64

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

2775
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتدبير و النظام الاجتماعي


التوضيح

التدبير بأدقّ معانيه مطلوب مع التزام ظاهر التشريع وإخلاص النيّة والتسليم وعدم النظر إلى النتائج، والنهي هو عن التدبير المقرون بالتعلّق النفسي والتخيّلات والانخداع بخدع الظاهر والباطن.
تابعت هذه المحاضرة شرح فقرة ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا، ووصلت إلى حلّ المعضلة التي طالما طرحت في الجلسات السابقة من كيفيّة التوفيق بين ضرورة التدبير والتنظيم والالتزام بالمبادئ التي سبق عرضها من جهة وبين عدّ الإمام عدم التدبير واحدًا من عناصر حقيقة العبوديّة. وقد طرحت لذلك مقدّمة حول بيان معنى عالمي التكوين والتشريع والارتباط الوثيق بينهما فالتكوين هو عالم الخلق وتجلّي الذات والصفات والأسماء ويحتلّ الإنسان مقام الخلافة الإلهيّة فيه، شرط أن يلتزم بالتشريعات الواردة في عالم التشريع والمسؤوليّة، ولذلك على الإنسان أن يلتزم كعبد بتلك التشريعات بعد ثبوت كونها من الشارع ولا ينظر إلى تلك التشريعات ومدى موافقتها لرغباته الخاصّة ومصالحه الدنيويّة وإقبال الناس عليه، لأنّ الدار دار امتحان لا يمكن فيها التكامل إلا به. ولذلك هناك أنواع من الامتحانات فمنها الظاهريّ ومنها الباطنيّ. ولا بدّ من التخلّص منها بواسطة امتلاك المعايير والمباني الدقيقة.
وفي المحاضرة قصص وشواهد حول تمثّل إبليس بصور ملاك أو إمام.
/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٦٤

  •  

  • ألقاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم 

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم 

  • الحمد لله ربّ العالمين 

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا

  • أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين 

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين 

  •  

  •  

  • ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ: 

  • ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا. 

  • كنّا قد قرّرنا أن نتعرّض لهذه الفقرة والفروع المختلفة التي يمكن أن تستفاد منها في مختلف شؤون الحياة، سواء الحياة العامّة والتي يعبّر عنها بالحكومة وسياسة المدن، أو الحياة الخاصّة بمعنى الشؤون الشخصيّة، سواء في محيط العمل والاكتساب، أو في محيط البيت والحياة الأسريّة أو في الأمور الشخصيّة التي تخصّ الإنسان. 

  • وقد كان الكلام إلى الآن حول قواعدد وأسس الحكومة الإسلاميّة، وحول المعايير التي يجب أن تهتمّ بها حكومة الأنبياء، والمهامّ التي يجب أن تقوم بها، والأمور التي يجب أن تبتعد عنها، وقد ذكرنا حول هذا الموضوع ما يتناسب ومستوى الجلسة والأصدقاء، وقد انتهى البحث في الجلسة السابقة حول قواعد وأسس الحكومة الإسلاميّة. وبالطبع هناك أمور أخرى أيضًا ولكن إن شاء الله يمكن للأصدقاء والرفقاء أن يطّلعوا عليها بطريق آخر.

  • التوفيق بين ضرورة التدبير شرعًا وعقلاً ونهي الإمام عنه

  • وقد كانت النقطة المهمّة هي انطباق هذه الفقرة من كلام الإمام الصادق عليه السلام على ما ينبغي أن يبحث من أمور حول التدبير والتقنين في الحكومة الإسلاميّة. وبالطبع فإنّ هذا الأمر جار في مختلف الشؤون التي سنتعرّض لها أيضًا. فمن جهة يقول الإمام إنّ على العبد أن لا يدبّر في أموره، ينبغي أن لا يدبّر في أعماله مع الله، ومن جهة أخرى وفق ما نراه من الموازين العقليّة والأدلّة النقليّة فإنّ التنظيم الدقيق للأمور الاجتماعيّة والأمور الشخصيّة هو على أساس الموازين والقواعد العقلائيّة والشرعيّة. فكيف نوفّق بين هذين الأمرين؟

  • رفعة حكومة التوحيد لاعتمادها على القوانين الإلهيّة الحقّة 

  • وصلنا في الجلسات السابقة إلى أنّ أتقن الحكومات وأعلاها وأرقى أنواعها في الدنيا ـ وبصورة عامّة منذ بدء خلقة البشر وحتّى نهايتها ـ هي التي ترتكز إلى التوحيد، فوحدها حكومة التوحيد يمكنها أن توصل الارتباط التوحيديّ بين الإنسان وربّه إلى مرتبة الفعليّة، وتحول دون النقص والقصور في المجتمع الذي يربطه التوحيد بالله.

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

3
  • إنّ كافّة الحكومات ترتكز إلى مجموعة من الأفكار والنظرات والآراء الشخصيّة والتوافقات التي لا تتجاوز حدود فكر البشر. ولذلك فإنّهم يكتشفون بعد مدّة نقصًا أو نقائص، والتعديلات والاستثناءات التي يقومون بها تحكي عن هذا الأمر. فهناك قصور في النظر وقصور في الرأي في كيفيّة تقنين القوانين. فهم يضعون قانونًا ثمّ يلتفتون إلى أنّ فيه خللاً في جانب ما، يضعون قانونًا ثمّ يلتفتون إلى أنّه لا ينسجم مع تلك الفئة وذاك الموضوع. يضعون قانونًا ثمّ يلتفتون إلى أنّه لا ينسجم مع سائر القوانين، فيبدؤون بطرح الحلول للمشكلة، وهنا تدرس الآراء والنظريّات المختلفة. 

  • أمّا في القوانين التي يشرّعها الله فلا قصور في قانون فيها بالمقارنة إلى قانون آخر، لأنّها جميعًا نابعة من مبدأ العصمة، العصمة لا بمعنى نفس المعصوم عليه السلام، بل بمعنى الحقّ المطلق {ذلك بأنّ الله هو الحقّ...}۱ ذلك الحقّ المطلق والحقّ الذي لا يتجزّأ وذلك الحقّ الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}٢ لا طريق لأيّ باطل أو نقصان في هذا الحقّ، ولا وجود للامتزاج بين الحقّ والباطل في القانون الإلهيّ. هذا الحقّ المطلق هو المنشأ لتقنين القوانين. ولذلك كيف يمكن أن يتصوّر أنّ في حكومة الأنبياء وفي حكومة الأئمّة عليهم السلام أو في حكومة أولياء الله الذين لهم اتّصال نفسيّ بنفس الولاية المباركة والولاية الكليّة لإمام الزمان ويأخذون الأمر بغير واسطة نفسانيّة ـ دقّقوا جيّدًا ـ يأخذون الأمر بدون واسطة نفسانيّة من مبدء الوحي أو مبدأ الولاية التكوينيّة المطلقة، فلا معنى هنا ولا مصداق للقصور أو التقصير أو الخلط أو المزج بين الحقّ والباطل.

  • وهنا يخطر في ذهني هذا الأمر رغم أنّها حادثة خاصّة ولكن أرى من الحيف أن أحرم منها الرفقاء والأصدقاء. 

  • كلام العلاّمة الطهراني عن صفات الحكومة الإلهيّة قبل الثورة وانتصارها

  • ذات يوم كنت جالسًا، فجاء أحد أصدقاء الموحوم العلاّمة، وذلك في العهد السابق قبل الثورة، جاء لزيارته، وجرى الحديث حول الحكومة، وكان الأمر عجيبًا، في ذلك الزمان الذي كان هناك همسات يسيرة حول بعض التغييرات والتحوّلات، ولكن لم يكن الأمر قد نضج بعد وتبلور، ولم يكن قد حدث شيء بعد. ولا أذكر بشكل دقيق ما هي الأمور التي قالها المرحوم العلاّمة لذلك الرجل، كان في ذهنه إشكالات وكان الأمر عجيبًا جدًّا، وعندما كان يطرح ذلك لم يكن هناك أيّ شيء بعد، ولم يكن يخطر على بال أحد أن يحصل تغيير شامل وتبدّل أساسيّ في نظام الحكم في البلاد، وكان هو يتحدّث له عن خصائص الحاكم الإسلاميّ، وخصوصيّات حكومة الأنبياء وحكومة أولياء الله، وأنّها لا بدّ أن تكون مرتبطة ومتّصلة بمبدأ الولاية المطلقة ومبدأ الخلافة الكليّة الإلهيّة، بحيث يأتي الأمر من عند مقام الولاية بغير تأخير وبغير فاصل زمانيّ وبدون أيّ تأمّل وبدون أيّ تدخّل وتصرّف، يأتي الموضوع من جهة مقام الولاية ويكون لسانه ونفسه مجرّد معبر وممرّ وواسطة لكلمات الوليّ المطلق وإمام الزمان أرواحنا فداه. فهذا شرط حكومة أنبياء الله.

