109

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

2727
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالعزّة والعلو

جلسات المجموعة(6 جلسة)

التوضيح

ما معنى العزّة والعلوّ؟ وهل المطلوب أن لا يكون الإنسان عزيزًا رفيعًا؟ وما معنى كون العزّة لله؟ وما الفرق بين رؤية المؤمن ورؤية المنافق لمفردة العزّة؟
من خلال تفسير عدد من الآيات والأحاديث الشريفة وسير الأئمّة وأولياء الله وعبر من التاريخ يجيب سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني عن هذه الأسئلة ضمن شرحه لفقرة ولا يطلب الدنيا عزًّا وعلوًّا من حديث عنوان البصريّ.
/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۰٩

  •  

  • ألقاها: 

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

2
  •  

  •  

  • أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم

  • بسم اللـه الرحمن الرحيم

  • الحمد لله ربّ العالمين

  • والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد

  • وعلى آله الطيبين الطاهرين

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • ولا يطلب ما عند الناس عزًّا وعلوًّا

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري: ولا يطلب الدنيا تكاثرًا ولا تفاخرًا ولا يطلب ما عند الناس عزًّا وعلوًّا. 

  • لا يطلب الدنيا لأجل التفاخر وحبًّا بالزيادة بحيث يطلب دائمًا الزيادة ويزيد من مدّخراته، بل يسعى إلى الدنيا بمقدار الضرورة وصلاح نفسه.

  • كان هذا مفاد كلام الإمام الصادق عليه السلام الذي ذكرناه في الجلسات السابقة للرفقاء، فهكذا هو لا يطلب الدنيا لأجل التفاخر والمباهاة على الآخرين واستعراض مكانته أمامهم. وقد تقدّم في الجلسات السابقة أنّ المقصود من الدنيا ليس المال، بل المال جزء من الدنيا، فالدنيا تطلق على ما يبعِد الإنسان عن المبدأ، وتجعل بين الإنسان وربّه حجابًا، سواء كان علمًا، أو مراكز اجتماعيّة، أو أعمالاً ممّا يشغل فكره وذهنه عن التوجّه إلى الله، ويوجّهه نحو آثار الله، كلّ ذلك هو دنيا، ويبعده بواسطة التوغّل فيها عن النعمة الإلهيّة والتقرّب إلى الله والتوجّه والالتفات إليه والقرب منه. 

  • ثمّ يقول الإمام: ولا يطلب ما عند الناس عزًّا وعلوًّا. يستفيد ممّا هو في أيدي الناس من النعم الإلهيّة، والتي يكون الناس إمّا غافلين عن كونها نعمة، مثل جمهور الناس الذين لديهم نعم إلهيّة ويصرفونها في الباطل، يستفيدون من المراكز للابتعاد عن الله لا للتقرّب منه، فيخدعون أنفسهم، يستفيدون من الأموال في المصارف المحرّمة، يستفيدون من العمل لعمارة دنياهم، فهؤلاء أهل الغفلة. أو أنّهم لا يفعلون ذلك، بل يستفيدون من الموقع والمقام والشؤون التي لديهم في الطريق الصحيح، فمثلاً: لو كانت الحكومة بيد أمير المؤمنين عليه السلام فمن الواضح أنّ الإمام يتصدّى لتلك الحكومة في طريق إحقاق الحقّ، ومحو الظلم والقرب من الله، ولا تسبّب هذه الحكومة له بعدًا عن الله.

  • ففي الحالتين يقول الإمام إنّ هؤلاء عندما ينظرون إلى هذه الأمور لا ينظرون نظرة حسرة، لا يتأوّهون: ليت لنا مثل هذا المقام، ليت لنا مثل هذا الموقع، ليتني كنت رئيسًا أنا أيضًا، ليتني كنت متموّلاً، ليتني كنت صاحب هذا العمل أيضًا، ليتني كنت أملك مقام الأمر والنهي، فهم لا ينظرون إلى ما آتى الله الناس بهذه النظرة. 

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

3
  • العزّة والعلوّ لله

  • الإمام هنا يلاحظ أمرين: أحدهما العزّة والثاني العلوّ والترفّع. فالعزّة والعلوّ والترفّع صفتان من صفات الله المختصّة به. العزّة يعني امتلاك الحريم الخاصّ، فالإنسان الذي يجعل لنفسه من حوله حريمًا، ويمنع الآخرين من الورود إليه يقال له عزيز: {وهو العزيز الحكيم}۱ فذلك الحريم هو من خلال الأمور التي تميّزه عن الآخرين. فمثلاً الإنسان صاحب الأخلاق الحسنة، يأنس مع الجميع، لا يبعِد عنه أحدًا، لا يطرد الآخرين عنه بكلمات خشنة وقاسية، لا يؤذي قلوب الآخرين، يتعامل مع الجميع بوجه بشوش، ويؤدّي لكلّ إنسان حقّه، فهذا الإنسان يغدو محبوبًا بين الناس. وكونه محبوبًا يؤدّي إلى عزّته، وأن يصبح له حريم خاصّ يميّزه عن الآخرين، فهذا ما يسمّى عزّة، يقال فلان عزيز، أي محترم بين الناس، ينظر إليه الناس باحترام. 

  • وتارة يكون لدى إنسان ما علم وهو يعطي علمه للآخرين، وبواسطة هذا العلم يوجد حول نفسه حريمًا هو عبارة عن الاحترام الذي يقدّمه الناس له بواسطة علمه. وتارة يحصل إنسان على ذلك بواسطة تقواه، وتارة بواسطة موقعيّته. فتلك الصفات التي يسبّب وجودها للإنسان امتيازًا عن سائر الناس، يمكن أن تسمّى نتيجتها عزّة، العزّة تعني الموقعيّة الخاصّة التي بواسطتها يحترَم الإنسان ويحمَد ويثنَى عليه، وينظُر إليه الناس باحترام. 

  • وفي موضوع العلوّ الأمر هو كذلك أيضًا، فالعلوّ يعني الرفعة، فيمكن للإنسان أن تكون له مرتبة أعلى بين أقرانه، من حيث القيم والصفات والمواقع، وذلك بواسطة الأعمال التي يقوم بها. فالعلوّ مرتبة، والاستعلاء الذي هو طلب العلوّ وعدّ النفس عالية هو أمر آخر. كون الإنسان عاليًا أمر ليس خاضعًا لاختياره، فكلّ إنسان لديه صفة مستحسنة هو بالطبع أعلى مرتبة بالنسبة لفاقدها، والإنسان المتّصف بصفة مستحسنة، له علم وفير، له كرم عظيم، كثير الجود والعطاء، متواضع وخلوق، هو بالطبع أعلى مرتبة من فاقدي هذه المرتبة. ولكنّ المقصود من كلام الإمام الصادق عليه السلام هو عدّ النفس رفيعة. 

