51

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

2714
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتدبير و النظام الاجتماعي


التوضيح

تتحدّث هذه المحاضرة حول فقرة أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا وتطرح مشكلة التعارض بينها وبين ما دلّ على ضرورة التدبّر والتفكّر والتدبير والتنظيم من آيات القرآن الأمرة بالتدبّر فيه والمتحدّثة عن التدبير والنظام في السموات والأرض وسيرة الأولياء في الدعوة إلى أعلى مراتب التنظيم في مختلف مجالات الحياة.
وفي أثناء ذلك تعرّضت إلى موضوعات مختلفة:
كضرورة الاهتمام بالقرآن وتلاوته والتدبّر فيه مدى الحياة وعدم تركه للقراءة على الأموات وقد توسّعت في شاهد على التدبّر في آية ولا تقف ما ليس لك به علم
ضرورة صلاة الجمعة وأهميّتها وعينيّتها
مضامين خطبة الجمعة ومواصفات الخطيب
أهميّة الحجّ ومعنى الاستطاعة
/۱٦
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٥۱

  •  

  • ألقاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

2
  •  

  •  

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • الحمد لله ربّ العالمين

  • والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا

  • وطبيب نفوسنا أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين 

  •  

  •  

  • أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا

  • قال إمامنا الصادق لعنوان البصريّ[العبوديّة] ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله مِلكًا لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا. 

  • فالإمام الصادق عليه السلام يقول لعنوان البصريّ عندما سأله عن حقيقة العبوديّة إنّ العبوديّة في ثلاثة جمل: 

  • الجملة الأولى: أن لا يرى العبدُ مالكًا سوى الله، وأن يعدّ جميع ما يملكه ملكًا لله، وحيث أمر الله بصرفه يصرفُه، وقد ذكرنا أمورًا حول هذه الفقرة في الجلسات السابقة. 

  • والجملة الثانيةولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا

  • المسألة الثانية هي أنّ الإنسان، الإنسان السالك والإنسان العبد لا يفكّر بأيّ تدبير أمام ربّه. وطبعًا ستُذكر في الفقرات اللاحقة نتائج هذه الفقرات مبيّنة من قِبل الإمام عليه السلام.

  • هل معنى عدم تدبير العبد هو اعتماد الفوضى وعدم التفكير؟

  • فما معنى هذه الجملة التي يقولها الإمام أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا؟ أن لا يفكّر الإنسان بتدبيرٍ لنفسه، أن لا يكون له برنامج، أن لا يتوقّع عملاً. فهل يبدو هذا الأمر صحيحًا في نظرنا بهذا المعنى الظاهر والبدْوي؟ ففي النهاية نظام العالم قائم على أساس التدبير. فما هو المراد من كلام الإمام هنا؟ هل يعني ذلك أن يترك الإنسان كافّة برامجه، وأن يجعل كامل نظامه في الفوضى؟ 

  • بعض الأدلّة على ضرورة التدبير والتفكّر 

  • حينها هل يبقى حجر على حجر؟! في حين أنّنا نرى أنّ أصل وأساس نظام الخلقة تكوينًا وتشريعًا يقوم على النظام، على أساس التدبير. ونقرأ في آيات القرآن: أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها۱ لماذا لا يتدبّر٢ هؤلاء الناس في القرآن؟ لماذا لا يفكّرون في القرآن؟ لماذا يأخذ هؤلاء الناس القرآن ببساطة؟ 

  • ابتعادنا عن القرآن والتدبّر فيه

  • لماذا جعل هؤلاء الناس القرآن خاصًّا بمجالس الفاتحة ويضعونه على مائدة الزواج للتبرّك والتيمّن، أو يأخذونه أولاً إلى الدار عند الانتقال إليه تبرّكًا به؟ أمّا لو سألتهم كم أنتم مشغولون بالقرآن في الليل والنهار؟ يقولون: نقرأ في ليالي الجمعة سورة ياسين لأمواتنا، ونكتفي بهذا. فالقرآن ليس لليالي الجمعة. هناك رواية عن الإمام الرضا عليه السلام في علل الشرائع والظاهر أنّها رواية تامّة تفيد أنّ الله أمر المصلّين أن يقرأوا القرآن في صلواتهم في الأربعة وعشرين ساعة وأن لا يكتفوا بسورة واحدة لئلا يصبح كلام الله مهجورًا.٣ لكي يأنس الناس بكلام الله دائمًا، ومستحبّ أن لا يكتفي الإنسان بسورة واحدة، هناك سور عديدة في القرآن، في صباح يوم الاثنين ماذا يقرأ، وفي ليلة الجمعة ماذا يقرأ، وفي يوم الجمعة ماذا يقرأ؟ مستحبّ للخطيب في يوم الجمعة أن يقرأ في ركعتي صلاة الجمعة سورة الجمعة في الركعة الأولى، والمنافقون في الثانية. والآن يطيلون الخطبة إلى حدّ يجعلهم يقتصرون على سورة واحدة، وهذا ليس صحيحًا. فكما يحتاج الناس يوم الجمعة إلى استماع النصائح والأمور الأخلاقيّة المهمّة والسياسيّة والحكوميّة [كذلك يحتاجون إلى القرآن].

    1. سورة محمّد (٤۷)، الآية ٢٤. 
    2. هناك معنى مشتركًا بين التدبّر والتدبير وهو النظر والتفكير في العواقب والأواخر، ففي كتاب العين ج۸ ص ٣٣: التدبير: نظر في عواقب الأمور، وفي المصباح المنير، ص: ۱۸٩: (دَبَّرْتُ) الأمر (تَدْبِيراً) فَعَلْتُهُ عَنْ فِكْرٍ ورَوِيَّةٍ (و تَدَبَّرْتُهُ) (تَدَبُّراً) نَظَرْتُ فِى دُبُرِهِ وهُوَ عَاقِبَتُهُ وآخِرُهُ. ولذلك يستدل سماحة السيّد رضوان الله عليه من الأمر بالتدبّر على أهميّة التدبير، لأنّ انعدام التدبير يعني انعدام التفكير في الأمور وتنظيمها.(م)
    3. في علل الشرائع ج۱، ص ٢٦۰ عن الفضل بن شاذان: إن قال: فلم أمروا بالقراءة في الصلاة؟ قيل لان لا يكون القرآن مهجورًا مضيعًا بل يكون محفوظًا مدروسًا فلا يضمحلّ ولا يجهل. 

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

3
  • مواصفات خطباء الجمعة وما ينبغي أن يتعرّضوا إليه

  • ولا بدّ للخطيب أن يتعرّض إلى ذلك بشكل مبسوط ومفيد، أي الأمور والأحداث التي يحتاج المسلمون إلى الاطّلاع عليها والتي تجري، وإن شاء الله في الجلسات القادمة سنتكلّم حول برنامج المرحوم العلاّمة حول أمور الدولة وسيطّلع الإخوان كم كانت له نظرات راقية لم تسمعوا بها. 

  • على الخطيب أولاً أن يكون صاحب بيان جيّد بحيث لا يؤدّي كلامه إلى كسل المستمعين ومللهم. فهذا أحد شروط الخطيب في صلاة الجمعة.

  • ولا بدّ أن يكون تقيًّا بحيث تترك المواضيع أثرها النفسي على المخاطبين والمستمعين. هل التفتّم؟ لا بدّ أن يكون هو نفسه عاملاً بتلك الأمور التي يطرحها فتؤثّر طبعًا بشكل كبير، 

  • وثالثًا أن لا تكون هذه الأمور التي يطرحها مكرّرة. ففي كلّ يوم ينقل أمرًا، هذا الأسبوع يطرح أمرًا كان قد طرحه في الأسبوع السابق وكأنّه شريط يتكرّر تباعًا، فهذا لا يعود بنفع كبير على المستمعين والمشاركين في صلاة الجمعة. 

  • على الخطيب أن يذهب ويطالع خلال هذا الأسبوع روايات أهل البيت عليهم السلام الذين هم منبع الوحي ومصدر التشريع، ويتسخرج تلك الأمور المفيدة لتكامل أفكار العامّة، تكامل أفكار العامّة ـ دقّقوا ـ لا تجميد الأفكار، بل المفيدة لتكاملها، أن يأتي بتلك الروايات عن المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام، فيأتي ويبيّنها بذهن صاف وقلب خالص ونيّة طاهرة من أجل الرقيّ الفكريّ للمجتمع. إضافة إلى الشؤون الاجتماعيّة التي لا بدّ أن تطرح في صلاة الجمعة. 

