2

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

8792
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةالسالك البصير

جلسات المجموعة(7 جلسة)

التوضيح

موعظة للمرحوم العلامة الطهراني رضوان الله عليه، كان قد ألقاها في مشهد المقدس سنة 1414 للهجرة على مسامع بعض تلامذته، حول أهمّية العلم والعمل، والإعراض عن الأهواء الدنيويّة، والمنافع الشيطانيّة، وحول الاستقامة في مسيرة أهل البيت عليهم السلام، و تعرض فيها إلى علل تعطيل و زوال حوزة النجف. والجدير بالذكر، أنّ المرحوم الوالد كان قد ألقى هذه المحاضرة قبل وفاته بسنتين تقريباً، ولذلك يمكن اعتبارها إتماماً للحجّة منه على طلّابه وسائر الأفراد، وبالخصوص على الفضلاء وطلبة العلوم الدينيّة.

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

1
  • هو العليم 

  •  

  • أهمية المواءمة بين العلم والعمل 

  • علل زوال حوزة النجف

  •  

  • ألقاها:

  • العلاّمة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني 

  • قدس الله نفسه الزكيّة 

  •  

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‌

  • بسم الله الرحمن الرحيم‌

  • وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين‌

  • ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

  •  

  • ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ‌ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ‌۱، أي أنّه لا يمكن لأي فردٍ في حدّ ذاته وقوّته الخاصّة إذا أعطاه الله الكتاب والحكم والنبوّة أن يقول للناس كونوا عباداً لي مقابل الله. ولكن بما أنّكم العلماء وحماة الكتاب، عليكم أن تكونوا ربّانييّن، أي لتكن نسبتكم إلى الربّ دائماً، كونوا علماء ربّانيين لا علماء مادّيين وشهوانيّين. أو أنّ كلمة «ربّانيّين» مشتقّة من مادّة «تربية»، بمعنى كونوا من أهل التربية، وربّوا الناس وقودوهم إلى المحلّ الأعلى، باعتبار أنّكم تدرّسون الكتاب، وتدرّسون القرآن، وباعتبار أنّ عملكم وبحثكم ودراساتكم حول القرآن، وحول المسائل العقليّة والمسائل الإلهيّة.

  • بناءً على ذلك، فطريقة ودأب من وصل إلى مقام العلم، هي أنّه لا يستطيع بأيّ شكل من الأشكال أن يدعو النّاس إلى نفسه، وأن يرى أمره ونهيه صادراً منه شخصيّاً، وأن يعتبر هؤلاء الناس عباداً له.

  • فالأوامر يجب أن تكون أوامر إلهيّة ولأجل الله، وعلى الإنسان أن لا يشتبه ويصدر أوامر من تلقاء نفسه فإنّ مرجع هذه الأمور إلى حبّ الرئاسة والشهوة والشعور بالتفوق والوجاهة ثم يعرضها على الناس باسم الله، ويحمّلهم إيّاها على أنّها هي الدين والشريعة .. فإذا فعل الإنسان ذلك الآن، فلن يخرج عن عهدة المسؤوليّة غداً، لأنّه طبقاً للآية السابقة يقول القرآن: إنّكم في طريق العلم والكمال، ولديكم علم جيد بالكتاب واطّلاعكم عليه كبير، وأنتم حماته، وعلومكم‌

  • ودراساتكم تدور في هذا الفلك، لذا كان عليكم الوصول إلى حقيقة العلم. وليست حقيقة العلم أن يدعو الإنسان الناس إلى نفسه، ويدعوهم إلى عبادته والسجود له؛ بمعنى أن يتصوّر نفسه هو المحور الأساس ويعمل على أن تكون إطاعة الناس له، وبعدها يدعوهم للعبادة والأخذ عنه، هذا غلط. بل حقيقة العلم هي انكشاف الواقع والحقيقة، وكلّ من وصل إلى العلم عليه أن يدعو الناس إلى الله، وعليه أن يوجّه نفسه وسائر الناس نحو الله، هذا هو العالم، الذي يحمل مصباح الهداية في يده ويتقدّم مسيرة الناس حتّى يكشف لهم الطريق ويسيروا جميعاً نحو الله، لا أن يصير هذا المصباح الذي يحمله موجباً لضلال الناس وضياعهم، فعندئذٍ سوف يقع الناس في ظلام حالك، باعتبار أنّهم أطاعوا شخصاً من حيث هو.

    1. سورة آل عمران، الآية ۷٩.

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

3
  • أفضلية مقام العلماء على الشهداء في كلام الإمام الصادق عليه السلام‌

  • وقد ورد في كتاب قرب الإسناد، الذي يعتبر من الكتب المهمّة والمعتبرة، رواية عن هارون عن ابن صدقة عن الصادق عن آبائه عليهم السلام:

  • إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: ثلاثة يشفعون إلى الله يوم القيامة فيشفّعهم: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء۱.

  • فالرسول يقول في هذه الرواية بأنّ درجة العلماء أدنى من درجة الأنبياء وأعلى من درجة الشهداء، لأنّ الأنبياء يشفعون أولًا، ثمّ العلماء ثمّ الشهداء.

  • وفي أمالي الشيخ الطوسي رحمة الله عليه، بإسناده عن‌ المجاشعي عن الإمام الصادق عن آبائه عن عليّ عليه السلام قال:

  • قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إذا كان يوم القيامة وُزن مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء٢.

  • والمراد بمداد العلماء، الكناية عمّا يتركه العالم من أثر ليفيد الناس به، فمداد العلماء إذا وزن مع دماء الشهداء يكون أثقل في ميزان يوم القيامة.

  • ويوجد رواية صحيحة أخرى وهي: مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء٣، ومن جملة طرقها يوجد طريق ينتهي إلى (العبد)، حيث لديه إجازة من الشيخ آغا بزرگ الطهراني رحمة الله عليه، الذي يعتبر من مشايخ الإجازة في علوم الدراية. وكذلك لدينا سند متصل إلى رسول الله عبر العلّامة الطباطبائي الذي يعتبر أيضاً من مشايخ الإجازة أيضاً. وجميع هذه السلسلة من العدول. ومن المعلوم في اصطلاح أهل العلم، أنّ إطلاق لفظ الرواية الصحيحة يراد به الرواية التي لها سند بمعنى أن لا تكون مقطوعة أو مرفوعة أو مرسلة وأن يكون جميع من في سندها من الإماميّين الموثّقين والعدول، دون أن يكون بينهم أي راوٍ من الرواة الموصوفين بالحسن أو الضعف.

  • وروى ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب غوالي اللئالي:

  • قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل‌٤.

  • ويروي أحمد بن محمد البرقي في كتاب المحاسن عن أبيه عن سعدان عن عبد الرحيم بن مسلم عن إسحاق بن عمّار- وهو سند ممتاز- قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: من قام من مجلسه تعظيماً لرجل؟ قال: مكروه، إلا لرجل في الدِّين‌٥.

    1. قرب الإسناد، ص ٦٤.
    2. الأمالي، للشيخ الطوسي، ص ٥٢۱.
    3. ذكر العجلوني في كشف الخفاء، ج ٢، ص ٢۰۰، الحديث بلفظ:« مداد العلماء أفضل من دم الشهداء».
    4. عوالي اللئالي، ج ٤، ص ۷۷.
    5. المحاسن للبرقي، ج ۱، ص ٢٣٣.

