32

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

9608
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةحقيقة العبودية

جلسات المجموعة(8 جلسة)

التوضيح

هل توجد ضرورة لاستعمال العلم؟ وإذا كانت هناك ضرورة لاستعماله، كيف يُمكن تحقيق ذلك؟ هل يُمكن للإنسان تتبّع الآخرين، أم ينبغي عليه حصر الاهتمام بنفسه؟ ما هو سبب غفلة الإنسان عن الحقائق؟ هل يكفي مجرّد الادّعاء في السير والسلوك؟
هي أسئلة سعى سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لشرح فقرة «واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه» من رواية عنوان البصريّ الشريفة؛ في ضمن حديثه عن بعض المسائل المهمّة الأخرى.

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٣٢

  •  

  • ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

2
  •  

  • أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم‌

  • بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم‌

  • وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي ‌القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد

  • وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين‌

  • لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء

  • وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم‌

  • إلَى يوم الدّين‌

  •  

  • السعي نحو إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام

  • قبل الحديث عن رواية عنوان الشريفة، ارتأيت اليوم أن أطرح على أنظار الرفقاء مسألة قد يكون من المناسب طرحها؛ فقد كان من دأب وديدن الإمام الصادق والإمام الباقر والإمام الرضا والإمام موسى بن جعفر وبقيّة الأئمّة عليهم السلام أن يحوّلوا بيوتهم في أيّام محرّم (الأيّام العشرة منه) إلى محلّ لإظهار الحزن واللوعة على مصيبة كربلاء، وكانوا يدعون الناس للمجئ، وقراءة العزاء، وذكر المصائب؛ وخلاصة القول أنّهم كانوا يسعون للإبقاء على ذكر واقعة سيّد الشهداء عليه السلام، حيث رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

  • «رَحِمَ اللهُ امْرَءًا أحيَى أمرَنا»۱

  • فالمراد من «إحياء الأمر»: إحياء ذكر الإمام عليه السلام، وذكرياته؛ وبشكل عامّ، إحياء حقيقة الولاية في ضمن الحديث عن الأمور الظاهريّة التي تحكي عن تلك المسألة؛ ولهذا، كان أيضًا من دأب المرحوم الوالد رضوان الله تعالى عليه وديدنه أن يكسو في أيّام محرّم وصفر جدران منزله ـ حتّى الغرف الداخليّة ـ بالسواد؛ أي بتلك اللوحات التي تتضمّن أشعار "محتشم"؛ وهي أشعار راقية جدًّا، والظاهر أنّه كتبها بإخلاص؛ هذا، ويقع قبر محتشم بكاشان.. رحمة الله تعالى عليه. لقد كان العلاّمة رحمة الله تعالى عليه يمتلك مثل هذه اللوحات؛ لكن، لا يلزم على الإنسان أن يكسو جميع المنزل بالسواد، بل يكفي في ذلك الغرفة الخارجيّة وغرفة الاستقبال؛ وذلك حرصًا على العمل بهذه السنّة، ولكي يُبرز الشيعيُّ هذا الشعار أمام الناس، ويكون مصداقًا للحديث الشريف الذي يقول:

  • «شيعَتُنا خُلِقوا مِن فاضِل طينَتِنا، يفرحونَ لِفَرَحِنا وَ يحزَنونَ لِحُزنِنا»؛

  • أي: إنّ تلك الحقيقة النورانيّة التي خلق الله تعالى منها وجودنا خلق من فاضلها وممّا زاد منها شيعتنا؛ ولهذا، فإنّه بمقتضى التشابه القائم بين الشيعيّ وبين تلك الذوات المقدّسة، فإنّه على الإنسان الشيعيّ أن يستنّ بسنّتهم، ويجعل مسألة الاقتداء بهم نُصب عينيه على الدوام، وأن يكون حاكيًا عن تلك الحقيقة في مرتبة أدنى وأنزل؛ ومن هنا، من الجيّد للأصدقاء ـ إذا لم يكن لديهم أيّ مانع ـ أن يضعوا في غرفهم الخارجيّة وغرف الاستقبال عين تلك اللوحات، ليكونوا شركاء لأهل البيت عليهم السلام في المصاب.

    1. بحار الانوار، ج ۱۰٥، ص ۱٥؛ مستدرك الوسائل، ج ۸، ص ٣٢٥

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

3
  • أهمّية استعمال العلم

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ:

  • «فَإنْ أرَدتَ العِلمَ، فَاطْلُبْ أوّلًا في نَفسِكَ حقيقة العُبوديَّة».

  • فهنا، نجده عليه السلام يُقيّد العلم بالعبوديّة؛ وكأنّ العلم لا ثمرة له ولا فائدة منه بتاتًا من دون عبوديّة، حيث استعرضنا سابقًا مجموعة من المسائل في هذا المجال.

  • «واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه، واستَفْهِمِ اللهَ يفْهِمْكَ».

  • أي: عليك أن تهدف دائمًا في طلبك للعلم إلى استعماله؛ فيكون مرادك ومقصودك من العلم هو استعماله واستخدامه؛ لكن، هل يُمكن للإنسان أن يجعل هدفًا آخر لطلب العلم؟ فالذي يسعى لتحصيل علم ما تكون غايته من ذلك: العملُ بمفاد هذا العلم؛ وحينئذ، هل يُمكننا تصوّر وجود هدف آخر منه؟ فإذا سعى الإنسان إلى تعلّم مهنة، أو تحصيل تجربة، فأيّة غاية تكون له من هذا السعي؟ غايته العمل بمقتضى ذلك؛ وإذا رغب الإنسان في دراسة الهندسة المعماريّة، فإنّ غايته من ذلك أن يفتح مكتبًا خاصًّا، لكي يلتجئ إليه الذين يُريدون تشييد بناء؛ فهل رأيتم لحدّ الآن أحدًا درس الهندسة المعماريّة، ثمّ ذهب للجلوس في منزله؟ وهل شاهدتم لحدّ الآن أحدًا تعلّم الطبّ، وصار طبيبًا حاذقًا، ثمّ تخلّى عن ذلك، وقعد في بيته؟ أو أن يسعى لتعلّم النجارة، ويصير نجّارًا ماهرًا؛ وحينما يصير مطّلعًا على دقائق هذه الحرفة ولطائفها وجزئيّاتها وكلّياتها، فإنّه يتركها؟ لا يوجد أيّ معنى لذلك، ولا يصحّ أبدًا! فكلّ من يطلب علمًا، يكون هدفه من ذلك استعمال هذا العلم، واستخدامه، والاستفادة منه؛ وعليه، لماذا يقول الإمام الصادق عليه السلام هنا: «واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه»؟ وما هي غايته من ذلك؟

