31

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

8812
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةحقيقة العبودية

جلسات المجموعة(8 جلسة)

التوضيح

في هذه المحاضرة التي عقدها آية الله الحاجّ السيّد محمد محسن الحسينيّ الطهرانيّ استمرارًا لشرح فقرة «فَإنْ أرَدتَ العِلمَ، فَاطْلُبْ أوّلاً في نَفسِكَ حَقيقةَ العُبوديَّةِ» من حديث عنوان البصريّ الشريف، تابع سماحته الحديث عن أهمّية التحقّق بالعبوديّة قبل طلب العلم؛ مشيرًا في ضمن ذلك إلى أنّ أعمال الإنسان الحسنة أو السيّئة ترجع إلى صفاته الحميدة والدنيئة، وإلى خطورة عدم الانتباه إلى هذه الصفات، والتي لها القدرة على تغيير مصير الإنسان الذي يجده نفسه فجأةً يقف في صفّ الظالمين، ومواجهة الحقّ والدين.

/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٣۱

  •  

  • ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

2
  •  

  • أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم‌

  • بِسمِ اللَه الرَّحمَنِ الرَّحيم‌

  • الحَمدُ للّه رَبِّ العالَمينَ‌

  • وَ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلى خَير خَلقِه وَأشرَف بَريَّتِه‌

  • أبي ‌القاسِم المُصطَفى مُحمَّد وَعَلى ءالِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ المَعصومينَ الْمُكَرَّمينَ‌

  • لاسِيَّما بَقيَّة اللَهِ فِي الأرَضين، روحي وأرواحُ العالَمينَ لِترابِ مَقدَمِهِ الفِداء

  •  

  • قالَ إمامُنَا الصّادقُ عليه‌السّلام لِعنوانِ البَصريّ: فَإنْ أرَدتَ العِلمَ، فَاطْلُبْ أوّلاً في نَفسِكَ 

  •  حَقيقةَ العُبوديَّةِ واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه واستَفْهِمِ اللهَ يفْهِمْكَ.

  •  

  • صفات الإنسان الحميدة والدنيئة منشأ أفعاله الحسنة والسيّئة

  • تحدّثنا سابقًا عن: كيف ينبغي على الإنسان أوّلاً أن يتحقّق في نفسه بحقيقة العبوديّة؛ ثمّ بعد ذلك، يسعى لطلب العلم الذي هو عبارة عن المعارف والحقائق الوجوديّة الكماليّة، ويتحرّك لنيل هذا المقام؛ فلماذا يتعيّن أن تكون حقيقة العبوديّة هي الأولى؟ وأيّ إشكال في أن يطلب الإنسان المعرفة في البداية، ثمّ حينما يتمكّن من الحصول على علم ما، يسعى نحو التزكية والتهذيب، ويعمد إلى تحقيق هذه المسائل في وجوده؟ إنّ السبب في ذلك يرجع إلى أنّ نفس الإنسان تكون قبل التهذيب والتزكية متحلّية بثلّة من الخصال والصفات الحميدة والدنيئة؛ أي أنّ هناك مجموعة من الصفات الحسنة والقبيحة التي تكون مكنونة في نفس الإنسان؛ فجميع هذه الأحداث التي تقع الآن في العالم ترجع إلى صفات الإنسان السيّئة، لا الحسنة؛ وكافّة الحروب والنزاعات والأنانيّات الحاصلة في العالم منشؤها هذه الصفات. فالإنفاق الذي يقوم به الإنسان مرجعه إلى الصفات الحسنة، والعداوة والشحناء اللتان يُكنّهما للآخرين مصدرهما الصفات القبيحة؛ كما أنّ الإيثار والتضحية اللذين يصدران منه يرجعان إلى الصفات الحسنة، والأنانيّة وحبّ الذات اللذين يُساهمان في إحداث التمزّقات، وإثارة العداوات، وإشعال الفتن يعودان إلى الصفات القبيحة؛ فهناك اختلاف إذن بين هذه الصفات.

  • فهذه المجموعة [من الصفات] ليست على وتيرة واحدة، ولا تتّبع مسارًا خاصًّا، بحيث يكون بوسع الإنسان الاعتماد عليها، وبلوغ الهدف المنشود من خلال الاستعانة بها، والتحرّك على أساسها؛ وبعبارة أخرى، فإنّ هذا الطريق الذي يسلكه الإنسان في حياته، هو طريق غير آمن، ولا يُمكنه الاعتماد عليه. فأحيانًا، قد ترغبون في السفر إلى مدينة معيّنة، لكي تُخبروا أحدهم بمسألة ما، بحيث يكون هدفكم من هذا السفر هو إخبار ذلك الشخص بتلك المسألة؛ فتركبون السيّارة أو الحافلة أو غيرها من وسائل النقل، ولا يكون لكم أيّ هدف آخر، سوى إخباره، فتقولون: «دعني أذهب الآن، وحينما أصل إلى هناك، سأخبره بذلك الموضوع؛ فلماذا أستعجل الآن بذكره؟ متى ما وصلت إلى هناك، أفصحت له عنه». وأحيانًا أخرى، قد ترغبون في السفر إلى مدينة معيّنة من أجل عمل مهمّ وضروريّ هناك؛ لكن، حينما تريدون الذهاب إلى المحطّة، واختيار الحافلة التي تستقلّونها، فإنّكم تُصابون بالحيرة، ولا تعلمون هل الحافلة الفلانيّة تذهب لتلك المدينة، أم لمدينة أخرى؛ كما أنّكم لا تجدون أيّ لوحة إعلانات، لكي تطّلعوا على مسار حركتها؛ ففي هذه الحالة، هل ستمتطون هذه الحافلة من دون أن تسألوا عن سائقها؛ هل هو إنسان محلّ ثقة وخبير، أم لا؟ وعن الطريق الذي يسلكه؛ أيّ طريق؟ وهل يوصل [المسافرين] إلى المقصد [بأمان]، أم لا؟ فلا يوجد أيّ عاقل يركب الحافلة، من دون أن يقرأ لوحة الإعلانات الخاصّة، وقبل أن يتّضح له مسارها وطريقها الخاصّ، بحيث بمجرّد أن يرى المسافرين يستقلّون تلك الحافلة، فإنّه يذهب، ویقف في الصفّ أيضًا، ويمتطيها، بل عليه أن يسأل إلى أين تذهب؛ فلعلّها تُسافر إلى الشمال، عوضًا عن الجنوب.. 

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

3
  • إنّ الذين يقولون بضرورة أن يطلب الإنسان العلم أوّلاً، ثمّ يسعى بعد ذلك إلى التهذيب والتزكية شأنهم شأن ذلك الشخص الذي يركب سيّارة، من دون أن يهتمّ بالطريق الذي ستسلكه؛ ففي هذه الحالة، قد توصله هذه السيّارة إلى الهدف المنشود، أو لا؛ فذلك بيد الله تعالى! لماذا؟ لأنّ النفس تتّصف بصفات رذيلة قد تُسقط الإنسان في نتائج غير مرغوبة ولا رجعة فيها؛ وذلك بحسب الظروف التي تتناسب معها. وقد أشرت في الجلسة السابقة إلى أنّ النفس تمتلك صفات خفيّة ومستترة حتّى عن صاحبها، بحيث متى ما توفّرت الظروف المناسبة، فإنّ هذه الصفات تبرز، وتتجلّى في مظاهر وقوالب مختلفة، وتكشف عن نفسها؛ فهذا هو حال النفس! ففي البداية، تجد بأنّ الإنسان يتعامل مع المسألة بنحو معيّن، ويُبرز استنكافه تجاهها:

  • ـ يا سيّدي! اقبل بهذه المسألة!

  • ـ لا، إنّها مخالفة لرضى الله تعالى.

  • ـ أيّها السيّد! تعال، وقم بهذا الأمر.

  • ـ لا، أنا أشكّ في صحّة هذا الطريق، أو سُقمه.

  • لكن، ما إن يُقدم عليه، وتمرّ فترة من الزمان، حتّى تُودع جميع تلك المسائل والأدلّة السابقة في ملفّ النسيان، ويتحوّل ذلك الإنسان إلى شخص يقبل بذلك الطريق وتلك الظروف تمامًا، بل ويُصبح من المدافعين عنها، ومن "أعيانها"۱ الحقيقيّين، بحيث لا يعُد بإمكانه التخلّي عنها بتاتًا.

