذلك. كما يري اناس آخرون- في منتهي العفّة و الحياء- يموتون بسبب افتقارهم للمال الذي يخوّلهم مراجعة الطبيب! فالاهتمام بأعراض الناس و معالجتها من وظائف الحاكم المهمّة.
رواية أمير المؤمنين حول لزوم معالجة الوالى أمر الرعيّة
يذكر المرحوم الشيخ الحرّ العامليّ رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام حول إرسال خمسة أوساق۱ من التمر لشخص لم يكن قد طلبها منه
عليه السلام. و أصل الرواية عن الإمام الصادق، إذ قال:
"إنَّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ إلى رَجُلٍ بِخَمْسَةِ أوْسَاقٍ مِنْ تَمْرِ البُغَيْبِغَةِ- وَ فِي نُسْخَةٍ اخْرَى: البَقِيعَةِ- وَ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَرْجُو نَوَافِلَهُ وَ يُؤَمِّلُ نَائِلَهُ وَ رَفْدَهُ؛ وَ كَانَ لَا يَسْألُ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ لَا غَيْرَهُ شَيْئاً.
فَقَالَ رَجُلٌ لأمِيرِ المُؤْمِنِين عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَ اللهِ مَا سَألَكَ فُلَانٌ؛ وَ كَانَ يُجْزِيهِ مِنَ الخَمْسَةِ أوْسَاقٍ وَسْقٌ وَاحِدٌ!
فَقَالَ لَهُ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا كَثَّرَ اللهُ فِي المُؤْمِنِينَ ضَرْبَكَ! اعْطِي أنَا وَ تَبْخَلُ أنْتَ؟!
لِلَّهِ أنْتَ! إذَا أنَا لَمْ اعْطِ الَّذِي يَرْجُونِي إلَّا مِنْ بَعْدِ المَسْألَةِ، ثُمَّ أعْطَيْتُهُ بَعْدَ المَسْألَةِ، فَلَمْ اعْطِهِ إلَّا ثَمَنَ مَا أخَذْتُ مِنْهُ؛ وَ ذَلِكَ لأنِّي عَرَّضْتُهُ أنْ يَبْذُلَ لِي وَجْهَهُ الَّذِي يَعْفِرُهُ فِي التُّرَابِ لِرَبِّي وَ رَبِّهِ عِنْدَ تَعَبُّدِهِ لَهُ".۱
لاحظوا رقيّ بيانه إذ يقول عليه السلام: إنَّ ماء وجه المسلم له من الأهمّيّة و القيمة، بحيث إنَّه لا يمكن أن يُبادل بشيء، و إنَّ على المسلم أن يحفظ وجهه لأجل السجود فقط، و أن ينحصر خضوعه في عبادته لربّه و حسب؛ فلا ينبغي له أن يبذل وجهه لأحد في مقام السؤال؛ فإنَّ وجه الإنسان و عرضه غالٍ إلى الدرجة التي يساوي فيها حقيقة الإنسان؛ فإذا زال ماء وجه المرء زالت شخصيّته.
و إذا سأل فقد بذل نفسه، أي قد جعل نفسه في المستوي الداني للسؤال. و قد جعل الله هذا الوضع خاصّاً به وحده، فلا يحقّ لأيّ مسلم أن يعفّر وجهه بالتراب و لا يحقّ له بالسجود إلّا لربّه، و لا يحقّ لأيّ مسلم أن
يسأل أحداً غير الهه.
إنّك تطلب منّي أن لا أعطيه حتّى يعجز و يأتي فيسألني! فعندها يكون ذلك الشيء الذي اعطيه إيّاه ثَمَنَ مَا أخَذْتُ مِنْهُ؛ و ما سآخذه ليس بالشيء القليل. لقد أعطيته الآن خمسة أوساق من التمر، لكنّي لو كنت قد أعطيته بعد أن سألني فإنِّي أكون قد أخذت منه شيئاً لا يمكن أن يحلّ محلّه أيّ شيء آخر، و هو شخصيّته و ماء وجهه الإسلاميّين و الإنسانيّين.
وصيّة الامير: وَ أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَ إنْ سَاقَتْكَ إلَى الرَّغَائِبِ
و من جملة الامور التي يكتبها أمير المؤمنين عليه السلام للإمام الحسن أثناء رجوعه من صفّين ما يلي:
"وَ أكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَ إنْ سَاقَتْكَ إلَى الرَّغَائِبِ؛ فَإنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً. وَ لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً".۱
و من جملة كلماته: "وَ احْتَجْ إلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أسِيرَهُ، وَ اسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ، وَ امْنُنْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أمِيرَهُ".٢
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد
...۱
الدَّرْسُ الثَّامِنُ وَ الأرْبَعُونَ: تَعْذِيبُ المُتَّهَمِ لأخْذِ الاعترافِ مِنْهُ مَمْنُوعٌ وَ لَا قِيمَة لِلإقْرَارِ بَعْدَ التَّعْذِيبِ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
بيّنا أنَّ للرعيّة على الوالى ثلاثة حقوق: الأوّل: حقّ المحافظة على نفوسهم و أموالهم و نواميسهم و أعراضهم. و الثاني: حقّ الحرّيّة الشخصيّة و الحرّيّة في الرأي و القانون. الثالث: حقّ تدبير امورهم من خلال تأمين حاجاتهم الجسميّة و الروحيّة. و بيّنا بعض الامور- في الدرس السابق- حول لزوم رعاية حفظ أرواح و أموال و نواميس و أعراض المسلمين على الوالى.