  • فأحيانًا، نجد بأنّ الإنسان لا يستعمل العلم الذي يتعلّمه؛ لكن، متى يكون ذلك؟ فالعلم عبارة عن مجموعة من الحقائق الواضحة والمسلّمة؛ وعلم الطبّ [مثلاً] عبارة عن ثلّة من الحقائق الموجودة في الخارج التي يطّلع عليها الطبيب، ويستنبط منها مسألة معيّنة، ويوجِد على أساسها حادثة معيّنة؛ بمعنى أنّه يفحص المريض مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف والأمور المتحقّقة في الخارج، ويتوصّل عن طريق الأجهزة المختلفة إلى مجموعة من المسائل؛ ليتّخذ قراره بناءً على كلّ ذلك؛ فما هي حقيقة هذا الأمر؟ إنّه علم؛ وذلك لاحتوائه على مضمون يتمثّل في تلك الحقائق الخارجيّة التي يحصل بواسطتها الإنسان على مجموعة من العلوم. فالمراد من العلم الحقيقيّ ـ كما أسلفنا الذكر ـ هو إدراك عالم الوجود، ومعرفة الخالق، وكافّة ما يرتبط بصفاته وأسمائه وآثاره الوجوديّة التي تتجلّى في عالم الظهور والبروز؛ وهذا العلم يُقدّم للناس من خلال كلمات الأئمّة والمعصومين عليهم السلام وعباراتهم؛ والتي تُبيِّن للإنسان طريقة وصوله إلى هذا المقام، وتتحدّث عن الصفات التي متى ما تحقّقت فيه، فإنّها تحوّله إلى إنسان آخر، وتنقله من مرتبة إلى مرتبة أخرى.

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

4
  • فالكتاب الذي بين يديّ الآن هو كتاب "بحار الأنوار" للمرحوم المجلسيّ؛ والذي يتضمّن الجزء الثامن والسبعون من طبعته الصغيرة والجزء السابع عشر من طبعته الرحليّة مواعظ البحار؛ فإذا تصفّحتم هذا الكتاب من بدايته إلى نهايته، ستجدون فيه وصايا ومواعظ الحسن بن عليّ، وأمير المؤمنين، وسيّد الشهداء، وعليّ بن الحسين، والإمام الباقر، والإمام الصادق؛ وهكذا أيضًا أستمرّ في التصفّح، فأجد مواعظ موسى بن جعفر، والإمام الرضا، والإمام الجواد، والإمام الهادي، والإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، حيث أوردت فيه بأجمعه المواعظُ والنصائح والوصايا المنقولة عن هذه الذوات المقدّسة؛ فما هي حقيقة هذا الكتاب؟ إنّه علم؛ أي أنّه عبارة عن مجموعة من العلوم المنقولة بالواسطة عن آل محمّد، والتي جمعها الملاّ محمّد باقر المجلسيّ رحمة الله تعالى عليه، والذي كان رجلاً عظيمًا جدًّا؛ هذا، مع أنّ أباه المرحوم الملاّ محمد تقي المجلسيّ كان أفضل وأعلى منه؛ فقد كان من أرباب القلوب، وأهل الباطن، وأصحاب الأحوال؛ لكن، يبقى أنّه كان أيضًا رجلاً فاضلاً جدًّا، وذا علم غزير، وبذل جهودًا مضنية في سبيل ترسيخ الشريعة الغرّاء، وولاية الأئمّة، والمذهب الإماميّ؛ وله حقّ كبير على التشيّع؛ فما هي حقيقة هذا الكتاب؟ إنّه مجموعة من العلوم، حيث تضمّن ثلّة من روايات الأئمّة عليهم السلام ووصاياهم وإرشاداتهم؛ وأنا سوف أفتحه هكذا، ومن دون ....، وأقرأ مثلاً الرواية التي قال فيها الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم بحقّ أمير المؤمنين عليه السلام:

  • «إنّ عَليًّا بابٌ مَن دَخَلَه كانَ آمِنًا، وَمَن خَرَجَ مِنهُ كانَ كافِرًا».۱

  • أو الرواية التي يقول فيها هنا الإمام الحسن عليه السلام:

  • «قالَ الحَسنُ بنُ عَليٍّ عَليهماالسّلامُ: المَصائِبُ مَفاتيحُ الأجْرِ».٢

  • أي أنّ المصائب التي تحلّ بالإنسان حكمُها حكم المفاتيح التي توصل الإنسان إلى أجور عظيمة جدًّا إذا صبر عليها وتقبّلها بسعة صدر؛ فأينما نظرتم في هذا الكتاب، سوف تجدون روايات من هذا القبيل؛ مثل:

  • «{أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا}٣؛ قال: الغُرفَة الجَنَّة؛ بِما صَبَروا عَلَى الْفِتَن فى دارِ الدُّنيا».٤

  • فما هي حقيقة هذه المضامين التي يحتوي عليها هذا الكتاب؟ إنّها عبارة عن علم؛ فإذا قرأ أحدٌ هذا الكتاب، ما هي المسائل التي سيطّلع عليها؟ سيطّلع على هذه المضامين؛ أي سيتعلّم من الإمام الحسن عليه السلام أنّ الصبر على المصيبة توصل الإنسان إلى أجر كبير ونعمة عظيمة؛ فهذه مسألة؛ وحينئذ، يأتي السؤال: ما هو موقف الإنسان من هذه المسألة؟ فلا ريب بتاتًا في كون هذا الكلام صادرًا عن الإمام المجتبى؛ ومن المعلوم أنّ كلامه عليه السلام حقّ، ولا يتطرّق إليه الخلل أبدًا؛ وحينما توصّل الإنسان إلى هذه المسألة الحقّة، هل يبقى مكتوف اليدين؟ بمعنى هل سيكتفي بقراءته لذلك الكلام والاطّلاع على تلك المسألة الحقّة ويمرّ عليها مرور الكرام، أم أنّه سيتساءل عن التغيير الذي ينبغي أن تتركه في نفسه ووجوده؟ فنحن مطالبون بالعمل بها؛ وذلك بالضبط كطبيب مثلاً حصل على مجموعة من المعلومات، وتوصّل إلى عدد من النتائج؛ وحينما يذهب عند المريض، يكتفي بوضع يده على اليد الأخرى، ويبقى محدّقًا إليه، إلى أن يموت؛ فما هي فائدة [تلك المعلومات التي حصّلها]؟ بينما من المفروض أنّه متى ما تعلّم الطبيب بعض المسائل، وجاءه مريض، فإنّه من الواجب عليه التحرّك بسرعة، ومعالجة هذا المريض على الفور؛ لا أن يبقى مكتوف اليدين. والمثال الآخر أن يُنفق الإنسان عدّة سنوات من عمره في دراسة الهندسة المعماريّة؛ وحينما يدخل إلى بناية، ويرى بأنّها على وشك السقوط، فإنّه يكتفي بالنظر إليها، من دون أن ينبس بكلمة؛ فيمرّ عليها، وهو يعلم أنّها قد تسقط لمجرّد حركة بسيطة؛ فهذه هي أقصى درجات الحيوانيّة؛ إذ لو فرضنا أنّ إنسانًا له عقل ووجدان وفطرة يكتشف بأنّ مجموعة من الناس سوف يُدفنون الآن تحت تلك البناية، ويقول له علمه: إنّ هذه البناية لا يُمكنها الصمود أمام الحوادث، وحالتها غير جيّدة؛ لكنّه مع ذلك يكتفي بالنظر، ويذهب، فإنّه سيكون مجانبًا للصواب.