  • الوجوب العينيّ التعييني لصلاة الجمعة واهتمام المرحوم العلامة بها

  • وهناك الكثير من الناس، الكثير من الفقهاء منهم المرحوم الوالد رضوان الله عليه كانوا يعتقدون أنّ صلاة الجمعة عينيّة تعينيّة يشارك فيها كلّ إنسان بشكل تعيينيّ، وأذكر أنّه في أوائل الثورة في لقاء مع قائد الثورة سماحة آية الله الخمينيّ في قم، للأسف لم تطرح الموضوعات التي كان ينوي طرحها في تلك الجلسة؛ لأنّه حدث أمر فصُرف الموعد المعطى في لقاء آخرين، ولم تطرح كافّة الأمور بشكل مفصّل. ولم يطرح سوى بضع جمل مع سماحة آية الله الخميني، وكان منها أن ما هو رأيك في صلاة الجمعة؟ ولم تكن صلاة الجمعة قد أقيمت بعد، حتّى أنّ المرحوم العلاّمة كان قد شارك في أوّل صلاة جمعة أقيمت في طهران في مسجد الإمام، ونحن كنّا نذهب أيضًا، ثمّ انعقدت صلاة الجمعة في الجامعة، في البداية كانت تقام في مسجد الإمام والذي كان يسمّى سابقًا بمسجد الشاه في طهران. فقال: أنا أعتقد أنّ صلاة الجمعة تخييريّة. وهذه عين عبارته، أي من أراد أن يذهب فليذهب، ومن لم يرد فلا يذهب، ثمّ أضاف هذه الجملة: حتّى أنّي أعتقد أنّ صلاة الجمعة في زمان رسول الله كانت تخييريّة، لا تعيينيّة وعينيّة، بل كان وجوبها تخييريًّا. فقال له المرحوم العلاّمة: أنا أقترح عليكم اقتراحًا وهو أن تشاركوا في إحدى صلوات الجمعة، حينها سترون ما إن كان اعتقادكم ومبناكم الفقهيّ سيتغيّر أم لا؟ ولكن خرب المجلس حيث كان قد استشهد العقيد قرني والذي كان رجلاً صالحًا جدًّا، ومن المجاهدين، وكان مع المرحوم العلاّمة في الثورة سنة اثنين وأربعين مع سماحة آية الله الخمينيّ والمرحوم آية الله الميلاني ـ وإن شاء الله سنتحدّث عن هذه الأمور لاحقًا ـ فكان المرحوم قرني يساعد هناك، وقد استشهد على يد جماعة الفرقان وأمثالهم، وكان رجلاً شديد الاهتمام ذا عرق دينيّ ومصرّ على عقيدته ومن الواضح جدًّا أنّ خلعه عن قيادة القوّات المسلّحة كان أمرًا معقّدًا جدًّا حيث لم يكونوا يريدون أن يكون هو على رأس الأمر، وفي زمان الشاه في الزمان السابق كان المرحوم العلاّمة يذكره كثيرًا، وكان يذكر ذكرياته معه في الزمان السابق، زمان الاستبداد، زمان الشاه، وإن شاء الله ربّما نبيّن بعضًا منها. فقد كان المرحوم العقيد قرني من الذين تحالفوا مع المرحوم العلاّمة وآية الله الميلاني في ثورة الاثنين وأربعين، هذه الثورة الإيرانيّة، ثورة إيران الإسلاميّة، حيث كان لهم مجلس تحالف، وضعوا فيه القرآن في الوسط وأقسموا أن لا يتراجعوا عن الثورة حتّى النهاية، فهذه المراسم تسمّى مراسم التحالف، وهناك من له اطّلاع عليها ولا يزال على قيد الحياة. لقد كان العقيد قرني رجلاً صالحًا جدًّا جدًّا وقد صادف ذلك اليوم يوم شهادته وجاءت أسرته إلى قم، وفجأة دخلت إلى المجلس فخرج بشكل كامل عن حالته السابقة، ولم يبق مجال للاستمرار في التباحث بين المرحوم العلاّمة وسماحة آية الله الخمينيّ، واختتم المجلس بهذه الجملة اليسيرة. 

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

4
  • وعلى كلّ حال، كان المرحوم العلاّمة يعتقد أنّ على الخطيب أن يكون حسن البيان، حسن الكلام، وعالمًا، وتقيًّا يمكنه أن يسير بالحاضرين في تلك اللحظات الملكوتيّة لصلاة الجمعة في مدارج الكمال، من الناحية الفكريّة، ومن الناحية العقليّة ومن الناحيّة النفسيّة والقلبيّة.

  • اعتراض المرحوم العلاّمة على المحاضرات التي تلقى قبل خطبة الجمعة

  • وقد قال رضوان الله عليه: هذه المحاضرات التي تلقى قبل صلاة الجمعة ليست صحيحة، وهذه هي الحقيقة، وقد كنت أذهب أنا إلى صلاة الجمعة، كنت أذهب وأجلس، فيأتي المحاضر قبل ساعة من الخطبتين ويلقي محاضرة، فتصرف طاقة المستمعين على الاستماع إليه. يجلسون ساعة كذلك وبعدها يأتي الخطيب من جديد ويشرع بالحديث ويطرح أمورًا من جديد، لم يعد للمستمعين قدرة وسعة لاستماع المطالب، وهذا الاستعداد لا بدّ أن يكون في البداية لكي يتمكّنوا من الاستفادة من كلمات الخطيب في صلاة الجمعة، ذلك الاستعداد يزول، وكنّا نشعر بذلك في أنفسنا، وكان هذا الأمر محسوسًا بشكل كامل. لذلك كان يقول: لا بدّ من إلغاء المحاضرة التي قبل صلاة الجمعة، وبدلاً منها لا بدّ أن يأتي الخطيب ويتكلّم مع الناس، ويتعامل معهم وهم في نشاط وبطاقة جديدة، وبنشاط جديد، وهذا الأمر مهمّ جدًّا. فتارة يواجه الإنسان خطيبًا جمع مطالب ناضجة قد طالعها من الروايات فقط، ويأتي ويبيّنها للنّاس، ويطرحها في تلك اللحظات المليئة بالنشاط. 

  • المضامين التي ينبغي أن تتضمّنها خطبة الجمعة

  • حتّى أنّ المرحوم الملا محمّد تقي المجلسي في شرح من لا يحضره الفقيه ـ وربّما طرحتُ ذلك قبل مدّة۱ـ كان له اهتمام بالغ بهذا الأمر حيث كان يقول: من المناسب أن يستفيد الخطيب لإلقاء المسائل الأخلاقيّة في صلاة الجمعة من أشعار مولانا محمّد البلخي ومثنوي.٢ فهذا راق جدًّا. لماذا لماذا لا يقرأ الخطيب في صلاة الجمعة بعض الأبيات بصوت رفيع؟! فما الإشكال في ذلك؟! فهل ينبغي أن تكون خطب صلاة الجمعة بالسوط والعصا؟! كلاّ ما المشكلة في أن يمزح الخطيب في صلاة الجمعة مزحتين؟! ما الإشكال في ذلك؟! ما الإشكال في أن يقرأ بعض الأبيات بصوت عال من الأشعار العرفانيّة المشبعة بالمعاني، الأشعار المشبعة الأخلاقيّة، فيقوم بشرحها للناس، ويجعل الناس في حال من النشاط، ما الإشكال في ذلك؟! هذا خير من أن يكون المجلس جافًّا وبدون أيّ نشاط يشارك فيه المستمعون كتكليف شرعيّ، هذا ليس جيّدًا. 

    1. تقدّم ذلك في المحاضرة ٤٦ من سلسلة عنوان البصري هذه. 
    2. لوامع صاحبقرانى، ج ٤، ص ٥٦٦؛ مطلع انوار، ج ٥، ص ٣۱: وإن رأى من المناسب أن يذكر طرائف الحكم والتي هي أكثر تأثيرًا، كما روي في الحسن كالصحيح عن حضرة أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إنّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكم (نهج البلاغة، ج٤، ص ٢۰ )، ومن ذلك أشعار المحقّقين كالحكيم الغزنويّ والحكيم الرومي والعطّار وغيرهم."

