المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتقوى ومراتبها
التاريخ 1427/04/28
التوضيح
كيف تتجلّى عقلائيّة الدين في الإنفاق وفي تنظيم الحياة؟ وهل جعل الأعاظم كامل وقتهم للنّاس؟
كيف نوفّق بين الزهد وحسن التدبير والإتقان؟
هل يشترط الوصول إلى الكمال في الدنيا؟
هل يكفي التردّد على الأستاذ وكثرة السؤال والرسائل للوصول إلى الكمال؟
هل السلوك بإلقاء المسؤوليّة على الأستاذ وترك العمل؟
هل السلوك بتتبّع عيوب الآخرين أم معالجة ضعف النفس؟
كيف غيّر عهد مالك الأشتر حياة الشيخ محمّد حسين الأصفهاني؟
ما قصّة سفرة رئيس الجمهوريّة الورقيّة؟
تعالج هذه المحاضرة بعض النقاط الضروريّة في السير والسلوك في بيان فقرة هذا أوّل درجة التقى وآية تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا.
هو العليم
ستّ وصايا للطريق إلى الله
عنوان البصري ۱٣۰
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
لماذا قال الإمام الصادق عليه السلام بعد وصاياه هذا أوّل درجة التقى؟
بعد الأوامر التي أمر بها الإمام الصادق عليه السلام عنوان حول كيفيّة الطريق، والأمور اللازمة للوصول إلى الهدف وبلوغ الحقيقة والواقع، والتجاوز عن الكثرات وتعلّق النفس بالتعيّنات وعالم المادة والشهوات في جميع مراتبها ـ وبصورةٍ عامة تطلق الشهوات على كلّ ما يسبّب تلذّذ النفس في هذه الدنيا بحيث يكون مانعًا من وصول الإنسان إلى الحقيقة والواقع وكلّ ما يسبّب ميل النفس إلى ما يصرف الإنسان عن الوصول إلى الحقائق والوصول إلى عالم المعرفة وعالم التوحيد ورفض جميع الأنانيّات، والتخطّي عن الموانع ـ بعد هذه الأوامر أنهى الإمام الكلام ثمّ قال: فهذا أوّل درجة التّقى.
أي لا تتصوّر أنّه ينتهي الأمر بما بيّنته إلى الآن، كلاّ فهذا أول مرتبةٍ من الحركة، ولا يزال هناك طريق طويل حتّى تصل إلى الغاية، والمسافة بعيدةٌ والمشكلات كثيرة والموانع وفيرة، وعلى الإنسان أن يتجاوز عن كلّ ما تزيّنه له النفس بأيّ مظهرٍ وصورة، وأن يتخطّى ذلك ولا يقع في شراك تلك المهالك، وذلك بهمّةٍ عالية وإرادةٍ متينة وعزمٍ راسخٍ.
ما هي معجزة الإمام الصادق عليه السلام؟
لقد بيّن الإمام الصادق ذلك للسلاّك والباحثين عن طريق الحق وسبيل المعرفة كبرنامجٍ عمليّ وأمر لا بدّ منه. وللإنصاف يجب أن يقال: لو لم يكن لذلك الإمام أيّ معجزة سوى هذا الحديث ـ عنوان البصري ـ لكفى في إثبات إمامته وهدايته.
ما معنى آية تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض...؟
والاستشهاد الذي يستشهد به الإمام هو بهذه الآية الشريفة:{ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}.۱
فمنزل الآخرة ودارها ومنزل الحقيقة والمعنى ـ والذي هو باطن الدنيا ـ والوصولُ إلى مقام رضوان الله وتحصيل رضاه الكامل في جميع مراتب الوجود، هو للذين يريدون أن يقضوا عمرهم في الأرض بعيدين عن الاستعلاء والتكبّر، فليست حياتهم في هذه الدنيا على أساس التكبّر والتفاخر على الآخرين، ليس وصولهم إلى موقعٍ ما لأجل المباهاة والافتخار على الآخرين، لا يستفيدون من الوصول إلى المواقع في كنز الذهب وتجميع الأموال وبالنتيجة حطام الدنيا، بل هدفهم من الحياة الدنيا مجرّد الوصول إلى عالم الآخرة.
الدنيا سلّم فهل يهمّك لونه وتاريخ صنعه؟
فمن يريد أن يصعد إلى السطح لينام هناك يحتاج للوصول إلى سلّمٍ فينظر هل هذا السلّم الخشبيّ فيه عيبٌ وكسورٌ؟ وهل مساميره محكمةٌ؟ وهل يدوم طويلاً في استعماله للصعود؟ هل يحمل ثقلاً؟ هل طوله وارتفاعه يكفيان؟ يدرس ذلك فإذا رآه سلّمًا مناسبًا يصعد به أمّا أنّ لونه ما هو؟ وهل صبغ أم لم يصبغ؟ ومن أيّ خشبٍ صُنع؟ وهل جيء بخشبه من الهند أم من أفريقيا أم من هنا؟ فإذا فكّر بذلك حرم من الوصول إلى السطح. فعلى الذين يريدون أن يتعاملوا مع الدنيا وفق أوامر أولياء الله وأئمة الدين أن ينظروا إليها كسلّمٍ، هذا السلّم المؤلّف من عشر درجات وخمسة عشر درجة يطويه الإنسان درجة درجة، والغاية هي الوصول إلى السطح فقط.
نعم لا بدّ أن يكون السلّم متينًا ويجب أن يدقّق في ذلك، ولا بدّ أن لا يكون أعوج مائلاً، ولا بدّ أن يكون آمنًا وأن يحصل الاطمئنان في الوصول به إلى السطح، هذه أمورٌ دقيقة. أمّا أنّه كيف لونه؟ وخشبه من أين؟ ومن الذي صنعه؟ وهل علينا أن نذهب وننظر أنّه متى صُنع؟ وأنّه هل حفر عليه تاريخ صنعه؟ فهذه كلّها زوائد تتلف الوقت وعلى الإنسان أن لا ينظر فيها.
تقول الآية الشريفة: إنّ دار الدنيا هي للعبور فقط وما لدينا في الروايات من أنّ الدنيا جسر، الدنيا قنطرة۱، دنياهم التي هي معبر لهم٢، الدنيا طريق٣، الدنيا ممرّ والآخرة مقرٌّ٤، فهذا كلّه حاكٍ عن هذه الفكرة.
سفرة رئيس الجمهوريّة الورقيّة
في أحد الأشرطة التي يتحدّث فيها المرحوم العلامة عن السلوك... لا أدري إن كان الرفقاء قد سمعوا ذلك، فقد ذكرت مرارًا للرفقاء أنّ الاستماع إلى هذه المحاضرات من أوجب الواجبات لمن يريد أن يطوي الطريق إلى الله ولم أكن أمازح والآن أكرّر ذلك، واعلموا أيضًا أنّي سمعت هذه الأمور عشرين مرّةً منه ولا زلت أسمعها، ولا خسارة في ذلك؛ لأن الإنسان إن سمع الكلام من أولياء الله يختلف الأمر عمّا لو سمعها منّي ومن أمثالي. فإن كان هناك شيءٌ فهو عندهم، وإن كنت أقول شيئًا فإنّما أقوله من هناك ولا أقول شيئًا من عندي ولست مظنّةً لهذه الأمور أيضًا.
هناك له قصّة حينما كان في المستشفى يعالج عينه، كنت أنا في خدمته فكان إذا حلّ وقت الظهر يقول: إئتنا بسفرتنا يا فلان، عندما كانوا يأتون بالطعام، وكانت السفرة عبارة عن ذلك المنديل الورقيّ الذي تأتي به الممرّضات، فكنّا نفتحه ونبسطه أمامه، هذه هي السفرة الملكيّة، فكان يقول ائتنا بسفرتنا الملكيّة لنأكل. ثمّ كان يقول: يا فلان حتّى رئيس جمهوريّة أميركا لا يملك هذه السفرة، كان يقول حقًّا وصدقًا أيضًا، فعندما كان يقول ذلك، كان من الواضح أنّه من أيّة نافذة ينظر إلى الحقائق، كان يقول: أين توجد هذه السعادة وهذه اللذة وراحة البال والاطمئنان والسكينة والهدوء؟!
الآن وقت الظهر في النهاية، فلا بدّ أن يدخل شيءٌ إلى هذه البطن لكي تشبع وإلا آلمت وأوجعت، فلتبسطوا الآن مائدة فيها من الصحون والملاعق الذهبيّة والماسية، فيا عزيزي أنت لا تأكل الماس والذهب، أنت تأكل الطعام الذي في داخل هذا الإناء مهما كان هذا الإناء، فيأتي الإنسان ويقضي وقته وعمره وكامل رأس ماله في أمورٍ لا أثر لها أبدًا في كماله وتكامله وصلاحه بدلاً من الأمور الأساسيّة والحياتيّة، فخواصّ ذلك الطعام الموجود في إناءٍ زجاجيّ متعارف وإناءٍ ألماسيّ لا تختلف ـ طبعًا لا بدّ أن يكون الإناء صحيًّا وجيّدًا ونظيفًا فهذا له أهميّته ـ وأنا أضمن لكم ذلك، لا تختلف أبدًا، إن لم تصدّقوا فاختبروا بأنفسكم، الآن تقولون: من أين نأتي بوعاءٍ من الماس؟ فاذهبوا واشتروا من هذه الأواني الثمينة ـ لا تشتروا، ولو اشتريتم فسيشكّ الإنسان في بعض الأمور ـ ثمّ ضعوا فيه مقدارًا من الأرزّ ومقدارًا آخر في هذه الأواني البلاستيكيّة وانظروا هل يختلف الطعم أم لا؟ إذا اختلف فتعالوا وقولوا لي: لقد أخطأت، إن كان الطعم أو الخواصّ ومقدار الفيتامينات والطاقة الموجودة فيه يختلف فتعالوا واعترضوا عليّ، أمّا إذا لم يختلف فاعلموا أنّ هناك مشكلةً في موضعٍ آخر واسعوا إلى حلّها.
هل شراء الأشياء الثمينة والمتقنة محرّم أم واجب؟
فالإنسان المنطقيّ والإنسان العاقل والإنسان الذي يبحث عن الطريق الصحيح والمتقَن ينبغي أن يتعامل مع تلك الأمور وذلك الطريق الذي يبيّن شؤونه الخاصّة بطريقةٍ عقلائيّة لا بالهوى والهوس والتخيّلات، إنّ شراء بعض الوسائل ولو الثمينة لأجل كونها متينةً وبقصد حسن العمل والدوام لا إشكال فيه أبدًا، ينبغي أن لا يكون للتوهّمات والتخيّلات أثرٌ في شراء هذه الأمور، لم أر إنسانًا دقيقًا ومنطقيًّا في رعاية هذه الأمور مثل المرحوم الوالد؛ لأنّه كان متخصّصًا في الهندسة، كان ذات يومٍ في المستشفى وكنت في أغلب هذه الأحيان معه، وكان هناك عددٌ من الأطباء على علاقة معه، فجاء عددٌ منهم ذات يومٍ لزيارته وكانوا يعترضون على بعض الأمور التي يحصل فيها تقصير وإهمال، وأنّه يمكن شراء جهازٍ أفضل من هذا، كان بعضهم يعترض والبعض الآخر يقول: لنشتر من هذا البلد. وبعضهم الآخر يقول: بل من ذاك أرخص.