  • كان العلاّمة رحمة الله تعالى عليه يقول: «إنّ الذين لا ارتباط لهم بمقام الولاية إذا تقلّدوا بعض المناصب ذات المظهر الدنيويّ الخدّاع، فإنّهم يكونون في البداية من أعوان الظلمة، ثمّ يتحوّلون بعد ذلك إلى "أعيان الظلمة"٢». فتجد السيّد الفلانيّ الذي أتى سابقًا، وكان له منهج فكريّ معيّن، وموقف خاصّ من أحد التيّارات، بعدما مرّت سنتان، إذا به يتغيّر، ومواقفه تتبدّل؛ فما الذي حصل يا سيّدي؟! فأنت بنفسك كنت تُحدّثنا بعين هذه الكلمات وهذه المسائل [التي تُخالف ذلك التيّار]! فنجده الآن يطرح تلك المسائل بصورة باهتة، ونرى بأنّ تلك الحماسة والشدّة التي كان يُبديها سابقًا تجاهها لم تعُد الآن موجودة، فصار يطرح القضايا بطريقة ليّنة مقترنة بنوع من التردّد؛ وبعد انقضاء فترة من الزمان، نجده ينهض للدفاع عن مبادئه ومواقفه الشخصيّة [والتي أصبحت منسجمة مع ذلك التيّار]؛ ثمّ بعدما تمرّ فترة أخرى، نراه لا يسمح أبدًا لأيّ أحد حتّى بالكلام؛ بمعنى أنّ المسألة تصير راسخة وواضحة بالنسبة إليه، وبالنسبة للجميع، إلى درجة أنّه يُصبح وكأنّه أحد أفراد ذلك التيّار، وأركانه.

    1. سوف يأتي مراد سماحته من هذا الاصطلاح في الفقرة الآتية. المعرّب
    2. الأعيان جمع عين، وهو مشترك لفظيّ له عدّ معانٍ؛ وعليه، قد يكون مراد سماحته (قدّس الله نفسه الزكيّة) من أعيان الظلمة: سادتهم وأشرافهم، وقد يكون مراده من عين الظلمة: نفس الظلمة. المعرّب

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

4
  • لكن، أيّ تيّار؟ التيّار الدنيويّ، التيّار الخدّاع، التيّار النفسانيّ، تيّار الأهواء؛ فيتجلّى شيئًا فشيئًا بهذا النحو. إنّ السبب في ذلك راجع إلى تلك الحالات المكنونة في النفس التي تأتي، وتُكيّف نفسها، وتُأقلمها مع التيّار السائد، لتعمل بعد ذلك على السير بالأمور وفقًا لهذه الطريقة؛ ولهذا، فإنّهم قالوا منذ البداية: عليك أن تعتبر نفسك أوّلاً في مقام العبوديّة، وتتحقّق بهذا المقام؛ وعليك منذ البداية أن تستحضر في ذهنك ونفسك المسألة التالية: حينما أريد أنا الآن أن أُقدم على هذا الأمر، هل إقدامي عليه يكون من مقام أنّني أرى نفسي عبدًا، أم من باب أنّ لي أنا أيضًا دورًا في ذلك؟ فعلينا أن نُجلّي هذا الأمر؛ فحينما أريد الآن أن أقبل بتقلّد المنصب الفلانيّ، هل إنّني أقوم بذلك من مقام كوني عبدًا، أم لا؟ فما هي حقيقة هذا الأمر؟ وهكذا الشأن، إذا أردنا طلب العلم، حيث يُواجه أهل العلم ـ على الخصوص ـ هذه المسألة كثيرًا، وكذلك بالنسبة إلينا نحن طلبة العلم؛ فباعتبارنا من المؤتمرين بأوامر الأئمّة عليهم السلام، ونرى أنفسنا ـ على حدّ زعمنا ـ تلامذة في مدرسة الإمام الصادق، ما هي المسائل التي ينبغي علينا طرحها من مقام التتلمذ في مدرسته عليه السلام؟ وبأيّة طريقة يتعيّن علينا طرحها؟ فهذه مسألة مهمّة؛ لماذا؟ لأنّ كلّ ما لدينا هو من الإمام الصادق عليه السلام، ولا يُمكننا أن نُضيف من أنفسنا أيّ شيء؛ وحتّى إن أردنا ذلك، فإنّنا سنُضيف الباطل فقط؛ ولهذا، فإنّ كلامنا الصحيح هو المطابق لكلام المعصومين الأربع عشر، وحسب؛ أي: لو صدر منّي ـ أنا الطالب ـ كلام صائب، فلأنّه مستند إلى المعصومين الأربع عشر؛ وأمّا ما يكون خارجًا عن ذلك، فكلّه باطل ولغو؛ ومن هنا، فإنّ صحّة كلامنا وحُسنه ونفاسته تعود كلّها إلى هؤلاء.. والسلام!

  • الأبديّة والخلود والقيمة العالية مختصّة بالمعصومين الأربع عشر عليهم السلام

  • وعليه، فإنّ الأبديّة والخلود والقيمة العالية تختصّ فقط وفقط بهؤلاء الأربعة عشر، وحسب؛ وحتّى إذا أردنا أن نضع تاج الفخر على رؤوسنا، ونتبجّح على كلّ العالم، فإنّ غاية ما يُمكننا فعلُه هو أن نُدني قليلاً كلامنا من كلامهم، ونقترب يسيرًا بفهمنا من مبادئهم؛ فهذا هو تاج فخرنا، وأن نُقرّب طريقنا من طريقهم، وأن نُقيّم كلامنا بكلامهم؛ وإلاّ، فإنّه بمعزل عن هذه المسألة، وبغضّ النظر عن اتّكاء كلامنا على هذه الذوات المقدّسة، فلن يكون هناك أيّ فارق بيننا وبين البهائم؛ مهما كانت المكانة التي نحظى بها، والزيّ الذي نتلبّس به، والعمر الذي نبلغه، والدرجة العلميّة التي نحتلّها؛ ومعنى ذلك أنّه: إذا أخذوا منّا هؤلاء المعصومين الأربع عشر، وصار كلّ كلامنا وإدراكنا وتصرّفاتنا وأعمالنا وأفعالنا خاليًا عن مبادئ هؤلاء المعصومين الأربع عشر وكلماتهم، وأوكلونا إلى أنفسنا، فإنّنا لن نختلف عن هذه الدوابّ والأبقار والخرفان؛ ولن نفترق أبدًا؛ وعليه، فإنّ كلّ ما لدينا منهم عليهم السلام، وكلّ احترام يُبديه الناس لنا راجعٌ إليهم؛ فما هو سبب هذه القيمة التي نحظى بها نحن الشيعة؟ إنّها بسبب وجود إمام الزمان أرواحنا له الفداء؛ وأمّا إذا أخذوا منّا إمام الزمان، فإنّنا سنضحى شعبًا جاهلاً وأهوجًا وأعمى؛ أليس كذلك؟ فلو كانت للشيعة شخصيّة، فإنّ ذلك راجع للوجود المبارك لإمام الزمان عليه السلام، وحسب، حيث يتوجّب علينا الالتفات إلى هذه المسألة.

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

5
  • فَاطْلُبْ أوّلاً في نَفسِكَ حَقيقةَ العُبوديَّةِ

  • تعال أوّلاً، وأخضع الأمور للحساب: فأنت بصفتك طالبًا ومن أهل العلم، من هو الإنسان الذي تعدّ نفسك خادمًا له؟ وبسبب من يثق الناس فيك؟ وبسبب من يُكنّون لك الاحترام والتقدير؟ بسبب من؟ بسبب أنّنا نعدّ أنفسنا خدّامًا لإمام الزمان عليه السلام؛ هذا، مع أنّ ذلك ما نعتقده ونظنّه نحن.. هيهات! وأنّى لنا ذلك! فلأجل الإمام الصادق، يُكنّ الناس لنا الاحترام.. بسبب ذلك.