و أمَّا حقّ الحرّيّة الشخصيّة: فبمنحهم الحرّيّة كما يختارون في حياتهم الشخصيّة، و أن لا يتعرّضون لأيّ ملاحقة أو تهديد، و لا يتمّ اعتقال أحد أو سجنه و معاقبته بمجرّد الاتّهام، و لا يجوز إقامة الحدّ على أحد أو تعزيره ما لم يثبت الذنب عند الحاكم.
و ورد في سيرة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، أنَّه: بينما كان يخطب، قام بهز بن حكيم و قال: يا رسول الله! بأيّ ذنب يُعتقل
جيراني؟ فلم يهتمّ رسول الله صلّى الله عليه و آله به؛ فقام ثانية و اعترض في أثناء الخطبة، فلم يهتمّ الرسول صلّى الله عليه و آله؛ و في المرّة الثالثة، عند ما اعترض و طلب التوضيح حول اعتقال اولئك الأشخاص، أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله بإطلاق سراح جيرانه.۱ و من هنا، يتحصّل أنَّه لا يمكن اعتقال أحد بمجرّد الاتّهام.
قد يقول البعض: إنَّ الحبس على نوعين؛ الأوّل: الحبس عقوبة و مجازاة. و الثاني: الحبس لأجل التحقيق.
فالحبس لأجل العقوبة هو أن يُلقي البعض في السجن لمدّة محدودة بحكم من الحاكم بعد ثبوت الذنب لأجل تأديبه و جزاء لذنبه و جنايته. و أمّا الحبس لأجل التحقيق، فهو الاعتقال من أجل اكتشاف الجريمة و التحقيق في مسألة معيّنة لتتبيّن جريمة الشخص و عدمها، و للوصول إلى معرفة هل المتّهم مجرم حقّاً أم بريء.
لم يكن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم يعتقل الناس لمجرّد التهمة، و عندنا رواية واحدة فقط تفيد أنَّ النبيّ صلّى الله عليه و آله قد اعتقل شخصاً لنصف يوم لمجرّد الاتّهام، ثمّ أطلقه بعد ذلك. و مع حصول أي اتّهام كان النبيّ يجمع بين المدّعي و المدّعي عليه و يحكم على أساس إنَّمَا أقْضِي بَيْنَكُمْ بِالأيْمَانِ وَ البَيِّنَاتِ٢. و يقوم بفصل المسألة حينذاك. و كان يأخذ من المدّعي عليه ضمانة و يطلق سراحه فيما إذا لم يكن للمدّعي دليل على المدّعي عليه؛ و كان يعمل بمقتضى أدلّة إثبات الأمر المقدّمة من قِبَل المدّعي عليه أو المدّعي؛ و إلّا، يترك المدّعي عليه حرّاً. فلم يكن النبيّ
ليعتقل أحداً ما دامت الدعوي غير ثابتة عنده. ثمّ، بناءً على القول بأنَّه لا إشكال في الحبس أحياناً من أجل التحقيق حال الضرورة؛ فلا يجوز تعذيب المعتقل و إيذائه ما دام رهن التحقيق.
فلا يصحّ تعذيب شخص لمجرّد الاتّهام، و لا حجّيّة للإقرار الذي يؤخذ بواسطة التعذيب، و لا يعتبر ثابتاً. و عدم الحجّيّة نابعة من نشوء هكذا إقرار عن الاضطراب و الاضطرار. و لا يستطيع القاضي أن يحكم على أساسه، إذ يجب أن يتمّ الإقرار و الاعتراف في ظرفٍ خالٍ من التعذيب و الأذى.
خطأ قول: بقاء الإسلام متوقّف على تعذيب المتّهم قبل ثبوت الجرم
و إذا أشكل البعض بأنَّ عدم السماح باستعمال التعذيب من أجل اكتشاف الجريمة و التحقيق حول المسائل التي ترتبط بالأمن و بقاء الحكومة الإسلاميّة سوف يسبّب خللًا في هذا الموضوع، و يعرّض أمن الخاصّة أو العامّة للخطر. و عليه، فبقاء الحكومة متوقّف على تعذيب الأفراد الذين لم تُعرف أهدافهم ابتداءً، و الذين لا يعترفون أو يقرّون بذنبهم من أنفسهم. و من غير استعمال التعذيب و الضرب في هذه الحال، فسوف لا تنكشف الامور.
فالجواب هو: لتترك الامور على حالها دون أن تنكشف. فعند ما يقول الله تعالى إنَّه لا يجوز تعذيب الإنسان من دون جريمة، فلا يحقّ لنا ضرب شخص بريء أو تعريضه لأنواع التعذيب من أجل كشف بعض الامور، فقد سدّ الإسلام هذا الطريق في التحقيق و الكشف، و أجاز استعمال الطرق الاخرى بأيّ نحو تيسّرت؛ فلا يجوز كشف الحقيقة عن طريق التعذيب.
و لو ثبتت الحقيقة أيضاً من هذا الطريق، فلا حجّيّة لها؛ لأنَّ الإقرار و الاعتراف الناشئ عن التعذيب باطل. فلا يمكن أن يُعذَّب الشخص
البريء حتّى يتبيَّن أنَّ هذا المتّهم مجرم أو ليس بمجرم.
و إذا قيل: لو توقّف بقاء الإسلام على هذا الأمر جاز. لُاجيب: و أيّ إسلام هذا؟! إنَّ الإسلام الذي يقوم على هذه الضوابط التي، من جملة مقدّماتها تعذيب الإنسان البريء، و شعور الحاكم تجاه الطاهر بسوء الظنّ .. ليس هو ما يطلبه رسول الله.