    1. بحار الأنوار، طبعة مؤسّسة الوفاء، بيروت، ۱٤۰٣ ه، ج ۷٥، ص ۱۱٤.
    2. المصدر نفسه، ص ۱۱٦.
    3. سورة الفرقان، صدر الآية ۷٥.
    4. المصدر نفسه، ص ۱۸۷.

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

5
  • كيفيّة استعمال العلم

  • وعليه، كيف يتسنّى للإنسان استعمال هذا العلم؟ إنّ العمل بمفاد هذا العلم هو المراد للإمام عليه السلام؛ فبعدما تمكّنا من الوصول إلى هذا العلم، وإلى كلام الإمام عليه السلام، هل نبقى مكتوفي الأيدي؟ أم، لا، بحيث يتوجّب علينا ترجمة كلّ حرف من هذا الكلام عمليًّا؟ ولقد بيّنا في الجلسة السابقة أنّ البعض لا يقتصرون على عدم الأخذ بالعلم، بل يتعدّون ذلك إلى استخدامه في الجهة المعاكسة؛ فتجد أحدهم يدرس الهندسة المعماريّة لعدّة سنوات، لكن، حينما يلجأ إليه أحد الناس ليبني له بيتًا متماسكًا ويُوفّر له ظروف عيش مناسبة، فإنّه يُشيّده بطريقة تُهدّد سكّانه والناس بخطر محدق؛ فما هي حقيقة هذا الأمر؟ إنّه عمل بطريقة معاكسة! وكذلك أن يأتي الإنسان، ويدرس [الطبّ] لعدّة سنوات، لكنّه يستخدم هذا العلم في أمر يُفضي إلى هلاك الناس، عوض استعماله فيما يُفيدهم؛ فهذا مخالف للعمل بالعلم؛ لماذا؟ لأنّ علم الطبّ يسوق الإنسان للصحّة والسلامة، وليس للمرض والهلاك! فهل يوجد في الكتب الطبّية أنّه متى ما أراد الإنسان أن يُصبح طبيبًا، فإنّ عليه أن يسعى لكي يُحوّل المرض إلى صحّة، أو يوجد فيها أنّه عليه أن يُحوّل الصحّة إلى مرض؟ أيّهما يوجد فيها؟ إنّ معرفة الله تعالى ومعرفة التوحيد والأسماء والصفات الإلهيّة تصبو كلّها لإصلاح النفس، وتبديل الصفات الإنسان الحيوانيّة إلى صفات رحمانيّة؛ ففي هذه الحالة، إذا استعمل أحدهم هذه العلوم في تحويل الصفات الإنسانيّة إلى صفات حيوانيّة، فماذا سيكون ذلك؟ سيكون عملاً معاكسًا. فإذا عمد الإنسان بواسطة ذلك التبدّل إلى إهدار المقدار اليسير الذي يمتلكه من الإنصاف والوجدان، فماذا سيكون ذلك؟ سيكون عبارة عن استعمال للعلم في الجهة المعاكسة؛ وبالتالي، لن يكون ذلك استعمالاً [صحيحًا] للعلم، ولن يكون طلبًا [صحيحًا] للعلم.

  • إذا تذكّر الأصدقاء، تحدّثنا في الجلسة السابقة قليلاً عن الرسالة الشريفة التي بعثها عليّ بن الحسين عليهما السلام إلى محمّد بن مسلم الزهريّ؛ وسنسعى لتناول قسم آخر منها هذه الليلة؛ على أن نترك بقيّتها لمناسبات قادمة.

  • تتمّة رسالة الإمام السجّاد عليه السلام لمحمد بن مسلم الزهريّ

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

6
  • فكما أشرنا آنفًا، يُعدّ محمّد بن مسلم الزُهريّ من العلماء المعاصرين للإمام السجّاد عليه السلام، وقد كان يحظى بمكانة رفيعة جدًّا عند جهازي الحكم الأمويّ والمروانيّ؛ ولعلّنا نستطيع القول إنّه لم يبلغ أحد من علماء ذلك العصر مثل المقام الذي بلغه محمّد بن مسلم الزُهْريّ (أو الزُهَريّ كما في بعض الكتب). وعلى أيّ تقدير، بما أنّ الإمام السجّاد كان يسعى ـ من باب لطفه وعنايته ـ للأخذ بيده وإرشاده، فقد بعث إليه برسالة حادّة اللهجة؛ بل وإلينا أيضًا؛ لأنّ كلماته عليه السلام خالدة وأبديّة؛ أي أنّها باقية إلى يوم القيامة؛ فهي موجّهة إلينا نحن كذلك؛ مع أنّ المخاطب فيها هو محمّد بن مسلم؛ لأنّ الحقائق والخصائص التي يتحدّث عنها الإمام فيها منطبقة علينا تمامًا؛ فماذا يقول فيها عليه السلام؟ يُخاطبه بقوله:

  • «إنَّكَ أخَذتَ ما لَيسَ لَكَ مِمَّن أعطاكَ».

  • فمن أين حصلت على هذا المنصب الذي أنت فيه وهذه المكانة التي تحظى بها؟ هل حصلت عليهما من الله تعالى؟ وهل منحك إيّاهما الرسول أو الإمام؟ فمن أين حصلت على هذا المقام، وعلى منصب قاضي القضاة، وعلى هذه المنزلة التي تحتلّها بين أفراد الحكومة؟ لقد حصلت عليها ممّن لا يليق بك الأخذ عنه؛ فهي ليست لك! فما هو دخل خلفاء بني أميّة وبني مروان بهذه الأمور، حتّى يمنحونك هذه المناصب؟

  • «وَدَنَوتَ مِمَّن لَم يرُدَّ عَلى أحَدٍ حقًّا».