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

5
  • أهميّة صلاة الجمعة وسبب التأكيد عليها في الروايات

  • صلاة الجمعة هي صلاة إحياء الناس، فأذهان الناس طيلة أسبوع من العمل والانشغال والذهاب والإياب وسائر الأمور منغمسة بالكثرات، ابتعدت عن المبدأ بالتوغّل في الدنيا، ابتعدت عن الأمور الاجتماعيّة والحكوميّة وما يجري هنا وهناك، ابتعدت عمّا يجري في الدنيا، ابتعدت قليلاً عن الارتباط بالله، وصلاة الجمعة هذه وهذا الاستعداد يحييهم ويبعثهم. ولذلك كان هناك هذا التأكيد وهذا الإصرار على صلاة الجمعة والمشاركة فيها حتّى إنّ هناك رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام تذكّرتها الآن يقول الإمام فيها ـ كان هناك سابقًا أدوية مسهّلة كانت تستعمل لمعالجة البدن سواء في الطبّ القديم أو المعاصر، تستعمل لتعديل المزاج وما شابه ـ يقول الإمام: استعمال هذه الأدوية في يوم الخميس مكروه، لأنّه يسبّب الضعف ويمكن أن يمنع المسلم من المشاركة في صلاة الجمعة. فإلى هذا الحدّ... إن شئتم أن تستعملوا هذا الدواء لتعديل المزاج فاستعملوه يوم السبت، يوم الأحد، لماذا يوم الخميس حيث يسبّب الضعف والعجز؟ 

  • كنت في مجلس مع المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه وكان هناك واحد من اثنين أو ثلاثة من العلماء يتحدّثون حول الوجوب العينيّ والتعييني لصلاة الجمعة، وقد توفّي الآن واحد منهم. كان يقول: عندما كنت في النجف كتبت رسالة حول ذلك وأثبتّ فيها أنّ صلاة الجمعة واجبة في كلّ عصر وكلّ زمان، وعلى الناس أن يشاركوا فيها، وليست المسألة مجرّد وجوب تخييريّ من شاء صلّى ومن لم يشأ لم يصلّ، أو وجوب كفائي يسقط بمشاركة البعض. وكانوا يصرّون على أنّ صلاة الجمعة واجبة تخييرًا وكان دليلهم الذي يؤكّدون عليه كثيرًا قولهم: لو كانت صلاة الجمعة واجبة لم يكن هناك معنى لكلّ هذا الإصرار على إيجادها. فالإمام لا يصرّ على الواجب، فالصلاة الواجبة مثلاً لا يصرّ الإمام عليها، إنّها لا تحتاج إلى إصرار، الصوم الواجب لا يحتاج إلى إصرار، ولكنّا نرى أنّ صلاة الجمعة فيها الكثير من التأكيد: من تركها كان كذا، سيبتلى بنكال الدنيا والآخرة، من لم يشارك في صلاة الجمعة ذهبت البركة من ماله، من لم يشارك في صلاة الجمعة لم ير الخير طوال الأسبوع.۱ فهذه الروايات ترتبط بذلك، وهي دليل على أنّ الصلاة ليست أمرًا وجوبيًّا، بل هي أمر استحبابيّ، لأنّهم لا يؤكّدون على الأمر الوجوبيّ. وقد قلت هناك هذا الأمر: هذا بسبب بعض المشكلات التي هي في صلاة الجمعة، ففي صلاة الظهر والعصر والصبح وأمثالها يصلّي الإنسان في منزله ولا إشكال، ولكن ليس فيها خروج من المنزل بغير الوسائل المتوفّرة الآن والمجيء من فرسخين أي لا بدّ أن يأتي من كلّ مكان ضمن أربعة فراسخ. أي فرسخين من كلّ جهة، حيث يجب على الإنسان أن يقصد صلاة الجمعة من كلّ الجهات ولم تكن الوسائل في ذلك الزمان كما هي اليوم، كان الناس يذهبون بواسطة الحمار، حتّى لدينا في الروايات أنّه حتّى لو كان الإنسان راجلاً فعليه أن يشارك في صلاة الجمعة، بواسطة الاهتمام الذي كان في صلاة الجمعة. فهذا الأمر مشكل، وبالطبع لا بدّ من التأكيد عليه أكثر والترغيب به أكثر لأجل ذلك. 

    1. من هذه الروايات ما في الوسائل ج۷ ص ٣۰۱: روى الشهيد الثاني في ( رسالة الجمعة ) قال : قال النبي صلى الله عليه وآله : الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة : مملوك ، أو امرأة ، أو صبي ، أو مريض . 
      - وقال عليه السلام : من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه . 
      - وفي حديث آخر : من ترك ثلاث جمع متعمدا " من غير علة طبع الله على قلبه بخاتم النفاق . 
      - وقال عليه السلام : لينتهين أقوام من ودعهم الجمعات ، أو ليختمن على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين . 
      ـ وقال النبي صلى الله عليه وآله في خطبة طويلة نقلها المخالف والمؤالف : إن الله تعالى فرض عليكم الجمعة فمن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافا " بها أو جحودًا لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ألا ولا زكاة له ، ألا ولا حج له ، ألا ولا صوم له ، ألا ولا بر له ، حتى يتوب .

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

6
  • أهميّة الحجّ والتأكيد عليه في الروايات

  • كما هو الحال في الحجّ، لقد قلت لهم: أليس الحجّ واجبًا؟! فلماذا لدينا الكثير من الروايات حول الحجّ؟ من لم يحجّ لم يمت على دين إبراهيم، من لم يحجّ يخيّر حين الاحتضار بين النصرانيّة واليهوديّة، أي لا يموت على الإسلام، من لم يحجّ لا يكون يوم القيامة مع المسلمين۱، فهذه الروايات ترجع إلى الحجّ، وهو واجب، لماذا؟ لأنّ الحجّ الآن بأفضل الوسائل من إيران أو كثير من البلدان مريح جدًّا وسهل الوصول، ويمكن للنّاس أن يقوموا به، أمّا في سائر الأماكن وسائر البلاد في الأزمان السابقة فقد كان ذهابه وإيابه فقط يستغرق سنة، أي ستة أشهر في طريق الذهاب، وستّة أشهر في طريق الإياب، وبضعة أيّام يحجّون فيها هناك، وذلك مع كلّ تلك المخاطر، ومع كلّ تلك المشكلات وبتلك الكيفيّة. لا تنظروا إلى هذا الزمان، ففي إحدى المناطق كطهران مثلاً يقال: لم يكمل فلان حجّه، وكان كثير منهم يوصون قبل الذهاب إلى الحجّ، وما ترونه الآن من كتابة الوصيّة قبل الذهاب إلى الحجّ هو لأجل ذلك الزمان، فمن كان يذهب إلى الحجّ كان يسير آيسًا من الحياة، كان مأيوسًا من رجوعه، كان آيسًا من أن يرجع إلى أهله. فكان يوصي، وكان كثير منهم يموتون، يقتلونهم، أو أنّهم يصابون بأنواع الأمراض في الحجّ، فهذه الوصيّة كانت لذلك الزمان، أمّا الآن فالحاجّ يتحرّك من هنا وخلال ساعتين وبأفضل وسيلة يصل إلى جدّة، ثمّ يؤدّي الحجّ في أفضل الأماكن والإمكانات، ثمّ يرجع، رغم وجود مشكلات، لا يخلو الأمر منها، ولكن أين هي من تلك؟ فهذا أمر الحجّ فيه الكثير من التأكيد.

  • معنى الاستطاعة عند المرحوم العلاّمة

  • بل كان رأي المرحوم العلاّمة أنّه إذا تمكّن الإنسان أثناء مسير الحجّ حتّى أثناء مسير الحجّ أن ينهي أعماله، دون أن يكون قد جمع من هنا مقدارًا من المال، فلو كان الإنسان سكّافًا ويمكنه أن يعمل على طول الطريق، وأن يتابع في عمله، ومن خلاله يؤمّن معاشه ويتابع عمله، فإنّ واجبه أن يحجّ. مسألة الاستطاعة التي تطرح الآن كأن يكون قد جعل مليون تومان جانبًا، بحيث إذا رجع يجدها، ليست صحيحة. الاستطاعة من وجهة نظر فقهيّة تطلق على إمكان أن يوصل الإنسان نفسه إلى بيت الله، هذا ما يسمّى استطاعة. حتّى لو ذهب ماشيًا وكان بإمكانه أن يذهب ماشيًا وجب عليه الحجّ، حتّى لو تمكّن من الذهاب بشكل عادي بحيث لا يهدّده مرض ولا يهدّده شيء ويكون مخلّى السرب ويكون طريقه آمنًا، فعليه أن يحجّ، وما في بعض الروايات من التعبير بالزاد والراحلة فهو ليس موضوعًا في نفسه، بل هو عنوان مشير، وليس له موضوعيّة. أي لأنّ كافّة الناس يسافرون بالراحلة والمركب ويأخذون معهم الزاد، فإنّ من كان لديه زاد وراحلة لا بدّ أن ينطلق. أمّا لو لم يكن له زاد وراحلة ولكنّه كان مثلاً من أهل المدن القريبة من مكّة، ويبعد عنها عشرين فرسخًا، ثلاثين فرسخًا، بل حتّى أربعين فرسخًا، وكان من المدن المحيطة بمكّة، ولم يكن للمشي عنده مشكلة بل يعتبر رياضة، فمثلاً يخفّ وزنه قليلاً فهذا يكون أفضل، فمثلاً افترضوا أنّ علينا في اليوم أن نسير فرسخًا أو فرسخين ـ صحيح أيّها الدكتور؟ لقد نصحني وأنا مجبور أن أطيعه لأنّه طبيب قلب وقال: يا فلان عليك أن تمشي كلّ يوم ساعة ونصف، ولكنّي لم أوفّق إلى الآن للعمل بأمره، إن شاء الله، أرجو المعذرة ـ فهذا المقدار الذي ينبغي أن يمشيه الإنسان يجعله في الطريق ما المشكلة في ذلك؟ فهذا ما يقال له: زاد وراحلة، ولا يعني أنّه لا بدّ أن يرسلوا إليه أحدث وسائل النقل ثمّ يرسلوا إليه بطاقة دعوة ويرحّبوا به أن تفضّل وأمثال ذلك... كلاّ فهذا عليه أن يحجّ أيضًا. 

