108

التفاخر بالعلم والهداية

2854
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتكاثر والتفاخر

جلسات المجموعة(4 جلسة)

التوضيح

لماذا يكون النبيّ سليمان آخر نبيّ يدخل الجنّة؟
ما معنى الجنّة والتأخّر في الدخول إليها؟
ما أثر العلم على التفاخر؟ وما معنى مزج العلم بالحلم؟
وما هي الآداب التوحيديّة لأهل العلم؟
هل يمكن أن يفتخر الإنسان بالهداية وكيف يعالج ذلك؟
يجيب سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني عن هذه الأسئلة ضمن شرحه لحديث عنوان البصري فقرة ولا يطلب الدنيا تفاخرًا.
/۲۳
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

التفاخر بالعلم والهداية

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • التفاخر بالعلم والهداية

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۰۸

  •  

  • ألقاها:

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

التفاخر بالعلم والهداية

2
  •  

  •  

  • أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم

  • بسم اللـه الرحمن الرحيم

  • الحمد لله ربّ العالمين

  • والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد

  • وعلى آله الطيبين الطاهرين

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • تحدّثنا في الجلسات السابقة حول هذه الفقرة من حديث عنوان التي يقول فيها الإمام: ولا يطلب الدنيا تفاخرًا ولا تكاثرًا. 

  • خفاء مشكلات النفس حتى على صاحبها

  • وقد تحدّثنا حو ل مسألة التفاخر، وقلنا إنّ حقيقة كافّة ما يناله الإنسان في هذه الدنيا وفي ذلك العالم هي بفضل الله وعنايته، ولا يمكن لأحد أن يتصوّر هذا الأمر لنفسه بمقدار رأس إبرة، وأن يعدّ ذلك من عند نفسه، وبقدر ما نوفّق في توجيه هذا الأمر وتطبيقه نكون قد نجحنا، وبقدر ما يكون هذا الأمر باهتًا عندنا، وفاقدًا للوضوح وللرونق، وإن كنّا في التظاهر أمام الناس نظهر بنحو آخر، وفي علاقتنا مع الناس نكون بطريقة أخرى، وفي كلامنا ننسب الأمور إلى الله، ونعدّ التوفيق منه، ونعتبرها منه، بحيث يكون هذا الكلام حاكيًا عن حالة التواضع أمام الناس، وحاكيًا عن النفس المتواضعة الخاضعة أمام العنايات الإلهيّة، ولكن في الباطن نطوي المسير المخالف تمامًا للظاهر، فنرى الحركات والتوفيقات التي تحصل لنا ولغيرنا من النفس. 

  • هذه النفس أيضًا عجيبة جدًّا، عجيبة جدًّا! ففي بعض الموارد تقلب الأمر حتّى على الإنسان نفسه وتجعله مختلطًا، فيكون الأمر مخفيًّا بطريقة لا يمكن للنفس أن تكتشفه إلا بالعناية الإلهيّة في ظروف مختلفة، وأن يلتفت إلى هذا الأمر في الظروف المختلفة ويلفت الله نظره، فحتّى هو نفسه لا يدرك ولا يعلم أنّ ما يجري في الباطن وفي النفس هو تمامًا مخالف للظاهر ولما يواجه به الناس، حتّى مخالف لفكره هو. فهو في تفكيره ينسب الأمور إلى الله بحسب الظاهر، ولكنّ النفس في الواقع تسير خلاف ذلك تمامًا. وفجأة يأتي امتحان فتتبدّل الأمور كلّها! فلو كان يسير في ذلك الطريق فلماذا تتبدّل الأمور؟ لماذا تسقط السماء على الأرض؟! لماذا يقع زلزال وصاعقة في الأرض؟! ألم تكن ترى الأمور من الله؟! حسنًا فالله تارة تتعلّق مشيئته بهذا الجانب وتارة بذاك! 

  • كانت هناك حروب سابقًا بين الدول، هذا يقول لذاك: فوق عينك حاجب، فتقع بينهما مشكلة! وذاك يقول لهذا: قبّعتك هكذا فتقع بينهما معركة! وجميع هذه المشكلات والحروب والمعارك وسفك الدماء كانت على أساس النفس والأمور النفسيّة في النهاية! ففي غزو المغول لإيران ماذا كانت حقيقة الأمر؟! فقد جاء عدد من هناك ليقيموا علاقات كسفارة، ولكنّ ذلك الشاه العديم الكفاءة والفهم لم يعتن بهم وقال: أصلاً من هم هؤلاء ليأتوا إلى إيران وخوارزم؟! فقتلهم. فأرسل ملك المغول رجلين آخرين يستفسران أن لماذا فعلت ذلك؟! فأعدمهما أيضًا. فقال: ما دام الأمر كذلك فإنّا نهاجمهم! فجميع الجرائم التي حصلت في إيران أيّام المغول كانت بسبب هذا الأمر النفسيّ! لم يكن هناك شيء! فهذا دخل من نافذة النفس والنفسانيّات وذاك الذي أراد أن ينتقم أيضًا! 

التفاخر بالعلم والهداية

3
  • كافّة القضايا كانت على هذا الأساس، لقد دمّروا إيران وأبادوها لأجل أمورهم النفسيّة. عندما تبرز النفس فلا يمكن لشيء أن يقف أمامها، الكلام هنا! 

  • فهذه النفس توجد شبهة حتّى للإنسان، فالإنسان في الباطن يسير في الخطأ وفي الفكر وربّما في التظاهر مع الناس ينسب الأمور إلى الله، يتحدّث عن الله، يرى التوفيق من الله، والجميع يتصوّرون أنّ الأمر هكذا، ويقولون كم هذا الإنسان متديّن ومتواضع. ولكنّ أهل الخبرة وأهل المعرفة يعلمون أين المشكلة في الأمر. لذلك فإنّ الأعاظم وأولياء الله يرون الإنسان غير مستغنٍ عن اتّباع عارف كامل وأستاذ أو ـ عند فقد العارف ووليّ الله ـ فرد خبير لديه اطّلاع إلى حدّ ما على الأمور. فالمسائل تشتبه على الإنسان بحيث إنّه لو جلس عشر سنوات وعشرين سنة يفكّر فلا يدرك أين هي المشكلة في الأمر! أين هي المشكلة! 

  • لماذا يكون النبيّ سليمان آخر نبيّ يدخل الجنّة؟

  • في قصّة النبيّ سليمان على نبيّنا وآله وعليه السلام التي تقدّمت في الجلسة السابقة يبدو أنّ الأمر لم يتّضح في النهاية كما يستحقّ. فسأتحدّث حول ذلك بضع كلمات لننتقل إلى الموضوع التالي. 

  • تقدّم أنّ لدينا رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يقول فيها إنّ النبيّ سليمان يوم القيامة يدخل الجنّة آخر داخل من الأنبياء۱ ، ففي ذلك الصفّ الذي يدخل الجنّة يسبق الأنبياء النبيّ سليمان، وذلك بسبب ذلك الملك والسلطنة اللتين آتاه الله إيّاهما في الدنيا. فللوهلة الأولى يطرح سؤال وإشكال: ما دما نرى أنّ الأنبياء من ناحية الله وأفعالهم وأقوالهم حاكية عن مقام مشيئة الحقّ وتقديره وإرادته فمن أيّ باب نشأت قلّة اللطف ـ فلنسمّه بهذا الاسم الآن ـ وقلّة الاهتمام بالنبيّ سليمان؟! فهو لم يكن يريد الملك لنفسه، لقد أراده لإقامة العدل وأثبت أيضًا ذلك، لا أنّه في مقام الكلام قال نحن نصنع كذا! ونقوم بكذا! وعندما يصل إلى مقام العمل يلتفت الإنسان أنّه لم يكن يختلف بشيء عن سائر المواضع وسائر الأمور الماضية والآتية! كلاّ! بل أثبت الأمر: {قال ربّ اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي إنّك أنت الوهّاب}٢ فهذا الطلب الذي يطلبه النبيّ سليمان هو لأجل إقامة العدل أم لكي يرى نفسه متسلّطة على الجميع؟

    1. بحار الأنوار، ج٦٩ ص ٥٣: عن عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : إن آخر الأنبياء دخولا إلى الجنة سليمان عليه السلام ، وذلك لما أعطي من الدنيا. 
      الدرّ المنثور، ج٥، ص ٣۱٥: وزعموا أن سليمان عليه السلام يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين سنة لما أعطى من الملك في الدنيا
    2. سورة ص، الآية ٣٥. 

التفاخر بالعلم والهداية

4
  • هارون الرشيد وتلذّذه بسعة ملكه

  • هارون كان يتكلّم بهذا الكلام كما ذكرنا فقد كان يقول للشمس: أشرقي حيث شئتِ فإنّك لن تخرجي عن ملكي! وكان يقول للسحب: أمطري حيث شئتِ فإنّك في حكومتي! فهو إذ يجلس على عرش الملك ويلقي بموسى بن جعفر والولي الحيّ وإمام الزمان في السجن فلماذا كان يفعل ذلك؟ لكي يرى نفسه متسلّطة على جميع النفوس، يعني مجرّد أن يراها متسلّطة! وإلا فكم ستأكل؟! وكم ستنال من اللذات وسائر الملذّات؟! فلكلّ شيء حدّ في النهاية! فالإنسان لا يأكل حتّى ينفجر! فلو أردت أن تأكل مقدار أكل حيوان، مقدار بقرة مثلاً تأكل عشرين منًّا فإنّك لن تأكل أكثر من ذلك! فلماذا تقول للسحاب أمطري حيث شئت؟! ما معنى ذلك؟! لو وضعوا أمامك عشرين منًّا من التبن، عشرين منًّا من الطعام فبماذا يختلف الأمر؟! فلماذا الباقي؟! أو مثلاً الاهتمام بسائر الملذّات فكم يقدر الإنسان؟! هذا فضلاً عن أنّ النفس لا ترى لذّتها في هذه الأمور. يمكن لإنسان من جمهور الناس أن يكون أكثر لذّة من هؤلاء، شابّ في سنوات الشباب سكران بكأس الشباب وبعنفوان الشباب ونشاطه، ولا يرى مانعًا ورادعًا ومشقّة ومنعًا من تقضية أوقات الحياة ومن الحياة الدنيا حتّى لو أعطي ملك الدنيا فإنّه لا يقبل.