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

4
  • فالعلماء السابقون إنّما كانوا يتركون مدنهم وقراهم، ويسافرون إلى الحوزات العلميّة للدراسة فيها بناء على ما تمليه هذه الروايات التي أوردنا بعضها كشاهد على ذلك، وإلّا فالمرحوم المجلسي خصّص الجزء الأوّل من كتابه «بحار الأنوار» لبيان فضيلة العلم والعلماء والإخلاص في العمل وشروط العلم، وعلماء السوء والعلماء الروحانيّين والإلهيّين، وأورد هناك مئات الروايات. ويوجد أفراد هنا وهناك قد سمعوا بهذه الروايات عبر وصيّة آبائهم، أو نصيحة أمّهاتهم، وانتقلوا بعدها إلى الحوزات للدّراسة لأجل الله تعالى، وقد وصلوا إلى المقام العالي الذي ينبغي الوصول إليه. طبعاً، لا بدّ من العمل على طبق الشروط التي تقدّم ذكرها؛ بأن لا تعود لهم شخصيّتهم التي كانت لديهم، ولا ترجع إليهم نفوسهم وأنانيّتهم، وأن لا يتوجّهوا إلى حطام الدنيا، ولا يُسيئوا الاستفادة من العلوم التي تعلّموها أو من الموقعيّة التي اكتسبوها، ولا ينصبوا شباكهم لاصطياد الناس، ولا يعملوا لغير الله، وفي النهاية يصيروا هم أنفسهم طعمة للشيطان، فهذه شروط لا بد منها.

  • لقد كان في السابق علماء جيّدون جدّاً، ولم يكن هؤلاء وأمثالهم قليلين بل كانوا كثيرين، فقد كان في كلّ زمان منهم واحد، من قبيل الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والبرقي الذي مرّ ذكره (أحمد بن محمّد بن خالد البرقي) الذي كان مقدّماً حتّى على الكليني وكان من جملة الرواة الذين اعتمدهم الكليني في أسانيده، ومن قبيل الخواجة نصير الدين الطوسي والشهيد الثاني والشهيد الأوّل والقاضي نور الله الشوشتري والعلّامة الحلّي والمقدّس الأردبيلي وغيرهم ... فعندما ينظر الإنسان إلى تاريخ هؤلاء، يرى أنّهم منار العلم والكمال والدراية، وفي الوقت نفسه يرى القداسة والتقوى كامنة في أرواحهم، وليس للدنيا أيّ قيمة عندهم .. واقعاً لم يكن للدنيا قيمة عندهم.

  • لقد كان هؤلاء مصابيح ومنارات واقعاً، فكانوا يقودون الناس نحو ذلك المقام الذي كان رسول الله والأئمّة قد سبقونا إليه، كما أنّهم كانوا يهدون أنفسهم وكلّ من جعل نفسه ضمن دائرة شعاعهم والتسليم لهم، للوصول إلى مقام الكمال.

  • تمجيد المرحوم المجلسي للمقدّس الأردبيلي‌

  • وهناك عبارة للمرحوم الشيخ المجلسي ينقلها في مقدّمة «بحار الأنوار» التي ذكر فيها مصادر الكتب التي اعتمد عليها، وتناول أيضاً ذكر مؤلّف كلّ كتاب على حدة، فقد تكلّم هناك عن المقدس الأردبيلي- الذي عاش قبل أربعمائة سنة تقريباً وتوفي في النجف وقبره بجوار قبر أمير المؤمنين عليه السلام- بمقدار سطرين أو ثلاثة، حيث قال: «والمحقّق الأردبيلي‌ في الورع والتقوى والزهد والفضل بلغ الغاية القصوى ولم أسمع بمثله في المتقدّمين والمتأخّرين، جمع الله بينه وبين الأئمة الطاهرين، وكُتُبه في غاية التدقيق والتحقيق»۱.

    1. بحار الأنوار، ج ۱، ص ٤٢.

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

5
  • حسناً، انتبهوا جيداً، يقول المجلسي: إنّ كتب المقدّس الأردبيلي من جملة المصادر التي أعتمد عليها والحال أنّه كان متقدّماً عليه بمائة سنة تقريباً، أو ما يزيد عن المائة بقليل، وفي الحقيقة يمكن القول أنّهما كانا في عصرين متعاقبين ومتقاربين ونعته بالزهد والورع والتقوى والعلم والفضل، حيث قال في حقّه: «بلغ الغاية القصوى» أي آخر نقطة من الهدف، ولم يسمع بوجود مثله في العلماء المتقدّمين والمتأخّرين، وأن كتبه في منتهى التحقيق والتدقيق.

  • والمجلسي خرّيت هذا الفن، فهو علّامة عصره في معرفة الرجال ومعرفة العلماء وتشخيص الكتب، ولا يمكن أن ينخدع في هذا الفنّ أبداً، ولا يمكن أن يتصوّر هذا الأمر في حقّه، وهو يقول بحقّ هذا العالم: «أنّه لم يسمع بمثله في المتقدّمين والمتأخّرين»، فهذه مسألة مهمّة جدّاً .. ماذا كان المحقّق الأردبيلي وماذا كانت علومه وكيف كانت حياته في النجف، وما هي المشكلات التي كان يعاني منها، وكم كان جلوداً في تحمّل المصائب، وكم كان يُؤْثِر على نفسه وكم كان بعيداً عن هواه، وكم كان قد حصل على العلم وحقيقة العلم، حتى قيل في حقّه هذا الكلام وقبلنا به؟!

  • العلم دون العمل لا يؤدّي إلّا إلى البعد عن الحقّ‌

  • إذاً العلم يعطي الكمال للإنسان ويعطيه القدرة، والذين‌ يسعون وراء العلم ويقرنون العلم بالعمل- والعلم في واقعه هو العمل ويدور معه، والعالم بدون عمل يجب أن لا يقال له عالم- يصلون إلى تلك المقامات التي وردت في الرواية وفي الآية القرآنية: وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ‌.

  • فالله تعالى جعلكم مصباح الهداية، وجعلكم الهادين لجميع البشر وخلفاء الله على الأرض. وأنتم حاملو اللواء يوم القيامة؛ حيث يحمل رسول الله لواء الحمد بيده ثمّ يحمله أمير المؤمنين وبعد ذلك يصل هذا اللواء إلى أيديكم. لذا عليكم أن تكونوا حذرين ومحافظين على هذا المقام؛ لا يرديكم غروركم، ولا يذهب بكم علمكم، فالعلم يُردي الإنسان أكثر من أيّ شي‌ء آخر. والعلم كمال مثل الجمال في المرأة .. فالمرأة الحسناء لديها غرور والجمال يؤدي بها إلى الغرور. والعلم في الرجال حكمه حكم الجمال في النساء، فإذا زاد علم الرجل فسوف يعجب بنفسه طبعاً ويغترّ. لكن يجب أن نحاسب هذا الغرور ونُفهمه بأنّ هذا العلم ليس لنا، هو علم الله، فالله هو الذي يعطيه وهو الذي يأخذه، والإنسان ليس سوى آلة في ذلك، وإذا اعتمد الإنسان على نفسه فسيؤدي ذلك إلى الفرعنة والشخصانيّة، وسيتحرك هو وأهله وجميع الأشخاص المرتبطين به نحو نفسه، وسيصير محوراً ومقصداً، فبدلًا من أن يعتبر نفسه ووجوده مرآة لله تعالى، يصير بنفسه محوراً يدعو الجميع إليه، لأنّه يعتبر نفسه أعلى من الجميع ويرى نفسه مقابل الله، فإنّه وإن لم ينف وجود الله ووجود النبي ووجود الإمام ووجود الكتاب، لكنّه عمليّاً يرى أنّ كلّ ما يترشّح من فكره هو الحقّ وما سواه باطل مهما كان، حتى لو واجه آية قرآنيّة أو رواية صحيحة فسوف يؤوّلها ويسقطها عن الاعتبار ويضعها جانباً، ويقول الحقّ ما ذكرناه فقط!