  • يقول الإمام: هؤلاء الذين يريدون أن يسيروا في طريق الله ويبحثوا عن تهذيب النفس ويخرجوا أنفسهم عن جدل الأمور الاجتماعيّة وما ابتلي به عموم الناس، ولا تنظر أعينهم إلى ما في أيدي الناس، ولا ينظروا إليهم بحسرة وتأوّه، ولو كانوا كذلك فمعناه أنّهم يريدون تلك العزّة لأنفسهم أيضًا، وهذا معناه البحث عن العزّة واستجلاب العلوّ الذي لدى الآخرين، وهذا هو الاستعلاء، أنظر فأجد أنّ صديقي له هذه المكانة، فأتحسّر أن لماذا لا أملكها أنا؟ فأسعى إلى تحصيلها، وفي كلماتي وعباراتي أستعمل ضمير المتكلّم بطريقة أخبر بها عن هذا الأمر، ولذلك فإنّي أستعين بأيّ عمل لأحصّل لنفسي ذلك العلوّ وتلك الرفعة التي يمتلكها لسبب من الأسباب صديقي أو شريكي أو زميلي أو من تربطني به علاقة، فبماذا أنقُص عنه؟ وبماذا يزيد عليّ؟ لماذا يكون هو كذلك ولا أكون؟ لماذا ليست لديّ تلك المكانة؟

    1. سورة إبراهيم، الآية ٤. 

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

4
  • يقول الله: العزّة والعلوّ مختصّان بي، ولا أقبل في حريم العزّة هذا أيّ إنسان، ولا أقبل أحدًا في حريمي هذا، وحدي العزيز، وغيري ذليل، أنا الأعلى وغيري الأدنى، أنا الرفيع وغيري الأسفل. ولدينا في آيات القرآن الكثير ممّا يدلّ على انحصار العزّة: {وهو العزيز الحكيم۱ وهو العزيز العليم}٢ ففي هذا الحريم، في حريم التقدّس والكبرياء، وفي حريم القيمة والعزّة، لا وجود لأحد سوى ذات الله، حتّى رسولي لا طريق له، لا طريق لأحد. ألا يقول أمير المؤمنين في مناجاته في مسجد الكوفة: إلهي أنت العزيز وأنا الذليل وهل يرحم الذليل إلا العزيز٣، وحتمًا قرأها الرفقاء في ليالي القدر، ففي زمان المرحوم العلاّمة كان يوصي هو أيضًا بقراءتها، ومن المفضّل أن يقرأها الإنسان في سائر الأيّام وليالي الجمعة، فأمير المؤمنين لا يقول هزلاً، لا مع الله ولا مع أحد غيره، يقول: إلهي أنت العزيز ولا يمكن لأحد أن يرد إلى حريم عزّتك، وأنا ذليل وحقير، وأنا صفر أمامك وعدم، ومن الذي يترحّم على موجود كهذا سوى ذاتك المقدّسة. أمير المؤمنين يقول هذا، فلا بدّ إذن أن ننظر نحن في أمرنا وعملنا، ولننظر كم نحن بعيدون واقعًا، وفي أيّ أفكار نحن؟!

  • الله تعالى يجعل العزّة خاصّة به، أنا العزيز وقد جعلت حريم العزّة فقط حولي، لا مؤثّر في عالم الوجود غيري، الوجود بجميع مراتبه يتنزّل ويترشّح من عندي. إن كان هناك علم في العالم فهو من عندي لا من غيري، إن كانت هناك قيمة فهي من عندي، إن كان هناك جود وعطاء في العالم فهو من عندي، هذا من عندي، هذا من عندي، فلو كان هناك حاتم الطائي فلولا إرادة الله لأصبح أبخل الناس على الأرض، أنتم تنظرون فتقولون: كم كان حاتم الطائي كريمًا معطاءً! العلم في العالم من عندي، نحن ننظر فنرى فلانًا كم هو عالم! كم درس! ولو أمسكنا عنه لحظة واحدة فإنّه لا يختلف عن ابن ستّة أشهر شيئًا، واقعًا لا يختلف وكأنّ شيئًا لم يكن كأنّ شيئًا لم يكن. 

    1. سورة إبراهيم، الآية ٤. 
    2. سورة النمل، الآية ۷۸. 
    3. المزار، محمد بن المشهدي، ص ۱۷٤: مولاي يا مولاي...

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

5
  • نسيان الوحيد البهبهاني علومه في نهاية عمره

  • أذكر أنّ المرحوم العلاّمة ذكر هذه القضيّة مرّة أو مرّتين فقال: كم لدينا من الأعاظم أصيبوا في نهاية أعمارهم بالنسيان، الوحيد البهباني مؤسّس علم الأصول، أستاذ السيّد مهدي بحر العلوم، أصيب في أواخر عمره بالنسيان، وقد قال في يوم من الأيّام بصراحة ـ على الأقلّ كان لديه هذا الإنصاف أنّه إن لم يكن يتذكّر أمرًا كان يقول، ونحن حتّى هذا الإنصاف لا نمتلكه ـ اعتلى المنبر وقال: لقد أصبت بالهرم والنسيان، وأنا شاكّ في الفتاوى التي أفتي بها، وعلى جميع مقلديّ من اليوم أن يرجعوا إلى السيّد مهدي بحر العلوم، قالها بصراحة، قال: لقد أبرأت ذمّتي من جميع مقلديّ، والباقي عليهم. جزاه الله خيرًا.

