15

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟

نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

51
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1427

التاريخ 1427/09/30


التوضيح

لماذا لا ينبغي للمؤمنِ أن يفخر بعملهِ على اللهِ تعالى؟ ما هو الشَّفيعُ الحقيقيُّ الذي ينبغي تقديمُهُ بينَ يدي اللهِ تعالى بدلًا عن الأعمالِ؟ وكيف تُصبِحُ رؤيتُنا للحياةِ والمجتمعِ والآخرينَ مختلفةً تمامًا عندما نُدرِكُ حقيقةَ الوُجودِ الرَّابط باللهِ تعالى؟ وما هو المفهومُ الصَّحيحُ للوحدةِ بينَ المُسلِمينَ؟ تُجيبُ هذهِ المحاضرةُ القيِّمةُ عن هذهِ الأسئلةِ العميقةِ، وتُقدِّمُ رؤيةً عرفانيّةً أصيلةً لمقامِ العُبوديّةِ والمحبّةِ الإلهيّةِ، مع نقدٍ بنّاءٍ لبعضِ المَفاهيمِ والمُمارَساتِ الخاطِئةِ في زمانِنا.

/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟

  • نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۷ هـ - الجلسة الخامسة عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

2
  •  

  •  

  • أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ

  • بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سيّدِنا و نبيِّنا أبي القاسمِ مُحَمّدٍ

  • و على آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ

  • و اللَّعنةُ عَلَى أعدائِهم أجمَعينَ

  •  

  •  

  • «مَعرِفَتي يا مَولايَ دَليلي عَلَيكَ وحُبّي لَكَ شَفيعي إلَيكَ وأنا واثِقٌ مِن دَليلي بِدَلالَتِكَ وساكِنٌ مِن شَفيعي إلى شَفاعَتِكَ» 

  • لماذا لا ينبغي حساب الأعمال عند الله؟

  • تقدّم للرفقاء أنّهُ في مَقامِ العَرضِ والحسابِ، لا ينبغي للإنسانِ أن يَحسِبَ عَمَلَهُ عندَ اللهِ تعالى، لأنّهُ إذا أرادَ حقًّا أن يَحسِبَ هذا العملَ، فإنَّ اللهَ تعالى سيُدَقِّقُ في الأمرِ كثيرًا ويُحاسِبُهُ على الصغيرةِ والكبيرةِ وهو يُدقّق النظر جيّدًا. وإن لم يُرِد ذلكَ، وأرادَ أن يَحسِبَ أعمالَهُ مجازًا، فمِنَ الأفضلِ ألاّ يفعلَ. حقًّا، إذا أرادَ الإنسانُ أن يَعرِضَ عَمَلَهُ على اللهِ تعالى، فإنَّ اللهَ تعالى سيَضَعُ إصبعَهُ على ذلكَ العملِ نفسِهِ، ويُظهِرُ النقاطَ التي كانَ الإنسانُ على عِلمٍ بها وغَضَّ الطَّرْفَ عنها وأغمَضَ عينيهِ وتجاوَزَها، أو تلكَ الأمورَ التي كانت خَفِيَّةً جدًّا لدرجةِ أنّهُ ربّما لم تَظهَرْ لهُ، سيُظهِرُها اللهُ تعالى للإنسانِ ويُوَضِّحُ أنَّ هذا العملَ لم يكن معلومًا أنّه كانَ لوجهِ اللهِ أم لغيرِهِ.

  • قصّة محاولة توسعة المسجد: مثال على حساب الأعمال يوم القيامة

  • أتذكَّرُ أنّه كانَ المرحومُ العلامة فيما مضى بحاجةٍ إلى مكانٍ لبعضِ الأمورِ والأعمالِ والأنشطةِ التي أرادَ القيامَ بها. فذهبنا معَ أحدِ الذينَ كانوا في المسجدِ عندَ المرحومِ العلامةِ إلى أحدِ المسؤولينَ عن بعضِ الأماكنِ، وجلسنا وتحدَّثنا معهُ حولَ هذا المكانِ الواقعِ خلفَ المسجدِ، وقلنا لهُ إنَّ هذا المكانَ لا فائدةَ منهُ الآنَ، ولسنواتٍ طويلةٍ لم تَسكُنْ فيهِ سوى عائلةٌ واحدةٌ، وهُناكَ بعضُ الحيواناتِ فيهِ، وهو تابعٌ لوقفٍ، وهُناكَ بعضُ المواردِ التي لم تُستَخدَمْ حتّى الآنَ ومتروكٌ منذُ عشراتِ السنينَ، فقُمْ بضَمِّهِ إلى المسجدِ حتّى تَستفيدَ الأنشطةُ التي يقومُ بها المسجدُ من منافعِهِ، وكذلكَ يُستفادُ من هذا المكانِ الموحِشِ والمتروكِ. على أيِّ حالٍ، تمَّ الحديثُ وتمَّ الاتّفاقُ على مُتابَعةِ الموضوعِ. كانَ هذا في نفسِ الوقتِ الذي بدأ فيهِ المرحومُ العلامة رضوانُ اللهِ عليهِ بعضَ الأنشطةِ وكانَ من المقرَّرِ القيامُ ببعضِ الأعمالِ واتّخاذُ بعضِ الإجراءاتِ الثقافيّةِ، ونُشِرَتْ في ذلكَ الوقتِ أيضًا رسالةٌ، لا أعلمُ هل رآها الرفقاءُ أم لا، وشخصيّةُ المرحومِ العلامةِ لم تكُنْ مجهولةً، بل كانت معروفةً بينَ الناسِ، والذينَ راجَعناهُم كانوا جميعًا من أصدقائِهِ، وكانت بينَهُم علاقةٌ ومودَّةٌ منذُ القِدَمِ، وكانَ هُناكَ تواصُلٌ وزياراتٌ مُتبادَلةٌ، فأحيانًا يأتونَ إلى منزلِنا وأحيانًا نذهَبُ إلى منزلِهِم، ولم يكُنِ الأمرُ مجهولًا.

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

3
  • وخُلاصَةُ القولِ، في البدايةِ قطعت وعود بالمُساعَدةِ، ولكن بعدَ فترةٍ، وعندَ مُتابَعةِ الموضوعِ، اتَّضَحَ أنَّ الأمرَ يَسيرُ في اتّجاهٍ آخرَ، وأنَّ هذهِ الفُرصةَ لن تُتاحَ، وتأكَّدَ أنَّ هذا الأمرَ لا فائدةَ منهُ، وبَقِيَ ذلكَ المكانُ لسنواتٍ طويلةٍ دونَ استخدامٍ، فلا تتصوَّروا أنّهُ تمَّ استغلالُهُ، في حينِ أنَّ هؤلاءِ أنفسَهُم طبعًا في أماكنَ أخرى وإجراءاتٍ أخرى وأعمالٍ أخرى ومسؤوليّاتٍ أخرى [يسعون في إنجاز المشاريع]، فيومَ القيامةِ يَسألُهم اللهُ تعالى: نحنُ فعلنا هذا، هل فعلتُمْ أنتُم هذا؟ فلماذا منعتُمْ العملَ الفُلانيَّ؟ لماذا؟ وأنتُم كنتُم تعرِفونَ أولئكَ القيّمين عليه وكنتُم على عِلمٍ بنيَّتِهِم الحسنةِ، فمِمَّ كانَ الخوفُ؟! هل كانَ الخوفُ من أن يتقدَّمَ أحد ما خطوةً؟ ولكن كانَ واضحًا أنَّ القضيّةَ هي هذهِ، وكانوا يقولونَ ضِمنيًّا: لا تُتابِعوا الأمرَ فلا فائدةَ منهُ. البعضُ يتساءَلُ لماذا لم يتدخَّلْ هوَ في الأمورِ؟ ماذا كان يريد أن يفعل؟ على الأقلِّ أنا أعلمُ ما هي الأعمالُ التي أرادَ القيامَ بها ولكنّهُ لم يستطِعْ. واللهُ تعالى يومَ القيامةِ سيأتي بكلِّ شيءٍ ويَضَعُهُ أمامنا. يا الله نحنُ بَنينا المكانَ الفُلانيَّ، والمُجَمَّعَ الفُلانيَّ. 

  • ـ لماذا بنيتَهُ؟ 

  • ـ بَنيناهُ لكَ. 

  • ـ بَنيتُموهُ لي؟ فلماذا منعتُمْ القضيّةَ الفُلانيّةَ؟ ألم يكُنْ فُلانٌ يريدُ أن يقومَ بالعملِ الفُلانيِّ من أجلي؟ فلماذا لم تَسمَحوا لهُ ووضعتُمْ العراقيلَ وقُلتُمْ إنّهُ يريدُ أن يقومَ بأعمالٍ ضِدَّ البعضِ؟ فإن كان يريدُ أن يفعلَ شيئًا فليفعلْ تحتَ برنامجِنا! 

  • فإذن الظاهِرُ جيِّدٌ، لافِتٌ للنَّظَرِ، أعمالٌ ذاتُ بَريقٍ وجاذبيّةٍ جيِّدةٍ جدًّا، مُمتازةٌ جدًّا. عَمَلًا عَمَلًا، ذكرتُ لكُمْ مِثالاً واحدًا، والأفضلُ ألّا نَفتَحَ تلكَ الحقيبةَ فهناك الكثير الكثير.

  • قصّة أخرى: عوائق العمل في تدوين الدستور

  • وفي أحداثٍ أخرى قيلَ إنَّ على الجميع أن يأتوا ويَدخُلوا الساحةَ ويتَّخِذوا إجراءاتٍ بشأنِ القضايا ولا يترُكوا الساحةَ فارِغةً ليأتيَ المُنافِقونَ والمُنحَرِفونَ وغيرُ المُلتَزِمينَ ويُسَيطِروا عليها، وذلك في أحداثِ تدوينِ الدُّستورِ، فليأتِ العلماء ويُديروا هذه الأمورِ، وكانَ الأمرُ كذلكَ حقًّا. فالنِّداءُ الذي كانَ يُطلَقُ في هذا الصَّدَدِ بأن تعالَوْا ودبّروا الأمورِ، فالآخَرونَ يَنشَطونَ. حينها قالَ لي المرحومُ العلامة رضوانُ اللهِ عليهِ بنفسِهِ: إنّني شعرتُ بالواجِبِ والتَّكليفِ الشَّرعيِّ في أن أدخُلَ في هذهِ القضايا، وقدَّمت اسمي وصورَتي معَ عددٍ آخرَ من السادةِ، ثمَّ جاءَ البعضُ ومنعوا الأمرَ، ووصَلَ الأمرُ إلى درجةِ أنَّ المرحومَ العلامةَ قالَ لي: رأيتُ أنَّ التَّقدُّمَ أكثرَ من هذا يُضِرُّ بالإسلامِ. يَصِلُ الأمرُ إلى درجةِ أنَّ الإقدامَ أكثرَ من هذا يُضِرُّ بالإسلامِ، وقالَ: فانسَحَبنا وقُلنا: مَهما كانَ من المقرَّرِ أن تَسيرَ عليهِ القضيّةُ فلتَسِرْ على ذلكَ النَّحوِ، ونحنُ أيضًا سنُشارِكُ ونُصَوِّتُ ونُساعِدُ ونُسانِدُ ونُؤَيِّدُ الإيجابيّاتِ ونَسعى لرفعِ نقاطِ الضَّعفِ والنَّقصِ، وبهذا المِقدارِ نُؤَدّي الواجِبَ.

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

4
  • فأولئكَ الذينَ كانوا في هذهِ الأحداثِ يُحاسَبونَ الآنَ في الآخرةِ. لقد جِئتُمْ وقمْتُمْ بالعملِ الفُلانيِّ وفعلتُمْ هذا وهذا، لمَنْ؟ لأجل اللهِ! لكي نَخدِمَ، نحنُ عُشّاقُ الخِدمةِ وهذهِ الأمورُ؟! فلماذا قُلتُمْ للسَّيِّدِ فُلانٍ إنَّ السَّيِّدَ فُلانًا لا ينبغي أن يكونَ في هذهِ الأمورِ؟ لماذا؟ أليسَ الأمرُ للّهِ؟ إنّهُ حِسابٌ، واللهُ تعالى يُحاسِبُ.