    1. وسائل الشيعة، ج۸، ص ۱۸: عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، أنه قال : " من مات ولم يحج حجة الاسلام ، فليمت إن شاء يهوديا ، وإن شاء نصرانيا " .

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

7
  • فإذن الاهتمام الذي كان لدى الأئمّة بموضوع الحجّ ليس لأنّه غير واجب، بل هو بسبب المشكلات التي كانت تحيط به وربّما لا تزال، فهذه تقتضي أن تُستنهض الهمم للقيام بهذه الفريضة. 

  • أين كنّا؟ كان حديثنا عن صلاة الجمعة، على الخطيب في صلاة الجمعة أن يتميّز بهذه الأمور، وأن يبيّن للنّاس، أن يبيّن للنّاس الأمور، حتّى يبعث الحياة في الناس في هذه الصلاة، ويعطيهم شحنة، وأن يزيل منهم كسل أسبوع، وأن يتمكّنوا من الاستمرار لأسبوع وأن يمتلئوا، لقد وجبت هذه الصلاة في زمان رسول الله، وكان الأئمّة يؤكّدون عليها. فهذه هي صلاة الجمعة وهذه خواصّها، هي صلاة لا يطرح فيها سوى الله وحده، لا يطرح فيها سوى التكامل المعنويّ والحركة المعنويّة. حينها تستحقّ تلك الصلاة الذهاب إليها، وتستحقّ الذهاب إليها مشيًا، والفرسخان قليلان، فهي تستحقّ أن يسير إليها أربعة فراسخ ليشارك فيها. 

  • عودة إلى أهميّة التدبير والتفكير والاهتمام بالقرآن الكريم

  • حول ماذا كان بحثنا؟ كان حول التدبير والتفكير والنظم (أفلا يتدبّرون القرآن) يقول لماذا لا يتدبّرون القرآن؟ لماذا لا تهتمّون بهذه الأمور؟! لماذا تركتم القرآن لليلة الجمعة فقط؟ من برامج الأعاظم المهمّة والأكيدة لسلاّك طريق الله على مدى الحياة [قراءة القرآن]، حتّى أنّي أذكر ذلك من زمان المرحوم الوالد رضوان الله عليه فلم أره في يوم من الأيّام يتركه، حتّى الأيّام التي كنت فيها بخدمته في المستشفى، فقد دخل المستشفى عدّة مرّات، مرّة لأجل القلب، ومرّة لأجل العين، ومرّة لأجل الظهر والديسك، ومرّة لأجل الكبد حيث أجرى عمليّة الكبد وكيس الصفراء، وكان معه في كلّ هذه المرّات قرآن صغير يوضع في الجيب يجلعه إلى جانبه، يقرأ فيه، وعندما كانت أمراضه تمنعه من القراءة من الكتاب، كان يقول لي: سيّد محسنَ! اجلس وصحّح لي الخطأ في قراءة السور التي أخبرك عنها. فكان يشرع بقراءة سورة الفتح (بسم الله الرحمن الرحيم إنّا فتحنا لك فتحًا مبينًا ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ويتمّ نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا)۱ فكان يشرع بقراءة سورة الفتح هكذا. وكنت أقول: جيّد الحمد لله انتهت. فكان يقول: الآن افتح سورة الزمر. فكنت أفتح سورة الزمر وكان يشرع هو بالقراءة: بسم الله الرحمن الرحيم ويقرأ سورة الزمر. وكنت أقول: جيّد عافاكم الله. فكان يقول: افتح الآن سورة حم السجدة. فكان يقرأ السورة ثمّ يسجد، فقد كان هناك حجر يجعله على جبهته. كلّما كان يمكنه القراءة كان يقرأ، وإن لم يكن بإمكانه فكان يقرأ هكذا. لماذا؟ فهل نحن نجد أنفسنا أكثر استغناء منه؟ فلماذا؟ لأنّ القرآن للجميع، القرآن كلام نزل لجميع الناس، لا لمن خوطب به في زمن النبيّ، ولا للنبيّ والأئمّة عليهم السلام، ولا للذين كانوا في زمان النبيّ، وكانوا مشافهين بالخطاب. كلاّ، فالقرآن نزل من أجلي، ومن أجلك، ومن أجل كلّ واحد واحد من الناس، نزل للجميع، في أيّ مرتبة كان كلّ واحد منهم. نزل من أجلي في المرتبة التي أنا فيها، وللأعلى في المرتبة التي هو فيها، وكلّ إنسان في أيّ مرتبة كان نزل القرآن من أجله، فالقرآن هو لكلّ إنسان ويستفيد منه في جميع مراتبه الوجوديّة حتّى الوصول إلى لقاء الله. لا شكّ أنّ المعنى الذي نفهمه نحن من القرآن يفهمه الإنسان العظيم بشكل آخر، وكلّ بحسبه. 

    1. سورة الفتح (٤۸) الآيتان ۱ و٢. 

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

8
  • استحباب قراءة القرآن بصوت حزين

  • وقد قلت لكم إنّ ابن مسعود كان ذا صوت جميل صوت حزين (إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرؤوه بالحزن)۱ أرأيتم حالة الانبساط والروحيّة عندما يحصل للإنسان حالة من الرقّة، وهذه الحالة يشاهدها الإنسان في مجالس سيّد الشهداء، فلماذا يغلب الروح والرَّوح والنشاط؟ لأنّ في تلك المجالس حزنًا. يقول النبيّ: إنّي أحبّ من الصبيان أربعًا منها: أنّهم البكّاؤون.٢ بكاؤهم لأجل الحزن. الحزن حالة روحانيّة، فاقرؤوا القرآن بصوت حزين؛ فلهذا الصوت الحزين آثار، فله في الأزمان المختلفة آثار مختلفة، فبين الطلوعين له نوع من الأثر، وعند غروب الشمس والذي هو وقت الحزن له أثر آخر، وفي الموارد المختلفة لهذا القرآن آثار مختلفة. اقرؤوا القرآن بصوت حزين. يقرأ ابن مسعود القرآن والنبيّ يستمع ويجري الدمع من عينه. هذا النبيّ الذي نزل القرآن عليه، هل كان يفهم ما نفهمه نحن؟ فلماذا نقرأ نحن ولا نبكي؟ ولكنّنا يمكن أن نطبّق أنفسنا على القرآن، عندما نقرأ القرآن فنجعل الخيالات جانبًا، ولنجعل التصوّرات جانبًا، ولنصمت دقيقة أو دقيقتين أو ثلاثة، ولنجعل محيطنا صامتًا وهادئًا وبغير ضجيج، ولنستعدّ، حينها سنرى أنّه يؤثّر فينا ذلك الأثر. 

  • تدبّر في آيات العلم و الظنّ

  • فالقرآن هو لنا (أفلا يتدبّرون القرآن) لماذا لا تتدبّرون القرآن؟! لماذا لا تفكّرون في القرآن؟! لماذا لا تقرؤونه كلّ يوم؟! لماذا لا تلتفتون إلى مضامينه؟! سأشير إلى آية من آيات القرآن وأمضي: 

  • إحدى الآيات، إحدى الإشارات، هذه الآيات التي في القرآن أن اجعلوا بناءكم على اليقين دائمًا، لا تجعلوه على الظنّ والإشاعات والشائعات وعلى التخمين٣، فلو عملنا بهذه الآية وحدها، حينها سترون كم ستختلف حياتنا! سِيروا دائمًا على أساس اليقين، هذه القدم التي تضعونها الآن هل هي صحيحة؟ ينبغي أن لا يكون هناك تدخّل لـ "قال زيد وقال عمرو" في حياتكم. أن لا يطرح فلان والسيّد فلان وشخصيّة فلان، كن على يقين وتحرّك. (إن نظنّ إلاّ ظنًّا٤ أليس لدينا في القرآن (إنّه لقول فصل وما هو بالهزل)٥؟ كلام رسول الله كلام فصل وليس هزلاً. (ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً)٦ في كلّ مورد لا علم لك به فلا تقْفُ، أي لا تتّبع، لا تتقدّم، لا تتابع. (ما ليس لك به علم) لا تتّبع الخيالات، لا تتّبع ما يقوله الناس، فالناس يتكلّمون على أساس التخيّلات والإحساسات، فلا تسر أنت بعد الآن، اجلس وفكّر، هل ما يقوله الناس الآن صحيح أم لا؟ لعلّه غلط، جميعهم غلط، جميعًا غلط. لن يقول الله لك في يوم القيامة لأنّك اتّبعت الناس فأنت محميّ. كلاّ. يقول: لقد أعطيتك عقلاً، فلماذا لم تستعمله؟ هذا هو المهمّ. (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها) أم أنّا جعلنا على إدراكنا أغشية فصار المجاز يقينًا واليقين مجازًا. لقد حصل تبادل بين هذين. نحن نظنّ اليقين ظنًّا، ونعدّ الظنون يقينًا. على أيّ الأمرين أنتم؟ (أم على قلوب أقفالها) اثنان في اثنين كم يساوي؟ يقول: خمسة! 

