105

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

2971
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتكاثر والتفاخر

جلسات المجموعة(4 جلسة)

التوضيح

ما الفرق بين الفخر والتفاخر والكثرة والتكاثر؟ وكيف يزول الفخر؟ وما الحدّ الفاصل بين التكاثر والاقتصاد؟ ولماذا جعل الله الإنسان في عالم الدنيا؟ وهل لطول العمر وقصره فيها أثر في التكامل؟ وهل الزهد تركها أم ترك التعلّق بها؟ وما الطريقة المثلى للعيش فيها؟
أسئلة يجيب عنها وعن غيرها سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه في هذه المحاضرة من شرح حديث عنون البصري فقرة ولا يطلب الدنيا تفاخرًا ولا تكاثرًا.
/۲۰
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۰٥

  •  

  • ألقاها:

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم 

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم 

  • الحمد لله ربّ العالمين 

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا

  • أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين 

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين 

  •  

  •  

  • هان عليه الدنيا وإبليس والخلق ولا يطلب الدنيا تفاخرًا

  • بعد فقرة فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا وإبليس والخلق. يقول الإمام الصادق عليه السلام: ولا يطلب الدنيا تفاخرًا ولا تكاثرًا.

  • الفرق بين الفخر والتفاخر

  • هناك أمر يدعى الفخر، وأمر يدعى التفاخر. وهناك أمر يدعى الكثرة، وأمر يدعى التكاثر. فالفخر هو أساس المباهات، فكلّ ما يسبّب المباهات والتفوّق فهو فخر. العلم والمعرفة فخر للإنسان، العطف والرحمة ومحبّة النوع، والمهارة والتخصّص فخر للإنسان. الأمور التي تعدّ ذات قيمة كماليّة لإنسان ما هي سبب للمباهاة. ولكن هل الثروة سبب للمباهات والفخر؟ كلاّ، لسيت سببًا للمباهات. هل الشخصيّة سبب للمباهاة؟ كلاّ. هل الانتساب إلى كبير وشخصيّة اجتماعيّة سبب للمباهاة؟ كلاّ. فإذن الفخر يعني الأمر الذي يسبّب في حدّ نفسه المباهاة لإنسان ما، ولا بدّ أن يكون ذات كمال إنسانيّ وقيمة إنسانيّة. 

  • التفاخر يعني التفاخر على الآخرين، وإظهار هذا السبب للمباهاة. فلو كان لإنسان ما علم مثلاً، فإنّ هذا العلم في حدّ نفسه ـ يعني في داخله ـ هو سبب للمباهاة. عندما يكون لإنسان ما اطّلاع على أمر ما فإنّه يختلف عن الآخرين، وهذا أمر لا يقبل الإنكار. فوجود حقيقة كهذه في نفس الإنسان هي سبب للمباهاة، ولكن أن يأتي الإنسان ويظهر ذلك للآخرين فهذا تفاخر. 

  • الجود والسخاء والعطاء في حدّ نفسها سبب للمباهاة، فلو كان إنسان ما جوادًا سخيًّا، من أهل الإنفاق والإيثار فهذا عمل مرغوب جدًّا، وهو وجود متنزّل عن صفة الله، ومظهر لصفة الجود والسخاء والإعطاء عند الله، وهو أمر ممدوح جدًّا ومرغوب به. هذه الصفة في جميع الشرائع تعتبر صفة كماليّة عند الإنسان. ولكن أن يأتي الإنسان ويظهر ذلك للناس، فيقول مثلاً: بالأمس أعطيت هذا المبلغ من المال، ساعدت الفقير بهذا المبلغ، أعطيت فلانًا هذا المبلغ، قمت بهذا العمل في ذلك المكان. فإذا أظهر ذلك فهذا تفاخر. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

3
  • الفرق بين الكثرة والتكاثر

  • الكثرة هي في مقابل القلّة، الكثرة تعني الزيادة، والقلّة والكثرة في حدّ نفسيهما ليسا أمرين مطلوبين. من المسّلم أنّ كيلوًّا واحدًا من شيء ما يختلف عن ثلاثة كيلوّات، فالثلاثة كيلوّات أكثر من الكيلو الواحد. الرجلان يختلفان عن ثلاثة رجال، فالرجلان بالنسبة إلى الكثرة قليلان، وعشرة رجال بالنسبة إلى رجلين كثيرون، وهما بالنسبة إليهم قليلان. هذه القلّة والكثرة أمران عرفيّان، أمران منطقيّان، أمران رياضيّان، في كلّ شيء هناك قلّة وكثرة، وهذه القلّة والكثرة موجودة في جميع الأمور. وهما ليسا بأمر ذي أهميّة بالنسبة إلى الشيء نفسه، لا يسبّبان الافتخار ولا التنقيص. فلا تترتّب الحسنى على الكثرة أو القلّة كليهما. أمّا التكاثر فيعني طلب الزيادة، طلب الكثر. 

  • بناء على ذلك، فما ذكره الإمام الصادق عليه السلام في هذه العبارة الشريفة ليس هو مسألة الفخر والكثرة، بل مسألة إظهار الفخر وإظهار الكثرة والسعي إلى الزيادة. 

  • الأسباب الثلاثة لذهاب الفخر

  • فالإمام يذكّره ويلفت نظره إلى أنّ الإنسان إذا ما تحقّقت فيه هذه الأمور الثلاثة فإنّه لا يظهر الفخر ولا يطلب الزيادة، وهي: 

  • الأوّل: أن يفوّض تدبير أموره واقعًا إلى الله الكبير، لا أن يخدع نفسه فيقول في الظاهر أنا أفوّض أمري، ولكنّه في الواقع مستمسك بيديه كلتيهما بأموره بحيث لو جاء الله بنفسه لا يسلّمها إليه فكيف بالملائكة وغيرهم. واقعًا يجعل تدبير الأمور إلى الله. 

  • الثاني: أن يرى ما أدخله الله في ملكيّته الاعتباريّة ملكًا لله، لأنّ الملكيّة الحقيقيّة تختصّ بذات الله، مختصّة بذات الله، الوم يعطي وغدًا يأخذ، ولا مزاح في الأمر، ولا يؤثّر فيه الطلب والالتماس. يُعِدّ سجلاًّ لكلّ إنسان يجعل فيه أمورًا معيّنة، اليوم هذا وغدًا هذا، سيحصّل هذا المقدار، سيخسر هذا المقدار، يصله هذا المقدار فإذا جاء أمده وأجله لا يتأخّر ثانية واحدة، لا يعطى مهلة لثانية واحدة، فإذن هذه الملكيّة اعتباريّة .

  • الثالث: أن يطيع أوامر الله وينتهي عن نواهيه. 

  • فإذا تحقّقت هذه الأمور الثلاثة في الإنسان يقول الإمام: هان عليه الدنيا وإبليس والخلق. صارت الدنيا تمضي بسهولة ـ والدنيا هي ما سنتحدّث عنه اليوم ونوضّح هذه الفقرة ـ ستمضي الدنيا عليه بسهولة لا بصعوبة. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

4
  • السيّد معين الشيرازي وسهولة الدنيا

  • كان لنا جدّ، الحاج السيّد معين الشيرازي رحمه الله، وكان من الصلحاء والعبّاد، كان ذا خلوص ونيّة خالصة. كان ينقل لنا ذات يوم ـ حيث كان يسافر لإقامة المجالس الحسينيّة هنا وهناك، سواء في المجالس العامّة أو المجالس الخاصّة، فكان يقرأ المجالس حتّى نهاية عمره، وتقريبًا توفّي قبل المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه بثلاث أو أربع سنوات، وكان قد حدّثنا بهذا الأمر قبل حوالي عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة، فكان يقول: عندما جئت من كرمانشاه إلى طهران أيّام شبابي كنت أشارك في المجالس العامّة، مجالس الوعظ والمساجد، وهكذا كانوا يدعونني إلى بعض المجالس الخاصّة، فمثلاً إلى منزل في أوّل الشهر، أو وسط الشهر، وبمناسبات مختلفة ـ وكان منزله حينها في مستديرة الإمام الحسين، ولم يكن الطريق حينها هناك قد عبّد أصلاً، كان ترابيًّا، وأنا بنفسي لا أذكر ذلك ـ كان يقول: كنت في ذلك الزمان أذهب في أوائل كلّ شهر إلى مكان بعيد جدًّا، تقريبًا مستديرة شوش ـ ولا أذكر ماذا تسمّى الآن ـ حيث كانت هناك عائلة كنت أقرأ لها في أوّل كلّ شهر ويعطونني تومانًا واحدًا ـ وأنا لا أدري الآن كم كان يعادل التومان الواحد أنتم بأنفسكم احسبوه، فليحسبه أهل الخبرة ـ ثمّ كان يقول: لقد تغيّرت أوضاعهم، وتوفّي ذلك الرجل، وأنا لا زلت على ذلك المنوال أذهب بداية كلّ شهر وأقرأ لهم مجلسًا واستمر ذلك حتّى النهاية ـ أي إلى ما قبل اثنتي عشرة سنة ـ فكان يقول: إنّ صاحب ذلك البيت والذي صار عاجزًا جدًّا وكان عمره يفوق المائة سنة، لا زلت أذهب إليه ويقدّم لي ذلك التومان الواحد في صحن الشاي! كان يقول: أنا أنفق ما يقارب ثلاثمائة أو أربعمائة تومان لأصل إلى هناك! رحمة الله عليه، فأنا أذكر هذا الأمر لأنّ التنبيه عليه مهمّ جدًّا، فهذا الأمر هو المهمّ، هذا هو الذي يأخذ بيد الإنسان، هذا هو المهمّ للإنسان. 