  • مكانة الإنسان تتحدّد من خلال علاقته بالله تعالى وأهل البيت عليهم السلام

  • ومن هنا، يقول الإمام عليه السلام: عليك أوّلاً أن تُحدّد طبيعة علاقتك بالله تعالى، لتتبيّن مكانتُك ومن تكون أنت في ضمن هذه العلاقة؛ فلنفرض مثلاً أنّ شابًّا تقدّم لخطبة إحدى الفتيات؛ فماذا سيفعل والداها؟ سيسألونه: «أيّها السيّد! من أنت؟ من هو والدك؟ من تكون والدتك؟ من هم أهلك وأقرباؤك؟ ما هو مستواك العلميّ؟» فلا نجدهم يقولون: «السلام عليكم، تفضّل، [خذ الفتاة]، واذهب!»؛ فهذا لا يصحّ، وهو لا يحصل عادةً، حيث نراهم يسألون ـ كحدّ أقلّ ـ عن الوالدين، ثمّ يعمدون إلى إجراء بعض التحقيقات لمدّة أسبوع أو أسبوعين؛ فيلتقون بأصدقاء الخطيب ورفاقه، ويبحثون عن محلّ دراسته، ويسألون عنه: «هل هو ذكيّ، أم لا؟ كيف يتعامل مع أصدقائه؟ ما هو أسلوب تعاطيه مع الناس؟»؛ فنجدهم يقومون بهذه الأمور؛ وهذا هو المتعارف بينهم؛ إذ لا يُمكنهم [أن يُزوّجوا ابنتهم] هكذا... فنحن الآن من نكون؟ إنّ الشيعيّ يُعدّ تلميذًا لمدرسة أهل البيت، مهما كان اللباس الذي يتلبّس به، والحالة التي هو عليها؛ أي: عليه أوّلاً أن ينظر إلى نفسه انطلاقًا من علاقته بمدرسة أهل البيت؛ فإذا كان طبيبًا، عليه أن يتعامل مع المرضى بصفته تلميذًا للإمام الصادق؛ أي أنّه من الأطبّاء الذين هم تلامذة للإمام الصادق ولإمام الزمان؛ فلا يصحّ حينئذ ألاّ يعتني بهذا، وبذاك، ويتصرّف بعنجهيّة مع الآخرين. وحينما يكون الإنسان يحتلّ منصبًا علميًّا، عليه في تعامله مع الناس أن يضع نصب عينيه انتماءَه إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وكونه تلميذًا لهذه المدرسة، وأحد خدّام إمام الزمان عليه السلام؛ لكن، لماذا نحن تلاميذ لمدرسة أهل البيت؟ ألسنا نقرأ رواية عنوان البصريّ؟ فإذن، نحن تلاميذ للإمام الصادق، ونُريد أن نمتثل لأوامره. يقول عليه السلام: إذا أردت أن تتوجّه إلى النور ـ وهو العلم كما ذكر ـ ، ماذا ينبغي عليك أن تفعل؟ عليك في الوهلة الأولى أن تضع العبوديّة نصب عينيك، وأنّك عبد. فحينما يسعى طالب العلم أن يطرح نفسه بين الناس، عليه أن يستحضر في نفسه مسألة العبوديّة، وأنّه لا يقدر بنفسه على فعل أيّ شيء، وأنّه مجرّد وكيل، ولا يملك من نفسه شيئًا؛ وهكذا الشأن بالنسبة للطبيب، والمهندس، والتاجر، والحِرفيّ، و... فعلى جميع هؤلاء أن يضعوا نصب أعينهم الجانب الرساليّ في المسألة، والذي يُمثّل باطنها؛ فإذا استطعنا أن نكون بهذا النحو، سترى ـ يا سيّدي ـ بأنّ هذا الإنسان أصبح يتعامل بنوع من الطمأنينة، والرصانة، والحريّة، والتجرّد مع كافّة الناس على حدّ سواء، ومهما كان شأنهم؛ وعندئذ، إذا أردت أن تذهب عند رئيس الجمهوريّة، فاذهب [ولا شيء عليك]؛ لأنّك ستذهب عنده في هذه الحالة بصفتك خادمًا لإمام الزمان؛ وحينئذ، لن يختلف بالنسبة إليك رئيس الجمهوريّة عن البوّاب؛ أفهل يوجد فرق بينهما؟ صحيح، ينبغي مراعاة الأدب، والاحترام، وأمثال ذلك؛ فهذه الأمور محفوظة في محلّها، ويجب الأخذ بها؛ لأنّ الإمام أمر بذلك؛ لكن، لا ينبغي أن يحصل أيّ تغيير في السلوك على مستوى الباطن، أبدًا، أبدًا، ومطلقًا؛ لماذا؟ لأنّنا نتوفّر على ركيزة ودعامة.

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

6
  • يُحكى في الماضي عن رجل كان في عهد ناصر الدين شاه اسمه عين السلطان؛ فكان يحتلّ منصب الصدر الأعظم، ويمتلك سلطة كبيرة، وبيده فتق الأمور ورتقها؛ وعلى أيّ حال، فقد كان يمتلك هؤلاء القدرة على فعل كلّ شيء، والقيام بجميع ما يحلو لهم؛ فلا يستنكفون عن ارتكاب أيّ ظلم أو إجحاف، من دون أن يتمكّن أيّ أحد من ردعهم. ويُحكى أنّه حينما كان أعوان عين السلطان يريدون الذهاب عند أحد، فبمجرّد إعلامه بأنّ خادم عين السلطان يُريد أن يحضر عنده، كان يتعيّن عليه أن يخرج إلى خارج البيت لكي يستقبله؛ وفي إحدى المرّات، قال العلاّمة رحمة الله تعالى عليه: «لقد وصل الأمر إلى حدّ أنّه حينما كانت الحمير المخصّصة لحمل متاع عين السلطان تعبر أحد الأزقّة، لم يكن لأيّ أحد الحقّ في المرور منه»، حيث كانت تلك الحمير تحمل البطّيخ مثلاً، أو الشمّام إلى بيت عين السلطان؛ إذ كانت وسائل الحمل والنقل منحصرة في تلك الأيّام بالحمير وأمثالها؛ فكانوا يصيحون في الناس: «لقد جاء حمار عين السلطان، تنحّوا جانبًا، تنحوّا جانبًا!»؛ مخافة أن يتجرّأ أحدهم على حضرة الحمار! فما هو سبب ذلك؟ سببه عين السلطان، بحيث صار حتّى حماره مخيفًا ومُرعبًا للناس.

  • وأمّا نحن، فعلى من نتّكئ ونعتمد؟ على إمام الزمان؛ فإذا كان اتّكاء الإنسان على إمام الزمان، فليذهب عند كلّ أحد في هذه البلاد، وليتحدّث مع من يُريد مهما كان منصبه؛ ففي هذه الحالة، سيتحدّث معه بكلّ طمأنينة، بل سيقول له: «يبدو أنّك مثلي أنا، والظاهر أنّك لست كما يُحكى عنك؛ فهذا الاحترام الذي يُكنّ لك هو لأجل إمام الزمان، وإلاّ، فإنّك لا تملك أيّ شيء!»؛ فهذه هي العبوديّة. فعلى الإنسان أن يُحدّد مكانته منذ البداية، ليتبيّن من يكون؛ ولا تعتقدوا بأنّ هذا الأمر مختصّ بأهل العلم؛ كلاّ! بل بجميعنا نحن؛ أ فلسنا ننتمي إلى التشيّع؟ أ ولا ننتمي إلى أهل البيت؟ بلى، نحن ننتمي إليهم؛ فإذا تحقّقت هذه العبوديّة، فإنّها ستعمل على تغيير الأمور؛ فتجد بأنّ الخطوات التي يخطوها الإنسان قد تبدّلت، والأفعال التي يقوم بها قد تغيّرت؛ فلم يعُد يسقط أحيانًا في التفريط، وأحيانًا أخرى في الإفراط؛ فما هو سبب ذلك؟ سببه العبوديّة؛ ولا يخفى أنّ الإنسان قد يُخطئ أحيانًا، لأنّ الخطأ ـ شئنا أم أبينا ـ ملازم للطبع الإنسانيّ؛ لكن، يبقى أنّ تلك العبوديّة ستعمل بحدّ ذاتها على تقدّمه، ولو قليلاً، وبمقدار يسير جدًّا؛ إذ يكفي ذلك التأمّل في إحداث نوع من التغيير.

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

7
  • وأمّا إذا كان الأمر على خلاف هذا النحو؛ كأن يقول الإنسان: «نحن يا سيّدي على هذه الشاكلة! فهذا هو منهجنا في العمل والتقدّم إلى الأمام، وأمّا ماذا سيحصل بعد ذلك؟ فالله كريم!»، فإنّ هذا العلم سيصير مقترنًا بخليط من الصفات الحسنة والرذيلة؛ وحينئذ، ستنتكس الأحكام، وتتغيّر الأعمال، وتصير الأحكام نفسانيّة، وتتبدّل المعايير والقيم؛ لماذا؟ لأنّه لم يُحضر معه العبوديّة منذ البداية، بل أتى بالصراعات والأهواء النفسانيّة؛ فدرس العلم أوّلاً، واقترن هذا العلم بالأمور النفسانيّة، فصار خادمًا للنفس، لا للعبوديّة، وأصبح يُستخدم في التبرير.