  • نسيان الميرزا حبيب الله الرشتي علومه 

  • كان هناك أحد كبار النجف من تلامذة الشيخ الأنصاري يدعى الميرزا حبيب الله الرشتي، وينقل عنه أنّه كان يقول: عندما توفّي الشيخ كان لديه ثلاث خصال: التقوى والرئاسة والعلم، وقد أورث رئاسته إلى الميرزا حسن الشيرازي، والذي وصل إلى المرجعيّة والرئاسة، وأورثني أنا علمه، وأخذ التقوى معه. ينقل عنه ـ ولا أدري هكذا سمعت ـ أنّه كان يدرّس علم الأصول بحث المقدّمة العلميّة فبقي أربعة أشهر يبحث أن ما هو الصحيح المقدِّمة أم المقدَّمة؟! أشغل الطلاب أربعة أشهر في أنّ الصحيح هو المقدِّمة كاسم فاعل، أم المقدَّمة كاسم مفعول، كان هكذا. وأنا بنفسي راجعت له رسالة حول اجتماع الضدّين في مكان واحد، فأدركت أنّ ما يقال حوله صحيح؛ فعندما كان يدخل بحثًا كان ينتهي فجأة إلى بحث آخر، فمثلاً لو أراد أن يذهب إلى العراق تجده قد انتهى إلى الهند، فقد كان هكذا، كان لديه جولان فكريّ عجيب، وواقعًا كان أستاذًا، أستاذًا عجيبًا والجميع معترفون بعلميّته ووضعه هذا. وبعد أن جاء الميرزا رحمه الله إلى سامرّاء، صارت النجف خالصة تحت تصرّفه، حيث جمع كافّة الناس والفضلاء حوله وكان كثير من الأعاظم من تلامذته في الفقه والأصول. 

  • وقد وصل أمره في آخر عمره بواسطة النسيان إلى حيث لم يستطع أن يلقي درسًا، فعندما كان يأتي ليلقي درسًا حول أمر ما، فجأة كان يتحدّث بكلام فارغ لا ربط له ويتكلّم في أمر آخر! كان بعضهم يحافظون على احترامه ويلفتون نظره بهدوء إلى أنّ الأفضل أن يعطّل الدرس، وأن يجعله في البيت، واحترامًا له كانوا يأتون إلى منزله حتّى تبقى مكانته محفوظة، ولا تنكسر تلك العادة فجأة، ولا تؤدّي إلى صدمة نفسيّة. تجاوز الأمر هذا أيضًا، فعندما كان يأتي إلى الحرم من بيته، كان ينسى زقاقه حين عودته فلا يدري من أين جاء! وهذه الأمور التي أنقلها عبرة لنا. 

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

6
  • وقد سمعت بنفسي من المرحوم العلاّمة أنّه كانت هناك دعوة في مسجد الكوفة لعدد من العلماء ـ ربّما كان إفطارًا أو غداء، مهما كان ـ وكان الحاج الميرزا حبيب الله الرشتي رحمه الله أيضًا في الحضور. فعندما ذهب، كان هناك لبن حلو جدًّا، قالوا: إنّ هذا اللبن حلو جدًّا. فوضع إصبعًا فيه ثمّ لعق إصبعًا آخر وقال: نعم حلو جدًّا! فهذا ما نقله العلاّمة بنفسه. هذا ليس مزاحًا، فالإنسان يصل إلى هذه الحالة، قارنوا الآن بين هذا الرجل مع ما قبل عشر سنوات عندما كان إذا دخل في بحث لا يدرى إلى أين سينتهي، لقد وصل إلى حيث يضع إصبعًا في اللبن ولعق غيره! إلى هذه الحالة يصل الإنسان. وهذا الأمر ينقله عنه الجميع فيقولون إنّه كان يحمل في يده فحمة عندما يخرج ويضع علامة على رأس الزقاق لكي يلتفت حين عودته ولا يذهب إلى زقاق آخر. وعندما رجوعه كان يقول: هذه العلامة أنا وضعتها أم غيري؟! فقد كان ينسى حتّى عمله هذا أنّي أنا من وضع هذه العلامة، فقد كان يشكّ أنّي من حمل هذه الفحمة أم أنّ أحدًا وضعها في جيبي! 

  • ما هذا؟ هنا يقول الله العزّة لي، فما معنى العزّة؟ يا فلان يا من كان له هذا الموقع وهذه المكانة والوضع أين ذهب كلّ ذلك؟ أين ذهبت تلك العلوم؟ الآن أنت في وضع يتفوّق عليك طفل ابن سنة واحدة، الطفل ابن السنة الواحدة يدرك، الطفل ابن السنة الواحدة يمضي إلى غرفته، الطفل ابن السنة الواحدة يذهب ويأكل طعامه، والآن أنت لا تملك من المشاعر ما يملكه طفل ابن عام، ولا بدّ أن يمسكوا بيدك إذا خرجت من المنزل كيلا تضيع، ولا تذهبَ إلى مكان آخر. هنا يقول: وهو العزيز الحكيم العزّة لي. فأين ذهب هؤلاء الألف وخمسمائة تلميذ الذين يقال إنّ خمسمائة منهم كانوا مجتهدين؟ هؤلاء الذين كانوا يجلسون في درسك ويتعجّبون من جولاتك الفكريّة أين هم؟ الآن يجب أن يأخذ واحد بيدك إذا ذهبت إلى الحرم حتّى لا تخطئ ولا ترجع. 

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

7
  • ليتنا نحن أيضًا كنّا قد وصلنا في هذه الدنيا إلى ذلك الأمر، عندما كانت لنا تلك المكانة نلتفت إلى هذه الحالة، ولكن العجيب أنّ الدنيا تأتي وتسيطر الغفلة على الإنسان. حينها ينظر الإنسان إلى العدد، ينظر الإنسان إلى الموقع، ينظر الإنسان إلى هذه العلوم، يقول: أيمكن أن تسلب منّا هذه العلوم يومًا ما؟! أيمكن أن لا تكون لنا هذه العلوم يومًا ما؟ أيمكن أن نخسرها يومًا بعد أن حزناها؟ أيمكن؟ والله أيضًا يعلم جيّدًا كيف يستدرج بهدوء بهدوء، شيئًا فشيئًا شيئًا فشيئًا تتلف خلايا الدماغ، ولا يعود بإمكانه أن يجذب الموادّ إليه، يفقتد قابليّته فتصبح على النصف، ثمّ الثلث، ثمّ الربع، نعم! تتناقص بشكل دائم، إلى أن تصل إلى حيث لا يمكن أن يأمر وينهى مركز الأعصاب، انتهى الأمر، انتهى في النهاية. 