    1. سورة الحج (٢٢)، الآية ٦ و ٦٢؛ سورة لقمان (٣۱) الآية ٣۰. 
    2. سورة فصّلت (٤۱)، الآية ٤٢.

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

4
  • وبعد أن قال هذا لذلك الرجل تأمّل قليلاً، حينها التفت إليه ذلك الرجل وقال له: أين أنت من ذلك المبدأ وتلك الحال؟ 

  • لقد كان هذا السؤال صعبًا، فقد كان يريد أن يضع يده على الجرح أن أين أنت من تلك الحالة؟ فطأطأ رأسه مدّة مديدة. وأنا أعتقد أنّه كان يريد أن يتخلّص من الجواب بنحو من الأنحاء، كان يريد أن يرفع رأسه ولكن كان ينصرف عن ذلك ويبقى مطأطئًا، وكان يريد [أن لا يجبيه] ولكنّه رأى أنّه مصرّ وينتظر الجواب، وكان من العلماء أيضًا، وقد انتقل إلى رحمة الله، رحمة الله عليه، والجميع يعرفونه لو ذكرت اسمه. ثمّ رفع رأسه وقال: أرأيت كيف أشرف أنا الآن على الذين هم في الطابق الأوّل من زوجتي وأطفالي وأبنائي؟ ـ وكان هو في الطابق الثاني ـ فهكذا الإمام له إشراف عليّ. لم يكن هذا الكلام بالهزل، ولم يكن مجرّد كلام صادر عن أيّ إنسان. وأنا لم أنقل إلى الآن هذا الكلام لأحد، ورأيت أنّ هذا محلّه ولا بدّ أن يقال فيه.

  • حسنًا ومن الناحية الأخرى نحن مطّلعون على أخلاقه وصدقه وصحّة كلامه. فأولاً كان في أعلى مراتب الآراء والنظريّات في العلوم الظاهريّة سواء في المسائل الشرعيّة أو الفلسفيّة والعرفانيّة أو المسائل السياسيّة والاجتماعيّة. ومن جهة أخرى فإنّ موقعيّته وخصوصيّته لم تكن بالشيء اليسير، فماذا يريد أن يثبت لنا؟ هذا في عهدتكم أيّها الرفقاء. 

  • هذه الحكومة ستكون حكومة الأنبياء، الحكومة التي يقودها الإمام الصادق عليه السلام فيها العصمة المطلقة، الحكومة التي يقودها أمير المؤمنين عليه السلام فيها العصمة، ولا شأن لنا الآن بالعاملين فيها والولاة هل يعملون وفق نظر الإمام عليه السلام ورأيه أم يقصّرون؟ لا شأن لنا بذلك. كان هناك أناس في عهد أمير المؤمنين عليه السلام يخالفون، فعبد الله بن عبّاس خالف، أو بعض ولاته خالفوا فوبّخهم. فهؤلاء كانوا يخالفون، ولكن الأمر الذي كان ورأي الإمام عليه السلام والأمور التي كان يبيّنها ويطرحها كانت حقائق العصمة المحضة. فهذا هو المهمّ وهذا ليس موجودًا في مكان آخر. في كلام الإمام عليه السلام الحقّ المطلق، وفي كلامي أنا وأمثالي الخطأ والاشتباه، ولا إشكال في ذلك، ففي النهاية نحن بشر، والبشر يشتبهون ويخطئون، وهذا ليس بالأمر المهمّ وليس نقصًا بالنسبة لنا، هو نقص بالنسبة إلى الإمام ولكن بالنسبة لنا ليس نقصًا، نحن من عامّة الناس نخطئ ونشتبه، وإن شاء الله يغفر لنا إن لم يكن هناك قصد، أمّا أن نأتي ونجعل أنفسنا في موضع الإمام عليه السلام ونستعمل كلمات وتعابير تشبه كلمات وتعابير الإمام عليه السلام فنعوذ بالله، هذا محلّ بحث واستجواب. 

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

5
  • فحاصل مطالب الجلسات السابقة مع الأصدقاء هي أنّ المحوريّة في الحكومات التوحيديّة وحكومات الحقّ هو التوحيد، فهذه نتيجة وحصيلة ما تقدّم. 

  • حسنًا من جهة يقول الإمام عليه السلام ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا. ونحن إذ جئنا وقلنا كلّ هذا الكلام من أنّه لا بدّ أن يكون هناك تدبير! لا بدّ في الحكومة أن يصنع كذا وأن يصنع كذا، لا بدّ من مراعاة هذا القانون، لا بدّ من العدالة، لا بدّ من مراعاة شؤون الجميع، الأعراض والنواميس، الأموال والأرواح، وأرواح جميع الناس حتّى أهل الذمّة لا بدّ أن تكون محترمة، لا بدّ من مراعاة القيم، لا بدّ من تقديم الضوابط على العلاقات الشخصيّة، وقلنا الكثير من هذه الواجبات، وقد سمع الرفقاء الكثير من هذه الواجبات، أمّا من الذي يطبّقها فالله يعلم، لا بدّ من الاهتمام بهذه الواجبات كتدبير وتنظيم من قبل العبد في الحكومة الإلهيّة والحكومة الإسلاميّة. 

  • ولبيان هذا الأمر لا بدّ من توضيح هذه النقطة: 

  • مقدّمة حول عالمي التكوين والتشريع وارتباطهما 

  • لدينا عالمان: أحدهما عالم التكوين، والآخر عالم التشريع. 

  • فعالم التكوين هو عبارة عن عالم التقديرات ونزول القضاء الإلهيّ في عالم القدر وعالم التقسيم وفي عالم المظاهر والتعيّنات والنشآت السفلى. هذا العالم هو عالم التكوين، فعالم التكوين هو عالم الوجود والموجود، عالم الإيجاد والوجود. كلّ ما يحصل في هذا العالم فهو على أساس التقديرات الإلهيّة التي تلبس لباس الوجود من اللوح المحفوظ في وقتها وزمانها بواسطة الأدوات والوسائط في العوالم السفلى وخصوصًا في عالم المادّة والكون. هذا العالم هو عالم التكوين. 

  • مقام الإنسان في عالم التكوين

  • وعلى هذا الأساس فإنّ الله تعالى خلق الإنسان، وأعطاه الإدراك، وأعطاه العقل، وتلك الحقيقة التي لم يجعلها عند الملائكة رغم مقامهم وعظمتهم، تلك الحقيقة التي لم يجعلها في جبرائيل، تلك الحقيقة التي لم يجعلها في عزرائيل رغم قدرته التي يخضع لها جميع الموجودات، فتلك الحقيقة جعلها في الإنسان، ثمّ لقّبه بلقب خليفة الله، فجبرائيل الأمين الذي تتنزّل كافّة العلوم التي تفاض على الوجود من نافذة وجوده إلى كلّ بحسب سعته، والوحي الذي ينزل على الأنبياء ينزل بواسطة جبرائيل، وتلك المراتب والصور التي تنكشف لأولياء الله تنكشف بواسطة جبرائيل على الأذهان وعلى الأفكار، ولو اكتُشف ميكروب فبواسطة جبرائيل، ولو اكتشف شيء في الدنيا واخترع شيء فبواسطة جبرائيل، ولو كشف النقاب عن مسألة فبواسطة جبرائيل، وكافّة هذه الخصوصيّات وهذه العلوم هي بواسطة جبرائيل، ولكنّ الله لم يقل عن جبرائيل: إنّي جاعل في الأرض خليفة، إنّي جاعلك خليفتي. كلّ القدرات خاضعة متواضعة أمام قدرة عزرائيل، وعندما يأتي الموت، فلا فرق بين الملِك وغيره، وبين مرجع التقليد والمقلّد، وبين الغنيّ وغير الغنيّ... فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون۱ إذا جاء أجلهم فلا زيادة ولا نقصان. في ذلك الوقت لا بدّ أن يحصل هذا الأمر، ومن هو الواسطة؟ إنّه عزرائيل، فمع هذه القدرة التي يمتلكها لم يجعله الله خليفة، ولكن من هو الخليفة؟ الخليفة هو الإنسان. فإذن تلك الجوهرة وتلك الحقيقة التي في وجود الإنسان قد نشأت من مقام ذات الله والتي بيّنها وأظهرها بخطاب ونفخت فيه من روحي. فأمر النشوء من مقام الذات لا وجود له بالنسبة إلى سائر المخلوقات، فسائر المخلوقات الإلهيّة منبعها ومبدؤها ومنشؤها ما دون الذات، جبرائيل منبع وجوده من مراتب اسم الواحديّة ومن مراتب الأسماء الكليّة الإلهيّة، أمّا أنّ هذه الحقيقة التي هي كون الإنسان خليفة للّه، وهو مثال وجود الله، فهي موجودة في كلّ فرد فرد من الأفراد الجالسين هنا. أي إنّ كافّة من في هذا المجلس لديهم القابليّة للمضيّ والتجاوز عن مقام الأسماء الكليّة والملائكة المقرّبين والوصول إلى مقام الذات، وبذلك يعبّر عن هذا الأمر بعنوان خليفة الله. فهذا الأمر هو الذي يتربط بعالم التكوين. 