    1. وسائل الشيعة، ج٢، ص ٦۱٤.
    2. الروح المجرّد، ص ٥٩٦، زهر الربيع ص ٢٩٥: إنِّي أُحِبُّ مِنَ الصِّبْيَانِ خَمْسَةَ خِصَالٍ: الاَوَّلُ أَنَّهُمْ البَاكُونَ، الثَّانِي: عَلَي التُّرَابِ يَجْتَمِعُونَ، الثَّالِثُ: يَخْتَصِمُونَ مِنْ غَيْرِ حِقْدٍ، الرَّابِـعُ: لاَ يَدَّخِرُونَ لِغَدٍ، الخَامِسُ: يَعْمُرُونَ ثُمَّ يُخْرِبُونَ
    3. وما يتبع أكثرهم إلا ظنًّا إنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئًا إنّ الله عليم بما يفعلون (سورة يونس، الآية ٣٦)
      وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئًا (سورة النجم، الآية ٢۸)
    4. سورة الجاثية (٤٥)، ذيل الآية ٣٢. 
    5. سورة الطلاق (۸٦)، الآيات ۱٣ و۱٤. 
    6. سورة الإسراء (۱۷)، الآية ٣٦. 

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

9
  • ـ اثنان في اثنين يساوي أربعة في النهاية. 

  • ـ لا اثنان في اثنين يساوي خمسة. 

  • ـ يا عزيزي! في الزمان السابق، عندما خلق الله النبيّ آدم كان اثنان في اثنين يساوي أربعة، وقبل ذلك كان أربعة، وفي عالم الذرّ كان أربعة، وفي عالم الملائكة، وبعد النبيّ أيضًا هي أربعة، ولكنّها الآن صارت خمسة ونصف! فلماذا؟ ما الأمر؟ ذلك لأنّ (على قلوب أقفالها) لقد ألقينا ستارًا. ترى اليقين بهاتين العينين ثمّ تمضي، بهاتين العينين نرى اليقين ونتركه جانبًا. المباني كلّها واضحة، القواعد كلّها بيّنت، الأمور كلّها قيلت ولكن لا نعمل بواحد منها، لا نرتّب أثرًا على واحد منها. فما سبب ذلك؟ (أم على قلوب أقفالها) مقفلة، وعندما تقفل تصبح (وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا۱ وضعنا على قلوبهم أستارًا وآذانهم مسدودة، تقول: يا سيّد الأمر كذا. أصلاً كأنّك تقرأ له شعرًا. إن كان هناك كلام فتفضّل وتكلّم، لماذا لا تسمع؟ فليجب في النهاية الجواب واضح. قل: إمّا أنّك تقول الصدق أو الكذب، لهذا الدليل لذاك الدليل. كلاّ أصلاً لا يسمع. 

  • ـ ماذا تقول؟

  • ـ يا أبا سفيان! يا أبا جهل، يا من حارب القرآن؟ بمن أضررتم؟ لقد أضررتم بأنفسكم. يا أبا سفيان ويا أبا جهل كان بإمكانكما أن تكونا سلمان. أيّها المسكينين كان بإمكانكما أن تكونا المقداد، لماذا جعلتما نفسيكما في هذا الشقاء؛ فأحدكما قتل في معركة أحد والآخر مات حتف أنفه. لماذا لم تدع هذه الثمرة تنضج؟ ولماذا لم تدع هذه النفس تبلغ استعداداتها الكامنة؟ لقد كان بإمكانك أن تكون المقداد يا أبا جهل، كان بإمكانك أن تكون أبا ذرّ، كان بإمكانك أن تكون سلمان. لم تكن تختلف عن سلمان، فقط هناك فارق واحد وهو آنّ سلمان رفع هذا الحجاب، وأنت وضعته. سلمان بحث عن الحقيقة، إن كانت في رسول الله فسيتّبعه، وإن كانت في غيره فسيتّبعه، إن كانت في غيره فسيتّبعه، لا فرق بالنسبة إليه، أنا أبحث عن الحقّ، والشخصيّات لا معنى لها بالنسبة إليّ، ما له معنى بالنسبة إليّ هو الله فقط لا غير، وكان يقول ذلك بصراحة. فلو أنّه حصل في يوم من الأيّام ـ نعوذ بالله نعوذ بالله، بغير نسبة، بغير نسبة ـ أن ارتدّ رسول الله، فليكن، لا فرق بالنسبة إليّ، فإنّ الله لم يرتدّ. 

    1. سورة الأنعام، مقطع من الآية ٢٥. 

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

10
  • عندما توفّي المرحوم العلاّمة كان الكثيرون متأثّرين، في تلك الأيّام الأولى، لقد كان يتصوّرون أن الأمر قد انتهى، والموضوع قد انتهى، والسجلّ قد انتهى، كلّ شيء... ولا زلت أذكر عندما تكلّمت في تلك الليلة ويبدو أنّها كانت الليلة الرابعة قلت: عزيزي! لقد ختم سجلّ السيّد، ولكنّ سجلّ الله لم يختم، فلو أنّ سجلّ الله يختم، فحينها علينا أن نفكّر بحالنا. لقد كان هناك عبد، عبد صالح من عباد الله، وقد توفّي، وحتّى كان أرفع درجة من ذلك، وحسب قول سيّد الشهداء عليه السلام للسيّدة زينب في ليلة عاشوراء: يا زينب لقد كان أبي خيرًا منّي ومات، وأخي خير منّي ومات، وأبي وجدّي ماتا۱، فلم يختلف الأمر، الله لم يمت، فالله موجود، وطريق الله موجود. علينا أن نرى ما هو الطريق الذي جعله الله؟ لقد ظهر الآن في مظهر الرسول الخاتم النبيّ محمّد، وغدًا سيظهر من خلال مظهر عليّ المرتضى، وبعد غدٍ في مظهر الإمام المجتبى، وبعده... والآن فقط وفقط وفقط ظهر في مظهر بقيّة الله أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، هذه هي المسألة، لا أكثر. فهذا هو الطريق وهذا هو الفكر. هذا هو الطريق فبسم الله! فأين هو مغلق؟ وأين فيه إبهام؟ وأين فيه إجمال؟ 

  • اخط في المكان الذي فيه يقين (ولا تقف ما ليس لك به علم) لا ينفعني ماذا قال حسن وماذا قال تقي وزيد وعمرو؟ هو ينفعهم هم، هو جيّد لهم. هم يعلمون هم، هذا فكري وهذا دماغي، وهذه أعصابي، هي في داخل هذه الجمجمة، هذا الدماغ وهذه الأعصاب هي في داخل هذه الجمجمة، نعم إذا غيّروا تلك الجماجم، فإنّ تلك الأمور ستتغيّر، لا إشكال في ذلك، جيّد جدًّا، لقد أعدّ الله لي هذه الاستعدادات، وسيؤاخذني على أساسها، فلأتحمّل المسؤوليّة. (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها) فأين تذهبون؟! ماذا تصنعون؟! لا بدّ أن ندفع الحساب أيّها السادة عن كلّ عمل من أعمالنا! عن إشاراتنا، عن كلّ حديث من أحاديثنا، عن كلّ طرفة عين. غدًا سيأتون ويفتحون سجلّنا، ولن يمكن حينها من التعديل بذرّة واحدة. (وإن كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)٢ لو كان هناك مثقال واحد، يا سيّد أنت تحدّثت في ذلك اليوم بهذا الكلام فتأثّر فلان، وقد آذيته بغير سبب، لا بدّ أن يعفو عنك. وهنا يشرع القول لا بدّ ولا بدّ. لقد قمت في ذلك اليوم بذلك العمل فأدّى أن يبتعد إنسان عن طريق الله ويبرز عنده برود وانهزام ويمضي جانبًا. لا بدّ أن تأتي وتدفع الحساب، لقد ذهب هو جانبًا، وزوجته ذهبت، وأولاده، واللوازم التي حصلت... يوقفونك يا سيّد يوقفونك! بلا تأخير (وكفى بنا حاسبين) لا حاجة بنا إلى محكمة، لا حاجة إلى مدّع عام، لا حاجة إلى محكمة، نأتي بك وبسرعة نضع السجلّ أمامك. والسجلّ ليس خطيًّا التفتوا. لا تظنّوا أنّ الملائكة يحملون قلمًا ودواة يغمسونه فيها ويكتبون، كلاّ، فالملائكة يحتفظون بحصصنا الوجوديّة في كلّ زمان ضمن سعتهم الولائيّة، فالآن أنا أتكلّم معكم، فكلامي هو حصّة وجوديّة، جلوسي هذا هو حصّة وجوديّة، استماعكم وإنصاتكم حصّة وجوديّة، هم يحتفظون بهذه الحصّة الوجوديّة، لا بالصورة ـ وقد قلت لكم ذلك اليوم ـ لا تُلتقط صورة عن هذا المجلس، عين هذا المجلس بهذه الحصّة الوجوديّة، كما ترونه الآن تمامًا، أفهل تتصوّرون الآن أنّكم ترون "فِيلم" هذا المجلس أم عينه؟! أيّهما ترون؟ ليس فيلمًا، "الفيلم" هو الذي يلتقطونه ثمّ يجعلونه في آلة ويشاهدونه، يقولون: نعم، هذه صورة، الإنسان نفسه ليس حاضرًا في ذلك المجلس. ولكن الآن إذ تحضرون في هذا المجلس فأنتم على ارتباط مع الحصّة الوجوديّة له، أنتم على ارتباط واتّصال معه. عين هذه الحصّة الوجوديّة، أي ذات هذا الوجود الخارجيّ، ذات هذا الوجود العينيّ يظهر يوم القيامة لنا، لا صورته، عندها كيف يمكن أن ينكر؟ الصورة يقول يا سيّد لقد ركّبتها. والآن صار هذا الأمر متعارفًا، الآن في تأليف السجلاّت في هذه الدنيا يصنعون هذا، لا أدري. يبدّلون الصوت، يعدّلون الصورة، ماذا يفعلون، يصنعون سجلاًّ، ثم بعد ذلك يأتي الشرطيّ، هذا هو المعتاد بكلّ سهولة، وإن كان لذلك الرجل علاقات فإنّه يصرخ صرخة، وإلاّ فلا. قال: 