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

6
  • وهذا الأمر من أعظم المخاطر، حيث سيتبدّل الآن ذاك العلم الصافي الموجود في نظام وجوده إلى جمر مشتعل، ويتبدّل مركز الخير هذا إلى جهنّم، لذا ورد لدينا في الروايات التنبّه والحذر من هؤلاء العلماء وعدم اتّباعهم، خشية أن يكون عملك قد صدر من مثل هذه الأماكن! إنّ تحصيلك للعلم يجرّك إلى التجبّر والتكبّر! لذا عليك أن تعتبر نفسك لا شي‌ء وغير موجود، وأن ترى هذه النفس مركزاً للتجلّيات العلميّة لله تعالى.

  • روي في كتاب «عدّة الداعي» بناء على نقل البحار، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من ازداد علماً ولم يزدد هدى‌ (ولم يزدد نور قلبه ولم يزدد قربه من الحقّ) لم يزدد من الله إلّا بعداً۱.

  • فبدلًا من أن يكون العلم مقرّباً إلى الله يصير موجباً للبعد. فعلى سبيل المثال إذا كان رجل يدرس وكان في الدرجة الخامسة، فإذا درس غداً يريد الارتقاء إلى الدرجة السادسة يهبط إلى الدرجة الرابعة، وبعد غدٍ يدرس فيصل إلى الدرجة الثالثة، وبعده يصل إلى الثانية وبعده إلى الأولى وبعده إلى درجة الصفر، ويا ليت التنازل يقف عند الصفر فقط، بل تحت الصفر بواحد، ثمّ تحت الصفر باثنين، تحته بعشرة آلاف، بمائة ألف .. إلى ما لا نهاية. إذا كان هذا الإنسان قد وصل إلى ما لا نهاية في التنازل، فالله تعالى أيضاً لديه من مقام الفضل والكرم والرحمة ما لا نهاية له، كما أنّ تجلّي الجلال والغضب الإلهي في الجهة المقابلة لا نهاية له. فلهيب جهنّم ناشئ من فوران النفس، هؤلاء قد أعطوا نفساً (من خلال ما اكتسبوه من علم) أشدّ لهيباً من النار وأخطر .. النفس التي ظهرت بصورة الدين، بلسان الدين وبعنوان تأييد شريعة سيّد المرسلين، لكن كلّ ذلك كان دعوة إلى النفس ووقوفاً بوجه الله ووقوفاً بوجه الإمام، ومع ذلك كان بصورة الدين، بصورة القرآن، بصورة الكتاب، وبصورة السنّة. هذا الأمر من الأمور العجيبة جدّاً!! كيف يمكن للإنسان أن يصدّق أنّ هذا الشخص قد سعى لطلب العلم، سعى للكمال لكنّه وقع في النهاية في الهلاك من خلال هذا الطريق! أوَيُعقل هذا الأمر؟! نعم!

    1. بحار الأنوار، ج ٢، ص ٣۷؛ و عدّة الداعي، ص ٦٥.

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

7
  • فالقرآن الكريم يقول: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‌ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ‌۱.

  • وفي آية أخرى يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ‌٢.

  • فعندما يغيّروا ما بالنفس ويغيّروا الصفات النفسانيّة، يغيّر الله نعمته عليهم؛ فيسلّط عليهم العذاب الخالد، ويرسل عليهم القحط والزلازل والبراكين، وتفتح الجبال أفواهها وتقذف حمم لهيبها، وينتشر المرض والوباء ويحصل القحط والجفاف وتشتعل الحروب فتُهلك الحرث والنسل. لماذا؟ لأنّهم بدلًا من‌ أن يعتبروا هذه النعمة التي منحها الله لهم من الله ويشكروه عليها، كفروا بها ونسبوها إلى أنفسهم وإلى الأمور الطبيعيّة، واعتمدوا على الأمور السطحيّة، وقطعوا علاقتهم بالله، فقال الله لهم: حسناً! إذا كنتم تقولون أنّكم قد انفصلتم عن عهدتي واستقللتم بأنفسكم، فهذا عنان أنفسكم جعلته على عاتقكم، فلنرى ماذا يمكنكم أن تفعلوا؟!

  • وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‌ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ*٣.

  • أي لو كان أهل الضيع والمدن يؤمنون ويتّقون لأنزلنا بركات السماء والأرض عليهم، وهي البركات الروحيّة والماديّة؛ البركات السماويّة كالعلم والمعرفة والدراية والفعليّة، والبركات الأرضيّة كرفع المصائب والأمراض والشدائد، وليس رفع المصائب والأمراض فقط، بل نجعل الدنيا لهم دوحة غنّاء، وحيثما يضعوا يدهم يروا الخيرات، كلّ ذلك بسبب إيمانهم وتقواهم، لكنهم كذبوا بآياتنا فأخذناهم بما كانوا يكسبون، وبسبب تكذيبهم بآياتنا سلَبنا منهم كلّ هذه البركات، وما أسهل هذا الأمر علينا.