    1. الأعراف، الآية ٣٤؛ يونس، الآية ٤٩؛ النحل، الآية ٦۱. 

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

6
  • عالم التشريع

  • وعلى أساس عالم التكوين جعل الله عالم التشريع، أي عالم الأمر والنهي، عالم التكليف، عالم المسؤوليّة، تحمّل المسؤوليّة. لقد كلّفنا الله، وعلى أساس ذلك التكليف الذي توجّه إلينا، على أساسه نصل إلى تلك النقطة المقصودة، وتلك المرتبة الفعليّة التي نحقّق بها خلافة الله، وجميعنا ـ بالطبع أنا أتحدّث عن نفسي وربّما كان تعبير جميعنا خاطئًا أعتذر ـ أنا غافل عن هذا الأمر، وأغفل عنه، وأتغافل عن تلك الحقيقة التي لو التفتّ إليها وتابعتها وجعلتها في مرتبة الفعليّة، من خلال النقاط والالتفاتات التي جعلها لنا عالَم التكليف، حينها سنكون مثالاً للمعبود كما كشفت الأحاديث القدسيّة النقاب عن هذا الأمر: 

  • عبدي أطعني حتّى أجعلك مِثْلي أو مَثَلي 

  • أطعني في مقام التشريع لكي أجعلك مثلي في مقام التكوين. 

  • أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون. 

  • وقول كن والوجود الذي يحصل ليس هو المراتب الظاهريّة التي نقوم بها، وليست تلك الأمور الظاهريّة التي يقوم بها البعض، كأن يحيوا الميّت أو أن يجعلوا صورة في هيئة صورة أخرى، فهذا هو أدنى أدنى المراتب. 

  • أقول للشي كن فيكون.۱ 

  • يعني في جميع المراتب الوجوديّة، كلّ نعمة من نعمي في جميع الأسماء الكليّة، في اسم العليم اللامتناه، في اسم القدير، في اسم الحيّ اللامتناه، قل وتقدّم ما شئت، أرد ما يخطر في فكرك وسعتك الوجوديّة وانظر ما إن كان يتأتّى منك أم لا. هذا هو المقام الذي كان النبيّ الأكرم يطلبه من الله. ربّ زدني فيك تحيّرًا.٢

  • اجعل تحيّري فيك أكثر. زدني تحيّرًا فيك، فقد كان يحصل على شيء حتّى يقول: زد حيرتي فيك. فما لم يأت إلى قلبه ونفسه شيء فلا معنى للحيرة. هذا مقام التشريع. 

  • وعلى أساس هذا المقام فنحن موظّفون أن نعمل وفق ما أمر الله ويأمر. أمّا كون ما نقوم به مطابقًا لتكوينه ومطابقًا لتقديره أم لا فهذا ليس من شأننا نحن، العبد في مقام الطاعة عليه أن ينفّذ ما يأمر به المولى. وأمّا حقيقة ما يقوله المولى وكيفيّته، فهذا ما لا شأن له به. هل سيتحقّق ما يقوله المولى في الخارج أم لا؟ فهذا ما لا علاقة لي به. هل ما يقوله المولى موافق لرغبتي ونيّتي أم لا؟ فهذا ما لا علاقة لي به. الجهاد الذي أقوم به يجب أن يكون وفق التكليف لا أكثر، الصلح الذي نقوم به يجب أن يكون وفق التكليف لا أقلّ، العلاقة التي أقيمها مع المجتمع يجب أن تكون على أساس التكليف، علاقاتنا وتعلّقاتنا يجب أن تكون وفق التكليف. الصداقة والمودّة التي أقيمها يجب أن تكون على أساس التكليف. قطع الصداقة والمودّة الذي قد يحصل يجب أن يكون على أساس التكليف. كافّة الأمور التي تدور في محيطنا لا بدّ أن تكون على أساس التكليف، سواء كنّا مطّلعين على سير عالم القضاء والقدر كالأئمّة عليهم السلام وأولياء الله العظام الذين أزيحت من أمام أعينهم حجب الظلمة والنور كليهما أم لم نكن ملتفتين إلى ذلك. لا أعلم ماذا يحدث غدًا، لا علم لي بمآل هذا الأمر، لا علم لي فليكن لا علم لي، فهذا ليس مهمًّا، فما هي فائدة اطّلاع الإنسان ما دام يعلم أنّه مكلّف بالعمل وفق هذا الطريق ووفق هذا المنهج. 

    1. معرفة الله، ج٢، ص ٦٩: قد ورد في الحديث القدسيّ عن العلّام الخلّاق أنّه قال: عَبْدِي أطِعْنِي أجْعَلْكَ مِثْلِي! أنَا حَيّ لَا أمُوتُ، أجْعَلُكَ حَيَّاً لَا تَمُوتُ! أنَا غَنِيّ لَا أفْتَقِرُ، أجْعَلُكَ غَنِيَّاً لَا تَفْتَقِرُ! أنَا مَهْمَا أشَاءُ يَكُونُ، أجْعَلُكَ مَهْمَا تَشَاءُ يَكُونُ!
      وروى كعب الأحبار هذا الحديث بالصيغة التالية: يَابْنَ آدَمَ! أنَا غَنِيّ لَا أفْتَقِرُ، أطِعْنِي فِيمَا أمَرْتُكَ أجْعَلْكَ غَنِيَّاً لَا تَفْتَقِرُ! يَابْنَ آدَمَ، أنَا حَيّ لَا أمُوتُ؛ أطِعْنِي فِيمَا أمَرْتُكَ أجْعَلْكَ حَيَّاً لَا تَمُوتُ! أنَا أقُولُ لِلشَّي‌ءِ كُنْ فَيَكُونُ؛ أطِعْنِي فِيمَا أمَرْتُكَ تَقُولُ لِلشَّي‌ءِ كُنْ فَيَكُونُ! ( «كلمة الله» ص ۱٤۰؛ و ذكر في ص ٥٣٦ الكُتب التالية كمصادر للحديث: كتاب «عدّة الداعي» لأحمد بن فهد الحلّيّ عن كعب الأحبار، و كتاب «مشارق أنوار اليقين» للحافظ رجب البرسيّ، و كتاب «إرشاد القلوب» للحسن بن محمّد الديلميّ). و يقول في الصفحة ۱٤٣: ورد في الحديث القدسيّ: أنَّ لِلَّهِ عِبَاداً أطَاعُوهُ فِيمَا أرَادَ فَأطَاعَهُمْ فِيمَا أرَادُوا، يَقُولُونَ لِلشَّي‌ءِ كُنْ فَيَكُونُ. (و في ص ٥٣۷ نسب مصدره إلى كتاب «مشارق أنوار اليقين» للحافظ رجب البرسيّ).
    2. راجع: الفتوحات المكّية، ج ۱، ص ٢۷۱ و ٢۷٢؛ و ج ٢، ص ٥٤٥؛ و فصوص الحكم، ص ۷٣ و شرح الأسماء الحسنى، للملا هادي السبزواري، ص ٥٣٥؛ ومرصاد العباد، ص ٣٢٦.