  • دور علماء البلاط في تدعيم أركان الحكومات الظالمة

  • هل تظنّون بأنّ معاوية اعتلى المنبر، وجلس على مسند الخلافة هكذا، ومن دون أيّ سبب؟ لا، يا عزيزي! فلولا وعّاظ السلاطين، والذين يجدون لهم التبريرات، ويصبّون افتراءاتهم على الرسول والإمام، ويختلقون الروايات، ويلجؤون إلى التبرير والتأويل لهم حينما يقفون أمام طريق مسدود، لما تمكّن معاوية من البقاء على مسند الخلافة؛ فمن الذي أبقى معاوية على هذا المسند؟ إنّهم أولئك المبرّرين، والمؤوّلين، والذي كانوا يُقدّمون للمجتمع كلّ يوم حكمًا جديدًا، وتفسيرًا بديعًا. فإذا حصل تقدّم ما في إحدى المسائل الاجتماعيّة، تجدهم يقولون: «هل رأيتم ما الذي حصل؟ لقد تقدّمنا إلى الأمام»؛ لكن، ما إن يحصل تأخّر في مسألة اجتماعيّة أخرى، حتّى يقولون: «لقد كان الأمر في صدر الإسلام بهذا النحو أيضًا؛ ففي نهاية المطاف، تارةً، يحصل تقدّم، وتارةً أخرى، يحصل تأخّر!»؛ فمن هم هؤلاء؟ إنّهم نفس أولئك المبرّرين؛ فيا أيّها السيّد، لماذا لا تتكلّم بشكل صحيح؟ وليكن كلامك موزونًا منذ البداية؛ فإذا حصل لك تقدّم، فلتقل: «أنا عبد لله، وهو تعالى الذي وفّقني لهذا»؛ وإذا حصل لك تأخّر، فلتقل: «لقد أنجزت ما عليّ من تكليف»؛ فلماذا لا يكون كلامنا مطابقًا تمامًا لكلام أمير المؤمنين؟ ولماذا لا نتحدّث مثل سيّد الشهداء؟ لقد كان عليه السلام يقول: «أنا سوف أؤدّي تكليفي؛ فإن أردتم قتلي، فلا يهمّني؛ وإلّم ترغبوا بقتلي، فلا شأن لي بكم؛ لكن، في جميع الأحوال، أنا لن أبايع يزيدًا».

  • فهذا الطريق هو طريق الأئمّة؛ وحينئذ، لماذا نتسبّب في فقدان ثقة الناس بنا؟ ولماذا نقوم ببعض الأعمال التي تجعلهم يقولون: «إنّ هؤلاء لا يختلفون في شيء عن الأشخاص النفعيّين الذين يسعون لاستغلال مكانتهم في سبيل مصالحهم الشخصيّة»؟ ولماذا نُؤدّي أعمالاً تختفي تحتها الأهواء النفسانيّة، وتكون مضاهيةً للأعمال التي يقوم بها عامّة الناس في بقيّة أنحاء العالم؟ لماذا نلجأ للخطط ذاتها؟ ولماذا لا نكون كما أمرنا الأئمّة عليهم السلام أن نكون؟ أ فهل كان الأمر يفرق بالنسبة إلى أمير المؤمنين؟ أم أنّه لم يكن بالنسبة إليه أيّ فارق بين تلك المواقف التي أبداها في عهد رسول الله حينما قلع باب حصن خيبر، وطرح عمر بن عبد ودّ أرضًا، وكذلك عندما خلق تلك الملحمة في بدر، وبين المواقف التي أبرزها بعد ذلك حينما حاصروه في بيته، وقاطعوه حتّى في السلام، ولم يتّبعه أيّ أحد، وتركوه وحيدًا فريدًا؟ لم يكن هناك لديه أيّ فارق! لماذا؟ فهو طالع رواية عنوان البصريّ سابقًا، وعمل بمفادها!!! ويبقى أنّ كلّ ما لدى الإمام الصادق هو من أمير المؤمنين؛ لأنّه عليه السلام أب جميع الأئمّة؛ فنحن هنا نمزح فقط!

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

8
  • العبوديّة تخرج الإنسان من الشيطانيّة إلى الرحمانيّة

  • لقد حقّق أمير المؤمنين حقيقة العبوديّة في نفسه أوّلاً، ثمّ ذهب بعد ذلك لاقتلاع باب حصن خيبر، و[قتل] عمرو بن عبد ودّ؛ وتعالوا أيّها السادة، وانظروا ماذا يقول مولانا [جلال الدين الروميّ] هنا!

  • او خدو انداخت بر روى علىّ***افتخار هر نبىّ وهر ولىّ‌
  • [يقول: فبصق [عمرو] في وجه عليّ، ذاك الوجه الذي هو فخر لكلّ نبيّ وكلّ وليّ]

  • فماذا فعل عليه السلام في البداية؟ [تحقّق] بحقيقة العبوديّة؛ ولهذا، ما إن حصل له امتعاض ممّا قام به خصمه، حتّى توقّف، وقال: «لا، لا ينبغي عليّ احتزاز رأسه الآن!»؛ لماذا؟ لأنّ ذلك يتعارض مع تلك العبوديّة؛ فنهض، وقام بجولة قصيرة بهدوء؛ في حين أنّ ذلك الخصم كان مستلقيًا على الأرض، وغير قادر على فعل أيّ شيء؛ وحينما حصل له اطمئنان، ولم يعُد لديه أيّ فارق بين موت عمرو بن عبد ودّ، وحياته، واستوت كفّتا الميزان بالنسبة إليه، قال: «فلأذهب الآن، وأحتزّ رأسه»؛ هذا، مع أنّ الهدف من ذلك هو إراحته، وليس شيئًا آخر؛ فما هي حقيقة هذه المسألة؟ إنّها عبارة عن أمر! فيا أيّها المتشيّع لعليّ، عليك أن تكون أنت أيضًا بهذا النحو؛ فانظر كم كانت أعماله محسوبة، وكم كان يُراعي النظم في أموره، وكم كان يُعمل فكره، وكم كان يلتزم بتلك المراقبة التي لطالما أوصونا بها، وقالوا لنا: «على السالك أن يلتزم بالمراقبة!»؛ فمن الذين عمل بهذه المسائل؟ إنّه أمير المؤمنين عليّ! وإلاّ، لو لم تكن المسألة بهذا النحو، لتغيّر مجرى الأمور، وآل مصيرها إلى الصراعات والنزاعات والاهتمامات [الفارغة]، والمعاملات [النفسانيّة].

  • سوف أنقل لكم قصّة، لكن بنحو مجمل ومن دون الخوض في التفاصيل: ففي يوم من الأيّام، كان أحدهم يتكلّم مع أحد الأشخاص الذين لديهم اطّلاع على الأحداث والوقائع، وكان من رجال حكومة الشاه السابقة؛ فكان يُحدّثه عن الصفات التي يتحلّى بها العلماء، وأمثال ذلك؛ فقال له صاحبه: «يا فلان! ليس الأمر كما تقول تمامًا، ولو أنّ من بينهم رجالاً مخلصين وصادقين، ونحن نعرفهم، ومطّلعون على أحوالهم؛ لكنّ المسألة ليست كما تظنّ تمامًا!»؛ وخلاصة القول أنّه حينما أصرّ عليه، قال له: «حسن جدًّا، إذا رغبت بذلك، تعال معي»؛ فذهبا معًا [إلى السجن]، وجرى إخبار [أحد المسجونين] بأنّ شخصيّة من الشخصيّات ذات المناصب [العالية] تُريد المجئ لزيارته؛ لكن، قبل إخباره، قال ذلك المسؤول في حكومة الشاه لصاحبه: «اذهب أوّلاً، وانظر ماذا يفعل الآن!»؛ فلمّا رجع، قال له: «لقد تركته نائمًا في الزنزانة»؛ ولمّا ذهبا عنده [بعد إطلاعه على مجيئهم]، ودقّا عليه الباب، ودخلا الزنزانة، وجداه جالسًا، ومرتديًا عباءته وعمامته، وهو يقرأ القرآن؛ فالتفت إلى صاحبه، وقال له: «هل رأيت الآن ما قلت لك؟ فقد كان للتوّ نائمًا!».

