104

نظرة العرفاء للشيطان

1450
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةحقيقة الدنيا والشيطان

التاريخ 1425/05/15

جلسات المجموعة(6 جلسة)

التوضيح

في هذه المحاضرة الشريفة التي عقدها سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه لختم البحث عن فقرة «فَإذَا أَكْرَمَ اللَهُ الْعَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ هَانَ عَلَيهِ الدُّنْيا، وَإبْلِيسُ، وَالْخَلْقُ»، تحدّث بدايةً عن مسألة وجوب الوفاء بالعهد ولو كان ابتدائيًّا، ليُعرّج على مسألة أهمّية انكشاف نقاط الضعف للإنسان، ودور الشيطان في هذه المسألة، ومراد العرفاء من قولهم إنّ الشيطان رحيم، ثمّ انتقل للحديث عن الأمور التي تُهوّن من أمر الشيطان، وعن الطريق المختصر الذي يوصل الإنسان إلى الكمال، ليختم كلامه ببعض اللطائف التوحيديّة من قصّة يوسف عليه السلام.
/۲٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

نظرة العرفاء للشيطان

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • نظرة العرفاء للشيطان

  • شرح حديث عنوان البصريّ، المحاضرة ۱۰٤

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

نظرة العرفاء للشيطان

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد

  • وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ: «فَإذَا أَکْرَمَ اللَه الْعَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، هَانَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَإبْلِيسُ وَالْخَلْقُ»؛ أي: إذا منح الله تعالى عبدًا هذه النعم الثلاث، سيسهل عليه أمر الدنيا وإبليس والناس، ولن يُعاني من أيّة مشكلة عند مواجهة هذه الأمور.

  • وأعتقد أنّ الرفقاء مطّلعون على تلك المسائل الثلاث؛ أولاها إيكال الأمور إلى الله تعالى، وألاّ يلجأ الإنسان إلى التخطيط لنفسه، ولا يضع برنامجًا لحياته بنحو منفصل عن مشيئة الله تعالى؛ لا ألاّ يضع الإنسان أيّ برنامج من الأساس! فقد بيّنا سابقًا أنّ التخطيط والنظم من أهمّ المسائل السلوكيّة، وأبرز مبدأ من المبادئ الإسلاميّة؛ إذ بُنيت الدنيا أساسًا بالارتكاز على النظم، كما شُيّد عالم التكوين أيضًا على أساس النظم والتدبير؛ فعدم النظم يُساوي اللاأباليّة والفوضى والوحشيّة والحيوانيّة وعدم الاعتناء بالمبادئ الإنسانيّة؛ فهذا هو معنى عدم النظم، حيث نرى أنّ مقدار تأكيد الإسلام على هذه المسألة يفوق تأكيده على بقيّة المسائل؛ فالذي لا يعتني بالتزاماته في دائرة العلاقات الاجتماعيّة، ولا يهتمّ بتدبير شؤونه ونظم أموره خارجٌ عن نطاق الإنسانيّة، فضلاً عن أن يصل الحديث إلى السلوك والإسلام وأمثال ذلك، ولا يصح أن يُقال له إنسان.

  • وجوب الوفاء بالعهد ولو كان ابتدائيًّا

  • فالذي يقطع عهدًا مع أحد آخر يجب عليه شرعًا الوفاء بهذا العهد، ولو لم يكن في ضمن عقد؛ وأمّا ما ذكره بعض الفقهاء من أنّ الشرط الذي يكون في ضمن العقد لازم، والذي لا يكون في ضمنه، بل يكون ابتدائيًّا غير لازم، فلا يُراد منه عدم وجوب الوفاء به؛ وإذا فُهم منه ذلك، فإنّ هذا الفهم خاطئ ومجانب للصواب؛ لا! فكما أنّ الشرط والالتزام المتضمَّن في العقد يكون لازمًا، ويجب الوفاء به، وتحرُم مخالفته، وتترّتب مسائل حقوقيّة عند التخلّف عن الوفاء به، ويتحمّل المتخلّف مجموعة من التبعات القانونيّة، فإنّ الأمر بهذا النحو في الشرط غير المتضمَّن في العقد، والذي يكون ابتدائيًّا.

نظرة العرفاء للشيطان

3
  • وهدفي من هذا الكلام أنّه قد يظهر أحيانًا في عدد من الكلمات المبثوثة في بعض الكتب خلاف هذا الأمر؛ لكنّ المسألة ليست بهذا النحو؛ أي أنّ الشرط المتضمّن في العقد لازم ويجب الوفاء به ويحرُم التخلّف عنه، والشرط الابتدائيّ هو بهذا النحو أيضًا؛ فإذا اتّفق أحد مع آخر على أن يذهبا إلى مكان معيّن معًا، ولا يذهب كلّ واحد منهما بمفرده، فإنّ هذا لا يُشكّل عقدًا أو معاملة، لكنّه شرط ابتدائيّ والتزام بدويّ؛ والوفاء بهذا الالتزام الابتدائيّ واجب شرعًا، بحيث إذا ذهب أحدهما إلى ذلك المكان بمفرده، فإنّه سيكون قد ارتكب حرامًا، ولو أنّه لن يُعاني من أيّة مشكلة من ناحية ظاهريّة وحقوقيّة؛ كأن يُطالب مثلاً بدفع تعويض وغير ذلك، لا! اللهمّ إلاّ في بعض الحالات التي يلحق فيها الطرف الآخر ضررًا معيّنًا، حيث يجب عليه من ناحية حقوقيّة تحمّل هذه الأضرار الناتجة.

  • ففي زمان المرحوم العلاّمة، كانت هذه المسألة تحدث مرارًا وتكرارًا، وكنت بنفسي شاهدًا على العديد منها؛ وفي أحد الموارد، كنت في فترة الطفولة، وأبلغ الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من العمر، فاتّفق شخصان على عدم بيع سلعة وبضاعة في إحدى المدن بأقلّ من مبلغ معيّن، وأن يبيعانها بسعر واحد، فلا يحقّ لأيّ واحد منهما بيعها بسعر أقلّ؛ لكنّ أحدهما انتهك هذا الاتّفاق، مع أنّه اعتذر لاحقًا بأنّه لم يكن مقصّرًا في ذلك، وبأنّ المسألة كانت بنحو آخر، فنادى المرحوم العلاّمة عليهما معًا؛ ولا يخفى أنّ مرادي من هذا الكلام أن تتعرّفوا على مستوى الأهمّية التي تحظى بها المبادئ السلوكيّة، وأن نتمكّن من الاطّلاع على الدقّة واللطف والإحكام والإتقان الذي تتّصف به هذه المسائل؛ فنادى المرحوم العلاّمة عليهما معًا؛ ولعلّه لو كنّا نحن في مكانه، لما اعتنينا بهذا الأمر بتاتًا، ولقلنا: «سامحه أيّها السيّد، واعف عنه، وسيتكفّل الله تعالى بشؤونك، ويُعوّضك بنفسه؛ فتعال، واصفح عنه»، فتنتهي المسألة بهذا النحو؛ لكنّ المرحوم العلاّمة قال: «لا، عليه أن يأتي»، ثمّ قال: «بيّن لي حقيقة الأمر»، فبيّن له ذلك، وبيّن الطرف الآخر أيضًا ما حصل، فقال المرحوم العلاّمة: إنّه هو المقصّر، ويجب عليه:

نظرة العرفاء للشيطان

4
  • أوّلاً: أن يغتسل غسل التوبة، ويستغفر الله تعالى بعد ذلك على هذا العمل المحرّم الذي ارتكبه.

  • ثانيًا: أن يسعى لجلب رضا الطرف الآخر بسبب مخالفته للعهد التي اتركبها هنا، بل وجلب رضاه الباطنيّ عن طريق إبراز الندم، وطلب العفو والصفح.

  • ثالثًا: أن يتحمّل الأضرار التي لحقت هذا الشخص في معاملاته مع الآخرين بواسطة هذا العمل، وذلك بدفعه لمبلغ ماليّ معيّن.

  • رابعًا: أن يُعلن في السوق أنّه كان مقصّرًا في هذه المسألة، وأنّ الطرف الآخر بريء.

  • هل انتبهتم؟! فلا يوجد هنا أيّ مزاح! ولا مكان هنا للفوضى، ولأن يعقد أحدٌ اتّفاقًا مع آخر، ثمّ يضعه تحت قدميه؛ فهذا هو قانون الإنسانيّة والبشريّة، وهذا هو القانون العقلانيّ والإلهيّ والسلوكيّ والشرعيّ؛ وحينئذ، فليقُل الآخرون ما يشاؤون، فذلك شأنهم! فهذا الذي يُقال له قانون. ولقد حدثت هذه المسألة مرارًا وتكرارًا في زمان المرحوم العلاّمة، وشاهدت بدوري العديد منها، وكنت حاضرًا بنفسي في الكثير من هذه القضايا والأحداث.

  • وعلى أيّ تقدير، فإنّ السلوك لا يتحمّل المزاح، والسير في طريق الله تعالى يعني السير بشكل صحيح وقويم، والقيام بما يُريده المولى؛ وحينئذ، إذا قال المولى: «أنا أريد هذا الأمر»، فلن يكون بوسعنا الاعتراض، أو الزيادة، أو النقصان، أو أن نحذف بعض الأمور، أو أن نأتي بأذواقنا المختلفة، ونرفض المسائل بنحو من الأنحاء، لا! فلا مجال لهذا الكلام، وإلاّ، فإنّهم سيستلّون منّا هذه الأمور كما تُستلّ الشعرة من العجين بطريقة لا تخطر ـ على حدّ قول الناس والأجداد ـ على بال جنّي، وسيستلّون تلك الشعرة بنحوٍ يكون من اللازم على الإنسان النظر بواسطة المجهر إذا أراد أن يراها! وسيُخرجون تلك الأمور من طيّات قلوبنا وزوايا نفوسنا بهذا النحو، ويقولون: «تعال وانظر.. انظر تحت المجهر، فنحن خبراء جدًّا بهذه المسائل والأمور والخصائص!».