  • دقّقوا جيّدًا أيّها الرفقاء! الأمر مهمّ جدًّا! أن كيف يأتي الشيطان ويخلط الأمر على الإنسان. فالأمر عند هارون لم يكن لذّات ظاهريّة، اللذات الظاهريّة لها حدّ، فالأربع وعشرون ساعة لا تصبح مائتي ساعة! في النهاية هذه الأرض تعود إلى مكانها بعد أربع وعشرين ساعة. لنفترض أنّك تقضي أربعًا وعشرين ساعة باللهو ففي النهاية ستعود الأمور إلى ما كانت عليه! ألا يفعل ذلك الآخرون؟ أم فقط يختصّ الأمر بك؟! 

  • كن سيّد نفسك!

  • أو مثلاً عمر الذي كان يتظاهر بين الناس بالزهد والتقوى وأكل الخلّ والخبز اليابس وأمثال ذلك، فأيّ لذّة سبّبت له هذه الحياة الدنيا بحيث يكون حاضرًا أن يقطّع إربًا إربًا أشرف مخلوقات الدنيا حتّى يصل إلى ملكه، فأيّ لذّة هذه؟! إنّها لذّة الاستيلاء والسيطرة، فأنا من يخضع لسلطاني، أنا من يحكم هؤلاء الناس، على هذه المدينة وعلى تلك، على هذا البلد، وعلى ذاك، أنا من يفعل ذلك، فهذه لذّة لا تقارن مع لذّة أخرى في هذه الدنيا، إنّها سيطرة النفس واستيلاؤها... فليتصوّر الإنسان كم من الحماقة يحتاج حتّى يبعد عن نفسه الملذّات ويجعل الدنيا لنفسه مرّة ودائمًا يضرب رأس هذا ورأس ذاك، حتّى يقول في النهاية: أنا رئيس. فلا تفعل هذه الأمور! اجلس في بيتك! لماذا تضرب هذا وذاك، لماذا تفعل هكذا وهكذا لهذا وذاك؟ نعم؟! اجلس في مكانك وعش حياتك أنت! وقم بأعمالك الخاصّة! كن سيّد نفسك! كن حرًّا! لا تأخذ أمراً من أحد ولا تعط أمرًا لأحد! كن حرًّا كن طليقًا! ولكنّ الشيطان يأتي إلى الإنسان ويظهر له نقاط الضعف ويلقيه في مسير لا يعرف فيه حتّى مصالحه. المصلحة هي أن تكون مرتاحًا! المرتاح حرّ، هل هناك أرفع من ذلك؟! لا يأمر أحدًا، ولا يأتمر من أحد. هو لنفسه، هو سيّد نفسه. 

التفاخر بالعلم والهداية

5
  • لقاء طريف

  • ذات يوم كنت مع المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه عندما تشرّف بالمجيء إلى قم، وذلك في السنوات الأخيرة من حياته، جاء من مشهد، وذهبنا للقاء أحد العلماء، وكان لديه مجلس واعتبارات وشؤون وخصوصيّات وكلام يختلف عمّا كان عليه في السابق وصار أكثر رسميّة، فقد كانت في السابق أحوال صميمة وأخويّة ثمّ صارت هكذا: كيف حال جنابكم الرفيع؟! وإن شاء الله متنعّمون بالسلامة؟! وكلام من هذا القبيل، وأنا في قلبي كنت أضحك ـ كما هي العادة عملي هو الضحك! ـ مضت مدّة فقلت في النهاية إنّ الوالد سيقول شيئًا في النهاية ولن يدع الأمر يمضي هكذا. وبعد قليل التفت إليه ذلك العالم وقال: ماذا يصنع جنابكم الرفيع في مشهد؟ بماذا أنتم مشغولون هناك؟ فقال له: لا زلت "أحمد" ذاك الذي لا ينصرف والذي لا يؤثّر عليه "على" بالجرّ ـ الإخوة الطلاّب يدركون ماذا أقول ـ يعني أنا ذاك الإنسان السابق الذي لا تؤثّر عليه المقامات والأمر والنهي! ولكنّ هذا الرجل لم يلتفت! فقال: نعم! نعم! إن شاء الله موفقون. أصلاً لم يدرك مراد العلاّمة وماذا يقول له! بعد سبعين سنة يقول: لا زلت "أحمد" ذاك الذي لا ينصرف والذي لا يؤثّر عليه "على" بالجرّ، يعني أنّ هذه المقامات وهذه الاعتبارات وتأليف الكتب والمريدين وهذا الصيت والشهرة لم تؤثّر عليّ ولم يختلف حالي عمّا كنت عليه عندما كنت ابن عشرين سنة. هذا هو السيّد! الإنسان الذي هو لنفسه سيّد. لا يأمر أحدًا، ولا يطلب أمرًا من أحد. الأمر واضح، والأحوال واضحة، ويوضّح أنّ الأمر هو هكذا، يعني ليس هناك تظاهر وليس الأمر مخالفًا للواقع.

  • هنا تأتي النفس وتبتعد شيئًا فشيئًا في الباطن عن الحقيقة وتبني بينها وبين المبدأ مثل جدار الصين، وبصورة عامّة المسافة هي بنحو يجعله كلّما ابتعد رأى أنّه يقترب! يعني هو يبتعد ولكنّه يرى نفسه قريبًا! وإن لم يوفّقه الله، يحدث له عللاً وعوامل تجعله يغرق أكثر في ورطة الهلاك هذه، ولا بدّ أن يدرك الله الإنسان، وعلى الإنسان أن يلتفت إلى هذه التنبّهات والتذكّرات والعقوبات التي تأتي أحيانًا من قبل الله وتصطدم بالإنسان وتنبّهه، وعليه أن يكون شاكرًا جدًّا على ذلك، ومقدّرًا له، فما إن ينحرف قليلاً يأتيه فجأة تنبيه يعيده. ثمّ من جديد يتقدّم ويريد أن ينصرف فيأتيه شيء جديد يعيده إلى مكانه. وهكذا وإلاّ لو تركه لذهب في ذاك الاتّجاه، الطريق من هنا، وهو يسير من هناك، يسير في هذا الاتّجاه.

التفاخر بالعلم والهداية

6
  • معنى الجنّة والتأخّر في الدخول إلىها

  • أمّا بالنسبة إلى النبيّ سليمان فلماذا كان الأمر هكذا؟ لماذا كان هكذا؟ لماذا لا بدّ أن تكون هذه الحكومة التي هي من أجل العدل وإقامة العدل، لماذا لا بدّ أن تكون بنحو يجعل العناية فيه من ناحية الله أقلّ ويدخل الجنّة متأخّرًا؟! الدخول إلى الجنّة متأخّرًا لا يعني أنّ الجنّة لها باب واحد ثمّ يقف الناس بالصف! فذاك العالم ليس عالم التزاحم، فلو كانوا مائة مليون فإنّهم يمكن أن يدخلوا دفعة واحدة، ليس هناك صفّ مثل صفّ أفران الخبز۱، أو صفّ البنك ينتظرون حتّى تصل أدوارهم الواحد تلو الآخر. إنّ دخول الناس إلى الجنّة يعني مواجتهتم لحريم الله ومناجاته والاقتران بأنسه، وبمقدار القرب الذي كسبه في الدنيا يمكنه أن يطوي هذه المرحلة أسرع، وبمقدار ما كان متأخّرًا فإنّه يحتاج في الورود إلى ذلك الحريم إلى طيّ مراحل، هذا معنى التأخير.

  • لماذا لا يتأخّر النبيّ داوود وبقيّة الله عليهما السلام أيضًا؟

  • لماذا الأمر هكذا؟ يمكن أن نبرّر هذا الأمر بنحو ما، وهو أنّ هذا الأمر بنفسه حاصل بالنسبة إلى بقيّة الله وبالنسبة إلى النبيّ داوود فكيف كانت مملكته وسلطانه هو أيضًا؟ أو الإمام بقيّة الله الذي تنطوي تحت حكومته الكرة الأرضيّة كلّها، ولكن لماذا لا يحصل هذا الأمر بالنسبة إليه؟ ألن يؤسّس الإمام حكومة؟! ألن يحكم الكرة الأرضيّة كلّها؟ يعني ألا يقيم ذلك العدل الإلهيّ كما يرضاه اللهُ ويمضيه؟! يعني أنّ الله يمضي حكومة إمام الزمان بهذا النحو بحيث لا يتخطّى عن إرادة الله ومشيئته في إيجاد هذه الحكومة وإقرارها، هذا العمل هو عمل إمام الزمان فحسب. لماذا ليس هناك أمر كهذا بالنسبة إلى إمام الزمان؟ لأنّ الإمام عليه السلام لا يخطر في باله حتّى إرادة إيجاد العدالة، الإمام عليه السلام مجرٍ للإرادة والتقدير والمشيئة الإلهيّة، وليس مقترحًا ولا مخطّطًا. وإن كان الاقتراح والتخطيط إلهيّين. إمام الزمان عليه السلام بما هو مجرّد إنسان مطيع ومجرٍ للإرادة الإلهيّة منتظر الآن، فلو سألنا الإمام الآن هل تطلب من الله تعجيل الفرج؟ فإنّه يقول: أنا أيضًا كواحد منكم، أنتم ادعوا وأنا أيضًا أدعو. أنا لا أريد شيئًا زائدًا عليكم. فكما نحن ندعو الله أن يعجّل الفرج فإمام الزمان أيضًا كذلك. لا أنّ الإمام هنا يميل قلبه إلى هذا الأمر، فهذا أمران. وإن كانت المسألة مسألة إلهيّة فالإمام لا يريد أن يأتي بحكومة شدّاد وفرعون، لا يريد أن يأتي بحكومة هارون والمنصور الدوانيقي، بأيّ حكومة يريد أن يأتي؟ الإمام يريد أن يأتي بحكومة يسير فيها الذئب كما في الروايات إلى جانب النجعة فلا يتعرّض لها، يأتي بهذه الحكومة! يعني حكومة لها أثر تكوينيّ حتّى على الحيوانات لا فقط على الإنسان. لو أنّ إنسانًا سار من مدينة إلى أخرى وعلى رأسه طبق من الجواهر فلا أحد ينظر أصلاً ماذا فيه. 