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

7
  • واجب العبد في التدبير هو العمل وفق ظاهر نظام التشريع

  • وعلى هذا الأساس، فإنّ واجب أيّ عبد من العباد هو العمل على أساس الظاهر، مهما كان هذا الظاهر وبأيّ نحو كان، فلا بدّ من السير وفقه. سواء أقْبَلَ الناس أم لم يُقبلوا، اهتمّوا أم لم يهتمّوا ـ لأنّ البحث كان حول الحكومة الإسلاميّة فلن أتحدّث عن سائر الأمور، فاليوم سأتحدّث في هذا الجانب من البحث، وستكون النتيجة في هذا المجال ـ سواء اهتمّ الناس بالإنسان أم لم يهتمّوا، فرحوا أم لم يفرحوا، أثنوا عليه أم لم يثنوا، حسبوا له حسابًا أم لم يحسِبوا، عظّموه وكرّموه أم لا، لا فرق بين كلّ هذا بالنسبة إلى الحاكم الذي ارتبط بذلك الغيب وذلك الارتباط الولائي، ذلك الحاكم لا يرى إلاّ نظام التشريع الإلهيّ فقط وفقط، لأنّه في كثير من الأوقات تختلف الأحوال، فنظام العالم كما ذكرنا هو نظام امتحان، والامتحان أيضًا يحصل بالتبدّل والتغيير. فتارة ترى أنّ أتباع خصمك قد زادوا فيحصل في ذهن الإنسان شبهة أن لماذا ليس حول رسول الله إلا عدد يسير؟! فأين هي تلك الجماعة الكثيرة التي كانت حول رسول الله؟ فتحصل شبهة في هذا الجانب، وفي ذاك الجانب أيضًا تحصل بهجة أن الحمد لله قد ابتعد الناس، ابتعد الناس. 

  • ولكنّ المؤمنين ليسوا كذلك ففي الآية القرآنيّة يقول: {ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا}.۱ عندما رأى المؤمنون الأحزاب قد تجمّعوا وتكاتفوا وجاءت الجيوش تلو الجيوش والسرايا تلو السرايا فإنّ المنافقين والذين في قلوبهم تزلزل، أولئك الذين يلتفتون إلى حقيقة الأمر شيئًا ما، ولكن لم تسيطر على قلوبهم، لا تزال قلوبهم متردّدة بين طرفي الإيمان والكفر، هؤلاء يحصل في قلوبهم شكّ، يحصل عندهم شبهة. لماذا؟ لأنّ المعايير السابقة لا تزال في أذهانهم، لا تزال تلك الأسس السابقة التي تجعل الحقّ في الكثرة وفي الشائعات وفي الإشاعات في تلك المسائل الملفتة للنظر، في تلك الأمور التي يستفيد منها أهل الدنيا للوصول إلىها، يستفيدون من المظاهرات، ومن الاجتماعات، ومن الزيادة ومن كثرة الآراء، من هذه الترحيبات والتعظيمات والتكريمات، لا تزال هذه الأمور راسخة في قلوبهم ولم تخرج، لا تزال مستقرّة في قلوبهم، ولأنّ هذه المبادئ موجودة فإذا تحقّق مصداق منها في الخارج يأتي القلب فجأة إلى ذاك الجانب، رغم أنّ رسول الله هنا، أمير المؤمنين هنا، إمام الزمان مثلاً هنا، ولكن هناك إنسان واحد يحسب لهم حسابًا لا جميع الناس، إنسان واحد يرى النبيّ، إنسان واحد يرى إمام الزمان، لو أنّ إمام الزمان كان لجميع الناس لكان ينبغي أن لا ترى العين غيره، كان ينبغي أن لا ترى العين سواه. وكما يقول المرحوم السيّد أحمد الكربلائي أعلى الله مقامه عندما كان يتحدّث معه المرحوم الكمباني حول مسألة رؤية كثرة الأشياء ومسألة التشكيك في الوجود، فقد أجابه السيّد أحمد جوابًا قاطعًا مؤدّبًا ولكن قاطعًا جدًّا فيقول كما يستفاد من مطاوي كلمات ذلك العظيم: إنّ الله قد أعمى عين هذا العبد عن كلّ الكثرات وما سواه. وجعله الله أكثر عماءً.

    1. سورة الأحزاب، الآية ٢٢. 

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

8
  • فهذه العين التي لا ترى إلاّ الله لو أضفت على الخلائق أيضًا عشرة أضعاف فإنّها ستبقى عمياء. فلو أنّ ضريرًا دخل هذا المجلس، أعمى، وكان فيه عشرة رجال لما رآهم، ولو كان فيه مليون رجلاً أيضًا لما رآهم، لا فرق. ولو أضيف إليهم مائة مليون أيضًا لما رآهم. لماذا لا يراهم؟ لأنّه لا يرى. فهذه الرؤية مؤثّرة لمن كانت عينه ترى. ولكن عندما يغمض عارف ما عينه عن غير الله ولا يرى غيره ويراه هو المستقلّ بالذات في جميع عالم الوجود وكافّة المخلوقات يراها مرايا وبالعرَض لا بالاستقلال، لو فرضنا ـ ولا إشكال في الافتراض وإن كان محالاً من الناحية الرياضيّة والفلسفيّة العقليّة، سواء من الناحية الرياضيّة أو الفلسفيّة ـ هذا العالم، الأجرام السماويّة، الدنيا وعوالم المنظومة الشمسيّة، وغير منظومة المجرّات، فعالم الوجود الآن بهذه السعة التي لا تتناهى، لو صار ضعفين فإنّ عدم استقلاله سيبقى ثابتًا لا يتغيّر، واعتماده على الله سيبقى ثابتًا. ولنفترض أنّ هذا العالم، لنفترض أنّ عالم الوجود قد تضاعف مائة ضعف، فليكن، فكم لدينا الآن من الأجرام ومن النجوم ومن الكواكب السيّارة، ومن المجرّات، ومن الأجرام السماويّة؟ فمن وجهة نظر رياضيّة وفلسفيّة هذا خطأ ولكن من وجهة نظر عاميّة لنفترض أنّ عالم الوجود هذا قد تبدّل إلى مائة ضعف، فسيبقى مخلوقًا ولن يصبح خالقًا بذلك. ولو صار مائتي ضعف فهو مخلوق، ولو صار مليار ضعف فهو مخلوق، ولن يرتقي درجة واحدة عن المخلوقيّة، وليس فقط درجة واحدة، بل ميليمترًا واحدًا ولن يقترب من الخالقيّة.

  • هذا الكوب الموجود هنا الآن لو لم يَسكب لنا فيه صديقنا المحترم الماء لبقي إلى الأبد خاليًا. ولو جعلتم من أمثال هذا الكوب ألفًا في هذه الغرفة، فلو لم يأت أحد ويملأها لبقيت خالية. ولو صارت هذه الأكواب الألف ألفين أيضًا لن تمتلئ، ولو صارت مائة ألف ومهما ازدادت فإنّ حاجتها ستزداد. وتعب الذي يملؤها سيزداد، عليه أن يحني ظهره مرارًا ليملأها، وبالطبع بالنسبة إلى الله لا تحتاج إلى شيء. أمّا لو كان المالئ من عالم المادّة وخصوصًا إذا كان لديه مرض في ظهره فإنّه سينهار عند الكوب رقم مائة، في حين أنّ الله يقول: {الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهنّ}۱ 

    1. سورة الأحقاف، الآية ٣٣. 

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

9
  • فهذا الأمر وهذه الناحية هما من وجهة نظر العارف، فالعارف لا ينظر أبدًا إلى الكثرة، فأحد المعايير التي يقدّمها الله لنا هو أنّ العارف دائمًا ينظر إلى الوحدة، فلو وقف أمام العارف ألف، فإنّه يراهم تمثالاً، جميعهم يتكلّمون فيقول: جعِل فيهم مسجّلة وهي تتكلّم. فمثلاً لو كان هناك تمثال أو رجل آلي، وجعلتم فيه شريطًا مسجّلاً، ثمّ يصدر من فم هذا الرجل الآلي صوت، فهل يخطر في بالكم أنّ له عقلاً، له شعورًا؟ كلاّ، بل هو برنامج قد برمج، وجعل فيه، وهو يعمل وفق هذا البرنامج، يحرّك يده، يخرج منه صوت، يتكلّم مثلاً، ولكن أعماله الظاهرة هذه لا تجعلكم أبدًا تعتقدون الشعور والحياة فيه. ولو كان هناك ألف رجل آليّ فإنّكم تقولون أيضًا هي بدون شعور وبدون حياة. وفي نظر العارف جميع مخلوقات عالم الوجود هي كالرجل الآليّ، كالتمثال، تمثال، ما يعطيه الحياة فقط هو حيثيّة التعلّق والربط، ولو سلبت منها حيثيّة الاتّكاء على الله فإنّها جميعًا ستغدو تماثيل، جميعها هواء، جميعها بالونات، جميعها ألعاب، لا وجود استقلاليّ لها.