  • فأنت بنفسك الذي تسعى للاقتراب من الذين لا يعترفون لأيّ أحد بحقّه؛ وهل يجوز للإنسان أن يدنو من هؤلاء؟ فإذا كان من المفروض على الإنسان أن يسعى في هذه الدنيا للدنوّ من منزلة ما، فإنّ عليه أن يفتح عينيه، ليرى ما هو المكان الذي يدنو منه، وما هي الجهة التي يطلب منها المساعدة؛ هل من حكومة بني أميّة؟ فهل تُريد أن تدنو بنفسك من هناك؟ وهل هذه هي الجهة التي تُريد أن تصير مقرّبًا منها؟

  • «ولم تَرُدَّ باطِلًا حينَ أدناكَ».

  • ماذا فعلت؟ وما هو الباطل الذي رددته عليهم؟ وما هي المسألة التي شجّعتهم عليها؟ هل تمكّنت من إحداث أيّ تغيير فيهم؟ هل استطعت أن تصدّهم عن باطل؟ هل تسنّى لك أن تُرجع حقًّا إلى صاحبه؟

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

7
  • «وَأحْبَبْتَ مَن حادَّ اللهَ».

  • وهذا عجيب جدًّا! بمعنى أنّه إذا تأمّل الإنسان بجدّ في كلّ كلمة من هذه الكلمات، فإنّها ستشغل تفكيره في جميع أوقاته؛ إذ ليست هي من العبارات التي يُمكن للإنسان تجاوزها بكلّ سهولة.

  • فنحن نتعامل مع هذه المسائل يوميًّا، بل في كلّ لحظة؛ فإذا ذهبنا عند إنسان سيّء، وأجرينا معه صفقة، وأدّت هذه الصفقة إلى ازدهاره ورقيّه، فإنّنا سنكون مصداقًا لذلك الكلام؛ وإذا أردنا أن نصبح رفقاء لإنسان طالح، وغير مناسب لنا، بحيث يصير قربُنا من هذا الفرد الذي لا يمشي في طريق الله تعالى وطاعته سببًا في ترسيخ مكانته، وتكريس تلك الأحوال التي يعيشها، فإنّنا سنكون مصداقًا لتلك العبارة؛ فليس الأمر كما نعتقده نحن، بل هو خطير جدًّا؛ فلا ينبغي علينا النظر إليه كأمر سهل وبسيط؛ لأنّ كلّ حركة نؤدّيها، وكلّ خطوة نخطوها تخضع لحساب خاصّ يُحدّد لنا من الذي يجب علينا الدنوّ منه، ومن الذين يلزمنا الابتعاد عنه، ومن الذي نؤيّده، ومن الذي نقيم علاقة معه؛ فالملاك هنا كلّي، ويصدق على الجميع؛ ولهذا، على الجميع أن يقيسوا أنفسهم عليه. 

  • ففي ليلة ارتحال أمير المؤمنين عن هذا العالم؛ أي في الليلة الواحدة والعشرين، ألقى عليه السلام وصيّة؛ وكانت في ظاهرها موجّهة إلى الإمام الحسن عليه السلام وبقيّة أولاده، لكنّها في باطنها [موجّهة للجميع]، بل حتّى في ظاهرها كانت كذلك، حيث قال عليه السلام:

  • «وَلِمَن بَلَغَهُ كتابي».

  • فها أنا ذا أقول لكم الآن! وها أنا ذا أخبركم بهذه المسألة الآن! وبمجرّد أن أخبرتكم بها، صارت المسؤوليّة ملقاة على عاتقكم، فاذهبوا، وطالعوا نهج البلاغة، حيث يقول فيه أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ هذه الوصيّة متعلّقة بكم، وبكلّ من وصله كتابي هذا»؛ فنحن بأجمعنا نتوفّر على نهج البلاغة، ونحن جميعًا مخاطبون بهذه الوصيّة المنقولة عن أمير المؤمنين عليه السلام؛ والتي يُبيّن فيها واجبنا تجاه القرآن، والصلاة، وصلة الرحم، والأقرباء، والحجّ، حيث يقول عليه السلام: «لا تتخلّوا عن الحجّ، ولا تُهملوا القرآن»؛ فجميع هذه الأمور ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام هناك في وصيّة لا تتجاوز بضعة أسطر. لقد كان الإمام عليه السلام أبًا للجميع، وليس فقط للإمامين الحسن والحسين؛ فهو أب لكلّ واحد من الجالسين هنا؛ ومسؤول عنّا بأجمعنا، وذكر ذلك لأجلنا نحن؛ وإلاّ، فقد كان بوسعه أن يهمس لهم به في آذانهم.

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

8
  • «أوَ لَيسَ بِدُعائِهِ إيّاكَ حينَ دَعاكَ جَعَلوكَ قُطْبًا أداروا بِكَ رَحَى مَظالِمِهِم‌».

  • فحينما دعوك إليهم، وذهبت عندهم، واحتللت مكانتهم، واستقررت في مراتبهم، ألم يجعلوك كذلك القُطب الذي تدور حوله الرحى، وأداروا بك كلّ ما يحلو لهم من أفعال؟ فلقد رسخّوا مكانتك هنا، ليتمكّنوا بواسطتك من تحقيق جميع أمانيهم ورغباتهم؛ فبالله عليكم، لولا وجود أمثال أبي هريرة وأبي الدرداء، كيف كان سيتسنّى لمعاوية التسلّط على رقاب الناس؟ وأنّى له ذلك؟