  • لقد حصلت لي كثيرًا مثل هذه القضايا في ارتباطي بالمرحوم العلاّمة؛ فذات يوم، كلّفني بإحدى المهامّ، وأمرني بإنجازها، فأنجزتها، ورجعت؛ لكن، أثناء قيامي بها، خطرت في بالي مسألة معيّنة للحظة واحدة فقط، حيث قلت مع نفسي: «حينما أقوم بهذا الأمر...»؛ هذا مع أنّ ذلك لم تكن له أيّة علاقة بي أنا، بل له علاقة بكلام العلاّمة وكتبه؛ أي أنّ المسألة لم تكن ذات طابع شخصيّ؛ فقلت مع نفسي:«حينما أقوم بهذا الأمر، فإنّ ذلك سيُؤدّي للتسريع أكثر في حصول المسألة الكذائيّة؛ إذ سيُفضي إلى ازدياد الاهتمام بالأمر الفلانيّ؛ وبالتالي، ستحصل تلك المسألة بنحو أسرع»؛ فأنجزت ذلك العمل، وأتيت عند المرحوم العلاّمة الذي أبرز بالغ سروره، وقال لي: «جزاك الله خيرًا»، وأمثال هذه العبارات والجمل التي لا يليق أيّ واحد منها بنا نحن! وهكذا، إلى أن مرّت مدّة على هذه الحادثة؛ وذات يوم، قال في ضمن كلامه فجأة: «رغم أنّ نية الإنسان تكون أحيانًا إلهيّة ـ في إشارة إلى تلك الخاطرة التي مرّت على بالي ـ لكن، حينما يُؤمر الإنسان بإنجاز عمل معيّن، فإنّ عليه إنجازه من دون حتّى تلك الخواطر»؛ هل رأيتم أين وضع أصبعه؟! فحتّى لو كانت النية غير شخصيّة ـ وهذه المسائل التي أذكرها الآن لها علاقة بالبحث الذي أريد إتمامه اليوم ـ ، إلاّ أنّه على الإنسان أن يُؤدّي ذلك العمل من دون أيّة خواطر، بل يقتصر على مجرّد العمل؛ فإن قيل له: «أدّه»، فعليه أن يُؤدّيه، وإن قيل له: «أنجز هذا العمل»، فعليه أن يُنجزه، وحسب؛ وأمّا إذا بدأ يُدخل فيه شيئًا آخر أو يخرجه، فيقول مع نفسه: «ما هي تبعاته؟ ما هي الفوائد التي قد ترتّب عليه لاحقًا؟ ما هي الثمار التي قد تنتج عنه بعد ذلك؟»، فإنّ ذلك يقع بأجمعه في مرتبة أدنى، ويُعدّ انحطاطًا عن تلك الدرجة التي يُمكن للإنسان أن يربح فيها؛ ولهذا، عليه ألاّ يُخطر حتّى ذلك على باله.

نظرة العرفاء للشيطان

5
  • ومن هنا، فإنّ الالتزام الخارج عن دائرة المعاملات واجب أيضًا، وعدم الوفاء به حرام؛ أجل، يبقى أنّ ذلك مشروط بقدرة الإنسان على القيام به، وأمّا إذا عجز عن ذلك، فإنّ المسألة ستّتخذ طابعًا آخر.

  • فإن قيل: على الإنسان أن يوكل أموره إلى الله تعالى، فإنّ ذلك لا يعني اللاأباليّة والتهاون وعدم الاهتمام؛ وقد يكون بوسعنا خداع الجميع، لكنّنا لا نستطيع خداع الله تعالى؛ وإلاّ، فإنّه تعالى سيضع الإنسان في مأزق، ثمّ يقول له: «هل ستلجأ إلى اللاأباليّة دائمًا، أم أنّك لا تلجأ إليها إلاّ حينما يتعلّق الأمر بي؟! ففي المسائل الأخرى، تعمل بشكل دقيق وحصيف ومنضبط، لكن، عندما يصل الأمر إليّ، تريد أن تُمرّر ذلك بأيّة طريقة وأسلوب! في حين أنّك تقول هناك: «لا يا سيّدي، لا يُمكن هنا أن يتمّ الأمر بهذا النحو، بل علينا أن نتوقّف هنا».

  • وعلى أيّ تقدير، على الإنسان أوّلاً أن يُفوّض تدبير شؤونه لله تعالى؛ وثانيًا، عليه ألاّ يرى أيّ شيء منه هو، وقد تحدّثنا سابقًا عن هذه الموضوعات؛ وثالثًا، عليه أن يعمل بما أمر الله تعالى، ويجتنب ما نهى عنه سبحانه؛ فإذا تحقّقت للإنسان هذه الأمور، «هَانَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَإبْلِيسُ وَالْخَلْقُ»؛ أي ستهون بالنسبة إليه الدنيا، وإبليس، والناس؛ وبعبارة أخرى: الأيّام والأحداث.

  • بلوغ الإنسان إلى الكمال رهين بانكشاف نقاط ضعفه وسعيه لترميمها

  • ففي الجلسة السابقة، تحدّثنا بنحو مفصّل ـ إلى حدّ ما ـ عن مسألة إبليس وكيفيّة خلقه، حيث قلنا هناك: إنّ خلقه عين المصلحة، بحيث لولا هذا الخلق، لما تمكّن الإنسان من بلوغ كماله؛ فالحديد الذي يُراد منه التغيّر إلى معدن قابل للاستخدام، أو إلى سيف ثمين، يحتاج إلى وضعه في الفرن، وفي مكان خاصّ، لكي يُصهر ويسخن، ثمّ يُبرّدونه، ويُسخّنونه مرّة أخرى، ويُضيفون إليه بعض الموادّ، حتّى يكون بوسعهم جعله بشكل قابل للاستخدام؛ وإلاّ، إن أرادوا استعمال الحديد على حالته الأوّلية، فإنّه سيعوجّ عند أوّل ضربة توجّه إليه، وسينكسر حين إصابته لأوّل مكان؛ ولهذا، يتوجّب عليهم إخضاعه لتلك العمليّات؛ كما أنّ الذهب الذي يُراد استخدامه في الزينة وصناعة الحليّ يجب أن يُصهر، ويُذاب، ويُنقّى من الموادّ الزائدة التي تظهر على سطحه، ليُقدّم بعد ذلك بشكل خالص وذي عيار عالٍ؛ وإلاّ، فلن يتمّ ذلك أبدًا من دون هذه الأمور.

نظرة العرفاء للشيطان

6
  • فلكي يصل كلّ شيء في عالم الطبيعة والتكوين إلى هدفه المنشود، عليه أن يقطع مجموعة من المراحل؛ ولا يُستثنى وجود الإنسان تربويًّا من هذه المسألة وهذا الأصل؛ إذ ما دام لم يوضع هذا الإنسان في بوتقة الاختبار، فلن تنكشف له تلك الخصائص التي تحجزه عن التغيّر والتبدّل؛ وما دام الإنسان لم يحضر عند أستاذ حاذق في حرفة من الحرف، فلن تتّضح له نقاط ضعفه؛ ولهذا، فإنّ الذي يذهب عند أستاذ الخطّ [مثلاً]، يجد أنّ عمل هذا الأستاذ لا يقتصر على التعليم والكتابة فقط، بل يتعدّاه إلى توضيح النقائص التي تسبّبت في ظهور الخطّ بهذا النحو، وكذلك بيان الأمور المطلوبّة ونقاط القوّة للتلميذ.

  • ويُعدّ السيّد حسين ميرخاني رحمة الله تعالى عليه من أساتذة الخطّ المتقدّمين، حيث كنت أحضر عنده في فترة معيّنة، وذلك في دار الكتابة الواقعة أسفل مسجد المرحوم العلاّمة في خيابان سعدي، فكنت أذهب عنده مرّتين أو ثلاث مرّات في الأسبوع، فأتعلّم الكتابة بالخطّ؛ وكان يُبرز عطفه ومحبّته تجاهي كثيرًا، ويُشجّعني على الاستمرار في تعلّم هذا الفنّ، وكنت أنا أيضًا معجبًا بذلك، كما كان آخرون يأتون عنده أيضًا، وهم الذين صاروا أساتذة في الخطّ الآن، فكانوا يأتون عنده، ويتحدّثون معه؛ والعجيب هنا أنّه كان يُبيّن لهم نقاط ضعفهم، مع أنّهم كانوا أساتذة في الخطّ، وهم الآن من أساتذة الدرجة الأولى؛ فكانوا يأتون عنده، ويعرضون عليه ما خطّطوه بعد مرور عشرين سنة أو خمسة وعشرين سنة [من تعلّمهم]؛ فكانوا يقول لأحدهم: «لقد أرجعت رأس «ض» أو «ي»، فهل تعلم لماذا صار الأمر بهذا النحو؟ لأنّك أمسكت القلم بهذه الطريقة، ولهذا ظهرت الياء بهذا الشكل؛ فعليك أن تُميل رأس القلم بهذا النحو»، وكان يقول: «إذا مال القلم ولو بمقدار عُشر مليمتر، فإنّ النقصان سيطرأ على كتابة الكلمة»؛ انظروا، فهو يُوجّه كلامه لتلميذه الذي درس وتعلّم الخطّ عنده مدّة خمسة وعشرين سنة!

  • والأمر الذي أثار اهتمامي كثيرًا أنّه: ذات يوم، أتاه أحد أفضل تلامذته، ولعلّه اليوم الخطّاط الأوّل في إيران، وهو إنسان مشهور جدًّا، حيث كان المرحوم ميرخاني قد كتب بخطّه في دار الكتابة عبارة: «در كار خير حاجت هیچ استخاره نيست»۱، فكتب هذا التلميذ العبارة ذاتها بنفس القُطر وبنفس الطريقة، وكانت هذه اللوحة موضوعة إلى جانب تلك، ولذلك لكي يُبيّن لنا أنّنا نحتاج في كلّ أمر إلى العمل وبذل الجهد. لقد كان المرحوم ميرخاني يتحدّث إلينا، وينصحنا، فكانت الجلسة التي ينبغي لها أن تدوم نصف ساعة مثلاً تستمرّ أحيانًا ثلاث ساعات، أو ثلاث ساعات ونصف؛ وكلّ مرّة كنت أرجع إلى المنزل، كنت أواجه اعتراض المرحوم العلاّمة وخصامه، حيث كان يقول: «كان من المفروض أن تبقى ساعة واحدة، لكنّك ذهبت ولم ترجع!»، فكنت أقول: «ليس ذلك من تقصيري أنا؛ لأنّ الأستاذ هو الذي كان يأخذ وقتنا بالكلام، وكان آخرون يأتون، فلا يسمح لنا بالذهاب مهما قلنا له: يا سيّدي، علّمنا خطًّا واحدًا، ودعنا نرحل، فكان يقول: لا! اجلس مكانك الآن، وستجني فائدة من ذلك»؛ ثمّ يُعيد الكرّة مرّة أخرى، حيث كانت تدوم الجلسة أحيانًا أربع ساعات، فكنت أذهب عنده في الساعة الثامنة، وأرجع إلى المنزل في الساعة الثانية عشرة؛ وكنا أتعلّم منه رحمة الله تعالى عليه العديد من المسائل، وكان ذلك مفيدًا كثيرًا بالنسبة إليّ؛ إذ بغض النظر عن تلك المسائل الخاصّة والفنّية، فإنّه كان يمدّنا بمجموعة من المسائل الدقيقة؛ فمثل هؤلاء يتوفّرون على العديد من التجارب في الحياة، وقد قضوا فترة عمر طويلة، وعلى الإنسان أن يسعى للاستفادة من تجارب الجميع.