  • لذلك يقول: {ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا}۱. عندما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا وعد الجنّة، وعد المضيّ إلى النعم الإلهيّة، ليتكم أيّها الأحزاب جئتم قبل هذا، ليتكم جئتم لمحاربة الإسلام قبل هذا، ليتكم جئتم قبل هذا، لننال توفيق الشهادة أسرع، لماذا لم تأتوا؟ ليتكم جئتم في العام الماضي. {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا}. تسليمهم يزيد، إيمانهم يزيد، أمّا الكفّار فما إن يروهم حتّى يرتجفوا! ماذا حصل يا رسول الله؟ لقد وعدتنا أن نسيطر على كلّ الدنيا، لقد وعدتنا أن نأخذ مكّة ونأخذ اليمن والهند وكذا وكذا، فماذا حصل؟ الآن انتهى أمرنا بساعة واحدة. حسنًا فهذا أحد علامات ومعايير كلّ من الجانبين، فذاك الجانب يرى الزيادة معيارًا، وهذا الطرف يرى الوحدة معيارًا، ذلك الجانب الذي أودعه الله فيه يراه هو المعيار. 

    1. سورة الأحزاب، الآية ٢٢.

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

10
  • ضرورة الامتحان في عالم التكوين لتحقيق التكامل في عالم التشريع

  • والآن نشير إلى أمر، وهو أنّ عالم الوجود الذي يستمرّ في أحداثه إلى جانب عالم التشريع، جعل الله فيه نظام الامتحان لأجل هذه الأمور وهذه الكمالات، ففي نظام الامتحان هذا يتّضح مفهوم التشريع، فلو لم يكن هناك امتحان لسار الجميع بنحو واحد، لو لم تكن هناك تبدّلات وتغيّرات فإنّ الجميع سيتحرّكون بطريقة واحدة، فكما أنّ الله تعالى جعل قواعد لهداية الناس وإخراج استعداداتهم إلى الفعليّة، وأرسل الكتب، وبيّن الحقائق، وجعل أسوة في الأعمال هم الأعاظم، فهكذا جعل للشيطان كلامًا إلى جانب ذلك. فالعالم عالم امتحان في النهاية.

  • الامتحانات الظاهريّة

  • فلو جاء النبيّ موسى بتلك اليد البيضاء وتلك العصا الخاصّة، فإنّه يجعل إلى جانبه السحرة، هؤلاء الذين يأتون ويسحرون أعين الناس، ويسخّرون أحاسيسهم، فهؤلاء أيضًا هم إلى جانبه. ولو كان هناك موسى فهناك السامريّ أيضًا في المقابل، ويقوم بأعمال تجعل الناس يخدعون، ويمتحنون، فهؤلاء يأتون ويرونه. 

  • نعم قال أولئك السحرة لموسى: {قالوا إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين}۱، فائت أنت أولاً بما عندك أو نشرع نحن؟ 

  • فقال موسى بل ألقوا. ألقوا أنتم أولاً. لربّما أراد موسى أن يحفظ احترامهم، فقال لهم متواضعًا: لا تفضّلوا أنتم. ففي النهاية أنتم أكثر. أو أنّه كان في مقام الاطمئنان والثقة، {فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس...}٢ انظروا فالشيطان لا يقف جانبًا مكتّف اليدين وينظر فقط أنّه جاء نبيّ وهو يسير وفق الأمور الظاهريّة، ويسيطر على الناس. فاليد البيضاء أمر ظاهريّ، العصا أمر ظاهريّ، الثعبان والحيّة والتحوّل إليها أمور ظاهريّة، يقول: أنا آتي من خلال الظاهر وأنتم تأتون من خلال الظاهر، أنت تأتي بعصا تتبدّل إلى ثعبان، وأنا أيضًا أعلّم هؤلاء الناس السحر وما شابه فيحرّكون بعض القوى فيقومون بأعمال خارقة، لذلك فهناك سحر فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس، سخّروا أعين الناس، وأخضعوها لسحرهم {وجاؤوا بسحر عظيم}.٣

  • لقد جاؤوا بسحر عظيم جدًّا، لقد تصرّفت إرادتهم النفسيّة في ملكوت تلك الشبكات والحبال التي في أيديهم وصورها المثاليّة فصارت تتغيّر وفجأة رأوا أنّها تتحرّك، لقد كان هذا حبلاً، ولكنّه تبدّل إلى حيّة تتحرّك {وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون}٤ قلنا لموسى ألق الآن عصاك، فابتلعت كلّ إفكهم، والإفك يعني الكذب وخلاف الواقع والتهمة وطرح الباطل. ابتلعت ما أحدثوا من أمور مخالفة للواقع. فعندما ألقى تلك العصا، ابتلعت جميع ذلك ولم يبق شيء، {ووقع الحقّ وبطل ما كانوا يعملون} فهنا موضع الامتحان. حسنًا جاء موسى وقام بهذا العمل، وجاء السحرة وقاموا بهذا العمل، فماذا كانت نتيجة الأمر؟ كانت النتيجة أنّ الغلبة لموسى. هنا على الناس أن يختاروا. لقد رأوا في النهاية، لقد كان أمام أعين جميع الناس. على الناس أن يختاروا. لقد انقسموا هنا إلى فريقين: فريق السحرة، آمنوا، وقرّروا. التفتوا إلى أنّهم كانوا في الباطل إلى الآن. ولمّا اتّضح لهم الدليل والبيّنة الإلهيّة قبلوا. وانتهى الأمر. فقال فرعون أيضًا: سآخذكم وأقتلكم وأقطّعكم إربًا إربًا. قالوا: {اقض ما أنت قاض}٥، لقد وجدنا الحقّ. فهذا فريق. 

    1. سورة الأعراف (۷)، الآية ۱۱٥. 
    2. سورة الأعراف (۷)، الآية ۱۱٦. 
    3. سورة الأعراف (۷)، الآية ۱۱٦. 
    4. سورة الأعراف (۷) الآية ۱۱۷. 
    5. سورة طه (٢۰) مقطع من الآية ۷٢.

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

11
  • والفريق الآخر هم الناس الذي يشاهدون، فلماذا لم تقبلوا؟ لقد رأيتم في النهاية. فأنتم أيضًا رأيتم. أنتم شاهدتم هذا الأمر أيضًا. أنتم أيضًا رأيتم الباطل، وأنتم رأيتم الحقّ أيضًا. فلماذا لم تسلموا؟ فهم سيبتلون بالعذاب الإلهيّ. فهنا نرى أنّ الشيطان يأتي ويضع لنفسه فخًّا إلى جانب هذا الأمر. إلى جانب طريق الأنبياء هذا وإلى جانب طريق الأولياء يضع فخًّا. وهذه مجرّد أفخاخ ظاهريّة. 

  • الامتحانات الباطنيّة

  • فلنذهب إلى الأفخاخ الباطنيّة. في مقابل هذه الحقيقة يأتي ويجعل مكاشفة كاذبة، في مقابل هذه الحقيقة يأتي ويجعل رؤيا كاذبة، في مقابل هذه الحقيقة يبدي الأمور في عين الإنسان على أنّها حقّ. فهذا أمر الظاهر، وهذا أمر الباطن هنا له شأنه الخاص. والمعيار هو تلك القواعد والأسس. وهنا أمام الحقّ والباطل على الإنسان أن يستعمل تلك القواعد والمعايير التي لا خدشة فيها، فهنا لا يتمكّن الشيطان من أن يفعل شيئًا ويعجز. 

  • فالشيطان يده مبسوطة يقول: أنا آتي بني آدم من كلّ جهة {من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم}۱ وأسدّ عليهم كلّ الطرق. 