    1. جرت العادة في إيران بأن يشتري الناس خبزهم طازجًا من الفرن، ولذلك فهم يصطفّون في داخل الأفران في الصباح والمساء. 

التفاخر بالعلم والهداية

7
  • في ظلّ هذه الحكومة فإنّ تلك الولاية التكوينيّة تسبّب تأثيرًا في الولاية التشريعيّة من أجل تربية الناس نحو الكمال، يعني إيجاد الأمان والعدالة الواقعيّة، بحيث لا يخطر في مخيّلة أحد أيّ مانع من الوصول إلى الكمال، حتّى خطوره! فإمام الزمان يهطل بالنعم بحيث تطمر رؤسنا، نقول: لا ندري أيّها نأخذ، لا ندري ماذا نصنع! لا أن نهدر ثلاثين سنة من عمرنا للوصول إلى أمر ثمّ في النهاية نرجع خائبين خاسرين صفر اليدين لا ليس كذلك! الحكومة التي لها أثر تكوينيّ حتّى على الحيوانات، القطيع يمشي من هنا، والذئب يسير في طريقه من هنا، فقد قدّر الله له رزقه من مكان آخر. هل يمكن أن يقال إنّ في نفس هذا الإمام إرادة لتشكيل هذه الحكومة؟! هذا المقدار من الإرادة أيضًا لا وجود له في نفس الإمام. 

  • نقول عجيب! كيف يمكن ذلك؟! فهذه حكومة إلهيّة! لا بدّ أن يقدم عليها الإنسان! أليس لدينا أدلّة، فكلّ هذه الأدلّة التي لدينا لإقامة العدل ورفع الظلم، ولكن هذه الأدلّة لا بدّ أن تطبّق بيد من؟! هذا هو المهمّ! في كتبنا أيضًا هناك الكثير من الأمور حول الطبّ، هناك مستندات ومراجع كثيرة، ولكن هل يمكنك أن تأتي ببعض الكتب وتعاين مريضًا واحدًا؟! لا بدّ أن يقرأ هذه الكتب إنسان هو بنفسه مطّلع، ولا يمكن لأيّ إنسان أن يقوم بذلك! الأدلّة على تحقيق العدل ورفع الظلم كثيرة إلى ما شاء الله، ولكنّ الكلام هو في المصداق الذي يمكنه أن يطبّق هذه الأدلّة. من هو الذي يمكنه أن يؤسّس الطريقة التي يريدها الإمام الصادق عليه السلام وفي أيّ مرحلة ينبغي أن يكون، وإلى أيّ المراتب ينبغي أن يكون قد وصل؟ هنا الكلام وإلاّ فالأدلّة إلى ما شاء الله. هنا الإمام هو الوحيد الذي يستطيع أن يحقّق تلك العدالة الإلهيّة وتلك الحكومة التي كأنّ الله بنفسه جاء بصورة بشر إلى هذا الدنيا وبيّن هذا الأمر. فقط إمام الزمان عليه السلام وفقط. إذا تنزّلنا عن الإمام فوليّ الله الكامل العارف الواصل يمكنه أن يقوم بذلك. والآن الحديث كان حول النبيّ سليمان، يعني لم يقل الله للنبيّ سليمان أن تعال سأعطيك الملك والحكم، بل هو طلب وقال: {ربّ اغفر لي وهب لي...} يكون جالسًا في البيت مثل مالك الأشتر وهو لا يريد أن يذهب إلى مكان، ولكنّ أمير المؤمنين يرسله، قم يا مالك وامض إلى مصر، قم وامض إلى ذاك المكان. وتارة أخرى يختلف الأمر ـ نعوذ بالله نعوذ بالله لا نريد أن نقارن بالنبيّ سليمان، فطلحة والزبير كان مبدؤهما مبدأ خاطئًا، ومرتكزًا إلى الفساد والفسق كلاّ فطلحة والزبير يأتيان منتصف الليل إلى أمير المؤمنين أن آتنا نصيبنا، فماذا يقول الإمام؟ لم يكن بحسب الظاهر في قلوبهم شيء ـ يجيبهم اذهبا إلى بيوتكما وكونا جليسا بيوتكما، إن رأيت من المصلحة أرسل إليكما، وإن لم أر من المصلحة فقوما بوظائفكما! صحيح؟! هكذا كان الأمر في النهاية. ولكنّ مالكًا لم يكن هكذا، كان مالك جالسًا في بيته، ومن جهة أخرى لم يكن يريد أن يغادر، لم يكن يريد أن يترك أمير المؤمنين والكوفة، كان يريد أن يبقى دائمًا عند أمير المؤمنين! فالأعمى ماذا يريد من الله؟ ماذا يريد؟ عندما يكون أمير المؤمنين وأنت تراه كلّ يوم، فإلى أين تريد أن تذهب؟! أتريد أن تذهب إلى مصر لتحكمها؟ أتريد أن تذهب إلى البصرة؟ أنت مسكين جدًّا، أتريد أن تذهب إلى إيران لتحكمها فأنت تعيس جدًّا! أمير المؤمنين إلى جانبك، يمكنك أن تصلّي الظهر خلفه جماعة، ويمكنك أن تأتي في الصباح وتصلّي، فلأيّ شيء تريد الحكومة؟ لقد كان مالك هكذا، أصحاب أمير المؤمنين الخواصّ هكذا، سلمان الفارسي هكذا كان. 

التفاخر بالعلم والهداية

8
  • لقد ذكرت في الجلسة السابقة أنّه عندما قال له عمر اذهب قال أنا لا أذهب بأمرك! إنْ أمَرَ مولاي أذهب، وإن لم يأمر فلا أذهب، لا شأن لي بك! لقد قال صريحًا أمام الجميع: الإمام. ولنفسه قال: الإمام. جاء إلى أمير المؤمنين وقال له: ماذا يقول هذا؟ يقول: اذهب إلى المدائن.فقال الإمام: اذهب! 

  • كيف كان هذا النحو ؟ بهذه الطريقة؟ وماذا كان؟ لكنّ النبيّ سليمان لم يكن كذلك! النبيّ سليمان أراد إقامة العدل في الدنيا، ولكنّه كان صاحب اقتراح لا منفّذًا له. فقال له الله: حسنًا! أنت نبيّ وتقيم العدل، فهذا العمل حسن جدًّا، فقم به، ولكنّا سنؤخّرك قليلاً في ذلك العالم، هذا القليل من التأخير هو لأجل ذلك. هذا الطريق هو طريق أهل البيت أيّها الإخوة! مدرسة أهل البيت تحفظ الإنسان سيّدًا في الدنيا والآخرة معًا، ففي الدنيا هو سيّد لنفسه تحت ظلّ ولاية أهل البيت. هذا هو الأمر المرتبط بهذه المسألة. 

  • العلم والتفاخر

  • من الموارد التي يمكن كثيرًا أن تسبّب الخلط والاشتباه والانحراف للإنسان مسألة العلم، وقد أكّد أعاظم الطريق والعرفاء على مسألة العلم ونبّهوا عليها في كتبهم وكلماتهم، فالعلم في حدّ نفسه يسبّب التكبّر، العلم بنفسه يسبّب الكبرياء والفخر، وهذا الأمر أكثر من المال وأكثر من الجمال، ومن الأمور الجذّابة الأخرى، فالعالم يرى نفسه أرفع من الناس، يشعر نحو الآخرين بالأنانيّة ومحوريّة الذات، في أيّ فرع كان فالأمر لا يختلف. العلم في حدّ نفسه يجعل النفس في لذّة كاذبة، وهذه اللذة الكاذبة تسبّب الأنانيّة ومحوريّة الذات في العلاقة مع الآخرين وسائر الناس. فإذا حصل هذا الأمر في الأمور الإلهيّة والدينيّة فبلحاظ أهميّة الأمر تظهر لها أبعاد أوسع وأكثر. لذلك كان الأعاظم [يؤكدون على الأمر]، وكذلك لدينا في الروايات حول أوصاف المؤمنين أنّ أمير المؤمنين يقول: يمزج العلم بالحلم.۱ ولدينا روايات أخرى أيضًا أنّ على العالم دائمًا أن يتمتّع بالحلم والتحمّل إلى جانب العلم، فالعالم عادة ليست لديه طاقة على الكلام مع الناس كثيرًا! إذا شعر أنّ هناك إنسان لا قيمة له مثلاً ويريد أن يسأله سؤالاً فإنّه يردّه بنحو من الأنحاء، أمّا لو كان العلم توأمًا مع الحلم، بحيث يرى هذا العلم من عالم الواقع وحقيقة نفسه، فسيظهر الحلم والصبر في مكانه شاء أم أبى. فعندما يتعامل مع الناس، يشعر أنّه خارج تلك السعة و المدركات والعلوم والإمكانات، وكأنّه يتعامل مع إنسان يجعل نفسه مثله. 

    1. بحار الأنوار، ج٦٤، ص ٣٤٤. 

التفاخر بالعلم والهداية

9
  • كيف كان رسول الله عندما كان يتحدّث مع أحد؟ وقد نقل ابن سينا في أحوال العرفاء هذا الأمر حيث يقول: من خصوصيّات العارف أنّه يبجّل الصغير كما يبجّل الكبير۱ التبجيل يعني الاحترام، يحترم الصغير ويحسب له حسابًا ولا ينظر إليه كصغير، لا أنّه مهما قال وأيّ سؤال سأل نمضي بنحو من الأنحاء ولا نلتفت. كما يتعاطى مع الكبير يتعاطى معه؛ لأنّه يشعر أنّ كليهما في رتبة واحدة، فأولاً هو لا يرجّح نفسه عليه بالنسبة إلى القرب والأنس مع الله، فلا يشعر بفارق بينه وبين المخاطب أبدًا، فقط هناك فارق واحد وهو أنّه الله أعطاه هذا المقدار من المعلومات، ولم يعط ذاك، فقط يشعر بهذا المقدار من الفارق. وهذا أمر تكوينيّ. ففي النهاية الله أعطى لهذا علمًا ولم يعط ذاك، هذا أمر واضح! ولكن حيث إنّه لا يرى هذا العلم من نفسه، فكأنّ الله لم يعطه، كأنّه لم يعطه شيئًا، لم يعطه شيئًا. بما أنّه لم يعطه فكلاهما معًا في مستوى واحد، كلاهما متساويان.