  • طرف من مظلوميّة أمير المؤمنين عليه السلام

  • في ذلك السفر الذي تشرّفنا فيه بزيارة بيت الله الحرام؛ وأدعو الله تعالى أن يُوفّق الجميع لزيارته عن معرفة، لا سيّما تلك المعرفة العالية جدًّا؛ ونرجوه تعالى إن شاء أن يُوفّقنا لذلك؛ هذا، مع أنّنا لم نتمكّن لحدّ الآن من إدراك أيّ شيء، لكنّ رجاءنا متعلّق بالمستقبل؛ ففي تلك الليالي، كنت أذهب للجلوس عند المُستجار أمام الموضع الذي انشقّ منه جدار الكعبة حينما كان أمير المؤمنين عليه السلام في بطن أمّه فاطمة بنت أسد، وأجاءها المخاض، فولجت إلى داخل الكعبة، حيث إنّ موضع المستجار يقع تمامًا في الطرف المقابل لباب الكعبة؛ وقد انشق هذا الموضع، فدخلت السيّدة فاطمة بنت أسد، ثمّ انسدّ بعد ذلك؛ ومهما حاولوا أن يفتحوا الكعبة، لم يفلحوا في ذلك؛ فظلّت سلام الله عليها هناك ثلاثة أيّام، إلى أن انشقّ مرّة أخرى ذلك الموضع، فخرجت منه؛ وإذا ذهب أحد إلى هناك، سيُلاحظ وجود فارق في اصطفاف الحجارة بين هذا الموضع، وبقيّة المواضع. وفي إحدى الليالي، كنت جالسًا هناك أنظر إلى ذلك الموضع؛ فخطر على بالي فجأةً كم كان أمير المؤمنين عليه السلام مظلومًا فعلاً! أي: مهما تحدّثتم عن ذلك، فإنّكم لن توفّونه حقّه؛ إذ ما من مصيبة، إلاّ وحلّت على رأسه؛ لكنّه ظلّ ساكتًا. فإحدى هذه المصائب التي بدت لي هناك أنّه وبسبب إجراء العدالة وإحقاق الحقّ، فقد ساوى في العطاء بين إخوته، وبين باقي الناس؛ وفي هذه الحالة، يقوم عقيل، ويذهب عند معاوية؛ فهل توجد مظلوميّة أكبر من هذه؟ بمعنى أنّه لو أمدّوا معاوية بألف جنديّ، لما سُرّ قلبه بمثل سروره برؤية أخ أمير المؤمنين يأتي عنده، ويقول له: «إنّ أهلي وعيالي كذا وكذا»؛ هل التفتّم؟ فأمير المؤمنين عليه السلام يقول: «أيّ فارق بينك وبين بقيّة الناس حتّى أجعل سهمك من بيت المال أكثر؟ فإذا زدت الجميع، فإنّني سأزيدك»؛ ثمّ إنّه عليه السلام قام، وأحمى حديدة، وقرّبها من أخيه، فارتفع صراخه، فقال له عليه السلام:

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

9
  • «ثَكَلَتكَ الثَّواكِل».‌۱

  • لِيُقِم عليك العزاء جميعُ المعزّون، ولِينُح عليك كافّة النائحون! أنت لم تتحمّل حرارة حديدة عادية، وتُريد أن تُسقطني في عذاب ذلك العالم وجهنمّه التي هي كذا وكذا؛ لكن، ماذا فعل عقيل؟ هل أصغى لكلام أمير المؤمنين؟ قام، وذهب عند معاوية.. ماذا؟! ما الذي يعنيه هذا؟! وحينئذ، ماذا فعل معاوية بدوره؟ قال لعقيل: «قم، واشتم أخاك من على المنبر»؛ فأعلن في الشام: «تعالوا! انظروا! فحّتى أخوه أتى إلينا»؛ ولاحظوا هنا ما هي الضربات التي تلقّاها أمير المؤمنين عليه السلام؛ فلقد تلقّى الضربات من كلّ جهة: من جهة رحمه، ورفيقه، وظالمه، وعدوّه؛ لماذا؟ لأنّه أراد أن يعمل بالحقّ، ويُرسي العدل؛ وحينئذ، ماذا سيصير؟ سيصير مظلومًا؛ لكن، ما كان موقفه تجاه ذلك؟ صمد، وثابر، ولم ينثن عن قصده، ولم يصدر منه إلى آخر رمق من حياته إلاّ الحقّ؛ فلم ينحرف يمينًا ولا يسارًا، ولو بمقدار ذرّة؛ لكنّ ذلك كلّه صعب؛ أجل، صعب! فلاحظوا معي الآن حاكم الدولة الإسلاميّة الذي يقود جميع الناس على أساس طريق صحيح ونظرة واقعيّة يرى فجأة بأنّ أخاه قد التحق بمعاوية طمعًا في الدنيا؛ فما هي الحالة التي سيشعر بها؟ إذ ما الذي سيعنيه ذهابه عند معاوية؟ سيعني أنّ جميع مجهوداته قد ذهبت أدراج الرياح؛ أي أنّ هذا ما ستعنيه المسألة في ظاهرها؛ ثمّ إنّ معاوية يأتي، ويُسيء الاستفادة من هذه المسألة، ويقول: «يا أهل الشام! تعالوا وانظروا، وافعلوا،...»

  • «وَجِسرًا يعبُرونَ عَلَيك إلى بَلاياهُم، وَسُلَّمًا إلى ضَلالَتِهِم».

  • فلولاك أنت، لما كان لهم أيّ جسر، ولتوقّفوا؛ لكن، حينما يجدونك إلى جانبهم، ماذا يفعلون؟ يجدون عندهم سندًا، ويحصلون على وجاهة أمام الناس؛ فيستفيدون من مكانتك الثبوتيّة [أي الواقعيّة] والإثباتيّة [أي عند الناس]، ويعبرون منك، ويجعلونك جسرًا للظفر برغباتهم، وسلّمًا للوصول إلى ضلالتهم.

  • «داعيًا إلى غَيِّهِم‌».

  • فبواسطتك يدعون الناس إلى ذلك الغيّ وتلك الضلالة.

  • «سالِكًا سَبيلَهُم‌».

  • فماذا عسى الناس أن يفهموا! إنّ نظرهم مقصور على اللحية والعمامة؛ وهم لا ينظرون إلاّ إلى اللحية البيضاء، والسبحة في اليد، وأمثال ذلك؛ وإنّ أحد أهمّ الأسباب، بل السبب الأهمّ لخروج الناس على أمير المؤمنين عليه السلام بعد تولّيه الخلافة، وإشعالهم لحرب الجمل هي انخداعهم بمثل تلك الأمور، حيث كان لعائشة زوجة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم دورًا في هذه المسألة، ووقف إلى جانبها أيضًا أفراد من قبيل طلحة والزبير؛ فهؤلاء بعينهم هم الذين خدعوا الناس؛ ويوجد كلام كثير في هذا المجال...

    1. نهج البلاغة، الخطبة ٢٢٤.

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

10
  • «يُدخِلونَ بِكَ الشَّكَّ عَلَى العُلَماء».

  • فمن بين كلّ عشرة من الناس، يوجد أربعة أو خمسة كحدّ أقلّ لهم مستوى معيّن من الفهم؛ لكن، بسببك أنت، ينتابهم الشكّ: « انظر أيّها السيّد، إنّ أمثال محمّد بن مسلم الزهريّ معنا!»؛ فماذا يحصل له؟ يحصل له تزلزل في تلك الأربعين أو الخمسين بالمائة من اعتقاداته [الصحيحة]، ويبدأ يتساءل: «لعلّني على خطإ!».

  • «يُدخِلونَ بِكَ الشَّكَّ».