  • ووفق إحدى الروايات لدينا: أنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم٢ في العروق٣. فهل لدينا شيء هو أقرب من الدم إلى أنفسنا وإلى وجودنا الماديّ هذا؟ حياة كافّة الخلايا هي بواسطة الدم، ولو قطع الدم لتوقّف الدماغ عن العمل خلال أربع دقائق، خلال بضعة دقائق، يتوقّف القلب عن العمل، وخلال ستّ ساعات تتوقّف العين عن العمل، وكافّة الأعضاء تتوقّف في تلك اللحظة. فلو أخذوا هذا الدم فإنّ جميع الخلايا تخسر مادّة حياتها. ومن خلال التفاعل مع التركيبات التي في الهواء فإنّها شيئًا فشيئًا تخرج عن تلك الحالة الطبيعيّة وتتعفّن، وتزول. أقرب شيء إلى بدن الإنسان وإلى خلايانا الوجوديّة هو الدم، وبواسطته تتغذّى خلايا البدن. يأتي الدم إلى جانب الخليّة، وبواسطة سائل معيّن يربط بين هذه الخليّة والدم فتنتقل الموادّ الغذائيّة إلى ذلك السائل، ولأنّ الخليّة هي في داخل هذا السائل فإنّها تمتصّه وتجذب تلك الأغذية. ولولا هذه العمليّة لتوقّفت كافّة الخلايا عن العمل. وهكذا هو الشيطان في وجودنا، لا تتصوّروا أنّ الأمر هو من الناحية الظاهريّة فحسب. 

    1. سورة الأعراف (۷)، مقطع من الآية ۱۷. 
    2. عوالي اللآلي، ج۱، ص ٢۷٣، عن سنن الدارمي ج ٢ : ٣٢۰ ومسند أحمد بن حنبل ج ٣ : ۱٥٦ و ٢۸٥ و ٣۰٩؛ أنوار الملكوت ج۱، ص ٢۷٣؛ مستدرك الوسائل، ج ۱٦، ص ٢٢۰. 
    3. ورد هذا القيد في روايات أخرى كما في الكافي، ج۸ ص ۱۱٣: هو يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق. ووسايل الشيعة ج۱٦ ص ۸۸: يا رب سلطت إبليس على ولدي ، وأجريته منهم مجرى الدم في العروق.

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

12
  • وهذا الأمر مهمّ جدًّا، ولم أتعرّض لهذا الموضوع اليوم بغير مناسبة، فهذا الأمر حسّاس جدًّا ومهمّ، وعلينا أن نعلم أنه لا بدّ أن تكون خدع الشيطان واضحة لنا، وحيله ومكره واضحان لنا، فهو يأتي ويظهر لنا بصورة النبيّ، يأتي ويظهر بصورة الملَك. 

  • قصّة حول تمثّل الشيطان بصورة ملاك

  • قال المرحوم العلاّمة: جاء رجل إلى أحد الأعاظم وقال: إنّ لي حالات، وعندما شرع ببيانها كان يقول هم يأخذونني هكذا، تأتي الملائكة وتأخذني من الأرض، يبقى جسمي على الأرض وترتفع روحي إلى الأعلى ـ فهناك أمور من هذا النوع، مع اختلاف يسير زيادة ونقصانًا ـ فأذهب إلى السماء الأولى وإلى الأشياء، أرى السماء الثانية، يسيرون بي حتّى السماء الرابعة ويرجعونني. والحاصل أنّ لديّ حالات جيّدة. عندها قال له ذلك الرجل: إذا وصلت إلى السماء الرابعة فقل بسم الله، فبسم الله ليست كفرًا، فقل مرّة واحدة بسم الله. وما إن وصلتُ إلى السماء الرابعة قلت: بسم الله، عندها رأيت أنّ هؤلاء الملائكة الذين يعاملونني بعزّة واحترام ويحملونني على السرير قد ألقوا بي على رأسي إلى الأرض، ولمّا قمت وجدت أنّي قرب حاوية نفايات وأوساخ، وقد سيطرت عليّ رائحة تعفّن، أي إنّ الشيطان يبدي المحيط الملوّث والعفن للإنسان على هيئة جنّة وعنبر ونسرين. فهذا من طريق الباطن. يجب أن نكون يقظين إلى أقصى الحدود! فلا نتساهل في الأمر، فهو مهمّ جدًّا. يبدي لنا المحيط العفن على هيئة أزهار الياسمين والنسرين. كلّ هذا لأنّ النفس صارت ألعوبة للشيطان، لقد سيطر عليها الشيطان، لقد ألقت تلك الأسس والقواعد والمباني جانبًا، وتلك الموازين والتي يجب أن يعمل بها جُعلت جانبًا، وعندما تُجعل جانبًا فإنّ الشيطان لا يأتي فجأة ويبدي لنا منظرًا قبيحًا، لا يأتي على هيئة غول، لا يأتي إلى الإنسان على هيئة أخطبوط. ولو أتى على هذه الهيئة فإنّ الإنسان سيفرّ بالطبع، فالإنسان بطبعه ينفر من الصور القبيحة والمثيرة للتقزّز، ولكنّه يأتي ويجعل مثال الإنسان مطابقًا لما يريده، يلوّن تلك الصور المثاليّة التي ينبغي أن نراها نحن، ويرسمها ويصوّرها. إنّه رسّام في النهاية، إنّه رسّام رسّام، ومعنى الرسّام هو من يجعل الصورة كما يريد هو في ذهنه. فالآن أمامي ساعة، فالرسّام يخرج صورة هذه الساعة عن كونها دائرة ويجعلها بيضاويّة، يخرجها عن الدائرة ويجعلها مربّعة، ويصنع لها شكلاً. فهؤلاء الذين يصنعون الأفلام ما هي حقيقة أفلامهم؟ يجلس إنسان خلف الطاولة ويشرع بصناعة المشاهد، يجعل إنسانًا ما سارقًا، ويجعل آخر قاتلاً، ويجعل ثالثًا مقتولاً، يجعل عدّة سيّارات تصطدم ببعضها، يجعلني أنا وأنت نجلس أمام ونشاهد، فهذا هو الشيطان. كلّ ما نراه يصبح شيطانًا، كلّ هذه الأفلام تصبح شيطانًا، وليس هناك صورة خارجيّة، فمن الذي كان في المشهد وصوّره؟ ولنفترض أنّه كان هناك صورة خارجيّة فماذا تنفعنا؟ جلس إنسان خلف الطاولة وكان صاحب ذهن جوّال، يأتي من هنا وهناك ويعطي المشهد حماسًا، يضيف ويزيد، ويجعل ذهن المخاطب في حال انتظار وترقّب، ففي النهاية أحدهم قتل والآخر قتِل، ثمّ جاء عدد آخر وألقوا القبض عليه. كم ساعة؟ يتلف من وقتنا ساعتين ويذروها في الهواء. فهذا شيطان. هذا نوع. 

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

13
  • وهناك نوع آخر يأتي فيه فيغيّر صورتنا المثاليّة، فنرى وواقعًا نرى، ولا نخطئ في الرؤية، نرى ولكن هل ما نراه له حقيقة أم أنّه هو الذي صنعه وألقاه؟!

  • قصّة تمثّل الشيطان بصورة إمام الزمان

  • ذات يوم كان هناك أحد تلامذة المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، وكنت قد سمعت عنه أمورًا، سمعت عنه أمورًا لم أكن أستطيع المواءمة بينها وبين الموازين والمباني. وكنت أرى أنّ حاله يتغيّر شيئًا فشيئًا، فقد شرع هذا في ذلك العهد السابق قبل الثورة ثمّ وبعد ذلك بسنوات تجسّد الأمر عمليًّا. رأيت أنّ حالاته تتغيّر شيئًا فشيئًا، وبالطبع فقد كان المرحوم العلاّمة أحيانًا يوجّه إليه تنبيهات، ولكنّه على ما يبدو لم يكن يرتّب عليها أثرًا. فقال لي يومًا: يا فلان لو إنسانًا كان مرتبطًا بأستاذ ـ وكان ذلك في حيات المرحوم الوالد ـ ثمّ صار هو مرتبطًا بإمام الزمان، فهل عليه بعد ذلك أن يرجع إلى الأستاذ أم لا؟ وسيكون ارتباطه بإمام الزمان كافيًا؟ فقلت له: هل الأوامر التي يعطيها موافقة لأوامر إمام الزمان أم مخالفة؟ إن كانت موافقة فلا فرق بين الأستاذ وإمام الزمان، فعليه أن لا يطيع بعد ذلك، فما معنى ذلك. وإن كانت مخالفة فعليك هنا أن تفكّر لماذا صارت أوامر إمام الزمان مخالفة لأوامر الأستاذ؟ أليس هو أستاذًا يوصلك إلى إمام الزمان؟ فلماذا أوامره مخالفة؟ فعليك أن تشكّ في الأستاذ أو في إمام الزمان؟ أحد هذين الاثنين. ولأنّ الأستاذ له بعد ظاهريّ وليس صورة مثاليّة، ويمكن أن يكون إمام زمانك هذا صورة مثالية لا واقعيّة، فعليك في الوقت الحالي إذن أن تتمسّك بالأستاذ وأن تترك ذاك، لأنّ هذا هو الموثوق عندك. 

  • فثقل الكلام عليه. ومضى على هذه الحادثة سنوات، وتغيّرت حاله شيئًا فشيئًا وكنت أرى آثار الكدورة والظلمة في وجهه، ثمّ علمت أنّ له صلة ببعض الجماعات وبعض الأفراد وبعض الأمور، ولن أوضّح أكثر من ذلك، وبصورة عامّة اختلف حاله، وتغيّرت أحواله بشكل كامل. وذات يوم كنت جالسًا في منزل المرحوم الوالد، في غرفة الاستقبال الخارجيّة في مشهد، فنادى أحد الرفقاء ـ وكان قد قال إنّه يريد الذهاب إلى طهران ـ وقال له: اذهب إلى فلان وقل له إنّ فلانًا يقول: إنّ إمام الزمان الذي تراه أنت ليس هو إمام الزمان، بل هو شيطان. لقد أخبرتك بذلك حتّى لا يأتي زمان تقول فيه: إنّ هؤلاء الأعاظم ملتفتون إلى حقيقة الأمر ولم ينبّهونا. فجاء ذلك الرجل والتقى به، ذهب إلى دكّانه فرأى أنّ الأمور معدّة بشكل واضح، والناس حاضرون هناك وينتظرون الأوامر، ويقدّمون التحايا والاحترام وما شابه. فقال له الأمر بكلّ صراحة وأمام الجميع، إنّ فلانًا أرسل إليك هذه الرسالة وقال هذا. فانقلب حاله بشدّة، وطأطأ رأسه. لمّا أخبرني عنه ذلك الرجل قال: رفع رأسه بعد وقت يسير وقال: كلاّ، هو مخطئ، وأنا لا أخطئ. واستمرّ الأمر على هذا النحو واستمرّ في حين أنّ الأمر من الناحية العلميّة ومن ناحية الحجّة قد تمّ عليه. ولمّا تحدّثت معه في أحد المجالس، أتممت الحجّة. ولكنّا نرى أنّ الأمر كيف كان، كان من نوع ما فعله السحرة، لقد اتّضح الأمر. فلماذا لا تقبل بالأمر بعد أن اتّضح؟ لماذا لا تقبل به؟ وطبعًا هناك أحداث أخرى مختلفة، عندما يتّضح الأمر فيها يقبل صاحبها ويهتدي ويُرشد ويفتح طريقه ويمشي في ذلك الطريق. فهذه المسألة مسألة الشيطان، وهذه المسألة هي مسألة الامتحان. وهي إحدى الأسرار الإلهيّة. 

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

14
  • فمن الأسرار الإلهيّة أنّه كما أنّ وليّ الله أو الإمام عليه السلام يمشي في طريق ويهدي الناس بطريقة معيّنة ويرشدهم، فإنّ الشيطان يأتي ويبيّن الأمر لهذه الجماعة. فأمير المؤمنين يعبّئ الجيش نحو الشام، ومعاوية من الجانب الآخر يعبّئ جيشه. أمير المؤمنين يصلّي، يصلّي صلاة الجمعة مع الجميع. ومعاوية أيضًا في الطرف المقابل يصلّي صلاة الجمعة. أمير المؤمنين يستند إلى القرآن، وعمرو بن العاص يرفع المصاحف على رؤوس الرماح أيضًا. فهذا هو الشيطان في النهاية، الشيطان هو من يقوم بهذه الأعمال. 

  • كيف كان الأمر في موضوع الخلافة؟ هل كان يختلف عن ذلك؟ جاءت الجماعة الأكثر وغصبت الحقّ من أمير المؤمنين، وجاء السامريّ وعجله وأجلس عمر أبا بكر على مسند الخلافة؟! أليست هذه هي الكثرة؟ أمير المؤمنين كان يأكل خبز الشعير، وعمر أيضًا يأكل الخبز والخلّ. إنّه يأكل نفس الطعام، والناس يرون. فلم يكن يأتي بالديك الروميّ والحجل من الهند، كلاّ، بل كان يأكل ويتظاهر أمام الناس، ولكن عندما يصل الدور إلى الحقّ، عندما يأتي ذلك الرجل ويسأله ويحار في الجواب، فبدلًا من أن يعيد الحقّ لأصحابه يمتنع. فلماذا لا تعطيه؟ لماذا لا تعطي الحقّ لعليّ؟ لماذا تقول لا أحتمله حيًّا ولا ميّتًا لماذا؟ كلّ هذا شيطان. الخبز والخلّ اللذان يأكلهما لو جعلوا له الدنيا لحمًا مشويًّا وجعلوه بين يديه لما كان له تلك اللذة، فتلك الرئاسة والتلذّذ النفسيّ الذي يحصل بواسطة الحكم على الناس، لا يبلغه طعام، ولا غيره من اللذات. فينبغي أن لا يخدعنا ذلك الأنس النفسيّ الذي يحصل لدى الإنسان، يجب أن يسير الإنسان وفق الموازين والقواعد. وينبغي أن لا تتأثّر حركة الإنسان بهذا النحو من العمل، فالحال يتغيّر يومًا ما، غدًا يصبح الأمر على حال، وبعد غد على حال.

  • إصرار المرحوم العلاّمة على الناشطين في الثورة بإخلاص النيّة

  • لذلك قال المرحوم العلاّمة لجميع الناس قبل الثورة، عندما كان يتعاون مع آية الله الخميني في شؤون الثورة، وكان هناك تعاون في المساعي، وكان يهيّء الناس لتلك الحركة، وكان الشرط الأساس للذين يدخلون في هذه الجماعة وتلك الحركة الخاصّة به، وعلاقته مع الناس، هو العبوديّة والإخلاص في العمل، فكان يقول: يجب أن يكون عملك خالصًا على الدوام، وكلّ حركة تقوم بها يجب أن تحافظ على خلوص النيّة. فلو وصلت هذه الحكومة يومًا ما إلى نتيجة ما فينبغي أن لا يكون لديك توقّع. يجب أن تقوم بعملك الآن بشكل صحيح ثمّ تنطلق، إن لم تستطع فلا تأت. يجب أن يكون عملك خالصًا الآن، ولو جاؤوا غدًا وقالوا لك: نحن لا نحتاج إلىك، حسنًا لا يحتاجون فليكن، عليك أن لا تحزن، عليك أن لا تقول: لأنّي أنا سُجنت فالحقّ معي. هل تلفتون؟ عليك أن لا تقول: لأنّي عذّبت فيجب أن أكون رئيسًا أو نائبًا أو وزيرًا. لأنّ هذه الثورة كانت بيدي فلو كان هناك من هو أصلح وأفضل فلا يجب أن يحلّ مكاني. كلاّ فلو كان الأمر هكذا فهو من النفس، فبماذا تختلف عن الآخرين؟ عن الآخرين في سائر الثورات؟ ففي الحملات الإعلانيّة وفي المراكز في سائر البلدان يبذلون جهودًا لأجل المرشّحين، يدفعون الأموال وينفقون، حتّى إذا وصل يقوم لهم بخدمة معيّنة. والحمد لله هذا ليس موجودًا عندنا، وهو موجود في البلدان الأخرى، يقوم بهذا العمل، يردّ البضاعة المعيّنة، يقوم بتلك التسهيلات المعيّنة، يصنع بهذا المال كذا، فهؤلاء التجّار هنا وهناك وأصحاب المصانع في سائر الدول، يقدّمون خدمات للمرشّحين، ينظّمون الحملات الإعلاميّة وما شابه، فما هو هدفهم؟ هل تحصيل رضا الله؟ فهذا الذي يرفع المرشّح على رأسه هل يفعل ذلك لتحصيل رضا الله؟ لا مكان لله في أعمال هؤلاء، هو يفعل ذلك حتّى إذا نجح جعله وزيرًا أو نائبًا أو حاجبًا، ليهيّء له الأجواء ويرفع الموانع، فهم يعملون لأجل هذا. 

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

15
  • أمّا المرحوم العلاّمة، فمن الكلمة الأولى مع الذي كان يأتي كان يقول إن كانت نيّتك لغير الله فلا تأت! التفتوا من البداية حتى النهاية الكلام الأول هو هذا، اذهب أوّلاً وأصلح نيّتك، يجب أن تختبر نفسك، وتقلّب الأمر ظهرًا وبطنًا، فإذا اطمأننت واتّضح لك الأمر [فبادر]. ابن على أنّهم لن يعطوك مسؤوليّة، ابن على أنّه لن يكرّمك أحد، ابن على أنّه لن يحترمك أحد، فإذا رأيت أنّ الأمرين سيّان عندك فتعال، عندها كم واحدًا سيأتي؟ لا أحد أبدًا حتّى واحد لا يأتي. عندها تعال.

  • النتيجة: معنى عدم تدبير العبد لنفسه تدبيرًا

  • هذا معنى لا يدبّر العبد تدبيرًا، فيجب أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا في الحكومة [فيقول] إنّي سأقوم بهذا العمل، لأصل إلى هذه النتيجة، سأقوم بهذا العمل لأصل إلى هذه المنفعة، كلاّ فالعبد يقال له تقدّم فيتقدّم، توقّف فيتوقّف، تحرّك فيتحرّك. هو عبد، أمضي وليس لي شأن في أنّي أصل إلى نتيجة أو لا أصل. لا شأن له بالمنافع التي يحقّقها إن قام بهذا العمل. لماذا؟ لأنّه مشغول بأمر أكثر أهميّة. هو يرى كلّ هذه الحكومة رجلاً آليًّا. هو يرى كلّ هؤلاء الأفراد بمقدار ذرّة، يرى كلّ هذه الحركات فقط تسير في مجرى وفي نهر وتريد أن تصل إلى البحر. إنّه ينظر إلى البحر، هو لا يرى الفرد، لا يرى النائب ولا يرى الوزير، لا يرى رئيس الجمهوريّة، لا يرى القيادة، لا يرى أحدًا، هو لا يرى إلا الله وحده. ولو أخذوه وعذّبوه.

  • وقد كان هناك من هؤلاء الناس، فرحم الله آية الله دستغيب، لقد كان من الذين يمكن أن أقول إنّهم مصداق هذا الكلام. لقد كان رجلاً عظيمًا جدًّا، ولذلك فإنّي أذكر اسمه، وبالطبع ليس لديّ اطّلاع كاف على الآخرين، ولكن لأنّي كنت أعرفه ولا زلت، ومقاماته محرزة عندي، فقد كان من هؤلاء الذين اهتمّوا بهذا الكلام للمرحوم العلاّمة، وكان يقول مرارًا: كلّما أراد الشيطان في الشدائد أن يأتيني يريد أن يلقي عليّ شبهة، كان يخطر في بالي كلام السيّد محمّد حسين هذا أن: أخلص نيّتك أوّلاً ثمّ تعال. لقد كان هذا يحرسني على الدوام. فهذا ممتاز في النهاية. 

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

16
  • والأمر مهمّ جدًّا فإذا كان الإنسان يبذل كلّ تلك الجهود لأجل الوصول إلى منصب معيّن ومقام معيّن، وإن لم يرشّح لموقع ما فإنّه يمسك بالقلم ويكتب في الصحف ما يشاء، فهذه تصبح حكومة غير الأنبياء.

  • في حكومة الأنبياء عبوديّة، حكومة الأنبياء هي حكومة مالك الأشتر، فمالك الأشتر هذا كان قائدًا، ولو أنّ أمير المؤمنين قال له يومًا اذهب كواحد من الناس، وليكن القائد غيرك، لما ارتسم العبوس على جبينه، ولشكر الله أيضًا، لشكر الله، الحمد لله لقد استرحت. فقد جعل عليّ في عنقي وظيفة. إنّ حكومة الأنبياء هي حكومة محمّد بن أبي بكر، والذي تولّى مصر من قبل الإمام. حكومة الأنبياء هي حكومة خواصّ أمير المؤمنين عليه السلام، حكومة سلمان، كان سلمان قد ألقى على كتفه كيسًا من الخبز اليابس، وامتطى حماراً، وفي يده عصا وقربة، فهذا هو حاكم العراق مثلاً، جاء من قبل عمر يريد أن يحكم العراق والمدائن وإيران وهذه المناطق، فقد كان كلّ ذلك تحت سلطة سلمان، ركب حمارًا، وخلفه كيس من الخبز اليابس، فقالوا له: ألم ترَ الحاكم في طريقه إلينا؟ حيث كانوا قد جاؤوا لاستقباله، فقال: من؟ قالوا: سلمان؟ قال: وماذا تريدون منه؟ قالوا: لا شيء فقط جئنا لاستقباله. فقال أروني دار الإمارة؛ أنا هو. لقد جاء هؤلاء بتلك الأفكار لاستقبال الحاكم، فرأوا أنّ كلّ شيء قد انهار. إنّه مجرّد درويش فقير مشرّد جاء إلى هنا يقول: أنا الحاكم. 

  • ماذا تريدون أنتم؟ هل تريدون قرونًا؟ هل تريدون قبّعة من نوع معيّن؟ هل تريدون أن أجعل ألماسَتَيْ الكوهي نور ۱ وبحر النور ٢ وأمثالهما على رأسي؟ وأمشي بين الناس بفخر وعزّة ورفعة وغرور؟ كلاّ. 

  • هنا يتّضح معنى كلام الإمام الصادق عليه السلام شيئًا فشيئًا، فلا بدّ من اتّباع أدقّ القواعد والأسس العقليّة والتوحيديّة والإسلاميّة في موضوع الحكومة، ومن جهة أخرى يجب أن لا يكون تدبير، ويجب الكون في مقام العبوديّة. لا بدّ من القيام بالعمل لأجل الله. وسواء وصلت الأعمال التي يقوم بها إلى نتيجة أم لم تصل فلا شأن للعامل بذلك. وهذا العمل الذي يقوم به أو لا يقوم به كيف يفكّر فيه بالنسبة إلى الغد، نقوم بعمل كذا، نقوم بذاك العمل لنتغلّب على الخصوم، كلاّ فهذه التدبيرات المنبعثة من النفس وتخيّلات النفس لا مكان لها في نظام الحكومة الإسلاميّة. 

    1. الكوهي نور (بالفارسية: كوه نور) وتعني «جبل النور» هي الماسة ۱۰٥ قيراط (٢۱.٦ غرام) كانت الأكبر في العالم لوقت معين. يرجع أصلها إلى كولور في منطقة غنطور في ولاية أندرا براديش الهندية. وقد تملكها حكام هندوس ومغول وإيرانيون وأفغان وسيخ وبريطانيون. حتى استحوذت عليها شركة الهند الشرقيّة وأصبحت جزءًا من جواهر التاج البريطاني عندما أهديت للملكة فيكتوريا عندما توجت امبراطورة على الهند عام ۱۸۷۷م. (م)
    2. درياي نور هي إحدى أكبر الماسات الوردية في العالم كما وإنها أهم قطع جواهر التيجان الفارسية. تُعتبَر هذه الماسة ذات الـ ۱۸٦ قيراط واللون الوردي الباهت المتموضعة على الإطار الدقيق من أفضل الأنواع من ناحية النقاء، مصقولة بشكل وردي مستدير.(م)

كيف نوفّق بين ضرورة التدبير عقلاً وشرعًا وبين نهي الإمام عنه

17
  • نسأل الله المتعال أن يعجّل في فرج تلك الحكومة الواقعيّة ووليّنا جميعًا، ويجعلنا مستعدّين. فمن يريد إمام الزمان؟ يريد أناسًا يسيرون وفق هذا الاعتقاد وهذه القواعد والأسس، ويقبلون حكومته، لا الذين هم داخلون في جملة من الأحاسيس والتخيّلات، كما نحن عليه الآن. حكومة إمام الزمان هي حكومة الحقّ، وعلينا أن نطلب من الله أن يحقّق فينا تلك القواعد والأسس التوحيديّة والواقعيّة قبل ظهوره، لنتمكّن من الحصول على تلك المنافع وتلك الألطاف وتلك الفائدة الكاملة والفيض الكامل الذي يقدّمه الإمام للنّاس، كلّ يوم أكثر فأكثر، وقبل الآخرين. 

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.