  • ورحمة الله على الحاج هادي الأبهري، وبالطبع فإنّ اسمه معروف عند السادة، وقد ذكره المرحوم العلاّمة في بعض الكتب من معرفة المعاد أو الروح المجرّد، كان رجلاً طاهرًا جدًّا وصافيًا وذا نفس طيّبة، وقد حصلت له حالات بسبب التوسّلات والابتهالات والتوجّهات التي كانت لديه إلى الأئمّة عليهم السلام، وخصوصًا سيّد الشهداء عليه السلام، وصار عنده صفاء، وكان يخبر عمّا في الضمير، ويخبر عن بعض الأمور، أو مثلاً يشفي المرضى، وحالات من هذا النوع. وكان بنفسه يحكي لنا فقال: في أحد أسفاري إلى الشام سألت: أين هو باب الساعات الذي جيئ بأهل البيت إليه؟ فدلّوني عليه ـ رحمة الله عليه فقد كان يشرب الغليون أيضًا ـ قال: ذهبت إلى هناك وجلست في زاوية وأخرجت الغليون وأخذت أدخّن مطأطئ الرأس، رأيت أنّهم جاؤوا بأهل البيت، وكلّ ما نقل لنا من أحداث ـ وكنت حينها طفلاً ـ مطابق بعينه لما في التاريخ بل حتّى فيه إضافات، كيف كانت خصوصيّة الإمام السجّاد؟ كيف كانت السيّدة زينب؟ من الذي جاء أوّلاً و... لقد أريَ كلّ شيء. وكان لديه الكثير من هذه الأمور. كان رجلاً طاهرًا جدًّا وصافيًا وله حالات. وقد ذكرت مقدارًا من حالاته في الجزء الثاني [من أسرار الملكوت] ۱ كما ذكرت أيضًا سائر نقاط الضعف التي كانت، وإن شاء الله قريبًا سأنهيه. 

    1. . اسرار ملكوت، ج ٢، ص ٢۰٤ـ ٢۱۱.

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

5
  • على كلّ حال، كان في مرتبته الخاصّة إنسانًا خالصًا، وكان واقعًا من عشّاق أهل البيت والمولهين بهم. قال له السيّد معين الشيرازي رحمه الله في إحدى الجلسات: ماذا أصنع في طريقي وكيفيّة حياتي؟ فأكّد الحاج هادي رحمه الله على أمرين: 

  • أحدهما: أينما دعيت، إذا رأيت أنّ قلبك راض بالذهاب فاذهب ولا تنظر إلى الشخص والمجلس والكميّة والكيفيّة، ما إن ترى أنّ قلبك راضيًا فارجع إليه، وانظر إن لم تر مانعًا فاذهب، أيًّا كان ذلك المكان.

  • الثاني: ضع كلّ الأموال التي تأخذها في جيب واحد، فمثلاً إذا ذهبت إلى مجلس فلا تجعل ماله منفصلاً، بل امزج الجميع معًا، بحيث لا يُعرف من الذي أعطى هذا المبلغ. 

  • ثالثًا: وهذه لم يكن يعمل بها وهي أنّه إذا أخذت مالاً أو هديّة فخذها من خلفك ولا تأت بها إلى الأمام. كان يقول هذه الوصايا. وقد كان جدّنا هكذا حتّى أواخر عمره، رحمة الله عليه، وواقعًا لم يعد هناك من أمثال هؤلاء. أين يمكن أن نبحث ونجد أمثالهم بهذا الخلوص وهذا الصفاء وهذه الكيفيّة؟ 

  • السيّد هاشم الحدّاد وسهولة الدنيا عليه

  • ينقل جدّنا الحاجّ السيّد معين حول كيفيّة سهولة الدنيا على الإنسان فلا يكون ساعيًا إلى طلب الزيادة والوصول إلى الزيادة فيقول ـ وقد سمعت هذه القصّة من أحد الأصدقاء مباشرة ولم ينقلها هو لي، بل نقل لي قصّة مشابهة، يقول أحد الرفقاء: عندما رجع من كربلاء ذهبنا لزيارته وسألناه عن حال السيّد الحدّاد كيف هو؟ فقد كان على ارتباط مع السيّد الحدّاد وكان يتردّد عليه، فهزّ رأسه وتأوّه، وقال: ماذا أقول؟ واقعًا هؤلاء في أيّة حال؟ فماذا أقول أنا واقعًا؟ كان يقول: لقد رأيت منه هذه السنة أمرًا كلّما تذكّرته نسىت نفسي. كان يقول: عندما كنت في كربلاء، عندما كنت أتشرّف بالذهاب إلى الحرم ليلاً، وحين عودتي كنت أشتري شيئًا وآخذه معي، طعامًا مثلاً أو فاكهة أو شيئًا ما من ذلك الدكّان، ولم تكن بيننا كلفة. وفي تلك الليلة طالت زيارتي، أو أنّه صادف يومًا أقفلت فيه المحالّ التجاريّة مبكّرة، فعندما أتيت وجدت الجميع مقفلين، وكان الوقت متأخّرًا. جئت وطرقت الباب، ورغم أنّ المصابيح كانت مطفأة، وكان من المعلوم أنّ السيّد هاشم الحدّاد كان يستريح، رأيت أنّه هو بنفسه جاء وقال: أين كنت يا سيّد معين أين كنت؟ تفضّل لقد كنت أنتظرك، وحتمًا لم تتناول طعامك بعد أليس كذلك؟ أنا أيضًا لم أتناوله بعد! تفضّل واجلس سأجد شيئًا ما. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

6
  • يقول: ذهبت وجلست، وكانت جميع المصابيح مطفأة، فجئت إلى الغرفة العليا التي كانت غرفته، وذهب هو وتأخّر قليلاً. ذهب وأخذ يبحث في المطبخ فلم يعثر على شيء، وكانت هناك علبة فيها بقايا الخبز اليابس التي تبقى على السفرة، فتوضع في الغلية لتعطى في اليوم التالي لهؤلاء المتجوّلين الذين ينادون في الشوارع: خبز يابس! خبز يابس! فتجمع وتقدّم إليه. فوجد في تلك العلبة مقدارًا من الخبز. قال: الشكر لله لقد عثرت على شيء. فأخذه ـ واقعًا عجيب ـ ثمّ ذهب إلى ذلك الوعاء الذي توضع فيه بقايا الخضار بعد تنظيفها، فأخذها وغسلها جيّدًا تحت الماء، ووضعها إلى جانب ذلك الخبز وجاء بها، وقال: تفضّل يا حاج معين بسم الله، تفضّل فأنا أيضًا لم أتناول العشاء. كان يقول: عجيب! أنا واقعًا لا أدري ما هو الشيء الذي كان ينزل من أفواهنا إلى أمعائنا؟! أيّ حكاية كان؟ وإلى الآن لا زلت أبحث عن ذلك الطعم وتلك النكهة. 

  • فانظروا هذا معنى هان عليه الدنيا، لا تظنّوا أنّه كان من أهل الزهد وأمثاله، وإن شاء الله في تتمّة الحديث هناك كلام حول هذا الأمر حتّى لا يتداعى لدى الأصدقاء معنى خاطئ. يعني أخذ الأمور ببساطة. لا أن يأخذوها ببساطة ثمّ يعتذرون. من الأمور التي علينا أن نتركها أيّها الرفقاء هذا الاعتذار المتعارف بعد السفرة وبعد الإطعام، وهو أمر قبيح جدًّا أن نطلب المعذرة أن: العفو لم نكن نعلم، لا يليق بكم! نرجو المعذرة، لم يكن هناك وقت، لم يكن لائقًا بحالكم، لم يكن بالإمكان أكثر من هذا! أو ليتك أخبرتنا قبل هذا. كلّ ذلك هو كفران للنعمة، كلّ ذلك هو كفران للنعمة، بلا تردّد. لماذا نحن نرجو المعذرة؟ أليست هذه النعمة التي على السفرة نعمة الله؟ أليست نعمة الله؟ أفهل هذه النعمة الإلهيّة لا تليق بكم؟! هل هذا صحيح أن يقول الإنسان هذا، يأتي بنعمة لضيف ثمّ يقول: العفو هي لا تليق بكم؟! ما معنى لا تليق بكم؟! ما معنى هذا الكلام؟!