فالإسلام الذي يتحدّث عنه القرآن و رسول الله صلّى الله عليه و آله و مذهب أمير المؤمنين و الذي أجمعت عليه آحاد الفرق الإسلاميّة من الخاصّة و العامّة يختلف عن هذا الإسلام، فإنَّ كلامنا في الإسلام الذي تكلّم به الله، و الإسلام الذي أراده رسول الله، و في هذا الإسلام لا يجوز تعذيب شخص بمجرّد اتّهامه؛ فليسلك أيّ طريق دون هذا الطريق. فيجب التحقيق في القضايا و مراعاة كامل الدقّة و الصبر إلى أن يتميّز المذنب من غيره، و عندئذٍ يجب محاكمة المذنب و معاقبته وفقاً للقانون، كما يخلي سبيل البريء و يُطلق سراحه.
رفض حكومة أمير المؤمنين القيام على أساس المصالح السياسيّة
الإسلام ليس دين مصالح موهومة و أوهام فكريّة، بل هو قائم على أساس الحقّ، و قد انصبّ كلّ جهاد أمير المؤمنين عليه السلام على أساس الحقّ. لقد كان بإمكان أمير المؤمنين عليه السلام و تحت واجهة مراعاة المصلحة الموهومة أن يدع ولاة الخليفة السابق في عملهم بشكل مؤقّت و لعدّة أيّام، و من ثمّ يقيلهم من أعمالهم واحداً بعد الآخر، كما كان بإمكانه أن يُهدئ بعض المتمرّدين ببعض الوعود الكاذبة و من ثمّ يهاجمهم بعد ذلك؛ و هو الاسلوب و النهج المتّبع بين سياسيّ العالم.
لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام لا يقوم بهكذا أعمال، إذ هو لا ينطق بكلام كاذب و لا يستعمل التورية، بل يقولها بصراحة: إنَّ يد المعتدين و المرفوضين من قبلي قصيرة في حكومتي، و ليس لهم حقّ المشاركة في
الحكم و لو لساعة واحدة، و لهذا عزل جميع اولئك الولاة ما عدا بعض الأفراد المعدودين.
ليس أمير المؤمنين بمسئول عن بقاء الشريعة و لا كفيل بحفظها بأيّ كيفيّة كانت، أعمّ من الصدق أو الكذب، الاستقامة أو المكر و الحيلة؛ فهو عبد من عبيد الله و حامل لتكليف الله، و قد كُلِّف بقيادة الناس على أساس الصدق و العدالة و الحقّ، فلا ينبغي أن يكون ثمّة باطل. و إن كان نتيجة إقامة الحقّ رفض الناس و ثورتهم و حدوث حروب كالجمل و صفّين و النهروان، و إن أدّى ذلك إلى سفك دمه، فهذا أمر لا علاقة له به؛ فهو يقول: لقد أمرني الله باتّباع هذا الطريق و لم يسمح لي بالسير في غير هذا النهج؛ و عَلَيّ العمل بتكليفي۱. جاء أحد قوّاد جيش الشام المعروفين إلى أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى مراحل حرب صفّين طالباً منه التخلّي
عن الحرب و منع سفك دماء جديدة على أن يعود أهل الشام إلى شامهم و يعود عليّ و أصحابه إلى الكوفة! و ربَّ كلام هذا القائل ناشئاً عن نصح و إخلاص أيضاً.
فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام: اقسم بالله إنِّي لست داعية حرب، و لا اقاتل حبّاً في القتال و سفك الدماء و ترك الأوطان و الخروج من الأهل و البيوت، لكنّني لا أستطيع أن أفعل شيئاً آخر غير هذا! إذ إنَّ المنهاج الذي يتّبعه لا يسمح له بإبقاء معاوية ساعة واحدة في عمله و إقراره على ولاية الناس.
و بالطبع، فقد نقلنا هذه الرواية بالمعني و المفاد لا بلفظها. و الشاهد هنا هو أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام لا يستطيع أن يرجع إلى الكوفة و يترك معاوية في الشام على نهجه و عمله، يعمل في الناس على غير قانون الله و العقل و الإسلام، و يدفع الخراج لأمير المؤمنين عليه السلام و يخطب باسمه و يُثني عليه و يُصلّي جهاراً.
فأمير المؤمنين عليه السلام ليس بحاجة للسلام و الصلوات و الثناء، فهو مستعدّ للرضا بأن يُلعن على المنابر و يُسبّ شرط ألَّا يتخطّى تكليفه؛ و عند ما يُضْرَبُ بالسيف على فرقه يقول: "فُزْتُ وَ رَبِّ الكَعْبَةِ!" أي لقد وصلتني صحيفة عمل طاهرة و مقبولة، فهذا مُبتنٍ على الحقّ، و أمير المؤمنين عليه السلام يعمل بتكليف الله فيقول: لا يمكن تعذيب الشخص المتّهم (سواء كان اتّهامه شخصيّاً أم نوعيّاً أم سياسيّاً أم أيّ نوعٍ آخر من الاتّهام) فربّما كان هذا المتّهم بريئاً؛ فلو كان بين كلّ ألف متّهم أو بين كلّ عشرة آلاف متّهم أو مائة ألف متّهم شخص واحد بريء، فهذا يكفي. فيجب أن تثبت الجريمة، و عندها يثبت الحدّ أو القصاص من قتل أو غيره بما أمر به الله. لكن قبل إحرازه، يحرم ارتكاب أنواع التعذيب
بحقّ الشخص البريء بحجّة أنَّه ما لم يتعرّض لذلك التعذيب فلن تنكشف الأسرار و لن تتّضح الامور و يكون الإسلام في خطر، و ما شابه ذلك.