وبعد أن طرحوا كلامهم هذا وذهبوا التفت إليّ وقال: لقد قيل منذ القدم: إنّ من يشتري الأشياء الرخيصة فهو إنسانٌ غنيّ لأنّها ستتلف فورًا ويشتري غيرها. قال: الإنسان العاقل يختار أفضل الطرق للوصول إلى هدفه، أرواح الناس ليست ألعوبة ليتعامل معها الإنسان هكذا، فهذا كلامٌ يتكلّم به العارف.
ما واجبات الدولة الإسلاميّة تجاه وسائل تأمين السلامة؟
لا بدّ أن تؤمّن الدولة الإسلاميّة أفضل الوسائل من أيّ مكانٍ في الدنيا لتأمين الصحة والسلامة والأمن للمجتمع ورفع مستواه العلمي، هذا هو الكلام المنطقي، هذا هو الكلام العقلائي. كان أحد الحاضرين هناك يقول: إنّ إحدى الدول شيوعيّة ورغم أنّها شيوعية تبذل سبعًا وثلاثين بالمائة من ميزانيّتها في الأمور الصحيّة، والأجهزة الموجودة فيها لا توجد حتّى في الدول المصنّعة لهذه الأجهزة، كان يقول: هذا هو الصواب، هذا الطريق هو الطريق الصحيح، أمّا أن يدخل الإنسان إلى الأوهام والخيالات ويبني أمره على أساسها فهذا شيءٌ، واختيار أفضل الطرق وأفضل الوسائل للتكامل والتطوّر الظاهري والباطني للناس هو أمرٌ آخر. ولكلٍّ مقامه.
الجمع بين الزهد والإتقان
فذلك الذي يقول في المستشفى: إنّ رئيس جمهورية أميركا لا يمتلك مثل هذا المنديل الورقي هو محقٌّ وكلامه صحيح. وما يقوله في المقابل من أنّه يجب شراء أغلى الأجهزة في الدنيا كلّها لأجل سلامة الناس وأغلى وسائل النقل لأجل الذهاب والإياب والتردّد من قبل الناس وأغلى الأجهزة لأجل تطوّر المجتمع وتكامله فهذا أيضًا صحيح، كلاهما صحيح، فهذا في مكانه وذاك في مكانه، كلاهما منطقيّ وكلاهما حقٌّ وكلاهما كلامٌ للعارف لماذا؟ لأنّ العارف كلامه مطابقٌ للواقع.
الآن أطرح عليكم سؤالاً، أنتم تريدون أن تشتروا سيارةً أفلا تسألون ما هي الضمانة التي تقدّمها الشركة في صناعتها؟ كيف يعمل محرّكها ألا تلتفتون إلى هذه الأمور؟ لماذا لأنّكم تريدون أن تُركبوا فيها عيالكم وتنتقلوا بهم من مدينةٍ إلى أخرى، ومن دولةٍ إلى أخرى، والطرق مختلفة، تريدون أن تسيروا في الشتاء وفي الصيف تصعدون إلى الجبال وتريدون أن تعبروا في المواضع الخطرة وفي المنحدرات، فإذا قالوا لكم: إنّ هذه السيّارة ليست آمنة فهل تدفعون في مقابلها ذلك المال؟ إن قمتم بذلك فهذا يستحقّ التأمّل. أمّا إن قال واحدكم: أنا أريد سيارةً أُركب فيها زوجتي وأطفالي وأصدقائي والناس، وأرواحهم محترمة ـ فأرواح الناس محترمة، وصحّة الناس محترمة ـ فإن حصل أن وجدتُها عندكم فبها، وإلا اشتريتها من الخارج، فالحقّ معك. فأنت لا تقول هنا: إن لم تكن السيّارة آمنة فلا إشكال. كلا ولو فعلت ذلك فأنت مخطئ. نعم قد يريد الإنسان أن يلجأ إلى تلك الأنواع لأجل التخيّلات والاعتبارات ولأجل زينة الدنيا، فهذا خطأ.
حكم شراء السيّارات من الدول غير الإسلاميّة
فإذا صنعت في هذا البلد الإسلامي سيّارةٌ آمنةٌ وفق نظر خبراء عالميّين فلماذا لا يشتريها الإنسان؟! لماذا يعطي ماله للدول الكافرة؟! لماذا يعطي ماله لمجموعةٍ من الناس لا يتورّعون عن فعل أيّ شيء؟! لا دين لديهم ولا وجدان وكلّ أهدافهم جمع المال والذخائر وثروات الدنيا و الشعوب الفقيرة. فلماذا يعطيهم الإنسان مالاً؟! حتّى إنّ في ذلك إشكالاً شرعيًّا، أما لو دار الأمر بين أن يأتي بوسيلةٍ غير آمنة أو يشتري من الخارج، فيجب قطعًا أن يشتري من الخارج ولا شكّ في ذلك.
هل ينسجم التظاهر بالتقشّف مع المنطق والعقلائيّة في الإسلام؟
تدور جميع الأمور في الإسلام وفي السلوك وفي طريق الله على أساس الحقيقة والمنطق، كافّة الشؤون والمسائل التي ترتبط بشخصيّة الإنسان وأعماله يجب أن تكون على أساس المنطق ويجب أن تكون العقلائيّة حاكمةً على جميع أمور الإنسان، لا سبيل إلى الشعارات في منطق المعرفة والحقيقة ولا إلى الدعاية، ولا مجال للاهتمام بالأمور البسيطة والظاهريّة والتظاهر أمام الناس في منطق المعرفة والتوحيد وطريق الله والعقلانيّة والمنطق. لقد أعطى الله الإنسان عقلاً وطريقًا للاستفادة من العقل، أعطاه أعضاء وجوارح لتجمع المعلومات الجزئيّة وتوصلها إلى العقل فيقدّم العقل للإنسان الطريق الدقيق والصحيح، هذا هو الطريق العقلائيّ، حينها تصبح الدنيا معبرًا للإنسان لا دار قرار، حينها تكون كيفيّة عمله في هذه الدنيا على أساس العبور فتكون منطقيّة، فليست المسألة بيد الإنسان ليعيش كيف يشاء.
قصّة الأنصاري الذي أعتق عبيده قبل موته
توفّي أحد أصحاب رسول الله، فلمّا جاء النبي للتعزية إلى منزله قال: ماذا ترك هذا الرجل لعياله؟ قالوا لم يترك شيئًا كان له ثلاثة غلمان باعهم قبل موته وتصدّق بثمنهم وترك بضعة أولاد وما ترك لهم شيئًا. فقال النبي ألم يكن له عقل ليرى أنّ وُلده يحتاجون إلى مالٍ من بعده؟ من الذي أجازه ببيع غلمانه والتصدّق بثمنهم.۱
ما هو الإنفاق المنطقيّ وهل تصحّ الصدقة بالإحراج؟
ليست المسألة هكذا بحيث يُلقي الإنسان مسؤوليّة كلّ شيءٍ على الله ويتساهل في الأمور التي أوكل الله مسؤوليّتها إليه، فلا بدّ أن يكون كلّ شيءٍ في مكانه المناسب، فالإنفاق لا بدّ أن يكون في مكانه وبمقدارٍ أيضًا، فإن كان يجب أن تعطي ألف تومانٍ لإنسانٍ ما فأعطيته ألفًا وخمسمائة تومان فأنت مخطئ، والوقوع في إحراج المجاملات خطأ، فإذا أراد الإنسان أن ينفق ثمّ أحرج بالمجاملة وأنفق ضعفين أو ثلاثة أضعاف فإنّهم لا يكتبون له ضعفين، بل ذلك المقدار الأوّل، يقولون له: كان بإمكانك أن لا تعطي فهل دفعتَ لأجل الله أم لأجل شخصيّتك أنت؟ إن كان لأجل شخصيّتك فقد أخذت أجرك هناك. وإن كان لأجل الله فالله لا يجامل ويحرَج، فمِن جيب مَن أنفقتَ؟ لقد كان نصيبه ألف تومانٍ وأنت أعطيته خمسة آلاف فذهبت أربعة آلاف من جيبك أنت ولا نعطيك قرانًا واحدًا، نعطيك ألف تومان، ثواب ألف تومان لا أكثر.
ما أذكره لكم أمورٌ أساسيّة فعلى السالك أن يقوم بعمله بشكلٍ صحيح، فإن خُدع هو فلا يمكنه أن يخدع الله؛ لأنّ الله لا يُخدَع. ولو وقع في الإحراج وأعطى الجار باسم الله فسيقول الله له: كلاّ، ذلك المقدار الذي كان لك فيه قصد القربة، وكان لك فيه إخلاص فإنّي آخذه والباقي أنت بنفسك قمت به.
جاءني أحدهم فقال: اجتمع الجيران يريدون أن يبنوا حسينيّةً وقالوا لي: ادفع عشرين مليونًا.
فقلت: إدفع.
قال: هل يمكن أن أحتسبه من ذلك المبلغ [الشرعيّ]؟
قلت: لا يمكن أن تحتسب منه قرانًا واحدًا.
قال: إنّهم جيران.
فقلت: ادفع من جيبك المبارك، ادفع مائتي مليون أيضًا ومائتي مليار، لقد أحرجت في المجاملة مع الجيران وتريد أن تحتسبه من ذلك المورد الذي جعله الله تكليفًا شرعيًّا عليك، وإن أعطيت منه فليس مقبولاً يعني لا تثاب بمقدار قرانٍ واحد، هذا فضلاً عن أنّك يجب أن تدفع هذا المبلغ مرّةً أخرى، فذلك المبلغ الذي دفعته للحسينيّة لا يحتسب لك؛ لأنّك دفعته إحراجًا ومجاملة.
الوصول إلى الهدف هو بمقدار الالتزام بتنظيم الحياة
إذا كانت طريقة الحياة منظّمةً بنحوٍ يُوصل الإنسان إلى ذلك الهدف فإنّ هذه الطريقة توصله إلى المطلوب، وإذا التزم الإنسان بهذه الطريقة بنسبة ثلاثين بالمائة وصل إلى الغاية بنسبة ثلاثين بالمائة وخسر سبعين، وإذا التزم بنسبة خمسين بالمائة نال خمسين بالمائة، وإذا التزم بنسبة سبعة وخمسين بالمائة وصل بنسبة سبعة وخمسين بالمائة ولا يُعطى ثمانية وخمسين، فالمَلاك الذي خلقه الله لا يصوّر فحسب، ولا يسجّل ما قلناه فحسب، بل لو ورد خطورٌ في ذهننا بمقدار رأس إبرة فإنّهم يسجّلونه أيضًا ويضعونه في أيدينا يوم القيامة. لا يغادر صغيرة ولا كبيرة. وما يقال من أنّ هناك من يستخرج الشعرة من العجين، فهم الملائكة. ففي هذه الدنيا يُخدع الكثيرون، نُخدع بكثير من الظواهر، بكثير من الخصوصيّات المزيّنة والمرتّبة والجذّابة، فيؤخذ منّا القلب والدين، ولكنّ الملائكة ليسوا كذلك. هؤلاء الذين سلّطهم الله علينا يأتون ويستخرجون الشعرة من العجين في ذلك الوقت وتلك الحالة. فعندما أردتَ أن تشتري هذا الشيء وتنفق هذه النفقة وتقوم بهذه الخدمة خطرت في ذهنك هذه الفكرة، جاءت هذه الفكرة فقضت على سبعين بالمائة من المسألة فتفضّل هذه ثلاثون بالمائة، لذلك هو يوم التغابن، {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن}۱، ففي يومٍ من الأيام سيجمع الله الجميع وذلك اليوم هو يوم الشعور بالغبن والتغابن هو الشعور بالغبن والخسارة.