  • أمّا إذا نأيت بنفسك عنهم، ماذا سيحصل؟ سيرتفع ذلك الشكّ؛ وعليه، فإنّ وجودك هناك هو الذي ساهم في تعطيل تلك الأربعين أو الخمسين في المائة ـ اللازمة للكمال ـ عن العمل، وإبطال مفعولها.

  • «وَيقتادونَ بِكَ قُلوبَ الجُهّالِ إلَيهِم‌».

  • «فَلَم يبلُغْ أخَصَّ وُزَرائِهِم وَلا أقوَى أعْوانِهِم إلّا دونَ مَا بَلَغتَ مِن إصْلاحِ فَسادِهِم‌».

  • أي: إنّ الفساد الذي أحدثتَه بلغ درجة من العظم، بحيث إنّ أولئك الوزراء والأعوان لم يتمكّنوا من بلوغها، مع تلك المرتبة والمكانة التي يحتلّونها.

  • «وَاختِلافِ الخاصَّةِ وَ الْعامَّةِ إلَيهِم‌».

  • «فَما أقَلَّ ما أعْطَوكَ فى قَدرِ ما أخَذوا مِنك».

  • وحقيقةً، يلزمنا أن نضع هذه العبارة في لوحة! فماذا أعطوك؟ إمّا أنّهم أعطوك منصبًا، أو مالاً، أو راتبًا؛ ولا يوجد شيء أكثر من هذا؛ لكن، حينما وهبوك هذه الأشياء، ما الذي أخذوه منك في المقابل؟ أخذوا منك دينك، وإنسانيّتك، وشرفك، وعمرك، وذلك الرأسمال الذي من المفترض أن تستخدمه لأجل حياتك الأبديّة؛ فماذا أعطوك؟ أعطوك منصبًا ستفقده عند مجيء شخص آخر؛ وكم رأينا من هذه الحالات! فتجد أحدهم يأتي، ويملأ الدنيا صراخًا، ويرتفع صوته بالتأييد والتمجيد [لإحدى الشخصيّات أو التيّارات]،لكن، ما إن يفقد منصبه في اليوم التالي، حتّى يتراجع عن جميع كلامه، ويتّخذ موقفًا معارضًا؛ فكم رأينا من هذه الحكايات بأمّ أعيننا! حسنًا يا عزيزي! عندما تريد أن تذهب إلى مكان معيّن، افتح عينيك وكن على بصيرة، لكي ترى إلى أين تذهب؛ فلا يصل بك الحال إلى أن تقضي بذهابك على كلّ ما حصلت عليه واكتسبته لحدّ الآن؛ هذا، مع أنّك ستكتشف بأنّه: «عجيب! يا لها من خدعة انطلت علينا!»؛ فحذار أن يأتي زمان، ونكتشف بأنّنا قطعنا مسافة طويلة في طريق منحرف. 

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

11
  • «فَما أقَلَّ ما أعطَوكَ‌».

  • في مقابل دينك الذي أخذوه، وعمرك الذي سلبوه، وحوّلوك إلى حيوان بظاهر إنسان.

  • «وَما أيسَرَ ما عَمَروا لَكَ‌».

  • «فَكَيفَ ما خَرَّبوا عَليكَ‌».

  • من أحوالك، وعمرك، ورأسمالك.

  • «فَانظُرْ لِنَفسِكَ فَإنَّهُ لايَنظُر لَها غَيرُكَ‌».

  • «وحاسِبْها حِسابَ رَجُلٍ مَسؤولٍ».‌

  • ضرورة اهتمام الإنسان بنفسه وعدم تتبّعه للآخرين

  • فينبغي على كلّ واحد أن ينظر لنفسه: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‌ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}۱، ولا يتتبّع الآخرين؛ وها أنا ذا أقول لكم ذلك؛ ومن الجيّد أن أنبّهكم الآن إلى المسألة التالية: متى ما رأيتم أحدًا يتتبّع الآخرين عوضًا عن الاهتمام بنفسه، فاعلموا أنّه يعيش في بطالة.. يا سيّدي، إنّ فلانًا بهذا الشكل، وعلاّنًا بذلك الشكل؛ يا سيّدي، إنّ فلانًا يتّصف بالعيوب الكذائيّة! فإذا سمعتموه يقول ذلك، فاعلموا أنّه يُعاني من البطالة؛ وإلاّ، لو كان من العاملين، لتوجّب عليه أن ينظر إلى نفسه؛ أ فهل يوجد إنسان يخلو من العيوب؟! صحيح، قد يقتضي التكليف أحيانًا [أن ينظر الإنسان للآخرين]، وسوف نتحدّث عن ذلك لاحقًا؛ لكنّ مثل هذه التكاليف لا تقع في عهدة الإنسان بكلّ يسر وسهولة؛ فلا ينبغي علينا أن نخدع أنفسنا من دون طائل. فتجد أحدهم كلّما قام بعمل ما، نسبه إلى التكليف؛ أيّ تكليف هذا؟ ومن الذي أمرك بالقيام بهذا العمل؟ هذا، مع أنّكم إذا سألتموني أنا شخصيًّا عن هذه المسألة، فإنّني سأجيبكم بأنّ هذه التكاليف لا تقع على عاتق أيّ أحد، اللهمّ إلاّ ما شذّ وندر، فلا نخدع أنفسنا من دون طائل، وليهتمّ كلّ واحد منّا بعيوبه؛ فإذا كان أحدهم يقوم بفعل يبدو لك أنّه خاطئ، فما هو دخلك بذلك؟ كما أنّه ليس من الضروريّ أن تُنبّهه أنت، اذهب، وألق ذلك في عهدة شخص قد يكون كلامه مؤثّرًا، وليأت هو، وينبّهه. يا سيّدي، إنّ فلانًا يقوم بالعمل الكذائيّ، وفلانًا الآخر يمشي بهذه الطريقة، وعلاّنًا ينحرف بتلك الطريقة، وعلاّنًا الآخر يستقيم بذلك النحو! ما هذا الكلام؟ على كلّ واحد أن ينظر لنفسه؛ لماذا؟ لأنّه سيأتي يوم لن ينظر فيه أيّ واحد للإنسان؛ لا أبوه، ولا أمّه، ولا أخوه، ولا أيّ واحد آخر؛ وكلّ ما سنصل إليه في ذلك العالم، ينبغي أن يتحدّد في هذا العالم؛ وافترضوا أنّ القيامة ستقوم الآن، حيث سيأتي الحديث عن هذه المسائل بعد الانتهاء من هذه الرواية الشريفة المنقولة عن الإمام السجّاد عليه السلام.