  • عندما كان رسول الله يحادث طفلاً كان الناس يتعجّبون، كان الأصحاب يتعجّبون، أن لماذا النبيّ رغم مقامه الرفيع يتحدّث مع صبيّ؟! لماذا يتكلّم معه؟ فهؤلاء الناس كلّهم مجتمعون منتظرون أن يسمعوا النبيّ وينصحهم، وهو جالس على المنبر يتحدّث بتفاعل مع صبيّ؟ وكأنّه لا أحد جالسًا هنا، كان الناس يأتون في الطريق ويجلسون في مسير النبيّ ويتكلّمون مع النبيّ ـ ألم يكن كذلك؟! ـ فكانوا يتعجّبون أنّ ما هو الدليل المنطقيّ لفعل النبيّ هذا؟ 

  • أذكر أنّه في زمان المرحوم العلاّمة عندما ارتبط به أحد الجامعيين عندما كان يأتي ويذهب ـ وذلك في العهد السابق قبل حوالي إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين سنة ـ وعندما كان يأتي كان يرى أنّه يجلس مع الجميع يتحدّث ويضحك ويتكلّم. وفي يوم من الأيّام اعترض وقال لي: لديّ شبهة في عمله وشكّ، ففي النهاية رغم مقامه العلميّ هذا وبهذا الوضع الذي له، وهذه الرتبة التي له، مع غضّ النظر عن مقامه العلميّ، ففي النهاية ما الفوائد من حديثه مع فلان ـ وكان يذكر الاسم ـ ما هي الآثار المنطقيّة المترتّبة على هذا الكلام وهذه الجلسة لساعة؟ فمثلاً لو جلس مع فلان وتحدّث أو تحدّث ذاك معه! فلم يكن يستطيع أن يدرك في نظره أن يكون كلام هذا العظيم مع هذا الرجل ذا نتيجة، وأن تكون له فوائد. وكان يتصوّر أنّ جميع الذين هم على علاقة معه لا بدّ أن يكونوا مثله أو أعلى منه، حتّى لا تضيع هذه الموضوعات ولا تتلف هذه الساعات، وأن يكون هذا العمر الذي يصرف على هذا الأمر في مكانه المناسب، وأن يكون هناك أثر منطقيّ لهذه الأحاديث والجلسات. 

    1. الإشارات والتنبيهات، ص ۱٤۷ (يبجّل الصغير من تواضعه كما يبجّل الكبير...)

التفاخر بالعلم والهداية

10
  • فنظرت إليه وكنت أعلم من يقصد وقلت له: من هو أفضل إنسان يمكن أن تكون لمجالسته آثار منطقيّة من بين جميع هؤلاء في نظرك؟ فقال: بنظري فلان. وهذا الرجل كان قد توفّي. قلت: حسنًا، هذا الرجل هو من الذين كنت على علاقة قريبة بهم، وقد طرح عليه هذه الأمور وهذه المسائل، فحصلت هذه التغييرات وحصلت هذه الخصوصيّات، ولكن الأمر المهمّ والحيويّ الذي كان على هذا الإنسان أن يستشيره فيه ويشاوره فيه ويأخذ منه موافقة فيه، أقدم فيه بنفسه وحتمًا لم يكن العلاّمة راضيًا عنه، لأنّي كنت في تلك المجريات، قلت: حسنًا! أليس لي الحقّ أنا أن أقول الآن إنّ كلّ الأوقات التي قضاها والدي معه، تلك السنوات، كلّها ذهبت هدرًا ولم تكن منطقيّة أم لا؟ لو كان الأمر كذلك فيا أيّها الواعي بما أنّك تعتقد بمقام ومكانة ذلك الرجل فكيف تركته في أمر مهمّ وحيويّ كهذا واتّبعت نفسك؟! وتنقل له الأمور بنحو الإشارة ونقل الأقوال دون أن تأخذ منه إجازة! ويجب أن تأخذ إجازة! فالأمر ليس بالأمر الذي يمكن للإنسان أن يقوم به من نفسه! المسألة مصيريّة! مسألة سعادة وشقاء! مسألة توفيق ونجاح، مسألة دنيا وآخرة! ليست مسألة ذهاب إلى هنا أو هناك! كلاّ! فالمسألة مهمّة. 

  • قلت: أنت من وجهة نظرك تتصوّر أنّ على العارف ووليّ الله الواصل أن يتواصل مع طبقة خاصّة، في حين أنّه لا يهتمّ هو بذلك، هو ينظر إلى الخصوصيّات التي في النفوس والحالات التي تحصل فيها، وهذا الأمر مخفيّ عن أنظارنا، فهو يهتمّ بإنسان ما، نقول: لماذا اهتمّيت به؟ وقد لا يهتمّ بآخر فنقول: هذا يستحقّ المزيد من الاهتمام في العلاقة معه. الأمر هكذا. 

  • الآداب التوحيديّة لأهل العلم

  • العلم يسبّب للإنسان الفخر، وعلى الإنسان أن يكون جادًّا في المواجهة، ولا يدع نفسه خاضعة لتأثير إلقاءات المحيطين به وحتّى إلقاءات نفسه من خلال المعايير التي تقدّمت. عليه أن ينظر إلى وضعه وحالته عند التعاطي مع الأمور، وأن يرى العلم من الله، إن أراد الله علّمه، وإلاّ فلا! ولا يمنع الآخرين ويقول: أحتفظ بهذا المقدار لنفسي ولا أقول كامل الموضوع! الأمر هو كذلك الآن في كثير من المراكز، إذا أراد أستاذ أن يعطي درسًا لتلاميذ، فإنّه لا يلقي إلى التلاميذ بعض المسائل التي حصّلها بنفسه بالتجربة أو من بعض المصادر غير المتوفّرة، بل يحتفظ بها لنفسه، بحيث يحافظ على تلك المرتبة العليا لنفسه في المجتمع والجامعة أو في المدارس أو بين الطلاّب والتلاميذ، فلا يقولون: لقد قدّم كلّ شيء. وبعبارة أخرى يحتفظ بسرّ المهنة ولا يقوله حتّى يبقى الناس محتاجين إليه دائمًا! هذا هو الفخر وهذا هو البطلان! 

التفاخر بالعلم والهداية

11
  • كان أحد أصدقائنا في العهد السابق ينقل للمرحوم العلاّمة قصّة ويقول: عندما كنت في المستشفى أعلّم طلاّبي كنت أصرّ عليهم أن يأتوا ويشاهدوا ويتعلّموا الطريقة الدقيقة التي أقوم بها، حتّى يحصلوا على أفضل الطرق، ولكنّهم لم يكونوا يصغون، أنا كنت أصرّ وهم كانوا يقصّرون. وكان منزعجًا جدًّا ويقول: عندما كنت في الخارج في أميركا، عندما كنت أذهب إلى المريض كان الأستاذ يشرح لنا الأمور، وكنّا نبذل كامل طاقتنا حتّى نتعلّم ما يفعله هو، فكنّا ندفع هذا وذاك حتّى نقف قربه ونتمكّن من رؤية كيفيّة عمله، في حين أنا أدعو وأصر وأرى أنّ كلامي لا تأثير له على المحيطين بي. وعندما خلا المجلس التفت إليّ المرحوم العلاّمة وقال: هذه الحالة التي عند هذا الرجل هي الحالة عينها التي يتوقّعها الإنسان من السالك. فانظر! هذه هي! أي الحالة التي لا يريد فيها شيئًا لنفسه، ولا يريد أن يقصّر في العطاء ويحافظ لنفسه على تلك الرتبة العليا على الدوام، فهذه الحالة حالة سيّئة. فالله قد أعطاك وأنت أعط الآخرين! من الذي أعطاك هذه التجربة؟ الله هو الذي أعطاك، حسنًا فأعط الآخرين! ماذا ينقص؟! ماذا ينقص منك؟! لذلك فإنّ الرجل الإلهيّ في إعطاء العلم للآخرين يرى هذا الإعطاء بعينه أيضًا من الله، وهذا أمر أرفع من التواضع. 

  • يشاهد أنّ بعض الأصدقاء يأتون ويقولون: نحن إذ نتكلّم على المنبر نرى أنفسنا أنّا لسنا أهلاً، فلماذا نتكلّم بهذا الكلام؟! فلنترك الكلام! وجوابي لهم هو أنّي حتّى بالنسبة إليّ هل أنا أعمل بهذا الكلام الذي أقوله الآن؟ فلنوضّح حقيقة حالنا، كلاّ! ليس الأمر هكذا! ربّما كان كثير منكم ـ وليس ربّما بل حتمًا وقطعًا ـ لديهم اهتمام أكثر وحميّة وحرارة أكثر واتّباع أكثر للمباني والأمور الواردة عن الأعاظم وأولياء الله، فهذا ما أعلمه قطعًا، وهنا أيضًا لا أتواضع! وربّما كان الرفقاء يعلمون أنّي لست من أهل التواضع كثيرًا. كلاّ! لا أتواضع! أعلم قطعًا! ولكنّ الكلام هو في هذا، وأنّه يمكن أن نقنع أنفسنا أنّه إن كان هناك أمر حقّ فلماذا لا يقال؟! إن كان هناك عدد من الناس يسمعون ويعملون فلماذا لا نقول؟! فهنا ماذا تصبح المسألة؟ فالإعطاء يجب أن لا يكون من طرف النفس. الله أودع هذا العلم، لا شكّ في ذلك، الله أعطى هذه التجربة، جعل هذا الأمر في الذهن، بأيّ علّة وبأيّ واسطة، سواء من كتاب أو من كلام الأعاظم، أو من الاستماع، أو من التلقّي، أو أن يدرك الإنسان بنفسه، ففي النهاية جاءت هذه ـ وطبعًا لا أن يقول الإنسان أيّ كلام في أيّ مكان، فلكلّ مقام مقال، ولكن في الموارد التي فيها استعداد وقابليّة لتلقّي الموضوع ـ لماذا يرى الإنسان هذا الموضوع من نفسه حتّى يلوم نفسه أنّي لست أهلاً فلماذا أتكلّم؟ لقد جاء هذا من مكان فألقه إلى الآخرين! عدّه من عنده هو! هذه هي الحقيقة! شئنا أم أبينا فهي منه. شئنا أم أبينا، سواء رضينا أم رفضنا، فالأمر من عنده! ولكن في مقام النفس وفي مقام الإثبات أيضًا علينا أن نعدّ الأمر منه، فهو الذي أعطى التجربة، وهو الذي أعطى الأمر وإلقاؤه هو من عنده، أي إنّ إلقاء هذا الكلام وبيانه وإعطاءه أيضًا لا بدّ أن يكون من ناحية الله، وهذه المسألة حقّ وصحيحة. 