فهذه طرق لم يأمر بها الشرع و قد سدّها جميعاً.
منح الإمام عليه السلام الخوارج حرّيّة الرأي
و أمَّا الحرّيّة في الرأي: فهي أن يكون المسلمون أحراراً في آرائهم، أي في كيفيّة سلوكهم و منهجهم و طريقتهم. بل أكثر من ذلك، أن يكونوا قادرين على اختيار الرأي المخالف أو الموافق للحكومة، و على القبول بالقانون أو عدم القبول به ما دام ذلك لا يؤدّي إلى أعمال منافية. و لا حقّ لأحد في أن يمنعهم من ذلك. فيستطيع الناس مثلًا تقليد زيد أو عمرو، و إن كان في بدء حكومة الإسلام على الجميع أن يأخذوا المسائل من الأعلم في الامّة و يقلّدوه. فالأعلم في الامّة هو صاحب الحكومة، و ليس هناك فرق بين مقام الحكومة و المرجعيّة. و قد مرّ ذكر هذا المطلب. أمّا من الناحية العمليّة فإن لم يُرِد شخص ما أن يقلّد الحاكم و رأي أن ثمّة شخص آخر أرجح منه، و لم تكن أعماله مخالفة لظواهر الإسلام، و لم يرفع شعاراً مخالفاً للإسلام، فلا إشكال في ذلك فمن حقّه أن يقلّد أيّاً شاء.
أو أن يكون البعض غير راضٍ قلبيّاً عن الحكومة، فلا مانع من ذلك، أو غير مرتضٍ للقانون الإسلاميّ، فله شأنه، و لا يستطيع الحاكم أن يُلاحقه بمجرّد كونه لا يعتقد بهذه المسائل و حسب. و أفضل نهج و أوضحه في هذا المجال و في هذه الموارد هو النهج الذي سار عليه أمير المؤمنين عليه السلام مع الخوارج.
فالخوارج اناس خرجوا على أمير المؤمنين عليه السلام و حكموا بكفره! و كانوا في الحقيقة فرقة تشبه الفوضويّة في هذا الزمان، أو النِّهلستيّة أو العَدَميّة، أي المنكرون لكلّ شيء. فقد كان الخوارج أيضاً بهذا الشكل. و بينما كان أمير المؤمنين عليه السلام يخطب، قام أحدهم
و قال:
لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى!
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: "كَلِمَةُ حَقٍّ ارِيدَ بِهَا بَاطِلٌ. لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللهِ أنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللهِ، وَ لَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ، وَ لَا نَمْنَعُكُمْ الفيءَ مَا دَامَتْ أيْدِيكُمْ مَعَنَا".۱
فمع أنَّ الخوارج قد حكموا بكفر الإمام عليه السلام على الرغم من كونه خليفة المسلمين و واليهم و حاكمهم، و مع أنَّهم لم يكونوا يرتضون جميع أعماله و أفعاله التي كان يقوم بها بصفته حاكماً للمسلمين، لكنَّه عليه السلام لم يسمح بأيّ ردّ فعل عمليّ ضدّ إنكارهم هذا، من ضَربٍ و شتمٍ و حبسٍ و أمثال ذلك، و تركهم أحراراً في عملهم.
كان قتال الخوارج بعد تجاوزاتهم و سفكهم للدماء
كان عدد الخوارج حوالى اثني عشر ألفاً، خرجوا على الإمام عليه السلام؛ فأرسل إليهم عبد الله بن عبّاس فقام بمباحثتهم و محاججتهم و أثبت لهم من الكتاب و السنّة أنَّ كلام أمير المؤمنين عليه السلام و عمله حقّ، و أنَّ نهجهم باطل. فتاب منهم أربعة آلاف شخص و رجعوا. فأرسل إليهم أمير المؤمنين عليه السلام يبلّغهم بأنَّهم أحرار و يستطيعون الذهاب أينما شاءوا شرط أن لا يسفكوا دماً و لا يقطعوا طريقاً و لا يعتدوا على مسلم، و في حالة نقضهم لهذا الشرط فالسيف كليمهم.
يقول عبد الله بن شدّاد: و الله؛ إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يقاتلهم حتّى سفكوا الدماء و أحدثوا الفوضي و قاموا بتعدّيات و قطعوا الطرق و قتلوا عبد الله بن خَبَّاب الأرَت الذي كان والياً من قبل الإمام عليهم، و بقروا بطن زوجته، و أخرجوا الطفل منها، على الرغم ما لعبد الله
من جلالة القدر و السابقة في الإسلام!
كان أبوه خبّاب بن الأرتّ من المعذَّبين في الإسلام، فقد عذَّبه كفّار قريش بشدّة في مكّة زمان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فمزّقوا ظهره بالسكاكين، و قطّعوا لحمه قطعة قطعة، ثمّ طرحوه على ظهره في صحراء مكّة الرمليّة الساخنة طالبين منه التخلّي عن الإيمان بالله و رسالة محمّد، فرفض. و قصّة خبّاب بن الأرتّ و تعذيبه معروفة في الروايات و مشهورة في كتب تراجم الأحوال و الرجال.