وأنا بنفسي مدّة حياتي مع المرحوم الوالد رضوان الله عليه لديّ الكثير من الحكايات حول هذا الأمر، لديّ الكثير من الموارد، موارد كان يُعمل فيها منتهى الدقّة في إخفاء الأمر، وكما يقال: لم تكن تعلم يمينه بما تصنع شماله، فقد كان هذا الأمر متحقّقًا في علاقته مع الناس بحيث كان يوقعنا أحيانًا في الحيرة، وكنت في بعض الموارد أنظر فأقول: عجبًا لماذا تكلّم بهذا الكلام وقام بهذا الأمر؟! كان يأمرني ببعض الأمور ويرسلني في بعض المهامّ التي كنت أتثاقل في المضيّ فيها، وكان الأمر مشكلاً فهل أقوم بما أمر به أم لا؟ ثمّ كنت أرى أنّه على حقّ؛ فهناك ينبغي أن يُعمل هكذا، وهنا ينبغي أن يُعمل بنحوٍ آخر. فكنت ألتفت لاحقًا أنّ هذا المورد ينبغي أن يُتعامل معه بهذه الطريقة، كنت ألتفت إلى ذلك لاحقًا.
فحيث إنّ هذا الرجل الإلهيّ له اطلاع على النفوس والبواطن فلا بدّ أن يكون الأمر بهذا الشكل لتربية هذا الإنسان ولتربيتي أنا، ينبغي أن يكون الأمر علنًا وفي حضور الآخرين، أحيانًا كان يقول اذهب وساعد فلانًا هذه المساعدة، ثمّ كان يقول لي: الآن إذ تريد أن تذهب إليه كيف تريد أن تطرح الأمر بما لا يؤذيه ولا يؤثّر على وقاره وحيائه وعزّة إيمانه ونفسه. فعندما كنت آتي ببعض العبارات كان يقول: هذا جيّد، وهذا ليس بجيد، وهذا أفضل. ثمّ كان يوضّح بعد ذلك أن افتح معه الموضوع بهذا التعبير وهذه المقدّمة لكي تتمكّن من طرح مسألة كهذه، فالمسألة مهمّة بهذا المستوى.
فهذه الدنيا هي لأجل التوجّه نحو المعرفة وعالم التوحيد، وقد فتنت الجميع، فمالُها فتن الناس ومكانتها أيضًا، وأعمالها وعلاقاتها غرّت الجميع أيضًا، كلّ ذلك كثراتٌ، الأدوار المختلفة التي يقوم بها الناس في علاقتهم مع هذه الدنيا قد غرّتهم، لقد غرّت هذه الدنيا الجميع بصورة الدور الإلهيّ ودور الدين ودور رجال الدين ودور الهداية أيضًا، ولكنّ حقيقة الأمر هي أنّ من ينبغي أن لا يخدع فإنّ الله يبيّن له الطريق، ولا يعني ذلك أنّه لا يبيّن للآخرين كلا، بل يبيّن لهم أيضًا، ولو لم يبيّن لهم لما كان بينهم وبين هذا العمود من فرق، ولكنّهم هم لا يعملون ولا يصغون.
قصّة الشيخ محمّد حسين المسجد شاهي الأصفهاني مع عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر
لقد كان الشيخ محمد حسين المسجد شاهي الأصفهانيّ رحمه الله من الأعاظم ومن المجتهدين المسلّم بهم والحكماء، وكان من تلامذة الميرزا حسن الشيرازي رحمه الله والميرزا حبيب الله الرشتي رحمه الله فقد استفاد من أعاظم كهؤلاء، جاء إلى أصفهان ونظرًا إلى تضلّعه العلمي وقدرته وسعة اطّلاعه صار محلّ اهتمام الناس، ولم تمض مدّةٌ حتى صار مسجده أكثر المساجد امتلاءً في أصفهان، فكانوا يأتون للمشاركة في صلاة الجماعة معه من أطراف أصفهان أيضًا، تمضي على ذلك سنواتٌ فيرى هذا العالم الزاهد المتخلّص من الهوى أنّ حياته تنقضي بهذه الأعمال واللقاءات، وصار غافلاً عن نفسه، ولم يعد يهتمّ إلا بحلول وقت صلاة الظهر حيث ينتظر الكم الهائل من الناس في المسجد والشوارع المحيطة، ومتى يحلّ وقت صلاة المغرب حيث تنتظر الجموع، ومن الصباح حتى الظهر أيضًا هذا يأتي وذاك يذهب، هذا يسأل وذاك يأخذ موعدًا للّقاء ويأتي الناس لمراجعته. لم يعد لديه قيلولة بعد الظهر، لم يعد له سكينةٌ في يومه، وعندما يرجع من المسجد مساءً يرى أنّ الناس يأتون. وهو يقوم بذلك لأجل الله ويتابع شؤون الناس.
جاء وبحث في هذا الأمر مع نفسه أنّي أنا الآن أقوم بهذا، وهذا صحيح وهو لأجل الناس والصلاة التي أصلّيها والكلام الذي أتكلّم به، والنشاط الذي أقوم به كلّها شعائر ولكن أين أنا في هذه الأحداث؟ كيف هي حالتي وما هي النتيجة التي حصلت عليها خلال هذه السنوات المعدودة بعد عودتي من النجف وسامراء؟ وما هو التغيّر الذي حصل لديّ؟ نظر فرأى أنّه لم يتغيّر أبدًا، نعم أوقاته تنقضي بهذه الأمور ولكن إذا رجع إلى نفسه رأى أنّ حضور قلبه كان أكثر أوائل رجوعه من سامراء إلى أصفهان ـ هل تلتفتون ماذا أريد أن أقول ـ عندما جئت كان لديّ مجال للصلاة وحضور القلب والمراقبة أكثر من الآن، كلّ همي الآن هو ماذا أفعل بهذه الجموع المحتشدة إذا حلّ وقت صلاة الظهر؟ فلأذهب إلى المسجد إذن. وبعد الظهر حيث أريد أن أنام، كلّ همي أنّ جميع هؤلاء الناس ينتظرون عند الغروب فعليّ أن أذهب، وفي الليل يشغل فكري أنّه ماذا ستكون غدًا المسائل والمشاكل والأعمال والأنشطة التي تنتظرني لكي أعالجها؟ لقد صار كلّ شيءٍ لأجل الناس في النهاية، لقد صار كلّ شيءٍ وكلّ أعمالي للنّاس، فماذا عنّي أنا؟
أمسك بعهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر وطالعه، فرأى أنّ الإمام يقول هناك: يا مالك إنّي إذ أرسلك إلى مصر فلا تظنّ أني أجعلك بكامل وجودك لأجل الناس، وجودك أنت محترم لنفسك، ينبغي أن تجعل مقدارًا منه وفق التكليف الإلهيّ لمعالجة شؤون الناس لا أكثر، وينبغي أن تجعل مقدارًا من ذلك الوقت لنفسك، لا لزوجتك وأطفالك، فهؤلاء لهم وقت آخر، وقت لنفسك أنت ووقتٌ للناس وللزوجة والعيال، ينبغي ان تجعل جزءًا من وقتك لنفسك وخلوتك بنفسك أن تجلس وتفكّر بنفسك، إن كنت تميل لإقامة الصلاة تصلّي، وإن كانت تميل لقراءة القرآن تقرأ مقدارًا منه، وإن كنت ترغب في الذكر والورد تؤدّي ذكرك ووردك، وإن كنت ترغب بالتفكّر تجلس وتفكّر بنفسك وما تؤول إليه واعتباريّة الدنيا وحقّانيّة الآخرة. فهل حصل أن جلسنا في الليل والنهار ربع ساعة وفكّرنا بهذه المسائل؟ نمضي إلى الغرفة نغلق الباب ونطفئ المصباح أيضًا، ونجلس وحدنا نفكّر في أنفسنا، نفكّر بالعمل الذي قمنا به من الصباح حتّى المساء، أيّ مقدارٍ كان لا بدّ منه وأيّ مقدارٍ كان زائدًا؟ كم نركض عبثًا؟ هل حصل أن قمنا بذلك؟
ثمّ يقول الإمام لا تظنّ أنّ عليك أن تنتظر حتّى تنجز جميع أعمالك وتكون متعبًا ومرهقًا ويغمى عليك ويلقونك في بيتك حتّى يكون هذا الوقت لنفسك كلاّ يا عزيزي ينبغي أن تجعل أفضل الأوقات من النشاط والانبساط وأفضل الأحوال والتي يكون فيها ذهنك قادرًا على العمل خير قيام، لا أن تكون قد بذلت كامل طاقتك وصرفتها من أجل الناس ثمّ بعد أن انتهت تريد أن تفكّر بنفسك، كلاّ بل عندما يكون جسدك في تمام الصحّة حينها تجعل الوقت لنفسك ولصلاتك ولقرآنك.
عندما جلس وقرأ هذا العهد قال: عجيب! لقد كنت أسير في الاتجاه الخاطئ إذن، وشيئًا فشيئًا تغيّرت أحواله، تناقص ذهابه إلى مسجده، كلّ مرتين جعلهما مرّةً، حيث جاء بغيره مكانه فقال الناس: وإسلاماه! لقد ذهب الإسلام وذهب الدين! قال: فليذهب ما يذهب، لو كان الإسلام يذهب بسبب عدم تردّدي أنا كان ينبغي أن يذهب قبل سنواتٍ إذن!
ـ هؤلاء الناس ينتظرون بشوق.
ـ ينتظرون؟ فلينتظروا! هل شوقهم لي أكثر من شوقهم إلى النبيّ؟ عندما كانوا يذهبون ويقفون في الصفّ الأوّل خلفه، كانوا يحجزون الأماكن خلف النبيّ، ويحجزون الصفّ الثاني عندما كانوا يجدون أنّ الصف الأوّل ممتلئ، كانوا يأتون قبل ساعةٍ وساعتين إلى مسجد المدينة يجلسون كي يصلّوا خلف النبيّ مباشرةً، هكذا كانوا يتسابقون للتبرّك بماء وضوء النبيّ ويمسحون به وجوههم ورؤوسهم، فهل أنا أرفع شأنًا أم النبيّ؟ وهل شوقهم إليّ أكثر من شوقهم إلى النبيّ؟!