  • مدرسة العلامة الحلي السيّارة مع السلطان خدابنده‌

  • فيما سبق كانت تُدرّس في الحوزات العلميّة دروس القرآن والتفسير، وكان لدى الكثير من العلماء الكبار من قبيل الشهيد الأوّل والشهيد الثاني دروس في المعرفة ودروس في الكلام، وكان لدى العلّامة الحلّي مدرسة سيّارة في ركاب السلطان خدابنده، وكان العلّامة إلى آخر عمره يذهب مع السلطان حيث‌ ذهب حفاظاً على الشريعة؛ فحينما كان السلطان ينزل في مكان، كانت تُنصب الخيام ويأخذ كلّ طالب مكانه فيها وتُنزل الإبل حمولتها من الكتب، وتُشاد في ذلك المكان مدرسة، هكذا كانت مدرسته وهكذا كان تعليمه. وأخيراً ارتحل عن الدنيا في كرمانشاه وانتهت هذه المدرسة بوفاته. ومن هنا نرى أنّ بعض كتب العلّامة قد فرغ من كتابتها في كرمانشاه في المدرسة السلطانيّة السيّارة. لماذا كان يفعل كلّ هذا؟ لأنّ قلبه كان يحترق لشدة شعوره بالمسؤوليّة، فقد أسلم السلطان محمد خدابنده حديثاً، ولو تركه فسوف يرتدّ عن الإسلام ويعود للكفر. فكان يقوم وبداعي الحفاظ على الشريعة، ومع آلاف الغصص التي كان يتجرّعها عالم مسنّ مثل العلّامة الحلّي بدعوة الطلّاب عبر الإبل وخيم الكتّان من هنا وهناك في الحرب والسلم والسفر والحضر حتّى يحفظ إسلام هذا الرجل، وقد وُفّق في ذلك‌٤. وكذا في زمان الشيخ الأنصاري رحمة الله عليه ذاك الرجل المقدّس والمتديّن، فإنّه وإن لم يكن من أهل العرفان ومن أهل التوحيد، إلّا أنّه كان فقيهاً و رجلًا عادلًا وصادقاً حينما كان البعض يرجعون إلى هذا العالم ويطلبون منه درساً في أمور الحكمة والمسائل الإلهيّة، كان يقول لهم: إنّي لست أهلًا لهذه الدروس، اذهبوا إلى سبزوار عند الملّا هادي السبزواري وادرسوا عنده. انظروا! إلى هذا المرجع وهذا الشخص الذي يُعتبر القمّة في الحوزة، يجيز لنفسه أن يقول: أنا لا أعرف هذا المطلب! اذهبوا إلى ذاك المكان من العالم! وأنتم تعرفون المسافة الطويلة التي تفصل بين النجف وسبزوار فهي تستغرق الكثير من الوقت. كما أن الطلّاب الذين ربّاهم المرحوم الشيخ طلابٌ جيّدون، وكان ثلاثة عشر منهم من أساتذة الفقه والدراية والتقوى حقّاً، ولم يكن لديهم أثرٌ لهوى النفس، حتى أنّه بعد وفاة الشيخ الأنصاري أرادوا أن يعيّنوا زعيماً للحوزة فوقع بينهم نزاع، وكان يقول بعضهم للبعض الآخر يجب أن تكون أنت الزعيم! فلم يكن يقبل، بل كان يقول: ليس لديّ القابليّة في تولي هذا المقام، وكانت تلك المجالس تنتهي في بعض الأحيان إلى البكاء والنحيب٥

    1. سورة الأنفال، من الآية ٥٣.
    2. سورة الرعد، من الآية ۱۱.
    3. سورة الأعراف، الآية ٩٦.
    4. ذكر العلامة الطهراني رضوان الله عليه هذا المطلب بشكل مفصّل في كتاب معرفة الإمام، الجزء التاسع، صفحة ۱٢٣.
    5. قصة مرجعية الميرزا محمد حسن الشيرازي( هامش)
      ذكر المرحوم العلامة الطهراني رضوان الله عليه تفصيل قصّة تلامذة الشيخ الأنصاري في كتاب ولاية الفقيه، الجزء الثاني، صفحة ٩٥، حيث قال هناك: ... نقل عن المرحوم الميرزا الكبير الحاج الميرزا محمّد حسن الشيرازي أعلى الله مقامه أنّه قال: إنّي لم أخطُ أيّ خطوة نحو الرئاسة، وإنّ هذا الأمر قد حصل بنفسه، وأخذ بتلابيبي، مع أنّي لم أكن راضياً أيضاً. وينقل أنّه بعد وفاة المرحوم الشيخ الأنصاري رحمة الله عليه، اجتمع كبار طلّابه الذين كانوا ظاهراً سبعة عشر شخصاً، أمثال الميرزا حسن الطهراني النجم آبادي، والحاج الميرزا حسين، والحاج الميرزا خليل وغيرهم، وكانوا جميعاً من الأجلّاء، فاجتمعوا ودعوا أعاظم تلامذة الشيخ إلى ذلك المجلس، سوى السيد حسين الكوه كمره اي الذي لم يدعوه إلى هذا الاجتماع، لأنّه كان رجلًا مستبدّاً برأيه ولا يتزحزح، مع أنّ علميّته كانت بدرجة كبيرة ولكنهم لم يدعوه لهذا الاجتماع، لأنّهم لم يرتضوه زعيماً لأمور المسلمين، ولم يرتضوا حتى مشورته. واجتمع أخيراً هؤلاء السبعة عشر شخصاً من طلّاب الشيخ وكانوا على درجة عالية من التقوى، واتفقوا جميعاً في ذلك على لزوم تقديم الميرزا محمّد حسن الشيرازي لتسلّم مقاليد الأمور وصيرورته مرجعاً لأمور المسلمين. لكنّ الميرزا محمّد حسن الشيرازي لم يكن غير مسرور في ذلك المجلس فحسب، بل راح يبكي وأجهش بالبكاء، لأنّهم قد ألقوا مسؤوليّة هذا الأمر في عنقه، وهو لا يرى نفسه أهلًا لهذا العمل، ولا يرى ذلك من وظيفته أو ممّا يمكنه القيام به وأمثال ذلك. ثمّ قال بعد ذلك للميرزا حسن الطهراني النجم آبادي الذي كان من الطلّاب المعروفين للشيخ: إنّي أشهد أنّك أعلم منّي، فكيف تعيّنني لهذا الأمر؟ فأجاب الميرزا حسن الطهراني: نعم أنا أيضاً أرى نفسي أعلم منك، ولكني لا أصلح للرئاسة، فالرئاسة مضافاً إلى الأعلميّة تحتاج إلى عقل وفكر وتحمّل وسعة لكي يمكن النهوض بهذا الأمر، وأنا لا أمتلك هذه الصفات وأنت تمتلكها، لذا ننصّبك لهذا الأمر، ونحن أيضاً نكون معك ونقدّم لك العون ولا نتركك وحيداً. وخلاصة الأمر فقد ألقيت المرجعيّة في عنق الميرزا محمّد حسن الشيرازي رضوان الله عليه مع بكائه وعدم رضاه. وكذلك قيل حول المرحوم آية الله الميرزا محمّد تقي الشيرازي رحمة الله عليه: كان قلبه طاهراً وصافياً ونورانيّاً إلى درجة لم يكن يتخيّل الرئاسة أصلًا، ولم يكن يخطر في باله التفوّق، أو يدرك معنى الرئاسة. ويقال، إنّ الشيخ هادي الطهراني الذي كان معروفاً بانتقاده لجميع العلماء وتعييبه لهم، لم يستطع أن يشكل على الميرزا محمّد تقي الشيرازي ولا على نهجه وهدفه وقدسه وطهارته وصفاء باطنه. نعم كان إشكاله الوحيد هو قوله: إنّ صفاء الميرزا محمّد تقي هذا ليس صفاءً اكتسابيّاً، بل هو ذاتيّ له، وليس هو المطلوب. فهو معصوم ذاتاً وخارج عن الموضوع، والتحسين والتقبيح إنّما يكون على الصفات الاختياريّة، والميرزا محمّد تقي الشيرازي معصوم ذاتاً، وكان يذكر هذا أيضاً كعيب له. فيجب أن تُسلّم الأمور لمثل هؤلاء! مثل الميرزا محمّد تقي الشيرازي الذي لا يتفاوت الأمر بالنسبة إليه لو أقبلت كلّ الدنيا إليه أو أدبرت عنه. وينقل عنه قصص كثيرة ومفصّلة.
      قصة إرجاع الشيخ محمد البهاري المقلدين إلى الميرزا محمد تقي الشيرازي واختياره( هامش)
      ومن جملة ما يحكى عنه: سئل سماحة الشيخ محمّد البهاري رحمة الله عليه وكان من الطلّاب البارزين للمرحوم الملّا حسينقلي الهمداني رضوان الله عليه عن الرجوع في التقليد إلى الميرزا محمّد تقي الشيرازي، فقال: سوف أمتحنه! وكان المرحوم الميرزا محمّد تقي الشيرازي يصلّي إماماً للجماعة في الصحن المطهّر لحرم سيد الشهداء عليه السلام ويقتدي به كلّ من يصلّي في الصحن، فجاء سماحة الشيخ البهاري يوماً ووضع سجّادة صلاته بموازاة سجّادة الميرزا الشيرازي وشرع بالصلاة مقارناً له أثناء تأدية الميرزا محمّد تقي الشيرازي للصلاة، وبعد أن فرغ من الصلاة قال لأولئك الأشخاص الذين كانوا قد سألوه: قلّدوا هذا الرجل! لأنّه لم يخطر في قلبه أصلًا في جميع حالات الصلاة أنّ هذا الشخص قد جاء ووقف إلى جانبه وأخذ يصلّي بموازاته! ويحكى أيضاً أنّ الشيخ محمّد البهاري نفسه كان في أحد أسفار الزيارة إلى سامرّاء قد ركب نفس المحمل الذي ركبه الميرزا محمّد تقي الشيرازي( وكان الناس يسافرون في ذلك الزمان بواسطة العربة أو الهودج، فكان يجلس إلى هذه الجهة شخص بينما يجلس في الجهة الأخرى للمحمل شخص آخر) قال: إنّي قد طرحت مطلباً علميّاً وهدفت منه إثارة عصبيّة الميرزا وإخراجه عن طوره، عسى أن تصدر منه جملة أو كلام خلاف، ولكن لم يصدر منه أيّ ردّ فعل على الرغم ممّا كنت أفعله طوال هذا السفر بين الكاظميين وسامرّاء يبلغ ثمانية عشر فرسخاً الذي قطعناه سويّاً على البغل حتّى أنّي كنت في بعض الأحيان أتصنّع استعمال ألفاظ مثل: لا تفهم هذا المطلب، وما شابه هذا الكلام؛ ومع ذلك بقي محافظاً على طوره وظلّ يجيبني بهدوئه المعتاد انتهى.