لقد طلب منه عمر يوماً أن يُريه ظهره ليري عمل كفّار قريش به، و عند ما كشف له عنه و نظر عمر إليه أصابه الخوف و الوحشة، و قال: إنَّ كلّ ظهر هذا الرجل كقماش يابس مُتفسّخ؛ و قتل الخوارج ابنه عبد الله الذي كان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام و على نهجه، لقبوله حكم أمير المؤمنين عليه السلام و عدم الثورة عليه، ثمّ بقروا بطن امرأته و أخرجوا ابنه منها! و حينها، لم يعد يري أمير المؤمنين عليه السلام الصبر جائزاً، فأسرع إلى محاربتهم. لقد كان عددهم ثمانية آلاف شخص، فخطبهم الإمام عليه السلام في البداية خطبة طويلة أسفرت عن رجوع أربعة آلاف شخص منهم، بينما أصرّ أربعة آلاف على موقفهم. و من جملة الذين كانوا ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام ابن الكوّاء مع عشرة أشخاص فاستدعاه أمير المؤمنين عليه السلام، فجاء مع أشياعه و مؤيّديه العشر، فتحدّث معه الإمام و احتجّ عليه، فتخلّي ابن الكوّاء عن الحرب مع أصحابه، و عندها تمّت الحجّة. فقام الإمام عليه السلام بمحاربة ما بقي منهم، فقُتلوا جميعاً ما عدا تسعة أشخاص قد لزموا الفرار.۱
و شاهدنا هنا هو في موقف الإمام عليه السلام تجاه الخوارج حيث لم يتّخذ منهم ذلك الموقف بسبب عدم قبولهم للخلافة، بل تركهم أحراراً في ممارسة أعمالهم؛ و لم يتعرّض لهم ما داموا لم يثوروا على الحكومة الإسلاميّة و على المسلمين، و لم يحدثوا الفوضي، و لم ينصبوا الرايات المعارضة لجمع أهل الباطل حولهم، و أمثال ذلك ممّا يؤدّي إلى سفك الدماء و قطع الطرق و النهب و الاعتداء على أموال و نواميس و أعراض المسلمين؛ و قد عمل عليه السلام على هذا النهج، و هذا ممّا يدلّ على أقصى درجة من حرّيّة الرأي.
و يستدعي هذا الأمر الالتفات، إلي أي حدّ يركّز الإسلام في أحكامه و قوانينه علي ملاحظة الباطن و الميل القلبي، و إلى أي درجة اهتمّ بهذا الأمر، حيث إن الذين يعتنقون الإسلام ظاهريّاً، كانوا يمتلكون أيضاً إيماناً باطنياً في نفوسهم و قلوبهم و عقيدتهم، إلّا أنَّه مع هذا، فحكومة الإسلام لا تلاحق من لا يعتقد بالإسلام و لا يؤمن قلبيّاً بالله، فلا تلاحقه لتحاسبه على عقيدته، و لا تقوم بالتفتيش حول العقيدة، و لا تتعرّض لعقيدته الباطنيّة ما دام قد ارتضى الإسلام بحسب الظاهر و لم ينهض ضدّ
الحكومة الإسلاميّة.
إطلاق حرّيّة العقيدة لاهل الذمّة ما داموا يعيشون في كنف الإسلام
فالدولة الإسلاميّة تحافظ على اليهود و النصارى و أهل الذمّة الذين لجئوا إليها و كانوا في ذمّتها، و تقوم بحمايتهم مهما كانت عقيدتهم، و هذا هو معني {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ}۱. فالدين مجموعة من الأوامر و التوجيهات التي تنبع من العقيدة، و لا إكراه في عقيدة الإنسان. فالدين و العقيدة القلبيّة غير قابلين أساساً للإكراه.
لا إكْرَاهَ، إمَّا أن تكون جملة إخباريّة أو إنشائيّة، أي لا ينبغي أن يكون ثمّة إكراه في العقيدة، فيجب أن تتوفّر مقدّمات معيّنة لكي تصلح العقيدة. لكنَّ نفس العقيدة لا تحصل بالإكراه، و لا ينبغي لها ذلك.
ثمّ يقول تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ}. قد تبيّن الرشد و الغيّ من خلال وجود و ظهور الإسلام و قوانينه و أحكامه، و أصبحا جهتين متباينتين. فتبيّنت الهداية من الضلالة، و صارت في الجهة المخالفة لها.
و يُخطئ الذين يقولون بأنَّ المستفاد من قوله تعالى: لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ هو أنَّ هدف الإسلام أن لا يكون في الدين أيّ إكراه، أي ليُترك الناس يحملون أيّ فكر أو دين يختارونه لأنفسهم، فليكونوا يهوداً أو نصارى أو أيّ شيء آخر يريدونه.
فالإسلام يقول: إنَّ على الإنسان أن يكون مسلماً و حسب: {وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}٢. {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ}.٣
فهدف الإسلام تربية الناس، و الدعوة إلى الحقّ و التوحيد. و هو لا يري قيمة لغير المسلم، و جميع أنحاء الجهاد إنَّما كانت لأجل دعوة الآخرين إلى فطرة التوحيد. و لذلك فهو يجاهد اليهود و النصارى و الذين يمتلكون التوحيد بدرجة أقلّ و يرضي منهم بأخذ الجزية إن لم يسلموا، و يتركهم أحراراً في نهجهم و طريقتهم الاولي.