  • لذلك يقول الله تعالى: العزّة مختصّة بي، والعلوّ أيضًا مختصّ بي، {هو العليّ الكبير}۱ هو العليّ، هو صاحب المرتبة الرفيعة، هو صاحب المرتبة العالية، هو العلي. لماذا هو العليّ؟ لأنّ حقيقة العالم متّصلة به، والجميع خاضع أمام هذه الحقيقة وخاشع وذليل. نحن لدينا حكم، نحن لدينا حكومة، الآن يمكننا أن نقوم بهذا العمل، الآن يمكن أن يكون لنا نفوذ في هذه الدائرة، الآن يمكننا أن نقوم بهذا العمل الخاطئ، الآن يمكننا بنفوذنا أن نجعل الباطل حقًّا! لا بأس اجعلوه. ولكنّ هو العليّ، فسيجلسك على تراب المذلّة بحيث لو جاءت الأفلاك السبعة لما أمكنها أن تنجيك! لقد كان قبلنا الكثيرون وابتلوا بهذه البلايا، وأخذهم هذا العناد والاستكبار. 

  • زوال عزّة الشاه وفرعون

  • حقًّا إنّ تاريخ الماضين لعبرة للإنسان، ففي هذه الحكومة السابقة حكومة الشاه كم كان هناك من الضجيج والغرور، كم كان هناك من الأمر والنهي! أذكر أنّه عندما كان يتكلّم كنّا نستمع: نحن تفضّلنا بكذا! أمرنا! وحقًّا عندما كان يقول أمرنا كان يأمر! يعني واقعًا كان يأمر! فماذا حصل؟ لقد اختلط الأمر عليه، أخطأ. "أمَرنا" هي لله لا لنا، أمرنا هي لله، الأمر هو لعالم الأمر، الأمر لعالم الأمر. 

  • وفرعون فعل ذلك أيضًا: {فحشر فنادى فقال أنا ربّكم الأعلى}.٢ جمع الناس كلّهم فقال: {ربّكم الأعلى}. لم يقل أنا ربّكم بل ارتفع درجة فقال {ربّكم الأعلى}، فلم يكن لديه إنصاف ليقول على الأقلّ: أنا ربّكم في الوساطة، كلاّ، أصلاً لا وجود لله! أنا ربّكم الأعلى. بقي هكذا، أرسلنا إليه وأمهلناه، ولم نقل له شيئًا؛ حتّى يخدع أكثر، فما دمت تتحدّث أمامنا عن الأنانيّة والاستكبار فإنّا نضيف إلى مريديك بضعة آخرين! فنحن أيضًا نعرف هذه الطرق {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} ٣ فنحن نضيف إلى مريديك بشكل دائم! عجيب لقد نجح عملنا انظر! كانوا عشرة فصاروا عشرين، صاروا مائة! انظر كم يتّبعنا! آمر فيذهبون، ثمّ آمر فيأتون، ألم يكونوا كذلك؟! ألم يكونوا كذلك؟! انظر كم لديّ من الأتباع! 

    1. سورة الحجّ، الآية ٦٢. 
    2. سورة النازعات، الآيتان: ٢٣ و٢٤
    3. سورة آل عمران، الآية ٥٤. 

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

8
  • كانوا يأتون إلى فرعون فيسجدون. ألم يكونوا يسجدون ويقبّلون رجل الشاه؟! هؤلاء الذين كانوا يذهبون إلى القصر، كانوا يهوون ويقبّلون حذاءه ويفتخرون، وهو واقف هكذا على حاله مؤدّبًا ومحترمًا ومعزّزًا وعظيمًا وعليًّا، كان ينظر إلى مقام الاستعالاء وأنّ الناس يأتون ويقبّلون رجله. ماذا كان يشعر؟! حسنًا أيّها المسكين التعيس ألم تفكّر في غدك؟ ألم تفكّر فيما بعد يومين؟ اتّخذت هذه العزّة لنفسك، وقد عفا الله وصبر وصبر، لقد جاء فلان واتّبعني، تلك القوّة تحميني، ذلك وعدني، ذاك ماذا قال لي، ولكن فجأة عندما تتعلّق المشيئة الإلهيّة بالقضاء عليّ والفناء فهذا يمضي جانبًا، وذاك يمضي جانبًا، وذاك يمضي جانبًا، وذاك يرسل برسالة أن امض من هنا. فعندما كنت أطالع أحواله في التاريخ فإنّ ممثّل أميركا الذي كان قد جاءه كان كلّ أمله في أن يلتقي به وأن يأخذ منه وعدًا بالمساعدة، فكان أوّل كلام لذلك السفير أو ذلك الرجل الذي جاء في النهاية هكذا: ما هو تاريخ خروجك؟ متى تريد أن تخرج من هذا البلد؟ فعندما جاء هذا الرجل الذي كان يؤيّده ويساعده وكذا وقال ذلك حينها فهم للتوّ ـ كما في اعترافاته وهي أمور مفيدة ـ فهم كيف هي الدنيا، وحينها فهم أنّه خسر عمره، حينها فهم. علينا أن لا تأخذنا الغفلة، فقد كان هؤلاء أثخن رقبة منّا، وكانوا كذا وكذا وذهبوا! هؤلاء الذين كانوا بإشارة واحدة ماذا يفعلون ماذا حصل بهم؟ ماذا حلّ بهم؟ الله يمهل ويمهل ويمهل، ويجمع الناس حول الإنسان، ويزداد التردّد حوله والسلام والصلوات، يزداد الأمر والنهي، يحصل كلّ ذلك فيشتبه الأمر على الإنسان أنّ الحقّ هو هذا. وفجأة تأتي بارقة الجلال والغضب الإلهيّ ويجتثّ أعقابه من الأساس، من الأساس! 

  • نصاب بمرض فنجمع الدنيا لمعالجته! نصاب بميكروب فيقال: أين هو؟ انتهى انتهى. نصاب بفيروس فلا نستطيع مواجهته، الدبّابة لا يمكنها أن تواجهه، الطائرة لا يمكنها أن تواجهه، حينها يدرك الإنسان أن يا للعجب، لقد خسر عمره. فلمن العلوّ؟! العلوّ لفرد واحد، لم يحصره الله عبثًا، اثنان في اثنين أربعة، فها نحن نرى، فالله لا يقول عبثًا: إنّ العزّة لي، لا يقول عبثًا: إنّ العلوّ لي، هل هو لكم؟ تفضّلوا وأرونا، وهو أيضًا يأتي ويجمع {فقال أنا ربّكم الأعلى} وفجأة يأتي، يأتي قوم موسى ويعبرون النيل وعندما وصل فرعون عاد النيل كما كان. وحتمًا لم يكن هؤلاء يحسنون السباحة، ولو كانوا يحسنون فقد كانت هناك عاصفة في النهاية، وفي العاصفة لا تنفع السباحة! ثمّ يقول الله {فأغرقناهم أجمعين}۱، وألقينا جنازة هذا خارجًا ليعتبر بها جميع الناس ـ وينقل أنّ فرعون الموجود في المتحف والمحفوظ الآن هو عينه الذي أُلقِيَتْ جنازته خارجًا يقول الله: {ننجّيك ببدنك...}٢ لقد أنجينا بدنك، ألقيناه خارجًا ليكون عبرة للنّاس ويرى الجميع ماذا جرى لك، فلمن العزّة إذن؟ العزّة لله. 