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

8
  • اختلاف العلماء بعد المشروطة وتعطيل دروس الحكمة والفلسفة والعرفان‌

  • أمّا بعد المرحوم الشيخ وطلّابه، فقد حصلت قضيّة (المشروطة) وما ترتّب عليها من اختلاف بين العلماء نتيجة نفوذ النزاع السياسي بين الروس والإنكليز إلى الحوزة، عندها تعكّرت الأجواء قليلًا، وصار كلٌّ يجرّ النار إلى قرصه؛ فهذا يدّعي أنّه هو الذي يمثّل الشريعة، وذاك يدعي أنّه الذي يمثّل الشريعة. فشبّ النزاع بينهم واستمر على هذا الحال، فلم يقتصر الأمر على توقف دروس الحكمة والفلسفة والعرفان بل تعطّلت هذه الدروس، وتعطلّت دروس المعارف أيضاً، وأخيراً وصلت الأمور إلى نقطة فاضحة جدّاً بحيث لم يعد يجرؤ أحد على ذكر اسم كتاب «الأسفار» مثلًا في حوزة النجف أو في حوزة قم، ولم يعد يُرى في المكتبات أي كتاب عن الحكمة، ومن يريد أن يدرس هذه الدروس وهو بطبيعة الحال كان يعدّ رجلًا غريباً لم يكن ليجد له درساً في تلك الحوزة. مع العلم أنّه كان يوجد أساتذة كبار في الحكمة من قبيل الشيخ محمّد حسين الأصفهاني، و الميرزا محمّد باقر الاصطهباناتي، و شيخ الشريعة الأصفهاني، الذين كانوا من أساتذة الحكمة وكانوا من المحافظين عليها.

  • وبعد أن ارتحل هؤلاء ارتحل معهم كلّ شي‌ء، ارتحلت معهم علوم المعقول. ولم يبق في يد أحد سوى أن يقرأ رواية مثلًا ويقوم بشرحها وبيان ظاهرها وتأويلها، وهذا الشرح والتأويل خاضع في الواقع للأفكار التي يحملها القارئ، والحال أنّ الروايات لا يمكن أن تفهم أصلًا بدون العلوم العقليّة.

  • هذا بالنسبة للحكمة، وأما العرفان فلا تذكر اسمه على لسانك أصلًا، فإذا أراد شخص لا قدّر الله أن يسعى وراء الواقع والحقيقة ويهتمّ بنفسه قليلًا، فسوف يكون هذا القدر كافياً في أن تنظر الحوزة جميعها إليه نظر استهانة وتسخيف، وتعتبره من الأراذل المنبوذين وتراه شخصاً كافراً وأجنبيّاً.

  • غربة أمير المؤمنين عليه السلام في حوزة النجف‌

  • ما معنى هذا؟! إذا كانت الحوزة .. حوزة النجف حيث مقام أمير المؤمنين، فما معنى هذا الكلام؟! لماذا يمنع اسم العرفان هنا؟! هل تعلمون ما معنى هذا؟ هذا معناه أنّ نفس اسم أمير المؤمنين عليه السلام ممنوع! نفس أمير المؤمنين عليه السلام صار هدفاً للطعن وللسهام، لذا صارت علومه مرمىً للسهام أيضاً. أفهل كان لنهج البلاغة وجود في النجف؟ أوهل كان أحد يعلم بنهج البلاغة؟! بل لعلّ بعض الطلّاب كانوا يذهبون إلى النجف ويبقون هناك عشرين عاماً ويعودون إلى بلادهم، دون أن تمرّ يدهم على نهج البلاغة، ودون أن يعلموا ما هو هذا الكتاب؟ إنه نهج البلاغة من تأليف أمير المؤمنين، أجل .. هو الذي يلي القرآن في الفصاحة والبلاغة، ويقال إنّه الكتاب التالي للقرآن. ما أقوله لكم ليس أساطير!! هذه وقائع وحقائق .. من هنا تفهم أنّهم لأجل هذه المسائل كانوا يرمون المرحوم القاضي رضوان الله عليه بالتصوّف، وكذلك كانوا يقولون بحقّ أساتذته الذين هم أعلى منه كالآخوند ملّا حسينقلي الهمداني بأنّهم من الصوفيّين، وأيضاً عن السيّد جمال أنّه صوفي، وكانوا يقولون عن السيّد عبد الهادي الشيرزاي الذي كان لديه شي‌ء من التزكية والمجاهدة لنفسه بأنّه يميل إلى التصوّف، ويرمونه بأنه كان يعتني بتلامذة المرحوم القاضي.