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

9
  • هل التفتّم؟ فكيف تتوقّعون ـ والحال هذه ـ أن يثق فينا الناس؟ فحينما يخرج الأمر عن مسألة العبوديّة، فإنّه لن يبقى تحت تصرّف الرحمان، بل سيدخل في دائرة تصرّف الشيطان؛ أي أنّ العبوديّة هي التي تجعل المسائل رحمانيّة.

  • كان المرحوم العلاّمة يقول: «بعد ارتحال السيّد الحكيم رحمة الله تعالى عليه، وقع خلاف بين العلماء بخصوص تعيين المرجع الذي سيخلفه؛ وقد كانت العادة منذ الزمان السابق أن يجتمع العلماء، ويتدارسون بينهم الأمور التي تُرجّح أحدهم، وتمنحه الأولويّة؛ وبعد ذلك، يحكمون ـ بنحو عامّ ـ بأنّ الشخصيّة الفلانيّة أعلم، وأنّه من الناحية العلميّة كذا»؛ ثمّ ينتخبونه بعد ذلك؛ هذا، مع أنّه قد تلعب مسائل أخرى دورًا في هذا الحكم والتعيين؛ لكنّنا سنكشح النظر عنها هنا، ولن نلج في الشؤون "السياسيّة"، ولن نتدخّل فيما لا يعنينا؛ إذ لعلّ الأمر يصل بنا إلى بعض المواضع الحسّاسة. فكان العلاّمة رحمة الله تعالى عليه يقول: «بعد ارتحال المرحوم السيّد الحكيم، دَعَوني للمشاركة بطهران في جلسة تعيين المرجع؛ فبدت لي المسألة غامضة جدًّا، ويلفّها الكثير من الظلام، وشعرت بأنّ نفسي لا تُطاوعني للمشاركة في هذه الجلسة؛ مع ما تتضمّنه من كلام، وتبادل للحديث، ومناقشة للمسائل؛ فلجأت للاستخارة، حيث صلّيت ركعتين للاستخارة، واستخرت الله تعالى بخصوص الحضور في تلك الجلسة أو لا؛ فجاءت هذه الآية: ﴿أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾۱؛ مع أنّ الآية التي قبلها تقول: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلى‌ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾٢»؛ أي أنّهم كانوا يعملون بخلاف ذلك الطريق الذي رسمه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمّة عليهم السلام؛ فماذا كانوا يفعلون؟ كانوا [مثلاً] يُبرّرون الربا للناس؛ وعوض أن يهتمّوا بالوصول إلى الحقائق، أشغلوا أنفسهم باستقطاب المريدين، وداسوا بأقدامهم جميع القيم من أجل الظفر بالمناصب الدنيويّة. وقد ذكرتم لكم سابقًا بأنّني حضرت في أحد الأيّام مجلس عزاء، وكان يجلس هناك العديد من العلماء وأئمّة الجماعات في طهران؛ وفي تلك اللحظة، جاء عبد الله رياضي رئيس البرلمان على عهد الشاه؛ فقام جميع هؤلاء من أمكنتهم احترامًا له، إلاّ المرحوم الوالد وأنا بقينا جالسين؛ أ فهل يصحّ أن تقوم احترامًا لرئيس البرلمان في عهد الشاه.. عهد الطاغوت والكفر؟ وهل هذا موضع يجوز القيام فيه؟ فما هو سبب ذلك؟ سببه عدم الالتزام، وفقدان الاستقامة، وعدم الوفاء بالتكليف الملقى على العاتق، وتوقّع خدمة في المقابل، وأن عسى أن يأتي يوم، ويحلّون للإنسان مشكلة من مشاكله: فقد يجري استدعاء ابنه للتجنيد، فيستلم منهم رسالة لإعفائه منه؛ وقد تُحجز بضاعة قريبه الفلانيّ في الجمارك، فيأخذ منهم توصية،... إنّ هذه الأمور التي أذكرها لكم الآن عشتها بنفسي، لا أنّني أختلقها من عندي؛ فقد عايشت جيلين: جيل ما قبل الثورة، وجيل ما بعدها؛ كما هو الشأن بالنسبة للكثيرين منكم. ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلى‌ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ﴾؛ أليس هؤلاء هم الذين كانوا يقولون: «على الإنسان أن يعمل ويتحرّك إذا اقتضت المصلحة ذلك، ولو كان ذلك مخالفًا لرضى الله»؟ أ لم يقولوا ذلك؟ أ لم أخبركم به في أحد الأيّام؟ ﴿وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾.

    1. سورة التوبة، الآية ۷۸.
    2. سورة التوبة، الآية ۷۷.

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

10
  • فهذه هي أوضاعنا الحالية.. لماذا؟ لأنّ رواية عنوان البصريّ الواردة عن الإمام الصادق مدفونة في المكتبات؛ فمن هو الذي يعمل بها؟ إنّه العلاّمة رحمة الله تعالى الذي كان يُطالعها في النجف مرّتين أسبوعيًّا؛ لكن، ماذا عن البقيّة؟ هل طالعوها أيضًا؟ فكم عدد المرّات التي طالع فيها هذه الرواية أولئك الذين بلغوا السبعين أو الثمانين أو الستّين أو التسعين؟ أقسم بالله تعالى لو أنّهم كانوا يُطالعونها، لأثّرت فيهم! فهذه المسألة مهمّة، حيث على الإنسان أن يُسلّم، ويتوكّل، ويكون من أهل التفويض؛ وهي أمور لا تحصل بمجرّد لقلقة اللسان؛ فكلّما تقدّم الإنسان إلى الأمام من دون عبوديّة، صار الخطر عليه أكبر، وترتّبت على ذلك مفاسد أكثر؛ وكلّما أسرع في إيقاف هذه المسألة، وحقّق في نفسه كلام الإمام الصادق، تغيّر الأمر بالنسبة إليه، حيث يُقال في هذا المجال: إيقاف الضرر في أيّة مرحلة يُعدّ غنيمة.

  • رسالة الإمام السجّاد عليه السلام إلى محمّد بن مسلم بن شهاب الزهريّ

  • تذكّرت اليوم رواية منقولة عن الإمام السجّاد أوردها المرحوم المجلسيّ في الجزء السابع عشر من بحار الأنوار، والذي يتضمّن مواعظه عليه السلام؛ فحينما أخذت في الصباح هذا الكتاب لمطالعته، عثرت على هذه الرواية، فعزمت على قراءتها للأصدقاء؛ وهي رواية مهمّة جدًّا؛ ولو أنّ خطاب الإمام موجّه فيها إلى عالم من علماء البلاط المروانيّ اسمه محمّد بن مسلم الزهريّ، وهو صاحب علم غزير، حيث كتب عليه السلام إليه هذه الرسالة، لإنقاذه، ومساعدته. ولا يخفى أنّني لن أخوض في شرح عبارات هذه الرواية، بل سأقتصر على التبرّك بذكر كلمات الإمام عليه السلام، مع ترجمة مختصرة لها؛۱ على أنّ نتحدّث إن شاء الله تعالى عن هذه الفقرات في وقت مناسب، إذا سنحت الفرصة لذلك.

  • «كِتابُه عليه‌ السّلام إلى مُحمَّد بنِ مُسلمٍ الزُهْريّ يعظه‌»

  • فقد كان الزهريّ من كبار العلماء في عهد الإمام السجّاد عليه السلام، وكان منحرفًا عن منهج أمير المؤمنين عليه السلام وسيرته، وقدّم الكثير من الخدمات لبني أمّية، واضطلع بدور كبير في تأييد الخلفاء الأمويّين، وتشييد أركانهم.

  • «كَفانا اللَهُ وإيّاكَ مِنَ الْفِتَنِ ورَحِمَكَ مِنَ النّارِ»

    1. ونحن سنسعى من جهتنا إلى إيراد نفس عبارات الرواية الشريفة، مع تعريب الكلمات التي قد تظهر منها زيادة على أصل النصّ مع وضعها بين معقوفتين. المعرّب

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

11
  • «فَقَد أصبَحْتَ بِحالٍ ينبَغي لِمَن عَرَفَكَ بِها أنْ يرحَمَكَ [لأنّك في وضعيّة غير لائقة]‌»

  • «فَقَدْ أثْقَلَتْكَ نِعَمُ اللَهُ بِمَا أصَحَّ مِن بَدَنِكَ وأطالَ مِن عُمرِكَ وقامَتْ عَليكَ حُجَجُ اللَهُ بِمَا حَمَّلَكَ مِن كِتابِهِ، وَفَقَّهَكَ فِيهِ مِن دِينِهِ، وعَرَّفَكَ مِن سُنَّه نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيه وآلِه»؛ فهذه الأمور يعترف الإمام السجّاد عليه السلام بتحقّقها في محمّد بن مسلم بن شهاب الزهريّ؛ ممّا يعني أنّه لم يكن رجلاً عاديًّا.