فليس معني هذه الآية أنَّكم أحرار في أيّ نهج أو عقيدة تختارونهما؛ فعند ما يري الإسلام الله وحده الحقّ، و يري التوحيد وحده الحقّ، و رسالة رسول الله وحدها الحقّ، فهو لا يستطيع بعد ذلك أن يسمح باتّجاه الآخرين نحو أيّ عقيدة أو مذهب يريدون، فهذا مخالف لضرورة الإسلام.
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، ترجع إلي العقيدة لا إلى قبول الإسلام ظاهريّاً
فمعني {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ}، هو لا إجبار و لا إكراه في العقيدة القلبيّة و الباطنيّة للإنسان، أو أنَّها إخبار بأنَّه لا قدرة الوصول إلى معرفة العقيدة الباطنيّة لمن أظهر الإسلام، مهما كانت تلك العقيدة، فالآية لا تعني إذَنْ أنَّ الإنسان حرٌّ في المنهج الذي يختاره، بل مفادها و تفسيرها هو أنَّه بعد أن تبيَّن الغيّ من الرشد و امتازت الضلالة عن الهداية فالذي يتّبع الغيّ و الضلالة سوف يتوصّل بنفسه بينه و بين ربّه إلى آثار ذلك و عواقبه الوخيمة، كما أنَّ الذي يصل إلي الرشد فإنَّه يتّجه إلى الحقيقة و السعادة.
و يقع في مقابل هؤلاء آخرون يرفضون ذلك و يقولون: إنَّ الدين دين الإكراه، و يجب أن يدخل الناس في الإسلام بالإكراه و الإجبار، و الدليل على ذلك آيات الجهاد التي تأمر بقتال المشركين: {وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}۱. و بشكل عامّ، فإنَّ حياة الإسلام
مبنيّة على أساس الجهاد، فكيف يمكن القول عندئذٍ أن لا إكراه في دين الإسلام؟ فهل هناك إكراه أشدّ من أن يُجبر الإنسان على الدخول في الدين بقوّة السيف؟!
يقول الإمام السجّاد عليه السلام في الخطبة التي أوردها بالشام في حضور يزيد: أنا ابن مَن ضرب خراطيم العرب بالسيف حتّى شهدوا بأنَّه لَا إلَهَ إلَّا اللهُ.
خراطيم جمع خرطوم، و هي بمعني الأنف. أي أنَّه ضرب رءوس الناس و انوفهم بالسيف إلى أن قالوا: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ فكان على أمير المؤمنين عليه السلام أن يضرب خراطيمهم بالسيف حتّى يشهدوا بالتوحيد، و ذلك لأنَّ أصحاب الخراطيم بهائم و حيوانات، و بغير ضرب خراطيمهم بالسيف ليس ثمّة وسيلة معهم.
عند ما يكون طريق السعادة هو طريق التوحيد و الإسلام و الاستفادة من هذه المواهب العالية، لكنَّ هؤلاء يفضّلون الفرار من هذا الطريق، و تراهم على استعداد للاستسلام لأيّ دناءة و خسَّة و رذالة على أن لا يُسلموا؛ فلا بدَّ و الحال هذه من ضرب خراطيمهم بالسيف من أجل أن يسلكوا الطريق القويم؛ و هكذا هو دين الحقّ!
إنَّ الجهاد من أركان الإسلام، و عزّة الإسلام في الجهاد، و هو أمر مسلَّم. فلا شكّ إذَن في قطعيّة لزوم أن يُسلم الناس و أنَّ الدين هو دين الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ}۱؛ و الجهاد أيضاً أمر ثابت و هو من الأركان الضروريّة. و لذا، فلن تكون هذه الآية ناسخة لآية {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} كما توهّم بعض المفسّرين.
فقالوا: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} أمرٌ صحيح، لكنَّ هذه الآية كانت في بدء الإسلام، و قد وردت بعد ذلك آيات مثل: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ}۱. أو آية: {وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}٢، فنسخت آية: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ}.
فهذا الاستدلال غير تامّ، و هذه الآيات ليست ناسخة، فـ {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} تتحدّث عن العقيدة الباطنيّة لا الأحكام الظاهريّة. و على الجميع أن يسلّموا و يخضعوا للأحكام الظاهريّة و قبول حكومة الإسلام و الخضوع لولاية الفقيه و محكمة الإسلام و فتوي الفقيه، كما لا يحقّ لهم القيام بأيّ اعتراض.
و آية {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} هي في مقام العقيدة القلبيّة، و ليس لها أيّة منافاة للقتال؛ بينما آيات: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، أو {قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} و أمثال ذلك، لو كانت ناسخة لآية لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ لكانت ناسخة لمبدإ حكمها. فالحكم الذي ينسخ حكماً آخر ينسخ ملاك ذلك الحكم و مبدأه و منشؤه كذلك، مع أنَّ الله تعالى قد جعل علّة لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ في {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ}.
لما ذا لا إكراه في الدين؟ لأنَّه بعد هذه الآيات الظاهرات و الأدلّة و البيّنات قد امتاز طريق الرشد من طريق الغيّ، و ليس من معني بعد للإكراه و قد امتازت القلوب المريضة عن القلوب السليمة تلقائيّاً، و صارتا في جهتين متقابلتين.
و هذا المطلب {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ} ليس قابلًا للنسخ، و هو لا يُرفع في أيّ وقت من الأوقات. فالآيات المحكمات للقرآن و الأخبار المبيّنة للشرع ليست قابلة للنسخ، و عند ما لا تكون قابلة للنسخ فليس هناك حكم أيضاً يستطيع أن يرفع قاعدة {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} المبتنية على قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ}.