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

9
  • هذا هو ميزان النجف، ألا ينبغي أن نقرأ الفاتحة على هذه الحوزة؟! وأن نعلن وفاتها واقعاً؟! هل هذه حوزة؟! يعني هل هذه تربية مدرسة القرآن وأمير المؤمنين؟! .. أشخاص يجتمعون حول سفرة سوداء، هذا يسحبها نحوه وذاك يسحبها نحوه، وهذا يدعو فلاناً وذاك يدعو فلاناً، وهذا يرسل رسالته العمليّة لطبعها في هذه المدينة ... وهكذا وهكذا!.

  • هل تعلمون كم لاقينا في السنوات التي قضيناها في النجف الأشرف من المرارات على يد هؤلاء؟ ما كانت تهمتنا؟! هل كنت صوفيّاً؟! هل كنت مطلقاً للشاربين كما يفعل الصوفيّون؟! هل كان في يدي كشكول الدراويش؟! هل كنت أحمل عصا الدراويش؟! لا لم يكن شي‌ءٌ من ذلك أبداً، بل كان ذلك فقط لأنّ الإنسان يريد أن يفهم ماذا! إذا كان الله موجود واقعاً فلنرى ما هو؟ إذا كان ما يقوله الإمام صحيح فلننظر ماذا؟ لم يكن هناك أيّ شي‌ء غير السعي وراء الفهم. لكنّ هؤلاء الأشخاص رأوا أنّه إذا ظهرت هذه الطريقة وصارت واضحة، فسوف تخرّب جميع دكاكينهم، فهم في اضطراب دائم، علمهم علم شيطاني، يخافون أن لا يعود أحد يسمع كلامهم أبداً، أن لا يصل كلامهم إلى أذن أحد، فإذا كان مخاطبوهم من أهل العلم والاطّلاع، يمكنهم أن يبحثوا ويعرفوا أن حقائبهم خالية المحتوى وخاوية من أساسها.

  • كنت يوماً في أحد المجالس في النجف، فشهدت بنفسي نزاعاً حدث بين شخصين، وكان أحدهما يقول للآخر لماذا أتيت بفلان (الحاج عبدالرزّاق الكرمانشاهي) إلى النجف وأخذته إلى فلان؟ فهؤلاء إذا أتوا إلى النجف يجب أن يبقوا بعيدين عن هذه الأجواء، وعليهم أن يمكثوا في النجف قليلًا ثمّ يرحلوا، لأنّهم إذا بقوا في النجف واطّلعوا على حقيقة أفكار البعض وأخلاقهم، فسوف يقطعوا إرسال الحقوق التي بأيديهم إلى النجف! 

  • العوامل التي منعت إبعاد المرحوم العلامة الطهراني عن النجف‌

  • لقد صارت حوزة النجف حوزة القتل والإغارة والنهب وسلب سهم الإمام، كم تحمّل منهم أمير المؤمنين؟! كم صبر عليهم ولم يطردهم خارجاً؟! أتسمعون ما أقول لكم؟ لقد كنت في النجف، والله تعالى هو الذي حرسني، هناك ثلاثة عوامل جعلتهم عاجزين عن طردي من النجف، وإلّا لطردوني.

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

10
  • الأوّل: أنّي لم أكن آخذ راتباً شهريّاً من أحد، وإلّا لقطعوا هذا الراتب حتماً، فكلّ من كان يقيم كثيراً في مسجد السهلة أو في مسجد الكوفة، أو كانت مشاركته في المجالس العموميّة قليلة، كانوا يقطعون راتبه.

  • والثاني: إنّ أقاربي وعشيرتي كانوا جميعهم من العلماء وأهل العلم، سواء الأموات أم الأحياء، وهؤلاء كانوا يعرفونهم جميعاً، ولم يكونوا يستطيعون مواجهتي خوفاً منهم، وكانوا يعرفون أنّ أقاربي العلماء سيقفون في وجههم إذا واجهوني، وكانوا يرون أنّ جاههم وشخصيّتهم لا تقدر على هذه المواجهة.

  • الثالث: أنّي كنت من الطلّاب الجريئين، بحيث أنّ كلّ من كان يقف أمامي كنت أواجهه مباشرة، فلم يكن أحد يجرؤ على ذكر السيد القاضي بسوء في المجالس أو المحافل التي أكون فيها، وكلّ ما كان يقال عليه كان يحصل بغيابي، لكنّه كان يصل إلى مسامعي. وكذا الحال بالنسبة للعلّامة الطباطبائي، أبداً وأبداً!! لقد كنت أواجههم بكلمات معدودة مفادها أنّ كلّ ما لديكم لا يساوي فلساً، وحقيقة الأمر هي هذا. ولا يزال بعضهم حيّاً حتى الآن. ومع ذلك عندما كانوا يروني ماشياً في‌ الطريق كان الجميع ينظر إليّ نظر بغض وعداوة، فمن المعلوم أنّهم سمعوا عنّي شيئاً، وإلّا فلماذا ينظر إليّ بالذات؟ فأنا طالب علم ذهبت إلى النجف، سيّدٌ، مشغول بالدراسة، مشغول بأعمالي الخاصّة، ولم يكن وضعي الدراسي سيّئاً، بل كان العلماء يقولون: درسه جيّد، لا يضيع عمره هدراً .. وأمثال ذلك، وكنت أكتب تقريرات الدرس أيضاً وغيرها، ومن هذه الجهة أيضاً لم يكن هناك أي مشكلة.

  • إذاً ما هو هذا الإشكال؟! الإشكال هو أنّكم تقولون: هذا الشخص صوفيّ منحرف .. لنأتي ونستوضح المسألة، ما معنى كلمة صوفي؟ هل تعني الدراسة جيداً؟! هل تعني الالتفات إلى النفس ومراقبتها؟! إذا كان الأمر كذلك، فجيّد للإنسان أن يكون صوفيّاً. وإذا لم يكن الأمر كذلك فلماذا إذاً تلقون التهم؟! أنتم الذين تتّصفون بعنوان المرجعيّة (ومراجع ذلك الوقت كانوا يبنون على هذا الأساس). وكان البعض يقول: نحن نقبل بكلّيات العرفان، لكنّ هذا الكلام من الأمور الجزئيّة وليس مهماً، فالإنسان سيصل، وعليه أن يتبع هذه المصادر وهذه الأمور؛ وهي تبليغ الشريعة وترويجها! وليس هناك أيّ شي‌ء آخر، صحيح؟

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

11
  • أنتم تعرفون في هذه السنوات كم لاقى المرحوم السيد القاضي والعلّامة الطباطبائي وأمثالهما وكلّ من يريد أن يشمّ شيئاً من رائحة العرفان .. من التهم! وكم عانوا من حالة التضييق؟ هؤلاء أُسقطوا من الوجود. أمّا أولئك فاجتمعوا حول قبر أمير المؤمنين تحت عنوان الدين، وبعنوان حفظ الشريعة، وبعنوان الحفاظ على حوزة الألف عام التي أسّسها الشيخ‌ الطوسي، باعتبار أنّ هذا الواجب ملقى على عاتقهم الآن، يريدون أن يحفظوا الحوزة .. هيا باسم الله! تفضّلوا واحفظوها! فهل يمكن أن يحتال أحد على أمير المؤمنين؟! عزيزي! لا فرق عند أمير المؤمنين بين حياته ووفاته، فهو يحفظها هو يحفظها هو يحفظها، وفي آخر المطاف سوف يرميكم على وجوهكم في قعر جهنّم، وهو لا يهاب ذلك أبداً .. فلا يمكن التلاعب مع أمير المؤمنين.