  • «وَعَرَّفَكَ مِنْ سُنَّة نَبِيِّهِ»

  • فنحن نظنّ بأنّ ما حصلنا عليه قد أتينا به من عند أنفسنا؛ فهذه العلوم التي نلناها الآن، وصرنا نفخر بها على الناس، من أين جاءتنا؟ لقد كانت مسطّرة في هذه الكتب الموجودة بين أيدينا الآن، والتي لولاها، لما توصّلنا إلى هذه المسائل؛ فلو أنّ الباري عزّ وجلّ لم يمنحنا الصحّة والعافية، هل كنّا سنصل إليها؟ ولو أنّه تعالى لم يُهيّء لنا الظروف المواتية للتعليم، هل كنّا سنظفر بها؟ فهل فكّرنا في هذه الأمور؟ فلولا أنّ نعم الله تعالى قد غمرتنا، لما استطعنا احتلال هذه المكانة التي تُمكّننا من إساءة الاستفادة من شوق الناس إلينا ورغبتهم فينا واهتمامهم بنا. فجميع ذلك حصل بواسطة النعم الإلهيّة، حيث وهبنا الله تعالى الصحّة والعافية، فصرنا قادرين على الدراسة، والمباحثة، والمطالعة؛ ومنحنا القابليّة والاستعداد، والذاكرة القويّة، والظروف المناسبة، والمعلّم، والأرزاق؛ فهذه بأجمعها ظروفٌ هيّأها لنا الباري عزّ وجلّ؛ مع أنّ هذه المسألة تصدق على الجميع.. كلٌّ بحسب ظروفه، حيث تصدق على أهل العلم بحسب ظروفهم الخاصّة، كما تصدق على غيرهم بنفس ذلك النحو، ومن دون أيّ فارق. ففي هذا المقام، يُريد الإمام عليه السلام أن يُلفت نظر محمّد بن مسلم بن شهاب الزهريّ إلى هذه المسألة: لقد وصلت إلى هذه المكانة بواسطة النعم الإلهيّة؛ فهل يصحّ أن تذهب عند بني أمّية، وتُبرّر لهم أفعالهم؟ وصرت متفقّهًا في الدين بالاستعانة بالكتاب الإلهيّ الذي أنزله الباري تعالى على نبيّه؛ فهل يجوز ـ والحال هذه ـ أن تطعن الرسول بنفس هذا الكتاب؟ وبلغت هذا المقام بالاعتماد على سنّة النبيّ وكلماته المنقولة عنه، والتي حفظتها وتأمّلت فيها؛ فهل من اللائق أن تلجأ إلى بني أمّية الذين يسفكون دماء أبناء هذا النبيّ، وتُقدّم لهم التبريرات والتأويلات؟ لاحظوا كم هو قبيح ووقيح هذا التصرّف! وذلك بأن يعمد الإنسان إلى الاستعانة بنفس هذا النعم... أفلن يُعدّ هذا العمل حينئذ إعراضًا عن وليّ النعمة؟ ومن هو وليّ نعمتنا؟ إنّهم المعصومون الأربعة عشر. فإذا جئنا، واكتسبنا المسائل الواردة عنهم، واستفدنا منها لاحتلال مكانة علميّة؛ ثمّ لجأنا بعد ذلك إلى خدمة أعدائهم، وسعينا إلى تبرير أفعالهم الدنيئة بواسطة نفس تلك المسائل، فإنّ ذلك سيُعدّ إعراضًا عن وليّ النعمة.

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

12
  • وهذا بعينه ما يُشير إليه الإمام السجّاد بقوله:

  • «فَرَضَ لَكَ فى كُلِّ نِعمَه أنعَمَ بِمَا عَلَيكَ، وفي كُلِّ حُجَّة احْتَجَّ بِهَا عَليكَ الفَرْضَ فِيمَا قَضَى إلَّا ابْتَلَى شُكركَ في ذَلِك‌».

  • استعمال النعمة في طريق مخالف لوليّ النعمة خيانة له

  • ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ﴾۱؛ وحينئذ، عوضًا أن يشكر الإنسان النعمة، فإنّه يأتي، ويخون وليّ نعمته، ويمشي في طريق مخالف لطريقه، ويضع النعم التي وهبه إيّاها تحت تصرّف أعدائه؛ وهنا، تصير المسألة مستعصية جدًّا، وخطيرة جدًّا، حيث يعمد الإنسان إلى الاستفادة والانتفاع من شخصيّة معيّنة عمرًا مديدًا، ويصل إلى مكانة علميّة خاصّة، ثمّ يلجأ بعد ذلك إلى تأييد أعداء تلك الشخصيّة، ويستعين بالفوائد التي جناها منها فيما يُخالف منهجها ومدرستها.

  • «وَأبْدَى فيهِ فَضْلَهُ عَلَيكَ فَقَالَ:

  • ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ﴾

  • فَانْظُرْ أيَّ رَجُلٍ تَكونُ غَدًا إذَا وَقَفْتَ بَيْنَ يدَي اللَهِ، فَسَألَكَ عَن نِعَمِهِ عَلَيكَ كَيفَ رَعَيْتَهَا، وَعَنْ حُجَجِهِ عَلَيْكَ كَيْفَ قَضَيْتَهَا [وكيف تُريد أن تُدافع عن نفسك في المحكمة الإلهيّة أمام هذه الحجج الدنيويّة التي منحك الله تعالى إيّاها؟].

  • وَلا تَحْسَبَنَّ اللَهَ قابِلاً مِنكَ بِالتَّعْذِيرِ وَلا راضِيًا مِنكَ بِالتَّقصِير، هَيْهَاتَ هَيهاتَ لَيسَ كَذَلِكَ، أخَذَ عَلَى العُلَماء في كِتابِهِ إذْ قالَ: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ﴾٢».

  • فلا تعتقد بأنّك تستطيع الإتيان بأيّ عذر؛ كلاّ، وأبدًا! كأن تقول: «آه! لقد كنت جائعًا! آه! لقد مورست عليّ ضغوط! آه! لم يكن الناس يهتمّون لحالي! آه! كانت عائلتي تُعاني من ضغوطات! آه! كانت ظروفي بهذا النحو؛ ممّا دفعني للدخول في نفس ما دخل فيه الناس!».. كلاّ، وأبدًا! أنّى لك ذلك! وهل يُمكنك أنّ تدّعي بكلّ سهولة بأنّك كنت تحت الضغط؟ أ فلم يكن غيرك أيضًا كذلك؟ فها هو خبّاب بن الأرَت؛ فقد كان من الصحابة الذين عانوا من التعذيب في صدر الإسلام؛ وفي عهد عمر بن الخطّاب، قال له عمر يومًا: «يا خبّاب، لقد سمعت أنّك تعرّضت لتعذيب شديد؛ فارفع ثيابك لأرى كيف هو ظهرك»؛ وبمجرّد أن رفع ثوبه، أعرض عمر بوجهه عنه، ولم يتمكّن من النظر إليه؛ هذا، مع أنّه مرّت سنوات عديدة على تعذيبه! لقد كان هؤلاء بهذا النحو يا عزيزي! فلا تعتقد بأنّ المسألة... «وَلا تَحْسَبَنَّ اللَهَ قابِلاً مِنكَ بِالتَّعْذِيرِ»؛ فهل تُريد أن تأتي بالأعذار، وتقول: «لو أنّني لم أتصرّف بتلك الطريقة، لاضطربت أوضاعي.. يا ابن رسول الله، إذا جئت معك، سوف يُصادر منّي عبيد الله بن زياد بستاني في الكوفة، ويقضي على عائلتي، ويُمارس عليها الضغوط، فيظلّون جياعًا!».

    1. سورة إبراهيم، مقطع من الآية ۷.
    2. - سورة آل عمران، مقطع من الآية ۱۸۷.

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

13
  • «وَلا راضِيًا مِنكَ بِالتَّقصِير».

  • وحينئذ، ماذا سيقول الإمام الحسين عليه السلام لأمثال هؤلاء؟ ما الذي سيقوله لهم فعلاً؟ ولو كنّا نحن في محلّ سيّد الشهداء، ماذا كنّا سنقول لهم؟ فهذا الإنسان هو على درجة من الغباء وقلّة الصبر والتحمّل، وعلى مستوى من عدم إعطاء الأهميّة لهذه المسائل، بحيث إنّه مستعدّ لبيع دنياه وآخرته مقابل شبر من الأرض الخياليّة، ومقابل علاقة وهميّة.. مقابل شبر من أرض سوف يتخلّى عنها بعد مرور يومين! فأنت تعتقد الآن بأنّك سوف تخرج سالمًا من بين سيوف جيش أهل الكوفة ورماحهم؛ لكن، هل يملك عزرائيل طريقة واحدة فقط لكي يقبض روحك؟ لا يا عزيزي! فقد تذهب لتنام في مكان ما، فإذا بحجر يهوي على رأسك، ليقتلك في الحين؛ فما الذي يُمكن فعله حيال ذلك؟ أو يتسلّل ميكروب إلى جسمك، ليُنهي أمرك في نفس اللحظة؛ وحينئذ، ماذا بوسعك أن تفعل؟ هل يُمكنك في تلك الحالة الاستمتاع ببستانك؟ وهل تظنّ بأنّك إذا لم تُساعد الإمام الحسين، فإنّك ستهنأ ببستانك؟

  • «وَلا راضِيًا مِنكَ بِالتَّقصِير».

  • لا، لا يُمكنك الادّعاء بأنّك كنت قاصرًا، وليس بمقدورك استجلاب رضى الله تعالى بتقصيرك؛ هيهات، هيهات، فالمسألة ليست بهذا النحو بتاتًا! يقول الإمام السجّاد: «مهما بقيت مصرًّا على خيالاتك وأحلامك، فإنّ المسألة لن تكون بذلك الشكل».

  • «أخَذَ عَلَى العُلَماء فى كِتابِهِ ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾»

  • أي: عليكم أن تبيّنوا الحقائق للناس، وتتحدّثوا معهم بكلّ صراحة وصدق، وتحترزوا عن الكتمان؛ أ فهل يوجد مجال للمراعاة هنا؟ ﴿وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾.

  • «وَاعْلَمْ أنَّ أدْنى ما كَتَمْتَ وأخَفَّ ما احْتَمَلْتَ أنْ آنَسْتَ وَحْشَة الظّالِمِ، وَسَهَّلتَ لَهُ طَريقَ الْغَيّ بِدُنُوِّكَ مِنْهُ حِينَ دَنَوْتَ، وإِجَابَتِكَ لَهُ حِينَ دُعِيتَ»‌.

  • والمراد من ذلك: أيّها الشقيّ، بدلاً من أن تنأى بنفسك عن الظالم، وعوضًا عن أن تعمل وحشةُ الارتباط به والاقتراب منه ومصاحبته على إبعادك عنه، وتُساهم هذه الوحشة في ابتعادك وانعزالك عنه، فإنّك تسبّبت بأعمالك تلك في أن تأنس به، ولا يعُد هو يشعر بالوحشة منك؛ كما أنّ صحبة الظالم لم تعُد بالنسبة إليك أمرًا موحشًا، ولا مخيفًا، وأصبحت غير مهتمّ بما يترتّب عليها، واعتدت عليها، واستأنست بها؛ وصرت حينما تذهب عند الظالم أو أهل الدنيا، لا تُبدي حساسيّة كبيرة تجاه ذلك، ولا يفرق لديك القيام بهذا الأمر، أو عدم القيام به؛ في حين أنّك في الماضي، كنت على خوف ووجل، وكنت تقول: «حذار أن أذهب إلى هناك! حذار أن أقترب من هؤلاء! حذار أن ألوّث نفسي بهم! حذار أن أتلبّس بهذه الدنيا!»؛ وأمّا الآن، فقد اختلف الأمر، فصرت تذهب، وتجلس، وتضحك، وتُدردش، وتتحدّث معهم، وتتردّد عليهم؛ لماذا؟ لأنّ هذه الأمور نتيجة لتلك؛ هذا، مع أنّه يُمثّل الحدّ الأدنى [من الجزاء]؛ وأمّا ما سيحصل في العالم الآخر، فلا حديث لنا عنه الآن!

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

14
  • «وَسَهَّلتَ لَهُ طَريقَ الْغَىِّ بِدُنُوِّكَ مِنْهُ حِينَ دَنَوْتَ».

  • أمين الخائن خائنٌ

  • والمسألة الأخرى أنّك عبّدت له طريق الظلم بواسطة قربك منه؛ فلماذا يلجأ الظالم إلى ارتكاب الغيّ؟ بسبب أمثال سماحتك الذين يكونون في خدمته! فأنتم الذين تسندون ظهره؛ لماذا؟ فلو أنّك لم تأت عنده، والآخر أيضًا لم يأت عنده، والثالث كذلك، فإنّه سيرى نفسه لوحده؛ ممّا يدفعه للتفكير والانتباه؛ لكن، حينما يرى الخليفة الظالم وجائر بني أميّة أو بني مراوان مثلاً، بأنّ شخصيّةً كمحمّد بن مسلم بن شهاب الزهريّ تأتي لبلاطه، وتتردّد عليه، ويراه الناس كذلك، ويجدون بأنّ هذه الشخصيّة تأتي عند الخليفة، مع كلّ العظمة التي لها بين الناس ، .... .

  • أتى أحد [الخلفاء] إلى مكّة لأجل الطواف، والظاهر أنّه كان منصور الدوانيقيّ أو هشام بن عبد الملك؛ أجل، هشام بن عبد الملك؛ فسمع بأنّ طاووس اليمانيّ مسافر إلى هناك؛ وقد كان من الزهّاد والعبّاد المشهورين، ومن التابعين؛ فقال لهم: «ابحثوا عن طاووس، وائتوني به، لأنّ لديّ شغل معه»؛ فقالوا له في أحد الأيّام: «أجل، إنّه في حالة طواف»؛ فقال لهم: «حينما ينتهي من طوافه، أحضروه عندي»؛ وحينما ذهبوا عند طاووس، وأخبروه باستدعاء الخليفة له، قال لهم: «إذا كان الخليفة يحتاجني، فليأت هو عندي»؛ فمن يكون هذا؟ هذا هو الذي [أدرك] حقيقة العبوديّة، حيث قال لهم: «إذا كان له شغل معي، فليأت هو؛ وأمّا أنا، فلا شغل لي معه»؛ فرأى [هشام بن عبد الملك] بأنّه من القبيح ألاّ يستجيب له؛ هذا، مع أنّهم سيقولون [إن استجاب له]: «أنعِم به وأكرِم! انظروا إلى مقدار سعيه للنصيحة والاسترشاد؛ فقد قام بنفسه، وذهب عنده.. إنّه ليس من أهل الدنيا»، حيث كان الخلفاء يلجؤون إلى هكذا أمور، كما أنّ عمر كان يقوم كثيرًا بمثل هذه الأفعال.

  • من بين المسائل التي تُثار حاليًّا ...، فقد بعثوا إلي برسالة من الخارج تتحدّث عن الأنشطة التي يقوم بها ـ على ما يبدو ـ أهل السنّة في إحدى البلدان، وذكروا في هذه الرسالة أنّ هؤلاء يتحدّثون عن عدل عمر وإنصافه، وأنّه كان على مستوى من الإنصاف، إلى درجة أنّه كان يعترف لصاحب الحقّ بحقّه؛ فكان يقول مرارًا: «لَولا عَليٌّ، لَهَلَكَ عُمَر»؛ فقلت لهم: «إن قاله فعلاً، فلماذا لم يتخلّ له عن الخلافة؟»؛ لاحظوا، فإنّ ذلك صادر بأجمعه من دجله وشعوذته؛ إذ لم يكن له خيار آخر. فحينما عجز عن تقديم جواب لليهوديّ، وأجابه أمير المؤمنين، ما كان عساه أن يفعل؟ إمّا أن يقول: «لقد أُفحمت»؛ وحينئذ، سيريق ماء وجه الخلافة وكلّ شيء؛ إذ عليه الاعتراف بجهله؛ وهنا، نجده يتمسّك بأذيال أمير المؤمنين؛ وحينما يأتي عليه السلام، ويُقدّم الجواب، هل يُمكن لعمر أن يبقى جالسًا يتفرّج؟! فهذا لا يصحّ؛ لأنّه أُفحم، وجلب العار للخلافة؛ ولهذا، حينما جاء أمير المؤمنين، وأخذ بيده ثانيةً، فإنّه سيكون مضطرًّا لإعادة الاعتبار لنفسه بين الناس، ويقول: «لَولا عَليٌّ، لَهَلَكَ عُمَر». لكن، يا هذا! إن كنت تعلم بأنّه لَولا عَليٌّ، لَهَلَكَ عُمَر، لماذا لم تتخلّ عن الخلافة؟ فهذا يعني أنّ جميع كلامه صادر عن الدجل والخداع؛ فهو القائل بنفسه أثناء الاحتضار: «لَا أتَحَمَّلُهُ حَيًّا ومَيِّتًا»؛ أي أنّني لا أستطيع أن أرى في زمان حياتي أو موتي عليًّا خليفةً للمسلمين؛ وحينئذ، هل يُمكننا أن نفهم من قوله «لَولا عَليٌّ، لَهَلَكَ عُمَر» بأنّ قلبه كان يحترق لأجل عليّ؟

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

15
  • حينما جاء هشام عند طاووس، وقال له: «هل تُريد منّي شيئًا؟»، قال له طاووس: «من يكون من أهل الآخرة لا يجئ عندك، ومن يكون من أهل الدنيا لا ينبغي لك أن تجئ عنده، بل عليه هو أن يأتي عندك؛ فأنت الذي أتيت عندي؛ فلو كنتُ من أهل الدنيا، لقمت من مكاني، وجئت بنفسي عندك؛ ولما قلت لك تعالَ أنت عندي؛ كما أنّ الذي يكون من أهل الآخرة لا يأتي عندك»؛ فقال له ذلك، وحمل نعليه، وغادر المكان سريعًا، حتّى لا يُمسكوا به؛ أي أنّه فرّ من المسجد الحرام إلى الخارج؛ ولا يخفى أنّني لا أقصد هنا أنّه فرّ حقيقةً، بل كان يُريد أن يتخلّص من هشام حتّى لا يخدعه؛ وخلاصة القول أنّه كان يُريد الذهاب للاهتمام بأشغاله و... .

  • فتلك الشخصيّات [كالزهريّ مثلاً] هي التي قال عنها الإمام عليه السلام: «بواسطتها تمكّن بنو أمّية من الحكم؛ فشهروا السيوف في وجوهنا، وعملوا على خلاف سنّة رسول الله».

  • «وَسَهَّلتَ لَهُ طَرِيقَ الغَيِّ بِدُنُوِّكَ مِنهُ حينَ دَنَوْتَ، وَإجَابَتِكَ لَهُ حينَ دُعيتَ».

  • «فَمَا أخْوَفَني أنْ تَكونَ تَبوءَ بِإثْمِكَ غَدًا مَعَ الْخَوَنَة».

  • ويحضر معنا الآن مولانا المكرّم وصديقنا المعظّم سماحة السيّد الحاجّ جلال؛ ففي أحد الأيّام، جاء عند العلاّمة رحمة الله تعالى عليه في زمان الشاه، وكنت أنا أيضًا هناك، فجرى الحديث عن إحدى الشخصيّات من أصحاب المناصب في ذلك العهد، وأنّه كان يُقيم في بيته مجالس العزاء؛ لكن، لا يصحّ أن آتي على ذكر اسمه الآن؛ فالتفت الحاجّ السيّد جلال سلّمه الله تعالى إلى المرحوم العلاّمة، وقال له: «يا سيّدي! إنّ ذلك الرجل من أهل الحجّ والصلاة، ويعقد في بيته مجالس العزاء»؛ ويبدو أنّه كان أحيانًا يذهب بدوره إلى بيته لقراءة العزاء؛ وكذلك الكثير من العلماء؛ لكن، يبقى أنّ هذا حدث في بدايات ارتباطه بالمرحوم العلاّمة، حيث لم تكن مرّت عدّة شهور على هذا الكلام من بداية علاقته به. وفي ضمن كلامه، قال: «إنّ ذلك الرجل كان يحظى بثقة النظام الحاكم»؛ ولو ذكرت اسمه، قد يتعرّف عليه جميع الأصدقاء، حيث كان يحتلّ مسؤوليّة في الجيش على عهد الشاه؛ أي أنّه كان فريقًا في الجيش، وكان بيته محلاً لإقامة مجالس العزاء؛ فكان أهل العلم يتردّدون عليه؛ إذ كان ذلك البيت محلاًّ للفصل في الأمور أحيانًا، وكانت تنحلّ فيه بعض المشاكل؛ وعلى أيّ تقدير، فقد كان تردّدهم على ذلك المكان مفيدًا بالنسبة إليهم، وجُعل الإمام الحسين عليه السلام هنا كبش فداء! لكن، دعونا من هذا الحديث الآن. فما إن تحدّث بذلك الكلام، حتّى قال له العلاّمة رحمة الله تعالى عليه: «أمينُ الْخائِنِ خَائِنٌ»؛ هل تذكرون يا حاجّ جلال؟ «أمينُ الْخائِنِ خَائِنٌ»؛ ثمّ إنّه انقطع عن الحضور هناك.

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

16
  • فهذا هو الفارق بين رجل الحقّ ومدّعي الحقّ؛ فتجد أحدهم يضع على رأسه عمامة كبيرة، وله لحية طويلة، وعمرًا أطول، لكن، ماذا بعد ذلك؟ لا شيء يا عزيزي: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلى‌ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ﴾؛ فقد تنحّوا جانبًا.

  • إنّ حكم الشاه الظالم كان قائمًا على هؤلاء، حيث كان يقول الناس: «انظروا! فإنّ الفريق الفلانيّ، ورغم المكانة التي يحظى بها، فإنّه يحضر مجالس العزاء»؛ بل وكان العديد من هذه الشخصيّات تُطلق لحاها، وكان الكثير منهم ينتمون لجهاز الحكم، ومن بينهم برلمانيّون، وسناتورات، وغيرهم من ذوي المكانة الاجتماعيّة، فكانوا من أهل الصلاة والصيام؛ بل وقال لي أحدهم يومًا ما: «يا سيّدي! أعرف فلانًا ذهب إلى الحجّ إثني عشرة مرّة لحدّ الآن!»؛ وقد كان من أصحاب الرتب العسكريّة. إنّ النظام الطاغوتيّ بحاجة لهكذا شخصيّات من أجل استمراريّته، وذلك لكي يُثيروا انتباه عوامّ الناس، ويخدعونهم، ويوقعوهم في الشكّ والترديد؛ وبالتالي، لا تُثير مواقفُهم المضادّة للإسلام حساسيّة هؤلاء العوامّ، بل يغضّون الطرف عنهم، ولا ينتبهون إليهم كثيرًا، ويسمحون لمشاريعهم أن تتمّ بكلّ هدوء؛ فهذا بعينه موجود في كتبنا:

  • «فَمَا أخْوَفَني أنْ تَكونَ تَبوءَ بِإثْمِكَ غَدًا مَعَ الْخَوَنَة، وَأنْ تُسْألَ عَمّا أخَذْتَ بِإعانَتِكَ عَلَى ظُلْمِ الظَّلَمَة»

  • «إنَّك أخَذْتَ ما لَيسَ لَكَ مِمَّن أعطاكَ، ودَنَوتَ مِمَّن لَم يرَدِّ عَلى أحَدٍ حَقًّا».۱

  • الرواية مفصّلة، وإذا وفّقنا الباري عزّ وجلّ، سنعمل على قراءة تتمّتها في الجلسة اللاحقة إن شاء الله تعالى.

  • نرجو من العليّ القدير ألاّ يجعلنا متحلّين بالصفات التي ذكرها تعالى لهؤلاء في كتابه الكريم، وأن يتولّى بذاته أعمالنا وأفعالنا وتصرّفاتنا في كلّ حال، وأن يصوننا عن الانحراف يمينًا أو يسارًا ـ ولو للحظة من اللحظات ـ عن الصراط المستقيم للأئمّة عليهم السلام، وألاّ يجعلنا من المغبونين بتلك النعم والحجج الإلهيّة في هذه الأيّام المعدودة التي بقيت من أعمارنا؛ وأمّا بالنسبة للأيام الماضية، فإنّه تعالى ـ بصراحة ـ غفّار؛ كما ندعوه تعالى ألاّ يحرمنا في الدنيا من زيارة أهل بيت نبيّه، وفي الآخرة من شفاعتهم.

    1. بحار الأنوار، ج ۷٥، ص ۱٣۱.

صفات الإنسان الباطنيّة ودورها في تحديد سلوكه

17
  • اللَهمَّ صلِّ عَلى مُحمَّد وآل مُحمَّد

  •  

  •