    1. أبو مخنف، مقتل الحسين عليه السلام ص ۱۱۱: يا أخية اتقي الله ، وتعزى بعزاء الله ، واعلمي ان أهل الأرض يموتون ، وان أهل السماء لا يبقون ، وان كل شئ هالك الا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته ، ويبعث الخلق فيعودون وهو فرد وحده ، أبي خير مني ، وأمي خير مني ، وأخي خير مني ، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة.
    2. سورة الأنبياء (٢۱)، نهاية الآية ٤۷.

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

11
  • گوش اگر گوش تو وناله اگر ناله من***آنچه البته به جایی نرسد فریاد است
  • والمعنى: إن كان هناك أذن فهي أذنك وإن كان هناك استغاثة فهي استغاثتي، ولكن ما لا يصل إلى نتيجة هو استغاثتي. 

  • إن كانت يده تطال، فبالطبع سيختلف الأمر والمحكمة، الأسئلة ستختلف، الإجابات ستختلف. أمّا في يوم القيامة فلا تركيب وإنتاج وما شابه. لا يمكن أن تقول في يوم القيامة: إلهي! أنت أجلستني إلى جانب فلان، وصورتي هذه ليست صحيحة، أنت ركّبتها فجعلت هذا هنا وهذا هنا وجعلتني بينهما. يقول: كلاّ يا سيّدي العزيز! تفضّل أنا أريك حضورك في هذا المجلس، هذا حضورك في هذا المجلس. (وكفى بنا حاسبين) فلا نحتاج إلى مدّع عام، لا شيء، حضوركم أنتم يصبح هو الادّعاء، وهو نفسه يغدو الحَكَم، ونفسه الجريمة، ونفسه علّة الجريمة. هناك يطأطئ الإنسان رأسه، نعم، أنا لا يمكنني أن أفرّ من نفسي هناك، أنا هناك مع نفسي وتخيّلاتها وأفكارها، فكيف يمكن أن أفرّق بين هذين الأمرين؟ فمسألة (وكفى بنا حاسبين) مسألة مهمّة جدًّا لا يستهان بها. 

  • (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ما معناها؟ إنّها تتحدّث عن التدبّر، هذه الآية تتحدّث عن التدبّر. فكيف يقول الإمام الصادق عليه السلام أنّ العبد هو الذي لا يدبّر لنفسه تدبيرًا. أيمكن؟ القرآن يقول: تعال وتدبّر، القرآن يقول: تعال وافهم، القرآن يقول: تعال واعمل. فكيف يمكن؟! 

  • قيام الكون على التدبير

  • إنّ أساس وأصل نظام عالم الخلقة هو التدبير. (إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا)۱ أتقرأون هذه الآية في الليل؟ اقرؤوها حتمًا ولا تنسوها! يستحبّ للإنسان أن يقرأ ليلاً عند النوم بضع آيات من آخر سورة آل عمران (إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) فما هذا الاختلاف؟ أنتم تريدون أن تصلّوا نحو مكّة، كم بيننا وبين مكّة من الفراسخ؟ مثلاً ثلاثمائة، ثلاثمائة وخمسين فرسخًا، أربعمائة فرسخ. يقال: لا يجب أن تصلّى إلى نفس الكعبة، يجب أن تصلّي باتّجاه الكعبة، لماذا؟ لأنّك مهما كنت دقيقًا، لو انحرفت ملمترًا واحدًا، فإنّه يجعلك تصلّي إلى المدينة، أنت تريد أن تصلّي إلى مكّة ولكنّك تصلّي إلى الطائف، أو إلى الرياض. كلّ هذا الاختلاف ليس يسيرًا، أربعمائة فرسخ، هذا الملميتر الواحد ماذا يصبح؟ كلّما تقدّمنا يصبح أكثر اتساعًا، حتّى يصل إلى هناك. لذلك من الناحية الفقهيّة من كان في مكّة وفي المسجد الحرام قبلتهم الكعبة، لا بدّ أن يقفوا باتّجاه الكعبة، وللذين هم خارجها أو حتّى فيها ولكنّهم بعيدون عنها، تكفي الجهة، أي يكفي أن تكون الكعبة في ذلك الاتجاه وبهذا النحو. الآن افترضوا أنّكم توجّهتم نحو هذه الناحية أو تلك فإنّها ستختلف أربعمائة فرسخ بواسطة ملمتر واحد. 

    1. سورة آل عمران (٣)، الآية ۱٩۰، وبداية الآية ۱٩۱. 

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

12
  • وهذه الأرض تدور حول الشمس، فلو اختلفت ملمترًا واحدًا عن دائرتها فماذا سيحصل؟ كافّة الكواكب ستصطدم ببعضها، أليس هذا تدبيرًا؟ ملمترٌ واحد يطوي كلّ بساط خلق الله، وبالطبع بساط عالم المُلك، هذا معنى (فالمدبّرات أمرًا)۱. معناه أنّك أنت جالس هنا مطمئنًّا هادئًا لا تحسّ بحركة ولا باهتزاز وتتحمّل بشكل كامل كلامي وتلتفت، كلّ ذلك لأنّ ملايين الملائكة الآن ـ بل لا يمكن حسابهم ـ ما هو المليار؟ يعملون الآن حتّى جلست الآن هكذا. ولو حصل اختلاف يسير، ولو قال جبرائيل: أريد أن أشاكسكم لتعالى صوت من الأرض، [تنحرف] الأرض يسيرًا، يصطدم كلّ شيء بكلّ شيء، أريد أن أشاكسكم! تمامًا كما شاكس الأمم السابقة، كانت تخالف فتأتي ملائكة العذاب وماذا تصنع بالأرض؟ تخسفها، كانت تنشقّ قليلاً فيدخل فيها كلّ ما عليها من قرى ومدن ثمّ تغلق، انتهى الأمر، لقد غاصت كلّ ناطحات السحاب في الأرض، غاصت وانتهى الأمر. قليل من المشاكسة، قليل، قليل من التغيير. هؤلاء يعملون (فالمدبّرات أمرًا) يدبّرون، يديرون الأرض في مكانها، ويديرون الشمس في مكانها، المطر يأتي في هذا الوقت، هذا السحاب هو لهذه المنطقة، وذاك لتلك. عندما دعا الإمام الرضا بدعاء الاستسقاء هطل المطر، جاء سحاب لعدّة مرّات فقال الإمام هذا لمنطقة كذا، وهذا لموضع كذا، فمضت السحب، فجاءت سحب أخرى ففرح الناس فقال لهم: لا هذه لذلك الموضع، لموضع آخر. ثمّ جاء سحاب آخر فقال: هذه لنا. فوصل وشرع بالإمطار.٢ فلكلّ منها مكانها وحسابها. 