جاء امتحان صغير وتوفّي النبيّ، فلم تمض بضع ساعاتٍ حتّى مضوا إلى سقيفة بني ساعدة، من؟ أصحاب الصفّ الأول هؤلاء، أبو بكر وأمثال عبد الرحمن وسائر الذين كانوا يتسابقون إلى ماء وضوء النبيّ وكان النبيّ يضحك لحالهم. كان يقول انتظروا حتّى أضع رأسي على الأرض، حينها يُعلم من هو الثابت ومن هو الذي نظر إلى ظاهري فقط ومن هو الذي وصل إلى باطني؟ ومن هو الذي نظر إليّ بمعرفة ومن هو الذي اكتفى بشكلي وظاهري؟ اصبروا لن يتأخّر الأمر، سأتوسّد الأرض وحينها أُظهر كلّ إنسانٍ على حقيقته. فماذا حصل؟ لم يبق حول أمير المؤمنين إلا ثلاثة أو أربعة لا أكثر والجميع قد مضوا، جميعهم مضوا.
ما يقال من أنّ تفكّر ساعةٍ خير من عبادة سبعين سنة۱ يعني أنّ المهمّ هو التفكير. فكيف غيّر التفكير كلّ حياته ووضعه ونقله من حالٍ إلى حال؟! قال ماذا فعلت بهذه السنوات المعدودة ومهما نظر في نفسه رأى أنّ حاله السابق وحضور قلبه كان أفضل، عندما كان يقول: "الله أكبر" لم يكن يفكّر كيف سيذهب غدًا إلى صلاة الجماعة، لم يكن يفكّر متى سيفتح باب المنزل غدًا، لم يكن يفكّر متى سيعدّ الشاي ليستضيف القادمين كلاّ، عندما كان يقول: "الله أكبر" كان يقولها وحيدًا، ولم يكن عنده أحد، لم يكن هناك أوهام، لم يكن يملأ قلبه وضميره موقع الأمر والنهي، لقد جلس وفكّر وأزاح كلّ ذلك جانبًا دفعةً واحدة، وقال: إن كان لا بدّ أن أزيح فقد أزحت، قال: يا عليّ. وداس على كلّ الدنيا والموقع والمجلس، رأى أنّه يختلف عن بحر العلوم.
فالسيد بحر العلوم أيضًا كانت له تلك المكانة من الأمر والنهي، ولكن متى؟ عندما وصل إلى الكمال، والأمر يختلف كثيرًا، فلماذا كان المرحوم العلامة يؤكّد كثيرًا على أنّه إذا شارك الإنسان في أمور الدنيا فإنّه سيهلك حتمًا ما لم يكن قد وصل إلى الكمال أو تكون يده في يد إنسانٍ كامل، لماذا؟ لأجل ذلك. إن كان إنسانًا كاملاً يمكنه أن يحدّد وطبعًا سنبيّن هذا الأمر في الجلسات اللاحقة، أو تكون يده في يد إنسانٍ كامل فيقول له: قم بهذا العمل أو لا تقم به. اذهب إلى هذا المكان وتوقّف هنا، يقول: لقد سرت إلى هذا الموضع وأنشأت الدروس وبذلت الجهود وأسّست الجلسات فهل تقول لي أن أترك هذا؟
ـ كلاّ، تابع إن لم ترد تابع.
هو يقول: توقّف هنا وتابع هنا، أوكل في هذا الأمر وقم بنفسك بهذا، لماذا؟ لأنّ لديه إشرافًا. أمّا الآخرون فلا يقولون ذلك بل يقولون: على الإنسان أن يعمل إلى أقصى حدّ...
جاء رجل إلى المرحوم العلامة وكان طبيبًا، وكانوا قد قالوا له إنّ عليك أن تعمل لأجل الناس وتترك نومك وحياتك لأجل الناس حتّى تزهق روحك، فهكذا كانوا قد لقّنوه. وقال المرحوم العلامة: لو أنّ هذا الإنسان وصل إليّ بعد شهرٍ لكان قد جنّ أو مات، هذا هو كلام أمير المؤمنين، فما معنى أن تعمل دائمًا؟ عليك أن تجعل لنفسك وقتًا، عليك أن تجعل وقتًا لدراسة وضعك وحالك، إذا أراد الإنسان أن يخوض في هذه الأمور فإنّها لا تنتهي، من الذي يضمن أن أتمكّن من حلّ جميع المسائل والمشكلات، فهذه الأمور لا نهاية لها، فإذن من الأفضل أن يعرف الإنسان قيمة نفسه وقدرتها ومطاوعتها واستطاعتها وطاقتها ثمّ يعمل على أساسها.
لقد تنحّى ذلك العالم جانبًا وشيئًا فشيئًا غاص في نفسه وخلوته، أوكل أمور المسجد، جاء غيره وأوكل أمور الناس شيئًا فشيئًا إليه، فهؤلاء الناس يمكنهم أيضًا بالرجوع إلى الآخرين أن يحلّوا أمورهم، وليست المسألة معقّدة إلى حدٍّ تكون قائمةً بي، فقبل أن آتي ماذا كانوا يصنعون؟ فليذهبوا الآن أيضًا ويقوموا بذلك. لم تكن السماء قد وقعت على الأرض قبل أن آتي، نحن نظنّ أنّ السماء ستقع على الأرض إذا ما تنحيّنا، كلا يا عزيزي لو تنحينا فإنّ السماء لن تتنحّى من مكانها ميلميترًا واحدًا. جميع هذه الكواكب السيّارة وغيرها ستبقى على حالها دون أن تتغيّر عن مدارها ميليمترًا إلى هنا أو إلى هناك، نحن نهبط بالسماء على الأرض في خيالنا ونلصق الأرض بالسماء، لو لم نكن نحن، لو لم نتصدّ نحن ...! نحن الذين نقوم بهذا، كلّ ذلك هو في عالم الخيال، كلّ ذلك هو في عالم الوهم.
قلّل علاقته بالناس، غاص في نفسه، اطّلع على كلمات الأعاظم وكلمات أولياء الله وبرامجهم السلوكيّة والله يعين أيضًا ويوضّح الطريق. فالشيخ محمد حسين الأصفهاني رحمه الله لم يكن له أستاذٌ ولكنّ الله كان يبيّن له الطريق، لماذا؟ لأنّه أبعد نفسه عن الكثرات، فرأى المساعدة وبعد مدّةٍ صارت له حالات عجيبة، وقد بيّن المرحوم العلامة ذلك مرّتين أو ثلاث وهذا الكلام الذي أقوله أنقله من كتابه.۱
له تفسيرٌ لسورة الحمد وجزءٍ من سورة البقرة، عندما يطالع الإنسان هذا التفسير يرى أنّ هذا القلم حيّ، له روح، له حياة، وفي رحلةٍ له مع أخيه سماحة الشيخ نور الله الأصفهاني والذي كان من الثوريّين، ذهبا معًا إلى العتبات المقدّسة، يقول أخوه لم أسمع منه طيلة هذه المدّة سوى بضع جملٍ. فانظروا من أيّ حالٍ إلى أيّ حالٍ انتقل! وتُنقَل عنه حالات منها ما ينقله عنه أحد خدّام أمير المؤمنين عليه السلام حيث كان يقول: كنت آتي أحيانًا لأفتح باب الحرم فأسمع صوت حوارٍ، أفتح القفل فأجد الشيخ محمّد حسين جالسًا قرب الضريح، فهذا الخادم نفسه كان ينقل أنّه كان يسمع حوارًا بين اثنين مرّاتٍ عديدة يصدر من داخل الحرم والحال أنّ أبواب الحرم مقفلة.
وفي أثناء تفسيره لآية: ومما رزقناهم ينفقون٢ يقول: على الإنسان أن يجعل قسمًا من وقته لنفسه، أي تلك النتيجة التي حصل عليها يجب أن يقدّمها للناس، يجب أن يجعل قسمًا من وقته لنفسه، وكان يوصي أهل العلم إلى أيّ مقدارٍ عليهم أن يدرسوا، وكم من الوقت يجعلون للتبليغ وإرشاد الناس، وكم من الوقت طوال الليل والنهار يجعلونه لأمورهم الشخصيّة، فالزوجة والأولاد والرفيق والدرس والمطالعة لها مكانها، ولكن كم يجعل من الوقت لنفسه؟ وهذا الأمر أيضًا يرتبط بسائر الناس، ولا يختصّ بأهل العلم، كيف يجب أن يهتمّ الإنسان بهذه الأمور؟ يقول هنا يجب أن تصلّي بحيث إذا قلت: الله أكبر لا تخطر في ذهنك الأعمال والعلاقات التي لك أثناء النهار، يجب أن يكون لك هدوءٌ وحضور قلب، أفهل نصلّي نحن هكذا؟
نصل من الشارع نتوضأ ونجعل الهاتف النقال قرب السجّادة وننظر إلى كلّ من يتّصل، ثمّ وبمجرّد أن نقول: السلام عليكم ورحمة الله نضغط عليه لنرى من هم الذين اتّصلوا. فهذا أيضًا نوعٌ من أنواع الصلاة لا تساوي شيئًا فهذه صلاةٌ أيضًا، فهل يكون الهاتف مفتوحًا عندما نمضي إلى أمورٍ أخرى؟ أم أنّه فقط عندما نتوجّه إلى الله ونصلّي لا يوجد أسوأ حظًّا من الله بحيث إذا أردنا أن نتعامل معه نتعامل هكذا، سنةٌ، سنتان، عشر سنوات، عشرون سنة، مئة سنة، ألف سنة لا يتحرّك سنتيمترًا واحدًا. هؤلاء الذين قالوا لنا هذه الأمور بيّنوا لنا الحقائق ولم يمازحونا، طووا الطريق فبيّنوه لنا، إذا أراد الإنسان أن يقصّر في طريقه فإنّ نصيبه سينقص، إذا أراد أن يقصّر نقص نصيبه.
لقد بيّن الأعاظم الطريق بأضعاف ما ينبغي أن يبيّن ولم يبق إلا العمل
ذكرت للرفقاء في الجلسة السابقة أنّ الأعاظم قالوا: لقد قلنا ما يجب علينا في هداية الناس وانتهت وظيفتنا وفي أمان الله نحن ذاهبون، لا تتخيّلوا أنّهم قالوا قليلاً، لقد تحدّث المرحوم الوالد مع الناس اثنتين وعشرين سنة فقط في طهران، فاثنتان وعشرون سنة ليست قليلةً، وقضى سنواتٍ في هداية هؤلاء الناس في مشهد وألّف الكتب وبيّنها، فإن كانت المسألة تحلّ بكثرة الكلام وبكثرة العلاقات فإذن ينبغي أن لا تبقى أيّة مشكلة، فإذن من أين جاءت هذه المشكلات؟ ماذا حصل حتى ظهرت هذه الأمور بعد وفاته؟ لماذا؟ ألم يسمع الناس كلامه؟ لقد سمع الجميع ولكنّهم لم يعملوا ولم يصغوا، جاء كلّ واحدٍ وفسّر الأمر وأوّله على ما يريد وألقاه إلى الآخرين على أنّه هكذا.