التفاخر بالعلم والهداية

12
  • ولكنّ الإنسان يرى ويشعر أنّه ما لم يكن في مقام التربية والتزكية، عندما يدرس هذه الدروس وهذه العلوم التي جاءت من عند الله، عندما يتعلّم هذه العلوم بدون توجّه إلى هذه النقطة وبدون تزكية وبدون تهذيب فإنّ نفسه تصل إلى مرتبة مستقلّة وتبتعد بحيث يرى شاء أم أبى أنّ هذه العلوم هي نتيجة أتعابه وجهوده، ويرى نفسه متميّزًا عن الآخرين! 

  • كان هناك أحد العلماء في النجف من تلامذة الشيخ النائيني رحمه الله ومن أقدم تلامذته، والآن مؤلّفاته وكتبه يستفاد منها جميعًا. عندما رأى أنّ الشيخ النائيني يسمح لتلميذ آخر أدنى منه رتبة ـ وهو السيّد الخوئي رحمة الله عليه ـ بتقرير ونشر دروسه يصطدم معه! يقول: عجيب! في أيّ مرتبة كنت أنا فسمح لي، وهذا رتبته أدنى! فلا ينبغي أن يسمح له! ولا يجيز له نشر العلوم والأبحاث التي تعلّمها في الدرس، هذا أمر مختصّ بي! ويعادي الشيخ النائيني رحمه الله! ويذهب إلى الكوفة ويعيش فيها حتّى يتوفّى الشيخ النائيني فيرجع إلى النجف! 

  • هل أدركتم الآن لماذا كتب المرحوم العلاّمة في تلك الرسالة التي أرسلها إلى السيّد الخميني رحمة الله عليه سنة اثنين وأربعين وقال له فيها: يجب أن تنظر ماذا يقتضي التكليف الإلهيّ وتسير على أساسه، ولا تفكّر في أن يأتي الناس ويؤيّدوك ويتّبعوك، ولا تنظر إلى الناس الذين هم واحد أو اثنان أو ثلاثة أو عشرة أو مائة ويأتون ويسيرون خلفنا ويتّبعوننا! لماذا؟ لأنّ هؤلاء الذين اشتغلوا بهذه الدروس والعلوم متحمّلين آلاف المشكلات وباذلين الجهود الكبيرة بدون تهذيب للنفس وتزكية، هل تعلّموا لكي يسلّموا رقابهم للآخرين فيأمرونهم وينهونهم؟! أم أنّهم على العكس يريدون أن يكونوا هم بأنفسهم أصحاب منهج ومسلك ونظام؟! عليك أن لا تتوقّع! امض في طريقك! بسم الله، هذا طريقنا من جاء فأهلاً به، ومن لم يأت فهو أخبر! هكذا ينبغي أن يكون المسير. أمّا لو أردنا أن نتوقّع لأجل الحماية، فلا! حيث يمكن أن يواجه الإنسان بعض الموارد خلاف توقّعاته! لماذا؟ لأنّ للآخرين أيضًا حالات خاصّة، [يقولون:] ما الفرق بيننا وبينه؟! لماذا أنا أطيعه؟! فليطعني هو! ما الفرق بيني وبين الآخر؟! لماذا أكون تحت طاعة إنسان آخر وأمره ونهيه؟! لماذا؟! وهنا يأتي ويرفع راية المخالفة، أن كيف جاء وبيّن لمحة مختصرة عن هذا الأمر في كتاب وظيفة الفرد المسلم؟!

التفاخر بالعلم والهداية

13
  • لقد كانت عبارته هناك هكذا: نحن عندما كنّا نمشي في هذا الطريق، كنّا نواجه بعض الموانع من هؤلاء الناس والعلماء الذين كانوا يقصمون ظهورنا ويطحنونها ويقطّعون نفوسنا ويتعبوننا. يعني إذا كان من المقرّر أن يكون هناك برنامج، فجأة كانت تحصل مخالفة من مكان ما، فلماذا المخالفة؟ لماذا؟ لقد فعل الجميع ذلك فلماذا لا تفعله أنت أيضًا؟ تارة تكون معارضًا للأمر من أساسه، حسنًا فلتأت ولتناقش أن هذه الحركة خطأ، وهذا المسلك خطأ، وهذه الخطة خطأ. حسنًا! وتارة أخرى لا يكون الأمر كذلك! فلا يمكنك أن تقدّم جوابًا. ولكنّ الكلام هو في أنّا إذا أردنا أن نقوم بهذا العمل فإنّ موقعي الاجتماعيّ سيتزلزل، وهنا يأتي ويشكّل مانعًا وسدًّا أمام هذه الحركة، ولا يسمح لها بالاستمرار والمتابعة. 

  • هذا الإنسان الذي يعادي ويبتعد ما دام الشيخ النائيني على قيد الحياة ثمّ بعد وفاته يأتي ويشرع بالتدريس. أيّ درس هذا؟ رائع جدًّا. واقعًا مستواه رفيع، التقريرات، تقرير الفكرة، وبيان الأبحاث جيّد جدًّا، والأبحاث تقرّر بشكل جيّد جدًّا، الحوزة تتطوّر بشكل جيّد، وينتشر صيتها وشهرتها، ولكن ماذا يحدث في الباطن؟ ماذا يجري في الباطن؟ هذا هو الباطن! هذا هو الباطن! لأنّه أجاز وأمضى تقريرات رجل آخر! أنت لديك تقريرات! حسنًا! فليأت رجل آخر وليقدّم تقريرات أيضًا، وليأت ثالث أيضًا، وليأت مائة أيضًا لا إشكال! 

  • ـ كلاّ يجب أن تكون تقريراتي أنا وحدي! ثمّ بعد ذلك يتعامل مع وليّ نعمته ومع أستاذه بذلك النحو! أهذه هي نتيجة سبعين سنة من الدراسة! ليست نتيجة سبعين سنة من الدراسة، الدرس لا إشكال فيه، ولكن عندما لا يكون الدرس مصحوبًا بالتزكية فلا فائدة منه! 

  • ولكنّ السيّد القاضي ماذا يقول؟ جلس السيّد القاضي في مكانه. يقولون: سيّدنا فلان درسه هكذا، فيقول: حسنًا اذهبوا إلى درسه واستفيدوا! كانوا يأتون إلى السيّد القاضي: أتسمح لنا أن نشارك في درس السيّد أبو الحسن الأصفهاني؟ فكان يقول: نعم شاركوا! لماذا لا تشاركون؟! رغم أنّه هو نفسه كان يعطي درسًا! فقد كان السيّد القاضي من أوائل الأساتذة في الدروس المتعارفة والمتداولة في النجف، ولم يكن تلامذته تلامذة له وحده! بل كانوا يشاركون في جميع الدروس، بما فيهم درسه. ولم يكن الأمر أن يشاركوا فقط في درسه. كان يقول: اذهبوا إلى الدروس، واحضروا هنا، واستفيدوا من كلّ إنسان، قارنوا، واعملوا بما تجدونه أفضل، هذه هي مدرسة...

التفاخر بالعلم والهداية

14
  • هل شوهد السيّد القاضي يومًا يقول: لا تذهبوا إلى درس رجل آخر؟ لأنّه مخالف لي فلا تذهبوا إلى درسه؟ كلاّ! لماذا؟ لأنّه كان يرى هذا العلم من الله. وما دام يرى العلم من الله، فمن الممكن أن يجعل الله هذا العلم عند إنسان آخر، ويستفيد منه فلان، فهو ينقل فائدة، ويكون هذا أفضل له، فلماذا يمنعه؟ انظروا! كم يصبح الأمر سهلاً! وكم يغدو الأمر خفيفًا! ويرجع إلى حالته الطبيعيّة والواقعيّة. 

  • الهداية والفخر

  • امتنان الله على المؤمنين

  • وفي سياق هذا الأمر مسألة الهداية والإرشاد، ففي الآية الشريفة يقول الله: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.}۱ نحن مننّا بالاهتداء والهداية. 

  • نتيجة الكلام السابق في هذه المسألة... ـ إذا وفّقنا الله سنتحدّث حول هذا الموضوع والذي هو الغاية والمقصود من طرح هذا الكلام للإمام عليه السلام، وإن شاء الله الموضوع الآخر للجلسة القادمة ـ بالنسبة إلى الهداية التي يحصل عليها الناس ـ الأعلى من العلم مسألة الهداية، وبعبارة أخرى مسألة السلوك، وهذا واضح جدًّا وصريح ـ يقول الله: لقد مننّا على الناس إذ بعثنا فيهم رسولاً منهم ليعلّمهم الكتاب والحكمة، يعني يطلعهم على العلوم الإلهيّة والمائزة بين الحقّ والباطل وهكذا يوصلهم إلى التزكية والتهذيب، ولولا ذلك {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} فمع غضّ النظر عن ذلك فإنّ جميع الناس كانوا في ضلال وضياع، لقد مننّا بهذه المنّة. فالله تعالى إذن ينسب مسألة الهداية والإرشاد إلى نفسه، وذلك أيضًا كمنّة، فالله يمنّ! لماذا يمنّ؟ لأنّا نحن لسنا أهلاً. أيّ طلب كان منّا حتّى أرسل الله مقابله النبيّ؟ هل كان الله قد كتب لنا عهدًا؟!

  • كان أحد الرفقاء قبل أسبوع أو أسبوعين يقول: كنت في زمان المرحوم العلاّمة دائمًا أذهب إليه وأقول: سيّدنا لماذا لم أصبح كذا؟ لماذا لم أصبح كذا؟ لماذا حالي هكذا؟ وقد كان هو يداريني في النهاية، وفي يوم من الأيّام قال لي: وهل عهد الله إليك عهدًا؟! هل كتب لك كتابًا؟ قال: لا! قال: حسنًا! فلتكفّ ولتهتمّ بعملك! فما معنى لم أصبح كذا ولم أصبح كذا! فقد أعطوك برنامجًا وأمورًا معيّنة، فخذها واعمل بها! انتهى الأمر! لماذا "لم أصبح هكذا؟!" يجب أن لا يكون هناك "لماذا" أمامه، فالله لا يسأل لماذا؟

    1. سورة آل عمران، الآية ۱٦٤.