  • ينقل أنّ المرحوم الشيخ الأنصاري ـ وقد سمعت هذه القصّة سابقًا ـ كان في طهران، كان يقصد مكانًا، فرأى فجأة عقربًا تخرج من زاوية وتمشي، فقال: لدى هذه ممهمّة بأن تلدغ فلانًا. وفجأة سمعوا صوت ذلك المسكين يرتفع. لديها ممهمّة، لا بدّ أن تأتي وتلدغ فلانًا. أمّا ماذا فعل؟ ولماذا؟ فهذا ما لا نعرفه. هو يعلم والله يعلم (فالمدبّرات أمرًا) هؤلاء الذين يدبّرون. 

  • كان النبيّ عيسى عليه وعلى نبيّنا وآله السلام يمشي يومًا، فوقعت عينه على شابّ، فقال: سيموت هذا الشابّ غدًا، غدًا سيموت. وفي اليوم التالي شوهد يمشي بين الناس، فقالوا: يا نبيّ الله! أنت قلت إنّه يموت؟! فتعجّب عليه السلام وقال: فلنذهب إليه نسأله عن حقيقة الأمر. هذا ما قيل لي. فجاؤوا وقالوا له: ما شأنك أيّها الشاب؟ لقد أخبر نبيّ الله بالأمس أنّك ستموت اليوم، وكلامه ليس كاذبًا! قال: لقد حدث لي أمر عجيب، فبينما كنت أسير بالأمس إلى الدار، رأيت عند العصر فقيرًا في طريقي، فساعدته قليلاً، تصدّقت عليه، ثمّ نمت واستيقظت عند الصباح فرأيت تحت فراشي ثعبانًا، وهذا يحصل، فقد كنت أدرس في مكان، وكان أحد أصدقائي يسكن في الطابق الأول وأنا في الطابق الثالث، فاستيقظ عند الصباح ـ وهو الآن في طهران من علمائها ـ فرأى تحت فراشه عقربًا، عقربًا سوداء كبيرة. 

    1. سورة النازعات (۷٩) الآية ٥.
    2. عيون أخبار الرضا عليه السلام ج۱، ص ۱۸۰: والذي بعث محمدًا بالحق نبيًّا لقد نسجت الرياح في الهواء الغيوم وأرعدت وأبرقت وتحرّك الناس كأنّهم يريدون التنحّي عن المطر، فقال الرضا عليه السلام: على رسلكم أيّها الناس فليس هذا الغيم لكم، إنّما هو لأهل بلد كذا فمضت السحابة وعبرت، ثمّ جاءت سحابة أخرى تشتمل على رعد وبرق، فتحركوا فقال: على رسلكم فما هذه لكم، إنما هي لأهل بلد كذا، فما زالت حتى جاءت عشر سحب وعبرت ويقول علي بن موسى الرضا عليه السلام في كلّ واحدة: على رسلكم ليست هذه لكم إنما هي لأهل بلد كذا. ثمّ أقبلت سحابة حادية عشر فقال: أيها الناس هذه سحابة بعثها الله عزّ وجل لكم فاشكروا الله على تفضّله عليكم وقوموا إلى مقارّكم ومنازلكم فإنها مسامتة لكم ولرؤوسكم ممسكة عنكم إلى أن تدخلوا إلى مقارّكم ثمّ يأتيكم من الخير ما يليق بكرم الله تعالى وجلاله، ونزل من على المنبر وانصرف الناس، فما زالت السحابة ممسكة إلى أن قربوا من منازلهم ثم جاءت بوابل المطر فملئت الأودية والحياض والغدران والفلوات...

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

13
  • يقول: رأيت تحت فراشي ثعبانًا. فلئن أتى عقرب تحت الفراش يمكنه أن يلدغه، ولكنّه ليس مأمورًا. هذا مأمور، ذاك قربه ولكن لا يخرج إليه. لقد وجد حيّة وقتلها فقال النبيّ عيسى: انظروا! لهذا الصدقة تدفع البلاء. لقد كان من تقدير هذا أن يموت بواسطة هذه الحيّة، ولكنّ الصدقة التي دفعها، بدّلت في عالم التقدير، اصدمت بتقدير الإهلاك والهلاك وأزالته وجعلت مكانه أن يستمرّ في حياته، الأمر دقيق جدًّا، ويتحقّق وفق حساب. 

  • هذا عالم التدبير (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلوم۱ كلّ ما لديكم كلّ ما تتصوّرونه في هذا العالم من الأمور المادّية وغير الماديّة، فإنّ خزانته ومنبعه ومنشأه لدينا. العلم، هذه العلوم الموجودة، فالآن لدينا أفراد من العلم بعدد كلّ من هو موجود هنا، وأقلّكم أنا والله يعلم أكثركم، فكلّ إنسان لديه معلومات، لديه مقدار من المحفوظات، مقدار من المعلومات حول الأمور المختلفة في اختصاصه وتخصّصه (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) أصله عندنا لا تظنّوا أنّكم أتيتم به من عند أنفسكم (وما ننزّله إلا بقدر معلوم) اسم الله العليم هو الظهور الذي لا يتناهى من العلم، في جميع المظاهر والتعيّنات. ذلك العلم الكليّ هو عندنا، نجعل منه مقدارًا هنا، ومقدارًا أكثر هناك، وأقلّ هنا، يزيد وينقص، من خلال الأعمال التي يقوم بها يزيد وينقص. العمل الذي أقوم به يزيد ذلك العلم، أو إنّ العمل الذي أقوم به ينقص ذلك العلم. أذنب فيسدّ طريقه، أحسن يفتح طريقه. الجمال له أصل، إنّ الله جميل، فالجمال هو أحد أسماء الله ومظهر لظهورات أسماء الله الأخرى. فمن الصفات الإلهيّة الجمال، إنّ الله جميل، فواحد من صفات أصل الوجود الجمال، أصله عندنا (وما ننزّله إلا بقدر معلوم) أجعل لكلّ إنسان نصيبًا سواء من الجمال الظاهريّ أو الباطنيّ. 

  • القدرة خزانتها عندنا، كلّ القدرات التي ترونها كلّها (وما ننزله إلا بقدر معلوم) ننزّل ما نشاء ننقص، ومعنى أنّنا نقص ليس الأخذ بل قطع الإمداد، لا أن نأخذ منه. فهذا الإنسان ليس لديه شيء لنأخذه منه، فحالنا مع المظهر وظهور الأسماء الكليّة الإلهيّة ليس كحال تخزين متاع في كيس. فلو كان لديكم كيس تجعلون فيه الأرزّ، ووزنه مثلاً ثلاثون كيلو أو عشرون كيلو فإنّ فيه هذا المقدار من القمح، فلو كان من المقرّر أن ينقص فسيصيبه ثقب وينقص شيئًا فشيئًا إلى أن نلتفت ونخيطه، وإن لم نلتفت فإنّه سيذهب شيئًا فشيئًا. ليس الأمر كذلك، بل حالنا مع ظهور خزائن الله في المجلى وفي التعيّن وفي هذا القالب، هي كحال شريط الكهرباء هذا، ليس فيه شيء، لا شيء. إنّه يرتبط بمقدار ما نرسل فيه من قوّة الكهرباء، فتارة يمكن أن نرسل فيه عشرة فولتات، فيكون فيه عشرة فولتات، وهذا المصباح يمكنه أن يضيء بهذا المقدار. وتارة نرسل فيه ثلاثمائة ألف فولت، فيكون فيه ثلاثمائة فولت. فلو أراد هذا الشريط من جديد أن يعتدّ بنفسه يقول: أنا أملك ثلاثمائة ألف فولت. فهؤلاء لا يأخذون منه الكهرباء، بل ماذا يفعل مصنع الكهرباء؟ يقلّل من قوّة الكهرباء، إذا أنقصها ماذا يحصل عنده؟ تنقص عنده. فهو ليس لديه شيء من نفسه، كلّ الصفات والأسماء التي هي أسماء وصفات متنزّلة من تلك الخزانة الإلهيّة، ظهورها فينا هو كهذا. من هناك يُنقص ومن هناك يزاد، من المنشأ. إذا نقص لا أرى شيئًا في نفسي، وإذا زاد أرى. كلّ ذلك يرجع إلى هناك (وما ننزّله إلا بقدر معلوم) نأتي بها نحن بمقدار دقيق وبمقدر ظريف. كلّ عمل نقوم به له أثر في عملنا. افعلوا هذا، صلّوا هذه الصلاة بحضور قلب، نؤيّدك في الصلاة التالية، إن لم تصلّها بحضور قلب، فستكون الصلاة التالية بغير حضور قلب. صل رحمك مرّة، نجعلك أكثر نشاطًا في العبادة، ولو تركت صلة الرحم مرّة وقطعته يسدّ ما بينك وبين المنشأ والخزائن. كلّ ذلك لأجل ماذا؟ لأجل هذا الأمر. فالأمر دقيق جدًّا.

    1. سورة الحجر (۱٥) الآية ٢۱. 