  • لم يحصل ولو لمرّة واحدة في عمري أن خرج مثل هذا الكلام بأيّ نحو. لقد حدث كثيرًا ـ وبالطبع لا مثل قصّة السيّد الحدّاد، كلاّ فلم يحدث لي بهذا النحو، ولكن حدث ما يشبهها، أعلى منه بدرجة أو درجتين ـ وهو أمر يحدث مع الجميع، فلماذا يقول الإنسان لم أكن أعلم أو ما شابه لا ضرورة لذلك. يمكن للإنسان أن يبذل وسعه، فإن لم يتمكّن فلا بأس. قد يأتي ضيف فجأة، تفضّل، يأتي له بالموجود. مرارًا كان يحدث أن يأتي ضيف فجأة، فيطعمه المرحوم العلاّمة الخبز والجبن، نعم الخبز والجبن. لا عفوًا أعتذر! لماذا العذر. هل يجب أن يأتي للضيوف بالأرز والزعفران وطيور الصفرد۱ والدرّاج دائمًا حتّى لا يخجل؟! لا صحّة لهذا. 

    1. طائر لذيذ اللحم يشبه الحجل. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

7
  • بصورة عامّة استقلال نعم الله يعدّ إهانة لله، أن هذه النعمة التي جاءت يختلف لونها، وتلك النعمة أرق وهذه أقسى. تلك أنظف وهذه مثلاً كذا. فلماذا يقول الإنسان مثلاً: أعتذر أنا محرج ولم يتيسّر؟ كلاّ كلّ هذا خطأ وكلّ هذا باطل. وعلى المسلم أن لا يفعل ذلك. إن كان هناك خبز فقط فأت به ولا شيء آخر وانتهى الأمر. الأمر واقعًا هكذا، يعني علينا أن نقبل به، يعني علينا أن نختار هذا الأمر كقاعدة ونقبل به، هذه نكات وأسرار السلوك. 

  • هان عليه الدنيا يعني تصبح عليه سهلة، فلو فرضنا أنّه طرق الباب فارتبك السيّد الحداد أن ماذا سأصنع الآن؟! أيّة مصيبة هذه فليس لدينا شيء؟! ثمّ يريد أن يشقّ على نفسه فهذا سينتهي إلى أمور أخرى. 

  • وإبليس والخلق، لا يعود لهذين صلابة بالنسبة إليه، ولا صعوبة، ولا مشقّة، فإذا هو سهّل الأمر، سيسهل عليه إبليس أيضًا، ويمكنه أن يسيطر عليه ويتغلّب عليه. 

  • تقدّم في الجلسات السابقة للرفقاء والأصدقاء أنّه كيف يمكن لإبليس هذا أن يكون مفيدًا بدلاً من أن يكون خطرًا، حين يعمل الإنسان على منع وساوسه بمحض أن يشعر بها، ويمنع من رسوخها في قلبه، بل يحوّل هذه الوسوسة إلى نقطة ضعف، فلماذا جاءت هذه الوسوسة؟ ما يعني أنّي هنا ضعيف؛ فعليّ أن أقوم بما يقابل ذلك. 

  • ثمّ يقول الإمام عليه السلام: ولا يطلب الدنيا تفاخرًا ولا تكاثرًا. يعيش في الدنيا ولكنّ حياته ليست حياة تفاخر ولا حياة تكاثر. ومنذ القدم كانت هذه المسألة محلّ سؤال عند جميع الناس من الذين يهتمّون بالبعد الإلهيّ في حياتهم وفي منهجهم، أمّا في الفلسفة الماديّة فهي ليست مطروحة أبدًا.

  • التفاخر والتكاثر ثمرة الفلسفة المادّية

  • في الفلسفة الماديّة الوصول إلى مرتبة أعلى وتحصيل رفاهية أكثر والتلذّذ باللذات بأيّ نحو ممكن، فهذه هي آثار الفلسفة الماديّة والاتجّاه الماديّ. ففي الفلسفة الماديّة المحور للإنسان نفسه، ولذّات الإنسان والآثار الوجوديّة للإنسان، لا شأن لها بالآخرين، ولا تهتمّ هذه الفلسفة بالآخرين إلا بمقدار لا يؤدّي إلى الاعتداء والتجاوز على حقوق الآخرين، فلو أنّ إنسانًا عمل في دائرته الخاصّة بنحو لا يعتدي فيه على حقوق الآخرين وحريم الآخرين فلا اعتراض من قبل هذه الفلسفة عليه ولا تتوجّه إليه أيّة مؤاخذة. افترض أنّه يمتلك ملء الأرض ذهبًا وجاره يموت من الجوع، فلن يتوجّه إليه أيّ إشكال. لو كانت لديه كافّة الإمكانات ولكنّ أخاه يتقطّع إربًا إربًا من الفقر فلا شأن له، هذه الفلسفة هي الفلسفة الماديّة. في الفلسفة الماديّة المطروح هو المادّة والإنسان، وذلك الحوار الذي بين المادّة والإنسان هو محور أعمال الإنسان وسلوكه، وما دام لا يعتدي على حقّ الآخر ولو مات، ولو مات ألف إنسان فليموتوا! فنحن لم نعتدِ على حقوقهم، لو شاؤوا لكان لديهم ما لديّ، لو شاؤوا لوصلوا إلى مثل هذه الأمور. هذا هو المطروح في الفلسفة الماديّة. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

8
  • أمّا في الفلسفة الإلهيّة التي محورها حركة الإنسان على أساس رضا الله وانطباق أعماله على رضا الله، وعمل الإنسان في هذه الدنيا هو للوصول إلى الغاية المقصودة، والعمل نفسه ليس مهمًّا، العمل في نفسه ليس مهمًّا، صحّة العمل وصحّة الفعل مرتبطة بكونه في سبيل رضا الله، فإن كانت في هذا المجال فهي ممضاة، وإلاّ فهي مردودة وباطلة. في هذه الفلسفة الإلهيّة المطروح هو كلام الإمام الصادق عليه السلام هذا وأنّه كيف يجب أن لا يكون التفاخر والتكاثر في الدنيا. 

  • الحدّ بين التفاخر والتكاثر والاقتصاد

  • النقطة التي كانت ولا تزال تشغل أفكار الناس دائمًا هي أنّه ما الحدّ الفاصل بين التفاخر و التكاثر وبين الاقتصاد؟ 

  • الاقتصاد يعني الاعتدال، فمعنى الاقتصاد ليس هو القلّة وقلّة الطلب، فهذا ليس اقتصادًا إنّه تقليل. الاقتصاد بمعنى الاعتدال في كلّ مرتبة وفي كلّ فعل وفي كلّ خطوة. فما حدّه وكيف لنا أن نعلم أنّ هذا العمل الذي نقوم به فيه إفراط وتكاثر أو فيه اعتدال؟

  • لقد جرى الحديث حول ذلك وطرحت بعض الأمور، فبعضهم يرون الاعتدال في الزهد، وأنّه كلّما كان الإنسان زاهدًا بالدنيا غير معتن بها فهو أفضل في نظر الشرع، وكلّما كان عديم الاهتمام بالدنيا بمعنى أن يطلب لنفسه الأقلّ فهو عند الله وأولياء الدين أكثر أهميّة. في حين يبدو أنّ الحقّ ربّما يخالف ذلك.

  • لا بدّ من النظر إلى مسألة الاقتصاد والاعتدال على أساس النظرة العقلائيّة والمفهوم العقلاني؛ فطريق كمال الإنسان هو طريق عقلانيّته ومسير معرفته وفهمه. كلّ ما هو راجح في ميزان العقل فهو مورد رضا الله، وكلّ ما له مستند عقلائيّ فهو مورد اهتمام الله وسبب لسير الإنسان وحركته. إنّ السلوك إلى الله وطريق الوصول إلى الكمال هو عبارة أخرى عن الحركة العقلانيّة في هذه الدنيا. يجب أنت تكون حركة الإنسان في هذه الدنيا حركة عقلانيّة، على أساس العقل وعلى أساس المنطق، هذا هو معنى حركة الإنسان. 