    1. المصراع الثاني لبيت شعري في ديوان مولانا حافظ الشيرازي، ومعناه: لا يوجد أيّ داع للاستخارة في عمل الخير. المعرّب

نظرة العرفاء للشيطان

7
  • فلكي يُبيّن أنّ الإنسان لن يصل إلى أيّ مكان من دون سعي وجهد، فإنّه أتى باللوحتين، ووضعهما أمامنا، وكان هناك أيضًا تلميذه البارز، حيث كان يقول عنه بنفسه: هو تلميذي الأوّل، وكان يُجلّه ويحترمه كثيرًا، فقال لنا: «ما هي الفوارق التي تلحظونها بين هذين الخطّين؟»، فمهما تأمّلت في تلك العبارتين وتلك الكلمات الموجودة في اللوحتين، لم أر أيّ فرق، حيث كانتا متماثلتين تمامًا، وكأنّ الثانية صورة ملتقطة للأولى، غاية الأمر أنّ خطّ المرحوم ميرخاني كانت يتّسم بمَلاحة خاصّة لا يستطيع الإنسان وصفها، لكنّه بوسعه الإحساس بها، فقلت له: «لا أرى وجود أيّ فارق، لكنّ خطّكم يتّسم بملاحة خاصّة»، فقال أمام تلميذه ذاك: «أحسنت، هذا الذي كنت أريد قوله، وهل تعلمون كم يلزم العمل للوصول إلى مستوى هذا الخطّ؟ يحتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الجهد والمشقّة لكي يصل ذاك إلى مستوى هذا»؛ فهذه المسألة دقيقة وحسّاسة إلى هذه الدرجة!

  • وكان بنفسه يقول: أساتذة الخطّ كثيرون، لكنّ الأستاذ الفلانيّ خرّج تلميذين ممتازين، والأستاذ العلانّي خرّج ثلاثة ممتازين...، بينما تمكّنت أنا من تخريج تسعين تلميذ ممتاز، أي تسعين أستاذ، وهل تعلمون لماذا؟ لأنّني أمشي بنفسي مع التلميذ، وأتحرّك معه بنفسي، وحينما تنكشف لي بعض العلل وأسباب النقص المفضية لظهور خطّه بنحو [سيّء]، فإنّني أنبّهه إلى تلك العلل؛ وعندما يأتي في الغد، وأجده قد عالجها، ورفع تلك النقائص، فإنّني أسعى في اليوم التالي، إلى تعقيد الخطّ قليلاً، لتظهر منه إشكالات أخرى، فأرفض خطّه مرّة أخرى؛ وهكذا، أعقّد الأمر عليه أكثر فأكثر، إلى أن يصير ذلك ملكة بالنسبة إليه، فيتمكّن من الوصول إلى درجة الاجتهاد في الخطّ؛ فمن دون التنبيه إلى نقاط الضعف، لا يُمكن لهذه المسألة أن تتحقّق.

  • لقد كان يعقد درسًا آخر علاوة على تدريسه في دار الكتابة، فكنت أحضر هذا الدرس أيضًا، حيث كان يُشارك فيه ما يُناهز العشرين أو الخمسة والعشرين تلميذًا، لكن كان هناك بعض التلامذة الذين ما إن يُشكل ويعترض عليهم، حتّى ينزعجوا من ذلك، ويقولوا: «لقد بذلنا جهدًا كبيرًا»، فكانوا يتوقّعون أن يمدحهم ويُثني عليهم؛ ولهذا، حينما يعترض عليهم، فإنّهم ينزعجون؛ وعندما يذهبون، كان يقول لي: «يا فلان، إنّ هؤلاء لن يترقّوا أبدًا، فالتلميذ الذي يترقّى ويتطوّر هو الذي يقبل الإشكال والاعتراض بقلبه وروحه»؛ وهنا تكمن المسألة الدقيقة! فليس فقط عليه أن يقبل ذلك بقلبه وروحه، بل عليه أن يسعى بنفسه إلى إشكال الأستاذ، ويطلبه منه، لا أن يبقى جالسًا هكذا.

نظرة العرفاء للشيطان

8
  • ـ أيّها السيّد، لماذا يوجد هنا اعوجاج؟

  • ـ لقد قال إنّني أعاني من الاعوجاج!

  • ـ أيّها السيّد، لماذا توجد هنا استقامة؟

  • ـ لقد قال بوجود استقامة هنا!

  • ـ لماذا الأمر هنا بهذا النحو؟

  • لا توجد هنا أيّة فائدة مرجوّة، ولن تُصحّح الأمور من دون هذه المسألة، وقد كان المرحوم الحدّاد يقول مرارًا وتكرارًا: «إنّ السالك الذي يخشى الاعتراضات والإشكالات التي يُوجّهها إليه أستاذه لا فائدة منه، وعليه أن يذهب إلى حال سبيله».

  • فلماذا أتينا نحن إلى هذه الدنيا؟ هل لكي نُعالج إشكالاتنا، أم لنُظهر ونُبرز كمالاتنا ونقاطنا الإيجابيّة؟ إنّ النقاط الإيجابيّة إيجابيّة، ولا تحتاج إلى إبراز، وهذه النقاط ثابتة في حدّ معيّن، ولا تزداد؛ فإذا أردنا أن نزيدها على هذا الحدّ، علينا أن نُقلّل من النقائص؛ فكلّما بدأت النقائص بالتضاؤل، زادت النقاط الإيجابيّة؛ لكن، إذا فرضنا أنّ أحدهم كان يمتلك ثلاث نقاط إيجابيّة، ولم يسع إلى معالجة نقاطه السلبيّة، فإنّه سيبقى محتفظًا بتلك النقاط الثلاث فقط إلى أن يبلغ التسعين من العمر، ولن تصير أربعة؛ لكن، إذا أخضع نفسه إلى التربية، ووضعها في المحكّ، وألقى بها في بوتقة الاختبار، فإنّه سيشرع في التنبّه، ويقول: «هنا يوجد فساد، وهنا عليك أن تلجأ للتصحيح، وهنا عليك أن تفعل كذا»، فتبدأ تلك الأمور الواحدة تلو الأخرى في التحسّن شيئًا فشيئًا.

  • بعد وفاة المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه، وقعت حادثة معيّنة، ورأيت أنّ هذه الحادثة تتّخذ مسارًا معاكسًا تمامًا لما كان عليه الأمر في زمانه، حيث إنّ المنهج التربويّ للمرحوم العلاّمة يعتمد على محو النفس، وطمس الأنانيّة، والقضاء على المسائل النفسانيّة؛ والتركيز في المقابل على لطافة النفس وتجرّد الروح وتعويض الأمور الدنيويّة والأهواء النفسانيّة والفرعونيّة والأنانيّة بالجوانب التوحيديّة؛ فهذا هو المنهج الذي كان يسلكه العظماء، ومن دونه، لا توجد أيّة فائدة مرجوّة؛ أي ينبغي الانسحاب من الميدان، ولا يُمكن جني أيّة ثمرة. ففي هذه الحادثة التي وقعت، رأيت أنّ الأمور تمشي بالضبط في الجانب المقابل للمسار التربويّ الذي كان ينتهجه المرحوم العلاّمة، حيث كان يُعمد إلى تضخيم مجموعة من الإيجابيّات الوهميّة، لا الواقعيّة، وإبراز بعض الجوانب التخيّلية؛ وفي المقابل، كانت نقاط الضعف والنقصان تُغطّى، ويجري القضاء على كلّ محاولة للنقد والإصلاح والتنبيه؛ فهذه هي الأحداث التي بدأت تظهر؛ ولهذا، كتبت رسالة تطرّقتُ فيها لكيفيّة السير؛ ولا علاقة لي هنا بتاتًا بمسألة هل إنّ هذه الأمور وهذه التدابير ينبغي أن تتمّ بواسطة أهلها وعلى يد المتخصّص والخبير بها، أم لا؛ فقلت: «إنّ هذه المسائل خاطئة، وينبغي أن يكون الطريق مطابقًا لهذا النظام والمنهج»؛ لكن، ما الذي حصل؟ حصل نفسُ الذي حدّثتكم عنه؛ أي: عوضًا عن الالتفات والتذكّر والاتّعاظ، جرى وضع المسألة في الكفّة الأخرى للميزان؛ فأدركت أنّ الأمور تمشي بنحو آخر.

نظرة العرفاء للشيطان

9
  • دور الشيطان في الكشف عن نقاط الضعف للإنسان

  • إنّ بناء عالمي التكوين والتشريع يقوم على هذا الأساس؛ فبناء عالم التكوين يعتمد على السير التكامليّ والتغييرات والتحوّلات التي تطرأ على الأشياء، كما أنّ بناء عالم التشريع والتربية يتّكيء على نفس هذه الطريقة التي بُيّنت؛ أي تلك الخاصّية التي جعلها الله تعالى في عالم التربية لا عالم التكوين؛ فالشيطان لا علاقة له بعالم التكوين؛ لأنّ عالم التكوين يخضع لسلسلة من العلل المختصّة به، ولا علاقة له بالشيطان؛ إذ تتمثّل مهمّة الشيطان في التدخّل في عالم التشريع، وعالم التربية، وعالم التكاليف والأوامر والنواهي الإلهيّة، حيث إنّ الباري تعالى جعل الشيطان [وسيلة] لتكامل الإنسان، ولظهور مقام الخلافة الإلهيّة، والوصول إلى أعلى مرتبة من المعرفة والكمال؛ أي الفناء في الله تعالى؛ فعن طريق الخواطر التي يوردها الشيطان على الإنسان في الحالات المختلفة ـ بنفس الأسلوب الذي بيّناه في الجلسة السابقة ـ، ومن خلال الوساوس التي يُلقيها إليه، فإنّه يكشف له عن نقاط الضعف التي يُعاني منها في مساره التكامليّ، ويقول له: هذه هي نقاط ضعفك!

  • وأمّا بالنسبة للذي أُغلق الباب أمامه لارتكاب المعاصي الظاهريّة، فإنّ الشيطان لا يأتي عنده أبدًا، ليوسوس إليه باقتراف الفعل الحرام؛ لماذا؟ لأنّ هذه الشخص قد وصل ـ بأيّة طريقة كانت ـ إلى مرتبة الفعليّة من ناحية إدراك هذا الفعل الحرام والاحتراز عنه؛ والشيطان لا سبيل له إلى من بلغ هذه المرتبة، بل يذهب عند الذي يقع في مرتبة الاستعداد من ناحية تكامليّة، ولا يُريده أن يصل بهذا الاستعداد إلى درجة الفعليّة، بل يريده أن يتراجع إلى الوراء؛ فيبحث عن نقاط ضعف أخرى، ومسائل أخرى، وتعلّقات أخرى، وخصائص نفسانيّة أخرى، ويُنقّب عن الخصائص ذات الصلة بالمسائل التي يهتمّ بها ذلك الشخص في مجال القضايا الاجتماعيّة والشخصيّة، وفيما يرتبط بمختلف شؤونه وعلاقاته ومسائله النفسانيّة؛ لأنّ هذه الخصائص تفوق في إعاقتها وصدّها عن الطريق، والوصول إلى مقام القرب الإلهيّ ـ آلاف بل ملايين المرّات ـ ما قد ينجم عن ارتكاب عمل ظاهريّ محرّم؛ ولهذا، فإنّ الشيطان يذهب عند هؤلاء.