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

14
  • حتميّة التدبير في نظامنا التربويّ والاجتماعيّ والسياسي

  • وما دام أساس نظام الله يرتكز إلى التدبير، فكيف يمكن لنظامنا التربويّ أن يكون بغير تدبير؟ أيعقل ذلك؟ أيمكن أن يسير الإنسان خلافًا للتكوين وخلافًا للطريق الحقيقيّ والأساسيّ لله؟ 

  • ذهبنا يومًا برفقة المرحوم العلامّة إلى مكان، وكان هناك رجل كان قد ارتكب عملاً فقال له المرحوم العلامة: لماذا فعلت هذا يا سيّد؟ قال: يقولون إنّ نظامنا في عدم النظام. فقال العلاّمة: أيّ حمار قال ذلك؟ النظام في ترك النظام! هذا تخلّف، أيّ ترك للنظام هذا؟ ما هذا الكلام؟ لا بدّ للسالك أن يكون أكثر الناس تنظيمًا، وأكثر دقّة، لا بدّ أن يكون الأدق والأرقى في جميع المجالات ـ وإن شاء الله نوفّق إلى توسيع كلّ واحدة من هذه الأمور التي طرحناها، واليوم لم نطرح سوى عناوين لها ـ في مسائل الدنيا، في مسائل المعيشة، في مسائل العبادة، في الأخلاق، في كيفيّة العلاقات، في كيفيّة التعامل، في أمور الحكومة، في كلّ ذلك.

  • وذات يوم كان المرحوم العلاّمة يتحدّث مع رجل حول مسائل الحكم سنة اثنين وأربعين ـ وليس ذلك الرجل على قيد الحياة الآن، فكان المرحوم العلاّمة يقول: علينا لتأسيس الحكومة الإسلاميّة أن نؤسّس حزبًا، لا بدّ أن يكون لدينا أفراد مستعدّون في كلّ مجال لكي تسير الأمور بشكل دقيق ولطيف وموافق للعصر وللبرامج المعاصرة. كان ذلك الرجل يقول: لا يا سيّد! لا داعي لهذه الأمور، نحرّك الناس، فيسيرون ويضربون ويأخذون المجلس ويحرقون الباب. فقال المرحوم العلامة: أيّ شيء من هذا الكلام صحيح؟ هل هم جالسون لتأتوا أنتم وتضربوا وتأخذوا المجلس؟ كلا يا سيّد! إنّهم متمركزون على بعد خمسة كيلومترات بقنابلهم ودبّاباتهم، ليطحنوا الناس ويقضوا عليهم، فما هذا الكلام؟ ليس السلوك أن يقوم الإنسان بكلّ ما يحلو له. لا بدّ أن يكون لديه أدقّ الأنظمة حتّى يتمكّن من السير قدمًا والوصول إلى الهدف. 

  • أذكر أنّه بعد سنة اثنين وأربعين ـ وكنت حينها طفلاً ابن ثمان سنوات ـ بعد سنة أي في السنة التالية تشرّفنا بالذهاب إلى مشهد برفقة المرحوم العلاّمة. وهناك ذهبنا إلى منزل أحد العلماء ـ ولا أدري ما إن كان لا يزال على قيد الحياة ـ برفقة جماعة انتقل كثير منهم إلى رحمة الله، منهم الشيخ مطهّري رحمه الله، فقد كان الشهيد مطهّري رحمة الله عليه في ذلك المجلس، وبعض آخر ممّن هم الآن على قيد الحياة. وكان والد أحد الكتّاب الذي توفّي، والذي كان وهو و...، وقد ماتا، وعدد من السياسيّين في ذلك الزمان الذين توفّي عدد منهم، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة، وهناك جلسوا على إحدى الشرفات وكان الفصل صيفًا، وكان المرحوم العلاّمة مشغولاً بالحديث معهم، وأنا في عالم الطفولة كنت أصغي إلى الكلام. وكانوا يتحدّثون عن الأمور التي حدثت بعد إبعاد قائد الثورة إلى تركيا وأنّه ماذا يجب أن يفعل؟ وكيف ينبغي الاستمرار في الأمر؟ انتهى الكلام، وشرع بالكلام مع ذلك الرجل الذي توفّي والذي قلت إنّه والد أحد الكتّاب، وشرعا بالنقاش، واحتدّ بينهما، وانزعج المرحوم العلاّمة منه كثيرًا، واشمأزّ من كلامه ومعتقداته في تلك الليلة، حتّى أنّ الشيخ مطهّري رحمه الله تأثّر كثيرًا من هذا الأمر، وانزعج. وبعد ذلك المجلس قال أحد الحاضرين ويبدو أنّه الآن على قيد الحياة، بل لا علم لي فأنا لم أعد مطّلعًا كثيرًا على هذه الأمور، قال: الوحيد الذي كان يتكلّم في هذا المجلس وفق الموازين السياسيّة والمعايير الدقيقة ومنطق الحكومة هو السيّد محمّد حسين، من بين جميع الموجودين في ذلك المجلس. في حين أنّه ماذا كان حينها؟ كان واحدًا من العلماء، عالمًا من علماء الدين، ولكنّ منهجه منهج السلوك. وإن شاء الله سأتحدّث لاحقًا كيف تلحق هذه التهمة الباطلة بمدرسة العرفان من أنّ مدرسة العرفان مدرسة بعيدة عن الناس، وبعيدة عن التدخّل في الشؤون الاجتماعيّة، وتترك الناس عبثًا وتسعى إلى الاهتمام بالنفس والانعزال، فهذا الأمر منطقًا وبرهانًا خاطئ، لا نقلاً، فعقلاً هذه المسألة باطلة. ولكن كيف وبأيّ شكل؟ هذا هو المهمّ. بأيّة سياسة؟ بأيّة حكومة وأيّة إدارة وأيّ تنفيذ؟ الكلام هنا. 

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

15
  • لقد كان أمير المؤمنين أوّل عارف في الدنيا، وكان نفسه رئيس المسلمين في النهاية. وهل لدينا أعلى من النبيّ؟ فقد كان النبيّ قاضيًا وحاكمًا ونبيًّا ورسولاً وينزل عليه الوحي، وكان يشارك في الغزوات بنفسه، وكان بنفسه يقف في الصفّ الأوّل من المجاهدين، لم يكن يرسل الناس وهو جالس في المنزل، بل كان بنفسه يشارك في المعارك، النبيّ نفسه. فقد كان ينزل عليه الوحي وكذلك... فانظروا الآن حدّة نظر المرحوم العلاّمة. وبعد هذه الحادثة بسنة، قال المرحوم العلاّمة: كنت في مجلس فاتحة أقيم هناك في مسجد أرك في طهران، وقد كنت حاضرًا، وكان المرحوم الشيخ مطهّري أيضًا في جالسًا في ناحية أخرى، وعندما انتهى المجلس جاء إليّ وقال: سيّدنا إنّ الذي كان بينك وبينه كلام في تلك الليلة قد جاء إلى طهران، وأريد أن يكون لكم لقاء به في منزلنا. فقال له: كلاّ، أنا لست مستعدًّا للقاء به. فتأذّى الشيخ مطهّري كثيرًا وصبر قليلاً ثمّ قال: فإذن نحن نأتي إليكم برفقته. فقال: لا، أنا لست مستعدًّا للقاء كهذا، كما أنّي لست مستعدًّا للقاء به في منزلي. فيتعجّب من ذلك أن أيّة مسألة هي هذه؟ وما هي حالها؟ كيف يمكن أن تكون؟ ويمضي على هذه الحادثة سبعة عشر عامًا، هناك من نقل لي عن كلام الشيخ مطهّري رحمه الله أنّه قال: الآن أفهم لماذا لم يعط السيّد محمّد حسين موعدًا للقاء بهذا الرجل. بعد سبعة عشر عامًا. هل التفتّم؟ هذا ما يسمّى دقّة وبعد نظر وذكاء في الأمور والحقائق.

  • كانت هناك موضوعات كنت أرغب أن أطرحها عليكم ولكن تشعّبت الأمور إلى هنا وهناك، واليوم بحمد الله فقط فتحنا بعض الأبواب التي ترتبط بهذه الفقرة من كلام الإمام الصادق عليه السلام، وإن شاء الله في الفرص الآتية سنتحدّث حول كلّ منها في مجالس. 

  • أرجو أن يصوننا الله تعالى ويحفظنا من فتن آخر الزمان، وأن يجعل طريقنا مستقيمًا وصراطنا صراط أوليائه والمعصومين عليهم السلام، وأن لا يحرمنا في الدنيا من زيارة أهل البيت وفي الآخرة من شفاعتهم وأن يعجّل في فرج إمام الزمان عليه السلام، وأن يجعلنا من المنتظرين والأنصار الواقعيّين له والذابّين عن حريمه. 

حتميّة التدبير في النظام التربويّ والاجتماعيّ

16
  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد. أ