    1. سورة القيامة، الآية ۱٤.

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

12
  • ولماذا يتعيّن علينا طرح هذا الاحتمال؟ لأنّ القيامة حقّ؛ وإلاّ، لو كانت باطلاً، لكان احتمالنا وفرضنا باطلاً أيضًا؛ فإذا كانت حقًّا، لماذا نُؤجّلها؟ ولنُحضر الحقّ الآن يا عزيزي! فأنا أتحدّث معكم الآن؛ واعلموا يقينًا ـ وها أنا ذا أكتب ذلك، وأطلب منكم بأن تحتفظوا بما كتبته، وتأمروهم بأن يدفنوه معكم في القبر ـ بأنّ نفس هذا المشهد الواقع في ليلة الجمعة بتاريخ الثاني من محرّم سنة ألف وأربعمائة وواحد وعشرين هجريّة قمريّة سترونه يوم القيامة على ما هو عليه، وستُشاهدونني أقول لكم فيه: «إنّ هذه المسألة حقّ، ولن يهتمّ أيّ أحد يوم القيامة بالآخرين»؛ فأنا الآن أخبرتكم بذلك، وسنلتقي يوم القيامة، ونرى هل هذا صحيح، أم لا، حيث نفرض أنّنا في يوم القيامة، وأنّنا نرى هذا المشهد. فإذا كان من المقرّر أن يأتي يوم، ونلتفت إلى مسألة ما، لماذا لا نلتفت إليها الآن؟ فالقيامة متحقّقة الآن، وليست هي عقبات متداخلة فيما بينها، ويتلو أحدها الآخر، بل القيامة فعليّة محضة، ونحن هم الغائبون عنها؛ بمعنى أنّ القيامة موجودة الآن، وعالم البرزخ متحقّق الآن؛ ونحن هم الغائبون عنهما، ونقول: «سنصل إليهما لاحقًا»؛ بينما وصل إليهما آخرون، وتوصّلوا إلى هذه الحقيقة؛ ولهذا، فإنّهم لا يسمحون بتأخير هذه المسائل؛ إذ ما الذي سيعنيه ـ والحال هذه ـ التأخير؟ وماذا سيعني التسويف، والقول: «سنفعل ذلك لاحقًا»؟ بل الآن:

  • «فَانظُر لِنَفسِكَ!».

  • يقول الإمام السجّاد عليه السلام: انظر الآن لنفسك، وليس إلى أن يأتي يوم القيامة، و{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}۱؛ فانظر لنفسك الآن! وانظر إلى القيامة الآن! الآن، وفي نفس هذه اللحظة! فو فرضنا أنّ أحد الأشخاص (كالإمام عليه السلام مثلاً) أتى، ورفع الستار عن أعيننا، فرأينا القيامة، ماذا كنّا سنفعل؟ كنّا سننتبه إلى تلك الحقيقة؛ وعليه، تعالوا بنا، لكي نُحقّق هذه المسألة في أنفسنا الآن، ولنعتبر أنفسنا الآن في يوم القيامة، وبأنّ الله تعالى يُحاسب كلّ واحد منّا.

  • «وحاسِبْ نَفسَك».

  • فلنستحضر كلّ عمل من أعمالنا، ولنعرضه على ميزان الأعمال؛ فإذا فعل الإنسان ذلك، سيرى حينئذ بأنّ المسألة لا مزاح فيها، وبأنّها ليست من قبيل الوعود الفارغة، بل هي متحقّقة الآن.

    1. سورة ق، ذيل الآية ٢٢.

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

13
  • غفلة الإنسان عن الحقائق بسبب خضوعه للحسّ دون العقل

  • سمع أمير المؤمنين عليه السلام بوفاة أحد أصحابه؛ وبعد فترة، أُخبر بأنّه لم يمت، وبأنّ ذلك كان خطأ؛ فبعث إليه الإمام عليه السلام برسالة موجودة في نهج البلاغة؛ وهي رسالة بديعة جدًّا؛ فابحثوا عنها في نهج البلاغة؛ إذ نجده عليه السلام يتحدّث هناك عن المسألة ذاتها، ونحن تعلّمناها منه، حيث يقول [ما معناه]: «بلغنا خبرٌ عن ارتحالك عن هذا العالم، ثمّ جاءنا خبر آخر ينقض الأوّل؛ فالحمد لله تعالى على سلامتك، وهذا أمر جيّد جدًّا، لكن، ماذا عنك أنت؟ افرض أنّ الخبر الأوّل كان صحيحًا، وأنّك فارقت الحياة فعلاً، وانكشف لك عالم البرزخ والقيامة، ورأيت ملائكة العذاب وملائكة الجنّة، وشاهدت الجنّة والنار؛ وهي بأجمعها حقّ، ولا باطل فيها؛ وقد لطف بك الله تعالى؛ لأنّك تُعاني من عدّة نقائص، وتُواجه مجموعة من نقاط الضعف؛ فأعادك مرّة أخرى، لكي تُرمّمها وتُصلحها». انتبهوا! إنّ كلام أمير المؤمنين عليه السلام ليس اعتباريًّا؛ بمعنى أنّه: حينما يتأمّل الإنسان في هذه المسألة، قد يقول مع نفسه: ما معنى الافتراض هنا؟ لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام يريد أن يقول: «افرض الأمر الواقعيّ»؛ أي أحضر الواقع، وجسّمه في نفسك؛ فلو أنّك رحلت فعلاً وواقعًا، ثمّ رجعت، ماذا كنت ستفعل؟ هل كان حالك قبل الوفاة سيستوي مع حالك بعد العودة؟ فلو أنّك ذهبت، ورأيت تلك النار [ماذا كنت ستفعل]؟ لكنّ العجيب يا سيّدي أنّه: حينما يصل الناس إلى حقيقة ما، ويعيشون هذه الحقيقة، فإنّهم يسعون للتكيّف معها، وتطبيقها على أنفسهم؛ لكن، ما إن يبتعدوا عنها قليلاً، حتّى ينسوها؛ فما هي علّة ذلك؟ إنّ جميعنا مشاكلنا ناشئة من خضوعنا للحسّ، لا للعقل؛ فالعقل مصاحب للإنسان على الدوام؛ بخلاف الحسّ، فإنّه يتغيّر بحسب ارتباط الإنسان بكلّ واقعيّة من الواقعيّات، بحيث متى ما غابت هذه الواقعيّة، فإنّ الإحساس بها يتغيّر. افرضوا وجود نار في هذا المكان؛ فإذا اقتربتم منها، ستشعرون بأنّكم تحترقون؛ وأنتم لا تحتاجون في ذلك إلى العقل، بل يكفيكم الحسّ؛ لكن، ما إن تبتعدوا عن النار، وتبتعدوا، وتوجّهون نظركم إلى السماء، والأرض، والأشجار، حتّى تبدأ تلك الصورة تبهت بالتدريج، إلى أن تنمحي النار من أذهانكم تمامًا. فأمير المؤمنين يريد أن يقول: ها هنا تكمن مشكلتك أيّها الإنسان! فعليك أن تستحضر تلك النار على الدوام، ولا تغفل عنها أبدًا؛ لماذا؟ لأنّها متحقّقة دائمًا.