نظرة العرفاء للشيطان

10
  • يُحكى أنّ بايزيد [البسطاميّ] كان مارًّا برفقة تلامذته من مكان ما؛ ويبدو أنّ المراد منه بايزيد الثاني؛ إذ لا يُتصوّر أن تحدث هذه المسألة لبايزيد الأوّل؛ لأنّه لم يكن في هذه المرتبة؛ فنحن لدينا بايزيدان: بايزيد الكبير، وبا يزيد الصغير؛ فمرّ بايزيد مع تلامذته بكلب، حيث كانت الأمطار قد سقطت، وابتلّ ذلك الكلب؛ فجمع بايزيد ثيابه بنوع خاصّ من الالتفات وبحالة من الاشمئزاز، لكي لا يمسّه، فتحدّث معه ذلك الكلب في مقام المكاشفة، وقال له: «صحيح أنّني نجس، فلا يوجد أيّ إشكال في أن تبتعد عنّي عند المرور بجانبي، لكن، لماذا أبديت تجاهي ذلك الاشمئزاز؟ ولماذا مررت إلى جانبي بذلك النوع من الالتفات؟»؛ وانتبهوا، فإنّ هذه الأمور حقيقيّة وواقعيّة بأجمعها! حسنًا، إذا كنت نجسًا، تنحّ عنّي، لكن، لماذا تمّر بجانبي بحالة من الاشمئزاز والتقزّز؟ تعال وأخبرني: من الذي جعلني كلبًا، وجعلك بايزيدًا؟ وهل إنّ كوني كلبًا حصل باختياري أنا، وكونك بايزيدًا وإنسانًا وقع باختيارك أنت؟! فأنت لم تكن لك أيّة إرادة في خلقك؛ انظروا كيف يُدينه! أي أنّ هذه الحيوان يمتلك في مقام المثال والملكوت عقلاً وشعورًا، ولو أنّه في مقام الظاهر بهذا الشكل الذي لا يُثير انتباه الإنسان، لكنّه يتوفّر على شعور في مقام الملكوت، حيث توجد في هذا المجال أسرار عجيبة يكشفها الله تعالى للذين يُضاء لهم الطريق.

  • جهان چون چشم وخط وخال وابروست‌***كه هر چيزى به جاى خويش نيكوست‌۱
  • (يقول: إنّ العالم يُشبه العين والخطّ والخال والحاجب، فكلّ شي‌ء في محلّه جميل)

  • فإذا تمكّن الإنسان من إدراك هذه المسألة، ستتّضح له الحكمة من خلق كافّة الأشياء في العالم؛ وحينئذ، ستختلف نظرته، وتتغيّر رؤيته لهذه الأشياء.

  • قال له: أوّلاً، من الذي جعلني كلبًا، وجعلك بايزيدًا؟ أ فهل إنّ كوني كلبًا باختياري أنا؟

  • ثانيًا، أنا نجس، وأعترف بأنّني كذلك؛ غير أنّ هذه النجاسة ظاهريّة يُمكنك تطهيرها بغرفة من الماء؛ إذ حينما يُلاقي لباس الإنسان أمرًا نجسًا، يكفيه صبّ غرفتين من الماء عليه، وينتهي الأمر، من دون أن يحتاج لإلقاء نفسه في ماء الكرّ، بل يكفيه صبّ قليل من الماء؛ فاذهب يا بايزيد، وطهّر قلبك؛ لأنّ قلبك لن يتطهّر ولو صببت عليه سبعة أبحر من الماء! فهذا الشعور الذي تمتلكه هو شعور نفسانيّ، حيث جئتَ، واعتبرت نفسك أعلى منّي؛ وهنا تكمن المسألة الدقيقة! فالله يقول: «عليك أن تجتنب الكلب»، وهذا أمر محفوظ في محلّه، وعلينا أن نسمع له ونطيع؛ وهو تعالى يقول: «هذا نجس، وعليك أن تجتنبه»؛ وكلّ ذلك محفوظ في مكانه؛ لكن، لماذا تعتبر نفسك أعلى وأشرف منّي، وتجعل نفسك في وضعيّة معيّنة، وتمرّ بجانبي باشمئزاز؟ وما هو السبب في ذلك؟

    1. گلشن راز (حدیقة الأسرار)، الشيخ محمود الشبستري: « جهان چون زلف وخط وخال وابروست ....»

نظرة العرفاء للشيطان

11
  • ثالثًا، أشكر الله تعالى على أنّه لم يخلقني بايزيدًا، فلم ينتابني هذا الشعور الذي انتباك أنت؛ أي أنّه أفحمه، وأسكته بكلّ براعة وسهولة، ومن دون أن يجد أيّ مفرّ أو مهرب؛ حسنًا، فمع من كان الحقّ؟ كان الحقّ مع سماحة الكلب؛ لأنّه ينطق بالصواب؛ ففي عالم التوحيد، وفي النظام الأحسن، يكون الحقّ هنا مع الكلب؛ ومهما كان بايزيد، فإنّ الحقّ مع ذلك الكلب؛ فهذه هي المسألة الدقيقة التي يُدركها العارف.

  • وأعتقد أنّ الرفقاء يذكرون أنّني كنت أقول سابقًا: إنّ الحالات التي تحصل للعارف لا تكون من باب التواضع، بل إنّ نفسه ومعنويّاته تتغيّر، فتظهر على هيئة وحالة توحيديّة؛ فحينما كان المرحوم العلاّمة يُقبّل يد طفل يبلغ الرابعة أو الخامسة من العمر، فإنّ ذلك لم يكن من باب التواضع، لأنّنا نحن الذين تلجأ لمثل هذا التواضع المتصنَّع؛ هذا، مع أنّه عمل جيّد، لا أنّه سيّء، بل هو جيّد جدًّا؛ لكن، يبقى أنّ مسألة التواضع تتّخذ طابعًا آخر في عالم التوحيد؛ فالعارف هو الذي لا تعود الحالة التي يُبرزها هي حالة التواضع، بل إنّ الحالة التي يعيشها تكون بذلك النحو؛ أي أنّ ذلك هو مقتضى فهمه وشعوره؛ ولهذا، فإنّ أحواله تظهر بنحو مغاير؛ وهذا هو الشخص الذي ينبغي علينا اتّباعه، لا ذاك الذي يمشي بحالة من التواضع؛ والذي لا يكون في مأمن من الأخطار؛ لأنّه يفتقر في بعض الأحيان إلى ذلك التواضع، ويُبرز نفسه في بعض الأوقات.

  • حكى لي أحد الأشخاص الذين لهم نضج وخبرة بالمسائل النفسيّة أنّه التقى بأحدهم، فقال لي: طيلة الساعة التي التقيت به فيها ـ وكان شخصًا معروفًا ـ، كان يبذل كلّ سعيه، لكي يظهر أمامي بمظهر الإنسان المتواضع بتمام المعنى، أي أنّه كان يشقّ على نفسه كثيرًا لأجل ذلك؛ فأحيانًا، قد يبرز الإنسان نوعًا من التواضع، وأحيانًا أخرى، لا، بحيث يضغط على نفسه إلى حدّ كبير، ويسعى لاختيار بعض العبارات الخاصّة، وتكون طريقة جلوسه بشكل معيّن، إلى أن تخرج المسألة عن الحدّ العاديّ والمتعارف؛ فقال لي: «لقد بذل كلّ جهده لأجل تحقيق هذا الأمر»؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا لم يكن شخصًا عاديًّا، بل كان يُدرك الأمور بسرعة؛ لأنّه كان طبيبًا نفسيًّا، فقال لي: «فجأة، احتلت عليه بطريقة معيّنة ـ وفقًا لتلك المهارة التي يمتلكها في مجاله الخاصّ ـ، فأخرجته من حالة التواضع تلك؛ فإذا بذلك السيّد الذي بذل كلّ تلك المجهودات يصير مثل طفل يبلغ الخامسة من العمر ـ حيث لم يكن قد درس مثل هذه الأمور ـ، فخرجت من فمه عبارةٌ تسبّبت في ضحكي عليه لمدّة خمس دقائق».

نظرة العرفاء للشيطان

12
  • فما هي حقيقة ذلك؟ إنّه تصنّع! إنّه عبارة عن نحت وتجسيم وقولبة! وهكذا فرد لا يكون محلاًّ للاطمئنان، فلا ينبغي عليك أن تُفوّض إليه دينك، وتُسلّمه اعتقادك، وتلقي على عاتقه دنياك وآخرتك؛ فعلى عاتق من يجب عليك وضعهما؟ على عاتق الذي يكون فعله التوحيد في كلّ حال؛ فلا يتواضع، ولا يركع، بل يمشي بكلّ اعتدال، من دون أن يطرق برأسه إلى الأسفل، أو يمشي كالكسيح والمشلول، لكي يُقال إنّ تواضع هذا أكبر! فلا يبدو كالمصاب بفصال عظمي في الرقبة، بحيث يضطرّ للإطراق برأسه إلى الأسفل حينما يتحدّث مع الناس؛ لا، بل يقف بكلّ اعتدال، ويمشي بكلّ طمأنينة، من دون اللجوء إلى أفعال النفاق، وأعمال المكر التي تنطلي على العوامّ، وأساليب الخداع الجذّابة للعامّة؛ لماذا؟ لأنّه لا ينظر إلى العوامّ؛ إذ من يكون هؤلاء؟! فلا يهتمّ بالعوامّ وبالناس، ولا يمشي في طريق الشخصيّات الجافّة والمتظاهرة بالقداسة التي لا تنفع، إلاّ لاجتذاب العوامّ والمريدين، واكتساب الجاه والشخصيّة في المجتمع، والاتّجار، ولا يتحرّك في هذه الاتّجاهات.

  • وعليه، فإنّ الشيطان عبارة عن موهبة إلهيّة تقع في طريق كمال الذين يرغبون في الوصول إلى هذا الكمال؛ فعن طريق الوسوسة للإنسان بالمعاصي والمحرّمات، فإنّه يقوم بتنبيهه إلى نقائصه ونقاط ضعفه، ويقول له: يوجد هنا نقص عليك أن تُعالجه، ويوجد هنا ضعف عليك أن ترفعه، ويوجد هنا فساد عليك أن تُصلحه، ويوجد هنا خلل، وأنت تُعاني هنا من مسائل نفسانيّة، وعليك أن تقوم هناك بالفعل الكذائيّ؛ فهو يأتي كأستاذ في السلوك، وبصفته شخصًا يُمكنه ـ بعبارة أخرى ـ أن يكون أحنّ وأعطف وألطف في طريق تكامل الإنسان من أيّ شخص آخر، ومن أيّ أب، أو أمّ، أو رفيق، أو صديق شفيق؛ لكن بأيّ نحو؟ بهذا النحو، وليس بإلقاء الأمور الحسنة، والدعوة لقيام الليل، بل إنّه يدعو أيضًا حتّى لقيام الليل، لكنّه يُخفي في دعوته هذه مسألة أخرى، وعلى الإنسان أن ينتبه إلى سبب أمره بقيام الليل: لأنّ هذه الصلاة تشعر الإنسان بحالة من الوُجد؛ ولهذا، عليه أن يُؤدّيها؛ فعليه أن يقوم الليل لأجل حالة الوُجد؛ فلاحظوا كيف أنّه يُنبّه الإنسان إلى هذه المسألة.

نظرة العرفاء للشيطان

13
  • مراد العرفاء من قولهم إنّ الشيطان رحيم

  • فلا تظنّوا أنّ الشيطان يوسوس للإنسان المسائل المحرّمة فقط، بل إنّه يوسوس حتّى في الأمور الإلهيّة والعباديّة، وفي تلك المسائل التي لا يشكّ الإنسان أبدًا أنّها لله تعالى، ولأجل رضاه، فيتسلّل إلى هذه الأمور، ويُسدّد ضربته هناك، ويقول: إنّك تعيش الآن أحوالاً جميلة، فتعال، وادع بالدعاء الفلانيّ، وقم بالعمل الكذائيّ، واعقد الجلسة العلاّنية، وادع إليها ذاك، وأقم مجلس العزاء في بيتك مدّة ثلاثة أو خمسة أيّام؛ لكن، لماذا أعقد هذا المجلس؟ فما الذي سيقوله هؤلاء الناس؟ فيغوص في التفكير، وويقول مع نفسه: «إنّ هؤلاء الناس سيقولون: لقد عقدنا مجلس عزاء في السنة الفارطة، فإذا لم أعقده هذه السنة، فسيقولون: ما الذي حصل؟»؛ فما الذي عليه أن يفعل في نفس تلك اللحظة؟ «هَانَ عَلَيهِ الدُّنيا وإبليسُ»: عليه أن يوقف ذلك، ويقول: «لن أعقد مجلس عزاء هذه السنة من الأساس، وانتهى الأمر، فما الذي تريده الآن؟ وأيّ شيء تريد أن تقوله الآن يا سماحة الشيطان؟ فأنا لا أحبّ أن أعقد مجلسًا هذه السنة، ولا أرغب في إقامة الجلسة الفلانيّة هذا العام».

  • فلو أنّ الشيطان لم يُنبّه الإنسان إلى هذه المسألة، لَعَقد المجلسَ من دون أن يلتفت إلى ذلك الأمر، أو لما عقد هذا المجلس، وانتفى من تلقاء ذاته، لكن، ستبقى تلك النقطة السلبيّة في نفسه إلى الأبد؛ وهي نقطة كان ينبغي على الإنسان أن يتخطّاها، لكي يتسنّى له القيام بعدئذ بذلك العمل؛ وهنا، حينما يُصفّي الإنسان حساباته، ويشعر بأنّه لم يعد لديه فارق بين عقد مجلس العزاء وعدم عقده، يُمكنه أن يقول: «الآن، سأعقده»؛ لاحظوا، فقد تمّكنا من العبور، وتبديل نقطة سلبيّة إلى نقطة إيجابيّة.

  • وحينئذ، هل يكون الشيطان رحيمًا أم لا؟ فإذا كنّا نلحظ في بعض عبارات العرفاء أنّهم يقولون: الشيطان رحيم، فإنّ مرادهم هو هذا، لا أنّه غير رجيم، وغير ملعون؛ فهذه الأمور باقية على حالها كما هي، لكن، من ناحية تربوية، وباعتباره واسطة ووسيلة وأداة للهداية والإرشاد، لو أنّ الشيطان لم يكن موجودًا، هل كنّا سنصل إلى تلك الدرجة من الكمال أم لا؟ فحينما نرى البعض يعترض على مولانا [جلال الدين الروميّ] أنّه قال في الموضع الكذائيّ: إنّ الشيطان رحيم، أو أنّ فريد الدين العطّار قال ذلك أيضًا في موضع آخر، ويسخرون من ذلك، ويُشكلون عليه، فإنّهم لم يستوعبوا المسألة.

نظرة العرفاء للشيطان

14
  • فأهل العرفان لا ينظرون إلى الشيطان كموجود خبيث، ونجس، ومثير للاشمئزاز، وأمثال ذلك، بل يركّزون نظرهم على مسألة أنّه خُلق كوسيلة للرقيّ، والكمال، والتكامل، ورفع النقائص، والتجرّد، وتغيير الإنانيّات إلى أبعاد نورانيّة وروحانيّة؛ غاية الأمر أنّ عمله يقتصر دائمًا على الوسوسة بالحرام، والمعصية، والبُعد، والانفصال عن الحقّ، والوسوسة بالأمور التي لا يصل الإنسان بارتكابها إلى أيّة نتيجة، بل يفقد معها حتّى عمره.

  • قبل ساعتين أو ثلاث ساعات من الآن، كنت آتيًا إلى هنا، فحكى لي في الطريق أحد الرفقاء قصّة عن أحد الأحبّاء المتواجدين في نفس هذا المجلس، وقال إنّ أحد أقربائه تُوفّي قبل مدّة، فأقيمت له مجالس عزاء كبيرة، ثمّ قال: إنّ ذلك المتوفّى جاء هؤلاء الأقرباء في المنام، فكانت هناك أطعمة وقدور كثيرة، وأمثال ذلك، فأشار إليها ذلك المتوفّى، وقال: لم يصلني أيّ واحد من هذه القدور والأطعمة، ثمّ رفع كأسًا من اللبن الرائب، وقال: حتّى هذا الكأس من اللبن الرائب لم يصلني!

  • انتبهوا، فالشيطان يأتي هنا! فهذا قد مات الآن، لكنّك تجدهم يقولون: علينا عقد مجلس، فنحن لدينا سمعتنا الخاصّة، وعلينا السعي لدعوة أناس أكثر لمجلس التكريم والتعظيم؛ وقد تحدّثت في الجلسة السابقة عن التأبين، وقلت إنّ التأبين والتعظيم يعني النفّاخة، هل نسيتم ذلك؟ فهذا هو المراد من التأبين: النفاخّة، ومجلس التأبين يعني مجلس النفّاخة؛ وحينئذ، متى ما رأيتم ذلك على الإعلانات الموضوعة في طهران وفي هذه الناحية وتلك، اكتبوا تحت التأبين كلمة: نفّاخة؛ لكن، اكتبوه في قلوبكم، لا بأقلامكم! فالتأبين والتعظيم يعني النفّاخة؛ ومن الذي ينتفخ هنا؟ ليس ذلك الذي يُقدّم الآن حسابه بالتفصيل؛ لأنّه لا يقبل التضخيم، بل أولئك الواقفون أمام الباب بكلّ اعتدال صفًّا صفًّا؛ أي أهل العزاء؛ فهم الذين يصيرون نفّاخات! كما أنّ ذلك السيّد قد اعتلى المنبر، وهو يعمل على النفخ، وذلك ينتفخ في الجهة الأخرى؛ فإذا نظرتم إلى المجلس من بداية المجلس إلى نهايته، سترون أنّ طوله قد ازداد مترًا واحدًا؛ لكن، بشرط أن تمتلكون أعينًا باطنيّة، فتجدونه في الأوّل كان بهذا الحجم، ثمّ صار بعد نصف ساعة بحجم أكبر، وبعد ساعتين بحجم أكبر، وفي نهاية المجلس، لن يكون بوسعه الخروج من الباب؛ فهذا الذي يعنيه التأبين والتعظيم، حيث إنّ الشيطان يأتي إلى هنا.

نظرة العرفاء للشيطان

15
  • حسنًا أيّها المسكين، إنّ هذا الذي يتكلّم من فوق المنبر هو الشيطان الذي يُظهر لك كلّ نقطة من نقاط ضعفك، ويقول لك: «انظر إلى المواضع التي يُمكنك أن تتلقّى الضربة فيها! انظر إلى المكان الذي تُوجّه فيه إليك الضربات! انظر كم أنت في ورطة! انظر إلى عمرك الذي بلغ السبعين، وأنت لا تزال عالقًا في المسائل الكذائيّة! أيّها المسكين، ستصير غدًا مثل ذلك [المتوفّى]! فلم يعُد يفصلك إلاّ يومان، حتّى ترحل إلى المكان ذاته الذي رحل إليه هو!»؛ فيأتي، ويُنبّه الإنسان إلى هذه المسائل الواحدة تلو الأخرى؛ ففي هذا المقام، ينبغي علينا النظر إلى هذا الموجود بنظرة أخرى، ونتّعظ بالأمور التي يُظهرها لنا، ولا ننظر إليه كموجود يُثير الاشمئزاز، والخوف، والرعب، والذعر، بل علينا أن نعقد معه صداقة، لكن، ليس بأن نجعله إلى جانبنا؛ إذ ليس هذا هو مرادنا، بل مرادنا أن ننظر إليه كموجود جعله الله تعالى لكي يُنبّهنا، ويُذكّرنا، ويُوجّه نظرنا إلى تلك المسائل الدقيقة من خلال إخطاره المعاصي والذنوب على أنفسنا.

  • الأمور الثلاثة التي تهوّن من أمر الشيطان

  • وهنا، حينما وصل البحث إلى هذه النقطة، يأتي كلام الإمام الصادق، ليدلّنا على طريقه عليه السلام؛ فإذا وفّق الله تعالى الإنسان للقيام بهذه الأعمال الثلاثة: 

  • الأوّل: أن يُفوّض تدبيره إلى الله تعالى، ولا يلجأ بعد ذلك إلى التدبير لنفسه.

  • الثاني: ألاّ يعدّ ما وهبه الله تعالى من نعم ملكًا له؛ فإذا حصل على مكانة خاصّة، من الذي يكون قد أعطاه هذه المكانة؟ إنّه الله تعالى الذي وهبه إيّاها؛ والرفقاء يعلمون كلّهم بذلك، كما تحدّثنا عنه سابقًا، بل إنّهم يعلمون به أكثر؛ وهكذا إذا مُنح الإنسان قيمة واعتبارًا؛ أ فهل إنّنا نحن هم مصدر هذه القيمة والاعتبار؟! وسأبدأ بنفسي أنا؛ فحينما أتى الرفقاء إلى هنا، ما هو السبب الذي دفعهم إلى المجيء؟ ولقد ذكرت لكم هذا الأمر آنفًا؛ فلأيّ شيء أتيتم إلى هنا؟ ولماذا لم تذهبوا إلى مكان آخر؟ أ فلا توجد هناك أمكنة أخرى؟! أ فلا توجد هناك مجالس أخرى؟! فلماذا أتيتم إلى هنا؟ لكي تُبيّنَ لكم على لسان أولياء الله تعالى المسائلُ التي توصلكم إلى الكمال والهدف المنشود في المدرسة الأصيلة للتوحيد والعرفان والحقّ؛ فلهذا السبب أتيتم إلى هنا؛ ومن هم هؤلاء الأولياء؟ إنّه المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه، وأساتذته، وعظماء الطريق، والعرفاء بالله تعالى، وأهل التوحيد؛ فلأجل هذا أتيتم.

نظرة العرفاء للشيطان

16
  • ولماذا اخترتموني أنا؟ ولماذا جاءت القرعة باسمي أنا المسكين والمجنون۱؟ لماذا؟ لأنّني كنت في محضر أولئك العظماء لبعض الأيّام، وسمعت منهم ثلّة من المسائل، وقلت مع نفسي: فلآتي، وأطرحها على مسامع الرفقاء، لكي يعمل بها الذين لهم رغبة، واستعداد، وقابليّة، وحميّة، وإباء، وإدراك، وكياسة، وفطنة، وتوجّه، وشعور بالألم؛ فلأبدأ بنفسي أنا أوّلاً: أ فهل أتيت بهذه المكانة والظروف من نفسي؟! ولو أنّني لم أكن أقرب له (للمرحوم العلاّمة الطهرانيّ)، فأيّة قيمة كان وجودي وكلامي هنا سيحظيان بها؟ ولَكُنتم ذهبتم، واخترتم فردًا آخر؛ فلماذا اخترتموني أنا؟ وبماذا أفترق أنا عن البقيّة؟ وهل يوجد أيّ فارق بيني وبينهم سوى أنّني كنت بمحضر هؤلاء أكثر من الرفقاء؟ وبطبيعة الحال، فإنّ لكلّ واحد حسابه الخاصّ، وعلى كلّ واحد الاهتمام بملفّه الخاصّ.

  • [فالأمر الثاني] أن يعلم الإنسان أنّ الأشياء التي منحه الله إيّاها لا تتعلّق به هو، بل تتعلّق به تعالى؛ فإن كان لديه مال، فإنّ الله تعالى هو الذي وهبه إيّاه، وإن كانت له مكانة اجتماعيّة، فإنّه تعالى هو الذي أعطاه إيّاها، وإن كان يتوفّر على كمال ظاهريّ، فإنّه هو الذي منحه إيّاه، وإن كان صاحب حرفة وفنّ، فإنّ الله تعالى هو الذي وهبه إيّاه؛ فعليه أن يرى أنّ كلّ ما يملك جاءه من الله تعالى، ولا يشعر بملكيّته لما منحه الحقّ تعالى إيّاه.

  • الثالث: أن يشتغل بالأوامر والنواهي الإلهيّة، ويعكف على ما كلّفه الله تعالى به؛ وحينما يصير الأمر بهذا النحو، «هانَ عليه إبليسُ»؛ فلن يعود إبليس يمتلك بالنسبة إليه ذلك الوجه المخيف والمـُرعب والرهيب، بل سيصير أمره هيّنًا، وسيتحرّك إلى جانبه؛ لماذا؟ لأنّه أودع شؤونه في مكان لا يستطيع الشيطان التصرّف فيه.

  • لقد ذكرنا في الجلسات السابقة أنّ الله تعالى يقول عن الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى‌ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}٢؛ فالشيطان ليست له أيّة سلطة على الله، وكذلك على الذين أوكلوا أمورهم إليه تعالى، فلا قدرة له على سحبهم نحوه؛ لكنّ المسألة التي تظلّ هنا هي أنّ سلطة الشيطان وجنوده تُرخي بظلالها على الذي انفصلوا عن الله تعالى، حيث يقدر على التسلّط عليهم؛ أي: حينما يُوسوس إليهم، فإنّ هذه الوسوسة تصل إلى درجة أنّها تصير محفورة في نفوسهم بصفتها حقيقة من الحقائق؛ فهذا الذي يُقال عنه سلطان؛ ويبقى أنّ هذا السلطان لا يكون بحيث إنّ الشيطان يُمسك بيد الإنسان، حيث بيّنا سابقًا عدم وجود أيّ فارق هنا بين إبليس وبين الملائكة؛ لكن، من حيث الوسوسة، فإنّه يبدأ يوسوس، ويوسوس، إلى أن تُحفر هذه الوسوسة في نفس الإنسان، وتبقى باعتبارها أمرًا لا يُمكن التراجع عنه؛ وهذا هو معنى: {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ}؛ أي أنّ سلطانه يُخيّم على الذين يختارون ولايته، ويتخلّون عن ولاية الله تعالى، {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}؛ فهؤلاء هم الذين يأتي عندهم الشيطان.

    1. إشارة إلى مقطع من بيت شعريّ للخواجة حافظ الشيرازي رضوان الله تعالى عليه يقول فيه: 
      آسمان بارِ امانت نتوانست کشید *** قرعهٔ کار به نامِ منِ دیوانه زدند.
      وتعريبه: لم تقدر السماء على تحمّل عب‌ء الأمانة، فجاءت القرعة باسمي أنا المجنون.
    2. سورة النحل، الآيتان ٩٩ و۱۰۰.

نظرة العرفاء للشيطان

17
  • لكن، عليكم أن تعلموا أيّها الرفقاء أنّ هذا هو أوّل الطريق؛ فلا ينبغي الاعتقاد أنّ ذلك يُمثّل نهايته؛ إذ حينما قال الإمام الصادق عليه السلام: «هَانَ عَلَيهِ الدُّنيا»، فإنّه لم يقل إنّ المسألة قد انتهت، بل قال: «هَانَ»؛ لأنّ الشيطان يقطع رجاءه من الذي وصل إلى مرتبة الفعليّة، ومن يكون هذا؟ إنّه الذي تمكّن من عبور النفس؛ لكن، في هذه المرتبة، لا مجال لـ «هَانَ عَلَيه»؛ لأنّ الشيطان لا يوجد هناك بتاتًا، حتّى يأتي الكلام عن «هان عليه»، أو «صعُب عليه»، بل إنّ هذه المسألة تخصّنا نحن؛ أي: حينما نوكل أمورنا لله، ولا نرى ما وهبنا تعالى منّا، ونمتثل للأوامر والنواهي، فإنّ علاقتنا بالشيطان ستصير هيّنة، لا أنّها ستنتفي؛ إذ ما دمنا في مرتبة النفس، فإنّ الشيطان سيسعى للتدخّل فينا وفي نقاط ضعفنا؛ وما دمنا أسيري الأنانيّة، ولم تنعدم بعدُ ذرّات الأنانيّة المختفية في وجودنا وسرّنا، ولم تنسدّ بشكل تامّ، فإنّ الشيطان سيأتي لوضع يده على هذه النقاط بعينها؛ لكن، حينما يُوفّق الله تعالى عبدًا لأداء تلك الأمور الثلاثة، فإنّ العبور سيضحى بالنسبة إليه سهلاً، ولا توجد فيه أيّة صعوبة، وسيسهل عليه السلوك، ويُعبّد أمامه الطريق إلى الله تعالى، وتهون عليه عقبات هذا الطريق ومصاعبه، ويصير المشي يسيرًا بالنسبة إليه، وتسهل عليه الحركة.

  • لاحظوا، قارنوا بين من يُريد المشي في هذه الظروف، ويسعى للقضاء على أموره النفسانيّة، كم سيتحرّك بسهولة، وبين من يريد القضاء على نقاط ضعفه خارج هذه المدرسة وهذا البرنامج والدستور العمليّ للإمام الصادق عليه السلام! سيُقصم ظهره من دون أن يصل إلى أيّ مكان! فلو عمرّ الإنسان ألف سنة، وسعى في هذه المدّة إلى القضاء على هذه المسائل النفسانيّة، فإنّ تلك الألف سنة ستمرّ عليه، وهو متسمّر في نفس الدرجة التي يوجد فيها، ويُخيّل إليه أنّ تلك المسائل قد انحلّت بالنسبة إليه؛ وهو خيال لا ينمحي أبدًا؛ إذ مَن الذي بوسعه أن يقضي على هذا الوهم والخيال الذي حصل له؟! وهنا تكمن المشكلة!

  • لكن، إن سعى للعمل بكلام الإمام الصادق عليه السلام، فإنّه سيعمد منذ البداية إلى سدّ الطريق أمام تسلّل الشيطان ـ ومرادنا من التسلّل هنا هو السيطرة الكاملة، وليس مجرّد التنبيه، وإلاّ، فإنّ الشيطان يقوم بالتنبيه ـ، فيُفوّض أموره إلى الله تعالى؛ هذا، مع أنّه يبقى في نهاية المطاف إنسانًا، وقد تعرضه بعض الخواطر، وتأتيه بعض التصوّرات، وهي أمور تحصل للجميع؛ إذ نحن مبتلون كلّنا بهذه الخواطر؛ فتخطر على بال الإنسان بعض المسائل غير اللائقة؛ فهو بشر في نهاية المطاف، وهذا أمر طبيعيّ؛ وعلى حدّ قول المرحوم السيّد الحدّاد الذي كام يقول مرارًا وتكرارًا، وقد قال لي ذلك أنا أيضًا: إن الزلاّت والعثرات التي تحصل للسالك لا تحظى بأيّة قيمة؛ لأنّ السالك يكون في طريق العبور، والمشي، مبتغيًا الوصول إلى الغاية والهدف والتوحيد؛ وفي هذه الأثناء، قد تطرأ عليه بعض الزلاّت، فيتوب، ويستمرّ في طريقه؛ وهذا ليس أمرًا خطيرًا، بل الخطير هو أن يسعى الإنسان للمشي خارج الإطار الذي رسمه الإمام الصادق عليه السلام، ويرغب في طيّ هذه المهالك عن طريق الرياضات الشرعيّة وغير الشرعيّة، والمشي في الطرق والمناهج التي يعرضها الأفراد الآخرون من بقيّة الملل والمدارس والمذاهب والأديان، فيعمد من تلقاء نفسه إلى اختيار طريق للعبور من النفس والأنانيّات خارج هذا الإطار، فيسقط في هوّة، وفي قعر بئر الأنانيّات والنفسانيّات وويلها، معتقدًا أنّ جنّة فردوسه موجودة هناك.

نظرة العرفاء للشيطان

18
  • وهنا، تكمن الأخطار العظيمة، وتحصل المسائل العجيبة والغريبة جدًّا، بحيث إنّ كلّ بلاء حلّ على الأمّة كان سببه أفراد سعوا إلى استقطاب الناس من تلقاء ذواتهم، واعتمادًا على رغباتهم وأذواقهم الشخصيّة، فاقتفوا طريقًا للحركة نحو الكمال سعوا إلى تحديده من خلال تخيّلاتهم، غافلين عن أنّ كلّ ما يحصل لهم ينضاف إلى أنفسهم أكثر فأكثر؛ لكن من الذي يتسنّى له الاطّلاع على حقيقتهم؟ ومن الذي بوسعه التعرّف على هذه المسائل؟ هل هم الأفراد العاديّون؟ لا! لأنّ هؤلاء الأفراد يعدّونهم من الأولياء، ومن العرفاء، ويضعونهم في صدر الجنّة؛ ولهذا، فإنّ الخبير هو الذي حينما ينظر إلى أحد هؤلاء، فإنّه يطّلع على سرّه وضميره، بحيث لو ظلّ نفس هذا الشخص يُفكّر طيلة سبعمائة ألف سنة، لما تسنّى له الوصول إلى هناك، في حين أنّ ذلك الخبير يكون قادرًا على النظر إلى هناك؛ ولهذا، نجده يقول: «یا لها من نفس كافرة يمتلكها هذا الشخص! يا لها من نفس عنيدة يتوفّر عليها هذا الرجل! يا لها من نفس متمرّدة يملكها هذا الإنسان، بحيث لا يرضى بالتنازل أبدًا!»، لكن، حينما ينظر إليه بقيّة الأفراد، فإنّهم يقولون: «يا له من رجل! ما أعجب هذه الحالات والمكاشفات والكرامات والمسائل التي يتوفّر عليها!»؛ فمن الذين يتسنّى لهم التعرّف على تلك النقاط؟ إنّهم أهل التوحيد وحسب؛ فهم الذين بوسعهم اكتشاف تلك النقاط التي إن مرّت على الإنسان مائتي أو مائتي ألف سنة، فإنّه ستنضاف إلى نفسه وأنانيّته وصفاته أمورٌ أسوء مائتي ألف مرّة من يومه هذا، وتزداد الأخطار المحدقة به بنفس هذا المقدار.

  • اختصر الطريق وأخرج غير الله تعالى (بمن فيهم الشيطان) من تفكيرك!

  • «هَانَ عَلَيهِ الدُّنيا وإبليسُ»؛ فما الذي يقترحه هنا أهل التوحيد؟ وما الذي يقوله أهل العرفان؟ يقولون: تعال منذ البداية، واجعل عملك وهمّك واحدًا، وتخلّ عن الإثنينيّة؛ لأنّ كافّة هذه المصائب والابتلاءات نشأت من الإثنينيّة: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}؛۱ أي: قل الله، وأعرض عن كلّ شيء؛ فمن تراه يكون الشيطان؟ إنّه أحد عباد الله تعالى، فضعه في ضمن البرنامج، ولا تفتح له حسابًا منفصلاً عن الله تعالى.

    1. سورة الأنعام، الآية ٩۱.

نظرة العرفاء للشيطان

19
  • وأعتقد هنا أنّ الرفقاء مطالبون بالانتباه كثيرًا، فقد وصلنا إلى الموضع الحسّاس من الأبحاث التي طرحناها في الجلسات السابقة، وبلغنا مرحلة النتائج: على السالك ألاّ يجعل مع الله تعالى أيّ موجود اسمه الشيطان، وإلاّ يصير ذلك كفرًا؛ وهذا هو العمل الذي يقوم به كافّة الناس، حيث نجدهم يقولون: «اخش الشيطان، واتّقه، واحذره، وخف منه؛ لأنّ يمتلك الخصائص الكذائيّة، ويخدع الإنسان، ويُضلّه عن الطريق، ويفعل كذا وكذا»؛ وقد كنت أحيانًا أعتقد أيضًا بهذه المسائل، وأؤمن بها، بل علينا أن نؤمن بها؛ لأنّها في نهاية المطاف وكما بيّنت سابقًا سيفٌ ذو حدّين: حدّه الأوّل عبارة عن الوسوسة بالحرام والمعصية، وحدّه الآخر عبارة عن التحذير، وبيان نقاط الضعف، والتنبيه إلى ضرورة علاج هذه النقاط.

  • يقول أهل العرفان: اختصر الطريق منذ البداية، وأخرج غير الله تعالى من دائرة تفكيرك، وقل: لا إله إلاّ الله، والذات الإلهيّة المقدّسة هي المؤثّر الوحيد في عالم الوجود.. {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ}؛۱ فلمن السلطة والحكم والملك؟ لله تعالى وحسب، بينما لا يملك غيره أيّ شيء، ولا يتوفّر سواه على أيّة ولاية أو سلطان؛ {هُوَ الْغَنِيُّ ...}؛٢ فوحده هو الغنيّ، والباقي كلّهم فقراء؛ لأنّ الغنى والصمديّة وجهات الامتلاء مختصّة به فقط؛ فمن تراه يكون الشيطان؟ لا شيء، فراغ، وفقر وحاجة! ومن هو المؤثّر؟ قل: «إنّ المؤثّر هو الله تعالى وحسب»، واطرد غيره؛ لكن، ما المراد من طرد غير الله تعالى؟ المراد منه: اطرد صاحب المنصب، والرئيس، والمدير العامّ، والبرلمانيّ، وشرطيّ الحيّ، والرفيق، والشريك، والصديق؛ فأخرج كلّ هؤلاء من ذهنك، واترك فيه الله تعالى وحسب؛ فإنّ قيل: «أخرج الجميع»، فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني: أخرج حتّى الشيطان؛ إذ ما عساه أن يكون الشيطان، حتّى يشغل تفكير الإنسان؟! فينبغي على السالك أن يملأ ذهنه بنقطة واحدة فقط، وهي الله تعالى، وهي عبارة عن حقيقة التوحيد ومؤثّرية الذات الإلهيّة المنحصرة به؛ فهذا هو الذي يجب أن يشغل تفكير الإنسان؛ وأمّا أن نأتي، ونجعل في مقابل الله تعالى موجودًا آخر، ثمّ نخاف منه، فإنّ ذلك هو الثنويّة بعينها، والإثنينيّة بذاتها، وهو نفس الاعتقاد بيزدان وأهريمن كمبدءين [للعالم]، وهما مبدآن باطلان، وأقنومان قديمان آمن بهما الناس في سالف الأيّام.

    1. سورة غافر، الآية ۱٦.
    2. سورة لقمان، الآية ٢٦.

نظرة العرفاء للشيطان

20
  • ففي عالم التوحيد، يوجد مبدأ واحد، وهو مبدأ النور، ومبدأ الوجود والكرم واللطف والرحمة؛ فرحمته هي التي أوجدت حتّى الشيطان، ولطفه هو الذي أحدث الشيطان، فلا داعي لكي نأتي، ونتشاجر مع الله تعالى، ونقول له: «إذا كنت إلهًا، فلماذا خلقت الشيطان؟! وإذا كان المقرّر أن يعبدك الناس، فلماذا أوجدت هذا الشيطان، حتّى يوسوس إليهم؟! فلا توجده من الأساس!»؛ لأنّه تعالى سيقول: «إنّه ناشئ بدوره من لطفي، فأنا أريد إيصالك إلى كمالك، وأرغب في رفعك من هذا العالم، إلى العرش الأعلى، غاية الأمر أنّ هذا الإيصال يحتاج لذلك الموجود، وهذه الحركة تستدعي هذا المخلوق؛ فعليه أن يبقى إلى جانبك».

  • لطائف توحيديّة من قصّة يوسف عليه السلام

  • فإذا كان يوسف يُحبّ الوصول إلى مقام الرسالة، فعلى الشيطان أن يوسوس له، ليقول عبارة {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ...}۱ لذلك الرجل. فلماذا أتيت إلى السجن يا حضرة يوسف (على نبيّنا وآله وعليه السلام)؟ حتّى لا ترتكب المعصية.. أحسنت، حسن جدًّا! فأنت تمتلك منزلة عظيمة؛ لأنّ جميع الأسباب كانت مهيّأة لك، لكنّك أعرضت عنها، وكانت كافّة المعدّات متوفّرة لديك، غير أنّك غضضت النظر عن الفعل الحرام، بل إنّك اخترت لنفسك [السجن]، حيث قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ...}٢؛ أي: يا إلهي، إنّ السجن أفضل عندي من هذا الأمر الذي يطلبنه منّي، وأهمّ لديّ من رغباتهنّ، فسأذهب إلى السجن، وأختار العيش فيه، ولا أقوم بذلك العمل. حسن جدًّا، إلى هنا، سلوكه صحيح؛ لكن، منذ تلك اللحظة، انطلق العدّاد؛ فمرّ يوم: ماذا؟! ما الذي حصل؟! عليّ أن أبقى في السجن في الليل، وفي النهار أيضًا! فأنا أتيت إلى هنا من دون ارتكاب أيّ محرّم! ثمّ يأتي اليوم الثاني: أين هي رحمتك يا إلهي؟ وانتبهوا فهذه أمور تحصل لنا! ثمّ يحلّ اليوم الثالث والرابع: ما هذا؟! فأنا مضطرّ للنظر هنا إلى الحائط والسقف فقط! والظاهر أنّ سجنه كان شاقًّا، فماذا يُسمّون ذلك؟ يسمّونها زنزانة انفراديّة، أو غير ذلك؛ فقد كان سجنه من هذا القبيل، أو أنّه كان كبيرًا؛ ثمّ يأتي اليوم الرابع، والخامس، وينقضي الأسبوع الأوّل.

    1. سورة يوسف، الآية ٤٢.
    2. سورة يوسف، الآية ٣٣.

نظرة العرفاء للشيطان

21
  • كما أنّ ذلك الرجلين اللذين ألقى بهما الملك في السجن لم يأتيا عند يوسف منذ الوهلة الأولى، بل مرّت مدّة معيّنة، فمرّ شهر أو شهران، ثمّ رأيا أنّه وحده، وتهيّأت بعض الأمور، فجاءا عنده، ثمّ انقضت فترة معيّنة، فرأيا حلمًا، حيث رآ أحدهما أنّه يعصر للملك عنبًا، ورآ الآخر أنّ طعامًا وخبزًا قد وضع على رأسه، وأنّ الغربان تأتي وتأكل منه؛ فقال لهما: أمّا أنت، فقد انتهى أمرك، فاكتب وصيّتك؛ إذ حينما سيأتون غدًا، فإنّ الإعدام والمقصلة ينتظرانك؛ وأمّا أنت، فإنّك سترجع إلى عملك، وتقوم للملك بكذا وكذا؛ لكن حينما أراد الذهاب، همس له في أذنه بهدوء: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ...}۱؛ أي: لا تنس أن تحكي للملك عن قصّتي! فقال له الله تعالى: حسن جدًّا، فإذن أنت تقول: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}! سوف أريك {اذْكُرْنِي} هذه؛ فأنت بقيت في السجن شهرين، لكن، عليك أن تظلّ هنا سبع سنوات، فتبقى مقيمًا عندنا، لكي نتحدّث معًا، ونتناجى؛ فإلى أين تريد الذهاب؟ فهل تريد الذهاب إلى المجتمع والخارج؟ انظر إلى الأجواء اللطيفة الموجودة هنا، فلا يوجد من يُزعجك أو يُعكّر صفوك، فتعال لكي نُصبح رفقاء!

  • {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ‌}٢؛ فمن هذه الناحية، جاء الشيطان، ووسوس لنبيّ الله يوسف، ومن تلك الناحية، ذهب عند ذاك، وأوقعه في النسيان؛ وحينئذ، لو أنّ الشيطان لم يُنسه، لتمكّن يوسف عليه السلام من الخروج؛ لكن، هل كانت نقطة ضعفه هذه ستُصلح أم لا؟ لا! وعليه، من الذي خدمه الشيطان هنا؟ خدم يوسف عليه السلام؛ فانظروا، لقد جاء من هذه الجهة، وقال له: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}، فمع أنّك وصلت إلى مقامات عالية، وغضضت النظر عن الفعل الحرام، فألقي بك في السجن جرّاء هذا العمل، وتجرّعت هذه الغصص، وتحمّلت هذه المصاعب، إلاّ أنّ ذلك لا يكفي، ولا يزال الطريق طويلاً أمامك يا عزيزي!

  • أيّها الرفقاء! هل تظنّون أنّ الأنبياء صاروا أنبياء هكذا بعدما استيقظوا في الصباح؟! لا يا عزيزي! لقد عانوا كثيرًا حتّى أصبحوا أنبياء؛ فالمسألة ليست من قبيل تربية الفراخ، حتّى تتطلّب عشرين يومًا فقط، بل صُبّت عليهم آلاف الابتلاءات والمصائب وأمثال ذلك؛ ولو أنّنا أجبرنا على البقاء في السجن مدّة سبع سنوات، لطفقنا نشتم الله تعالى والأنبياء وكافّة قبائل الملائكة من أوّلها إلى آخرها ثلاثين مرّة كلّ يوم؛ لكن ما الذي حصل؟ جاء الشيطان، وأبرز أمامه نقطة ضعفه تلك، وقال له: أ ما زلت تجعل لله تعالى شريكًا؟! أ لم تقرأ حديث الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ حينما يقول: على العبد أن يُفوّض أموره إلى الله تعالى؟! هذا، مع أنّ نبيّ الله يوسف كان يمتلك منزلة عالية؛ وأمّا نحن، فقد قرأنا هذه الرواية، لكن ينبغي أن نوفّق للعمل بها؛ وهذا أيضًا علينا أن نطلبه من الله تعالى؛ ونرجو منه سبحانه أن يُوفّقنا بأجمعنا لهذه المسائل.

    1. سورة يوسف، الآية ٤٢.
    2. سورة يوسف، الآية ٤٢.

نظرة العرفاء للشيطان

22
  • ففي هذه السنوات السبع التي قضاها هناك، كان كلّ سنة يتغيّر، ويتغيّر، ويتغيّر، إلى أن لم يبق لوجوده في السجن أيّة فائدة؛ وفي ذلك الحين، تذكّره فجأة، وقال: «بالمناسبة، قبل سبع سنوات، كان لي رفيق في السجن»، فحينما حصل ذلك الحلم للملك، وعجز عن تفسيره، تذكّر ذاك الرجل فجأة، وقال: «قبل سبع سنوات، كان هناك رجل يُفسّر الأحلام في السجن، وكان تفسيره جيّدًا جدًّا، وقد طلب منّي أن أحدّث بهذا الأمر، لكن، يا ويلتاه، لقد تركت ذلك المسكين في السجن مدّة سبع سنوات يشرب فيها الماء البارد!»؛ فجاء عند الملك، وقال له: «أجل، هناك رجل ...»، فقال الملك: «أحضروه»؛ فخرج يوسف عليه السلام من السجن، وجاء؛ وحينئذ، ماذا صار؟ الآن فقط صار نبيًّا، والآن فقط لم يعد السجن هو مكانه، والآن فقط يتعيّن عليك أن تسعى للقيام بأمر التبليغ، والآن فقط عليك أن تدخل للمجتمع؛ ومن هنا، عليك أوّلاً يا عزيزي أن تصل إلى تلك النقطة، ثمّ تسعى بعد ذلك للأخذ بزمام أمور الناس، وعليك أن تبلغ هذه الدرجة ثمّ تتكفّل بالأمور، وإلاّ، فإنّ الأخطار كثيرة إلى ما شاء الله تعالى؛ ولهذا، فإنّ العرفاء جاؤوا، وجعلوا العمل والهمّ واحدًا، وقالوا: قل الله، ثمّ دع عنك كلّ شيء؛ فالنظرة الثنائيّة لا مكان لها في العرفان والتوحيد.

  • أذكر ذات يوم أنّ أحد الرفقاء السابقين للمرحوم العلاّمة ـ وكان يمتلك صوتًا جميلاً ـ كان يقرأ له مناجاة الخواجة عبد الله، ويبدو أنّه كان في مجلس يحضره بعض الأشخاص؛ فكان يقرأ هذه المناجاة إلى أن وصل إلى هذه الفقرة: (من تو را از خود ناراضى وشيطان را از خود راضى وخشنود كردم)۱، فقال المرحوم العلاّمة: «قف هنا؛ فهذا هو الأمر الذ يتعارض مع طريق السيّد الحدّاد»؛ وقد حصلت هذه المسألة قبل فترة طويلة من الزمان، حيث أذكر أنّها وقعت حينما كنت أبلغ العاشرة من العمر، أي قبل سبعة أو ثمانية وثلاثين سنة؛ فقال له: هذا يتعارض مع مسلك السيّد الحدّاد؛ إذ لا يوجد الشيطان في مسلكه، وليس الشيطان بشيء، حتّى أرضيه؛ أ فهل جعلت الشيطان في مقابل الله تعالى؟! فإن قلت: «لقد أغضبتك»، فهذا أمر [جيّد]، لكن، إن قلت: «لقد أرضيت الشيطان»، فإنّك ستكون قد وضعت الشيطان إلى جانب الله تعالى، بينما لا يمتلك الشيطان أيّ وجود [في مقابله تعالى]، وليس بشيء ذي بال.

    1. ومعناها: إلهي، لقد أغضبتك، وأرضيت الشيطان

نظرة العرفاء للشيطان

23
  • ففي طريق التوحيد وأهله، لا يوجد إلاّ مبدأ واحد؛ وهو عبارة عن الحقّ تعالى؛ ولهذا، فإنّ العظماء كانوا يوصون السالك دائمًا بعدم إدخال الشيطان في عمله، وبألاّ يجعل الخوف منه هو الباعث للامتثال للأمر أو النهي؛ لأنّ هذا العمل يختصّ بالعوامّ؛ فعلى السالك أن يقصر نظره على الله تعالى؛ فإن أمر هو بشيء، أقوم به، وإن نهى هو عن شيء، أحترز عنه؛ وإن قال هو: اسلك هذا الطريق، أسلكه، من دون أن أُحضر في بالي أنّ هناك موجودًا اسمه الشيطان؛ هذا، مع أنّه يقوم من جهته بالوسوسة، ويُنجز مهمّته؛ لكن، علينا نحن في مقام العمل أن نقصر النظر على التوحيد فقط؛ وذلك لكي نختصر الطريق ونطويه؛ وهنا، تتجلّى للإنسان حقيقة التوحيد، وتبرز أمامه مسألة «لا إله إلاّ الله، ولا إله إلاّ هو»، ويتّضح لديه المبدأ؛ وحينما نقوم بهذا الفعل، فإنّ وساوس الشيطان ستبهت قوّتها، وما إن تأتي هذه الوساوس، وتخطر في الذهن، حتّى تُنحّيها تلك الحركة التوحيديّة، ليستمرّ الإنسان في طريقه، من دون أن يسمح لها بالبقاء في ذهنه، والخطور على باله؛ وما هو السبب في ذلك؟ سببه أنّ الإنسان نحّى الشيطان، ولم يعُد يُفكّر فيه أبدًا؛ ولنفرض مثلاً أنّ أحدهم يكون عدوًّا للإنسان، بحيث تكون قد حصلت له معه بعض القضايا؛ ففي هذه الحالة، هل سيرغب الإنسان في تذكّره، أم أنّه سيسعى لنسيانه؟ وحينما تحصل للإنسان حادثة مريرة في السنوات الماضية، هل نجده يُخطر هذه الحادثة في ذهنه، أم أنّه سيسعى لعدم مواجهة المشاهد التي تُجدّد تلك الخواطر في نفسه؟

  • فعندما نقوم بتصوير الشيطان في أذهاننا كموجود مرعب جدًّا، فإنّنا سنكون بذلك قد أضعفنا أنفسنا في مقابله، وغضضنا الطرف عن تلك القدرة التي أودعها الله تعالى فينا؛ وهي عبارة عن ذلك الربط والتعلّق بالتوحيد، وكشحنا النظر عن جانب التوجّه إلى الحقّ، والعبور من هذا المطبّ بواسطة ولايته تعالى، وقمنا في المقابل بتضخيم الشيطان في وجودنا، وجعلنا له مكانًا في أنفسنا؛ ولهذا السبب، فإنّ منهج ومدرسة العظماء وأولياء الله تعالى وأهل الحقّ كانا يتمثّلان في عدم الالتفات إلى الشيطان من الأساس، وفي النظر إلى الله تعالى، لا إلى أيّ شيء غيره؛ فهذه هي حقيقة التوحيد، وهذا هو الطريق الذي يوصل الإنسان إلى هذه الحقيقة.

نظرة العرفاء للشيطان

24
  • نختم البحث عند هذه النقطة، لكي نتطرّق في الجلسة اللاحقة إن شاء الله تعالى إلى بقيّة الفقرات.

  • نرجو من العليّ القدير ـ إن شاء تعالى ـ أن يُوفّقنا جميعًا أكثر، ويضعنا في ذلك المسار والطريق الذي يوصل الإنسان إلى المبدأ والطريق بشكل أسرع وأدقّ وأصوب، ويحلّ جميع مشاكلنا ويُرمّم كافّة نقاط ضعفنا ببركة التوسّل بمقام ولاية حضرة بقيّة الله أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد

  •