    1. سورة الأنبياء، مقطع من الآية ۷۷، وسورة الزخرف، مقطع من الآية ٥٥. 
    2. سورة يونس، الآية ٩٢. 

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

9
  • يقول الله تعالى: هذه العزّة لي، ثمّ لمن؟ للمنتسبين إليّ، أنا أعطي وآخذ، أعزّ من أشاء وأذلّ من أشاء: {قل اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء۱ قل} تعني قولوا جميعًا لا فقط رسول الله، {قل اللهمّ} خطاب لكلّ واحد منّا، نحن علينا أن نقول، أنتم عليكم أن تقولوا وأنتم وأنتم. {قل اللهمّ} قل إنّ الله مالك الملك، زمام الأمور بيده، يعطي الملك والسلطان لمن يشاء ويأخذهما ممّن يشاء، يعزّ من يشاء. كيف يعزّه؟ يعطيه علمًا، فهو الذي أعطى العلم. في النهاية العزّة تحتاج إلى شيء ما، فلا يصبح الإنسان عزيزًا هكذا. فالعزّة إمّا بواسطة العلم، أو بواسطة الإمكانيّات، أو بواسطة الرئاسة، أو بواسطة الجمال، أو بواسطة الأخلاق، ففي النهاية لا بدّ أن يكون هناك شيء معيّن يميّز هذا الفرد عن غيره، يقول الله إنّ ذلك المنشأ والأساس هو من عندي، أنا أعزّ، أنا أعطي السلطة، وأنا آخذها. فقد وصل أمير المؤمنين إلى السلطة، كما وصل إليها معاوية أيضًا، وذاك كان ملتفتًا وهذا لم يكن ملتفتًا، ذاك كان يرى الحكومة من الله، وهذا كان يراها من نفسه. فهل رأيتم كم من فارق بينهما! كلّ منهما صار حاكمًا، أمير المؤمنين ومعاوية، كلاهما حكما. هو يعلم أن الله مالك الملك، معاوية يعلم ولكن لا يقبل لا أنّه لا يعلم، بل هو يعلم جيّدًا، ذكيّ جدًّا، معاوية ذكيّ جدًّا، لم يكن لا يعي، يعلم ولكن لا يقبل، لا يرتّب أثرًا على علمه هذا، كان يتناسى هذا العلم. يلقي بنفسه في ذاك الطريق، يرجّح الهوى و الهوس على هذا العلم، لا يسمح أن يؤثّر فيه هذا العلم، وإلا فهو لم يكن جاهلاً، كلاّ بل كان يعلم جيّدًا، يعلم أفضل منّا. 

  • {تعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء} تعطي العزّة من تشاء وتجعل من تشاء ذليلاً وحقيرًا بين الناس، حقيرًا بين الناس. عندما خرج الشاه من إيران أيّة دولة استقبلته؟ كان يطرق هذا الباب وذاك ليجد لنفسه ملجأ. فأين تلك العزّة؟ أين تلك القوّة؟ أين تلك المكانة التي كنت فيها وكانوا من أجلك يكسرون أيديهم ورؤوسهم في زمان حياتك، وكانت الدول كلّها تستقبلك، فأين ذهب ذلك؟ لقد كان كلّ ذلك رؤيا وخيالاً وكان كلّ ذلك باطلاً! لو التفتّ منذ البداية لغيّرت طريقك من حينها، ولما استطاع الشيطان أن يخدعك، ويلقي بك في الضلال. 

    1. سورة آل عمران، الآية ٢٦. 

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

10
  • رؤية المنافقين غير التوحيديّة

  • النقطة المهمّة في بحثنا حول هذه الفقرة تبدأ من هنا، المنافقون لم يكونوا كذلك، ولم يكن تفكيرهم إلهيًّا، وليسوا جماعة معيّنة، كلاّ بل المراد من المنافق كلّ إنسان ليس تفكيره إلهيًّا، ولا ينظر إلى الأمور نظرة توحيديّة، من أيّ جماعة كان أو حزب، أو لو لم يكن في حزب أصلاً، هكذا كانوا. إنّهم يرون العزّة في العلاقات الاجتماعيّة، يبحثون عن العلوّ في هذه العلاقات، في هذه الاجتماعات، إذا زاد المشاركون في الاجتماع يفرحون: الحمد لله اجتمع الناس، اجتمعوا في هذا اللقاء، لقد كثر الناس فيه، أمّا لو جاء نصفهم مثلاً فإنّه يقيم مأتمًا، يجلس في بيته! ولو جاء في اليوم التالي الثلث فإنّه يقول لا، لا يصلح هذا، لماذا؟ لأنّه يرى العزّة في الاجتماع، لا العزّة في أداء التكليف والانتساب إلى الله. الله يقول العزّة لي ولطريقي، وثالثًا للمنتسبين إليّ، العزّة لنا. في المرحلة الأولى خصّها به، ومنه بالمدرسة التي تنشر العزّة وتدعو إليها وتثبّت التوحيد، ثمّ أتباع هذه المدرسة، ولكن ماذا يقول المنافقون؟ {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ...} ۱ عندما نرجع إلى المدينة سنريهم، حينها سيدركون أنّ الأعزّة سيخرجون من المدينة الأذلّة الذين لا موقعيّة لهم بين الناس، يلقون بأمتعتهم إلى خارج المدينة، المنافقون يقولون، ولكن ماذا يجيب الله؟ {ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون}٢ هؤلاء مخطئون فالعزّة مختصّة بالله، لأنّه هو العزيز الحكيم. العزّة مختصّة بالرسول لأنّ هذا الرسول يرى هذه العزّة فيه، لماذا النبيّ عزيز؟ لأنّه يرى العزّة من الله فقط لا من نفسه، فلهذا صار النبيّ عزيزًا. لماذا الإسلام عزيز؟ لأنّ الإسلام مدرسة التوحيد، لا مدرسة الأنانيّة ومدرسة التظاهر والرياء والنفاق. الإسلام مدرسة ترى العزّة لله وحده، وتدعو أتباعها إلى هذا الأمر، إذا وصلتَ إلى مكان فلا تره من نفسك، لا تخدع نفسك، قل أنا لا أرى، وواقعًا لا ترَ، لا تخدع الناس، ولا تجعل نفسك بينهم متواضعًا، بل واقعًا في الباطن كن متواضعًا حتّى يبرز التواضع في حركاتك! فهناك فرق كبير بين الادّعاء والواقع. 

    1. سورة المنافقون، مقطع من الآية ۸. 
    2. سورة المنافقون، مقطع من الآية ۸. 

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

11
  • أحكام الإسلام تزيل الأنانيّة والهوى من النفس، تقمع النفس وتزيل الأهواء النفسيّة، تقلّل التوقّع، تجعل الإنسان في نفسه ذليلاً وفي الخارج عزيزًا، تجعله عزيزًا في الخارج: {ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون }المنافقون مشاعرهم دنيويّة، طريقة تفكيرهم دنيويّة، يرون العزّة في زيادة العدد، يرون العزّة في الأمر والنهي، يرون العزّة في المريدين والتنافس بالمريدين، يرون العزّة في الإعلانات، لقد زادت الإعلانات الحمد لله، الله أيدّنا الحمد لله، لو كانت الإعلانات قليلة نبحث ما هو السبب الذي جعلها تنقص، نبحث عن سبب ذلك. ولكنّ المؤمنين ليسوا كذلك لو كان أتباعهم مائة مليون لا يختلف حالهم عمّا لو كان هناك رجل واحد يتبعهم، لماذا؟ لأنّه يراهم مخلوقات لله فحسب كلٌّ في سبيله. اليوم تجتمع هذه المخلوقات الإلهيّة حولك، وغدًا تبتعد، ولكنّ الحقيقة الباقية هنا ما هي؟ إنّها فقط ذات الله المقدّسة، هي الوحيدة الباقية، والمؤمنون ملتفتون إلى هذه النقطة. 

  • فإذن بناء على ذلك، لا ينظر إلى هذه المائة ألف ولا إلى ذلك الرجل الواحد، لا ينظر إلى أيّ منهما. له هدف واحد، يضحك مع الناس ولكنّ فكره في مكان آخر، يتحدّث مع الناس ولكنّ تركيز حواسّه على مكان آخر، يتحدّث معهم ويرشدهم، فماذا يصنع الأعاظم؟ كيف كان الأعاظم في علاقاتهم مع الناس؟ ما كنّا نراه هو هكذا: كانوا يتكلّمون مع الناس وينصحون ويشاركون في الجلسات. كانوا يأتون في أيّام المجالس وأحيانًا كانت الأعداد كثيرة بحيث لا تسعهم الغرفة، وكانوا يجلسون في الزقاق أيضًا، جئنا وقلنا له: سيّدنا العدد كثير، فهل تسمح لنا أن نفتح باب هاتين الغرفتين أيضًا لكي يجلس الناس؟ قال: كلاّ، يجب أن يبقى بابا هاتين الغرفتين مغلقين، ومن أراد فليأت في الصباح الباكر. قلنا فهل تسمح أن نبني في الأعلى طابقًا آخر فالذين يأتون لا مكان لهم في هذا الطابق العلويّ؟ فقال: هذا هو المكان، من أراد أن يأتي فليأت في الصباح الباكر. من هنا يُعلم أنّه لم يكن يختلف الأمر بين ذلك الوقت الذي كان يصل فيه الناس إلى الزقاق وبين الوقت الذي لم يكن يأتي فيه سوى خمسة إلى مجلس العزاء. العمل يظهر نفسه، الحركات تفهم نفسها ولا تختلف. يتحدّث فنظنّ أنّه مسرور بهؤلاء الحاضرين وبحمد الله هذه المدرسة قد راجت والناس يأتون بحمد الله... ولكن فجأة نجد أنّه في أمر ما قام بردّة فعل كأنّنا لم نعرف هذا الرجل ألف سنة، كأنّنا لم نعرفه! عجيب فماذا حصل؟ هكذا كنّا نظنّ ؟ فإذن يعلم أنّه آنذاك حينما كان يتحدّص مع هذا الرجل كان فكره في مكان آخر، كانت البسمة على شفاهه ولم تكن في روحه وقلبه! فقط كان يتحدّث بحديث وكان يتصوّر أنّ هذه المكانة قد دخلت إلى قلبه، ولكن في الواقع كان يسير في عالم آخر! من هو هذا؟ إنّه إنسان يرى العزّة من الله، يرى الشخصيّة منه، يرى إقبال الناس منه، لا بسبب كلامه وأحاديثه وإرشاداته، كلّها يعدّها منه، لذلك نرى أنّه على حال واحد في جميع الأمور، هادئ مستوٍ وهادئ.

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

12
  • المؤمن لا يختلف حاله بين النصر والهزيمة ويبقى هادئًا

  • أمير المؤمنين يتكلّم ويعبّئ الناس ضدّ معاوية أن اذهبوا واقتلعوا جرثومة الفساد، ولكن عندما يذهب إلى هناك ويبقى ثمانية عشر شهرًا ، ولا مزاح في البين ـ ثمانية عشر شهرًا من القتال، في كلّ يوم رماح ولم يكن أمير المؤمنين ليجلس في الملجأ هناك ويرسل الناس! كلاّ يا عزيزي بل كان هو بنفسه أمام الجميع! يهاجم هجمة وإذا ما رجع تجد بدنه مليئًا بالسهام، كان يسيل الدم من جميع جوانب الدرع. هكذا كان أمير المؤمنين طيلة ثمانية عشر شهرًا، هكذا قضاها. ثمّ انتهى الأمر إلى التحكيم، فقد انهزم في النهاية، في الحقيقة انهزم أمير المؤمنين. عندما تنظر ترى أنّ صلاته في الليل حينها لا تختلف عن صلاته في الليل الليلة الأولى، لا فرق أصلاً. الحالة بعينها. 

  • إلهي لست شيئًا، إلهي لم أصنع شيئًا، إلهي لست شيئًا الأمر كلّه بيدك، الفتح بيدك، وإقبال الناس بيدك أنت، وهداية الناس بيدك أنت، كلّ ذلك بيدك. كلّفتني فأتيت إلى هنا، والآن صار واجبي أن أرجع، إن انتصرت فمنك وإن انهزمت فمنك. انظروا لا فرق، الماء ساكن لا يتحرّك، بما أنّا هزمنا فإذن لا فائدة من العيش بعد ذلك في هذه الدنيا فلنذهب إلى ذلك العالم، كلاّ ليس الأمر كذلك، ولو عاش مائة عام أخرى فهو هكذا، يرجع إلى الكوفة، ويقول من جديد اذهبوا. 

  • لقد خطب أمير المؤمنين في نهار شهر رمضان، انظروا يقوم بجميع الأعمال بدقّة، يراعي حكم الظاهر شعرة بشعرة، ألا يعلم هو أنّه بعد بضعة أيّام سيضرب؟! يعلم. يعلم أكثر من جبرائيل، جبرائيل أيضًا هو بيده، آلة بيده، واسطة له. ففي شهر رمضان هذا يأتي ويقول: سأجهد أن أطهّر الأرض من هذا الجسم المعكوس۱، سأبذل كامل جهدي في تطهير الأرض من هذا الإنسان المقلوب معاوية، ثمّ يجمع الناس ويعدّ العدّة، والناس أيضًا تتوب ممّا فعلت وتندم، وتبايع أمير المؤمينن على الذهاب هذه المرّة والقضاء على معاوية. في هذه الأثناء يأتي ابن ملجم ويضرب هذه الضربة، حتّى هذه اللحظة الأخيرة يقوم بالتكليف، لماذا يقوم بذلك؟ ليقول لنا ابقوا عبيدًا حتّى اللحظة الأخيرة؟ انهزمت فلتذهب من جديد، إنّه تكليف فيجب أن تذهب وتؤدّيه. لا يمكن أن تقول: لما حصل هذا فلأدعه، الناس مستحقّون فدعهم يذوقون، كلاّ، بل ما هو التكليف؟ ما دمت حاكمًا فعليك أن تعمل بالتكليف، عندما يقولون: تفضّل. حينها يقول يختلف الأمر. لذلك يقول: فزت... ٢ يعني قمت بعملي إلى هذه اللحظة، وذلك التكليف الذي كان على عهدتي قمت به حتّى النهاية. 

    1. . نهج البلاغة (عبده)، ج ٣، ص ۷٢، كتاب ٤٥: سأجهد فى أن اطَهِّرَ الأرضَ من هذا الشخصِ المعكوس و الجسمِ المركوس.
    2. . مناقب آل أبى طالب عليهم السلام، ج ٢، ص ۱۱٩.

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

13
  • أمّا المنافقون فمن هم؟ إنّهم الذين لم يتّضح لهم الأمر؛ لذلك يقول الله: لا يفقهون، لا يفهمون، خلطوا الحقّ والباطل. العزّة له وقد نسبوها إلى أنفسهم، العلوّ لله ونسبوه إلى أنفسهم، تلك الصفات الحسنة، بما أنّا اجتمعنا الآن معًا فإنّكم تظنّون أنّ لكم قيمة، كلاّ فلو أردتُ لذهبتم جميعًا، المنافقون! نحن أتينا واجتمعنا معًا و... وفجأة تجد أنّ الجميع قد ذهبوا، هذا يقول: قلبي يؤلمني، ذاك يقول: لديّ عمل، وذاك يقول: لقد أُرجع الصكّ الماليّ، وذاك يقول: .... وفجأة لا أحد، لم يأت أحد. 

  • أحوال مسلم بن عقيل رضوان الله عليه

  • كيف كان مسلم بن عقيل سفير سيّد الشهداء عليه السلام؟! كان يصلّي خلفه في مسجد الكوفة ثلاثون ألفًا، وفجأة نظر فلم يجد حتّى واحدًا خلفه، ولكنّه كان ملتفتًا، كان ملتفتًا، إنّه سفير الإمام الحسين، والإمام الحسين لا يرسل أيّ إنسان. يرسل إنسانًا يبلّغ أفكاره بين الناس، يقول الأفكار نفسها والعقائد نفسها بين الناس، لذلك لم يقم بتسليم نفسه، ذهبتم جميعًا فلتذهبوا فأنا لن أسلّم نفسي، أنا أتّبع ذاك، خذوني واقتلوني وقطّعوني إربًا إربًا، واصنعوا بي ما شئتم، ولو وجدت قوّة من جديد فسأعود إلى هذا العمل، سأجمع الناس من جديد، وإذا ذهب الناس فليذهبوا فأنا أنا، لا أتغيّر أبدًا لا يختلف الأمر لديّ، لأنّه ممثّل سيّد الشهداء جاء من قبله. ولكنّ المنافقين لا يدركون ذلك، لا يفقهون، لا يفهمون، يجعلون الدنيا بدلاً من الآخرة، والآخرة بدلاً من الدنيا، تخدعهم أمور الدنيا، وتمنعهم أمورهم من الاشتغال بالحقيقة، يرون العزّة من أنفسهم، ويرون العلوّ من أنفسهم. ما هي حال هؤلاء؟ يقول الإمام الصادق عليه السلام: إنّهم أناس كلّما نظروا إلى مكانة تمنّوها يقولون: ليتنا مكانهم. ينظرون إلى إنسان ما فيرون أنّه مدير: يا ليتنا كنّا خلف هذه الطاولة! ينظرون إلى إنسان فيرون علمه كثيرًا: يا ليتنا كنّا مكانه! ينظرون إلى إنسان فيرون أنّه متموّل: يا ليتنا كنّا مكانه! دائمًا يقولون: يا ليتنا يا ليتنا! فيا ليتنا هذه من أين تنشأ؟ لأجل العزّة المجازيّة ولأجل العلوّ. تقول الآية القرآنيّة: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتّقين}۱ لمن جعلنا نحن الدار الآخرة؟ للذين لا يريدون علوًّا في الأرض، لا يبحثون عن العلوّ، إن حصل فلا بأس، وإن لم يحصل فليبق ألف سنة لا يحصل. إن حصل المال فلا بأس، وإن لم يحصل فلا بأس. وطبعًا هذه الأمور التي أذكرها اليوم هي مقدّمة للأبحاث القادمة التي سنتحدّث عنها بشيء من التوسيع في الجلسات القادمة بحسب ما يسمح لنا المجال وتسمح به قدرتي. {نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا} يأتون إلى هذا العالم ويذهبون ولكن ليس غرضهم من الكون في هذا العالم هو العلوّ، أن يتعالوا على الآخرين، ولازم هذا العلوّ هو الفساد. فكلّما رأيتم إنسانًا يرى نفسه أعلى من الآخرين فاعلموا أنّ نتيجة هذا العلوّ هي الفساد، لأنّ الصلاح يجتمع مع التوحيد وينسجم معه، ولكن حيثما كان الاستعلاء والعلو، فإنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، فسيفسد الأمر ولكن {والعاقبة للمتّقين}.

    1. سورة القصص، الآية ۸٣. 

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

14
  • رؤيا السيّد الخوئي حول السيّد أبو الحسن الأصفهاني

  • قال المرحوم العلاّمة أنّ السيّد الخوئي رحمه الله في يوم من الأيّام التي كان فيها في النجف قال له: عندما كنّا نسير في زمان السيّد أبو الحسن الأصفهاني في الطريق كنّا نراه عندما يأتي إلى الحرم، وعندما يسير في الشوارع والعلماء والفضلاء يحيطون به، كنّا نقف إلى جانب الشارع، ونغبطه ونقول في أنفسنا: أيمكن يومًا أن أنال أنا هكذا مقامًا؟ هكذا أمرًا ونهيًا؟ هكذا مرجعيّة؟!ثمّ قال: والآن بعد أن وصلنا إلى هذا رأينا أنّه كلّه مشكلات وآلام، كلّه وبال ومتاعب. 

  • وقد نقل له منامًا أيضًا فقال: عندما توفّي السيّد أبو الحسن الأصفهاني رحمه الله رأيته في الرؤيا، رأيت صحراء القيامة والسيّد أبو الحسن الأصفهاني يسير نحو الحساب، ولكن في طريقه جبل عظيم، وهذا الجبل من الأموال، مال، ذهب، جواهر، فضّة، وقد ظهرت على شكل جبل عظيم، وعليه أن يزيح هذا الجبل جانبًا لكي يتمكّن من العبور، لا أن يصعد عليه، كلاّ بل لا بدّ أن يزيح هذا الجبل من الطريق، حتّى يسمح له أن يسير نحو القيامة، وهكذا هو واقف ينظر واضعًا يده ويقول ماذا أصنع؟! يقول السيّد الخوئي: ذهبت إليه وقلت لماذا أنت واقف؟ فقال: ماذا أصنع مع هكذا جبل أمامي؟ فقال له ما هو هذا؟ فقال: هذه هي الأموال التي جيئ بها إليّ في الدنيا وأنا صرفتها، وقد وضعوها الآن أمامي ويقولون لا بدّ أن تتجاوزها. ثمّ يقول المرحوم العلاّمة: عندما سمعت هذه القصّة التفتُّ إلى السيّد الخوئي وقلت: ألا ترون أنتم أيضًا جبلاً كهذا أمامكم؟! قال: طأطأ رأسه واحمرّ لونه، ثمّ قال: رحم الله! رحم الله! فقط. رحم الله ليست عملاً! رحم الله رحم الله! ماذا فعل الأعاظم؟ كلاّ، لقد جعلوا كلّ ذلك جانبًا، من استطاع أن يحمل هذا الجبل فليذهب بنفسه وليحمله، نحن لا نستطيع، نحن لسنا أهلاً لأن نحمل الجبال، لا قدرة لدينا، ولا نحتمل هذا الثقل لنحمله! 

  • إن شاء الله سأسعى في هذه الجلسات القادمة أن تكون حالتي أكثر مساعدة إلى مدّة معيّنة، وهذه الجلسات سنكتفي فيها بساعة أو ما يزيد، وإن شاء الله إذا وجدت مجالاً فيما بعد فيمكن أن نضيع أوقات الرفقاء والأصدقاء أكثر. 

العزّة والعلوّ: بين المعنى الصحيح و المعنى الباطل

15
  • وفّقنا الله للعمل بما وصلنا إليه وأن نفهم أكثر ونوفّق لطاعة واتّباع أوامر الله وأولياء الله ومنهجهم وطريقهم، ذلك المنهج الذي لم يخسروا باتّباعه ولم يخرجوا به من الدنيا صفر اليدين، ووفّقهم الله أن يبذلوا رأس المال هذا في طريق الصلاح وطريق الكمال، وأن يتركوا الشيطان وجنود الأبالسة والدنيا والجوانب والظروف والقرائن والمقارنات والمحيط ووساوس الخنّاسين وشبهات المشبّهين وهذه الأمور التي تسبّب أن يبتعد الإنسان عن نفسه وعن الله ويُضيع الحقيقة ويَضلّ، ويسلك سبيل الهلاك وفجأة يقال: فجأة ارتفع صوت أن مضى السيّد. 

  • وكما يقول سيّد شيراز ـ لا تنسوا ديوان حافظ أيّها الرفقا! ـ كم جميل ما يقول: 

  • به پادشاهى عالم فرو نيارد سر***اگر ز سرّ قناعت خبر شود درويش‌۱
  • [والمعنى: لا يطأطئ الدرويش رأسه لمُلك العالم *** إذا ما علم عن سرّ القناعة ]

  • إذا فهم ما هو الإكسير الذي في هذه القناعة، وما هو الجوهر والكنز ـ المحافظة والقيادة وزعامة القرية وإدارة القسم و...ـ لو أعطوه ملك البلد وكلّ العالم يضحك، لا يقول امض إلى شأنك، بل يضحك، أتخدع طفلاً، أتغشّ طفلاً! من الذي يقول هذا الكلام؟ حافظ رحمه الله، واقعًا شِعرُه كلّ بيت منه لوحة وأسوة وبرنامج عمل، لأنّه هو بنفسه ذهب ووصل، هو بنفسه وصل وقال: نحن ذهبنا والآن نبيّن لكم الطريق: 

  • به پادشاهى عالم فرو نيارد سر***اگرزسّرقناعت خبرشود درويش‌
  • لا يطأطئ الدرويش رأسه لمُلك العالم إذا ما علم عن سرّ القناعة

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد

    1. . ديوان حافظ، اشعار منتسب، شماره ۱٥.