كان يقول في بعض كلماته: لقد بيّنت أضعاف ما ينبغي أن أبيّنه لهداية الناس. فائتوني بمشكلةٍ في حياتكم لم يأت بحلّها في كتبه، في العلاقة مع الزوجة والأولاد وكيفيّة معاشرتهم، في العلاقة مع الرفيق والجار، كيفيّة المعاملة والتجارة،كيفيّة العمل، كيفيّة الخلوص، علاقة الإنسان بالله، اعتباريّة الدنيا، اقرأوا حول اعتبارية الدنيا هذه كتاب معرفة المعاد لتروا ماذا ذكر هناك، تحدّث عن الحقائق والوقائع، الأمور الواقعيّة والأمور الاعتباريّة، ماذا يأخذ الإنسان وماذا يترك، وأنا أسأل الرفقاء واقعًا: أخبروني عن مشكلة تحدث في حياتنا ولم يعالجها. ولكن هل نحن عملنا بجميع كلامه؟! هل نطبّق أوامره واحدًا واحدًا وما يفيدنا في طريق تكاملنا وهدايتنا أم أنّنا نجعل جميع المشكلات من هذا ومن ذاك؟ هل حصل أن تركنا الاعتراض على الآخرين وصمتنا أربعين يومًا وخطْنا أفواهنا ولم نتعرّض إلا لأنفسنا؟ هل حصل بدلاً من الحديث عن عمل هذا وذاك، وهذا إلى أين ذهب اليوم؟ وهذا ماذا صنع؟ ومع من تكلّم وبمن اتّصل هاتفيًا، أن نفكّر في أنفسنا بدلاً من هذه الكلمات التي لا تعادل شيئًا، وأن نفكّر بمن نتّصل؟ وأيّ وقت نجعل للهاتف؟ وأيّ وقتٍ للعلاقات؟ ومع من نتعاطى؟ ومع من لا نتعاطى؟ وكيف نعمل؟
ألم يبيّن هو هذه الأمور؟! ألم أبيّن بنفسي هذه الأمور؟! هل حصل إلى الآن بدلاً من ذكر العيوب وجعلها من هذا ومن ذاك وأنّ هذا فعل كذا، وذاك فعل كذا أن نأتي ونرسم لأنفسنا وصدقنا وصواب عملنا مجالاً وإطارًا ونكتبها على ورقة ونقول: سنلتزم اليوم بهذه الأعمال ونعمل بها ونستعمل هذه العبارة في كلامنا ونقول في تعاملنا مع هذا الإنسان هذا الكلام؟
نسبة الكلام الكاذب إلى المحاضِر حول خروج المرأة
كم مرّةً قلت للرفقاء: ما لم تسمعوا منّي كلامًا مباشرةً فلا تعملوا بما يُنقل عني وقولوا إنّه كذب؟! فلماذا أسمع من هنا وهناك أمورًا تنقل عنّي ويقبلها الآخرون؟! كم مرّةً نقلت عن المرحوم العلامة أنّ سلوك المرأة في المنزل وأنّ على المرأة أن تخرج من المنزل أقلّ ما يمكن؟! وأنّه لا يبلغ أحدٌ إلى مكانٍ بالذهاب إلى هنا وهناك وهذا الصفّ وذاك. وأنّ عليها أن لا تخرج أكثر من مرّتين في الأسبوع، ألم أقل ذلك؟ فهل عُمل بهذا الكلام؟ وإذا أراد إنسانٌ أن يعمل فإنّه يعمل مع ألف كلمة وعتاب ويقول: يا من لا يحفظ الجميل! لماذا تضيّع حقّ الآخرين! لقد أغضبتني! لماذا لا تأتي؟ إذا أراد الإنسان أن يعمل بكلامٍ فهل يتركونه؟! بأيّ من هذا قد عُمل؟ منذ الصباح الباكر وقبل أن تستيقظ من النوم تضع العباءة على رأسها من هذا المجلس إلى ذاك، وإذا نقصت الدروس نجعل درسًا كلّ عشرة أيّام وكلّ خمسة أيّام ونملأ كافّة الأوقات ولا يُدرى كيف يعيش ذلك الزوج المسكين وأولئك الأطفال الذين لا أب لهم ولا أمّ! فما معنى هذا؟ نشارك في مجالس العزاء، والإمام الحسين يردّ هذا المجلس إليكم ولو شاركتم حتى يوم القيامة بهذه المجالس فأنا أضمن لكم أنّ سيّد الشهداء سيلقيكم بيده في جهنّم لا معنى لهذا اذهب إلى هنا واذهب إلى هناك، على الإنسان أن يصغي إلى الكلام، إن لم يصغ فإنّهم لا يكتبونه له، فالملائكة لا يُخدعون يا عزيزي، اذهب واصرف مئة ليتر من البنزين وشارك في جميع مجالس الإمام الحسين في طهران وكرج وحتى كرمانشاه فلا فائدة من ذلك، إذا أردتِ أن تصغي فاجلسي في بيتك. زوجك يخرج ويهيّئ وسائل الحياة ولتجلسي أنت في المنزل هناك أشرطة فاسمعيها واعملي بكلام واحدٍ خير لك، أفهل أنت حمامةٌ أو غرابٌ تطيرين وتمضين ولا يُعلم ما هي الأوضاع التي تكون في المنازل؟ ماذا نريد أن نتعلّم أيّ دين نريد أن نتعلّم؟ نعم هناك الكثير من الكلام هنا وهناك وأنا أتحمّل مسؤوليّة كلامي وإدراكي، هذا ما أفهمه ولا أحد مجبورٌ على أن يقبل، كم مرّة قلت للرفقاء: إنّ هذا ما أراه، فمن أحبّ فليذهب إلى مكانٍ آخر، أمّا ما أدركه فلا يمكن أن أخون فيه. عليّ أن أقول ما أنتهي إليه بعلمي. لماذا؟ لأنّي إذا ما خنت فأنتم الجالسون هنا تستمعون سيأتي كلّ واحد منكم يوم القيامة ويقف أمامي أن لماذا لم تقل مع أنّك كنت تعلم؟! لذلك فأنا أقول، وإن شئتم فلا تعملوا، أنا أقول ما لديّ من كلام.
قال المرحوم العلاّمة: إنّ سلوك المرأة هو في منزلها، مسجد المرأة بيتها.۱ لقد قلت: لا إشكال في أن يكون هناك جلستان في الأسبوع. ولكن الآن نأتي وندور ونذهب إلى هنا وهناك ونقيم الأيّام الفاطميّة والحسينيّة والعلويّة والعسكريّة. خمسة أيّام، وعشرة أيّام، وكلّه كلام في كلام في كلام، أفهل نحن أهمّ من النبيّ الذي تكلّم للناس ثلاثًا وعشرين سنة؟ أنحن أرفع أم هو؟ أنحن أهمّ أم أمير المؤمنين الذي تكلّم للنّاس أربعين سنة، فكم واحدًا أصغى إلى كلام أمير المؤمنين؟ كان هناك رشيد وحبيب بن مظاهر وميثم التمّار وكميل و... وماذا فعل الآخرون؟ كأنّ شيئًا لم يكن.قالوا: لقد كان عليّ إنسانًا جيّدًا، رحمة الله عليه!
هل الله مدين لنا أم نحن مدينون له؟
هذه الأمور التي أقولها للرفقاء هي أمور أساسيّة، وقد ذكرت في الجلسة السابقة أنّنا نتخيّل أنّ الله مدين لنا. نصلّي صلاتين ولا نرى رؤيا، فنقول: يا ربّ نحن صلّينا فلماذا لا نرى رؤيا في المنام؟ يا ربّ نحن صلّينا الليلة الماضية صلاة الليل فلماذا خسرنا في هذه المعاملة؟ لقد خسرنا مائة ألف تومان. يا الله قد قرأت بالأمس جزءًا من القرآن فلماذا مرض ابني اليوم؟ يا الله لقد قمت بهذا العمل فلماذا تؤلمني أمعائي وأجريت عمليّة للزائدة؟! لماذا لماذا لماذا؟ فهذا ربّ مدين ونحن الآلهة الدائنون. والله يقول: أنا لا أريد هذا السلوك فاذهب وشأنك. لا حاجة أن تأتي إلينا. فاذهب وعش كالآخرين ودعنا وشأننا! فعلى الأقل الآخرون لا يكثرون اللجاج علينا، كلّ ما يحصل لهم فإنّهم يفسّرونه على أساس أمور الدنيا. ففي النهاية الأمور التي تحصل هنا إمّا أن يصعد الإنسان معها أو يهبط، فلا أحد يلقي باللوم على عزرائيل وجبرائيل. ولكن بمجرّد أن يصبح الإنسان سالكًا يصبح الله والنبيّ والملائكة مدِينين، وعلى الجميع أن يقفوا في الصفّ ليؤدّوا قروضه ويشفوا مرضاه ويهيّؤوا له قصورًا ويحفظوا زوجته وأولاده ويقوموا له بكلّ ما يحتاج، لماذا؟ لأنّ السيّد صار سالكًا! فهذا ليس سالِكًا إنّه (سالَك)٢.
إنّ طريق الله هو طريق التكامل، وقد قلت للرفقاء أنّ الإنسان إمّا أن يصل إلى الكمال في هذه الدنيا إذا عمل بما قيل، وإن لم يحصل هنا فقد وعِد بأن يكمل طريقه هناك، فهذا ما قاله الله. وأنا لست قيّمًا ولا وليًّا، لست شيئًا من ذلك! ولكن الوليّ والقيّم على الأمر هو الله ووليّه إمام الزمان عليه السلام، وكلّ من لديه كلام فليذهب إليه. أنا واسطة في نقل الأمور التي سمعتها من الأعاظم دون أن أتصرّف بها إن شاء الله، وأن أنقلها دون زيادة ونقصان للنّاس المستعدّين وللمؤهّلين وأصحاب الهمّة العالية والعزم الراسخ حتّى لا يقولوا: لماذا لم تخبرنا؟ وقد ذكرت للرفقاء سابقًا أيضًا أنّ ما أقوله لا أقوله من نفسي، وهذه الأمور التي ذكرتها اليوم لم تكن منّي. هذه الأمور والمسائل التي كان بيانها ضروريًّا لأجل التكامل والاستقامة في الطريق، فأنا أنقلها وإن عملت بها فزت بنتيجتها مثلكم بلا أيّ اختلاف. وإذ أتكلّم الآن لا تتصوّروا أنّي أتواضع، فأنا لست من أهل التواضع، هذه هي الحقيقة، وسترون أنّي إن عملت فسأجني النتيجة، وإذا أنتم عملتم فستجنون النتيجة. أمّا إن كان المقرّر أن لا يكون هناك عمل فلا أنا أجني النتيجة ولا أنتم، فكلّ إنسان يجني نتيجة بمقدار ما لديه من همّة وصفاء خاطر، وقد ذكر الأعاظم ذلك أيضًا.