  • معنى الدنيا

  • لقد وردت الدنيا في اصطلاح الشرع بمعنيين: 

  • المعنى الأوّل للدنيا هو أنّها العالم الأدنى، أدنى العوالم وأسفلها بين عوالم الوجود التي خلقها الله تعالى. فقد خلق الله تعالى عوالم متفاوتة ومختلفة ومترتّبة بعضها على بعض، ابتداء من عالم الذات الذي هو مرتبة هوهويّة الذات حيث لا شكل ولا كمّ ولا كيف ولا حدّ ولا رتبة ولا شدّة ولا ضعف، وفي سلسلة مراتب الفيض خلق الله عوالم، عوالم مجرّدة، وهكذا كلّ منها أوسع من الآخر ممّا هو دونه، وأشدّ وأقوى وأكثر تجرّدًا، إلى أن يصل إلى هذا العالم، وكلّ واحد من هذه العوالم نسبته إلى العالم الأسفل منه نسبة العلّة إلى معلولها، حتّى نصل إلى هذا العالم، العالم الأسفل والأدنى الذي هو عالم المادّة وعالم الشهادة وعالم الكون والفساد. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

9
  • فإذن هذه الدنيا وفق هذا التحليل هي إحدى مظاهر الخلقة، فكما خلق الله الملكوت وجبرائيل واللاهوت وعالم الملائكة والعقول، هكذا خلق عالم المادّة هذا. ولا يحكم على عالم المادّة هذا بالنقص، ولا يرد على عالم المادّة من حيث قيمته وموقعه في نظام الخلقة أيّ منقصة. فكما أنّ سائر العوالم مخلوقة لله، فكذلك عالم المادّة أيضًا مخلوق لله، الأرض والسماء مخلوقان للّه، الحجر والشجر والحيوان مخلوقة لله، كلّ ما خلق في هذا العالم هو مخلوق لله، وله مقامه الخاصّ. ولا يرد من هذه الجهة أيّ إشكال ومنقصة على هذا العالم. {ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشياطين...}۱ نحن زيّنا السماء الدنيا بالنجوم، فهل يرد على خلق الله هذا إشكال؟ لماذا خلقت السماء الدنيا ولماذا خلقت الدنيا؟ ماذا يرد على ذلك؟ 

  • النقطة المهمّة هنا أنّ هذا الشيطان الذي ظنّ نفسه أرفع من آدم قد اغترّ بماديّة العالم هذه، ورأى أنّ هذا الإنسان الذي يمتلك هذا الشرف، قد خلق من التراب، وتعلّق تلك الروح بالتراب هو السبب في الوصول إلى تلك الرتبة، وفي هذا الأمر أسرار لا يسع المجلس البحث عنها، أن لماذا اختار الله من بين جميع عوالمه المجرّدة التراب لتشريف مقام الخلافة الإلهيّة؟! يعني ليس هناك عالم أدنى من التراب والمادّة في عالم الوجود ضمن سلسلة مراتب الخلقة. فلو لاحظتم هذه المادّة بالنسبة إلى عوالم المثال، فإنّها لا يحسب لها حساب أصلاً. 

  • يقول الإمام الباقر عليه السلام: إنّ عالم المادّة على سعته ـ تلك السعة التي لم يستطيعوا معها إلى الآن الوصول إلى نهاية العالم، وكلّ يوم يضعون فرضيّة ثمّ يبطلونها بعد الاكتشافات الجديدة، إلى أن تبطل جميع هذه الفرضيّات الجديدة كلّها في القريب العاجل. فكلّما قاموا بعمل ليتمكّنوا من حدّ سقف العالم وحسابه، يجدون أنّه لا يمكن الوصول إلى ذلك، إلى درجة أنّهم وصلوا الآن في الاكتشافات الجديدة أن يضبطوا حركات النور التي حصلت قبل مليارات السنين. مليارات السنين الضوئيّة، يعني هناك عدد من هنا إلى كرج للنجوم التي لم يستطيعوا أن يكتشفوها ـ ومع ذلك يقول الإمام الباقر عليه السلام: إنّ هذا العالم بالنسبة إلى عالم المثال ـ هذا العالم الذي نراه في النوم، وهذا العالم الذي ينكشف للبعض في المكاشفات الصوريّة، هذا العالم الذي هو عالم المثل وعالم الصور ـ عظمة عالم المادّة بالنسبة إلى عالم المثال مثل حبّة رمل في صحراء لا نهاية لها. والآن انظروا ماذا هناك؟! عالم المثال ذاك بالنسبة إلى عالم الملكوت كقطرة تقع في محيط، وهذا ليس مزاحًا. وهذه النسبة تستمرّ في مراتب أعلى حتّى تصل إلى عالم الجبروت واللاهوت حيث لا قابليّة للتصوّر، وأعلى من تلك المرتبة حيث لا يوجد بعده عالم، وهو عالم الذات. الإنسان يمكن أن يصل إلى هناك. فلو صرفتم واحدًا من ألف من فرصتكم في الأمور التي يقولها الإمام الصادق عليه السلام لما كانت هناك حاجة إلى صناعة التلسكوب والقمر الصناعي وهذا اللعب بالدمى والألعاب الصبيانيّة وأمثالها، ولن يكون هناك مستوى محدود. 

    1. سورة الملك، الآية ٥. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

10
  • فالله تعالى أعطى مقام الخلافة الإلهيّة لأدنى جميع هذه العوالم الذي هو عالم التراب وعالم الأرض ـ وهذه الكرة الأرضيّة كم هي؟ ـ لأدنى من كلّ ذلك، وهذا هو الذي خدع الشيطان وغرّه، وتصوّر أنّه لا...، ولو كان توحيد الشيطان جيّدًا، ولو كان مدركًا للمسائل التوحيديّة بشكل كامل، ويكمّل نقاط ضعفه، ويصل إلى حقيقة التوحيد، لالتفت إلى أنّه لا فرق في حقيقة التوحيد بين التراب وبين أعلى مرتبة من مراتب الوجود، جاء وفرّق، فأسقطه هذا التفريق إلى الأرض! ولكن لا وجود لهذا الأمر في حقيقة التوحيد، لماذا؟ لأنّ لازم مقام الجمع لله والذي هو سريان حقيقة الهوهويّة في مظاهر الواحديّة يقتضي أن يكون هناك اختلاف بين مراتب الخلقة ومراتب الفيض، ولهذا بحثه المستقل.

  • فإذن بناء على هذا الوضع وهذه الكيفيّة ليس للدنيا أيّ نقص، بل هي مرتبة من مراتب الوجود، فكما أنّ المراتب الأعلى لا نقص فيها، ولكلّ واحد بدوره مقامه الخاصّ بوجوده، فكذلك عالم الدنيا له مقامه الخاصّ. المذموم والذي حذّرنا منه ومن الالتفات إليه والاهتمام به هو التوجّه إلى هذه الدنيا وجعلها أصلاً، وجعلها أساسًا وركيزة لتفكيرنا، هذا ما حذّر منه الإنسان. 

  • خصوصيّة عالم الدنيا والمادّة

  • الوجود في هذه الدنيا هو شرط للوصول إلى الفعليّات التي يجب أن نوصل إليها استعداداتنا. لو لم نكن في هذه الدنيا فإنّ استعداداتنا لن تبلغ الفعليّة، فلو أنّ إنسانًا ما أعطي مثلاً ستّين سنة من الزمان، وقال: أنا لن أقوم في هذه الستين سنة بأيّ عمل، وسأضع يدًا على أخرى، ولن أقوم بوظيفتي، ولكن سأعمل في عالم البرزخ وفي عالم المثال الذي يطول آلاف السنين إلى أن يصل إلى القيامة، فليعلم أنّه لن يتحرّك هناك مقدار مليمتر واحد، الحركة التي على الإنسان أن يقوم بها والتي توصله إلى الكمال.

  • لا أثر لمقدار العمر في الوصول إلى الكمال

  • وليدقّق الرفقاء فإنّ الأمر دقيق، ودقيق جدًّا، وهذا الأمر الذي سأقوله سنلتفت جميعًا إلى آثاره وبركاته التي جعلها الله، وهو أنّه مهما كتب الله لنا في سجلّنا وجعل لنا من الأجل [فلا يختلف الأمر] فلواحد ستّين سنة، ولآخر أربعين، ولثالث مائة سنة، ولرابع خمسمائة سنة، فالناس مختلفون، والأعمار مختلفة: {ولكلّ أمّة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}.۱ عندما يأتي الأجل لا نمهل لحظة واحدة، لا لحظة واحدة بعد، ولا لحظة واحدة قبل ما كتبناه في السجلّ. لو بدّلتَ ألف مستشفى، فلن يتأخّر عمرك بمقدار لحظة واحدة، ولو جمعت كافّة أجهزة إبقاء الحياة التي في الدنيا في هذه الغرفة فإنّك لن تؤخّر مقدار لحظة، بل اللحظة كثير، واحد بالمئة من اللحظة، عمّا كتبناه في هذا السجلّ. وإن شئت فاذهب وجرّب، ليس بالأمر الصعب، اسأل من له اطّلاع، لا أيّ إنسان، أن كم عمري؟ يكون نبيًّا، إمامًا أو وليًّا له إشراف على عالم الملكوت فيقول لك: في اليوم كذا، والساعة كذا، والدقيقة كذا، والثانية كذا، ودوّن ذلك فلا يمكن أن يتأخّر ثانية أو يتقدّم. 