التفاخر بالعلم والهداية

15
  • لقد منّ الله وجعل لنا بواسطة أوليائه تلك الأمور التي تلزم لتكاملنا ورقيّنا، سواء في كتبهم أم في بياناتهم، أم في كلماتهم، أم في تجاربهم فعلى الإنسان أن يعمل، هذا هو المطلوب! نعم تارة يكون لدى الإنسان مشكلة ولا يدري أين هي، فيمكن أن يشاور الناس ويتحدّث فيقولون: أنت لديك هذه المشكلة. أمّا أن نفعل ما يحلو لنا ثمّ نتوقّع أن تأتي الملائكة وجبريل الأمين ويصنعوا لنا قوس النصر، كلاّ! فليس هناك شيء كهذا! هناك برامج وأوامر قد أعطيت فلا بدّ من أخذها والعمل بها. 

  • واقعًا هذه المسألة جادّة، هل هذه منّة إلهيّة علينا أم لا؟ هذه المدارس الموجودة الآن في مقابل مدرسة العرفان، أو التي تطرح العرفان غير الحقيقي وتشدّ الناس، أليست موجودة؟ أليست موجودة؟ ولكن المدرسة الحقيقيّة التي أخذت لبّ الحقيقة وسرّها وقدّمتها بشجاعة وبكرم أليست لها منّة؟ أليس هذا مورد منّة؟! 

  • امتنان الله على النبيّ صلى الله عليه وآله

  • وليس الأمر هكذا بالنسبة إلى الناس فحسب، فحتّى بالنسبة إلى رسول الله الأمر هو كذلك. 

  • ألم يقل في الآية الشريفة:{ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك.}۱ فبفضل الله حصلت عندك حالة السعة هذه وحالة الرحمة والعطف، ولولا ذلك لما اجتمع الناس من حولك. أوليس لدينا في آية أخرى: {ألم يجدك يتيمًا فآوى ووجدك عائلاً فأغنى ووجدك ضالاً فهدى}٢ يا رسولنا نحن وجدناك يتيمًا فحفظناك، فقد توفّي والد رسول الله عبد الله توفّي قبل ولادة رسول الله بستة أشهر أو ثلاثة أشهر، وتوفّيت أمّه وهو طفل، أي وفق الأسباب السماويّة والتكوينيّة ماتا، فكما أنّ كثيرًا من الآباء يموتون قبل أن يروا أبناءهم، كان والد رسول الله هكذا، فلا ميزة ولا خصوصيّة هنا، ألا تتوفّى الكثير من الأمّهات حين الولادة؟ فهؤلاء كثيرات، وواحدة منهنّ والدة رسول الله، ووالدته أيضًا بقيت بضع سنوات، لقد توفّيت والدة الإمام زين العابدين عليه السلام شهربانو بنت يزدجرد أثناء الولادة، وكانت زوجة إمام، ألم يكن باستطاعة الإمام أن يحافظ على حياتها؟! والدة الإمام السجّاد! فالإمام السجّاد لم ير أمّه، فهذه مجموعة من العلل والعوامل التكوينيّة وتقدير إلهيّ، منهم من يبقى حيًّا ومنهم من يموت، منهم من يبقى أكثر ومنهم من يبقى أقلّ، وواحد من هؤلاء النبيّ، يمكن للنبيّ أن يقول الآن لله: إلهي! لماذا توفّي والدي قبل أن أولد؟! فيقول الله: في كلّ يوم هناك ألف إنسان يموت آباؤهم! لا ينبغي أن نجعلك متميّزًا! لا ينبغي! 

    1. سورة آل عمران، الآية ۱٥٩. 
    2. سورة الضحى، الآيات ٦ـ ۸. 

التفاخر بالعلم والهداية

16
  • ـ لماذا يجب أن تتوفّى والدتي وأنا في طفولتي؟ 

  • يقول الله: الكثيرون يموتون أثناء الولادة، ووالدتك بقيت بضع سنوات ثمّ ماتت! 

  • هذه مسألة طبيعيّة جدًّا. وما أقوله بهذه الصراحة والوضوح فلكي تتّضح حقيقة المسألة وأنّ حقيقة التوحيد لا مزاح فيها، ولا مجاملة. فالعرفان لا مجاملة له مع أحد، وعند الله الجميع في مرتبة واحدة في انتسابهم إلى الحقّ، ومثل أسنان المشط. الناس لهم مراتب فيما بينهم، وأمّا بالنسبة إلى الله فلا فرق، الله يعلن حقّ النبيّ بكلّ صراحة أمامه: {ألم يجدك يتيمًا فآوى} فمن الذي آواك ورعاك أثناء اليتم؟ لقد مات والدك وكانت والدتك على تلك الحال واتّخذنا لك مربّية، فهل هناك أعظم من ذلك، المربّية التي لم يكن لديها لبن فلمّا أخذتك درّ لبنها. تفضّل فهذا واحد من آياتنا، ألم نجعل الناس يحبّونك؟! ألم نجمع الناس من حولك؟ ألم نجعل قلوب الناس ونفوسهم تلتفت إليك، فعلنا ذلك أم لا؟! من الذي فعل ذلك؟ {ووجدك ضالاًّ فهدى} هذه عجيبة جدًّا، كنت ضالاًّ فهديناك. 

  • ما إن أقول هذا الأمر حتّى يفاجأ جميع الأصدقاء، الأصدقاء لهم اطّلاع ما، سائر الناس، فلو كان سائر الناس يسمعون فإنّهم يفاجؤون... فالله يقول للنبيّ: أنت كنت ضالاًّ! نعم! نحن ننظر إلى النبيّ بعد المقام والمكانة فنقول: كيف يمكن لله أن يقول للنبيّ كنت ضالاً؟ كيف يمكن لله أن يقول للنبيّ كنت ضالاًّ؟ كيف يمكن؟! ولكن علينا أن لا نغفل عن أنّ رسول الله من أين جاء برسالته؟! هل هو جاء بها؟ هل وصلت إليه إرثًا؟ أمّ أنّ هذه الرسالة ومقام النبوّة ومقام {فكان قاب قوسين أو أدنى} وأوّل تجلّ في عالم الخلقة ومظهر اسم الواحديّة والنزول من مرتبة الواحديّة كلّ ذلك هو من الله؟ وحتّى إدراك هذا الأمر صعب إذ كيف يمكن لنفس أن تحصل على مقام الواحديّة للّه في نفس الوقت الذي لديها اهتمام بالجانب المادّي وارتباط وتعلّق بالجانب الدنيويّ، كيف يمكن أن تتوافق مع مقام الواحديّة الذي هو تجرّد محض وأوّل تجلّ أعظم للّه؟! وهذه المسألة من أعقد مسائل العرفان النظري ومبانيه، أيّها النبيّ هل أنت جئت بهذه الخصوصيّات وانتقلت إليك من والدتك أم نحن أعطيناكها؟ هل هذا المقام وهذه الرتبة منّا أم منك أنت؟! انتهى الأمر! اثنان في اثنين أربعة! لا يمكن للنبيّ أن يقول لقد كانت منّي أنا! لا يمكنه أن يقول! 

التفاخر بالعلم والهداية

17
  • وهنا في هذه الآية يجعل الله رسوله في مرتبة واحدة مع جميع الناس، لقد منّ الله على المؤمنين لقد منّ الله على رسولنا فنحن مننّا على المؤمنين كما مننّا على رسولنا (ووجدك ضالاً فهدى) لقد كان ضالاًّ وبمنّتنا اهتدى، لماذا؟ لأنّ الهداية مختصّة بالله وحده. لا يمكن للنبيّ أن يقول لقد حصّلت هذا بنفسي ولا علاقة له بالله ولو بمقدار رأس إبرة ولو بمقدار خليّة واحدة، لا يمكنه ذلك! وكما يقال ولو بمقدار أبسيلون الذي هو أصغر ذرّة يمكن تصوّرها لا يمكنه أن يقول أنا حصّلتها بنفسي، فلو قال أنا جئت بها، يقولون له مباشرة: بسم الله! جئت بها من نفسك؟ حسنًا تفضّل، سنريك حتّى تتذكّر ما كنت عليه! لقد قال النبيّ كلمة واحدة، كلمة واحدة! انظروا! جاء ذلك الرجل إليه فقال: غدًا أجيبك! يعني يأتي جبرائيل وأطرح عليه الأمر فآخذ الجواب وأجيبك، لقد تكلّم النبيّ بكلمة فانقطع عنه جبرائيل أربعين يومًا، ولم ينزل، جاء اليوم التالي وما بعده وما بعده ثلاثة أيّام أخرى أسبوع، أسبوع آخر، فأين هو جبرائيل؟ ماذا قال جبرائيل في هذا الأربعين؟ أيّ تحوّلات حصلت فيه؟ أيّ خصوصيّات حصلت لديه! ما إن صحّ حتّى نزل. الآن تفضّل! انزل انتهت الإجازة! لقد استئنف الوحي. 

  • امتنان الله على موسى وهارون

  • فالله لا يتساهل مع أحد! ولو تساهل كان علينا أن نشكّ في الله! لو كان لدى الله حسابات فإنّا نشكّ، الله هو الذي لا تساهل له مع أحد، الله هو الذي جميع عباده عنده سواء، الله هو الإله الذي لا تمييز عنده في ذلك التوحيد، لا تمييز هناك، فحول موسى وهارون: {ولقد مننّا على موسى وهارون ونجيّناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم.}۱ نحن مننّا على موسى وهارون. انظروا دائمًا يقول مننّا! فمن أين جاء هارون وموسى بهذا المقام؟ شققنا البحر لهما، جعلنا لهما العصا ثعبانًا، أسقطنا فرعون، فعلنا وفعلنا... لقد مننّا على موسى وهارون. لم يكونا شيئًا كانا من الناس. 

    1. سورة الصافّات، الآيات ۱۱٤ـ ۱۱۸. 