  • قصّة المرحوم دستغيب والمرحوم العلامة: كلّ ما فعلناه لم ينجح!

  • رَحِمَ اللهُ السَّيِّدَ دستغيب رضوانُ اللهِ عليهِ، رَحِمَهُ اللهُ، جاءَ إلى المرحومِ العلامةِ وقالَ: فلتكن أنت مَكاني [في المجلس]. 

  • فقالَ المرحومُ العلامة: لن يَقبَلوا! 

  • فقالَ السَّيِّدُ دستغيب: أنا سأفعَلُ هذا. 

  • فقالَ هوَ أيضًا: حَسَنًا، اذهَبِ الآنَ لنَرى هل أنا الصّادِقُ أم أنتَ! 

  • أتذكَّرُ أنّهُ جاءَ إلى منزلِنا في طِهرانَ، وكانت عِبارَتُهُ: يا سَيِّدَ مُحمَّدَ حُسَين، كلُّ ما فعلناهُ لم يَنجَحْ ولم يَنجَحْ ولم يَنجَحْ.۱

  • ضرورة إخلاص العمل: كيف يكون الناقد بصيرًا بصيرًا؟

  • «وأخلِصِ العَمَلَ فإنَّ النّاقِدَ بَصيرٌ بَصيرٌ»٢، أخلِصْ عَمَلَكَ، فإنَّ الذي يَضَعُ هذا العملَ في ميزانِ النَّقدِ والتَّقييمِ ليسَ مِثلي ومِثلَكَ، بل لديهِ جِهازٌ آخرُ، لديهِ مُعِدّاتٌ أخرى لاختبارِ العملِ وميزانِ إخلاصِهِ وصِدقِهِ، وَلديهِ حِسابٌ آخرُ. أخلِصِ العَمَلَ، أخلِصْ عَمَلَكَ، أخلِصْ نيَّتَكَ. إن الرُّفَقاء يَذكُرُون، فقد ذكرت في جَلَساتٍ سابقةٍ أمورًا حولَ الإخلاصِ في النِّيَّةِ في أحداثِ جهاد المرحومِ العلامةِ رضوانُ اللهِ عليهِ، وقلت هُناكَ إنَّ المِعيارَ والمِلاكَ لِحَرَكةِ المُؤمِنِ في الأمورِ الاجتماعيّةِ والسِّياسيّةِ والحُكوميّةِ والعَلاقةِ معَ الأفرادِ هوَ إخلاصُ العملِ وصِدقُ النِّيَّةِ، هذا هوَ المِلاكُ. 

  • أن يكونَ عَمَلُ الإنسانِ لوجهِ اللهِ تعالى، خالِصًا لوجهِ اللهِ تعالى، والله يطلب من كلٍّ بمِقدارِ إدراكِهِ وسَعَتِهِ الوُجوديّةِ ومَشاعِرِهِ. فنحنُ ليسَ لدينا إخلاصُ الإمامِ السَّجّادِ عليهِ السلامُ أبدًا، واللهُ تعالى لا يَطلُبُهُ مِنّا أيضًا، ونحنُ نَضَعُ هذا جانِبًا ونَطمَئِنُّ، بل بمِقدارِ ما أعطانا اللهُ تعالى من العقلِ، قليلًا كانَ أم كثيرًا، بمِقدارِ ما أعطى من العقلِ والشُّعورِ. ويُمكِنُ للإنسانِ في خَلوَتِهِ أن يُحاسِبَ نفسَهُ، لا في الزِّحامِ والمَجيءِ والذَّهابِ والسَّلامِ والصَّلَواتِ و"تفضَّلْ يا سَيِّدي اجلِسْ في الأعلى" وخذ الميكروفونِ وتكلّم، فهُناكَ لا مَجالَ للتَّفكيرِ، فلا تتعبوا أنفُسَكُم عَبَثًا، هُناكَ لا مَجالَ للتَّفَكُّرِ والتَّأمُّلِ ومُراجَعةِ النَّفسِ. عندما تُبعَدُ هذهِ الميكروفوناتُ وتَنتَهي عِباراتُ "تفضَّلْ يا سَيِّدي"، ويَذهَبُ الإنسانُ إلى بيتِهِ ويُغلِقُ البابَ ويَخلَعُ ملابِسَهُ أيضًا ويَبقى فقط بقَميصٍ وسِروالٍ، يَذهَبُ إلى زاويةِ الشُّرفةِ أو سَطحِ المَنزِلِ أو الغُرفةِ ويُطفِئُ المِصباحَ أيضًا، ثمَّ يَجلِسُ ويُخرِجُ نفسَهُ من تلكَ البيئةِ ليَرى كم ابتَعَدَ عنِ الطَّريقِ أو كانَ في الطَّريقِ؟ أو يَنهَضُ من مَنزِلِهِ ويَخرُجُ ويَبتَعِدُ كيلومترًا أو كيلومترينِ عنِ المدينةِ ولا تعودُ عينُهُ تَرى العُمرانَ، يكونُ وَحدَهُ ولا أحد حَولَهُ، يَجلِسُ على صَخرةٍ، يُفَكِّرُ في وَضعِهِ وعَمَلِهِ، وكم يَسيرُ في الطَّريقِ الصَّحيحِ أو الخاطِئِ؟. في ذلكَ الوقتِ يُلهِمُ اللهُ تعالى الإنسانَ ببعضِ الوَمَضاتِ، في ذلكَ الوقتِ يُوَضِّحُ اللهُ تعالى للإنسانِ بعضَ الأمورِ. فإن كانَ الإنسانُ على هذه النِّيَّةِ فيأتي ويَدخُلُ المَنزِلَ، وفي الغَدِ يَخرُجُ منَ المَنزِلِ ويَدخُلُ المُجتَمَعَ، وبتلكَ النِّيَّةِ يتعامَلُ معَ النّاسِ، فالأمرُ يَختَلِفُ. ولكنَّنا نَخلُقُ لأنفُسِنا هذا الكَمَّ من المَشاغِلِ والمَجيءِ والذَّهابِ والتَّواصُلِ والأفرادِ والأصدِقاءِ والرُّفَقاءِ وهذهِ الأمور، والميكروفونات والضَّجيج موجودةٌ لدرجةِ أنّهُ لم يَعُدْ يَبقى لدِماغِنا وعَقلِنا وقَلبِنا وصَدرِنا مَجالٌ لذلكَ النَّوعِ من التَّفَكُّرِ، ولا يَبقى له مَكانٌ.

    1. راجع تفصیل حادثتي توسعة المسجد والترشّح للمجلس في محاضرة رقم ۱۱ من سنة ۱٤٣٦ من سلسلة شرح دعاء أبي حمزة، ص ۱٣.
    2. موسوعة الكلمة، السيّد حسن الحسيني الشيرازي، ج۱، ص ٤۱۷: يا بن آدم ! أكثر من الزّاد فإنّ الطّريق بعيد بعيد وجدّد السّفينة فإنّ البحر عميق عميق وخفّف الحمل فإنّ الصّراط دقيق دقيق وأخلص العمل فإنّ النّاقد بصير بصير وأخّر نومك إلى القبر وفخرك إلى الميزان وشهوتك إلى الجنّة وراحتك إلى الآخرة ولذّتك إلى الحور العين وكن لي أكن لك وتقرّب إليّ باستهانة الدّنيا وتبعّد عن النّار لبغض الفجّار وحبّ الأبرار فإنّ اللّه لا يضيع أجر المحسنين .

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

5
  • ساعة تفكّر: كيف تؤثر على أعمالنا؟

  • وما وَرَدَ في الرِّوايات من أنّه طوبى لمُؤمِنٍ خصَّصَ ساعةً من أربعٍ وعِشرينَ ساعةً لنَفسِهِ وتَفَكُّرِهِ۱ فهذا معناهُ، أن يأتيَ الإنسانُ بهذا التَّفَكُّرِ، وبالنَّتائِجِ التي حصَلَ عليها من هذا التَّفَكُّرِ في ساعةٍ واحدةٍ، يأتي، يريدُ أن يَكتُبَ كِتابًا فليَكتُبْ، يريدُ أن يُلقيَ دَرسًا فليُلقِ، يريدُ أن يَعتَليَ المِنبَرَ فليَعتَلِ، يريدُ أن يُصَلِّيَ جَماعةً فليُصَلِّ، يريدُ أن يُبَلِّغَ ويَكسِبَ ويتواصَلَ معَ النّاسِ ويَقضيَ حوائِجَهُم، فليأتِ بعدَ هذا التَّفَكُّرِ وهذه النَّتيجةِ. وقصّة مَولانا تُشيرُ إلى هذا الأمرِ نفسِهِ في حديثه عن إياز معَ السُّلطانِ مَحمودٍ، والذي كان يحظى باهتمامٍ كبيرٍ لديه، وكانَ لديهِ غُرفةٌ... وقد ذكرتُها للرُّفَقاءِ٢ وقرأتُموهُا بأنفُسِكُم في المَثنَويِّ٣.

  • وقفة مع مولانا الرومي: هل نُحسن الاستفادة من تراثه أم ننشغل بمذهبه؟

  • حقًّا، كلُّ ما لدينا من مَعارِفَ موجودٌ في كِتابِ مَولانا جَلالِ الدّينِ رضوانُ اللهِ عليهِ، وأسكَنَهُ اللهُ بَحبُوحَةَ جنّاتِهِ، فقَلَّما جاءَ رجُلٌ بهذهِ العَظَمةِ في عالَمِ الإسلامِ والمَعارِفِ، ويا للأسَفِ أنَّ الأجانِبَ يَستَفيدونَ منهُ ونحنُ بعدَ سَبعِمِائةِ عامٍ نقولُ: كانَ سُنِّيًّا كانَ سُنِّيًّا! هذا ما أصبَحَ فَنُّنا! كانَ سُنِّيًّا، فماذا ستَستَفيدُ أنتَ؟ حَسَنًا أيُّها المِسكينُ اذهَبْ واقرَأْ أشعارَهُ واستَفِدْ منها! فهل تريدُ أن تتَّبِعَ عُمَرَ وأبا بَكرٍ؟! ماذا يعني أنّهُ كانَ سُنِّيًّا كانَ سُنِّيًّا؟! فمن قالَ كلامًا باطِلًا فأجِبْهُ، إن قالَ باطلاً فائتِ بجَوابٍ عِلميٍّ، هل يقولُ لكَ اتَّبِعْ عُمَرَ وأبا بَكرٍ؟ أنتَ اتَّبِعْ عليًّا عليهِ السلامُ. كلُّ زينةِ كلامِنا وأشعارِنا وخُطَبِنا ومِنبَرِنا وكِتابِنا هي أشعارٌ من مَولانا، ثمَّ نقولُ كانَ سُنِّيًّا، كانَ كافِرًا وكانَ جَبريًّا وهذهِ التُّرَّهاتُ التي لا تُساوي شيئًا، كانَ سُنِّيًّا حَسَنًا! وهل أنتَ شيعيٌّ؟!

  • انحرافات خطيرة في فهم الدين: أمثلة مُقلِقة

  • ما شاءَ اللهُ على مَعرِفَتِكُم وفَهمِكُم لمقام الإمامِ! فبعدَ ألفٍ وأربَعِمِائةِ عامٍ يقولُ ذلكَ السَّيِّدُ الشِّيعيُّ: أصلًا مَنْ قالَ إنَّهُم رَكَلوا السَّيِّدةَ الزَّهراءَ عليها السلامُ؟! تفضَّلوا، هذا أيضًا شيعيٌّ يتَّخِذُ منهُ أهلُ السُّنَّةِ ذَريعةً علينا ويقولونَ: أخيرًا فَهِمَ الشِّيعةُ بعدَ ألفٍ وأربَعِمِائةِ عامٍ ما هي الأباطيلُ التي ارتَكَبُوها وما هي التُّهَمُ التي وجَّهُوها للسُّنَّةِ! 