    1. سورة الأعراف، الآية ٣٤. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

11
  • في آخر سنة من حياة المرحوم العلاّمة كنّا في منزله يومًا فرأينا أنّ أحد السادة المراجع جاء من قم إلى مشهد، وقد جاء لزيارة العلاّمة، وأنا كنت جالسًا، فقمت لآتي بشراب أو شيء آخر، فلمّا رجعت وجدت أنّ المرحوم العلاّمة يضحك، ولم أدرك حقيقة الأمر. عندما انتهى الكلام وذهب قال العلامة: أتدري ماذا يقول لي هذا؟ يقول: هل لديك اطّلاع على علوم الرمل والجفر والعلوم العجيبة وهذه الأمور؟ قلت: حسنًا في النهاية ماذا تريد؟ فقال: أريد أن أعرف متى ينتهي عمري؟ جئت لأسألك هل لديك اطّلاع على عمري؟ فقال: أولاً أنا لا اطّلاع لي على هذه الأمور، ثمّ لو فرضنا أنّي أخبرتك أنّك ستعيش إلى سنتين فماذا تريد أن تصنع؟ أتلتفتون؟ فالرفقاء الآن يلتفتون أنّ الأمر كم يختلف وكم هو الفارق؟! ما معنى متى ينتهي عمري؟! غدًا سينتهي! فماذا ستفعل، ماذا؟ تقوم وتلطم على رأسك أم تقوم بالأعمال المتعارفة؟ افترض أنّه بعد أسبوع سينتهي، فإنّك ستقوم بهذه الأعمال نفسها في النهاية، في النهاية ستعاشر الناس وتداريهم، تقوم بعمل الخير، وتطبّق أعمالك على الموازين، وتمتنع عن الإفراط والتكلّف وتنظّم أمورك... [لا أن تقول] بعد سنة! ولله الحمد لا يزال حيًّا، وإن شاء الله أضاف الله مائة عام على عمر هكذا أناس لنرى في النهاية هل يقولون ذلك أيضًا أم لا؟ هل يستمرّون من جديد في السعي إلى... ولكن كلاّ يا عزيزي! لا لهذه الأمور، لا فرق بين ساعة واحدة، وبين مئات الساعات، ومئات السنين! فالأولياء هم هكذا، العارف هكذا: سواء بقي ساعة فإنّه يقضيها وفق القواعد والأسس العقلانيّة وما يرضي الله، سواء قيل لك ستعيش ثلاثمائة سنة أخرى، لو قيل لك ستعيش ثلاثمائة سنة أخرى، فهل ستخرج عن هذا الطريق العقلاني؟ هل ستعمل على التعدّي والجناية؟ هل ستعمل على السرقة والاختلاس؟ هل ستشتغل بالإجحاف؟ هل ستشتغل بالاعتداء على الحقوق؟ لأجل ماذا؟ لماذا؟ لماذا يقوم الإنسان بذلك؟ 

  • كان هناك في العصور السابقة أناس يعيشون ألف سنة. كنت أقرأ في رواية حول عمر النبيّ نوح أنّه عاش ألفي سنة، كان منها ألف سنة فقط بين الناس في الرسالة: {ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عامًا}۱ قضى تسعمائة وخمسين عامًا فقط في الرسالة، ولكن كان عمره حوالي ألف وسبعمائة عام، هكذا كان النبيّ نوح. وكان عمر لقمان أكثر من ألف سنة. وسلمان الفارسي هذا نقل حول عمره من ثلاثمائة وعشرين سنة إلى مائة وثمانين. أكثر من مائة وثمانين سنة، يبدو أنّها مائتين وعشرين، وقد وصل إلى النبيّ في أواخر حياته، وانتقل إلى رحمة الله في خلافة عمر. ناداه عمر فقال: أريد أن أعطيك حكومة إيران أتقبل؟ قال: إن كان مولاي يسمح أقبل، وإلاّ فأنا لا أعتني بكلامك كما تعلم. بكلّ سهولة. قال: اذهب واستجز مولاك عليًّا. فجاء فقال له الإمام: اذهب اذهب إليه ـ فقد كان هؤلاء بسهولة، بكلّ سهولة، ولمّا ذهب إلى الحكومة هناك، هل ذهب برفقة الوفود والصخب والضجيج وآلاف الناس من حوله؟! كان قد ركب حمارًا، وحمل خشبة على كتفه، حمل كيسًا من الخبز اليابس مثل السيّد الحدّاد على كتفه، فقد كان هذا حاكم المدائن، نعم هذا أيضًا كان حاكمًا. فجاء وكان الناس قد اجتمعوا هناك لاستقباله، فالوالي آتٍ إلينا، فلنجمع الناس لتزداد الأبّهة والعظمة، فلنجمعهم، فاجتمعوا فرأوا أنّه لم يأت. ولم يكن في ذلك الزمان فاكس وهاتف وتلفاز، وماذا يدري الناس؟! كان الإنسان يأتي بنفسه على البغل والحمار أو الخيل كلّ بحسب ما يملك. 

    1. سورة العنكبوت، الآية ۱٤. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

12
  • قالوا لسلمان نحن لا زلنا منتظرين هذا الحاكم فقد وصل رسول يخبر أنّه آت. قال: فماذا تريدون منه؟

  • ـ لا شيء نريد استقباله. 

  • ـ افترضوا أنّه أنا. 

  • ـ أنت؟!

  • ـ نعم أنا. أفهل للحاكم قرون؟! ربّما كان له هذه الأيّام قرون، في ذلك الزمان لم تكن له! هل للوالي قرون؟ كلاّ ليس لديه. 

  • ـ حسنًا فلنذهب. 

  • ـ إلى أين؟ 

  • ساروا به نحو مقرّ الوالي. فقال سلمان: هنا؟ هذا المكان لا ينفعنا يا أعزائي! هذا ينفعكم أنتم، أعطوني مسجدًا أذهب إليه حتّى أبني لنفسي غرفة. ثمّ شرع بنفسه بدون عمّال ولا بنّاء، بدأ بنفسه يحمل التراب ويصنع منه لِبنًا. وبنى لنفسه غرفة، ووضع فوقه حصيرًا من السعف وأمثاله، وكان جزء من رجله خارجًا، فقط بمقدار لا تضرب بدنه الشمس. كان هذا حاكم المدائن. يعني حاكم إيران في ذلك الزمان، زمان كسرى ابرويز. المدائن يعني من تيسفون الموجودة الآن قرب بغداد وإيوان كسرى الموجود الآن هناك، هذا المكان كان مركز حكومة سلمان، لا في ذلك الإيوان، بل إلى جانبه، من هناك إلى كرمانشاه وهمدان وإيران وحتّى الأهواز في الجنوب، كلّ هذا كان تحت حكومة هذا الوالي المحترم الذي كان يركب الحمار ويحمل صرّة من الخبز اليابس على كتفه، ويمشي. 

  • أساليب سلمان الفارسي العجيبة في الحكم

  • وقد نقلت يومًا للرفقاء الأعمال التي كان يقوم بها سلمان، حيث لم تكن له حرّاس ولا شرطة فقد نحّى كلّ ذلك. قال لأحدهم: اذهب إلى ذلك المكان في الموضع كذا يوجد كلب كبير، فقل له: يقول لك سلمان: من الليلة فصاعدًا حكومة المدينة إليك، فاحرسها. فذهب وهمس في أذنه فهزّ ذاك رأسه بدوره وقال: حاضر، أعلم ماذا عليّ أن أصنع. ثمّ قال للنّاس اتركوا دكاكينكم مفتوحة، لا داعي لأن تغلق. من أراد أن يغلق فهو إليه. وعند الصباح رأوا جنازة مرميّة هنا، وجنازة هناك، وواحد يصرخ وينوح، فقد فرح السرّاق: عجيب من هو الذي جاء حتّى لا يوجد حتّى حارس؟ ما إن جاؤوا حتّى جاء الكلب وعضّه، هاجمهم ذلك الكلب وانتهى الأمر، فقد فهم الجميع حسابهم. ما إن يحلّ الليل حتّى يأتي هؤلاء الكلاب ويبدؤون بالدوران في الشوارع. فعلى كلّ حال كان هذا نوع من الحكومة، فلنترك هذا. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

13
  • فسلمان هذا قد عمّر ثلاثمائة وعشرين سنة. ومن جهة أخرى فهناك من هو مثلاً كالإمام الجواد عليه السلام، عمّر سبعة وعشرين سنة، فقد كتب لسلمان ثلاثمائة وعشرون سنة وللإمام الجواد سبعة وعشرون سنة، ولسيّد الشهداء عليه السلام سبعة وخمسون سنة، ولإمام الزمان كم كتِب؟ إلى الآن طالت إمامته إلى ما يقارب الألف ومائتي سنة، أو الألف ومائة وخمسة وسبعين سنة. متى يظهر لنتمتّع بتلك الحكومات التي لا يمكن تصوّرها، وتلك العدالات وما أخبرونا به وقد صدقوا بما أخبروا وبشّروا، وإن شاء الله علينا أن نطلب ظهوره وجميعنا علينا أن ننتظر ظهوره، سواء الظاهريّ أو الباطنيّ، فباطن الإمام عليه السلام أيضًا له واقع ويتجلّى للإنسان، وظهوره الظاهريّ واضح ماذا سيحصل خلاله.