و على هذا، فـ {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} أمر باقٍ في محلّه، و آيات الجهاد باقية أيضاً في محلّها، و ليس هناك أيّ تصادم بينهما. فـ {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} ترجع إلى الأعمال القلبيّة و الاعتقاد الباطنيّ، و لكلّ شخص أن يختار العقيدة التي يُريدها دون إكراه؛ بينما {قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} تتعلّق بأحكام الظاهر و الخضوع لحكم الإسلام و الإقرار به و الاضطرار و الإجبار على قبول الإسلام.
إنَّ دين الإسلام دين عالميّ و عامّ، و على الناس أن يُصبحوا مسلمين طوعاً أو كرهاً. و هذا هو خلود الإسلام و حقيقته التي تدعو من ناحية الباطن إلى إحياء القلوب و حسب، لكنّها لا تُفتّش عن العقيدة الباطنيّة، و لا تتعرّض لها، و لا شغل لها بها، بينما تقوم من ناحية الظاهر بأشدّ مراتب حماية القوانين و الأحكام الإسلاميّة و المحافظة عليها. كان هذا هو الحقّ الثاني من حقوق الرعيّة على الوالى.
الحقّ الثالث للرعيّة على الولاة: العناية بصحّة أبدانهم و أرواحهم
و أمّا الحقّ الثالث: فهو معالجة الراعي لُامور الرعيّة من حيث تأمين حاجاتهم الجسميّة و الروحيّة. فتأمين الحاجات الجسميّة من مسئوليّات الحاكم، و عليه أن يرعي المواطنين، من خلال معرفة الفقراء، و جمع الزكاة من الأغنياء و يُقسّمها بين الفقراء المحتاجين. فهذا من حقوق الرعيّة اللازمة على الفقيه. و على الحكومة الإسلاميّة تأمين الحاجات الأساسيّة للرعيّة بأحسن و أفضل و أصلح وجه من لباس و سكن و صحّة و معالجة الفقر
و المرض بشكل عامّ. و على الحاكم أن يمنح من بلغ سنّ الشيخوخة و عجز عن العمل من بيت المال ما يكفيهم. و باختصار، فعليه تأمين معيشتهم من الصدقات التي يجمعها من المسلمين، كما أنَّ من مسئوليّات الحاكم الاهتمام بامور المعوّقين و المرضي الذين لا يستطيعون تدبير امورهم.
يقول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: "أنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ". فالذي يموت و يترك مالًا و لا وارث له، أنا وارثه. كما أنَّ دية مَن لا وارث له عَلَيَّ، فأنا الذي يدفع دية المتوفّي إن كانت عليه و ليس له من يدفعها؛ و ذلك لأنَّ وقت الدية يحلّ بمجرّد موت مَن تكون عليه، و يجب دفعها لأصحابها من دون تأخير. و يجب في هذه الحال أخذها من الحاكم، لأنَّه وارث من لا وارث له. فالدية التي يجب أن يدفعها الورّاث تتعلّق بالحاكم.
و لا تعني أنَا وَارِثُ بأنِّي وارثٌ شخصيّاً، و إنَّما تعني أنا وارث بعنوان ولاية الفقيه و ولاية الإمام و رسول الله؛ فيجب أن تصل جميع تلك الأموال التي ليس لها مُدبّر أو مالك إلى بيت المال و تقسيمها، و أنا المسئول عن تقسيمها و تنظيمها.
و السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ، و السُّلْطَانُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ تفيد: على الحاكم أن يُرمّم نقاط الضعف الموجودة عند الناس و أن يهتمّ بكلّ شيخ كبير يعجز عن العمل، سواء كان مسلماً أو ذمّيّاً، إذ كما أنَّ حكومة الإسلام مكلّفة بالمحافظة على المسلمين و حمايتهم فهي مكلّفة و مسئولة أيضاً عن المحافظة على أهل الذمّة.
إذا بلغ بعض أهل الذمّة سنّ الشيخوخة و عجزوا عن العمل أو اصيبوا بالمرض و اقعدوا أو فقدوا البصر و توقّفوا عن العمل و احتاجوا إلى الصدقة، فليس من اللازم أن يقوم أهل ملّتهم- أي خصوص اليهود أو المسيحيّين أو
الزرادشتيّين- بالتصدّق عليهم، و إنَّما يقوم الحاكم الإسلاميّ بأخذ الصدقة من ملّتهم كما و يساعدهم من بيت مال المسلمين إلى أن يصلوا إلى حدّ الكفاف.
كما أنَّ من مسئوليّات الحاكم الإسلاميّ الاهتمام بالأرامل و اليتامى؛ و عليه أن يهتمّ بامورهم على أساس صحيح و مستقيم و ثابت. و هذا الأمر بنفسه يتطلّب عدّة وزارات.
و من جملة الكتب التي الِّفت في هذا المجال، من كتب السابقين، و بيّنت كيفيّة تطبيق هذه الأحكام بشكل تفصيليّ و واضح: «الأحكام السلطانيّة» للفرّاء، و «الأحكام السلطانيّة و الولايات الدينيّة» للماورديّ، و قد بيّنا كيفيّة تنظيم و معالجة هذه الامور بشكل جيّد.
ليس في الإسلام محكمة خاصّة للبعض، فالكلّ سواء أمام القانون
لقد اتّبع الإسلام نهجاً و مساراً من ناحية الحقوق (الحقوق الواجبة) بالنسبة لشعبه، سواء من المسلمين أم أهل الذمّة، فلو اشتكي ذمّيّ مثلًا على مسلم، فليس هناك محكمة خاصّة في هذه المسألة، و إنَّما هي نفس المحكمة العامّة و ولاية الفقيه.