    1. العیاشی، محمد بن مسعود، ج ٢، ص ٢۰۸، « روی عن الامام الصادق علیه السلام أنه قال: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة، قال الله: «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْباب»
      الكافي، ج ٢، كتاب الإيمان والكفر، باب محاسبة الرجل نفسه ص ٣٢۸: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِنَفْسِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ نَصِيباً مِنْهُ يُحَاسِبُ فِيهِ نَفْسَهُ عَلَى عَمَلِهِ، يَأْخُذُ حَسَنَهُ وَيَدَعُ سَيِّئَهُ»
      الكافي ج ٥، ص ۸۷: «إنَّما للمُؤمِنِ ثَلاثُ ساعاتٍ: فساعَةٌ يُناجي فيها رَبَّهُ، وساعَةٌ يَرُمُّ مَعاشَهُ، وساعَةٌ يُخَلِّي بَينَ نَفسِهِ وبَينَ لَذَّتِها فيما يَحِلُّ ويَجمُلُ»
      عيون الحكم والمواعظ ص ٣۱٣: طُوبى لِمَنْ ذَكَرَ الْمَعادَ فَأَحْسَنَ. طُوبى لِعَيْنٍ هَجَرَتْ في طاعَةِ اللّهِ غَمْضَها.
      وفي عهد أمير المؤمنين عليه السلام لمالك: وليس من شيء أضيع لأمور الولاة من التواني، واغتنام تأخير يوم إلى يوم، وساعة إلى ساعة، والتشاغل بما لا يلزم عمّا يلزم، فاجعل لكلّ شيء تنظر فيه وقتا لا يقصر به عنه، ثم أفرغ فيه مجهودك، وأمض لكلّ يوم عمله، وأعط لكلّ ساعة قسطها، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، وإن كانت كلّها لله إذا صحّت نيّتك... 
    2. قال سماحة السيّد في شرح دعاء أبي حمزة ج ٥ سنة ۱٤۱٥: نحن لا يمكننا أن نعرف من جديد قدر أنفسنا الحقيقي، وهنا أورد مولانا قصة إياز والسلطان محمود بأسلوب رائع جداً. حيث يرى السلطانُ إياز يدخل إلى الغرفة ويغلق الباب، فينظر إليه ويسأله: "ما هذا؟"
      فيقول إياز:
      "لديّ كساء من جلد الغنم من أيام شبابي ورعيي للغنم، وقد احتفظت به. أذهب مرّة أو مرّتين في الأسبوع، أرتديه، وأضع العصا أمامي وأقول لنفسي: أنتَ هو أنتَ لم تتغيّر. لولا نظرة الملك وعنايته، لكنت أنتَ الراعي ذاته.
      وكونك ترى الآن أنّ الملك قد فضّلك على جميع الأمراء والسلاطين وغيرهم، فذلك لأنّ نظرة الملك استحوذت عليك وعشق عينيك وحاجبيك. 
      ولو أن نظرة السلطان محمود لم تلتقطك، لكنت أنتَ ذلك الراعي في الصحراء.
    3. وخلاصة القصّة أنّ إياز كان الخادم المقرّب عند السلطان محمود الغزنوي، فكثر حاسدوه من حاشية الملك، وذات يوم لاحظوا أنّه كان يدخل غرفة خاصّة لا يدخلها أحد سواه ثمّ يخرج منها، فاتّهموه بأنّه يخبّئ كنوزاً من أموال السلطان فيها. 
      فأمر السلطان بكسر باب الغرفة وتفتيشها، فلم يجدوا ذهباً ولا فضة، بل وجدوا شيئاً غريباً.
      "لقد رأوا الغرفة خالية من الأمتعة والأثاث، ولم يجدوا إلا حذاء قديماً وفروة ممزقة.
      ولم يجدوا غير هذين في الغرفة، وعضوا على أيديهم من الحيرة والذهول، وقالوا: ما هذا؟ لعل الحفرة التي كنز فيها الذهب في هذا الموضع، فاحفروا هنا واضربوا المعول.
      وبعد أن يئسوا من العثور على شيء وعادوا خجلين إلى السلطان، سأل السلطان إياز عن سر هذه الأعمال فقال: يا إياز، ما معنى هذا الوفاء؟ وما سر هذا الحذاء القديم وتلك الفروة الممزقة؟
      فقال إياز: إني أعرف نفسي، إنني لست إلا بهذا القدر من الشأن، وهذه هي أسمالي. إنني أنظر إلى هذا الحذاء وهذه الفروة، فلا يداخلني العجب والكبر من عظمة السلطنة. إنني لا أنسى حالي وما كنت عليه، حتى لا أنخدع بما أنا فيه الآن من الجاه والمقام، فإن العارية مردودة." راجع: مثنوي معنوي الجزء الخامس، ترجمة الدسوقي شتا. (م)

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

6
  • ويأتي آخرُ ويقولُ: أصلًا مَنْ قالَ أنّ النَّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ قالَ: «إئتُوني بِدَوَاةٍ وَ صَحِيفَةٍ أكْتُبُ لَكُمْ كِتَابا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَدًا»، ائتوني بقَلَمٍ وقِرطاسٍ ودَواةٍ لأكتُبَ لكُمْ شيئًا لن تَضِلُّوا بَعدي أبدًا، فقالَ الثّاني: إنَّ الرَّجُلَ ليَهجُرُ.۱ ثمَّ بعدَ ۱٤۰۰ عامٍ، الحَمدُ للهِ عُلَماؤُنا الآنَ خرَجوا ليقولوا: لا يا سَيِّدي هذهِ القضيّةُ كَذِبٌ! حاشا لإيمانِ وكَرامةِ وعَظَمةِ خَليفةٍ كهذا! أخَليفةُ المُسلِمينَ يَنسِبُ شيئًا إلى النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ؟! تفضَّلوا، هؤلاءِ أيضًا عُلَماؤُنا! سَلِمَتْ أيديكُمْ! وآخرُ يقولُ: أصلًا مَنْ قالَ إنَّ الإمامَ عليهِ السلامُ كانَ يَعلَمُ الغَيبَ؟ عِلمُ الغَيبِ للّهِ فقط، وأميرُ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ لا يَستَطيعُ أن يَرى ما أمامَهُ، ولو كانَ يَعلَمُ لماذا ذهَبَ إلى المَسجِدِ؟ نعم إذا أرادَ اللهُ تعالى شيئًا يومًا ما أعلمه، أما «سَلوني قبلَ أن تَفقِدوني»٢ وأمثالها فهذهِ كلُّها تُرَّهاتٌ وأكاذيبٌ، هو يقول: اسألوا.... ونحنُ نقولُ: هذا لا سَنَدَ لهُ ولا رِوايةَ، وذلكَ الرّاوي كذا، والرواية مُخالِفة لآياتِ القُرآنِ، والقُرآنُ يقولُ: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾٣، إذًا الرِّواياتُ التي تتعارَضُ معَ هذا تُنَحّى جانِبًا ولا يَنبَغي الالتِفاتُ إليها، والإمامُ عليهِ السلامُ مِثلُنا، وشيئًا فشيئًا يَجعَلونَ الإمامَ عليهِ السلامُ بائِعَ لَبَنٍ ويَضَعونَهُ جانِبًا! وذلكَ السَّيِّدُ يقولُ أيضًا: ما هي زِيارَةُ عاشوراءَ؟ إنّها تُخالِفُ الوحدةَ!

  • مفهوم الوحدة الحقيقي: هل هو التنازل عن الثوابت؟

  • فهل جاءت الوحدةُ من عند الوَحيِ؟! ومَنْ قالَ إنَّنا يجِبُ أن نكونَ مُتَّحِدينَ معَ أهلِ السُّنَّةِ بهذا المعنى؟ أيّة آيةٍ في القُرآنِ ذكرت ذلك؟! هل الوحدةُ تعني التَّخَلّي عنِ الأُسُسِ والمِلاكاتِ؟! يُخطِئُ مَنْ يقولُ مِثلَ هذا الكلامِ. هل الوحدةُ بمَعنى التَّخَلّي عن أميرِ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ؟! يُخطِئُ مَنْ يقولُ مِثلَ هذا الكلامِ. هل الوحدةُ بمَعنى التَّخَلّي عن إمامةِ الإمامِ الحَسَنِ والإمامِ الحُسَينِ عليهِما السلامُ؟! يُخطِئُ ويَستَحِقُّ اللَّومَ مَنْ يَطرَحُ مِثلَ هذهِ القضيّةِ! فماذا تَعني الوَحدةُ؟ إذا كانَ الأمرُ كذلكَ، فلنَتَخَلَّ عنِ النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ أيضًا ونَتَّحِدْ معَ النَّصارى، هذا أفضلُ، هكذا تكونُ وَحدَتُنا أشمَلَ! أصلاً فلنَتَخَلَّ عنِ النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ أيضًا، والآياتُ القُرآنيّةُ لدينا تقولُ إنَّ كلَّ مَنْ يُؤمِنُ باللهِ ويَعمَلُ صالِحًا فمَكانُهُ في الجَنَّةِ. ثمَّ نُوَسِّعُ الأمرَ قليلًا ونقولُ: أصلًا نريدُ أن نَتَّحِدَ معَ اليَهودِ أيضًا، اليَهودُ والنَّصارى بدينِهِم الذي عليهِ، وإلّا فنحنُ نَحتَرِمُ أنَبياءهُم، ونَعتَبِرُ سَبَّ أيّ نبيِّ موجِبًا للرِّدَّةِ، وليسَ فقط الأئمّةَ عليهمُ السلامُ. فمِنْ ناحيةِ الاعتِقادِ بالأنبياءِ ورُسُلِ اللهِ، نحنُ مُتَقَدِّمونَ إلى هذا الحَدِّ، وعَدَمُ احتِرامِ أنبياءِ اللهِ حرامٌ ويوجِبُ الفِسقَ وعقاب جَهَنَّمَ للإنسانِ، ولكن هذا الدّينَ اليهوديّ والدين المسيحيّ لا نقبلهما! هذا الدّينُ باطِلٌ. إذا كانَ منَ المقرَّرِ أن نَتَّحِدَ معَ أهلِ السُّنَّةِ، فلنَتَّحِدْ معَ اليَهودِ والنَّصارى، ونَتَّحِدْ معَ الصَّهايِنةِ. ليسَ لدينا وَحدةٌ، مِنْ أينَ خرَجَتْ هذهِ الوَحدةُ؟

    1.  معرفة الإمام، ج‌۱، ص: ٢٩۰؛ طبقات ابن سعد، ج ٢، ص ٢٤٢، طبعة بيروت، ۱٣۷٦ ه-.
    2. راجع حول مصادر هذه الرواية وطرقها العديدة معرفة الإمام ج۱٢، ص ٤٢ وما بعدها
    3. سورة الأعراف (۷) الآية ۱۸۸