  • هذا السجلّ الذي كتبه الله لكلّ إنسان، جعل بمقتضاه وبمقتضى الأجل الذي عيّنه الله ذلك المستوى والحصّة ونصيب الوصول إلى الكمال في هذه الدنيا، فلو أعطى لسلمان مثلاً ثلاثمائة سنة، فإنّ هذه الثلاثمائة وعشرين سنة التي لسلمان لا تختلف عن الأربعين سنة التي تعيّن لآخر. لماذا؟ لأنّ تلك الثلاثمائة وعشرين سنة هي للوصول إلى الكمال، وهذه الأربعون سنة هي للوصول إلى الكمال أيضًا. ولو أعطى لآخر عشر سنوات أيضًا فإنّ تلك السنوات العشر لا تختلف عن الثلاثة آلاف سنة. وهذه نقطة دقيقة جدًّا أن الله تعالى جعل حصة ونصيب كلّ إنسان من هذه الدنيا وفق مصلحته الخاصّة، ونحن لا نعلم. لماذا سلمان ثلاثمائة سنة؟ نحن لا نعلم. لماذا لم يجعل لنا ثمانمائة سنة؟ لا علاقة لنا بذلك. أنت تريد أن تصل في هذه الدنيا إلى الكمال، أنا أوصلك إلى الكمال في الثلاثين من عمرك، فماذا تريد بعد ذلك؟ أنت تريد أن تصل في هذه الدنيا إلى الكمال؟ أنا أوصلك في الخمسين من عمرك فماذا تريد بعد ذلك؟ لا أثر للكثرة والقلّة أبدًا في وصول الاستعدادات إلى الفعليّة، ما يؤثّر هو عبارة عن الاهتمام بما لوحظ للإنسان في هذه المدّة، هذا فقط ما يؤثّر. وتتمّة ذلك ستعوّض في عالم البرزخ وعالم المثال، لا تقولوا: هذه السنوات الأربعون ربّما لا تكفي للوصول إلى الكمال. لا إشكال في ذلك أبدًا، اقض أربعين سنة هنا، فإن وصلت إلى الكمال فبها، وإن لم تصل فستكمل ذلك هناك، ولذلك تختصّ هذه الكرامة من الله تعالى للذين لديهم حركة في مسيرهم التكامليّ إلى الله، ويجعل لهم تتمّة الفعليّات الباقية في هذه الدنيا وتتمّة مسيرهم هناك، وتدلّ على ذلك أيضًا الشواهد. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

14
  • كان المرحوم العلاّمة يقول: الذين يأتون ويخضعون لتربيتنا ومدرستنا ينبغي أن لا يكون لديهم أيّ قلق حول قصر العمر أو طوله. فلو أنّ إنسانًا جاء واقعًا، لا أنّه يخدع نفسه، وهذه المسألة كما ذكرت لا تحتمل المزاح، فلو جاء الإنسان واقعًا إلى هذه المدرسة، وأوكل نفسه إلى الله، وأوكل أموره إلى الله وفق الطريقة التي يقولها الإمام الصادق عليه السلام، ولو يومًا واحدًا ثمّ فارق الدنيا، فكأنّه كان عندنا مائة عام، بلا أيّ فارق، وكامل سيره الكمالي بعد ذلك اليوم سيبدأ في عالم البرزخ، وسيُتولّى أمره. 

  • لقد سمعت مرارًا من المرحوم الوالد في حياته سواء عن أستاذه أو حتّى عنه هو، ولم يكن ينقل هذا الأمر في مكان ما. وبما أنّه الآن فارق الدنيا فإنّي أتحدّث، في ذلك الزمان كنت أخاف منه، فقد كان هناك عقاب وعصى. الآن في النهاية بما أنّ أعيننا لا ترى إلا الظاهر ـ وإلا فإنّ هذه الأمور موجودة الآن أيضًا ـ سأنقل هذا الأمر في النهاية. فقد كان يقول: إذا جاء رفيقنا وسلّم يد البيعة للولاية، ولاية الإمام عليه السلام، وقبل هذا الطريق، فإنّا سنكون معه في الحياة والممات، ونوصله إلى المقصد. وليس هذا الكلام كلامًا بسيطًا، ليس هذا الأمر أمرًا بسيطًا، فقد كان يقول أحيانًا حول رجل ما ـ رجل من الذين قصّروا في مقام السلوك ومات ـ كان يقول: هو الآن لديه مشكلة في ذلك العالم. بينما كان هناك رجل آخر بقي مدّة أربعة أشهر أو أربعة أشهر ونصف، كان قد جاء من أميركا إلى إيران، وكان شابًّا ماهرًا في اختصاصه، وبعد أن جاء بأربعة أشهر وصار من تلامذة المرحوم العلاّمة أصيب فجأة بسكتة قلبيّة وكان في الأربعين تقريبًا أو أقل، وقد شاركت في تشييعه ودفنه عندما كان المرحوم العلاّمة مبتلى بمرض في عينه وأجرى لها عمليّة جراحيّة، وكان في حالة استراحة في المنزل، فقد توفّي في تلك الأيّام. وعندما رجعنا من دفنه قال: رحمه الله كم كان سريعًا فقد جاء لأربعة أشهر وهو الآن يتابع طريقه بسهولة وسرعة، بسرعة من دون مشكلات الدنيا وبدون مشقّات الدنيا وبدون الأزمات والأمراض يتابع طريقه. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

15
  • أحيانًا يعشق الإنسان أن يغادر. يقول: ما دام الأمر هكذا فلماذا نحن في هذه الدنيا، فإمّا مرض، وإمّا مشكلة، وإمّا شدّة وإمّا خبر سيّء وإمّا... ولكن لا، على الإنسان أن يوكل أمره إلى الله. والآن هل فهمتم أيّها الرفقاء أنّ هذه الدنيا أيّ كيمياء هي. ما دام الله قد قرّر لنا هذه الدنيا، فعلينا نحن أن لا نفكّر في تركها، وكذلك علينا أن لا نفكّر في زيادتها. لماذا؟! ألزيادة ألم الرأس؟! 

  • كان المرحوم الأنصاري يقول: لو لم تكن العلاقة معكم أيّها الرفقاء، وهذا الأنس الذي لي معكم لما بقيت في هذه الدنيا لحظة واحدة. فما هذه الدنيا؟! فقد كان هو كثير الابتلاء بالأمراض والمشكلات، أمراض القلب، آلام كثيرة، ثمّ ابتلي بمرض في الدماغ وجلطة في الدماغ وأمثال ذلك. وكان يقول: نحن لذلك العالم، لماذا أنا في هذه الدنيا؟ هذه الحياة هي هكذا، إمّا مرض وإمّا شدّة وإمّا قرض، وإمّا مشكلة أخرى. فقد كانت لديه مشكلات عجيبة واقعًا! عجيبة جدًّا عجيبة جدًّا. هذه هي الحياة الدنيا. 