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

14
  • لا أظنّ بأنّه توجد آية قرآنيّة أصرح في الدلالة على هذا المسألة من الآية التي تقول: {وَلَوْ تَرى‌ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}۱؛ يا ليتك تأتي، لترى ما هو حالهم الآن؛ فما أمتع الحالة التي تعتري الإنسان عند النظر إلى جهنّم ولهيب النار والعذاب الإلهيّ!!! {وَلَوْ تَرى‌ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا}؛ فيا وليتاه! إنّ النار أمامنا، والطريق مُغلق من خلفنا، ولا مفرّ لنا عن اليمين أو اليسار؛ فليس بأيدينا إلاّ سبيل واحد؛ وهو السقوط هناك؛ وانتبهوا معي، فإنّ المسألة جدّية! أي: دعونا نضع أنفسنا في ذلك الموقف: {يا لَيْتَنا نُرَدُّ}؛ لكن، بأيّة حالة نُردّ؟ حيث إنّ الواو التي ستأتي بعد ذلك حاليّة: نُردّ في حال أنّنا {لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا}؛ أي: إذا كنّا نُكذّب بالآيات في الدنيا، ولا نهتمّ، ولا نعتني بها، فإنّنا لن نفعل ذلك الآن، {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}٢؛ لكنّ الحقّ تعالى ماذا قال بعد ذلك؟ {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ}٣، حيث إنّ مصائبنا تكمن بأجمعها هنا؛ فالله تعالى يقول ولست أنا: «لو أعدناهم، لما اختلفت أحوالهم عن السابق، ولرجعوا مرّة أخرى لأفعالهم السابقة»؛ لماذا؟ لأنّه ما دام الإنسان خاضعًا للحسّ، فإنّ وضعه سيكون بهذا النحو. {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ}؛ سوف يعودون لذلك؛ وإلاّ، فإنّ الله تعالى لا يُعادي أحدًا، ولا يُعامل أيّ أحد انطلاقًا من الحقد والغضب والضغينة؛ ولهذا، فإنّه تعالى يقول: ما هي الفائدة المتوخّاة من إرجاعهم إلى الدنيا؟ فلقد كانوا فيها، ورأوا المعجزات، واطّلعوا على كلّ شيء، ولقد تحمّلنا عناء إيجادهم في هذه الدنيا، وتحمّل عزرائيلنا مرّة أخرى مشقّة المجئ بهم إلى الآخرة؛ وتُريدون أن نُعيد الكرّة مرّة ثانية؛ لا يا عزيزي! فهذا يكفي؛ فلو كان من المقرّر أن تفهم، لفهمت؛ ولو كان من المقرّر أن تعتبر، لاعتبرت؛ ولو كان من المقرّر أن تتوصّل إلى شيء، لتوصّلت إليه!! {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا}؛ فلو أرجعناهم، ماذا سيحصل؟ سيعودون؛ وهذه مشكلة حقيقيّة؛ فلماذا حينما يكون الإنسان يعيش في نعمة، لا يُقدّرها ولا يشكرها؟ وما هو السبب في ذلك؟ سببه سيطرة الأحاسيس.

    1. سورة الأنعام، صدر الآية ٢۷.
    2. سورة الأنعام، ذيل الآية ٢۷.
    3. سورة الأنعام، مقطع من الآية ٢۸.

أهمّية استعمال العلم وكيفيّته

15
  • طريق السير والسلوك بالعمل لا بالادّعاء

  • قبل سنة أو سنتين على ما يبدو من ارتحال المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه، جمع في أحد الأيّام رفقاءه في مشهد، وتحدّث لهم عن مسائل تتّسم بالصرامة وذات وقع شديد؛ وسنسعى لاحقًا للكلام عنها؛ لكن، من جملة هذه المسائل أنّه قال: «أيّها الرفقاء والأحبّة! لا تعترضوا عليّ غدًا بأنّني لم أخبركم: إنّ طريق الله تعالى والسلوك ليس بالادّعاء فقط، بل يحتاج إلى عمل؛ فلا تظنّوا بأنّكم إذا أطلقتم على أنفسكم اسم السالك، فإنّ المسألة ستُعدّ منتهية بالنسبة إليكم؛ وها أنا ذا أقول لكم هنا: إنّ الإنسان لن يصل إلى أيّة مرتبة، إلاّ بواسطة العمل؛ ولهذا، عليكم أن تعملوا؛ وأمّا إذا لم تعملوا، فإنّكم لن تصلوا، ولن تجنوا أيّة فائدة؛ وهنا يكمن أصل المسألة». الآن، وقد رحل، ارتفعت الأصوات: وا ويلتاه! وا مصيبتاه! لم يعُد لنا أحد؛ لكنّني أقول لكم الآن: «لو أنّه عاد مرّة أخرى، لما اختلفنا عن السابق أبدًا»؛ لماذا؟ لأنّنا خاضعون للأحاسيس؛ وذلك حينما نظنّ بأنّنا تمّكنا من الحصول على شيء، وبأنّ لنا سندًا، حيث إنّ جميع هذه المعايير ستفنى.

  • هناك كلام كثير بخصوص هذا الأمر، بل وأكثر ممّا ذكرته هنا؛ هذا، مع أنّني كنت أريد الحديث عن أمور أخرى؛ لكنّ شرح بعض الفقرات من رسالة الإمام السجّاد فرض علينا تناول هذه المسائل الأهمّ من كلامه عليه السلام؛ وإذا وفقّنا الباري عزّ وجلّ، سنستمرّ إن شاء الله تعالى في الحديث عن مسائلنا.

  • نرجو من العليّ القدير أن يُحقّق فينا حقيقة العبوديّة، ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدًا، ويحفظنا ويصوننا في اتّباعنا لنهج الأئمّة عليهم السلام عن كلّ انحراف واعوجاج، ويوفّقنا في كلّ يوم أكثر فأكثر، ولا يحرمنا في الدنيا من زيارة أهل البيت عليهم السلام، وفي الآخرة من شفاعتهم.

  • اللَهمَّ صلِّ عَلى مُحمَّد و آل مُحمَّد