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

7
  • نَعَمْ، يجِبُ على الإنسانِ، معَ الحِفاظِ على الأُسُسِ والأُصولِ المَوضوعةِ والمُسَلَّمةِ التي لا شَكَّ فيها، أن يقومَ مِنْ خِلالِ الحِوارِ والمُجالَسةِ واللِّقاءِ والتَّعايُشِ، ودونَ سَبٍّ ولَعنٍ، وبسِعَةِ صَدرٍ، بإيجادِ عَلاقاتٍ وروابِطَ بحيثُ يُوَجِّهُهُم نحو الأمورِ اليَقينيّةِ والمُحَقَّةِ للشِّيعةِ، هذا هوَ مَعنى الوحدةِ، لا أن يتخَلّى الإنسانُ عن إمامةِ الأئمّةِ عليهمُ السلامُ ويتَّبِعَ عُمَرَ. أيُّ إنسان يُمكِنُهُ أن يَسمَحَ لنَفسِهِ بالتَّخَلّي عنِ الحقيقةِ والأمورِ المُسَلَّمةِ؟ فأميرُ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ يقولُ لأصحابِهِ: إذا قيلَ لكُمْ سُبّوني فسُبّوني فإنَّ ذلكَ خيرٌ لكُمْ، ولكن إذا قيلَ لكُمْ تبرَّؤوا مِنّي فلا تتبرَّؤوا، وإنْ قُتِلتُمْ!۱ هذا هوَ الأمرُ. ماذا تَعني البَراءةُ؟ تَعني أنا لستُ مِنهُ، إذا لم تتبرَّأْ تُكسَرُ رَقَبَتُكَ، حَسَنًا فليَقتُلوكَ. أليستْ هذهِ غايةَ أُمنيَتِنا أن نُستَشهَدَ في سبيلِ الأئمّةِ عليهمُ السلامُ؟ البعضُ لا يَسُبّونَ أيضًا، أميرُ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ قالَ سبّوني، فليكن ولكنَّنا لا نَسُبُّ، يَقتُلونَ؟ فليَقتُلوا. ولكنَّ الإمام تنازل لنا إلى هذا الحَدِّ وقال مِنْ أجلِ التَّقيّةِ سُبَّ، ولكن إذا قيل لكَ تبرَّأْ. فالتبرؤ يَعني أنا مُنفَصِلٌ عنهُ ولا عَلاقةَ لي بهِ. وهذا لا يمكن. فأميرُ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ هوَ كلُّ شيءٍ، إذا كانتِ الوَحدةُ بهذا المَعنى بأن نَتخَلّى عن أميرِ المُؤمِنينَ والإمامِ الحَسَنِ والإمامِ الحُسَينِ والأئمّةِ عليهمُ السلامُ، فتبًّا لتلكَ الوحدةِ واللَّعنةُ إلى يومِ القيامةِ على تلكَ الوحدةِ. إن كانتِ الوَحدةُ بمَعنى أن يُحافِظَ الإنسانُ على الأُسُسِ ويتغاضى مُؤقَّتًا عن تلكَ الأمورِ والمَوارِدِ التي تُثيرُ حساسيَّتَهُم لكي يَجذِبَهُم، وعندما يَجذِبُهُم هُم أنفُسُهُم سيُدرِكونَ، إن كانَ هذا فلا إشكالَ، حَسَنًا فاليَهودُ والنَّصارى أيضًا كذلكَ. هل يجِبُ على الإنسانِ عندما يَلتَقي بالنَّصارى أن يَشتِمَ عيسى عليهِ السلامُ، وعندما يَلتَقي بيَهوديٍّ أن يَشتِمَ موسى عليهِ السلامُ؟ لا! بل يجِبُ أن يُظهِرَ المَحَبَّةَ ويتحدّث ويَضحَكَ، ومعَ اليَهود وغيرِهِم هكذا. فالنَّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ عندما بُعِثَ في مَكَّةَ، هل كانَ أهلُ مَكَّةَ جميعًا مِنْ قُوّامِ اللَّيلِ؟ كانوا مِنْ عَبَدَةِ البَقَرِ وعَبَدَةِ النُّجومِ وعَبَدَةِ الإبِلِ، ألم يكونوا كذلكَ؟! ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾٢. يا رسولَ اللهِ، أنتَ بأخلاقِكَ الحَسَنَةِ جذبتَ هؤلاءِ المُشرِكينَ نَحوَنا ونَحوَ اللهِ. لو أنَّ النَّبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ عندما نَزَلَتْ آياتُ القُرآنِ بدأ يَشتِمُ أبا لَهَبٍ والمُشرِكينَ، فهل كانَ سيُسلِمُ واحدٌ من الناس؟! هل كانَ سيُؤمِنُ واحدٌ منهم؟! كانوا سيقولُون: يا لَهُ مِنْ نَبيٍّ عَجيبٍ! تحدَّثْ كإنسانٍ! أميرُ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ، يأتي يَهوديٌّ إلى مَسجِدِ المَدينةِ، فيقولُ لليَهوديٍّ: "يا أخ اليَهود". أميرُ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ يقولُ لليَهوديٍّ يا أخ اليَهوديَّ، ونحنُ نأتي هُنا ونَفصِلُ أنفُسَنا و...؟! كلاّ! ليستْ هذهِ الأمورُ صحيحة. دينُ الإسلامِ دينٌ عالَميٌّ، ويَرتَبِطُ بفِطرةِ البَشَرِ وفِطرةِ الناس، هذا الدّينُ مُساوٍ للعِرفانِ.

    1.  معرفة الإمام ج۱٢، ص ۱٢٣: أمَا إنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ رَحِيبُ البُلْعُومِ، مُنْدَحِقُ البَطْنِ، يَأكُلُ مَا يَجِدُ، وَ يَطْلُبُ مَا لَا يَجِدُ، فَاقْتُلُوهُ، وَ لَنْ تَقْتُلُوهُ. ألَا وَ إنَّهُ سَيَأمُرُكُمْ بِسَبِّي وَ البَرَاءَةِ مِنِّي. أمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي، وَ أمَّا البَرَاءَةُ مِنِّي فَلَا تَتَبَرَّءُوا مِنِّي، فَإنِّي وُلِدْتُ عَلَى الفِطْرَةِ، وَ سَبَقْتُ إلَى الإسْلَامِ وَ الهِجْرَة.
      «المناقب» ج ۱، ص ٤٢٩، و رواها المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ٩، ص ٤۱٩، و ذكر ابن أبي الحديد هذه الخطبة في شرحه، طبعة مصر، دار الإحياء، ج ٤، ص ٥٤ إلى ۱٢۸، و تطرّق في شرحه إلى سبّ أمير المؤمنين عليه السلام منذ زمن معاوية إلى زمن عمر بن عبد العزيز،و تناول ذلك مفصّلًا، و ذكر الأشخاص الذين كانوا يسبّون، كما ذكر المنحرفين عن الإمام و المعاندين له، و الروايات الموضوعة في ذمّه. و شرحه يحتوي على تحقيقات تأريخيّة.
    2. سورة آل عمران (٣) الآية ۱٥٩

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

8
  • قصّة تشييع مولانا: لماذا قالت كلّ طائفة "مولانا لنا"؟

  • مَولانا كانَ هكذا. وَرَدَ في سيرَتِهِ، لم أكُنْ أعلَمُ هذا، العامَ الماضي وصَلَني كِتابٌ عنه، وبينما كنتُ أقرَأُ سيرَتَهُ رأيتُ هذا الأمرَ. وَرَدَ في سيرَتِهِ أنّهُ عندما تُوُفِّيَ، جاءَ اليَهودُ والنَّصارى وأهلُ السُّنَّةِ والشِّيعةُ جميعًا حُفاةَ الأقدامِ في تَشييعِهِ. فقالَ لهُمُ المُسلِمونَ: لماذا جِئتُمْ أنتُم؟! ثمَّ كادَ يَحدُثُ شِجارٌ و قالوا هُم: لا تَظُنُّوا أنَّ مَولانا كانَ لكُمْ، فمَولانا كانَ لنا، فاليَهود قالوا: كانَ مَولانا لنا، والنَّصارى قالوا: كانَ مَولانا لنا. قالوا: ما سَمِعناهُ مِنْ موسى عليهِ السلامُ وجَدناهُ في هذا الرَّجُلِ، وما سَمِعناهُ مِنْ عيسى عليهِ السلامُ وجَدناهُ في هذا الرَّجُلِ، وما سَمِعناهُ مِنَ النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وجَدناهُ في هذا الرَّجُلِ. هكذا كانوا يَسلُكونَ معَ النّاسِ وكانوا معَ النّاسِ ويتواصَلونَ معَ النّاسِ. هذا يُصبِحُ عارِفًا، وذلكَ الذي يَجذِبُ القُلوبَ نَحوَ الإسلامِ. لا يُنَفِّرُ النّاسَ ولا يُبَغِّضُهُم مِنَ الإسلامِ ومِنَ اللهِ، ومِنَ الأُصول والمبادئ والمِلاكاتِ. هذا يُصبِحُ عارِفًا، وذلكَ الذي يتحدَّثُ معَ أرواحِ النّاسِ، يتحدَّثُ معَ فِطرةِ النّاسِ، ويَجذِبُهُم مِنْ باطِنِهِم نَحوَ اللهِ. الوَحدةُ بهذا المَعنى.

  • هل زيارة عاشوراء تخالف الوحدة؟

  • والآنَ زِيارَةُ عاشوراءَ أيضًا لم تَعُدْ جُزءًا مِنَ الإسلامِ، وصارت تُخالِفُ التَّقيّةَ والوحدةَ، ومَنْ قالَ إنَّ الإمامَ عليهِ السلامُ نطق بهذهِ الكلمات؟! فهذهِ اختَرَعَها هؤلاءِ النّاسُ أنفُسُهُم، هؤلاءِ النّاسُ المُتَحَمِّسونَ هُم مَنِ اختَرَعوا زِيارَةَ عاشوراءَ. 

  • حَسَنًا، فهؤلاءِ أيضًا شيعَتُنا! تفضَّلوا! وهذا أيضًا هوَ مِقدارُ مَعرِفتهم بزِيارَةِ عاشوراءَ التي يَعتَبِرُها البعضُ تاليةً للوَحيِ أصلًا، فمسألةُ زِيارَةِ سَيِّدِ الشُّهَداءِ عليهِ السلامُ يوم عاشوراء، بعضُ الأعاظِم كانوا يَعتَبِرونَها مِثلَ القُرآنِ. فكم كانَ المَرحومُ السَّيِّدُ الحَدّادُ يُؤَكِّدُ على زِيارَةِ عاشوراءَ، أحدُ تَوجيهاتِهِ كانَ قِراءةَ زِيارَةِ عاشوراءَ مرَّةً واحدةً في الأُسبوعِ على الأقلِّ، وذلكَ مع مِائةِ لَعنٍ ومِائةِ سَلامٍ. ثمَّ يقولونَ هؤلاءِ ليسوا أهلَ وَلايةٍ! والعُرَفاءُ! يَقرَؤونَ القُرآنَ فقط ولا عَلاقةَ لهُم بالإمامِ الحُسَينِ عليهِ السلامُ!

  • إعادة التأكيد: لماذا لا نُحاسَب على الأعمال بل على النوايا؟

  • إذًا، العَمَلُ الذي يريدُ الإنسانُ أن يقومَ بهِ، إذا أرادَ أن يَحسِبَ له حسابًا، فإنَّ اللهَ تعالى أيضًا سيأتي ويَضَعُهُ تحتَ المِجهَرِ، لماذا؟ لأنَّ العَمَلَ الذي يقومُ بهِ الإنسانُ لهُ نِسبةٌ إليهِ تعالى، فرغمَ أنَّ كلَّ التَّوفيقاتِ مِنهُ، لكنَّنا لم نَعُدْ نَحسِبُ هذهِ التَّوفيقاتِ، لو كنّا نَحسِبُها لما جِئنا لنَعرِضَها أمامه. رغمَ أنَّ القُدرَةَ مِنهُ والتَّوفيقَ والهِمَّةَ والقِيامَ والقُعودَ مِنهُ، العِشقَ والمَحَبَّةَ للعِبادةِ مِنهُ، هذهِ كلُّها مِنهُ ونحنُ نَعلَمُ هذا، نَعلَمُ ومعَ ذلكَ نقولُ: يا اللهُ لقد جِئنا وصَلَّينا لكَ، وقد مَضى علينا شَهرُ رَمَضانَ وصُمنا مِنَ الصَّباحِ إلى المَساءِ. يا إلهي أيَّ مَصائِبَ مرَّتْ بنا؟! 

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

9
  • لقد أكلتَ مِنَ السَّحورِ أيُّها المِسكينُ لدرجةِ أنَّكَ لم تكُنْ تَشتَهي الطَّعامَ أصلًا حتّى الغُروبِ! فبمَ تَمُنُّ على اللهِ تعالى؟! وما هذا الكلامُ؟! ذاكَ نَبيُّهُ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ هوَ الذي كانَ يَصِلُ شَهرَ رَجَبٍ وشَعبانَ ورَمَضانَ ببعضِها، وكانَ في سائِرِ أيّامِ السَّنةِ أيضًا يَصومُ أغلَبَها، ولم يقل للّهِ: يا اللهُ لقد صُمتُ لكَ! وذلكَ في يومٍ تكونُ ساعاتُهُ عَشرًا أو إحدى عَشرةَ ساعةً، وذلكَ في هذهِ الأيّامِ أيضًا، أكلنا السَّحورَ حتّى امتَلَأنا، وعندما يَحينُ وقتُ الإفطارِ، نَرى للتَّوِّ هل نَشتَهي أصلًا أم لا. ثمّ نقول: يا اللهُ لقد صُمنا لكَ شَهرَ رَمَضانَ وصَلَّينا، فلماذا نقول ذلك؟! لأنَّ العَمَلَ الذي نقومُ بهِ يَحمِلُ رائِحةَ الكَثرةِ، وشائِبةَ الكَثرةِ، وشائِبةَ الانتِسابِ إلى النَّفسِ، فنحنُ قُمنا بهذا العَمَلِ. واللهُ تعالى غَيورٌ، وغَيرَةُ اللهِ تعالى لا تترُكُ غَيرًا لنَفسِهِ، غَيرَةُ اللهِ تعالى لا تَقبَلُ وُجودًا في مُقابِلِ وُجودِهِ. أنا صَلَّيتُ يا اللهُ! يقولُ اللهُ تعالى: أنتَ صَلَّيتَ؟ حَسَنًا، كلُّ ما فعلتَهُ هوَ مِنْ آثارِ وُجودي، فماذا فعلتَ أنتَ؟! قُدرَتُكَ هي آثارُ قُدرَتي. عندما تَنهَضُ لتُصَلِّيَ، هذهِ القُدرَةُ الموجودةُ فيكَ الآنَ والتي ظَهَرَتْ على شَكلِ صَلاةٍ، هي نُزولُ اسميَ الكُلِّيِّ "القَديرِ" الذي تجَلّى بشَكلٍ جُزئيٍّ في وُجودِكَ.

  • لو لم يتجَلَّ اسمي "القَديرُ" في وُجودِكَ، لكُنتَ مُلقًى على الأرضِ كالمَيِّتِ ولم تكُنْ تَستَطيعُ حتّى تحريكَ يَدِكَ، فهل رأيتُمْ! هل حدَثَ لكُمْ؟ أحيانًا تصيبُ الإنسانَ حالةُ ضَعفٍ، لقد حدَثَ لي. في قضيّةٍ ما أصابَتني وَعكةٌ صِحِّيَّةٌ، لم أكُنْ أستَطيعُ حتّى تحريكَ إصبَعي، كنتُ مُستَيقِظًا، مرَّتْ نِصفُ ساعةٍ حتّى استَطَعتُ فقط تحريكَ يَدي، كنتُ كالمَيِّتِ ولكن مَشاعِري كانت تَعمَلُ، كنتُ مُستَيقِظًا. ما هذا الكلامُ؟! حتّى يَنزِلَ اسمُ "القَديرِ" لا يُمكِنُكَ أن تَنهَضَ مِنْ مَكانِكَ، مَنِ الذي أقامَكَ مِنْ مَكانِكَ؟. حتّى يتنَزَّلَ اسمي "المُتَكَلِّمُ" في وُجودِكَ لا يُمكِنُكَ أن تتكَلَّمَ، حتّى يأتيَ اسمي "الحَيُّ" في هذهِ القَوالِبِ ويَنزِلَ بصورةٍ ضَعيفةٍ، ضَعيفةٍ ضَعيفةٍ ضَعيفةٍ، ولا تكونُ لديكَ القابِليّةُ لهذا المِقدارِ مِنَ الحِصَّةِ والسِّعَةِ الوُجوديّةِ، لا يُمكِنُكَ أن تكونَ حَيًّا، فما بالُكَ بأن تُصَلِّيَ. تكونُ مُلقًى على الأرضِ كالحَجَرِ! اذهَبوا إلى المَقابِرِ والمَغاسِلِ وانظُروا، هؤلاءِ الأمواتُ الذينَ يُؤتى بهِم إلى هُناكَ، هذا كانَ يَمشي في الشّارِعِ صَباحًا، والآنَ مُلقًى هُنا لا يَستَطيعُ أن يَرمِشَ بجَفنِهِ، بالأمسِ كانَ يَمشي ويتحدَّثُ معَنا. ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾۱. عندما يأتي الأجَلُ، يتبَدَّلُ اسمُ "الحَيِّ" إلى اسمِ "المُميتِ"، تَنزِلُ الإماتَةُ وتَظهَرُ في هذا الإنسان، فيَسقُطُ على الأرضِ. كلُّ فِعلٍ يَصدُرُ مِنَ الإنسانِ هوَ نُزولٌ لاسمٍ أو صِفةٍ كُلِّيَّةٍ للّهِ تعالى تجَلَّتْ وخرَجَتْ مِنَ الإنسانِ.

    1. سورة النحل (۱٦) الآية ٦۱

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

10
  • كيف نرى تجلّي الأسماء الإلهية في أفعالنا؟

  • ذلكَ الذي يَرى الجانِبَ الكُلِّيَّ عندما يَنظُرُ إلى هذا وهوَ يُصَلِّي، يُشاهِدُ ذلكَ الحَبلَ. أمّا نحنُ فلا! نحنُ لا نَرى ذلكَ الحَبلَ ولا نَرى ذلكَ الخَطَّ. أنا الآنَ أتحدَّثُ إليكُم، وأنتُم تَسمَعونَ كلامي وتُفَكِّرونَ فيهِ وتتأمَّلونَ هل هوَ صَحيحٌ أم لا؟ ليسَ مِنْ المَعلوم أنَّ كلَّ ما نقولُهُ صَحيحٌ. أنتُم الآنَ تقولونَ إنَّ فُلانًا يتحدَّثُ ويقولُ هذا الكلام، وكم يتحدَّثُ جيِّدًا! فهذا ما تقولونَهُ أنتُم، ولكن لو كانت لديكُم عينُ البَصيرةِ، لما قُلتُمْ عن هذا الكلامِ الذي أقولُهُ كم يتحدَّثُ السَّيِّدُ جيِّدًا! هذا الكلامُ يُصبِحُ ذَنبًا وخَطَأً وباطِلًا. لا يوجدُ لدينا "السَّيِّدُ يتحدَّثُ جيِّدًا"، لا يوجدُ لدينا "السَّيِّدُ يقولُ كلامًا جيِّدًا". لمَنْ هذا؟! هذا للذينَ مَشاعِرُهُم في مُستَوًى مُنخَفِضٍ، أمّا أنتُم فلا يَنبَغي أن تقولوا هذا الكلامَ، يجِبُ أن تقولوا: أيُّ أمورٍ تَنزِلُ مِنْ هُناكَ؟ هذا ما يجِبُ أن تقولوهُ، هذا هوَ الصَّحيحُ. ما مَعنى "السَّيِّدُ يتحدَّثُ جيِّدًا"؟ لقد أُغلِقَ مَلَفُّهُ وقُرِئَتْ فاتِحَتُهُ وانتهى أمره، انتَهى الأمرُ. الآنَ تغَيَّرَتْ أفهامُنا، تغَيَّرَتْ أفكارُنا، وتغَيَّرَتِ الأمورُ، لا يَنبَغي لنا أن نعودَ إلى الوَراءِ ونَبحَثَ فيهِ، لقد مَضى ذلكَ الماضي، مُدرَكاتُنا قبلَ أربَعِ أو خَمسِ سنواتٍ انتَهَتْ، ماذا يجِبُ أن نُفَكِّرَ الآنَ؟. فلنَتَقَدَّمْ قليلًا، ولنَضَعْ قَدَمَنا أبعَدَ، ولا نَجُرَّ أنفُسَنا إلى الخَلفِ. الآنَ أصبَحَتْ عِبارَةُ "السَّيِّدُ يتحدَّثُ جيِّدًا" باطِلةً وذَنبًا، والآنَ اللهُ تعالى لا يَغفِرُها، فلنَنتَبِهْ. الآنَ، بمُجَرَّدِ أن تَرَوني أتحدَّثُ، فالتفتوا وتذكّروا أنّ هذهِ الأمورُ تأتي مِنْ هُناكَ، طبعًا إن كانت صَحيحةً ولم أكُنْ قد خَلَطْتُ الأمورَ. 

  • ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾۱. الكلامُ الطَّيِّبُ والصَّحيحُ نِعمةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى تَنزِلُ مِنْ هُناكَ بأيِّ صورةٍ يريدُها هوَ، في صورةِ إنسانٍ وفي صورةِ حَيَوانٍ. قد يَتَّعِظُ الإنسانُ ويأخُذُ عِبرَةً مِنْ سُلوكِ بعضِ الحَيَواناتِ. سُلَيمانُ عليهِ السلامُ الذي كانَ يَعرِفُ لُغَةَ الحَيَواناتِ كانَ يُفيقُ ويتنَبَّهُ مِنْ حديثِ الحَيَواناتِ، كانَ عُصفورانِ يتحدَّثانِ فيُصعَقُ ويُغشى عليهِ. لدينا الكثيرُ مِنَ الأمورِ والقَضايا حولَ هذا المَوضوعِ. لدينا قَضايا كثيرةٌ حولَ سُلَيمانَ عليهِ السلامُ. فالآنَ لم يَعُدْ يَنبَغي أن نقولَ: "السَّيِّدُ يتحدَّثُ جيِّدًا"، الآنَ يجِبُ أن نقولَ: "ما هي الأمورُ التي تأتي مِنْ هُناكَ؟"، لأنَّ هذا السَّيِّدَ نفسَهُ الذي يتحدَّثُ جيِّدًا الآنَ، قد يقولُ غَدًا حَفنةً مِنَ التُّرَّهاتِ. السَّيِّدُ هوَ السَّيِّدُ نفسُهُ لم يتغَيَّرْ. في ذلكَ الوقتِ تعَلَّقَتِ الإرادةُ بأن تأتيَ هذهِ الأمورُ، وغَدًا لا، غَدًا يَقَعُ الأمرُ في أيدينا! يا وَيلنا! الآنَ يأتي ذلكَ القِسمُ. يجِبُ على العارِفِ، يجِبُ على الفَهيمِ والمُؤمِنِ أن يَرى الأصلَ. هذا النُّزولُ لاسمِ "التَّكَلُّمِ" في هذا القالَبِ يجِبُ أن يعودَ إلى أصلِهِ. أنتُم الذينَ تَستَمِعونَ الآنَ إلى هذهِ الأمورِ وتُفَكِّرونَ وتُدرِكونَ، أنتُم الآنَ مَظهَرٌ لاسمِ "السَّميعِ"، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. السَّميعُ يَعني الذي يَسمَعُ، طبعًا هوَ أدَقُّ مِنْ مَعنى السَّمعِ، يَعني الإدراكَ والقَبولَ والتَّصديقَ، ذلكَ هوَ مَعنى السَّميعِ. والسَّميعُ والمُستَمِعُ شيئانِ مُختَلِفانِ، أي ذلكَ الذي يتقَبَّلُ الأمرَ بروحِهِ وقَلبِهِ. يقالُ: اسمَعْ! يَعني اقبَلْ وصَدِّقْ وتقَبَّلْ، هذا مَعنى السَّميعِ. ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ هوَ الذي يُدرِكُ كلَّ حَقائِقِ عالَمِ الوُجودِ، إدراكًا سَمعيًّا، أي في قَلبِهِ وضَميرِهِ تُعادُ كلُّ آثارِ الوُجودِ. عندما يَنزِلُ مِنْ هُناكَ، في عَودَتِهِ إليه، كلُّ الأمورِ لَا تَشُذُّ عَنْ حِيطَتِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، لا تَخرُجُ عن حِيطَةِ وُجودِهِ مِثقال ذَرَّةٍ، وَلَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ خَافِيَةٌ، لا يُمكِنُ لشيءٍ أن يَخفى على اللهِ تعالى. أنتُم الذينَ الآنَ مَظهَرٌ لاسمِ "السَّميعِ"، لا يَنبَغي لي أن أقولَ: "ما شاءَ اللهُ، أيُّ أفرادٍ جاؤوا هُنا، يَستَمِعونَ إلى كلامِنا ويُعجِبُهُمْ!". فبمُجَرَّدِ أن أقولَ هذا، يقولُ اللهُ تعالى: "ماذا حدَثَ؟! هل أنتَ الذي كنتَ تقولُ هذا الكلامَ للآخَرينَ؟! لماذا أنتَ هُنا؟! أنتَ الذي تَحفِرُ بالمِعوَلِ، لماذا لا تَحفِرُ حَديقَتَكَ؟!". والآنَ، بينما الأفرادُ يَستَمِعونَ إلى هذهِ الأمورِ، تَطرَحُ أنتَ مسألةَ الكَثرةِ ومسألةَ الانتِسابِ إلى النَّفسِ! أنا أيضًا يجِبُ أن أنتَبِهَ، كِلانا يجِبُ أن يَنتَبِهَ. أنتُم الذينَ تتوجَّهونَ إليَّ، يجِبُ أن تَرَوا تلكَ الكُلِّيَّةَ مِنْ هذهِ الجُزئيّةِ لتَستَفيدوا بشَكلٍ أفضلَ، وأنا أيضًا يجِبُ أن أرى تلكَ الكُلِّيَّةَ مِنْ هذهِ الجُزئيّةِ، وإذا رأيتُ ذلكَ، تَختَلِفُ الأمورُ كثيرًا.

    1. سورة النحل (۱٦) الآية ٥٣.

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

11
  • ثمرات رؤية الأصل الإلهي في الأفعال: كيف تتغيّر نظرتنا للأمور؟

  • عندما أتحدَّثُ، حينَها إذا نَعِسَ أحَدُهُم أيضًا فلن أنزعج. عندما أتحدَّثُ، إذا فَهِمَ أحَدُهُمُ الأمرَ بشَكلٍ مُختَلِفٍ، فلن أتضايَقَ بعدَ الآنَ، لماذا؟ لأنّني رَبَطْتُ هذا الجُزئيَّ بهِ، والأمرُ لا عَلاقةَ لهُ بالكَثرةِ. عندما أتحدَّثُ، إذا قَلَّ العَدَدُ أو زادَ، وجاءَ يومًا مِائة ويومًا خَمسونَ، فلن أتضايَقَ بعدَ الآنَ. لماذا؟ لأنَّ اللهَ تعالى أرادَ أن تَظهَرَ في الخارِجِ في ذلكَ اليومِ خَمسونَ صورةً جُزئيّةً، فما عَلاقَتي أنا بذلكَ؟! غَدًا سَبعونَ وبعدَ غَدٍ سَبعُمِائةِ من الحضور! أصلًا ما عَلاقةُ ذلكَ بي؟ أنا يجِبُ أن أتحدَّثَ وأقولَ ما أنتهي إليه، سَواءٌ كان الحاضرون سَبعينَ أم سَبعمِائةٍ، هل يُنفَقُ مِنْ جيبي؟! ليَقِلَّ العَدَدُ أو يَزِدْ. انظُروا كم تتغَيَّرُ المُعادَلاتُ، وكم تتغَيَّرُ الأمورُ، وكم تتبَدَّلُ العَلاقاتُ؟! كم تَرتَفِعُ التَّوَقُّعاتُ وتَنخَفِضُ، كلُّ هذهِ الأمورِ تعودُ إلى الكَثرةِ، أي أنَّ المَقامَ الذي يجِبُ أن أكونَ فيهِ لستُ فيهِ، والمَقامَ الذي يجِبُ أن تكونوا فيهِ لستُمْ فيهِ، لذا يَحدُثُ الخِلافُ. أمّا إذا استَقَرَّ كلٌّ مِنَ الطَّرَفَينِ في مَقامِهِ في عالَمِ الوُجودِ، يُصبِحُ المَقامُ رَفيعًا، وُجودًا رابِطًا۱.

  • الوُجود الرَّابط: كيف يُحَوِّل عالَمَنا إلى جنّة؟

  • وُجودُنا وُجودٌ رابِطٌ وفَقريٌّ، إذا استَقَرَّ كلٌّ مِنّا ومِنكُم والبَقيّةُ في مَقامِهِ، حينَها تُصبِحُ الدُّنيا جَنَّةَ نَعيمٍ وحُكومةَ الإمامِ المَهديِّ عجّل الله تعالى فرجه، ما شاءَ اللهُ. فالإمامُ المَهديُّ عليه السلام عندما يأتي، العَمَلُ الذي يقومُ بهِ هوَ أنّهُ يَضَعُ كلَّ فَردٍ في مَقامِهِ، كلَّ إنسان في مَقامِهِ. فإذا قالَ لأحَدِهِم: "واجِبُكَ أن تَسقيَ هذهِ الأشجارَ"، لا يَفرُقُ ذلكَ عندَهُ عنِ الذي يقولُ لهُ: "اذهَبْ وكُنْ مُحافِظًا أو حاكِمًا على بَلَدٍ مِثلِ فَرَنسا، اللَّهُمَّ ارزُقنا. (مزاح) الآنَ لا أعلَمُ هل يَفرُقُ ذلكَ عِندَنا أم لا؟ إنْ شاءَ اللهُ أنه لا يَفرُقَ. يقولُ لأحَدِهِم: "واجِبُكَ أن تأخُذَ هذهِ السِّلالَ الموجودةَ هُنا وتَضَعَها في أوَّلِ الزُّقاقِ وتَجمَعَها مِنَ المَنازِلِ، وفي اللَّيلِ السّاعةَ التّاسِعةَ والنِّصفَ تأتي السَّيّارةُ لتأخُذَها"، لا يَفرُقُ ذلكَ عن أن يأتيَ ويُعطيَهُ حُكمَ مِنْطَقةٍ كبيرةٍ. لا ذلكَ الذي ذهَبَ إلى تلكَ المِنطَقةِ يَشعُرُ بالاستِعلاءِ والعُلُوِّ والتَّفَوُّقِ على هذا، ولا هذا يَشعُرُ بالذِّلَّةِ والحَقارةِ تُجاهَهُ، كِلاهُما واحدٌ. بل هذا أسهَلُ، يقولُ: "جَزاكَ اللهُ خيرًا يا إمامَ الزَّمانِ!". في عصر الإمامِ المَهديِّ عجّل الله فرجه، تعودُ المَسؤوليّاتُ على أساسِ الجانِبِ الرَّبطيِّ، لا على أساسِ أنانيّةِ الجانِبِ الاستِقلاليِّ. الوُجودُ الذي نشعر به الآنَ أنّه لأنفسنا هو ـ كما يقولُ الرُّفَقاءُ من الطلاّب ـ "وُجودٌ في نَفسِهِ لنَفسِهِ بنَفسِهِ"، وقد تفَوَّقنا به على اللهِ تعالى! (مزاح) فذلكَ الوُجودُ يَختَصُّ باللهِ تعالى فقط، وهو الوُجودُ الاستِقلاليُّ القائِمُ بالذّاتِ. فكلُّ واحدٍ مِنّا يرى أنّ وُجودَهُ وُجودٌ استِقلاليٌّ غيرُ مُتَدَلٍّ باللهِ تعالى وهو قائِمٌ بذاتِهِ وصاحِبُ اختيارٍ في كلِّ شيءٍ، هذا هوَ حال وُجودُ الجَميعِ! وُجودُنا الواقِعيُّ هوَ وُجودٌ فَقريٌّ، أي لا وُجودَ لهُ أصلًا غيرَ تجَلّي تلكَ الذّاتِ والوُجودِ البَحتِ البَسيطِ. لا شيء، إنّهُ ظِلٌّ، ظِلٌّ مِنَ الشَّمسِ سَقَطَ، الظِّلُّ ليسَ لهُ شيءٌ مِنْ نَفسِهِ، هوَ نَفسُ النّورِ الذي تجَلّى في الخارِجِ بصورةٍ ضَعيفةٍ. 

    1. اصطلاح فلسفي يعني الوجود القائم بغيره والذي لا استقلال له في ذاته، بل هو عين الربط المحض والتعلق بغيره (م)

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

12
  • معنى الوجود الظلّي

  • الظِّلُّ ليسَ بمَعنى ظِلِّ الإنسانِ، ذلكَ الظِّلُّ الذي يقالُ في الاصطِلاحِ الفَلسَفيِّ هوَ عِبارَةٌ عن هذهِ الأنوارِ الجُزئيّةِ المُتَعاكِسةِ فهو مثل هذا النّورَ الذي يَصطَدِمُ بالمِرآةِ ويَنعَكِسُ، وليسَ الظِّلّ بمَعنى الظَّلامِ وقلّة النور.

  • فالنّاسُ الآنَ هكذا. وسَبَبُ هذهِ الخِلافاتِ والجلسات في الدُّنيا، فالمُلوكُ، ورُؤَساءُ الجُمهوريّاتِ، يَنظُرونَ شَزَرًا بعضِهِمُ لبَعضِ، ويتبادَلونَ الرَّسائِلَ، وهذا يَفعَلُ كذا لذاكَ، وهذا يَشتِمُ ذاكَ! كلُّ هذا لأنَّهُمْ أخطَؤوا في مَقامِهِم وافتَرَضوا وُجودَهُم وُجودًا مُستَقِلًّا بالذّاتِ، لا مُستَقِلًّا بالغَيرِ! فجَلَسوا مَكانَ اللهِ تعالى! عندما يَظهَرُ الإمام المهديّ عليه السلام، تَزولُ كلُّ هذهِ الوُجوداتِ المستقلّة وتُصبِحُ وُجودًا رَابطًا. في الوُجودِ الرَّابط لا يَعُودْ هذا يَشعُرُ بالتَّفَوُّقِ على ذاكَ، ولا يَعُودُ هذا يتفَوَّقُ على ذاكَ. الفيلُ والنَّملةُ واحدٌ في الوُجودِ الرَّابط. لا فَرقَ بينَهُما، كِلاهُما واحدٌ، فهذا ظَهَرَ بهذا النحو وهذا بذاك النحو. والإمامُ عليهِ السلامُ عندما يظهر تُصبِحُ الوُجوداتُ كلُّها وُجودًا رَابطًا وتدرك ذلك. لذا، شِئتَ أم أبَيتَ، تُصبِحُ الدُّنيا جَنَّةً، أي حتّى لو لم يُرِدِ الإمامُ المَهديُّ عجّل الله فرجه تُصبِحُ الدُّنيا جَنَّةً. عندما تَنقَلِبُ الأفكارُ هكذا، عندما يَحدُثُ تغييرٌ أساسيٌّ في مُدرَكاتِنا بعِنايةِ الإمام، وكما يقولُ الإمامُ الباقِرُ عليهِ السلامُ: «وَضَعَ اللهُ يَدَهَ عَلَى رُؤوُسِ العِبَادِ فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ، وَ كَمُلَتْ بِهِ أحْلَامَهُمْ.»۱، مَعناهُ هوَ هذا، أي أنَّ حَيثيّةَ الإنسانِ الوُجوديّةَ في زَمَانِ الإمامِ المَهديِّ عليه السلام تَجِدُ مَقامَها. فتَشعُرُ بمَوقِعِها في ذلكَ الوقتِ. عندما يُصبِحُ الأمرُ هكذا، فأيُّ توَقُّعٍ يَبقى؟! كلُّ النّاسِ يَفِرّونَ أصلاً مِنَ الحُكمِ، ليسَ مِثلَ الآنَ. الإمامُ المَهديُّ عليه السلام يجِبُ أن يُرسِلَ إلى أبوابِ بيوتِ كلّ واحد ليَجُرَّهُمْ خارِجًا: "عَزيزي تعالَ، العَمَلُ باقٍ". "يا ابنَ رسولِ اللهِ دَعنا نَبقى هُنا! معَنا مِكنَسةٌ". 

  • فيقولُ الإمام: "اذهَبْ إلى هُناكَ، لدينا عَمَلٌ وحَياةٌ". هكذا يُرسِلُ الإمام وراءَ الأفرادِ، بالقُوَّةِ يُرسِلُهُمُ إلى هُنا وهُناكَ، مَنْ يريدُ أن يَسعى وراءَ الحُكمِ بَعدَ ذلك؟! لن يكونَ الحكم طَعامًا شَهيًّا يتنازع عليه بَعدَ الآنَ. هو الآن طعام شَهيّ يتنازع عليه حتّى الأعماقِ، ولكن في زَمَنِ الإمامِ المَهديِّ عجّل الله تعالى فرجه لا يكون أصلًا طَعامًا شَهيًّا، أبدًا. المَسألةُ الوَحيدةُ التي تكون في ذِهنِ الإنسانِ هي أن تكونَ يَدُ الوَلايةِ فوقَ رأسِهِ، فقط هذا. الأمرُ الوَحيدُ الذي يَدورُ في ضَميرِ الجَميعِ ـ طبعًا لهُ مَراتِبُ وشِدَّةٌ وضعف ويكون لدى الأولياء والعُرَفاء بنَحوٍ آخرَ ـ هوَ أن تكونَ يَدُ الإمام على رُؤوسِهِم، ولا يبالى بشيء غير هذا.

    1. «أُصول الكافي» ج ۱، ص ٢٥. و «الوافي» ج ۱، ص ۱۱٤، الطبعة الحروفيّة:
      عن أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام قال «إذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ اللهُ يَدَهَ عَلَى رُؤوُسِ العِبَادِ فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ، وَ كَمُلَتْ بِهِ أحْلَامَهُمْ.»

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

13
  • المحبّة: الاستثناء الوحيد من قاعدة الكثرة

  • إذًا، هذهِ الأعمالُ التي نقومُ بها، كلُّ هذهِ الأعمالِ لها جانِبٌ كَثرَتيٌّ في هذهِ الرُّؤيةِ وفي هذا الوَضعِ، لها جانِبٌ كَثرَتيٌّ. فما دامَ هذا الفِكرُ والمَشاعِرُ وهذهِ الإدراكاتُ موجودةً، فإنَّنا نَرى الصَّلاةَ مِنّا، والصَّومَ والحَجَّ مِنّا، والإنفاقَ مِنّا، نحنُ أنفَقنا مِنْ جيوبِنا، ها! انتَبِهوا! أنا أعطَيتُ وهوَ لم يُعطِ! ما دامَتْ هذهِ الأفكارُ موجودةً فهذهِ الأمورُ موجودةٌ. ولكنَّ الشَّيءَ الذي ليسَ لهُ جانِبٌ كَثرَتيٌّ وليسَ في اختيارِ الإنسانِ هوَ مسألةُ المَحَبَّةِ. في مسألةِ المَحَبَّةِ لا مَعنى للكَثرةِ. أن يُحِبَّ الإنسانُ واحدًا، حُبًّا قَلبيًّا، هل يَستَطيعُ ذلكَ أن يَعتَرِضَ ويقولَ: لماذا تُحِبُّني؟ لا! لماذا؟ لأنَّ المَحَبَّةَ لا تحتَمِلُ الكَثرةَ. هل إذا أحَبَّ الإنسانُ واحدًا يَنزَعِجُ منه المحبوب ويَكرَهُ منه هذه المحبّة؟! دونَ أن يتشَبَّثَ بهِ، فالبعضُ لديهِم مَحَبَّةٌ يُخرِجونَ بها روحَ الإنسانِ! لا!. يُحِبُّهُ دونَ أن يتشَبَّثَ بهِ ويتَّصِلَ بهِ. فبعضهم اتَّصَلَ بي السّاعةَ الثّانيةَ عَشرةَ والنِّصفَ ليلًا في الشِّتاءِ، العامَ الماضي، اتّصلت سَيِّدةٌ مُحتَرَمَةٌ تقول: "سَيِّدنا اشتَقتُ إليكَم، أرَدتُ أن أُسَّلمَ علىكُم". فقُلتُ: "شُكرًا جَزيلًا، أشكرك! ولكنّني آمُلُ ألّا تَشتاقي إلينا هكذا مرَّةً أُخرى. فالشَّوقُ السّاعةُ ۱٢:٣۰ ليلًا مسألَتُهُ مُختَلِفةٌ! هل يتَّصِلونَ السّاعةَ الثّانيةَ عَشرةَ والنِّصفَ ليقولوا: "سَيِّدنا أرَدنا أن نُسَلِّمَ عليكم"؟. مِنَ الجَيِّدِ للإنسانِ عندما يُحِبُّ أن تكونَ مَحَبَّتُهُ مَقرونةً بالتَّدَبُّرِ والتَّعَقُّلِ والتَّحَمُّلِ. رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ قالَ: «إذا أحبَّ الرجلُ أخاه فلْيخبره أنه يحبُّه»۱. لم يَقُلْ ذلكَ عن أيِّ شيءٍ آخرَ. قالَ: "إذا أنفَقت فلا تَعلَمْ شِمالُك ما تُنفِقُ يَمينُك"٢، "إذا أرَدتُمْ أن تُصَلُّوا فاسعَوْا ألّا يكونَ فيها رِياءٌ"، "إذا أرَدتُمْ أن تَحُجُّوا فلا ضَجيجٌ وفُلانٌ ومَجيءٌ وذَهابٌ وذَبحُ خِرافٍ و...!". البعضُ يَذهَبونَ ويتَّفِقونَ معَ القَصّابِ ويأتونَ بخِرافِ القَصّابِ ويَذبَحونَ واحدًا واحدًا عندَ كلِّ مُفتَرَقِ طُرُقٍ، ثمَّ يَذهَبُ هوَ ويُعَلِّقُها في مَحَلِّهِ: "الحاجُّ فُلانٌ ذبَحَ ثَمانيةَ خِرافٍ". لافِتاتٌ تُعَلَّقُ. "نُرَحِّبُ بمَقدَمِ السَّيِّدِ فُلانٍ والسَّيِّدةِ فُلانةٍ مِنَ المَدينةِ المُنَوَّرةِ وبَيتِ الوَحيِ". هؤلاءِ جميعًا كانوا يتجَوَّلونَ في سوقِ أبي سُفيانَ وأحياء مَكَّةَ، فما هذا الترحيب؟! هذهِ كلُّها ألاعيبُ. الإنسانُ الذي يَذهَبُ إلى مَكَّةَ لا يُحدِثُ ضَجيجًا. نَعَمْ! قبلَهُ يجِبُ أن يكونَ هُناكَ تَوديعٌ وبَعدَهُ يجِبُ أن يُقيمَ وَليمةً وهي سُنَّةٌ، ولكن هذا الضَّجيجُ واللّافِتاتُ لا معنى له.

    1. صحيح أبي داود، الرقم:  ٥۱٢٤
    2. صحيح البخاري الرقم : ٦۸۰٦ سبعة يُظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه... ورجلٌ تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها، حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفق يمينه.

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

14
  • وقفة مع بعض عادات التعزية بالأموات

  • تمامًا كما يجري في المآتم، فعندما يُشارِكُ الإنسانُ في مَأتم، يَرى حولَ المَسجِدِ كلّه لافتات أن "أصحاب المهنة الفُلانيّة يُعَزّونَ السَّيِّدَ فُلانًا بوَفاةِ والِدةِ زَوجةِ عَمَّةِ خالةِ ابنِ عَمِّ حَفيدِ أفراسيابَ"، وموظّفو كذا عَزَّوْا، والآخَرُون هَنَّؤوا... 

  • كلُّ مَجالِسِنا أصبَحَتْ مَسرَحًا ولافتاتٍ وأقمِشةً، والذينَ يَجلِسونَ في المأتم بَدَلًا مِنْ أن يَقرَؤوا القُرآنَ ويَطلُبوا الرَّحمَةَ والمَغفِرَةَ، يجِبُ أن يُديروا أعيُنَهُم ويَقرَؤوا هذهِ اللافتات واحدةً واحدةً: بائِعو المَساميرِ والقَصّابونَ وبائِعو اللَّبَنِ و... عَزَّوْا...۱ فما هذهِ السخريةُ؟! لماذا؟ لأنَّ كلَّ هؤلاءِ في الكَثَراتِ. حَسَنًا يا هذا قُمْ واقرَأِ الحَمدَ والسّورَةَ مثل الناس واذهَبْ، ولا داعيَ لهذهِ الألاعيبِ، فلا لافِتاتٍ ولا زهور! اقرَأْ فاتِحةً ليَصِلَ شيءٌ لذلكَ المَيِّتِ المِسكينِ. كلُّنا عالِقونَ في هذهِ الكَثَراتِ، كلُّنا في هذا المَجيءِ والذَّهابِ. لا مَجالِسُنا فيها روحٌ، ولا نورٌ، ولا فيها تَقوى! أحَدُهُم أخَذَ الميكروفونَ بيَدِهِ، وكلُّ مَنْ يَدخُلُ يقول عنه: "لأجل سلامة السَّيِّدِ فُلانٍ صَلّوا على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ"، "فليتفضَّلِ الأُستاذُ فُلانٌ بقِراءةِ بضعةِ أبياتِ من الشِعرٍ"، و"ذلكَ السَّيِّدُ أفادَنا، وتفضَّلَ علينا!". فماذا حدَثَ؟! حقًّا ماذا حدَثَ؟! كلُّ مَجالِسِنا تحَوَّلَتْ إلى هذهِ الأقوالِ والكَثَراتِ.

  • سرّ التّأكيد على إظهار المحبّة دون غيرها من الأعمال

  • الشَّيءُ الوَحيدُ مِنْ بينِ كلِّ هذا، نُنفِقُ ولا يَعلَمُ أحَدٌ، نُصَلّي ولا نُعلِمُ، نَصومُ ولا نتظاهَرُ، نَحُجُّ ولا يكونُ تظاهُر، الحَجُّ يَعني أصلًا الاختِفاءَ، تدفع الخُمسَ ولا يجِبُ أن تُعلِنَ، تدفع الزَّكاةَ، فأعطِها خُفيَةً. في كلِّ هذهِ الأمورِ نَرى جانِبَ الإخفاءِ، ولكنّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ يقولُ: "اذهَبْ إلى مَنْ تُحِبُّهُ وقُلْ لهُ". لمَ هذا؟ فالذي تُحِبُّهُ وصَديقُكَ الذي تُحِبُّهُ وتكنّ له محبّة، قُلْ لهُ: "أنا أُحِبُّكَ، أشتاقُ إليكَ، اللهُ تعالى ألقى مَحَبَّتَكَ في قَلبي". لماذا؟ لأنَّهُ لا يَعلَمُ، ليسَ لديهِ عِلمُ الغَيبِ. بمُجَرَّدِ أن تُظهِرَ هذهِ المَحَبَّةَ، هوَ أيضًا سيَجِدُ في نَفسِهِ مِثلَ هذهِ الحالةِ نحوك. عندما يُصبِحُ الأمرُ مُتبادَلًا، تَحدُثُ الأُلفَةُ بينَ القُلوبِ. الشَّيءُ الوَحيدُ في عالَمِ الكَثرةِ الذي ليسَ لهُ جانِبٌ كَثرَتيٌّ وذَكَرَهُ الأعاظمُ هوَ مسألةُ المَحَبَّةِ. أعتَقِدُ أنَّ الأمرَ يجِبُ أن نُؤَجِّلَهُ للعامِ القادِمِ إذا وُفِّقنا، كيفَ أنَّهُ لا توجدُ كَثرةٌ في مسألةِ المَحَبَّةِ، ولكن سأعرِضُ رِوايةً على الرُّفَقاءِ ليَعرِفوا قَدرَ هذهِ المَحَبَّةِ ويَعلَموا لماذا اختارَ الإمامُ السَّجّادُ عليهِ السلامُ المَحَبَّةَ مِنْ بينِ الصِّفاتِ التي يُمكِنُ أن تَظهَرَ في الإنسانِ.