  • ضرورة استغلال الدنيا بالطريق العقلاني

  • فإذن البقاء في هذه الدنيا هو لأجل الوصول إلى الكمال، وعلى الإنسان أن يعلم أنّ المقدار والمدّة التي جعلت في سجلّه هي المقدار الذي قرّره الله. ولو أمضينا يومًا من هذه المدّة بالبطالة فلن يعوّض في ذلك العالم، نعم يعطونا أشياء أخرى، هناك مواهب أخرى، ولكن مقابل هذا اليوم لن يعطونا شيئًا لن يعطونا أيّ شيء. هل تريدون أن تجرّبوا؟ لا لا تجربوا. الإنسان العاقل يخار دائمًا ذلك الاحتمال الراجح، لا الاحتمال المرجوح، يأخذ ذلك الاحتمال الأرجح، ذلك الشيء الأرجح. هذا عن الدنيا. بناء على ذلك فالشيء الذي يجب أن نلتفت إليه في هذه الدنيا هو الطريق العقلاني، وممشى أعاظم الدين في الحياة في هذه الدنيا وتكميل الاستعدادات، وما هو هذا الطريق؟ هو أنّا رغم وجودنا في الدنيا علينا أن نلتفت أن لا نرتكب عملاً يحرمنا من ذلك النصيب الذي جعله الله لنا، ما هو هذا؟ يقول الإمام عليه السلام: إنّه عبارة عن أنّ الكون في هذه الدنيا لا مشكلة فيه، الكون في هذه الدنيا هو رمز الحياة، رمز الوصول إلى الكمال، رمز الوصول إلى الفعليّة. أنا ـ الإمام الصادق عليه السلام ـ في هذه الدنيا، أنتم أيضًا في هذه الدنيا، والمنصور الدوانيقي أيضًا في هذه الدنيا، نحن جميعًا في هذه الدنيا، وتحت هذه السماء، الكون في هذه الدنيا موهبة إلهيّة جعلها الله لي ليوصلني إلى الكمال. لا شكّ في هذا. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

16
  • الكلام هو في الكيفيّة المطلوبة للوجود في هذه الدنيا، والكيفيّة المطلوبة للحياة في هذه الدنيا، وماذا نصنع حتّى نتمكّن من الاستفادة من عمرنا ومن تلك الإمكانات التي أعطانا الله للوصول إلى ذلك الكمال، هذا هو المهمّ. أن نستفيد ممّا آتانا الله بأفضل نحو وأفضل وجه، ونوصل استعداداتنا إلى الكمال، الميزان والمعيار الذي عيّنوه لنا أن كم نهتمّ بالدنيا وكم نمتنع وهو هذا: التفتوا جيّدًا أيّها الأصدقاء! إنّ ذاك المعيار والميزان والضابط الذي يميّز بين جانبي الإفراط والتفريط هو هذا: هل العمل الذي نقوم به له مستند عقلائي أم لا؟ هذا ما يغدو معيارًا. ومن الآن فصاعدًا كلّ إنسان يعلم كيف يطبّق هذا المبنى على أعماله في هذه الدنيا. نريد أن نشارك في هذا المجلس، فهل للمشاركة فيه مستند عقلائي أم لا؟ عقلائيّ لا تخيليّ ولا اعتباريّ، إن لم أشارك ينزعجون، هذا ليس عقلائيًّا، ينزعجون فلينزعجوا! فلينزعجوا قليلاً هم أيضًا! لماذا فقط نحن من ينزعج دائمًا؟! إن لم أقم بهذا العمل فستوجد مشكلة لاحقًا في علاقاتي، فلتكن. المبنى العقلائي، العقل يعني الميزان والمعيار هو الذي جعله الله تعالى معيارًا وميزانًا للكمال، وهذا الميزان لا وجود له في هذا الخشب، لا وجود له في هذا الجصّ، ونحن بواسطة هذا المعيار والميزان نوجّه مسيرنا نحو الكمال. إن كان عملنا مطابقًا لهذا الميزان والمعيار فهو عمل السالكين، وإلاّ فهو عمل دنيويّ. 

  • كلّ ما تتصوّرته في العلاقات يمكن أن يكون على أساس هذه القاعدة. ومن ذلك على سبيل المثال تناول الطعام. الطعام الذي تأكله، الطعام الذي نأكله على أيّ قاعدة؟ هل على أساس الالتذاذ والأنس، أو على أساس الصحّة والسلامة؟ هذا التفكير الموجود عند البعض كان موجودًا لديّ سابقًا! فعندما قرّرت الانتقال إلى قم كان عمري سبعَ عشرةَ سنة أو ثمانيَ عشرةَ سنة، وكنت أظنّ كالكثيرين أنّ الإنسان لا يحتاج إلى الغذاء، لا حاجة لدى الإنسان إلى هذه الأمور. وكنت قد قلت للوالدة أنّي عازم على الاستقرار في قمّ، فقالت: حسنًا، ماذا ستصنع بطعامك؟ قلت: لا مشكلة، أشتري رغيفًا من خبز السنكك۱، مع نصف كيلو من البصل ليكونا غدائي وعشائي، فصعدت الوالدة إلى الطابق العلويّ عند الوالد، وقالت: أنت تريد أن ترسل هذا المجنون إلى قم لترجع جنازته بعد شهر؟ انظر ماذا يريد أن يصنع هذا؟ فناداني المرحوم العلاّمة إلى الأعلى فقال: ماذا تقول أمّك؟ قلت: لا شيء، ألا توافقون على هذا الأمر؟ فأخذ يوضّح لي: ما هذه الأعمال؟ ما هذا الكلام؟ لقد خلق الله الإنسان على أساس قدرات معيّنة واستعدادات معيّنة، فإذا قصّرنا فنحن مسؤولون! وإذا أفرطنا فنحن مسؤولون أيضًا. لقد خلق الله الإنسان على أساس ظروف معيّنة ولا بدّ من رعايتها، وإذا لم يقم بها الإنسان فسيواجه غدًا ألف مصيبة. 

    1. نوع من الخبز طويل الشكل يخبز في فرن مليئ بالحصى. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

17
  • هل تلتفتون؟! ما أقوله لكم هو لأجل تلك الأمور المخالفة التي يتصوّرها البعض من أنّ الابتعاد عن الدنيا يعني أكل الخبز والبصل! أي الزهد الأحمق والمخالف للطريق العقلائي! فهذا ما يسمّى عندهم بعدًا عن الدنيا! 

  • بدنك مركب لك لا أنت مركب له

  • عندما سافرنا إلى كربلاء وكنّا في خدمة السيّد الحدّاد، قال لي: يا فلان، أنت الآن طالب علم ـ وكان عمري حينها ما يقارب سبعة عشر عامًا ـ لا بدّ أن تهتمّ بطعامك، وإن لم تهتمّ فسيأتي يوم تكون مركبًا لبدنك بدلاً من أن يكون بدنك مركبًا لك ولنفسك وروحك. وهو الذي سيأخذك إلى هذا الجانب وذاك، ويبطل عمرك ويضيعه، فعندما يمرض لا بدّ أن تأخذه إلى هذا الطبيب في ذاك المستشفى، إلى ذلك المختبر، إلى تلك العمليّة. انظروا هو نفسه الذي عندما يذهب إلى المطبخ ليبحث عن شيء يأتي بالخبز والخضار، وعندما يصل إلينا ماذا يقول؟ عليك أن يكون الطعام بحيث يكون بدنك مركبًا لك، لا أن تصنع به صنعًا يجعلك أنت مركبه. فهذا كلام عرفانيّ وعقلائي، وهذا يغدو ملاكًا ومعيارًا. وأنا لم أعمل بهذا الأمر ولم أعمل، كنت في عالم الجهل ولم أكن أرتّب أثرًا، إلى أن ابتليت، ابتليت بمرض في المعدة يجعلني لا أنام الليل حتّى الصباح لحظة واحدة، فالوقت الذي كان يجب أن أجعله للمطالعة والدراسة ماذا حصل به؟ ضاع في الذهاب إلى طهران، ومراجعة هذا الطبيب وذاك، وأخذ الدواء من هنا وهناك، وهنا ليس موجودًا وخذه من هناك، ولا زال إلى الآن، والحمد لله صار خفيفًا جدًّا، وتغيّر الأمر، ولكن آثاره لا زالت باقية. لماذا؟ بسبب مخالفة واحدة، لأيّ شيء؟ ألم يكن الأفضل أن أهتمّ أكثر ولا أرتّب أثرًا على جهالتي، ولا أخضع لإحساساتي، فكلّها تخيّلات. فهذا هو الأساس العقلائي. 

  • الإتقان في العمل والصناعة هو معيار عقلاني إسلامي

  • قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: رحم الله من صنع شيئًا فأتقن. يقوم به بشكل صحيح، بشكل متقن، يكون مستقيمًا في أمور عمله. إذا أراد أن يبني بناء فإنّه يبنيه ملتفتًا إلى الظروف المحيطة مراعيًا شروط الأمان ويبنيه بشكل صحيح وثابت. لا يتزاهد ولا يستخدم أيّ نوع من الموادّ وأيّ نوع من الحديد. لا يتزاهد ويبنيه بأيّة طريقة ويقول نحن في هذه الأيّام الأربعة من الدنيا ونريد أن نبني؟!

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

18
  • لقد حدث مرارًا أن كنّا نذهب برفقة المرحوم العلاّمة إلى أماكن مختلفة وكان اختصاصه فنيًّا، وكان يهتمّ كثيرًا بهذه الأمور، فكان يقول: إنّ بناء عمارة كهذه هو خيانة. انظروا، العارف لا يقول اقض هذه الدنيا بسرعة، يقول: لماذا لم يُستعمل هنا ما كان يجب؟ إنّ صناعة هذه السيّارة خيانة. ذات يوم جاء أحد الأصدقاء ـ الرفيق الشفيق الدكتور سجّادي حفظه الله ـ إلى مشهد وكان يتحدّث حول الصناعات في الخارج مثل أميركا وألمانيا وأوروبا وهذه البلدان التي عملها متقن وصحيح وتامّ في الصناعة، ثمّ أخذ يقارنها بما هو في إيران، في كيفيّة السيارات التي تصنع هنا فكان يقول: هل الإسلام قال أن تصنع هكذا؟! انظروا العارف، العارف الكامل، العارف الذي نعدّه نحن زاهدًا، العارف التي نعدّه معرضًا عن الدنيا، كان يقول: الخيانة عبارة عن ذلك العمل الذي يقوم به الإنسان فيقع الأهل والأطفال بسببه في الخوف والقلق، ثمّ تحدث لهم مشكلة، فهذه خيانة. لا ذلك العمل الذي يقام به في أميركا أو ألمانيا أو غيرهما. السيّارة التي تصنع هناك سيّارة مطابقة لموازين الإسلام. 

  • هل تلتفتون؟ هل عرفتم الآن أين هو الزهد؟ ومن المؤكّد أنّ الاهتمام بالمصاريف الكثيرة وأمثال ذلك ليس صحيحًا، لكنّ السيّارة التي تكون متينة وإذا ركب فيها الأهل والعيال لا يقعون في ظروف غير ملائمة وحوادث مفاجئة لا يعلم الإنسان بها، إذا ركبوها لا يجدون أنفسهم فجأة في واد، ولا تصطدم تلك السيّارة بجبل، ولا تطير عجلتها فجأة إلى تلك الناحية. فهذه السيّارة أينما صنعت هي خيانة، وتلك السيّارة التي إذا ركبها الأهل والأطفال سافروا فيها بأمان واطمئنان هي سيّارة مطابقة للإسلام أينما صنعت ولا تردّد في ذلك أبدًا. تلك العمارة التي تبنى وفق الظروف المحيطة والتوقّعات المطلوبة منها هي مطابقة لموازين الإسلام أينما كانت من الدنيا وتلك العمارة التي تبنى بخيانة ويستفاد فيها من موادّ قليلة من ناحية الأمان، فهذه خيانة وهي عمارة مطابقة للموازين الشيطانيّة أينما كانت. وعلى هذا الأساس فإنّ ما نقوم به في هذا العالم لا بدّ أن يكون على أساس القواعد العقلانيّة ومراعاة الأمور التي تؤدّي إلى نتيجة، فهذه قاعدة سلوكيّة وقاعدة عرفانيّة في العلاقات وفي الأمور الأخرى. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

19
  • لو أنّ إنسانًا يريد أن يدعو إلى منزله عشرةً وأعدّ طعامًا لثلاثين فهذا خطأ هذا إفراط. ولو أنّ إنسانًا يريد أن يدعو عشرة وأعدّ طعامًا لخمسة وهو قادر فهذا خطأ أيضًا. لو أنّ إنسانًا كان يحتاج إلى غرفتين فبنى ثلاثة غرف عبثًا، فهذا خطأ. ولو أنّ إنسانًا يحتاج إلى عشرة غرف وبنى سبعة وعانى من الضيق بسبب هذه الغرف الثلاث فهذا خطأ. القاعدة هي التوقّعات العقلانيّة والأسس العقلانيّة في كيفيّة الحياة. وعلى هذا الأساس تبتني الشؤون المختلفة للنّاس والتي يجعل الإسلام لها أحكامًا مختلفة. 

  • مراعاة الشأنيّة قانون عقلانيّ

  • لماذا يقولون: لا بدّ أن يُعامل كلّ إنسان بمقتضى شأنه؟ فلا يعامل الناس بطريقة واحدة؟ مراعاة الشأن ليست أمرًا خاطئًا، فعندما أخِذَت ابنة حاتم الطائي أخت عديّ بن حاتم وغلبهم جنود الإسلام وأسرهم وجاؤوا بهم إلى المدينة، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لا تتعرّضوا لها، إنّها ابنة كبير قوم، ولها شرف، ولها احترامها بين قومها، ولا بدّ من حفظ شأنها فلا تتعرّضوا لها. رغم كونها أسيرة ولا شكّ في كونها أسيرة ولكنّ لها حقوقًا لا بدّ من رعايتها، ومن حقّها أن تختار مع من تكون. وعندما جيئ ببنات يزدجرد إلى المدينة أراد عمر أن يعاملهنّ كغيرهنّ من الناس، فاستدعي أمير المؤمنين فقال: لأنّهنّ بنات كبير قوم، فلا بدّ أن يكون حسابهنّ مختلفًا، ولا كلام في كونهنّ أسيرات، نحن لن نحرّرهنّ، ولكن علينا أن نترك لهنّ الحريّة في اختيار من يردن. فليست الأمور على منوال واحد ولا تساق بعصا واحدة ولا يعامل الجميع بطريقة واحدة. لماذا ذلك؟ لأنّ مدرسة الإسلام مدرسة توحيديّة، وللموازين الأخلاقيّة والقيم الأخلاقيّة المترتّبة على النفوس مكانها الخاصّ. فالآن ينظر أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذه الشخصيّة، ينظر إلى عزّة هذه الشخصيّة، ينظر إلى تلك الخصوصيّات النفسيّة، لم يأتوا إلى المدينة بأيّ إنسان وجدوه على الطريق، لقد جاؤوا بمن لهنّ ثقافة، لهنّ أخلاق، شؤونهنّ النفسيّة مختلفة عن سائر الناس، وأمير المؤمنين عليه السلام ينظر إلى هذه النفس، لهذه النفس الآن قيمة، ولا بدّ لهذه النفس أن تتكامل، وأن تصل إلى كمالها، وطريق كمالها هو بأن تعطى مكانتها الخاصّة، أن تعطى خصوصيّتها الخاصّة، لا أن تعامل كغيرها وتجعل في مستوى واحد مع غيرها. 

الدنيا: حقيقتها وأهميّتها وكيفيّة العيش فيها

20
  • فمن الأمور المطروحة في الإسلام مسألة الشأنيّة، فلهذا الإنسان هذا الشأن فلا بدّ أن يكون على هذا النحو، ولذاك ذاك الشأن، فلا بدّ أن يكون على ذاك النحو. لقد ذهبنا مرّات ومرّات برفقة المرحوم العلاّمة إلى بعض المنازل فكان يعترض أن لماذا في منزلكم هذا الشيء؟ ولكن عندما كنّا نذهب معه إلى مكان آخر فيسألونه فكان يقول: يجب أن تأتوا بهذا الشيء أنتم، شأنكم يقتضي ذلك، وشأنه لا يقتضيه، فما معنى هذا؟ معناه أنّه من وجهة نظر السالك ومن وجهة نظر العارف ليس مهمًّا أن يكون لديك دنيا، المهمّ هو الاهتمام بالدنيا، هذا هو معنى التفاخر. 

  • يبدو أنّا نطيل كثيرًا، وقد تعب الرفقاء، لقد تعبوا فلا تقولوا لا. 

  • فالتفاخر والتكاثر هما عبارة عن التوجّه إلى الدنيا، لا أن يأخذ من الدنيا نصيبًا. فهناك أمران: تارة يكثر الإنسان الدنيا ـ وبالطبع بقي كلام لم نقله ولم نتحدّث عن التكاثر والتفاخر، واقتصرنا اليوم عن الحديث عن الدنيا وإن شاء الله تتمّة ذلك للجلسة القادمة. ما يريده أئمّة الدين وما هو في طريق الكمال ليس هو تقليل الكثرة وتقليل الاستفادة، فهذا خطأ. المهمّ هو التوجّه إلى الدنيا، وطلب الزيادة، فعلى الإنسان أن يكتفي بذلك المقدار الذي يجب أن يهتمّ به والذي يحتاجه للوصول إلى كماله بما لا يؤدّي إلى تشويش الخاطر والقلق الفكريّ والانشغال الذهني ولا يسبّب التوقّف في مسيره، وهذا جار في كلّ شيء، في السيّارة والمنزل والطعام والعلاقات مع الآخرين، وفي الزواج والأمور المرتبطة بالعمل والكسب، في جميع الأمور التي هي أساس للإنسان، الحركة نحو الكمال والتي ليس فيها توقّف هي الأساس. 

  • إن شاء الله تتمّة الكلام للجلسة القادمة. نسأل الله أن يطلعنا على وظائفنا ويعطينا رؤية ويوفّقنا للاستفادة القصوى من الاستعدادات والنعم الإلهيّة. 

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.