لماذا لا تحصل لدينا حالات هنا؟ لماذا لم يحصل كذا؟ لا علم لي. إن كان لأحد ما اعتراض على أمر ما وإشكال فأنا لست مسؤولاً، وإن كان هناك في أماكن أخرى حالات وأمور خارقة للعادة وما شابه فتفضّلوا. وقد ذكرت هذا الكلام بنفسه للرفقاء في الليلة الرابعة بعد وفاة المرحوم العلاّمة، فقلت: أيّها الرفقاء لقد رحل والدنا رحمه الله عن هذه الدنيا ولكنّ الله لم يرحل، وهو أيضًا لم يأت لأجل هذه الأيّام المعدودات من الدنيا، وهذه الكتب التي كتبها والمعارف التي ظهرت منه لا تختصّ بزمان حياته، فلو كانت كذلك فالأمر سخيف جدًّا، بل الأمر مستمرّ ما دامت حياة البشر. الطريق الذي فتحه هو لحياة البشر، لم يأت له نظير من العرفاء وأولياء الله، ووضع الأمور بوضوح بين أيدي الناس. نعم كان هناك أولياء للّه وعرفاء صرّحوا بالمعارف، فلمحي الدين فتوحاته أيضًا ولكن لا تفيد الجميع، فقط تفيد فئة خاصّة من أهل العلم وأهل المعرفة، ولكنّي لم أر من بيّن بوضوح بيانه وقلمه كيفيّة اعتباريّة الدنيا وكيفيّة الوصول إلى الحقائق، ربّما كان هناك من فعل ذلك وأنا لم أره! هذه الكيفيّة وهذه الطريقة هي لأجل أن يصل الناس إلى حال من استقلال الشخصيّة ومتانة الطريق، ويتمكنوا من طيّ طريقهم.
إذا عرف الإنسان أمرًا ما ولم يعمل به هو فمن سيتضرر؟ لقد قال في الأعمال إنّ عليك أن تقوم بهذا وهذه هي المحرّمات والمكروهات، وهذه الأمور تسبب التخيلات وزيادة الوهم والخيال، وهذه الأمور تبعث على التشتّت والحيرة. دائمًا يرسلون إليّ أنّ حالتي هكذا، حسنًا فأنت لم تصغ ولم تعمل، ما هي وظيفتي أنا سوى البيان؟ أبيّن الأمور فقط وظيفتي هي هذه، أن أضع جانبًا ما أشعر أنّه مصالحي الدنيويّة الخاصة بالنسبة إلى هذه الأمور، هذه هي وظيفتي فقط، وليس هناك تكليفٌ أكثر من ذلك، ولا يمكنني أن ألتزم بمسؤوليّة وتعهّدٍ أكثر من ذلك، وإذا اتّجه الأمر في اتجاهٍ آخر فأنا سأتصرّف بطريقةٍ أخرى.
وظيفتي أن أبيّن تلك الحقائق النورانيّة ومبادئ الأعاظم وأولياء الله وفق تشخيصي أنا لا وفق الأجواء والدعايات والشائعات وأمثالها، كلا فالمجالس كثيرة ووسائل التواصل الاجتماعي كثيرة والاجتماعات كثيرة، وهناك الكثير من هذه الأمور ولا علاقة لي بذلك، فهؤلاء لم يأتوا ويستأذنوا منّي في اجتماعاتهم حتّى أستأذن من أحد، كلّ إنسانٍ مسؤول عن تشخيصه الخاص بينه وبين ربّه ويؤدّي تكليفه على أساسه، وأنا أيضًا أبيّن عن الأعاظم وفق مدركاتي وتشخيصي الخاص ـ والأمر لا يختصّ بالمرحوم العلامة وقد رأيتم أني أنقل عن آخرين أيضًا ولم يجبرني أحدٌ أن أعتمد أساليب خاصّة في بيان الأمور، كلا لم يكن الأمر كذلك حتّى الآن وإذا جاء يوم أُجبر فيه فسينتفي هذا المجلس، أقولها بكلّ صراحة ـ فأنا أبيّن للأصدقاء الذين أفتخر بصداقتهم ما أراه من كلمات الأعاظم وأولياء الله. فلا تتصوّروا أنّكم إذ جئتم إلى هنا فإنّ هذا الأمر بالنسبة إليّ بسيط، كلاّ، فالذين جاؤوا إلى هنا كان بإمكانهم أن يذهبوا إلى أماكن أخرى، وهذا الكلام الذي أقوله للأصدقاء إنّما ينشأ عن الصدق ومحبّة الخير، والرفقاء يسمحون لي أن أتجاوز قليلاً عن حدودي وأمدّ رجلي أكثر من بساطي وتكون لي جرأةٌ في بيان الأمور، فأنا شعرت بهذا اللطف والكرم من الرفقاء وإلا فلماذا لا تقال هذه الأمور في أماكن أخرى؟ غرضي هو أنّه بما أنّ هناك من شعر بالنورانيّة في قلبه وأحسّ بأمرٍ ما ويمكنه أن يكون له المزيد من الزاد ونصيب أكثر فلماذا أقصّر في البيان ؟ لماذا؟ ما دام الإنسان يمكنه أن يستفيد أكثر فلماذا أقلّل؟
هل يجب حتمًا أن يكون الإنسان الذي نتّبعه وليّ الله؟
لقد نقلت للرفقاء قبل مدّةٍ قصّةً حدثت حيث كان أحدهم يقول لي: هل يجب حتمًا أن يكون الإنسان الذي نتّبعه وليّ الله؟ قلت يا عزيزي هل هناك وليٌّ للّه أعلى شأنًا من النبيّ وأمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسين؟ فالذي لا يسمع ويخدعه الشيطان سيخدعه. ثم بعد مدّةٍ حدث لهذا الرجل أمرٌ ما فقلت له بصراحة: أتذكر أنّي قلت لك لا تقم بهذا العمل، فلماذا قمت به؟ لم تسمح لك نفسك؟ أنا أعلم نفسك لم تسمح، ستنخفض منزلتك بين أفراد العائلة فلا تقل بعد ذلك أنّه يجب أن يكون لدينا وليّ الله حتمًا ، طفلٌ ابن عشر سنوات أيضًا يمكن أن يكون لك مرشدًا وهاديًا، شابّ ابن خمسة عشرة سنة وعشرين سنة يمكن أن يكون مرشدًا لك، تارةً تشعر أنّ هذا الكلام ليس حقًّا حينها الحقّ معك، إنّه مخطئٌ في كبرى القياس أو في صغراه، أوتحصل لك شبهةٌ في المصداق لا مشكلة في ذلك، ولكن عندما يكون الأمر واضحًا للإنسان [فلماذا لا يعمل؟]
دوام الامتحانات الإلهيّة
كان المرحوم العلامة يقول: نحن نتخيّل أنّ الامتحان الإلهيّ هو أنّ الله لديه ثلاثة أو أربعة امتحانات وفي كلّ خمس سنوات أو عشر سنوات يمتحن الإنسان مرّةً، كان يقول كلا ليس الأمر كذلك، فالامتحان الإلهي في كلّ لحظة ومن دون إخبارٍ أيضًا. امتُحن ونجح، امتُحن ورسب فعليك أن تذهب الآن وتتوب وقرّر من الآن إذا حصلت هذه الظروف مرّةً أخرى أن لا تخطئ، هيّئ نفسك مسبقًا، دقّق في المسائل التي تحدث لك طوال النهار واحدةً واحدة وحيث إنّ هذه المسألة الآن ستطرح فكيف سأتعاطى معها، اجعل نفسك مكان الآخرين واجعل الآخرين مكانك، ذلك الحكم الذي تريد أن تحكمه على الآخرين احكمه عند الصباح وقت خروجك من المنزل حتى تكون نفسك متّسعةً عند مواجهة هذا الأمر ولها قدرةٌ على التحمّل، فإذا رجعت عند الظهر إلى المنزل تكون مسرورًا، لقد اختلف هذا اليوم عن أيّامه الأخرى، لم أتكلّم اليوم بهذا الكلام واتّخذت هذا الموقف، اليوم تنازلت عن حقّي، اليوم أعطيته الحقّ، اليوم لم أطرح نفسي، اليوم لم أفعل ذلك أمام الناس.
كيف كانت مناقشات المرحوم العلاّمة العلميّة؟
لقد شاركت لمرّاتٍ عديدة في مجالس بين المرحوم العلامة وبعض أرحامه ومنهم أخوه الأكبر حيث كانت بينهم مناقشاتٌ علميّة، فكنت أرى أنّه بمجرد أن يشرف على الانتصار فجأةً يعيد البحث والكلام بنحوٍ يجعله هو ينتصر، لقد رأيت ذلك بعيني، فأولياء الله لم يصبحوا أولياء للّه هكذا، هذه الأمور التي يقولونها عملوا بها بأنفسهم، إنّه لا يفكّر الآن أنّ هؤلاء العلماء جالسون عند أمرٍ كهذا حيث يستعدّ الطرفان بكامل قدراتهم وأسلحتهم العلميّة وينزلون إلى الميدان هذا يقول وذاك يقول. ثمّ يقولون لقد ضعف السيّد محمّد حسين، عجز في النهاية وغلبه أخوه، دعهم يقولون فهل هذا المقام مقامٌ يستحقّ أن يقال فيه كلامٌ حقّ أم أنّ أجواء المجلس تحوّلت إلى إظهار العلم؟ فالأمر يختلف من موردٍ إلى آخر، فتارةً يجب على الإنسان أن يقول كلامًا حقًّا ويثبته بأيّ نحوٍ من الأنحاء فالأمر يختلف، وأحيانًا يدرك الإنسان أنّ المقام تغيّر من مقام طرح حقيقةٍ إلى مقام استعراض، إلى ميدان للتخيّلات والاعتبارات والتوهمات وأمثال ذلك، فهنا على الإنسان أن يتراجع فورًا ولا ينتظر، كلّ دقيقةٍ تمضي هي ليست في صالحه، فليترك الميدان فورًا للخصم ويقل له: تفضّل، لقد ربحت فلتفرح والحمد للّه. فيفرح أيضًا ويسرّ، وحيث انتهى الأمر أمام الناس لصالحه دعه يكون السرور حليفه، ولكن ماذا ينال ذاك؟ لو أنّ ذلك المسكين يعلم ماذا نال هذا لضرب بيديه على رأسه! لقد جاء هؤلاء وبيّنوا لنا، جاؤوا وأوضحوا لنا الأمور.
هل يصلح الحال بكثرة التردّد على الأستاذ والسؤال والرسائل؟
كلّما تقدّمنا أخذنا ما يناسب من الثواب، علينا أن لا نتلاعب بكلام الأعاظم ولا نمزجه ونؤوّله ونزيد فيه وننقص حسب رغباتنا فبالذهاب والإياب وأخذ المواعيد لا يصلح الأمر لأحد، وبإرسال الرسائل لا يصلح، لقد طُرح الأمر للجميع بما يكفي، فتارةً يتعامل الإنسان في علاقته مع أصدقائه بشكلٍ أخويّ وتارةً يتعامل وكأنّه دائنٌ لهم، لا يوجد دينٌ هنا، أقولها بصراحة، لا إشكال في التعاطي الأخوي، وله أيضًا آدابٌ وقوانين وموازين أمّا أن يتعاطى وكأنّه دائن أو صاحب حقّ ويقول: أنا كذا فإذن يجب أن يكون الأمر بهذا النحو وهنا يجب أن يكون بهذا النحو، وهناك يجب أن تكون تلك الجلسة، وهنا يجب أن يشارك هؤلاء الناس، فهذه الأتعاب من الجيّد أن لا يلقيها الإنسان على غيره وأن يقوم بها بنفسه.