  • العلماء المنغمسون في الدنيا أخطر من أي موجود آخر

  • إنّ العلماء المغرورين بأنفسهم وبشهرتهم، ويجعلون الدنيا شبكة يصطادون بها فريسة نفوسهم، هم أخطر من أيّ موجود على الأرض.

  • كنت أفكّر يوماً بأنّ الله خلق في هذه الدنيا بعض الحيوانات؛ كالذئب والأسد والنمر، فهذه كلّها حيوانات مفترسة، وقلت في نفسي مثل أيّ حيوان هؤلاء؟ لكن رأيت أنّه لا يمكن أن نشبّههم بأيّ حيوان، بل يجب أن نشبّه الحيوان بهؤلاء الأشخاص، وبعد ذلك رأيت أنّه لا يمكن تشبيه الأسد والنمر بهؤلاء أيضاً، فهذه الحيوانات حكمها حكم الدبّابة، فالدبّابة عندما تتحرّك إلى الأمام لا تفهم شيئاً، سواء كان تحتها إنسان أم حيوان أم شجر أم حائط أو أيّ شي‌ء آخر، فإنّها سوف تسحقه وتكمل تقدّمها. وعلماء السوء والعياذ بالله نفوسهم هكذا، فإنّهم لأجل الوصول إلى مقاصدهم وتخيّلاتهم الشيطانيّة لا يقف أيّ شي‌ء في وجههم ولا يمنعهم أيّ مانع من تحقيقه. إذا قرأتَ لهم ألف آية قرآنيّة، فسوف ينكرون دلالتها سريعاً ببعض المعادلات، ويقولون إنّها تتحدّث عن تلك‌ المسألة .. وعن تلك، ولا تتحدّث عن هذه المسألة. نقرأ لهم رواية، يقولون إنّ هذه الرواية معارضة بتلك الرواية، ويجب العمل بتلك الرواية. عزيزي! أنت بالأمس رجّحت هذه الرواية في المجلس الفلاني، فكيف ترجّح الآن تلك الرواية طبقاً للمصلحة التي تراها؟! كنت تقول إنّ لتلك الرواية معارض، وهي غير صالحة للعمل على طبقها، فلماذا تتمسّك بها اليوم؟! وأمثال ذلك ... عجيب جداً!

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

12
  • ذلك الوقت .. انتبهوا جيداً لتعرفوا المسألة من أي قبيل؟ المسألة هي أنكم إذا سمعتم أنّ صدّام لعنة الله عليه قد دخل بالدبّابات إلى صحن أمير المؤمنين عليه السلام، فلا تتعجّبوا كثيراً.

  • الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه‌

  • أقسم بالله إنّ ذاك الشخص الذي يتسمّى باسم المرجعيّة مثلًا وأمثاله، والمنحرف عن صراط أمير المؤمنين، ويرد الصحن بالأبّهة والعظمة والجلال والحاشية .. هو أسوأ حالًا من ألف دبّابة وأخطر منها! وتلك الدبّابات البشريّة هي التي أوجدت هذه الدبّابات الآليّة، هذه الدبّابات إنّما هي لامتحاني أنا وأنت‌؛ الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه‌۱، فصدّام رجل‌ ظالم ومنتقم، لكنّ هذه الأمور لم تأتِ بلا سبب، وليست وليدة نفسها، ليست خافية على الله تعالى ولا بعيدة عن نظره، وليست خافية على إمام الزمان، لا يستطيع صدّام أن يخدع الله تعالى ويختفي في هذه الغرفة ثمّ يفاجئه بالظهور أمامه. فإنّ صدّام مع كونه ظالماً وعليه لعنة الأوّلين والآخرين، حيث لم يظهر رجل ظالم مثله‌، إلّا أنّه مع ذلك إذا أردنا أن نقيس الأمور بالتحقيق؛ هل هذا أخطر أو ذاك الملتحي من أوّل عمره‌٢

  • الذي لبس الجبّة والعمامة وذهب إلى سراديب النجف المرطبة ونام على السطوح وتحمّل كلّ هذه المصاعب الشديدة، كلّ ذلك كان لأجل أن يصبح زعيماً، لا لكي يقدّم خدمة للدين!

  • لا يمكن أن يُخدع أمير المؤمنين، فأمير المؤمنين صاحٍ وهو يريد أن يقلب أمور هذا الجهاز الفاسد. وانظروا أيّ أنظمة جيدة سوف تأتي بعد ذلك إن شاء الله مكان هذه التي ستضمحلّ، والحوزة التي ستقام بعد ذلك هي حوزة جيدة؛ الحوزة التي يرتضيها الشهيد الأوّل والشهيد الثاني والعلّامة الحلّي والمقدّس الأردبيلي وأمثال هؤلاء، الحوزة التي تحمي القرآن والعلم والعرفان والعقل والدراية، وتتيح لطلابها الوصول إلى الحقائق، الحوزة التي تدعو طلّابها إلى الإيثار والصفح والعبادة وإحياء الليل والتفكّر في آلاء الله تعالى، الحوزة التي يكون طلّابها من المحصّلين والمجدّين والمراقبين كلّ ساعة من حياتهم كي لا تذهب سدى، وممّن يرون أنفسهم جنوداً وعباداً لله يعملون على طبق أوامره وطلبه. عندها ستقام تلك الحوزة إن شاء الله.

    1. كلمة الله، ص ۱۸۰، وقد ورد مضمون هذا الحديث في روايات الخاصّة والعامّة: أما روايات الخاصّة: فقد ورد في الكافي، كتاب الكفر والإيمان، باب الظلم، ج ٢، ص ٣٣٢، حديث ۱٣: عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن ابن أبي نجران عن عمّار بن حكيم عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قال أبو عبد الله عليه السلام مبتدئاً: من ظلم سلّط الله عليه من يظلمه .. وأيضاً في صفحة ٣٣٤ من نفس المصدر الحديث ۱۸: عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبيه عن أبي نهشل عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام( في بعض النسخ عن أبي جعفر عليه السلام): قال: قال من عذر ظالماً بظلمه سلّط الله عليه من يظلمه ... وأيضاً في كتاب ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص ٣٢٣، حديث ۱٦: أبي رحمه الله قال: حدّثني سعد بن عبد الله عن محمّد بن عيسى اليقطيني عن إبراهيم بن عبد الحميد عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: ما انتصر الله من ظالم إلّا بظالم وذلك قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا. وأما في روايات العامّة: فقد ورد في كتاب الدرر المنتثرة، للسيوطي: الظالم عدل الله في الأرض ينتقم به ثمّ ينتقم منه. وأيضاً في نفس الكتاب: من الله تعالى يقول: أنتقم ممّن أبغض بمن أبغض ثمّ أصيّر كلّا إلى النار. ومثله في المقاصد الحسنة للسخاوي. وفي كتاب الأسرار المرفوعة للملّا علي القادري: ما انتقم الله من قوم إلّا بشرٍّ منهم. وأيضاً في كشف الخفاء للعجلوني: إنّ الله ينتقم من الظالم بالظالم.
    2. .