    1. هذا من العادات الشائعة في إيران، فإذا توفّي أحدهم علّق أصحابه على جدران بيته هذه اللافتات وعندما يقام له مجلس عزاء في المسجد تعلّق أيَضًا أمام المسجد لافتات مشابهة وتختلف كثرة وقلّة بحسب المستوى الاجتماعيّ للمتوفّى. (م)

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

15
  • حديث قدسيّ: لمن تكون جنّة الله؟ ومن يختصّ الله بذاته؟

  • يقولُ اللهُ تعالى في الحَديثِ القُدسيِّ: «ذِكْري لِلذّاكِرينَ، وجَنَّتي لِلْمُشْتاقينَ، وأنا خاصّة لِلْمُحِبّينَ».۱ ذِكري لمَنْ يَذكُرُني، وجَنَّتي لمَنْ يَشتاقُ إليَّ، وأنا خاصٌّ للمُحِبّينَ، أنا مِلكٌ للمُحِبّينَ، أولئكَ الذينَ يُحِبّونَني. أولئكَ الذينَ يَشتاقونَ إليَّ أُعطيهِمُ الجَنَّةَ، وأولئكَ الذينَ يَذكُرونَني أذكُرُهُمْ، ولكن لمَنْ أنا؟ ولمَنْ أنا كُلِّيًّا؟ تحتَ تصَرُّفِ من وَضَعتُ وُجودي؟ تحتَ تصَرُّفِ المُحِبّينَ وأولئكَ الذينَ يُحِبّونَني. وصَلَتِ المَسألةُ إلى هُنا، الآنَ لا نَعلَمُ هل سيكونُ هذا المَجلِسُ غَدًا ليلًا أم لا، على كلِّ حالٍ، وصلنا بالأمرَ إلى هُنا، ولكن بخُصوصِ مسألةِ المَحَبَّةِ، ظاهِرًا لا أعلَمُ هل لدينا تَوفيقٌ للحَديثِ عنها مرَّةً أُخرى أم لا؟! على كلِّ حالٍ، وصَلنا إلى مَكانٍ جيِّدٍ، وفَهِمنا هذا المِقدارَ. فلماذا لم يَحسِبِ الإمامُ السَّجّادُ عليهِ السلامُ حساب الأعمال ولم يَعرِضْها كشَفيعٍ عندَ اللهِ تعالى؟ لماذا؟ لأنَّ العَمَلَ لهُ جانِبُ انتِسابٍ إلى الإنسانِ، أنا أقومُ بهذا العَمَلِ وإنْ كانَ مِنَ اللهِ تعالى. إن لم أرَ العَمَلَ مِنّي، فلماذا أعرِضُهُ؟ إن لم أرَهُ مِنّي ورأيتُهُ ظُهورًا لهُ، فلماذا يجِبُ أن أعرِضَهُ؟ إن رأيتُهُ مِنّي ونسَبتُهُ إلى نَفسي، فحَسَنًا الشَّيءُ الذي يُنسَبُ إلى النَّفسِ لا يَصلُحُ للعَرضِ على اللهِ تعالى. ولكنّ مسألةَ المَحَبَّةِ مسألةٌ ليسَ لها جانِبٌ كَثرَتيٌّ، هي تعَلُّقٌ، وهي رَبطٌ يَحصُلُ بينَ العَبدِ وبينَ اللهِ تعالى، فهل يَستَطيعُ اللهُ تعالى أن يقولَ: "لماذا تُحِبُّني؟! عَبَثًا تحبّني!". لا يَستَطيعُ أن يقولَ. سيقولُ له العبد: "أنتَ جَعَلتَ في هذه المَحَبَّةَ، فماذا أفعَلُ أنا؟". 

  • يقولُ اللهُ تعالى: "أنتَ فعلتَ هذا العَمَلَ". 

  • يقولُ العبد: "التَّوفيقُ والهِمَّةُ مِنكَ". عندما لا يَبقى شيءٌ، تَبقى بَعدَ ذلكَ مسألةُ الرَّبطِ. يَنظُرُ اللهُ تعالى ليَرى كم هوَ هذا الرَّبطُ. لذا يقولُ: «أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدي المُؤمِنِ بي، إنْ كانَ خَيْرًا فَخَيْرًا»٢. أتعاطى مع عَبدي حسب مَقامي في قَلبِهِ، فكم لديهِ مِنْ تعَلُّقٍ بي ومَحَبَّةٍ لي؟ كم يَعتَمِدُ عليَّ؟ إذا ظَنَّني فَردًا وذاتًا قاسيةَ القَلبِ وقَهّارةً وغيرَ مُباليةٍ وغاضِبةً وحَقودةً وأهلَ جَزاءٍ وهذهِ الأمورُ، فأنا لا يُعجِبُني هذا العَبدُ لأنّني لستُ هكذا. وإذا ظَنَّني عَبدٌ مُحِبًّا لهُ وعَطوفًا ورَؤوفًا ومُتَسامِحًا وغَفورًا وعَفُوًّا، فسأكونُ أنا أيضًا كذلكَ. إذًا، عندما يكونُ الأمر على هذا، فلماذا لا يتعَلَّقُ الإنسانُ بمِثلِ هذهِ الذّاتِ؟! لماذا لا يُحِبُّ مِثلَ هذهِ الذّاتِ؟! ولماذا لا يعشقها؟ لماذا يقومُ بالأعمالِ عن إجبارٍ؟ لماذا لا يكونُ ذلكَ عن رغبة ومَحَبَّةٍ وعِشقٍ؟!

    1. بحار الأنوار ج۷۷ص ٤٢: عدة الداعى : أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام  يا داود من أحبّ حبيبًا صدّق قوله، ومن رضي بحبيب رضي فعله، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه، ومن اشتاق إلى حبيب جدّ في السير إليه، يا داود ذكري للذاكرين، وجنّتي للمطيعين، وحبّي للمشتاقين وأنا خاصّة للمحبّين.
    2. الكافي ج٢، ص ۷٢.

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

16
  • "وإن أدخلتني النار أعلمت أهلها أنّي أحبّك": ذروة التعلّق بالمحبّة

  • أميرُ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ حقًّا عَجيبٌ، يقولُ الإمام في المُناجاةِ الشَّعبانيّةِ: «وَإِنْ أَدْخَلْتَنِي النّارَ أَعْلَمْتُ أَهْلَها أَنّي أُحِبُّكَ».۱ إذا ألقَيتَني في النّارِ فسأُخبِرُ أهلَها جميعًا بأنّني كنتُ أمتَلِكُ صِفةً لا يَستَطيعُ اللهُ تعالى إنكارَها، وهي أنّني كنتُ أُحِبُّكَ. فأيَّ حالٍ في نفسه يُعَبِّرُ عنهُ أميرُ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ في هذهِ الفِقرةِ؟! فأميرَ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ عندما يقولُ هذا، هوَ في حالةٍ لا يَرى فيها سوى جانِبَ المَحَبَّةِ التي في قَلبِهِ تُجاهَ اللهِ تعالى كرأسِ المالِ الوَحيدِ والمُدَّخَرِ الوُجوديِّ الوَحيدِ، ولا يَرى شيئًا آخرَ. الأئمّةُ عليهمُ السلامُ لم يكونوا يُمَثِّلونَ أفلامًا، بل كانوا يحكون حالَتهُم، أي ما في ضَميرِهِ يُعَبِّرُ عنهُ. أميرُ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ يُناجي اللهَ تعالى، والآنَ وصَلَ إلى أسماعِنا ونحنُ نَقرَؤُهُ أيضًا. في ذلكَ الوقتِ الذي كانَ الإمام يُناجي اللهَ تعالى، لم يكُنْ يَبحَثُ عن تَزيينِ للعِبارةِ، كانَ يُعَبِّرُ عن حالِهِ في ذلكَ الوقتِ. وبَعدَ ذلكَ، ببَرَكةِ وُجودِهِم، وصَلَتْ هذهِ الأمورُ إلينا ونحنُ نَقرَؤُها أيضًا. فالإمامُ السَّجّادُ عليهِ السلامُ لم يأتِ ليُعلِنَ دُعاءَ أبي حَمزةَ للجَميعِ في وَسائِلِ الإعلامِ مِثلَنا، كلُّ كَلِمةٍ نقولُها يجِبُ أن تَنتَشِرَ في العالَمِ كلِّهِ غَدًا. هُم لم يكونوا هكذا! فالإمامُ السَّجّادُ عليهِ السلامُ كانَ يَقرَأُ دُعاءَ أبي حَمزةَ، وببَرَكةِ الأئمّةِ عليهمُ السلامُ وصَلَ دُعاءُ أبي حَمزةَ هذا إلينا، كتَبَهُ الأصحابُ ووصَلَ إلينا. أدعيةُ الإمامِ السَّجّادِ عليهِ السلامُ كُتِبَتْ، ووصَلَتْ إلينا الصَّحيفةُ السَّجّاديّةُ. الآنَ فلنَنظُرْ نحنُ إلى حالِهِم في ذلكَ الوقتِ الذي كانوا يَقرَؤونَ فيهِ ذلكَ الدُّعاءَ. هذا أميرُ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ يقولُ: «أَعْلَمْتُ أَهْلَها أَنّي أُحِبُّكَ». أنا كنتُ أُحِبُّكَ. كانَ لأميرِ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ في ذلكَ الوقتِ تعَلُّقٌ باللهِ تعالى بحيثُ كانَ يَرى أنَّ الشَّيءَ الوَحيدَ الذي يَربِطُهُ باللهِ هوَ المَحَبَّةُ التي بينَهُ وبينَ اللهِ تعالى. هذهِ المَحَبَّةُ هي مِنَ اللهِ تعالى في قَلبِهِ، وفقط هذا ولا شيء آخرُ، وهو لا يَعتَمِدُ على بُكائِهِ، ولا على صَلاتِهِ، ولا على مُناجاتِهِ في مَسجِدِ الكوفةِ، بل يقول فقط: يا اللهُ، هذا لا يُمكِنُكَ إنكارُهُ، أنّني كنتُ أُحِبُّكَ. ولكنَّنا هُنا نقولُ شيئًا آخرَ. أميرُ المُؤمِنينَ عليهِ السلامُ صادِقٌ في مَحَبَّتِهِ أيضًا. نحنُ نقولُ: "نقولُ إنَّنا نُحِبُّكَ". إذا قالَ اللهُ تعالى: "لا! أنت تقول مَجازًا". نقولُ: "يا اللهُ، صَحيحٌ، ربَّما تكونُ مَحَبَّتُنا هذهِ مَجازيّةً". إذا كانتِ المَحَبَّةُ مَحَبَّةً صادِقةً، فلها أمورٌ وآثارٌ ـ وإنْ شاءَ اللهُ أعدُكم ببيانها في المُستَقبَلِ وهو في ذمّتي للرُّفَقاءِ ـ ولكن هذهِ المَحَبَّةِ المَجازيّةِ، هل يُمكِنُكَ إنكارُها أيضًا أم لا؟ هُم بكَرَمِهِم يَقبَلونَ هذهِ المَحَبَّةَ وإنْ كانت مَجازيّةً، ولكن بشرط أن تَكُون موجودةً، لا ألّا تكونَ موجودةً، فهذهِ المَحَبَّةُ المَجازيّةُ يَقبَلونَها هُم أيضًا.

    1.   بحار الأنوار،ط إحياء التراث، ج : ٩۱  ص ٩۸

لماذا صحّ أن نفخر بحبّنا لله دون أعمالنا؟ - نقدٌ لانحرافاتٍ معاصرة في فهمِ الدّينِ والوحدةِ

17
  • نأمُلُ ببَرَكةِ أنفاسِ الأعاظمِ المُقَدَّسةِ في حَضرَةِ اللهِ تعالى وألطافِ وعِناياتِ صاحِبِ مَقامِ الوَلايةِ، أن يُحَوِّلَ اللهُ تعالى مَجازاتِنا إلى حَقيقةٍ، ويَجعَلَ أفكارَنا وأفهامَنا أفكارًا صَحيحةً وتَفكيرًا صَحيحًا، ويَجعَلَنا مُتَّبِعينَ حَقيقيّينَ ومُستَنّينَ بسيرةِ وسُنَّةِ أولياءِ الدّينِ.

  •  

  • اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