لم يصل أحدٌ إلى شيءٍ بكثرة الكلام وكثرة السؤال، فالذين وصلوا جميعهم وصلوا بالسكوت، كم قلت للرفقاء أنّ الإنسان ينال ما يريده بالسكوت ومن أراد أن يصل إليه الأمر فإنّه يصل، علينا أن لا نفسد أنفسنا ولا نخلط الأمور، وقد رأيت مراتٍ عديدة بعينيّ هاتين أنّ الله إذا أراد أن يوصل أمرًا ما إلى إنسانٍ فإنّه يجعل ألف واسطةٍ وطريق لكي يصل الأمر إلى مسامعه، نحن علينا أن نصفّي نوايانا ونطهّرها والمسألة تصل:
در طريقت هرچه پيش سالك آيد خير اوست در صراط مستقيم اي دل كسى گمراه نيست۱
يقول: كل ما يعتري طريق السالك هو خير له فيا أيها القلب لا أحد يتيه في الصراط المستقيم
فهذه الأمور والمشاكل ليست ممّا يستحقّ أن يتكلّم به الإنسان، لقد كانت المشكلات عند الجميع وعلى الإنسان أن يقضي هذه الدنيا بحيث يقتصر على الحدّ الأدنى ويقتنع به لكي يتمكّن من الاهتمام بما يرتبط به، هذا هو المطلوب، أمّا أنّ الأمور يجب أن تكون جميعها وفق ما يريد وكلّ ما ينويه يجب أن يتحقّق فليس الأمر هكذا.
إذن وحيث وصل كلام الإمام الصادق عليه السلام إلى هذا الموضع رأيت من الضروريّ أن أنبّه الرفقاء على بعض الأمور وقد فعلت:
خلاصة الكلام في نقاط ست
فالأمر الأول هو أنّ طريق الله طريق عقلائيّ ومنطقي، وعلى الإنسان أن يقوم فيه بما قاله الأعاظم وبيّنوه وذلك منذ اللحظة الأولى التي يلتفت فيها وحتّى اللحظة التي يضع رأسه فيها على التراب، لا يمكنه أن يذهب إلى أيّ مكانٍ لاختيار طريقه، عليه أن يلتزم بمدرسةٍ وطريقٍ يوصلان الإنسان إلى معرفة الحقّ والتوحيد، لا إلى سائر الشعَب والفروع والآثار وشوائب عالم الكثرة بأيّة طريقةٍ كانت وصورة.
الأمر الثاني هو أنّ ما وعد به الله هو الوصول والإيصال إلى المقصود والمطلوب سواءٌ في هذه الدنيا أو في ذلك العالم، نحن لسنا أصحاب حقٍّ على الله حتّى نصل إلى ما نريد في هذه الدنيا، نحن مدينون في جميع الأحوال، هو في عالم العزّة ومقام الكبرياء ونحن في عالم الذلة وحقيقة الفقر، وبين هذين المقامين فرقٌ كبير، وعلى السالك أن يرى دائمًا أنّه مدينٌ للّه لا صاحب حقّ وهذا هو الأمر الذي هو قليل جدًّا بيننا، فنحن دائمًا نشعر بأنّنا أصحاب حقٍّ على الله، لقد جئنا إلى هذا الطريق فإذن كلّما اتصلنا بالهاتف يجب أن يجيبونا، وكلّما أرسلنا برسالة يجب أن يجيبونا، وكلّما طلبنا لقاءً يجب أن يعطونا، ومع أيّ إنسانٍ أردنا أن نتكلّم يجب أن يجيبونا، وأيّ منزل أردنا يجب أن يفتحوا لنا الباب، وأينما كان لنا طلب يجب أن يقضى على الفور وإلا فلا نتوانى عن أيّة تهمةٍ وسبابٍ، فما هذا كلّه؟ لقد بدّلنا مواقعنا واستبدل العبد مكانه بمكان المعبود، لقد تبادلنا مع الله، فهو صاحب الحقّ ونحن نشعر أنفسنا أصحاب الحق، من كان مدينًا فماذا يصنع إذا التقى بالدائن في الشارع؟ ألم تروا ذلك؟ هل يتصرّف المدين تصرّف الدائن؟ أم أنّه يحاول الفرار فهذا يمرّ من هذا الجانب وذاك يمرّ من ذاك، أم أنّه يأتي إليه ويقف أمامه ويُمسك بتلابيبه ويقول: أنا مدينٌ لك!
ـ إن كنت مدينًا فما هذا التصرّف؟!
إنّه يفرّ ويقبل بكلّ ما يقوله محاولاً تأخيره مدّة شهر، ويهيّء كافّة الأسباب والوسائل لإرضائه، هذا ما رأيناه حتّى الآن، هكذا على الإنسان أن يتصرّف مع الله لا على أنّه صاحب حقّ قائلاً: يا ربّ لقد صلّيت صلاة الليل فلماذا حصل هذا؟ حسنًا لا تصلّ، لا تصلّ.
لقد قلت مرارًا أني لست وكيل الدين ولا قيّمه بل أطرح ما أبلُغه بحسب معلوماتي والقيّم هو إمام الزمان، فمن كان لديه كلامٌ فليذهب إليه، وإمام الزمان الذي لا اطلاع له على نيّتي ونيّتك لا قيمة له أبدًا، لا يعادل قيمة حصى صغيرة في الحديقة. لماذا لا نذهب إلى إمام الزمان؟! إنّه مطّلعٌ فلماذا لا نذهب؟! يقولون لا تصل أيدينا إليه فجئنا إليك، وكأنّه لا يوجد جدارٌ أقلّ انخفاضًا من جداري! فما هذا الكلام؟! إنّه كفر! ما معنى لا نصل إليه؟! لماذا تقولون كفرًا؟! فإمام الزمان الذي لا نصل إليه إمامٌ مغشوش وليس إمام الزمان، إمام الزمان هو الإمام الذي يدرك النيّة قبل أن تخطر في ذهننا فمن الذي يقول لا تصل أيدينا إليه؟ الآن مصلحته لا تقتضي أن يصل الإنسان إليه في الظاهر فهو أخبر، يلتقي بمن يريد ولا يلتقي بمن يريد أمّا أنّه لا نصل إليه فهذا كلامٌ باطلٌ وسخيف، لقد جعلنا إمام الزمان والعياذ بالله عاجزًا ومسكينًا بحيث حبسناه في صندوقٍ وألقيناه في ذلك الجانب من المحيط، حتّى تتعلّق إرادة الله بظهوره ، فهذا ليس إمام الزمان، إنّه لا يختلف عن أيّ عابرٍ في الطريق، إمام الزمان الذي أعتقد أنّه إمام الزمان والذي هو كذلك، هو الذي يطّلع كاطّلاع الله على جميع نيّاتنا، هذا هو إمام الزمان، ثمّ بعد ذلك ألا يجب أن نخجل من هذا الكلام الذي تمتلئ به الرسائل؟ واقعًا ألا يجب أن نخجل؟ هل واقعًا نحن شيعة؟ هل نعتقد هذه المعتقدات ثمّ نتكلّم بهذا الكلام؟ هذا ليس صحيحًا، على الشيعيّ أن يعتقد هذا النوع من الاعتقاد بإمامه فحسب وبعد ذلك عن أيّ شيءٍ يبحث؟! عليه أن يشرع بالعمل.
ما دام لدينا إمامٌ كهذا، وما دام لدينا طريق كهذا فقد انتهى الأمر، كما أنّه كتبت المسائل في هذه الكتب فإن كان لدينا صدقٌ وصفاء وإخلاص فإنّ الإمام سيبيّن لنا الأمور بنحوٍ من الأنحاء، أمّا كثرة المجيء وأخذ المواعيد واللقاءات فماذا تنفع؟ أقول لكم لو أخذتم من المواعيد مئة سنة من الصباح حتّى المساء فإنّكم لن تتقدّموا سنتيمترًا واحدًا ولن تتحرّكوا إلا عندما تشعرون أنّه يجب ألاّ تأخذوا موعدًا، حينها تقفون على أرجلكم وتعملون بما قيل، فقد قلت أنا كلامي وأتممت الحجّة.
إذا جاء إنسانٌ وأصرّ ربّما أعطيه موعدًا فليس الأمر في جميع الموارد واحدًا، إذا كانت هناك ضرورة، يقولون لقد أرسلنا بعشرة رسائل ولم يأتنا جواب، حسنًا فلترسل مائة رسالة! فعندما أرى أنّه لا حاجة للجواب فلا أجيب، لا تكتبوا الرسائل، لقد قلت للرفقاء أني لا أجيب إلا على الأحكام الشرعيّة وهذا سوف أقوم به، أمّا أنّه حصل هنا كذا وهنا كذا، حصلت هنا مشكلة ويسألونني أنّ العيال لا يريدون أن يجلسوا مع الأجانب على سفرةٍ واحدة والذين يأتون إلى المنزل ليسوا من أهل الحجاب ويقولون نريد أن نكون على علاقةٍ معكم فماذا نصنع؟ ماذا نصنع؟ من الواضح أنّه عليكم أن لا تقيموا علاقةً معهم، ألا تريدون أن تحفظوا أبناءكم وبناتكم؟ ألا تريدون أن تحافظوا عليهم، يجب عليكم أن تجعلوا علاقاتهم صحيحةً، أم أنّه لا كلّ من جاء فأهلاً وسهلاً، ما دمنا قد بيّنا الأمر ثمّ يخرجون من المنزل فيتّصلون بنا أن يا ويلنا لقد خرج أبناؤنا وبناتنا من المنزل، إن لم تكن قادرًا على الالتزام بما سألت عنه فهل أنت مجبورٌ على السؤال؟ لست أنا من قال، أنت الذي قلت، فإن كنت قادرًا على العمل فاعمل وإن لم تكن قادرًا فلماذا تسأل؟
أحدهم يقول: لديّ ولدان أوكلتهما إلى إمام الزمان، أفهل إمام الزمان لديه ميتم ليحافظ على أولادك؟ لا معنى لهذا الكلام، سيلقي الإمام بولديك من قم إلى الأماكن القذرة والمراقص وأماكن القمار بحيث لن تتمكّن من استخراجهما. لا معنى لهذا الكلام، لكلّ شيءٍ حسابٌ، فإمام الزمان بيّن الطريق وبين الهاوية وقال: يجب عليك أن تراقب، فعندما يخرج ابنك صباحًا من المنزل إلى أين يذهب؟ وإلى أيّ شارعٍ يمضي؟ ومع أيّ رفيق؟ لقد بيّن كلّ ذلك وأنت تركت كلّ هذا وألقيت المسؤوليّة على إمام الزمان ليجعل منهما سلمان الفارسي وأبا ذر الغفاري! كلا، لا شيء من ذلك. لا بدّ من الهمّة وترك التقصير والتساهل في الأمور التربويّة.
رغم كثرة المشاغل التي كانت للوالد كان يخرج صباحًا من المنزل ويأخذ ابنه إلى المدرسة، وإذا رجع ظهرًا من المسجد كان يأتي به، كان يقوم بذلك لمدّةٍ طويلة لكي يرسله إلى المدرسة بشكلٍ صحيح حيث لم يكن في ذلك الزمان وسائل نقلٍ آمنة، وكان يفتح الرسائل التي تأتي إلى المنزل واحدةً واحدة، ليعرف من هو الذي أرسل رسالةً إلى ابنته أو ابنه وماذا كتب، كان إذا رنّ الهاتف يعرف من الذي اتّصل وماذا قال، وإذا تأخرت ابنته من المدرسة دقيقتين كان يسألها أين ذهبت؟ من مدرستك إلى هنا سبع دقائق من الوقت وقد مضت عشرون دقيقة فأين ذهبت؟ هكذا كانت المسألة لا أنّه كيفما اتفق وأنّهم على ارتباطٍ مع فلان وأمرهم منتهٍ، لقد عمل هؤلاء وحصدوا النتيجة وطبعًا الأمر بيد الله ولكن على الإنسان أن يقوم بواجبه.
وأنا بنفسي أيضًا إذا عملت سأكون كذلك، وإن لم أعمل لن أكون كذلك، والله لا يجاملني وليس بيني وبينه قرابة، هنا مكان الضوابط فلو أني قصّرت أنا أيضًا فسيحدث لي ما يحدث لغيري في حياتي الشخصيّة، فليس هذا الزمان زمانًا يترك فيه الأمر في عهدة إمام الزمان، كلا فليس الأمر هكذا.
فإذن الطريق الذي بيّنوه للإنسان يجب أن يعمل على أساسه، والوعد الإلهي في الوصول إلى المطلوب وعد صدقٍ سواءٌ في هذه الدنيا أو في الآخرة، إن لم يحصل للإنسان فتحٌ هنا فلا يمكنه أن ييأس ويقنط، على الإنسان أن يتابع بهذه الطريقة ولا يطالب الله، عليه أن يدعو ويقوم بمقتضى العبودية حتى ينتهي هذا السجل ويُمضى ويؤدي تكليفه في هذه الدنيا. فهذا واحدٌ من الأمور أيضًا، فإذن إن لم يصل الإنسان هنا فلا يعني ذلك أنّ في طريقه نقصًا وخللاً، هذا الكلام مخالفٌ للواقع وتوهّم.
فالأمر الآخر هو أنّ الإنسان حرٌّ في اختيار الطريق والمسير فبقدر ما يعمل يأخذ نتيجةً والعكس بالعكس فهذه هي المسألة الثانية.
والأمر الآخر أنّ ما قاله الأعاظم كلّه حقٌّ، وهو الشيء الذي يمكن للإنسان أن يستيقن به ويعلم والوعد الذي قطعه الأعاظم هو حقٌّ أيضًا، فإذا عمل إنسانٌ بهذه الأمور وصل، وبقد رما يكون لدى الإنسان عزمٌ وإرادةٌ وهمّة تحقّق له ذلك.
والأمر الآخر هو أنّ على الإنسان في طريق الله أن يحمل أثقاله بنفسه لا أن يلقي بها على عاتق رفيقه، لا أنّه إذا ما حدث أمرٌ ما يذهب إلى أصدقائه وهنا وهناك كلا، ففي هذه الدنيا سعادةٌ وشقاء، مشكلاتٌ وانفراجات، على الإنسان أن يقف على رجليه ويشعر بالاستقلال والاعتماد على مبدأ الولاية والإمام عليه السلام، وأن يكون أنس قلبه مع أصدقائه فلا إشكال في ذلك لأنّه لا بدّ في هذا الطريق من اتخاذ رفيق وصديق وشريك يتمكّن من الاستفادة من كلامه وإرشاداته والمجالس التي يشتركان فيها وهذا الأمر طبيعيّ، أمّا أنّه يريد أن يحمّل رفيقه أكثر من ذلك، فهذا ليس جيّدًا ويمكن أن يؤدّي إلى نتيجةٍ معاكسة.
والأمر الآخر الذي يجب أن أقوله للرفقاء هو من آثار ولوازم ذلك الأمر، أنّ الإنسان إذا أحسّ بضعفٍ ونقصٍ فيه وفي وضعه الروحيّ فعليه أن يبذل سعيه وجهده لرفعه، أمّا الاهتمام بالآخرين والانصراف عن النفس فإنّه يؤدّي لا إلى عدم استفادة شيءٍ فحسب بل إلى إبادة إمكاناته الوجوديّة .
لقد كانت هذه أمورًا رأيت من الضروري التذكير بها سواءٌ لنفسي أو للرفقاء والأصدقاء حتّى يعلم الرفقاء والأصدقاء قبل الدخول في بحث جديد ـ وإن كان الإمام الصادق قد أنهى إلى هنا الكلام وما سيذكره الآن هو حسب طلب عنوان حيث سيبيّن الإمام نصيحةً وأمرًا إضافيًّا ـ بواقعهم وأوضاعهم وبما ذكرناه حتى الآن، وأنّ هذا المسير لم يصلنا بسهولة، وهذه المعارف لم نحصل عليها بسهولة، وهذه الأمور التي بيّنها لنا الأعاظم ليست جريدةً وقصّةً وحكاية، كلاّ بل هي معارف حصلت بواسطة الإشراف على الواقع والحقيقة والمصالح والمفاسد الواقعيّة، فكتبوها أو تكلّموا بها مع رفقائهم فأتينا نحن إلى هذه المائدة ولم يعد هناك شيءٌ خافٍ علينا ومجهولٌ لنا.
وأنا بدوري أقول: لولا مطالعة كتابه أنوار الملكوت بعد زمان المرحوم العلامة ـ وطبعًا هذا الأمر يجري ضمن هداية الله لا مستقلاً عنه فهداية الله وتوفيقه له صورٌ مختلفة ـ والاطلاع على سائر المعارف التي كتبها في هذه الكتب لكنت وقعت في مهلكةٍ لا يمكن لأحدٍ أن يخرجني منها، أمّا لو أردت أن أباهي بعمري وأقول لماذا أنا أقرأ بعد هذا العمر؟! وليست هذه الكتب لنا وقد كُتبت لآخرين فهذا خطأٌ وليس الأمر هكذا.
هذا الكلام الذي قاله المرحوم العلامة حول التقوى حيث أنّ بحثنا القادم حول التقوى فليذهب الرفقاء وليسمعوا كلامه وينظروا هل قصّر في شيءٍ؟ وواقعًا هل ما نقوله نحن حول التقوى إلا توسيعٌ وشرحٌ لكلامه؟ لقد ذكر كلّ شيء، وبيّن كلّ شيء، لقد تكلّم عن التقوى إنسانٌ هو بنفسه تجسيد للتقوى. وإن شاء الله في الجلسات القادمة سنتحدّث حول أنّ مفهومنا عن التقوى حتّى الآن ما هو وما هي حقيقة التقوى؟ كثيرون هم الذين تكلّموا حول التقوى والصلاة في أوّل الوقت ولكنّهم فاتت صلاتهم وصارت قضاءً وصلّوها عند الساعة الثانية عشرة وهم أئمة جماعة المسجد، كثيرون هم الذين تكلّموا حول التقوى ولكن إذا جاءهم اثنان أحدهم مريد والآخر غريب أعطوا الحقّ للمريد، كثيرون تحدّثوا عن طريق الله ولكنّهم علقوا أكثر من غيرهم في شراك الشيطان وشباك الأبالسة، لقد قيل الكثير من الكلام ولكن من يتكلّم عن التقوى وعن الزهد والصلاح وهو بنفسه تجسيدٌ للطهارة، الطهارة الذاتيّة لا العارضة ولا الطهارة أمام الناس ولا الطهارة أمام المجتمع ولا القداسة والتقوى الاجتماعيّة.
ذات يومٍ، حيث كان الجوّ حارًا جدًّا بعد الظهر كان أحد الذين يتكلمون عن التقوى والطهارة وعن الله كثيرًا والجميع يعرفه متوجّهًا برفقة زوجته وأولاده نحو منزل المرحوم العلامة، ففتحت الباب بنفسي وخرجت فرأيته من بعيد قادمًا حيث كان قد جاء لزيارة الإمام الرضا عليه السلام والحركات التي رأيتها من هذا الرجل عن بعد أربعين أو خمسين مترًا كانت كحركات طفل في العاشرة أو الثانية عشرة من عمره، كيف كان يسير في الزقاق ويحرّك يديه و... بمجرد أن وقعت عينه عليّ استقام كالعمود ولم يعد هناك خبر عن تلك الحركات، وصار هادئًا حتى وصل إلى بُعد عشرة أمتار منّي فأدرت بوجهي ودخلت إلى منزل المرحوم الوالد ولم أرد أن ألتقي به، وأردت أن يظنّ أني لم أره، هذه التقوى هي التقوى الإجتماعيّة، هذه التقوى هي مسرحٌ وفيلم، هذه التقوى هي سيناريو، هذه التقوى فقّاعة، هذا الزهد فقّاعة، لقد رأيتك على أيّة حال كنت. ولكن إن جاء أحدٌ إلى المرحوم العلامة وبقي عنده ساعتين أو يومًا ويومين كان ينظر فيرى أنّه لم يكن يختلف في سلوكه في داخل المنزل عن سلوكه في غرفة الاستقبال وحركاته وسكناته واحدة، لا يزيّن نفسه، وجوده مختلف، حركاته، وقاره، رزانته، كلّها تنبع من حقيقةٍ واحدة، لا يزيّن نفسه ولا يمثّل أمام الآخرين، ولا يتظاهر، يصدر عنه ما هو في ذاته وما أقوله رأيته بعيني، ولم يعد هو موجودًا بيننا فلا فائدة من مدحه، وهذه علاماتٌ تشير إلى أنّ الحقيقة أين هي، أين طلعت هذه الحقائق، فهي تبيّن لنا ذلك.
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لنكون كما كانوا وكما يريدون، وأن نطوي الطريق الذي بيّنوه ورسموه، هذه الأمور التي أقولها لكم لا يعود نفعها إليّ أنا، نعم إن شاء الله سنكون موضع دعاءٍ للرفقاء ولكن في المرتبة الأولى نفعها يعود إليكم، عندما أقول كونوا في علاقاتكم هكذا وهكذا، أرى أنّ البعض يؤوّلون الكلام ويعدّلونه، يظنّون أني لا أدرك، حسنًا لقد أضررت بنفسك أنت ولم تحصل على النتيجة المرجوّة، نحن ندرك ونعي ثمّ نقول تفضّل وفّقك الله، فمن الذي يتضرّر أنت الذي تتضرّر، لماذا لا يستفيد الإنسان من هذا العمر الذي رزقه الله والذي لن يتكرّر؟ بسبب كلام من والحصول على أيّ شيء فماذا يخسر وماذا يربح؟!
نسأل الله أن نكون دائمًا موضع لطف وعناية وتوفيق مقام الولاية الإمام بقيّة الله أرواحنا لتراب مقدمه الفداء إن شاء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.