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

13
  • نعم هذه الصفات التي نقرؤها في الروايات وأمثالها، عندما نطبّقها على أفعال هؤلاء، نظلّ نؤوّلها ونقول لنحملها على الظاهر .. احملها على الظاهر! احمل هذا الفعل على الصحّة! احمل على الصحّة! نقول ذلك قدر المستطاع. على الإنسان أن لا يتجاهل الظاهر مطلقاً، لا أبداً، فنحن نحمل على الظاهر ونحمل على الصحّة، لكن هل يغيّر الحمل على الظاهر من الواقع شيئاً؟! فنحن نحمل على الظاهر ونؤثِر السكوت، ويذهب الناس والأشخاص الذين لا يملكون حيلة وراء هؤلاء المساكين، لكن هل اختفت الحقيقة وهل انمحت حقيقة الحقائق وأصل الوجود؟! وهل انعدم السرّ الرحماني والحقيقة المحمّديّة؟! وهل هذه الحقائق مخفيّة عن أمير المؤمنين؟!

  • إقامة خمس صلوات جماعة عند صلاة المغرب في صحن النجف الأشرف!!

  • عندما يرى الإنسان أنّ في صحن أمير المؤمنين تقام خمس جماعات لصلاة المغرب، خمس جماعات في هذا الصحن الصغير! هل هذا صحيح؟ الله يقول يجب أن نكون جميعاً يداً واحدة وننبذ التفرّق فيما بيننا .. بضعة جماعات في هذا المكان الضيّق، هل هذا صحيح؟ هذا فضلًا عن الجماعات التي تقام في المساجد المحيطة بالحرم كمسجد عمران وبالاسر ومسجد الخضراء، وغير الجماعات التي تقام في الأروقة داخل الحرم، ففي كلّ زاوية صلاة أخرى، فإذا ذهب هذا الإمام أتى آخر بعد عشر دقائق. وتبقى تقام عدّة جماعات لصلاة الصبح الواحدة تلو الأخرى كذلك .. حتى تقرب الشمس من الشروق؛ يقول تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً۱.

  • يجب أن تُصلّى الصلاة في أوّل الوقت وفقط! والواجب صلاة واحدة لا أكثر، لذا يجب أن تقام صلاة واحدة في الصحن لا أكثر من ذلك. وإذا أراد إنسان أن يقيم جماعة أخرى يجب أن يُمنع منها، ولا يصلي. أو مثلًا بعضهم كان يصلي الصلاة نفسها مرّتين، أو يصلي صلاة الظهر في هذا المسجد ثمّ يعيد صلاة الظهر هذه في مسجد آخر. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ٢. فهل كان رسول الله كذلك؟! وهل كان‌ الأئمّة كذلك؟! أو أنّ هذه الصلاة تقام بعنوان حفظ الشريعة! فهل هذا حفظ للشريعة؟! هذا حفظ للبطن، حفظ للمقام. وأيّ مقام؟ ذاك المقام الأرذل والأكثر انحطاطاً من أيّ مقام آخر .. وسوف ينجرّ الإنسان بالنهاية إلى هذه الوجاهات التي ترونها .. الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه‌٣ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ‌٤.

    1. سورة النساء، من الآية ۱۰٣.
    2. سورة الأحزاب، من الآية ٢۱.
    3. وسائل الشيعة، ج ٢٦، ص ۱٤
    4. سورة المنافقين، من الآية ۸.

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

14
  • مسألة النفاق والمنافقين ليست منحصرة في زمن رسول الله‌

  • عندما نقول المنافقين .. تظنّون أن المراد بالمنافقين أولئك المنافقون الذين كانوا في زمان رسول الله! كلّا، فالمنافقون ليسوا منحصرين بأولئك، بل كلّ من لم يفهم أنّ العزّة مختصّة بالله وبرسول الله وبالمؤمنين فهذا منافق. كلّ من يدعو إلى نفسه كما تعبّر عنه الآية القرآنية المباركة: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ‌۱. فهذا منافق. المنافق يعني من يكون له وجهين، ظاهره يبرز شيئاً لكنّ باطنه شي‌ء آخر. وإذا واجهته يقول لك شيئاً وفي غيابك يقول كلاماً غيره. وإذا لم يقل في غيابك خلاف ما قاله لك، فإنّ في قلبه ما هو أعجب من ذاك النفاق، حيث يخفي في قلبه خلاف ما يظهره لك وغير الذي يقابلك به؛ يقابلك بالبشاشة والتبسّم والمجاملة، لكنّه يخطّط في باطنه للقضاء عليك وقلعك من الجذور. يقول في الظاهر: أيّها الناس اتّبعوا الإسلام! اتبعوا القرآن! وأمثال ذلك، ولكنّه يعمل على خلاف الإسلام، ويسير في حياته على أساس أن يمحق‌ الأحكام الشرعيّة، فهذا منافق. ليس لله مع أحد من الناس صداقة خاصّة، فهو يهدي الناس ويحركهم إلى الصراط المستقيم، وميزانه ميزان مستقيم؛ وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ‌٢. هل يمكن لله أن يقول: لقد خلقنا السماء والأرض على أساس العدل وميزان الحقّ، وبعدئذٍ يعطينا عنان أمورنا في هذه الأمور بأيدينا ويقول: كلّ تخيّل وكلّ اشتباه وكلّ عمل سيّئ تعملونه فأنتم أحرار في ذلك، لأنّكم أنتم علماء الشريعة، وقد جعلت الاختيار بيدكم وجعلت لديكم الولاية أيضاً، ويمكنكم الإتيان بأيّ فعل تريدونه! هل هذا صحيح؟! كلّا! فيجب على طلّاب العلوم الدينيّة جميعاً أن يخطوا خطوتهم الأولى بالعلم والعمل، كما فعل أولئك وكما فعل السابقون. انظروا إلى أيّ المقامات وصل السيّد ابن طاووس وأخوته علي وأحمد! انظروا إلى السيد بحر العلوم الذي لم يمضِ على موته أكثر من مائتي عام! انظروا أيّ مقامات كانت لديه! انظروا إلى أمثال الشيخ جعفر كاشف الغطاء الذي كان من طلّاب بحر العلوم وكان ملازماً له في دوراته، أيّ رجال طاهرين كانوا وكم كان لديهم من الصفاء! وكم شكل من أشكال الدنيا عُرض عليهم لكنّهم لم ينهزموا أمامه. بل كانوا يحيون الليل في محراب العبادة ويبكون ويستغيثون بالله. وكان سواء عندهم؛ قلّدهم جميع الناس أم لم يقلّدهم أحد، بل لم يكونوا يشترون هذه الأمور بفلس واحد. لذا يجب على الإنسان أن يمشي على هذا الصراط، وإلّا فهناك‌ خطر جدّيّ ينتظره، وما قاله الله تعالى للسابقين فهو متوجّه إلينا أيضاً. فالآيات القرآنيّة لديها شمول وعموم، وليست منحصرة برسول الله وبزمان رسول الله، بل هي شاملة لجميع الأزمنة إلى يوم القيامة بدون استثناء.

    1. سورة آل عمران، من الآية ۷٩.
    2. سورة الرحمن، الآيتان ۷ و ۸.

أهمية المواءمة بين العلم و العمل وعلل زوال حوزه نجف

15
  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد