107

الدنيا والتفاخر

2085
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتكاثر والتفاخر

جلسات المجموعة(4 جلسة)

التوضيح

هل يجوز إظهار العبادة للنّاس؟
هل تتنافى الدنيا والحكومة مع الحركة إلى الله؟
لماذا طلب سليمان أوّلاً المغفرة قبل الملك؟ وهل تعارض ملكه العظيم مع حسن مآبه؟
ما حقيقة النظرة إلى الدنيا والحكومة عند أولياء الله؟
بماذا تمتاز حكومة الإسلام عن غيرها من الحكومات؟
لماذا يكون النبيّ سليمان آخر نبيّ يدخل الجنّة؟
ما أهمّ آداب شهر رجب؟
أسئلة يجيب عنها سماحة آية الله العلاّمة السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني قدّس سرّه، ضمن شرحه لفقرة ولا يطلب الدنيا تفاخرًا من حديث عنوان البصري.
/۲۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الدنيا والتفاخر

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • الدنيا والتفاخر

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۰۷

  •  

  • ألقاها:

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

الدنيا والتفاخر

2
  •  

  •  

  • أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم

  • بسم اللـه الرحمن الرحيم

  • الحمد لله ربّ العالمين

  • والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد

  • وعلى آله الطيبين الطاهرين

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • ولا يطلب الدنيا تكاثرًا!

  • قال إمامنا الصادق عليه السلام: ولا يطلب الدنيا تكاثرًا وتفاخرًا. 

  • يقول الإمام إنّ التوفيق الذي يوفّق به العبد هو أنّ لا يطلب الدنيا لأجل التفاخر والمباهاة والتظاهر أمام الآخرين، ولا يسعى وراء الدنيا لأجل التفاخر على الآخرين ولأجل طلب الزيادة. 

  • إنّ موضوع التكاثر وطلب الزيادة موضوع سنتحدّث عنه لاحقًا في الجلسات اللاحقة. 

  • لا للتفاخر بالعبادة

  • وأمّا حول موضوع التفاخر فقد تقدّم للرفقاء في الجلسات السابقة أنّه يعني إبراز النفس واستعراضها أمام الآخرين، فتارة يكون للإنسان علم، وتارة يستعرض علمه أمام الآخرين. وتارة يكون لديه مال، وتارة يستعرضه أمام الآخرين. وتارة يكون لديه جمال، وتارة يستعرضه أمام الآخرين ويظهره. هذه الصورة الثانية يقال لها تفاخر. وتارة يعبد الإنسان وتارة يستعرض عبادته أمام الآخرين ويظهرها، فهذا تفاخر. 

  • لقد خطرت في ذهني الآن هذه الحكاية، ولا بأس بذكرها. فقد قرأت في كتاب أنّ أحد العلماء ـ وهو لا يزال الآن على قيد الحياة ـ كان يقول: أُخِذت إلى إحدى المدن لبناء مسجد، فقد كان من المقرّر أن يبنى مسجد، وطلبوا منّي أن أشارك في وضع الحجر الأساس. وعندما اجتمع الناس هناك من العلماء وأهل العلم والمعروفين وغيرهم، قال ذلك الرجل الذي كان صاحب الأرض: يجب أن يضع الحجر الأساس في هذه الأرض إنسان لم يترك صلاة الليل منذ بلوغه إلى الآن! وبالطبع لم يتقدّم أحد. ولمّا رأى أنّ أحدًا لم يتقدّم، جاء بنفسه ووضع الحجر الأساس. فهل هذا العمل صحيح في نظر الرفقاء؟ لأجل من صلّيت أنت هذه الصلاة؟! لقد كان ذلك الرجل في ذلك الكتاب يمدح ذلك الإنسان أنّه لم يترك صلاة الليل منذ بلوغه إلى ذلك الوقت حيث كان عمره ستّين سنة! هذا العمل لا ينسجم مع المعايير التي لدى الرفقاء والأصدقاء. لقد صلّيتَ لأجل نفسك وبينك وبين الله؛ فلماذا تريد أن تعرضها أمام الآخرين؟! أتريد أن تقول إنّ صلاة الليل لازمة، فلماذا تقول بهذا الشكل؟! أتريد أن تبيّن الاهتمام بصلاة الليل، فيمكن أن تبيّن ذلك بطريق آخر وبأنواع أخرى من الاهتمام. ولكن لا يصحّ بين الناس وبهذه الطريقة. فهذه مظاهر وتجليّات للنفس. فالنفس لا تطلع من نوافذ خاصّة، وهذا أحد مواردها. 

الدنيا والتفاخر

3
  • لقد فكّرت في نفسي مرّة في هذا الأمر، لو أنّ رجلاً جاء وقال: أنا صلّيتها! عدد من الناس يتّفقون مثلاً عشرة رجال أو خمسة عشر رجلاً يقولون: أنت تريد صلاة الليل؟ نحن صلّيناها! فماذا تريد بعد ذلك؟! لخربت الدنيا كلّها على رأس هذا المسكين! لأنّ هذا المسكين يريد أن يطرح نفسه! لو جاء هؤلاء العشرة وقالوا نحن جميعًا صلّيناها، فإن فرح وسرّ وابتسم أن عجيب عجيب! لقد كان هناك عشرة أيضًا قد صلّوا صلاة الليل! لأمكن حينها أن نجد محملاً وتوجيهًا لهذا الأمر، رغم أنّها محامل بعيدة. ولكنّ المهمّ هنا: أنا قلت: لو كنت أنا هناك هل كنت سأذهب وأقول أنا صلّيت؟ ـ أنا لم أصلّ! لا تظنّوا أيّها الرفقاء أنّي صلّيت! كلاّ يا عزيزي ليس الأمر كذلك! ـ فماذا تقولون؟! لجاء وقتها وطرح أمرًا آخر، فقال مثلاً: من لم يترك تعقيباته بعد الصلاة إلى هذا الوقت. ولو قلنا: لقد قمنا بها! لقال أمرًا ثالثًا، فانظروا هذا ظهور وبروز للنفس. النفس تريد أن تظهِر نفسها، غاية الأمر أنّ ذلك في الخفاء تحت الستار ومن خلال وجه ونقاب يرضاه العوامّ، أمّا الأذكياء [فيدركون].

  • العلاقة بين العبد وربّه هي شرف المؤمن وعرضه فلا يبديها

  • لقد كان المرحوم العلاّمة يقول ـ دقّقوا جيّدًا أيّها الرفقاء ـ إنّ العلاقة بين السالك وبين الله لها حكم عِرض الإنسان وشرفه! أفهل يستعرض الإنسان عِرضه أمام مرأى الناس؟! هل يجعل الإنسان عرضه الذي هو سرّه أمام مرأى الناس؟! الإنسان الغيور لا يفعل ذلك. على الإنسان أن يحترم عرضه وشرفه، وأن يخفيه عن الأنظار، لا أن يجعله في الصحيفة والتلفاز ومرأى ومنظر الناس وفي الشارع و... هو لا يفعل هذا! يجب أن لا يطّلع على هذا السرّ أحد. الحالات التي تحصل للإنسان هي حالات خاصّة به، وعليه أن لا يعرّف الآخرين عليها. المنام الذي يراه، الحال التي تحصل له، المطلب المجهول الذي ينكشف له، انكشاف بعض مسائل الغيب والأمور الرفيعة والمعاني التوحيديّة وتجليّات الأسماء والصفات الإلهيّة التي تحصل له، هي بحكم عرض الإنسان وشرفه. وإذا ما بيّنها للآخرين فإنّ غيرة الله لا تسمح وتسلب منه ذلك التوفيق.

الدنيا والتفاخر

4
  • التفاخر قد يحصل في كلّ شيء 

  • ومسألة التفاخر كما ذكرنا في الجلسات السابقة للرفقاء هي مسألة تظهر في أيّ مورد تجد النفس فيه مجالاً للظهور أمام أعين الآخرين وفي أيّ مجال. هل حصل أن ذكر الإنسان عيوبه للآخرين؟! لم يُرَ ذلك أبدًا! افترضوا أنّ إنسانًا ما لديه عيب، فيتحدّث عن المجهولات التي يجهلها، يطرح نفسه في المجتمع بحيث يفهم الجميع أنّه لا يدرك شيئًا، هل فعل أحد ذلك إلى الآن؟! يطرح نفسه أمام الناس بحيث يدركون نقصانه الظاهريّ أو الباطنيّ والداخليّ. من فعل ذلك إلى الآن؟! نعم هناك من يفعل ذلك لأجل بعض الرياضات والضربات والإيذاءات التي يريدون إيرادها على النفس والمجاهدات والمبارزات والمخالفات التي يريدونها، وبالطبع لهذا مخاطر ويجب أن لا يقدم الإنسان على ذلك من نفسه، إلا أن تكون من جانب أستاذ وخبير. ولكن مع غضّ النظر عن ذلك، فهل رأيتم إنسانًا يعلم أنّه لو تحدّث في هذه الجلسة فإنّ الناس سيضحكون، ومع ذلك يتحدّث؟ هل فعل ذلك أحد إلى الآن؟ أو إذا رأى أنّه سيحدث أمر ما! كلاّ ولو رأيت أنّ هناك خطأ قد حدث أسعى بسرعة إلى إخفائه! أسعى بسرعة إلى حذفه! كنت قبل بضعة أيّام في مكان، كان هناك رجل ينقل ويقول: إنّ فلانًا كان في تجمّع كبير، في صلاة وخطبة وكان يتحدّث، وفجأة وبشكل لا إراديّ قال أثناء كلامه كلامًا مضحكًا جدًّا. وعندما جاء إلى المنزل، قال له ابنه: أتدري ماذا قلت اليوم في حديثك؟ لقد قلت كذا... كان هذا المسكين قد نام. قال: أنا قلت ذلك؟ اتّصلْ فورًا بالراديو وقل لهم أن يحذفوا هذه الكلمة! لماذا يفعل ذلك؟ لماذا؟ لأنّ هذا نقص. لا أنّه يلاحظ آثاره، كلاّ! لا يلاحظ. بل يلاحظ أنّ الناس إذا سمعوا هذا الكلام سيضحكون! اتّصل فورًا وقل لهم إنّ هذه الجملة يجب أن تحذف ـ وقد كانت جملة مضحكة جدًّا ـ لماذا؟ لماذا يظهر نفسه هكذا؟ انتهت المسألة! انتهى الأمر! يتحدّث الإنسان لساعة، فيمسك الله بيده، ويلقي على لسانه هذا الكلام. لقد تكلّمت بكلام، حسنًا! الكلام مضحك جدًّا! لم تقله عمدًا! يخطئ الإنسان ألف خطأ. ونحن أيضًا نخطئ ألف خطأ في كلامنا، هذا أمر طبيعيّ، نحن لا نريد أن نقرأ القرآن هنا حتّى يكون هناك اهتمام بكلّ واو منه، وكلّ فاء. فإمّا أن يقول الإنسان "لم يحدث" بدلاً من "حدث"، أو يقول "حدث" بدلاً من "لم يحدث"! فهو إنسان في النهاية. فهل أجلس الآن حيث أتحدّث مع الرفقاء وأتكلّم بطريقة تمنع أن يعترض عليّ وعليكم أحد بعد المجلس. كلا يا عزيزي يجب أن يقال الكلام، ويحصل فيه اشتباه وخطأ أيضًا، يحدث فيه خطأ. إذا حصل خطأ عجيب عجيب! هذا خطأ وقبل أن يسمع الناس لا بدّ من تصحيحه. لقد سمع الناس، يعني أن لا يحصل انتشار أكثر من ذلك. انتهى الأمر! هذا تظاهر! 

الدنيا والتفاخر

5
  • لقد صار المعيار في أيدي الرفقاء في النهاية، لقد وصل إلى أيدينا جميعًا القاعدة والمعيار لمعرفة كيفيّة الأمور ومن أين؟ فهذه المعلومات التي تقال، هذه المعلومات ليست معلومات مخالفة للشرع. إنّها دعوة إلى الصدق، دعوة إلى الهداية، دعوة إلى الاستقامة، دعوة إلى العمل الصالح، دعوة إلى السلوك المناسب، ولكن كلّ ذلك كلام. أما ماذا يجري وراء الستار؟ ماذا يجري ضمن الموضوعات التي تطرح؟ فلا بدّ من التدقيق والبحث. هذا هو التفاخر. 

  • عدم تنافي الدنيا مع الحركة إلى الله

  • وصل بنا الكلام في الجلسلة السابقة إلى هذه النقطة: إنّ البعض يعتقدون أنّ الحركة إلى الله والسير إلى الله وتكميل النفس وتجرّدها والوصول إلى الفعليّات والكمالات لا ينسجم مع الاهتمام بالدنيا، فقد صار هذا الأمر قاعدة، فكلّ من يريد أن يهتمّ بالدنيا، فهو يتعرّض للنقد من وجهة نظر هؤلاء. وهذا محلّ تأمّل ونقاش من حيث هو أحد المبادئ الأخلاقيّة وخصوصًا في مبادئ السلوك. وعلى أساس ذلك حوّلوا هذا الأمر إلى موضوع فقهيّ وهو أنّ إيجاد الحكومة وتعهّدها وتحمّل مسؤوليّة إدارة المجتمع من قبل العالِم والخبير والمبلّغ لسنّة رسول الله والأئمّة عليهم السلام وسيرتهم يتنافى [مع شخصيّتهم]، فهذا أمر كان ولا يزال مطروحًا كمبدأ وقاعدة، فما شأن العالِم بالحكومة؟! ما العلاقة بين الفقيه وتأسيس الدولة؟! إنّ عمل العالم هو التبليغ، عمل الفقيه هو التبليغ، المضيّ إلى المسجد، الصلاة، الوعظ، تأليف الكتب، التدريس. وتأسيس الدولة هو في عهدة آخرين. تشكيل الحكومة ومسؤوليّة إدارة المجتمع هو في عهدة آخرين، على العلماء أن يذهبوا إلى مساجدهم، أن يشتغلوا بالتبليغ، أن يشتغلوا بالإرشاد. هذا الأمر راسخ ونافذ عند كثير من الناس كقاعدة وأساس في قالبه الدينيّ وشكله الدينيّ، وبصورة عامّة هذه الجماعة وهذه الفئة يشعرون أنّ الاهتمام بالدنيا والاهتمام بالعقبى متعارضان ومتقابلان.

  • حقيقة النظرة إلى الدنيا والحكومة

  • ولكن كما يبدو، ومع غضّ النظر عن الأدلّة والقواعد الموجودة في هذا المجال، فإنّ مرجع المسألة هو إلى كيفيّة النظر إلى الأمور الدنيويّة والأمور الحكوميّة. فالحكومات التي رأيناها حتّى الآن ـ في غير شكل الحكومة الإسلاميّة وقالبها، بل في سائر الموارد ـ كانت كلّها على هذا الأساس: على أساس التسلّط والتغلّب، وعلى أساس الظلم والعدوان، وعلى أساس القوّة والتحكّم بالناس من أجل الوصول إلى الأغراض الخاصّة، ولأجل الوصول إلى مصالح فئة خاصّة من الطبقات الاجتماعيّة، هكذا. انظروا الآن في الدنيا، انظروا كيف تتكوّن الحكومات؟ كيف تأتي الأحزاب إلى العمل؟ كيف يأخذ الناس بزمام الأمور؟ واضح! هل هناك أحد يمكنه أن يشير إلى حكومة واحدة من بين حكومات هذه الدنيا تعمل لأجل رضا الله وحماية الناس والمستضعفين، وللدفاع عن الحقّ وإحقاق الحقّ وإماتة الظلم ومحق الباطل؟! كافّة هذه الحكومات في الدنيا باستثناء حكومة الإسلام هي لأجل غير الله. الحكومة التي جعلت الأساس هو النيّة الخالصة وصفاء الباطن هي حكومة الإسلام. 

الدنيا والتفاخر

6
  • منذ أن ارتحل النبيّ إلى عالم العقبى تأسّس أوّل أساس للظلم في أمّة النبيّ نفسها وفي مدينة النبيّ تلك. ألم تروا؟! النبيّ يأمر أن يذهبوا ـ وخصوصًا عمر وأبو بكر ـ مع جيش أسامة. فيذهبون ويرجعون، يختبئون، ويطّلعون من خلال الجواسيس الذين لهم في بيت النبيّ ومن نساء النبيّ على أنّ حال النبيّ قد ساء. يعدّون الثواني ليفارق النبيّ الدنيا! إذا ساء حال النبيّ فأخبرونا. كانوا يقولون: نعم قد ساء حاله قليلاً، ثمّ ساء، لقد أغمي عليه، ثمّ أفاق. وهكذا كانوا يقدّمون لهم التقارير. تماما كما لو كان في أيديهم هاتف نقّال! جلسوا هناك ويخبرون: لقد ساء حال النبيّ، لقد صار حاله هكذا، لقد صار حاله هكذا، من جاء، من تكلّم مع النبيّ، من الذين جاؤوا! 

  • سأل النبيّ هل شارك عمر وأبو بكر في جيش أسامة أم لا؟ فيخبرونهم سريعًا أنّ النبيّ تكلّم بكلام كهذا. ثمّ قال النبيّ هذا الكلام ـ والعجيب أنّ أهل السنّة أنفسهم نقلوا هذا الأمر في كتبهم ـ هذا النبيّ الذي كلامه فصل وقوله حجّة ووحي يقول: لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة۱. عندها يأتون ويقولون للنبيّ إنّ قلبنا لم يرض أن نسمع عن مرضك من غيرك! وما إن ارتحل النبيّ حتّى شكّلوا سقيفة بني ساعدة. هؤلاء الذين يقولون إنّهم كانوا من المعتقدين بالديمقراطيّة وكانت لديهم أفكار ديمقراطيّة... فقد كان هؤلاء هكذا! وهذه الأمور ليست في كتب الشيعة! إنّها في كتب أهل السنّة أنفسهم! 

  • خصائص حكومة الإسلام

  • حكومة الإسلام التي كان رسول الله نفسه بانيها، الحكومة التي لم يكن الإنسان يسعى إليها بل كانت هي تسعى إلى الإنسان، فالحكومة التي يذهب إليها الإنسان ويطلبها لا مكان لها عند رسول الله. حكومة الإسلام هي الحكومة التي ينادي فيها أمير المؤمنين مالكًا أن انطلق إلى مصر! أتظنّون أنّ مالكًا كان يحبّ الذهاب إلى مصر؟! إنّه لا يريد أن يتنازل عن لحظة واحدة من مصاحبة ومرافقة أمير المؤمنين عليه السلام بكلّ وجوده، هكذا كان مالك. يقول: ماذا أصنع بالحكومة؟! أذهب وتشرع المشكلات وهذا يقول تعال، وذاك يقول اذهب وهذا يقول أخذوا مالي ولم يعيدوه، وهذا فعل كذا و... هذا كلّه في جانب، والأمور الأسريّة في جانب آخر! الدعاوى والمرافعات، هذا ضرب هذا على رأسه، هذا عبس، هذا قال كذا، فتعال وأصلح! أفهل أنا مريض حتّى أذهب وأقوم بهذه الأعمال؟! لا يبيع لحظة واحدة من مصاحبة أمير المؤمنين والنظر إلى أمير المؤمنين بالدنيا والآخرة كليهما، ومع ذلك يقول له الإمام: اذهب إلى مصر، ابتعد عنّي، ابتعد عن هذا المكان، ابتعد عن المدنية، ابتعد عن الكوفة! اذهب إلى مصر وأدركهم! تلك هي حكومة الإسلام. هل التفتّم؟! أو تلك الحكومة التي لم يمض على وصول أمير المؤمنين إلى الخلافة فيها سوى يومين حتّى يأتي في منتصف الليل طلحة والزبير، فيقولان: السلام عليكم!

    1. الملل و النحل، ج ۱، ص ٢٩.

الدنيا والتفاخر

7
  • ـ عليكم السلام ورحمة الله! 

  • ـ أعطنا نصيبنا يا عليّ!

  • أيّ حكومة إسلام؟! أيمكن لأمير المؤمنين أن يعطي؟ 

  • ـ يا علي لقد خدمنا إلى هذا الحدّ، لقد ساعدناك بهذا المقدار، ألم تر أنّا لم نبايع عمر وأبا بكر؟! أرأيت أنّا فعلنا كذا؟ أرأيت ماذا كنّا؟ 

  • ـ لقد فعلتم حسنًا! أفهل فعلتموه لي أم لله؟! أنتم رأيتموني أنا، فإن كنتم عملتم لأجلي فقد رأيتم أنّهم كسروا باب منزلي واقتحموا. لقد رأيتم ذلك بأنفسكم، كاد الحسن والحسين أن يوطآ تحت الأقدام! لقد رأيتم ذلك أنتم! فماذا تريدان الآن؟ تريدان حصّتكما.اذهبا إلى عملكما! لم يقل أمير المؤمنين شيئًا، حمل ذلك المصباح الخاص وأطفأه وقال: هذا المصباح لبيت المال! جاء بمصباح آخر وقال هذا مصباح خاص. أنتم لديكم موضوع خاص في النهاية؟ لا يمكن أن نستفيد من مصباح بيت المال الآن، وأن يحترق زيت بيت المال، يحترق نفط بيت المال ـ لم يكن في ذلك الزمان نفط، كان هناك زيت ـ صحيح لا يمكن! 

  • رأوا أنّه يا للعجب! كلّ ما كان في ذهنهم فقد نسي. الأمر يختلف هنا. والآن خرجتم فماذا صنعتم؟ بدأتم باتّهام أمير المؤمنين. أنا لا أنقل تاريخًا التفتوا! لا بدّ من التدقيق في الأمور التي أنقلها للرفقاء. لم يعطكم أمير المؤمنين حكومة، ذهبتم إلى أعمالكم، إلى ضياعكم، إلى تجاراتكم، إلى عملكم. كلاّ! بما أنّه لم يعطكم فلا بدّ من أخذها بالقوّة! لا بدّ من أخذها بالقوّة! كيف نأخذها بالقوّة؟ نأتي ونتّهم عليًّا، لقد قتل عليّ عثمان! انظروا، انظروا إلى السيَر. لا بدّ من الاتّهام لأجل الوصول إلى هذه الحكومة، لا بدّ من الكذب، لا بدّ من النفاق، ولا بدّ من استعمال المكر والحيلة. أمّا الحكومة التي سيحكمها مالك فهل تحتاج إلى الكذب؟ هل تحتاج إلى اتّهام أمير المؤمنين؟! هل تحتاج إلى أن يرسم لأمير المؤمنين خطّة؟! إن لم تولّني حكومة مصر فسأفعل كذا وكذا، سأقول كذا، سأفشي عنك الحادثة كذا، سأفشي عنك ذاك الأمر، فيقول هو: كيلا يقول شيئًا فسأجعله هنا! كيلا يتكلّم فلنجعله هنا! فلأعطه هذه الوظيفة، فلأعطه هذا المنصب، ثمّ بعد ذلك تصبح هذه حكومة الإسلام؟! كلاّ أمير المؤمنين لا يفعل ذلك. أمير المؤمنين يرسل إليه، أفهل كان يقبل مالكٌ لولا عليّ؟! هل يقبل سلمانُ؟! 

الدنيا والتفاخر

8
  • قال عمر لسلمان: أريد أن أجعلك على حكومة المدائن. قال: من أنت حتّى تجعلني عليها؟! اذهب أنت أوّلاً وخذ إجازة! 

  • قال: ممّن؟ 

  • قال: من عليّ هذا. 

  • قال: عجيب أتقول هذا لخليفة المسلمين؟! 

  • قال: نعم! ممّن أخذت إجازة أنت حين تولّيت؟ قال: إذا سمح مولاي فلا شأن لي بك، وإن لم يسمح فأنا في مكاني. قال: اذهب وخذ منه إجازة! فجاء سلمان إلى عليّ. قال: يا عليّ! انظر لقد أصرّ عليّ هذا ولا يتركني! يقول: خذ حكومة المدائن! فقال الإمام: اذهب. اذهب! 

  • اذهب من قبل عليّ ولو ألقيت نفسك في فم الأسد، فإنّ عليًّا من ورائك! اذهب من قبل موسى بن جعفر إلى نظام هارون، وهارون لا شيء فلو كان فرعون، فلا شيء، فإنّ موسى بن جعفر وراء الأمر. اذهب وألق نفسك في البحر، اذهب وألق نفسك في الصحراء، اذهب وألق نفسك في فم الأسد، اذهب حيث شئت! فعندما يقول موسى بن جعفر اذهب فلا تتريّث! وإن لم يقل موسى بن جعفر، فلا تتريّث في عدم الذهاب! لا أن تذهب وبما أنّك ذهبت بأظفارك وأسنانك تأتي بعد ذلك فتقول مؤوّلاً ومبرّرًا إنّ ذهابي فيه مساعدة للضعفاء... الله لم يرد منك المساعدة! اذهب واجلس في بيتك! ألست تريد أن تساعد؟ فاذهب واجلس في بيتك وعملك هو معنا! صحيح؟! فأولاً أنت تثبّت القواعد وتهيّئ الأمر بشكل كامل، وإذا ما تمّ كلّ شيء وأمسكت بزمام الأمور، تقوم بالتوجيه والتبرير أن لولا ذهابي فمن سيذهب؟ لو لم أجلس أنا على هذا المسند فمن سيجلس؟ لم يكن هناك أحد غيرنا، ستبقى هذه المسؤوليّة دون أحد! كلا! لن تبقى! افترض أنّك متَّ فماذا سيحصل؟ هل ستبقى المسؤوليّة هكذا؟ هل ستسقط السماء على الأرض؟! هل ستطير الأرض إلى السماء؟! هل سيحدث خسف؟! هل سيحدث زلزال؟ فما كلّ هذا؟ إنّه هكذا! كلّ ذلك يدور حول محوريّة واحدة وهي عبارة عن الوصول إلى الأهداف غير الرحمانيّة، لو كانت النيّة هي الله، فإنّ الله بنفسه يهيّئ الأسباب والوسائل لأجل صلاحك، يوجد الطريق لأجل حركتك، ويرفع الموانع عنه، شئت أم أبيت. أمّا لو لم يكن الأمر كذلك، بل جئت على هذه الحال وطرحت نفسك، فلأذهب أنا وأؤدّي هذا العمل لأصل إلى موقع ما! لأرفع حملاً، لأقم بهذا العمل لكي أحقّ حقًّا. فما نهاية الأمر؟ هذه هي النهاية. 

الدنيا والتفاخر

9
  • قصّة صدر الأصفهاني وطلبه للثروة لمساعدة الفقراء

  • يحكى أنّه كان هناك رجل معروف في أصفهان يدعى صدرًا الأصفهاني. كان له دور في الحكومة، وكان له نفوذ، وكان رجلاً خيّرًا، فقد كان من أهل الخير والإنفاق والمساعدة. فقد كان يقوم بذلك وتحكى عنه حكايات وأمور. فقد رآه رجل في حال الطواف وقد أمسك بأستار الكعبة طالبًا من الله أن أعطني يا إلهي ثروة لم تؤتها أحدًا من الناس! ـ مثلاً ـ ثمّ بعد أن جاء سأله فقال: من أخذ بأستار الكعبة هل يطلب المال؟! هل يريد من الله الثروة؟ قال: كلاّ، أنت لا تدري! أنا إذ أطلب من الله المال والثروة فلا أطلبهما لأجل الزياة بل لأساعد بهما الفقراء! لأعين المساكين! وقد كان يفعل ذلك أيضًا لا أنّه لا يفعل ذلك، فقد كان يفعل، وتنقل عنه قصص وحكايات في ذلك ـ وقد آتاه الله من المال والجاه والمقام والمكانة وكان يفعل ذلك. 

  • ولكنّ الكلام هو في أنّك تريد أن تطلب هذا العمل من الله وتريد أن تقوم به من أجل الله، فلماذا تريد من الله المال؟! إن كان هناك مال فعليك أن تنفقه على الفقراء. إن لم يكن لديك فلا بأس، لماذا تريد أن تتعب نفسك أكثر؟ مساعدة الفقراء ليست أمرًا مختصًّا بالأثرياء. الثواب المترتّب على مساعدة الفقراء لا يختصّ بأصحاب المال والأغنياء والأثرياء. فإذن ما دام الأمر كذلك فإنّ المستضعف والفقير أو الطبقات المتوسّطة سيكونون محرومين؛ فهل هؤلاء محرومون من هذه النعمة؟! ألا ينالون ثواب الإنفاق؟! ألا ينالون ثواب مساعدة الفقراء والأيتام؟! كلاّ، الجميع ينالون. فإذن بناء على ذلك لم يجعل الله هذا الثواب مختصًّا بجماعة خاصّة وتبقى أيدي غيرهم قاصرة عنه! هذا ظلم! إن وصلك مال فعليك أن تساعد. إن لم يصلك فيكفي أن تكون لديك نيّة الإنفاق. وهذا المسكين يظنّ أنّه لا بدّ أن يكون لديه مال لكي ينال هذا الثواب. والحال أنّ الأمر ليس كذلك. وقد ذكرت لكم هذا حتّى يتهيّأ الرفقاء لمعرفة حقيقة الأمر بالنسبة إلى النبيّ سليمان. 

الدنيا والتفاخر

10
  • فمسألة ارتباط الإنسان وتعلّقه بالله لا بدّ أن تكون مخفيّة، ولا يطّلع أحد على أنّه يقوم بهذا العمل أو لا يقوم. 

  • التفاخر يتنافى مع التوحيد

  • مسألة التفاخر مسألة تتعارض وتتنافى بدقّة ومائة في المائة مع التوحيد ورجوع جميع الأسماء الجزئيّة إلى أسماء كليّة، والأسماء الكليّة إلى الله. فما أنعمه الله علينا هل هو من عندنا أم من عند الله؟! الجمال هل هو من عندنا أم من عند الله؟ نحن إذ ولدنا من أمّهاتنا هل كان ذلك باختيارنا؟ المال الذي نحصل عليه هل هو من عندنا أم من عند الله؟ العلم الذي نحصل عليه، المقام الذي نناله، كلّ هذه الأمور التي هي حسنة وذات قيمة في عرف الناس وبواسطتها يهتمّون بهذا الإنسان، ويلتفتون إليه، كلّ هذه حقائق واقعيّة تنشأ من ارتباطها وتعلّقها بالمبدأ. وأمّا من حيث ارتباطها بذلك الفرد وذلك الشيء الخاص فلا حقيقة لها، وهي مجرّد اعتبار. هل لتعلّق المال بالإنسان حقيقة؟ كلاّ، الليلة موجود وغدًا لا وجود له؛ فأين حقيقته؟! فإذن يعلم أنّه كان اعتبارًا. هل للعلم حقيقة أم لا؟ كلاّ فالإنسان يصاب بألم في رأسه فينسى كلّ ما تعلّمه! فأين هو؟! لقد ذهب! هل للجمال حقيقة أم لا؟ يأتي ميكروب إلى بدن الإنسان فيتحوّل من حالة الطراوة والجمال وتلك الخصوصيّة فجأة إلى وجه أصفر متعب ثمّ إلى حالة يشمئزّ الإنسان من رؤيتها! فإلى أين ذهب؟ إذا مرض وأصيب بمشكلة صحيّة، فينقلب حاله كليًّا ولا يبقى من ذلك الجمال الأخّاذ أثر سوى وجه غير مأنوس وغير مألوف. فإذن لقد كان ذلك مجرّد اعتبار، كان اعتبارًا. 

  • لو كانت له حقيقة فاحتفظ به، لو كان له واقع فاحتفظ به! كلّ ما تصرفه على أن يرجع هذا الوجه إلى حاله الأوّل فإنّه يسوء أكثر فأكثر! 

  • العلم هكذا، المال هكذا، الشخصيّة هكذا؛ فأين هي تلك الشخصيّة، ألم نجرّب؟! ألم نر؟! ألا نذكر نحن تلك الأبّهة والأنانيّة في العهد السابق؟! ذلك الشاه السابق عندما كان يتكلّم فكأنّه أعلى من الله بدرجتين! نحن تفضّلنا بكذا! لقد أمرنا بكذا! أصدرنا أمرًا! فلم يكن في حديثه قلنا وذكرنا! بل أمرنا وتفضّلنا وأمثال ذلك. وقد وصل الأمر إلى حيث أن لا يجد أحدًا يستقبله في بلده! من هذه الحالة إلى تلك! من هذه الحالة إلى تلك! فما هذا؟ هل هذا حقيقة أم لا؟! رأينا هذا بأعيننا! رأيناهم في النهاية! فأين ذهب؟! احتفظ! إن كنت معتمدًا على قوّتك الخاصّة فاحتفظ بها! أليس في ذلك عبرة لنا؟! أليس ما رأيناه بأعيننا عبرة؟! ولكنّ العجيب أنّ هذه النفس رغم كونها ترى جميع ذلك، عندما تجلس على أريكة القوّة تنسى كلّ ذلك! 

الدنيا والتفاخر

11
  • الله يذكر في القرآن: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِريحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها ريحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ}۱ يدعونه من أعماق قلوبهم فمخلصين له الدين يعني من أعماق قلوبهم وبإخلاص. فماذا حصل؟ ألم يكن لديكم اعتماد على السفينة؟! ألم يكن لديكم اعتماد على الربّان؟! لدينا ربّان ماهر! لدينا قبطان قويّ؛ فماذا علينا؟! أفهل يمكن أن تقع هذه السفينة في خطر؟! هل تقع هذه السفينة في خطر؟ البحر لا شيء فإنّها تطوي المحيط بهدوء! يأتي فيغطّي الحقيقة، يترك جانب الواقع ويلتفت إلى جانب الظاهر والاعتبار. ذلك الواقع أن من الذي يحملك الآن في البحر؟ من الذي يجعل لك البحر ملائمًا؟ أيّة قوّة الآن تحيط بأطرافك لكي تكون مطمئنًّا؟ ألا ترى هؤلاء الملائكة الذين يفعلون ذلك الآن؟ ولكن نحن نرى! تلك الملائكة التي تحافظ الآن على البحر هادئًا، اصبر قليلاً الآن نريك! نعم! لقد حفظته هادئًا. هل نسيت؟! ألا ترى؟! حسنًا! فجأة تبدأ الملائكة بالمزاح، تقول: نحن نريد الآن أن نلاطفك قليلاً! كنّا ذات مرّة مسافرين إلى مكان بالطائرة، وكان معنا من جميع أصناف الناس، كانوا يقولون ما يحلو لهم، وما يخطر في بالهم، ومن الواضح ما هي الأمور التي كانوا يطرحونها. ثمّ فجأة بدأت عاصفة، وبنحو إمّا أنّه كان هناك خطر حقيقيّ، لا أدري، وإمّا أنّه على الأقل اعتقد الناس ذلك في النهاية حيث كان يبدو الأمر جادًّا. وهؤلاء الذي كانوا يتحدّثون بما يحلو لهم هم أنفسهم صاروا في أيّة حال، رأيت أنّهم بدأوا بالدعاء! كان يرتفع منهم نداء يا الله بنحو لم أقله أنا في عمري! يا الله لقد أخطأنا! يا الله لقد تبنا! صلّوا على محمّد وآل محمّد! هذا كان يقول: انذر مائة مرّة! وذاك يقول: انذر ثلاثمائة مرّة! وثلاثمائة قليلة فلو قلت ثلاثمائة ألف لقبلوا. والحاصل أنّهم بدأوا، جميعهم صاروا مؤمنين إلى درجة أنّهم أنْسَوا الناسَ سلمانَ! هم أنفسهم، هؤلاء الذين كانوا يقولون كذا وكذا، وكانوا يتبادلون أيّ نوع من الحديث، لقد نسوا كلّ ما كانوا يقولونه، لقد نسوا كلّ الكلام الذي قالوه. كانوا يدعون ويبكون فحسب، نعم كان بعضهم يقول كلامًا آخر! من كلّ نوع وكلّ شيء. طال الأمر مدّة نصف ساعة حتّى هدأت العاصفة، وكنّا نقترب من مشارف مشهد، وبعد ربع ساعة أو عشرة دقائق هدأت العاصفة، وما إن هدأت الأوضاع عادت الأمور إلى ما كانت عليه. لقد نسوا جميعًا الله ونسوا جبرائيل! في ذلك الحين كان عزرائيل أمامهم فقط، فنسوا كلّ شيء. وشيئًا فشيئًا شيئًا فشيئًا عندما اقتربنا من الهبوط عادوا إلى تلك الحالة التي كانوا عليها حينما انطلقنا من طهران! تلك الحالة نفسها! هذا هو الإنسان! 

    1. سورة يونس، الآية ٢٢. 

الدنيا والتفاخر

12
  • تجسّد الآية القرآنيّة بشكل كامل ودقيق أنّ الإنسان يغفل ويقضي عمره في غفلة، يدع جانبًا كلّ العوالم العلويّة وكلّ عوالم الغيب وكلّ ما له صلة. يقول فجأة: آه يؤلمني هذا المكان، يجري فحصًا مخبريًّا، عجيب! لم تكن تعلم، هناك مشكلة! مشكلة سرطان! آه! فجأة ينهار العالم فوق رأسه. تنمحي البسمة عن وجهه، لا قدرة لديه بعد ذلك على الكلام مع أحد، لا قدرة لديه أن يضحك مع أحد، في غرفته كتب أخرى وأمور أخرى، ولكن فجأة يظهر القرآن والصحيفة السجّاديّة ومفاتيح الجنان! أين كانت هذه الكتب؟! ماذا حصل؟ أين الكتب؟ أين الأفلام؟! أين الصور؟ ماذا حصل؟ الآن صار يقرأ مفاتيح الجنان من أولّه إلى آخره كلّ يوم، آه! ما إن جاء وافتقد قدرته حتّى قالوا: نعطيك هذه الإبرة فينتهي الأمر. يشعر بهدوء يطول أسبوعًا، أسبوعًا أو عشرة أيّام يطول، ولو طال أكثر فإلى عشرين يومًا أو شهرٍ. وشيئًا فشيئًا، شيئًا فشيئًا، شيئًا فشيئًا نرى أنّه برد، ابتعدت الكتب وحلّت مكانها أمور أخرى. هكذا هو الإنسان! هكذا هو الأمر! هكذا هي المسألة. لماذا؟ لأنّ الغفلة سيطرت علينا، سيطرت علينا واختفت الحقيقة من أمام أعيننا، لكنّ السالك ذكيّ، يرى الحقيقة، والله يبيّن لنا من خلال هذه المظاهر وهذه الخصوصيّات. 

  • ذلك المقام، تلك الأبّهة، تلك العظمة، تلك الأوامر، تلك الأقوال: نتفضّل، نأمر، تفضّلنا بالأمر. هي اعتبار. فاحتفظ بها! احتفظ بها! لماذا لا تستطيع؟! لأنّك قشّة يابسة في هذه الأمواج، في هذا البحر المتلاطم، ليست لك قدرة على أن تحفظ نفسك في هذا البحر. أتريد مع ذلك أن تحافظ على البحر! أن تجعل المحيط تحت سلطتك! يا له من خيال باطل!

  • ملك النبيّ سليمان عليه السلام لم يكن يتعارض مع الآخرة

  • فيما يرتبط بالنبيّ سليمان كيف كان الأمر؟ الله تعالى يريد أن يقول: إنّ استلام زمام أمور المجتمع وتكشيل حكومة الحقّ لا يتنافى مع حركة الإنسان نحو الكمال ونحو الله. لا تتصوّروا أنّ كلّ من أمسك بزمام الأمر وقبل بمسؤوليّة وأقام حكومة فقد انفصل عن مسير الله، كلاّ، ليس الأمر كذلك. نموذج ذلك هو النبيّ سليمان، فماذا قال النبيّ سليمان لله؟ طلب منه: {قال ربّ اغفر وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي إنّك أنت الوهّاب} ۱ اللهم ارحمني أوّلاً، اشملني برحمتك ومغفرتك أوّلاً، فإذا رحمتني وحفظتني وعصمتني من الأخطاء فـ هب لي ملكًا أعطني حكومة وسلطانًا لا يليق بأحد من بعدي؛ {إنّك أنت الوهّاب}، أنت الوهّاب والمعطاء، أنت من أعطاني هذه الحكومة، لا أنا حصّلتها بيدي. أنت الوهّاب، أنت أعطيت. 

    1. سورة ص، الآية ٣٥. 

الدنيا والتفاخر

13
  • هذا الكلام هو كلام أهل التوحيد. وهذه هي حكومة الإسلام، أوّلاً ربّ اغفر لي، جميع أنبياء الله وجميع الأئمّة المعصومين عليهم السلام وجميع أولياء الله قالوا قبل التعهّد والمسؤوليّة: لا بدّ أن يكون لدينا تزكية للنّفس. فالنبيّ سليمان ماذا يقول؟ أوّلاً اغفر لي. أولاً تزكية النفس. أوّلاً طهّر نفسي. لماذا؟ لأنّ الحكومة تغرّ! الحكومة تحرف الإنسان عن الطريق! القوّة تسبّب الغفلة، القوّة تبعد الحقائق عن أعين الإنسان. من هو الذي تكون الحقائق على الدوام أمام عينيه؟ الإنسان الذي تزكّى أوّلاً. التزكية ليست بأن يقرأ كتاب طهارة الأعراق لابن مسكويه، أو جامع السعادات للنراقي، أو معراج السعادة أو أوصاف الأشراف للخواجة نصير الدين الطوسي، ليست هذه هي التزكية. تزكية النفس حالة تحصل للإنسان بواسطة المراقبة وبواسطة المجاهدة وبواسطة الإطاعة والتسليم الكاملين وبإرشاد الخبير والواصل إلى مقام المعرفة، لا من عند نفسه. هذه هي التزكية. لو جاء إنسان وأراد أن يعمل بهذه الأمور من نفسه فهناك مخاطر تهدّده أكثر مما لو لم تطأ قدمه هذا المسير. فمخاطره أشد!، تصل نفسه إلى قوّة وسيطرة تسبّبان مخاطر عظيمة ومهالك مخوفة، سواء له أو للذين هم تحت مسؤوليّته، ويا ليته لم يفعل ذلك. لماذا؟ لأنّه جاء من نفسه، وبدلاً من أن يختار طريقًا يقطع فيه الأهواء النفسيّة ويسدّ منافذ الظهور والبروز، أمسك بحربة وجاء متسلّحًا. أنتم تظنّون أنّ مسألة النفس هي بهذه السهولة؟! إن سددت الطريق من مكان فإنّها تخرج رأسها من عشرة مواضع أخرى! وإذا أغلقت عليها المنافذ من عشرة مواضع، خرجت من مائة موضع. 

  • قصّة من كان يرى المدينة مظلمة عند خروجه

  • كان المرحوم العلاّمة يقول: إنّ فلانًا ـ أحد الذين كانوا لمدّة من تلاميذ المرحوم القاضي، ولكن لم يستمرّ بعده بمتابعة أولياء الله، ومضى بنفسه في الأمور وقام بالتكاليف التي كان يشعر هو بها، وطوى طريقًا من عند نفسه، وهو عند الناس محترم جدًّا، كم هو رجل عابد! كم هو رجل زاهد! كم يهتمّ به الناس! يدعونه إلى مجالسهم، يشارك في محافلهم! ـ ولكنّه سمع منه بنفسه أنّه ـ وهذه عين تلك القصّة التي ذكرتها بداية للرفقاء عن الذي قال من لم يترك صلاة الليل فليتقدّم ويضع حجر الأساس ـ قال: عندما خرجت من المدينة رأيتها كلّها غارقة في السواد وفي الظلمة. فيا أيّها الأحمق! لمن تقول هذا الكلام؟! لأيّة مدينة تقول إنّها غارقة في السواد؟! فنورانيّة المدينة كانت من أجل نفسك المباركة إذن؟! هذا معناها في النهاية. عندما خرجت من المدينة غرقت في الظلام بكاملها! عيجب! جميع الناس الذين في هذه المدينة كفّار وعبّاد أوثنان وكنت وحدك أنت الموحّد هنا؟! كنت تنشر النور على المدينة! نعم؟! 

الدنيا والتفاخر

14
  • كان المرحوم العلاّمة يقول: هذا المسكين رأى ظلمة نفسه قد ألقت بظلّها على المدينة، لا أنّ المدينة كانت ذات ظلمة. لقد غرقت نفسه في الظلمة والكدورة والأنانيّة وفي الفرعونيّة بحيث كان يرى نفسه في الجميع، ويرى الجميع في نفسه، والفيض والفيوضات التي ترد على المدينة كان يراها من نفسه. يصل الإنسان إلى هذه الدرجة! يصل الإنسان إلى هذه المهالك! أخذ الله بيد الإنسان وأيقظه، أقول ذلك جادًّا أيّها الرفقاء. هذه الأمور والمصائب التي تقع للنّاس فتجعل الإنسان يبتلى هو وعدد كثير بعواقبها، كلّ ذلك ينشأ من هنا. هل التفتّم ماذا أريد أن أقول؟! إنّ كافّة الفيوضات يراها من نفسه. أنا سبب هذا الأمر الآن! أمّا في الظاهر فهو يقول ويخطب: من أنا ماذا أنا؟ أنا كذا! كلاّ فجميع ذلك هو مزاح. كلّ ذلك تفكّه، كلّ ذلك تفنّن. ما شاء الله كم هو رجل متواضع! ما شاء الله انظروا ماذا يقول! ما شاء الله انظروا لا يرى لنفسه حسابًا! يرى نفسه هكذا! لو لم أكن فماذا سيحصل! لو لم أكن لقطع الله فيضه عن هذه المدينة، لرفع نعمته عن هذه المدينة، لصار العالم دمارًا بكلمة كن فيكون! نعم، العالم كلّه قائم بحضرتك! الآن حين يريد أن يغادر هذا المكان يرى أنّ كامل هذه الأشياء التي بناها وأحدثها تناطح السماء في ذهنه، تخرج من المدينة، فستخلو المدينة، ستصبح المدينة خالية من اللطف، صارت المدينة مظلمة ولم يعد فيها نور! صحيح!

  • فلأجل ماذا كلّ ذلك؟ لقد كان لأجل نفسه لا لأجل المدينة، المدينة لا ذنب لها، الناس لا ذنب لهم. فهناك في المدينة بعض الناس من أهل العصيان وبعضهم من أهل العبادة وأهل التزكية وأهل التقى. ولكن عندما أدخل المدينة فإنّها تصبح منوّرة! وعندما أخرج تدخل في الظلام، فهذه الظلمة هي ظلمته هو، هذه الظلمة هي ظلمة نفسه. ولكن من الذي ينبّه هذا المسكين؟! هل يمكن أن ينتبه؟! هل يمكن تنبيهه؟! 

  • قصّة النبيّ يونس عليه السلام

  • وشبيه هذا الأمر ، وطبعًا لا إلى هذا الحدّ نعوذ بالله نعوذ بالله، ذلك الأمر الذي كان لدى النبيّ يونس على نبيّنا وآله وعليه السلام، لا بهذه الصورة، فقد يخطر في ذهنه خطور بأنّ الغضب الإلهيّ مستند إلى لعنته ودعائه لا غير، ولا شيء وراء هذا الأمر. لم يكن النبيّ يونس هكذا والعياذ بالله، لقد كان نبيًّا، لقد كان له مقام النورانيّة، له مقام الروحانيّة، ولكنّ النبيّ يونس كان يرى كفّة واحدة من كفّتي الميزان فقط، كان يرى جانبًا واحدًا من جانبي العملة، لم يكن قد رأى ذلك الجانب من العملة، فرغم أنّ الله وعدك بأنّه يأتي بالعذاب فادع عليهم، ولكنّي أيضًا رحيم، لقد وعدتك كلّ هذه الوعود، فتعال وانظر، فهذا العذاب في طريقه في النهاية، لم نقل هزلاً، انظر إلى السحب المظلمة، هذه كلّها آثار العذاب الآتي. لم نكن هازلين، نحن على كلامنا. ولكن هذا أحد جانبي العملة فقط، وهناك طرف آخر أيضًا. وسعت رحمته كلّ شيء، غلبت رحمته كلّ شيء، لقد غلبت الرحمة الإلهيّة كلّ شيء، لقد أظلّت كلّ شيء. مهما فعلت إذا رجعت واستقمت فلك مكان هنا، فقط هنا! 

الدنيا والتفاخر

15
  • نقرأ في أوّل دعاء كميل: اللهمّ إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء۱ اللهمّ إنّي أطلب منك وأسألك بهذا الوجه وبهذه الجهة وبهذا الاتّجاه للقلب والنفس. لا أدعوك بعدالتك، لو دعوناك بعدالتك فحالنا معلوم! لا أدعوك بجهة القانون والإحقاق، لأنّ وضعنا معلوم ما هو! أنا أدعوك برحمتك! يقول أمير المؤمنين عليه السلام: اللهمّ وآخذني بعفوك ولا تؤاخذني بعدلك.٢ الهي عاملني بفضلك وبرحمتك وعنايتك لا بعدلك! إذا أردت أن تعاملني بالعدالة فلن يبقى منّي شيء؟! وهذا أمير المؤمنين. 

  • فالنبيّ سليمان على نبيّنا وآله وعليه السلام طرح أوّلاً مسألة التزكية، أن يا إلهي زكّني أوّلاً، وإذا ما زكّيتني فآتني ملكًا. هذا الملك يصبح رحمانيًّا. بما أنّك آتيتني هذا الملك فهل أراه من نفسي؟! أبدًا، {إنّك أنت الوهّاب}. لم يكن النبيّ سليمان يمازح الله. {إنّك أنت الوهّاب} أنت الذي أعطيتني. إلهي أنت المعطي وفقط من عندك. فماذا فعل الله؟ لقد صنع مع النبيّ سليمان صنعًا لم يصنعه مع غيره! {فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} ٣ لقد جعلنا الريح تحت أمره. إلى أين تذهب الريح؟ إلى أيّ مكان. إلى ذلك الجانب من الكرة الأرضيّة، فليس للريح حدّ تقف عنده. لا تقف عند حدّ. وليست تلك الريح التي سرعتها مائة كيلومتر أو خمسون كيلومترًا أو مائة وخمسون، لقد كانت الريح المسخّرة للنبيّ سليمان بسرعة الصوت، نعم! كانت سرعتها سرعة الصوت، وسرعة أقوى من سرعة الصوت. لقد كانت أسرع من الصوت. كانت لها سرعة الضوء. وكان النبيّ سليمان على أساس {تجري بأمره} يسرّعها ويبطّئها، كان النبيّ سليمان يقول لها: امضي بسرعة الصوت، فتسير فجأة ثلاثمائة مترًا، أبطئي أريد أن أرى هذا المكان. فكانت تهدأ. كوني بسرعة الضوء، ففجأة تنتقل من هذا الجانب من الكرة الأرضيّة إلى ذاك ـ ويبدو أنّه يقارب أربعين ألف كيلومترًا ـ في أقل من الثانية. اهدئي! اهبطي! اصعدي! تجري بأمره رخاء حيث أصاب. كما يريد، بأيّ نحو يريده سليمان كان يأمر الريح فتمضي. هذا شيء. 

  • ثمّ ماذا صنعنا؟ قمنا بعمل لا يستطيع أحد أن يقوم به: {والشياطين كلّ بنّاء وغوّاص وآخرين مقرّنين في الأصفاد}٤ لقد سخّرنا له الشياطين أيضًا. الشياطين الذين يقومون بأعمال لا يمكن للإنسان أن يقوم بها، ليست في قدرته. لقد كانوا يبنون الأبنية، يغوصون ويأتون له بما يريد. كلّ ذلك جعلناه في اختياره، أولئك الشياطين الذين يريدون أن يفسدوا قيّدناهم بالسلاسل. وهذه المسألة لها قصّتها ولها علمها وحسابها ورموزها والذين لديهم اطّلاع حول ذلك يعلمون الآثار الباقية من ذلك الزمان والخصوصيّات الموجودة في هذا المجال، ولا مكان الآن لهذا الكلام في هذا المجلس، وليس له لزوم شديد، هو إتلاف للوقت. {وآخرين مقرّنين في الأصفاد} لقد قيّدناهم بالسلاسل بأمر النبيّ سليمان، هؤلاء الذين يريدون الإفساد. ثمّ {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب}٥ هذا العطاء الذي آتيناك، أنت طلبته، {قال ربّ اغفر لي وهب لي ملكًا}، حسنًا تفضّل! ما الذي كنت تريده في هذه الحكومة فلم نعطك؟! لقد سخّرنا لك الريح تنقلك إلى القسم الآخر من الكرة الأرضيّة بطرفة عين بأمره، ولم تكن ريح المائة كيلومتر والخمسين كيلومتر. لقد جعلنا الشياطين تحت اختيارك، جعلنا الشياطين تحت أمرك، لتهيّئ لك ما تريد من نعمنا وما يخطر على بالك من النعم. تمضي إلى البحار، تمضي إلى الهواء، تمضي إلى الأرض. لقد رفعنا الموانع عن طريقك فلا يتمكّن أحد من مواجهتك. فالإنس لا يستطيع مواجهتك، والشيطان لا يمكن أن يواجه، فالشياطين قد جعلت في الأغلال وسلبنا منها القدرة والنفوذ، وجعلناك مالكًا للرقاب وصحاب القرار في الجميع.

    1. مصباح المتهجّد، الطبعة الحجريّة، أعمال ليلة النصف من شعبان، ص ٥۸۷، الإقبال الطبعة الحجريّة ص ۷۰٦.
    2. ورد أصل الرواية بلفظ احملني في نهج البلاغة ج٢، ص ٢٢۱: اللهمّ احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك. وورد في بحار الأنوار ج٩۱، ص ٩۸: إلهي إن أخذتني بجرمي أخذتك بعفوك ، وإن أخذتني بذنوبي أخذتك بمغفرتك.
    3. سورة ص، الآية ٣٦.
    4. سورة ص الآيتان ٣۷ و٣۸. 
    5. سورة ص، الآية ٣٩. 

الدنيا والتفاخر

16
  • الآن إن شئت فأعط لمن تريد، إن شئت أنت تعطي هذه الحكومة لهذا المكان، وحكم هذا الرجل لهذا المكان، أن تجعل هذا واليًا على ذاك المكان، هذا حاكمًا هناك، بغير حساب، كيفما تريد. فامنن أو أمسك هذا الأمر إليك. ثمّ لا تظنّوا أنّا حيث أعطيناه الملك فقد انتهى أمر آخرته، {وإنّ له عندنا لزلفى وحسن مآب}۱ فلسليمان عندنا منزلة رفيعة وعاقبته عاقبة خير! فحسن مآب تعني حسن العاقبة، عاقبته عاقبة حسنة. 

  • هذا العمل من النبيّ سليمان لأيّ شيء كان؟ لأنّه كان يريد أن يُفهم أنّ التوجّه إلى الله لا يتنافى مع طلب الدنيا، ولكن لا لأيّ إنسان! بيت القصيد هنا. النظر إلى الله تعالى فقط من زاوية الأحديّة ومن زاوية الهوهويّة شرك. الله تعالى إله في مقام الهوهويّة وعدم التجلّي والانغمار في الذات والأحديّة، وهو كذلك في مقام الأحديّة والتجلّي والبروز وظهور الأسماء والصفات الإلهيّة في عالم الإمكان، في كلّ مرتبة من المراتب الوجوديّة والمراتب التوحيديّة. هذا هو الله. والذين يقولون إنّ السير إلى الله يتنافى مع طلب الدنيا، ينظرون إلى الله فقط من ناحية الأحديّة ـ وطبعًا هم لا يدرون ما الأحديّة! ـ يرون الله منفصلاً عن التجليّات وبروز وظهور الأسماء، وليس هذا هو الله. الله تعالى هو الله من دون تجلّ ومع تجلّ. هو إله في مقام إبراز الأسماء والصفات في العوالم وفي مقام الهوهويّة وبدون الأسماء والصفات. هذه العوالم التي خلقت جميعًا من العوالم المجرّدة وعوالم الملكوت والمثال وعالم المادّة والشهادة، كلّها لها معيّة مع ذات الله، لها اتّحاد وعينيّة. 

  • السير نحو الدنيا لا يتنافى مع السير إلى الله. الله بدون طلب الدنيا إله عاجز ويداه مغلولتان. السير إلى الله مع ترك أمور الدنيا التي هي ضمن التكليف ـ لا زائدة عليها ـ وضمن الوظيفة هو عبارة عن إثبات العجز لله. فالله ليس بالبعيد عن الدنيا، والله ليس بالبعيد عن الأمور الدنيويّة، الله ليس بعيدًا عن الكسب والعمل، الله ليس بعيدًا عن الارتباطات والعلاقات والتحرّكات. 

  • العرفان والمسؤوليّة الاجتماعيّة

    1. سورة ص، الآية ٤۰. 

الدنيا والتفاخر

17
  • أولئك الذين يقولون إنّ العرفان عبارة عن الانعزال والانزواء والابتعاد عن التعهّد والمسؤوليّة عن الأمور الاجتماعيّة هم في خطأ فاحش. العرفان يعني معرفة الله بجميع الأبعاد الوجوديّة والآثار الوجوديّة لله، لا من ناحية واحدة. هذا هو العرفان. وليس ذاك بالعرفان، إنّه تخيّلات. ولكن أيّة معرفة وأيّ تفكير؟ الحقيقة الموجودة في العرفان هي التوجّه إلى الله فقط، وهذا التوجّه إلى الله هو في جميع الأبعاد وجميع المظاهر، وبأيّ شكل تجلّى. فهذا التوجّه إلى الله له مكانه الخاص، والآن يريد أن يظهر ويتجلّى في هذا المجال فإنّه يظهر. اذهب إلى غار حراء، يمضي إلى غار حراء. كن بين الناس، يأتي بين الناس. هاجر إلى المدينة، اذهب إلى مكّة، يذهب إلى مكّة، عيّن وصيًّا، يعيّن وصيًّا. لا تعيّن وصيًّا، لا يعيّن. اذهب إلى هذا المكان، يذهب إلى هذا المكان، لا تذهب إلى ذاك، لا يذهب. لماذا؟ لأنّ له توجّهًا إليه، وكلّ أثر يأتي من عنده فليأت، ويجب أن ينظر إليه بامتنان ويكون مقبولاً. اليوم يقول هكذا، غدًا يقول أمرًا آخر. اليوم يقول افعل هذا العمل، غدًا يقول: لا تفعل ذاك العمل. 

  • كان المرحوم العلاّمة يقول لبعض: صلاة الليل واجبة عليك، ويقول لبعض آخر: لا تصلّ صلاة الليل! كان يقول بصراحة: لا تصلّ صلاة الليل. كان يقول لواحد: قم بهذا العمل أنت، ويقول لآخر: عليك أن لا تفعل ذلك!

  • ـ عجيب! سيّدنا أنت من قال: افعلوا. 

  • ـ أفهل قلت لك أنت؟! 

  • إن كنت مقتنعًا بالعلاّمة فلماذا هناك "إن قلتَ قلتُ" واعتراض و"ليت ولعلّ"؟ إن كنت تريد أن تقول كلامًا من عندك فلماذا جئت إلى هنا؟! هذه هي الحكومة الإلهيّة. 

  • مقام العرفان ومقام معرفة الله هو عبارة عن انحصار جميع الآثار والتجليّات والظهورات من أدنى مرتبة إلى أعلى مرتبة في الله، هذا هو مقام العرفان. هذا هو مقام التوحيد، وهذا هو مقام السلوك. فمعنى مقام التوحيد والسلوك هو هذا. أينما تجد هذه الحقيقة فإنّه يقبلها من حيث الاعتماد على المبدأ، لا من نقطة الظهور والبروز هنا. إذا حصل على مال لا يقول يا له من مال حصلت عليه! يقول: هو الذي أرسله. قبل أن ينظر إلى هذا ينظر إليه هو. إذا وصل إلى نعمة، فقبل أن يراها، فإنّ السهم متّجه إلى هناك ويشير إليه. إذا وصل إلى موهبة، فأوّلاً من هناك، إذا وصل إلى علم، فأوّلاً يرى ذاك الجانب، ثمّ لا يتجلّى هذا بعد ذلك أمام ناظريه. انتهى! فماذا هنا بعد ذلك؟! إذا جعل الإنسان أوّلاً ذلك الجانب موضع اهتمامه وركّز على ذلك الموضع فلا يبقى هنا شيء بعد ذلك، لا شيء، صفر! 

الدنيا والتفاخر

18
  • كلّ ما أوتيه، أوتي حكومة، أوتي إمارة على مدينة، والإمارة ليست بشيء! لو أعطي الولاية على بلد، فهي صفر! لو أعطي ولاية على بلدين فهي صفر! لو أعطي ولاية على قارّة، صفر! ولاية على نصف الكرة الأرضيّة، صفر! صفر! صفر! يردّ الشمس! صفر! ألم يردّها أمير المؤمنين؟! ألم يردّها سليمان؟! أليس لدينا آية قرآنيّة : {ردّوها عليّ...}۱ ردّوا عليّ الشمس. نحن نظنّ أنّ هذا لأمير المؤمنين، كلاّ يا عزيزي! فأمير المؤمنين يخجل من أن يردّ الشمس. نحن نظنّ الأمر مهمًّا! النبيّ سليمان، نبيّ الله، دعاؤه مستجاب، يريد فيردّ الشمس. كادت صلاة العصر أن تفوت، فردّ الشمس وصلّى، حينما كان يستعرض جيشه. كان يردّ الشمس. وهذا لا شيء بالنسبة إلى النبيّ سليمان، فآصف بن برخيا أيضًا كان يردّها. هذا ليس بالأمر ذي البال!

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام: إنّ لله ثلاثًا وسبعين اسمًا ـ ثلاثًا وسبعين تجليًّا، ثلاثًا وسبعين إرادة وقدرة على التصرّف والنفوذ ـ كان آصف بن برخيا يعلم واحدًا منها. هل تدركون ما أريد قوله؟ لقد كان آصف بن برخيا يعلم واحدًا منها، فجاء بعرش بلقيس بطرفة عين. أعمض عيني وأفتحها هذه هي طرفة العين ـ وطبعًا لها معنى آخر وهذا معناها الظاهر ـ بطرفة عين رأى النبيّ سليمان عرش بلقيص أمامه. ذلك العرش الذي يعمل الجنّ والشياطين من الصبح إلى العصر حتّى يأتوا به. ولو أردنا نحن البشر أن نأتي به فليس من المعلوم كم سنة يستغرق! فأغمض عينه ثمّ فتحها. وآصف بن برخيا نفسه كان بإمكانه أن يردّ الشمس. آصف بن برخيا هذا كان يستطيع أن يشقّ القمر نصفين، آصف بن برخيا هذا كان بإمكانه أن يحرّك المجرّات من هذا الجانب إلى ذاك، آصف بن برخيا كان باستطاعته أن يؤثّر في عالم الملك والملكوت وكافّة إمكانات النبيّ سليمان كانت تحت إرادته، فقد كان وزير النبيّ سليمان، فآصف بن برخيا هذا كان يعلم اسمًا واحدًا من هذه التجليّات الإلهيّة. يقول الإمام الصادق نحن نعلم اثنين وسبعين!٢ فانظروا ما حقيقة الأمر؟! هل أدركتم الآن؟ هذا المقام مقام الإمامة! اثنان وسبعون اسم عندنا، وعند آصف اسم واحد. 

    1. سورة ص، الآية ٣٣. 
    2. الكافي ج۱، ص ٢٣۰: 
      سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إن عيسى ابن مريم عليه السلام أعطي حرفين كان يعمل بهما وأعطي موسى أربعة أحرف ، وأعطي إبراهيم ثمانية أحرف ، وأعطي نوح خمسة عشر حرفا ، وأعطي آدم خمسه وعشرين حرفا ، وإن الله تعالى جمع ذلك كله لمحمد صلى الله عليه وآله وإن اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا ، أعطى محمدا صلى الله عليه وآله اثنين وسبعين حرفا وحجب عنه حرف واحد . 
      - الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد ، عن أحمد بن محمد بن عبد الله ، عن علي بن محمد النوفلي ، عن أبي الحسن صاحب العسكر عليه السلام قال : سمعته يقول : اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا ، كان عند آصف حرف فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان ، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفه عين ، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا ، وحرف عند الله مستأثر به في علم الغيب .
      عن أبي جعفر عليه السلام قال : إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفا ، وحرف واحد عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

الدنيا والتفاخر

19
  • فالآن هذا الإمام يأمر عليّ بن يقطين أن يدخل في نظام هارون! هذا الإمام، هذا هو الإمام، هكذا. هل أمرُ الإمام أمر بسيط؟! هل الأمر هكذا؟! تقول لهذا ادخل وتقول لذاك لا تدخل! أنت لماذا دخلت؟! أنت لماذا أجّرت جمالك لهارون؟ لماذا أجّرتها؟ قال: يا ابن رسول الله أنا لم أصنع شيئًا! فقط أجّرت، الجمل يذهب ويرجع، وآخذ أجرته! أنا لم أدخل في النظام! يقول الإمام موسى بن جعفر لصفوان الجمّال: لماذا أجّرت جمالك لهارون؟ لهذا الرجل الظالم والغاصب للخلافة والجائر والقاهر على دماء المسلمين ونفوسهم وأعراضهم، لماذا أجّرته؟ قال: لقد أجّرتها ولم أصنع شيئًا في النهاية! يقول الإمام: ألا تحبّ أن يعطيك أجرتك أم لا؟ نعم فأنا لم أعطه بالمجّان. يقول الإمام: ألا يجب أن يبقى حيًّا ليعطيك أجرتك؟ قال: بلى يجب أن يبقى حيًّا ـ فانظروا كم الأمر دقيق! قال الإمام: أنت تدعو الله أن يبقى هارون الظالم والغاصب للخلافة حيًّا ليرجع من مكّة ويعطيك أجرتك، أليس كذلك؟ فانظروا كيف يأتي الإمام ويظهر نقاط الضعف ويوضّحها بشكل كامل. يقول: انظر! أنت تريد أن يبقى هارون حيًّا ويبقى متّكئًا على مسند الخلافة حتّى يرجع ويعطيك مالك، أليس كذلك؟!۱ عجيب! أيّ خطأ كنت أرتكب إلى الآن. 

  • يقول موسى بن جعفر عليه السلام لصفوان الجمّال هكذا، ومن جهة أخرى يقول لعليّ بن يقطين اذهب إلى حكومة هارون٢! فإذن الأمران كلاهما أمر واحد. عدم الإيجار هو من ناحية الإمام، ودخول عليّ بن يقطين في الحكومة كلاهما لا يختلفان، فهذا إن لم يدخل في حكومة هارون فقد خالف الإمام، وهذا إذا خالف وأجّر الجمال فقد خالف الإمام، هذا هو التوحيد. التوحيد يعني رؤية الله وجعل غيره جانبًا، في أيّ مرتبة أراد الله أن يتجلّى، اليوم يقول: افعل هذا، فهو الذي قال، واليوم يقول لا تفعل هذا، فهو الذي قال أيضًا! "لماذا؟" ممنوع! لا وجود لـ "لماذا؟" هنا! ليس لدينا "لماذا؟" 

  • لقد أفهمنا النبيّ سليمان بطلبه هذا أنّ الحكومة التي حصلتُ عليها هي حكومة إلهيّة، لا أنّي أريد أن آخذ حكومة الركوب على رؤوس الناس بالقوّة والخداع والمكر والحيلة، كلاّ بل الحكومة التي قلت في البداية ربّ اغفر لي! أوّلاً بالاعتماد عليك. إذا حصلت التزكية، حسنًا، فهب تلك الحكومة! لماذا؟ فهل كان النبيّ سليمان يريد الحكومة؟ كلاّ فالنبيّ سليمان لم يكن يريد الحكومة! لماذا لا يريد الحكومة؟ 

    1. قال صفوان بن مهران الجمال: دخلت على أبي الحسن الأول ( عليه السلام ) ، فقال لي : يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ، ما خلا شيئًا واحدا ، قلت : جعلت فداك أي شيء ؟ قال : إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون - قلت : والله ما أكريته أشرًا ولا بطرًا ولا للصيد ولا للهو ولكنّي أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكّة - ولا أتولاّه ولكن أبعث معه غلماني ، فقال لي : يا صفوان أيقع كراك عليهم ، قلت : نعم ، جعلت فداك ، فقال لي : أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟ قلت : نعم ، قال : فمن أحب بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النار ، فقال صفوان : فذهبت وبعت جمالي عن آخرها ، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني ، وقال : يا صفوان بلغني أنك بعت جمالك ؟ قلت : نعم ، فقال : لم ؟ قلت : أنا شيخ كبير ، وإنّ الغلمان لا يفون بالأعمال ، فقال : هيهات ، إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا ، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر ، قلت : مالي ولموسى بن جعفر ، فقال : دع هذا عنك ، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك. "
    2. بحار الأنوار، ج۷٢، ص ٣٥۰: لما قدم أبو إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام العراق ، قال علي بن يقطين : أما ترى حالي وما أنا فيه ؟ فقال : يا علي إن لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي " .

الدنيا والتفاخر

20
  • مرّ النبيّ سليمان برفقة جنوده يومًا قرب دير راهب، كان جنود الجنّ يسيرون عن يمينه، وجنود الإنس عن شماله، والطيور جاءت بأعداد فوق رأس النبيّ سليمان وجنوده بحيث إنّهم كانوا يمشون في ظلّها، ولم تكن الشمس تصل إليهم. فمن الذي يعمل هذه الأعمال الآن؟! وفجأة لمّا جاء العابد من بعيد قال: عجيب! يا له من ملك وحشمة! يا له من نظام، يا لها من قدرة! أنعم وأكرم! لقد حصلتَ على ملك! أين أنت؟! نلت ملكًا عظيمًا! انظر إلى الطيور! أصلاً لم تسمح للشمس أن تصل إليك ولو من منفذ صغير! فانظر إلى الإنس، وانظر إلى الجنّ! فقال النبيّ سليمان: لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير ممّا أعطي ابن داوود. هذا هو النبيّ سليمان! فهل يريد الملك؟! هل ما يقوله بنفسه كذب؟! هل يكذب النبيّ سليمان نعوذ بالله؟ وإنّ ملك سليمان يفنى والتسبيحة تبقى۱ يفنى ملك سليمان، متى يفنى؟ عندما يأتي عزرائيل ويقول: السلام عليك يا نبيّ الله، انتهى الأمر. 

  • ـ عجيب! انتهى؟! 

  • ـ نعم، لقد انتهى! ولم يعد هناك لا ريح وسرعة الضوء وسرعة الصوت ولا أعلى ولا أدنى ولا جنّ ولا إنس ولا طيور ولا آصف كلّ ذلك مضى إلى سبيله وها أنا قد جئت وانتهى الأمر. الآن يجب أن تفكّر في ذاك العالم، في هذا العالم انتهى أمرك، لقد آتيناك الريح، آتيناك الجنّ، آتيناك الإنس، آتيناك الطيور، آتيناك آصف بن برخيا بهذه المواصفات التي تجعله يردّ الشمس، يقلب القمر والكواكب كلّها رأسًا على عقب، يزيح المجرّات جميعًا يمينًا وشمالاً، آتيناك كلّ ذلك. ولكنّي أنّا العبد عزرائيل أعلى من كلّ هؤلاء! نعم! إن شئت فاحتفظ بها! إن شئت فاحتفظ! رأى أنّه لا يمكن، ولا مفرّ. قال: حسنًا أنا مسلّم! يا علي! مسلّمون! تفضّل! ـ فهؤلاء إذ كانوا يفعلون هذه الأعمال فبإمداد المولى عليّ! لا تتصوّروا [أنّهم كانوا مستغنين عنه]! فكلّ هذه الأعمال كانت بعون الولاية. لدينا في الرواية أنّ جميع الأنبياء اعترفوا أوّلاً بولاية أمير المؤمنين عليه السلام حتّى آتاهم الله هذا المقام. فأولاً اعترفوا بولاية أمير المؤمنين! ـ عليك أن تفكّر بذلك الوقت! 

    1. بحار الأنوار، ج۱٤، ص ۸٣، باب ٥. وفيه: إن ما أعطي ابن داود يذهب وإن التسبيحة تبقى.

الدنيا والتفاخر

21
  • ـ هل أنت جاهز؟

  • ـ نعم جاهز للانطلاق ومسلّم. 

  • لماذا يدخل النبيّ سليمان آخر نبيّ إلى الجنّة؟

  • النقطة التي كنت أريد أن أطرحها في آخر البحث رغم أنّ الأمر بالنسبة إلى النبيّ سليمان قد بقي، ولكنّي أشعر أنّ الكلام سيطول، فتلك النقطة هي: هناك رواية عن الإمام الصادق عليه السلام ـ وأريد أن ألفت نظر الرفقاء إلى هذه النقطة ـ يقول الإمام عليه السلام: يوم القيامة يمضي جميع الأنبياء إلى الجنّة، وآخر من يدخل هو النبيّ سليمان، فلماذا هذا الأمر مع أنّه كان يرى هذا الأمر من الله؟ وذلك لما أعطى الله له من الملك في الدنيا.۱ بسبب تلك الحكومة التي آتاه الله في الدنيا، لذلك جعله الله بعد سائر الأنبياء. فأوّلاً هم يدخلون، وأمّا أنت فقد أخذت نصيبًا وافرًا في الدنيا، آتيناك ملكًا عظيمًا! 

  • لماذا يحدث ذلك مع النبيّ سليمان؟ عندما يقول: هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي يقول الإمام عليه السلام: لأنّ النبيّ سليمان يقول: هب لي ملكًا وسلطانًا لا يليق بأحد من بعدي. يقول الإمام عليه السلام: لا تظنّوا أنّ النبيّ سليمان يبخل! النبيّ سليمان يريد أن يقول إنّ الحكومات التي ستأتي من بعدي هي حكومات ظلم وحكومات جور وحكومات تسلّط وتغلّب! فمن يستطيع أن يقول مثلي أوّلاً: ربّ اغفر لي ويزكّي نفسه أوّلاً، ثمّ يقول: لا ينبغي! لا ينبغي! 

  • نحن ننال مسؤوليّة فلا ندري كيف نستيقظ غدًا عند الصباح! ولو آتانا الله حكومة بحيث تكون الشياطين من هذا الجانب والجنّ من ذاك والطيور من هنا، هكذا تكون الأوضاع، والريح مسخّر لنا. فما هذا الكلام؟! ما هذه الأمور؟! نحن لا يمكننا أن ندير فردين اثنين، أفنقوم ليعطينا الله حكومة ربع الكرة الأرضيّة أو نصفها؟! لا ينبغي لأحد من بعدي، لماذا؟ لأنّ هذه الحكومة هي من عندك. في حين أنّ عامّة الناس يأخذون الحكومة بالقهر والغلبة والكذب والتهمة، هؤلاء ليسوا أنبياء! هذا هو المعنى. 

  • ولكنّ النقطة التي هنا حول رواية الإمام الصادق والتي تأتي بعد كلّ ذلك هي أنّك أيّها النبيّ سليمان صحيح أنّ هذه الحكومة حكومة من ناحية الله ـ وطبعًا لولا هذه الرواية لما قلنا هذا الكلام! لأنّ هناك كلام الإمام الصادق فنحن نستنتج ذلك، ولولاه لما علمنا حقيقة الأمر، لما كان لدينا اطّلاع. ولكن لأنّ الإمام الصادق يقول فنحن نضع أيدينا على هذه النقطة ـ صحيح أنّ هذه الحكومة حكومة عدل، وأنت طلبت من الله الحكومة لإقامة العدل، لكي تبيد الظلم، لكي يرفرف علم لا إله إلا الله بواسطتك في أنحاء الكرة الأرضيّة، فهذا كلّه له مكانه الخاصّ وهو صحيح وهو كذلك وحتمًا كان الأمر كذلك، وقد فعل النبيّ سليمان ذلك. أزال الشرك، جرّ الجيوش إلى البلدان، أزال جميع الحكومات، وجعل جميع الناس مسلمين وموحّدين، ونشر راية التوحيد في جميع الأماكن، وكان غرضه وغايته فقط وفقط إعلاء كلمة التوحيد. هذا صحيح، ولكنّ الكلام هنا هو أنّه هل أنت طلبت من الله أم هو طلب منك؟ هذه النقطة مطروحة هنا! 

    1. بحار الأنوار، ج٦٩ ص ٥٣: عن عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : إن آخر الأنبياء دخولا إلى الجنة سليمان عليه السلام ، وذلك لما أعطي من الدنيا. 
      الدرّ المنثور، ج٥، ص ٣۱٥: وزعموا أن سليمان عليه السلام يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين سنة لما أعطى من الملك في الدنيا

الدنيا والتفاخر

22
  • لقد طلب النبيّ سليمان من الله أن يؤتيه الملك. ربّما ربّما ـ هكذا يبدو أن نوجّه الأمر هنا بهذا النحو ـ ربّما لو لم يطلب النبيّ سليمان هذا الطلب من الله لأبقاه الله على حاله ومكانته! فبالنسبة إلى الله ما المشكلة؟! ما الإشكال؟! إن شاء أعطى الحكومة... تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء...۱ إن شئنا آتينا. هل قال الله للنبيّ سليمان خذ هذه الحكومة كما نادى أمير المؤمنين مالكًا الأشتر وقال له: اذهب إلى مصر، أو كما نادى سلمانَ وقال له اذهب إلى المدائن؟ أم أنّ النبيّ سليمان هو طلب بنفسه؟! وإن كان النبيّ سليمان قد وصل إلى مقام النبوّة ومقام الرسالة وإن كان ادّعاؤه حقًّا ولم يكن في نفسه أيّ بعد نفسيّ أو كدورة واعتبار وخلط ومزج. النبيّ سليمان معصوم، له مقام العصمة. ولكنّه هو طلب أم الله أعطاه؟ هذه هي حقيقة الأمر! لأجل هذا عليك أن تتنظر في النهاية، إذا دخل الأنبياء يأتي دورك! وليست المسألة مسألة ظلم ولا مسألة جرم. 

  • الكلام دقيق جدًّا أيّها الرفقاء! المسألة دقيقة جدًّا. النبيّ سليمان يريد أن يقيم العدل ويعلي كلمة التوحيد ويجعل نفسه مظهرًا لهذا الظهور الإلهيّ ليقول للدنيا: من أراد أن يكون مظهرًا فهكذا. ولكن ممّن كان الطلب؟! ولن نوسّع الموضوع أكثر من ذلك. 

  • بعض أعمال شهر رجب

  • شهر رجب قريب، والرفقاء مطّلعون بشكل كامل على أهميّة هذا الشهر، وكما يعلمون فإنّ لشهر رجب فضيلة خاصّة عن كامل الأشهر الأخرى، عن الأحد عشر شهرًا، وكان الأعاظم دائمًا وكذلك المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه كما أذكر يتحدّث قبل دخول شهر رجب إلى مريديه وتلامذته، ويؤكّد على شهر رجب ويهتمّ بهذا الشهر اهتمامًا خاصًّا مقارنةً إلى سائر الشهور. حتّى أذكر أنّه قال في بعض المجالس إنّ أعاظم الطريق وأولياء الله كانوا يزيدون مراقبتهم قبله بأشهر ويزيدون مجاهدتهم، ويزيدون توجّههم، كانوا يتكلّمون أقلّ، كانوا يخوضون أقلّ في الأمور العديمة الفائدة، طبعًا هم لم تكن لديهم أمور عديمة الفائدة، ولكن في النهاية الأمور التي لم تكن لها ضرورة ماسّة كانوا قليلاً ما يتحدّثون بها لكي يكون التفاتتهم إلى النفس أكثر، وتركيزهم أكثر، وأن يكونوا أبعد عن التشتّت والافتراق وأقرب إلى التركيز وتجميع القوى والاجتماع. كانوا مشغولين بأنفسهم أكثر من تفكيرهم بالأمور الأخرى. 

    1. سورة آل عمران، الآية ٢٦.

الدنيا والتفاخر

23
  • الدخول إلى الأشهر الحرم التي هي موضع عناية الله ولطفه الخاصّين له آداب وشروط. فأنتم عندما تريدون الذهاب للقاء واحد ما لا تذهبون بهذا اللباس الذي في المنزل. تلبسون لباسًا تغتسلون تتعطّرون، تهيّئون أنفسكم، ماذا تتكلّمون كيف تتكلّمون. وشهر رجب عند أولياء الله هو هكذا أيضًا. 

  • لذا كانوا يقولون: أفضل عمل للسالك هو أن يتوب قبل هذا الشهر غسل التوبة وغسل الاستخارة وبعد الركعتين يسجد ويقول مائة مرّة أستخير الله برحمته. يعني إلهي أنا أريد أن أهيِّئ نفسي للدخول في هذا الشهر، أريد أن أجمع قواي، أريد أن أصحّح وضعي وأريد أن أصفّي حسابي معك كعبد من العبيد. 

  • كنت في مكان فسألني الرفقاء: سيّدنا! ما هو أفضل الأعمال في شهر رجب؟ قلت: أفصل الأعمال هو أن يخرج الإنسان نفسه من نفسه، يخرج من الأنانيّة، ويكون عبدًا ويسلّم إرادته لله، ويجعل اختياره مسلّمًا لاختيار الله. عند كلّ عمل يريد أن يقوم به، قبل أن يقوم به ينظر أوّلاً هو ماذا يريد، ثم يقوم به. كلّ فكرة تأتيه ينظر أوّلاً ما هو رضاه ثمّ يفكّر فيها. كلّ خطوة يريد أن يخطوها أولاً ينظر إلى جهة الاتّصال والارتباط ثمّ يقدم. هذا مقام العبوديّة الذي إذا وفّق الله له العبد أمكنه أن يفوز بحظ أوفر ونصيب أكبر. 

  • الصيام في شهر رجب مستحبّ جدًّا، الذين يستطيعون الصيام في كلّ يوم فليصوموا. إن كانت أمزجتهم واستعداداتهم وقواهم مساعدة فبها! وإلاّ فليصوموا يومًا ويومًا، وإلا فيومين ويومين، وإلاّ ففي الأسبوع يومًا. وعلى كلّ حال كلّ إنسان يصوم بمقدار سعته وبمقدار قدرته. ولدينا في الروايات، والأعاظم وأولياء الله والأئمّة عليهم السلام ورسول الله خصوصًا كانوا يصومون هذه الأشهر الثلاثة كلّها من شهر رجب إلى شهر رمضان ويصلونها بالصيام. وإذا لم يستطع أحد أن يصوم فمن المستحبّ أن يقول بدلاً منه مائة مرّة كلّ يوم هذا الذكر: سبحان الإله الجليل سبحان من لا ينبغي التسبيه إلا له، سبحان الأعزّ الأكرم سبحان من لبس العزّ وهو له أهل.۱ يقول هذا فيعطيه الله ثواب الصوم.

    1. مفاتيح الجنان، ص ۱٣٢. المراقبات، ص ۸۷. 

الدنيا والتفاخر

24
  • فلا يغفل الرفقاء عن رعاية آداب وخصوصيّات شهر رجب، فإنّ هذه المأدبة الإلهيّة التي جعلها الله تعالى لعباده في هذا الشهر لا وجود لها في سائر الشهور، بل له حكمه الخاصّ به. التأثيرات التي تحصل بواسطة الفيوضات الإلهيّة التي تأتي في هذا الشهر تختلف عن فيوضات الأشهر الأخرى. وكأنّ هناك بعدًا توحيديًّا أقوى في هذا الشهر، وتجليّات أقوى تجعل لهذا الشهر تأثيرًا كبيرًا في قطع التعلّقات. زيدوا المراقبة، قلّلوا الكلام، اطرحوا الأمور بمقدار الضرورة. احترزوا عن الاهتمام بالأمور الزائدة التي ليس فيها كثير نفع لحالنا، كالأخبار وماذا حصل في هذا المكان وماذا حصل في ذاك، في الأعلى ماذا حصل، اللقاءات الأمور والظواهر والآداب والزيارات العديمة الفائدة، والعلاقات الفارغة والتي ليس لها إلا إتلاف الوقت وتشويش الأذهان واضطراب الخاطر. فما دام الأمر ليس في أيدينا ولا يمكن أن نصنع شيئًا ولا يمكن أن نؤثّر، فلنلتفت إلى أنفسنا على الأقلّ! حقًّا! ولو نظرنا ماذا هناك وماذا هناك فماذا يمكننا أن نفعل؟! سوى أن يقع ذهننا بسبب هذه الأمور بالتشويش والاضطراب، وورود التجليّات الإلهيّة يحتاج إلى قلب هادئ وضمير مطمئنّ. عندما يريد أحد أن يأتي ويتكلّم معكم، إذا كان فكره في مكان آخر، يفكّر في الديون والدعاوى والمرافعات التي قام بها تقولون: بم تفكّر يا رجل؟! أنا [ليس لديّ وقت...] ألا نقول: بم تفكّر؟! أتسمع أم لا؟! 

  • يقول: أعتذر سامحني! 

  • نقول: هل نحن بلا عمل؟! نحن نتكلّم وفكرك في مكان آخر. فأوّلاً اذهب وصفّ فكرك وأخرج نفسك من الاضطراب لتلتفت ماذا أقول! ألا تقولون ذلك؟! إن كان الموضوع علميًّا دقيقًا يستحقّ الفهم... فهل يمكنك أن تحلّ مسألة رياضيّة بفكر مشوّش؟! لا يمكن! والفيوضات الإلهيّة أيضًا شرطها هو القلب الهادئ والنفس الصافية. القلب المضطرب لا يأتيه الفيض الإلهيّ ولا يأتيه ولا يأتيه! يأتي ويمضي ويذهب إلى إنسان آخر. فالفيض لا يدخل القلب الذي يدور في الأفكار غير الصحيحة وغير الواقعيّة، بل يأتي ويتابع طريقه ولا يتوقّف، لا يوجد متلقٍّ، هناك مرسل ولكن ليس هناك متلقّ! لا يتلقّى! فلا بدّ من إعداد الظروف، ورفع الموانع، حتّى يتمكّن الإنسان من أخذ مزيد من الفيوضات.

الدنيا والتفاخر

25
  • نسأل الله أن يجعل هذا الشهر شهرًا مباركًا علينا، ويجعلنا مستعدّين لإدراك الفيوضات تحت ولاية وعناية وألطاف صاحب مقام الولاية الكبرى الإمام بقيّة الله في الأرضين أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، فإنّ كلّ ما يصل فإنّما يصل من خلال نفسه، بدون أيّ تردّد. هيّأ الله لنا المعدّات، ورفع من طريقنا الموانع!

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.