التفاخر بالعلم والهداية

18
  • قالوا له: {إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك}، فبالأمس ضربت رجلاً فقتلته؛ ففرّ إلى مدين، ولو بقي لأخذوه وقتلوه. {فخرج منها خائفًا يترقّب قال ربّ نجّني من القوم الظالمين}.۱ طبعًا قبل أن يصل إلى الرسالة كان قد فرّ خائفًا مترقّبًا. فعندما كان يخرج كان ينظر حوله كيلا يراه أحد ويخبر عنه، هكذا خرج من مصر ومشى نحو مدين، {قال ربّ نجّني من القوم الظالمين}، فانظروا ماذا صنعنا هناك؟ مننّا. بعثناهما بالرسالة، ثمّ نقول:{ اذهبا إلى فرعون إنّه طغى}. الآن اذهبا بعد أن مننّا، الآن بعد أن أوصلناكما إلى هذا المقام، الآن بعد أن جعلناكما لائقين بالرسالة، ولائقين لمواجهة الناس، الآن اذهبا إلى فرعون إنّه طغى واهدياه فهو مثلكما لا يختلف عنكما، غرّه الشيطان، وزيّن له الأخطاء والأنانية، فتبدّل، اذهبا إليه لعلّه يتذكّر أو يخشى٢ ربّما يتّعظ ربّما يلتفت. 

  • الآن أليس كلّ واحد منّا فرعون، فذلك المسكين ادّعى الألوهيّة. نحن نخجل من ذلك ولكن أليست لنا هذه الحالة في قلوبنا. فحالة الأنانيّة ومحوريّة الذات واستجلاب النفوس واستعمار الآخرين واستعبادهم أليست عندنا؟! بل هي موجودة، تختلف ولها مراتب ومستويات. لا بدّ أن نطلب من الله وبتوفيق منه أن تزول هذه الحالة، لا أن فقط... 

  • فالقرآن لا يقول هزلاً، القرآن يقول كلّ واحد منكم هو فرعون في نفسه، فذاك ادّعى النبوّة وهذا ادّعى الألوهيّة، وآخر يدّعي النبوّة أيضًا، وأنتم أيضًا تدّعون، ألم يدّع عمر الألوهيّة؟! ألم يدّع عمر النبوّة؟! ألم يقف أمام رسول الله ويخالفه علنًا؟! فما معنى ذلك؟! معناه أنّك أنت لا تفهم وأنا أفهم، ألم يقم بعد رسول الله بتغيير أحكام الله؟! فبدلاً من "حيّ على خير العمل" جعل "الصلاة خير من النوم"، وغيّر أحكام المتعة، ألغى عمرة التمتّع، صلاة التراويح التي تصلّى فرادى ـ صلاة ليالي شهر رمضان المستحبّة ـ جعلها جماعة، في حين يحرم أن تصلّى الصلاة المستحبّة جماعة. فكلّ ذلك ماذا كان؟ هذا هو الفرعونيّة في النهاية. أنا هكذا أرى! الآن عظمة الإسلام تقتضي ذلك! مكانة الإسلام تقتضي هذا! أنا أغيّر الأحكام الإلهيّة! واقعًا ألسنا نحن هكذا؟! يعني ألا نريد أن ينجذب الناس إلينا وحدنا ويأخذوا الأمور منّا فقط؟! نحن كذلك أم لا؟! {ولقد مننّا على موسى وهارون، ونجيّناهما وقومهما} وآتيناهما الكتاب الذي يبيّن الحقّ من الباطل، {وهديناهما الصراط المستقيم}، ولو لم نهدهما لكان موسى فرعون! فرعون مثل فرعون تمامًا، مثله تمامًا! لا تساهل في الأمر أبدًا. مقام رسالته محفوظ في مكانه، ومقام نبوّته محفوظ، إذا نحن رأيناه فإنّا نقبّل يده، ويجب أن نفعل ذلك، فهو نبيّ ورسول لله، ولكن عندما ننظر إلى النبيّ موسى بالنسبة إلى التوحيد فلا بدّ أن نراه كغيره، عندما تظهر سلسلة المراتب، فلا بدّ أن نعظّمه، انظروا فالنظرة إلى الإنسان تختلف، عندما ننظر إلى المراتب فلا بدّ من الاحترام والتعظيم، وتقبيل يد الأب وتقبيل يد الأم، على الإنسان أن يحترم الأكبر منه، أن يكرّمه، أن يراعي حال الأصغر، لا بدّ أن يراعي آداب المعاشرة كما هي في الإسلام وكما بيّنها رسول الله والأئمّة سلام الله عليهم أجمعين. كلّ ذلك في مكانه، ولكن عندما يقاس الأمر من خلال التوحيد نرى أنّ الجميع هناك سواء، لماذا لأنّه ليس هناك إلاّ الله فحسب. هناك لا يمكن لأحد أن يستعرض ذاته ولو بمقدار رأس إبرة. 

    1. سورة القصص، الآية ٢۱. 
    2. سورة طه، الآية ٤٤. 

التفاخر بالعلم والهداية

19
  • هنا نجد أنّ الناس يشتبهون في مسألة الهداية ومسألة السلوك، فيظنّون أنّ لهم محلاًّ من الإعراب لأنّ الله أعطاهم نعمة ولطفًا! وأنّهم في أنفسهم شيء مهمّ! نحن جئنا إلى هنا! نحن نقوم بكذا مثلاً! نحن نعمل بمبادئ فلان! نحن نختلف عن سائر الناس! فماذا يكون هذا؟ الأمر ينعكس! فأنت إذ تعمل من الذي يوفّقك؟ 

  • يقول في الآية: {يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}۱ من الذي جعل الذهن ينتقل من الاهتمام إلى جهة واحدة إلى الاهتمام بالنبيّ؟ الله هو الذي فعل ذلك في النهاية! إن كانوا صادقين، إن كانوا صادقين في أنفسهم ويراعون ويرون فماذا يدركون؟ هذا ما يدركونه! فلو لم يأت رسول الله، لبقيت على عبادتك للأصنام! لو لم يأت رسول الله ولم يهدك الله لكنت أنت أيضًا مثل أبي سفيان! لكنت أنت أيضًا مثل معاوية! أفتمنّ على الله الآن؟! يمنّون عليك أن أسلموا! لقد كنت مثله! 

  • لذلك نرى أنّ آفة الفخر والتفاخر هذه أخطر أمر أكّده الأعاظم على الذين يدخلون في الأمور العرفانيّة والسلوكيّة، لقد كان المرحوم العلاّمة يقول مرارًا: عندما يأتي الناس في البداية تكون لديهم حالات، لديهم صفاء وخلوص، ويكونون متلهّفين ويرون لهذه المدرسة وهذا المنهج المنّة عليهم، ولكن بعد أن تمضي بضع سنوات تتغيّر الأمور وكأنّهم يشعرون لأنفسهم بمقام ومكانة في هذا المجال، ويرون أنفسهم شركاء في هذا الأمر! الآن بما أنّ الأمور هكذا، الآن بما أنّ الأفراد قد اجتمعوا، فقد اجتمعنا هنا! ولو لم نكن فماذا كان سيحصل؟ وذلك لأنّهم ينظرون أن السيّد فلان في العهد السابق كم لديه من التلاميذ مثلاً، وفلان ماذا لديه وأمورًا كهذه. 

  • وكنت بنفسي شاهدًا وناظرًا أنّ بعض الناس كانوا يأتون إليه وبعنوان أنّهم يقومون في مكان ما بوظيفة من قبله فيجب أن يستقبلهم! ولو قال لا أستطيع فإنّ أحوالهم تتبدّل! وحياتهم تتغيّر! فالسيّد هو من أرسلنا إلى هناك ونحن جئنا لنخبره بما يجري فيقول لا مجال للّقاء! مما يعني أنّهم يتصوّرون لأنفسهم مكانة! 

    1. سورة الحجرات، الآية ۱۷. 

التفاخر بالعلم والهداية

20
  • التفتوا! فقد اختلط الأمر! فقبل أن تحصل هذه الخصوصيّة وقبل أن تحصل هذه الوضعيّة كان يشعر أنّه مدين، ولكن ما إن يحصل على موقع يصبح دائنًا، يصبح متوقّعًا! لديه توقّع حول حقّه! ماذا أقول واقعًا؟! فهنا لدينا حقوق! توقّع حول أنّ لدينا موقع هنا، ففي النهاية نحن الذين نحيط به هنا! ونتعامل معه. فهذه أمور كنت أراها بنفسي! وكنت أشعر بالخطر منذ ذلك الحين! وكنت أنبّه أحيانًا. في حين أنّه مهما مرّ ومهما مضى الوقت ينبغي أن تزداد حالة المديونيّة تلك. لأنّه دائمًا يزداد اطّلاعًا، دائمًا يعرف المواهب الإلهيّة! يعرف أكثر حول تلك الألطاف الإلهيّة التي يبعثها الله إليه.لا بدّ أن يكون توقّعك في هبوط! ولكنّ هذا الأمر يحدث على العكس من ذلك! لذلك نرى أنّه كان ينعكس! وهذا معنى {يمنّون عليك أن أسلموا} هذا معنى المنّة! يا رسول الله نحن اجتمعنا حولك، تألّفت صفوف الجماعة هذه التي تراها في مسجد النبيّ، فهذه امتلأت بنا! لم تأت الملائكة! أن تأتي الآن وتسير ويسير هؤلاء الناس خلفك، فنحن من يسير! الآن أنت تذهب وتقاتل هذا البلد، تقاتل تلك القبيلة، فمن أين جاء هؤلاء الذين يرافقونك؟ نحن هم في النهاية! ألم يكونوا يقولون؟! في حين أنّ الأمر ينبغي أن لا يكون كذلك، لا بدّ أن يكون الأمر على العكس، ثمّ من كان هؤلاء؟ هؤلاء هم... أنت تمنّ على رسول الله؟! حسنًا! فجأة يأتي امتحان، يرتحل رسول الله من هذه الدنيا، يأتي أبو بكر فيجلس في مكان النبيّ، هؤلاء الذين منّوا جاؤوا جميعًا إلى أبي بكر! انتهى الأمر! تفضّل! جاؤوا ومنّوا عليك أن أسلموا! 

  • ألم يأت هذا النبيّ بنفسه بالأمس وجلس رغم ضعفه على الدرجة الأولى من المنبر وأحد كتفيه على أمير المؤمنين والآخر على كتف الفضل بن العبّاس، ولم يكن يستطيع الحركة، آثار السمّ كانت قد أثّرت على بدنه إلى حدّ جعله لا يمكنه أن يقف على رجليه، جاء وأزاح أبا بكر ثمّ تحدّث بنفسه وقال: تارك فيكم الثقلين... ألم يقل ذلك؟! يأتي امتحان! تمنّ على النبيّ؟! ونحن نأخذ النبيّ منكم وهذه الحربة التي خلطت أنفسكم بواسطتها الأمر نأخذها منكم، ونعيدكم إلى أنانيّتكم، إلى فرعونيّتكم! إلى تلك الزوايا التي كانت مخفيّة عليكم، كنتم تظنّون أنّكم بما أنّكم تأتون وتصلّون خلف النبيّ وتقفون في الصفّ الأول والثاني وتتمرّغون بماء وضوء رسول الله، فهذا كلّه تظاهر، هذا كلّه خدع شيطانيّة، الشيطان كان يقول تمرّغوا بهذا الماء الذي يتساقط من وجه رسول الله، هل هناك أعلى من ذلك؟! هو يعلّم أن تفعل هذا! لماذا؟ لأنّ قلبك يأنس به، تحصل على التذاذ نفسيّ بذلك. أماءُ وضوء النبيّ أهمّ كلامه حين يقول اتّبع عليًّا؟! أيّهما أهمّ؟! الآن أدركت أنّك خُدعت؟ أيّهما أهمّ؟! إنّه يقول بلسانه هذا يقول: إنّي تارك فيكم الثقلين، أمسكَ بيد عليّ ورفعها وقال: هذا من بعدي. ثمّ أنتم تأخذون ماء وضوء النبيّ؟ ووتتسابقون وتبعد هذا وذاك نعم! 

التفاخر بالعلم والهداية

21
  • فلنلتفت إلى أنفسنا قليلاً، يعني فلنفهم ولندرك المسألة قليلاً، فهؤلاء هم الذين... يأتي امتحان واحد فيحدث هذا، يأتي أمر فيحدث هذا، لا تظنّوا أنّ هذا كان في زمان النبيّ فقط، ففي هذا الزمان أيضًا هكذا! وفي السابق كان هكذا! ذات يوم قال المرحوم العلاّمة ـ لم أكن أنا بنفسي ولكن طبعًا سمعت حول ذلك أمورًا منه منها هذه الحادثة، وأنا لم أكن حاضرًا ـ ذهبنا برفقة أحد الأصدقاء وواحد أو اثنين من إخواني لزيارة السيّد عبد العظيم، وكان كلّما جاء من مشهد يذهب لزيارة السيّد عبد العظيم. أيّها الرفقاء لا تتركوا زيارة السيّد عبد العظيم فإنّ خير الدنيا والآخرة لنا وللذين هم في طهران أو الذين هم في الأماكن المشرّفة الأخرى هو بالارتباط بهؤلاء الأعاظم، ففي كلّ شهر وفي اليوم الأوّل منه كان المرحوم العلاّمة يذهب لزيارة السيّد عبد العظيم عندما كان في طهران، ولم أره ترك ذلك، فهو رجل عظيم، رجل عظيم جدًّا، وقد شوهدت كرامات وعنايات من السيّد عبد العظيم بالشيعة وبالناس، وفي ذلك السفر الذي أتحدّث عنه كان السيّد الحدّاد في طهران، وعندما تشرّفنا بزيارة السيّد عبد العظيم التفت إلى المرحوم العلاّمة عندما رجعنا وقال: إنّه سيّد عظيم، سيّد عظيم جدًّا. هذه عبارة السيّد الحدّاد حوله. وتعبير الأعاظم هو أنّ مرقد السيّد عبد العظيم هو نور طهران، نور طهران، فقد نقل هذا التعبير حول هذا الرجل العظيم، فعندما ذهب لزيارة السيّد عبد العظيم وأثناء رجوعه في الصحن قال لأخي الأكبر: يا فلان! لا تنظر إلى هؤلاء الناس الذين هم حولنا. ما دام هناك شاي السيّد سبزواري الصافي وأرز نساء الرفقاء الهمدانيين المخدّر فهم موجودون، وإلاّ فهؤلاء هم الذين كانوا إذا اختلفوا مع الشيخ الأنصاري رحمه الله يجرّونه إلى المحكمة، من هم؟ تلامذة الشيخ الأنصاري! هل تلتفتون؟ فمن أين هي المشكلة؟ نعم، نأتي ونذهب ونقوم بكذا وبكذا وكذا، ونحن جئنا إلى هنا، كلاّ يا سيّدي ما هذا الكلام؟ فهنا هو المكان الذي على الإنسان أن يلتفت فيه إلى نفسه أكثر، ويتوجّه أكثر. 

التفاخر بالعلم والهداية

22
  • في ذلك العهد السابق ـ وأنا أذكر تجاربي للرفقاء ـ عندما كنت ذاهبًا للتشرّف بكربلاء، فإنّ أحد الأفراد الذين ذكر اسمهم المرحوم العلاّمة في ذلك الكتاب وأنا لن أذكره اسمه، ثمّ ذكر أنّه طرد من قبل السيّد الحدّاد، أنا كنت أشاهد أحواله فلم أكن مرتاحًا، لقد كان يظنّ أنّه حيث جاء وصار مقرّبًا من هذا الرجل الكبير، فإنّه صار مدبّرًا ومسؤولاً عن الرتق والفتق والذهاب والإياب، وكان يعترض أن لماذا يأتي فلان، ولماذا يأتي ذاك، لماذا ينبغي أن يأتي فلان إلى المنزل؟ فما شأنك أنت؟! لقد امتنّوا عليك واهتمّوا بك، فتفضّل اجلس في زاوية ثمّ قم وامض! "لماذا هذا يأتي ولماذا يأتي ذاك؟" لماذا؟ وكان أحيانًا يعارض أولئك أمام السيّد الحدّاد، وكان ذلك أمرًا عجيبًا بالنسبة لي، فقد كان يستعمل عبارات أمام الضيوف، ولم يكن هذا الأحمق يدرك أنّ هذا العمل الذي يقوم به ينسبه ذلك الضيف إلى السيّد الحدّاد، يقول هذا مقرّب من السيّد الحدّاد، انطر ماذا يقول! واقعًا كم يجب أن يكون إنسانًا عديمًا الفهم والالتفات! فهذا القرب الذي حصل عليه إلى هذا الرجل الكبير هو من ناحيته هو، وإلاّ لما نظر إليك أصلاً فهل جزاء هذا الاهتمام واللطف أن تأتي أمامه وتعترض على طريقه ومنهجه والأعمال التي يقوم بها، وتتصرّف وتتدخّل؟! أنت عليك أن تهتمّ أكثر من الآخرين، أن تهتمّ بهذا الأمر أكثر من الآخرين! الذين هم أقرب إلى الأعاظم عليهم أن تكون مراعاتهم للنّاس أكثر من الجدد، وإلاّ حسبت على الأعاظم، أي ينعكس الأمر، فكلّما كان الإنسان أقرب، كانت مسؤوليّته في العلاقة مع الآخرين أكثر. 

  • جاء أحد أصحاب الإمام الرضا جاء من الكوفة إلى المدينة للقاء بالإمام، لدينا في الرواية أنّ الإمام جلس معه وحادثه حتّى الصبح حتّى طلوع الفجر، طبعًا ربّما لم يكن ذلك في فصل الشتاء بل كان في فصل الصيف والليالي قصيرة، ولكن لدينا أنّهما تحدّثا إلى طلوع الفجر ثمّ صلّيا، أو غير ذلك، ثمّ جاءه الإمام بالفراش بنفسه وأعدّه له، ويبدو أنّ ذلك كان بعد صلاة الصبح لأنّه لدينا أنّهما بقيا حتّى الفجر يتحدّثان: ما الأخبار؟ ماذا يجري في مدينتك؟ يعني الإمام الرضا عليه السلام أعدّ فراش هذا الرجل بنفسه في تلك الغرفة، ولا بدّ أنّ هناك حالة حصلت في نفس هذا الرجل، فقال له الإمام إيّاك أن يأخذك التكبّر والفخر على ما صنعت لك، بقينا نتحدّث حتّى الصباح ثمّ أتيتك بالفراش. لا بدّ أنّ خطورًا خطر في نفسه في النهاية. إنّها عنايتنا التي جعلتنا نتحدّث معك، وإلا لما فتحت أمامك الباب! فمن أنت؟ من أنت حتّى... أنت مثل الآخرين أيضًا، هناك ألف من الأصحاب أفضل منك، ولا أتحدّث معهم حتّى الصباح! ولا أحضر لهم الفراش، طبعًا أنا أقول هذا الكلام وواقعًا كان الأمر كذلك، هكذا كان الإمام، فماذا أنت؟! الآن جئت وأنت ضيف، جئت من الكوفة، وقد أردنا مثلاً أن نعطف عليك أكثر بقليل، وأن نتلطّف معك أكثر، فلا تضع نفسك! وهذا الكلام هو الذي سبّب أن... عندما يتطوّر الأمر، عندما يرتفع الأمر، ترتفع الفرعونيّة أيضًا، دائمًا ترتفع، ترتفع ترتفع حتّى يقف في مقابل الأستاذ، ويشرع بالمشاجرة مع أبناء الأستاذ والإساءة والشتم! عجيب انظروا! من البداية كانت الزاوية تنفرج، كانت الزاوية تحصل، فجأة تصبح الزاوية مائة وثمانين درجة، مستقيمة! هذا في هذه النقطة من الخط، وذاك في تلك النقطة، دائمًا كانت تبتعد. 

التفاخر بالعلم والهداية

23
  • ومن أجل هذا كان الأعاظم يؤكّدون على أنّ علينا أن لا ننسى العناية الإلهيّة، وهذه المنّة التي امتنّ بها الله علينا، وأن نعلم أنّ لطف الله، وصاحب مقام الولاية هو الذي كان أخذ بأيدينا وجعلنا في هذا الطريق، وأن نعدّ أنفسنا أنّنا دائمًا مدينون للنعم الإلهيّة. 

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.