فسواء كان المشتكي ذمّيّاً أو مسلماً، ضعيفاً أم قويّاً، و صاحب شوكة أم لا، فليس هناك أيّ تفاوت أو تمييز بين الناس. إذ لم يجعل الإسلام حكماً خاصّاً للبعض دون البعض الآخر، و لم يعفُ عن ذنب البعض. و لم يجعل محكمة للجنايات تختصّ باناس معيّنين من أصحاب الطبقة العليا في المجتمع كالوزراء و المحافظين ليحاكموا فيها عند ارتكابهم أيّة جناية. إذ ليس هناك إلّا محكمة عامّة واحدة. و على الوليّ الفقيه أن يُراجع أعمال تلك المحكمة باستمرار و يتفقّدها بنفسه أو مَن ينوب عنه.
فليس من محكمة خاصّة لأيّ فرد من أبناء البلاد، و لا عفو لذنب مرتكب، و لا حصانة لأيّ وزير أو نائب أو مسئول تؤهّله للاستقلال في
العمل؛ فهذا ممّا لا يأت به الإسلام. و كلّ مَن يعتدي على أحد، و يُراجع المدّعي الحاكم، فينبغي جلب المدّعي عليه إلى الحاكم من دون أيّ حجاب، مهما كان التفاوت الاجتماعيّ بينهما كبيراً. فلو اشتكي أحد الرعيّة ممّن يكون في أدني مرتبة من الناحية الاجتماعيّة على الأمير و المحافظ و الحاكم المدنيّ في تلك المدينة، فينبغي معالجة شكواه كسائر الشكاوي من دون إهمال، و ليس هناك محكمة خاصّة لذلك أيضاً، و إنَّما يتمّ ذلك في نفس تلك المحكمة العامّة، فيُحضر الحاكم كلّا من الشاكي و المشتكي عليه من دون الاهتمام بأحدهما زيادة على الآخر، أو يُسلّم على أحدهما دون أن يُسلّم على الآخر؛ فيضعهما أمامه دون أيّ تفاوت، و يحكم بينهما بالحقّ.
لقد كانت سيرة رسول الله صلّى الله عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السلام في هذه المسألة واضحة جدّاً. فقد ادّعي رجل يهوديّ على أمير المؤمنين عليه السلام درعه فذهبا إلى شريح القاضي، فحكم بينهما. و الذي يجلب الانتباه هنا هو أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قد كان خليفة في ذلك الزمان و حاكماً على المسلمين، و هو الذي نصب شُريحاً للقضاء، و كان يُعدّ قاضياً تحت يده، و على الرغم من كون المدّعي يهوديّ في ذمّة الإسلام، إلّا أنَّ أمير المؤمنين لم يقل إنَّ شأني و رتبتي تفرض عَلَيَّ أن لا أحضر في محكمة كهذه، و لم يعترض على أصل إيصال المسألة إلى المحكمة، و لم يقل إنّي أنا مُظهر العدل و الإنصاف، و أنا الفارق بين الحقّ و الباطل، كلّا! فجميع هذه الامور تطرح جانباً في محكمة الإسلام.
قصّة سوادة بن قيس شاهد آخر على هذه المطالب
و قصّة سَوَادَة بن قيس التي حصلت قُبيل ارتحال النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله تُشكِّل شاهداً آخر. فعند ما طلب رسول الله صلّى الله عليه و آله من على المنبر أن يأتي كلّ مَن كان له حقّ عليه ليأخذ حقّه،
و ليأتي من يدّعي عليه مالًا أو جناية و يقتصّ منه! فجاء سوادة بن قيس و ادّعي أنَّ له حقّاً عند الرسول. و قد ذكرت قصّته في جميع الكتب.
فهذا يوضّح بشكل جيّد أن ليس للنبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أيّة ميزة على الآخرين أمام القانون على الرغم من كونه أشرف الكائنات، و لا يتخطّى حكم الله قيد شعرة.
لكنّه صلّى الله عليه و آله يري نفسه مسئولًا واقعاً بين يدي الله و لا بدّ له قبل الرحيل عن الدنيا من أداء كلّ ما عليه أمام الناس من أمانة أو إيفاء وعد، أو أنَّه مثلًا قد تعرّض لأحد بضربة أو جناية دون أن يقتصّ منه!
هذه هي حقيقة ولاية الفقيه و ولاية الإمام، و أساس الجهاز الحاكم الإسلاميّ الذي اقترحناه و عالجناه في هذه الجلسات.
إلى هنا ينتهي بحثنا و كلامنا حول ولاية الفقيه، و كان مجموع هذه اللقاءات ثمانية و أربعين لقاء، و مع أنَّ المطالب قد بيّنت بشكل واضح و بالدقّة الكافية، لكنّها كانت بشكل مضغوط، و قد ابتعدنا عن الاختصار خوفاً من وقوع خلل في إيصال المراد، و ما أردنا التفصيل الواسع و الدخول في شقوق و فروع كلّ منها خوفاً من الإطناب، فراعينا الحدّ الوسط و للّه الحمد، و قد مَنَّ الله العليّ الأعلى علينا بتوفيق ختم هذه المطالب في هذه الساعة بعد مضي ساعتين على طلوع الشمس يوم الحادي و العشرين من ذي الحجّة سنة ۱٤۱۰ هجريّة قمريّة.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد