103

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

8905
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةحقيقة الدنيا والشيطان

التاريخ 1425/04/23

جلسات المجموعة(6 جلسة)

التوضيح

هل يوجد بعد سلبيّ في خلق الشيطان؟ ما هو السرّ في سجود الملائكة لآدم عليه السلام وأفضليّته بالنسبة إليها؟ ما هي طرق إغواء الشيطان للإنسان؟ ما هو دور الشيطان في تفعيل الاختيار الإنسانيّ؟ كيف يعمل الشيطان على إظهار الأمور المكنونة في نفس الإنسان؟ كيف يصير الإنسان من أعوان الشيطان وأعيانه؟ ما هي خصائص الشيطان وجنوده؟ كيف يُمكن للإنسان مواجهة وساوس الشيطان؟ هي أسئلة سعى سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه للإجابة عنها في هذه المحاضرة الشريفة التي عقدها تكملةً لبحثه عن فلسفة خلق الشيطان، والحكمة من وجوده في هذا العالم، وعلاقته بسير الإنسان وسلوكه نحو الله تعالى؛ علاوةً على تطرّقه لموضوعات مهمّة أخرى.

/۲۸
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

  •  

  • شرح حديث عنوان البصريّ، المحاضرة ۱۰٣

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

2
  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد 

  • وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‌ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً}.۱ في الجلسة السابقة، ذكرنا للأحبّة أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال لعنوان: إذا وفّق الله تعالى أحدًا لتحقيق هذه الأمور الثلاثة:

  • ـ أن يُفوّض تدبير شؤونه لله تعالى؛

  • ـ ألاّ يرى ما يملكه متعلّقًا به؛

  • ـ أن يكون اشتغاله وجميع ما يرتبط به من تكاليف في مسار طاعة الأوامر الإلهيّة؛ فلا يخلط ذلك، ولا يمزجه بأيّ شيء من عنده، ولا يصبغ ذلك الكلام الإلهيّ بميوله ورغباته.

  • بعد ذلك، يقول الإمام عليه السلام: إذا صار الأمر بهذا النحو «هَانَ عَلَيهِ الدُّنيَا وإبليسُ والخَلقَ»؛٢ فلن يكون بوسع الدنيا والشيطان والناس خداعه، أو الاحتيال عليه.

  • البُعد السلبيّ في خلق الشيطان

  • في الجلسات السابقة، بينّا للرفقاء والأحبّة إلى حدّ ما فلسفة خلق الشيطان، ووصل الكلام إلى أنّ الشيطان وسيلة لرقيّ الإنسان وكماله، بحيث لولا الشيطان، لما وصل الإنسان إلى درجة الكمال؛ لكن، يبقى أنّ هذه مسألةٌ غفل عنها العديد من الناس الذين ينظرون إلى الشيطان دائمًا بنظرة الخوف والخشية والتوجّس والقلق، ويتعاملون معه كظاهرة تقتصر وظيفتها في عالم الخلق على الجوانب السلبيّة في هذا العالم؛ شأنه في ذلك شأن أحد الميكروبات. فلنأخذ ميكروبًا وبائيًا كمثال على ذلك؛ فلو أنّ أحدهم كان مصابًا بالوباء، ودخل إلى غرفة ما، فإنّ الجميع سيهربون فجأة، ويخرجون من هذه الغرفة؛ لأنّ هذه الظاهرة سلبيّة؛ وإذا أتيت، وجلست، لكي تتحدّث مع ذلك الشخص، فإنّ المرض سيسري إليك، ولا مزاح في الأمر.

  • أو لنفرض أنّ فيروسًا خطيرًا قد يُلوّث الهواء، حيث وقعت هذه الحادثة قبل مدّة قليلة في إحدى البلدان، فرأينا كيف أنّ الخوف والهلع قد انتاب كلّ أرجاء العالم، وبدأ الجميع يقولون: يا للعجب! ما هذه الظاهرة الجديدة التي حلّت بنا من دون أن يعلم بها أيّ واحد؛ وأيّ موجود هذا ابتلانا الله تعالى به، بحيث يقوم بالقضاء على الإنسان في غضون بضعة أيّام؟! وهنا، نجد الناس ينظرون إلى الشيطان بنفس النظرة؛ أي كميكروب وبائي خطير، وفيروس فتّاك، وظاهر سلبيّة لا نعلم بتاتًا لماذا أوجدها الله في عالم الخلق؛ فلو أنّه تعالى لم يوجده منذ البداية، فأيّة مشكلة كان ستحدث بسبب ذلك؟ ولو أنّه لم يخلق الشيطان منذ البداية، فأيّ ضرر كان سيلحق ألوهيّته جرّاء ذلك؟! ولو أنّ الشيطان لم يكن منذ البداية بهذا النحو ...؛ فالإشكالات المطروحة بين المتكلّمين وغيرهم تدور حول مسألة أنّه: ما الذي سينقص ألوهيّة الله تعالى، حتّى يأتي، ويخلق إلى جانب الموجودات الأخرى موجودًا اسمه الشيطان؛ فهذا هو الجانب السلبيّ من المسألة.

    1. سورة الإسراء، الآيتان ٦۱ و٦۱.
    2. بحار الأنوار، الطبعة الحروفيّة لمطبعة الحيدري، ج ۱، ص ٢٢٦ إلى ٢٤٢.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

3
  • ولا يخفى أنّه: لا كلام لنا بخصوص أنّ الشيطان يُغوي ويُوسوس، ونحن بأجمعنا مطّلعون على سيرة هذا العظيم وأحواله، وعلى وظيفته ومهمّته؛ سواءً كان يُؤدّي هذه المهمّة من تلقاء نفسه، أو بتكليف من الله تعالى؛ فنحن لا علاقة لنا الآن بهذه المسألة؛ لكن، على أيّ تقدير، فإنّ مهمّة الميكروب عبارة عن مهمّة تدميريّة وهجوميّة، ولا يكون أبدًا تسلُّله إلى البدن في مصلحة الجهاز الهضميّ، أو بهدف مساعدة جهاز المناعة، بل هدفه الدائم هو الدمار؛ فالفيروس عبارة عن موجود وظاهرة وجوديّة تُهدّد سلامة الإنسان وصحّته.

  • فجميعنا نحن الجالسون هنا مطّلعون جيّدًا على هذا العمل الذي يقوم به الشيطان، ونعلم أنّ فعله يتجلّى في إبعاد الإنسان عن التقرّب من الله تعالى؛ فتجد أحدهم يريد أن يؤدّي فعل خير، لكن، في نفس تلك اللحظة يخطر على باله أمر؛ فمن الذي أورد على ذهنه هذه الخاطرة؟ إنّه هو الذي أوردها! وتجده يريد أن يساعد أحدًا، فما إن يسع نحو ذلك، حتّى تُطرح في ذهنه الأبعاد المختلفة للمسألة: إذا كنت تريد أن تقدّم الآن هذه المساعدة، فكم ستحصل في مقابلها؟ ومن الذي سينتفع منها؟ وما علاقة هذا الأمر بك أنت؟ فإذا ذهبت إلى المكان الفلاني، فستجني ربحًا آخر؛ وأمّا الآن، فلم يعد أيّ واحد يهتمّ بالآخرين! فما إن يُقدم على فعل خير، حتّى يبدأ فجأة بملاحظة الاعتبارات المادّية والدنيويّة.

  • ويُريد أن يدعو أحدهم لمجلس عزاء وترحيم وطلب المغفرة... لا تقولوا عنه مجلس تأبين وتعظيم؛ لأنّ ذلك مجرّد هراء! فهذه المجالس عبارة عن مجالس للترحيم وطلب المغفرة والرحمة؛ وأمّا التأبين والتعظيم، فالمراد منه التضخيم والنفخ! هل رأيتم النُّفّاخة (البالون)؟ فحينما تنفخ فيها، ما الذي يحصل؟ تصير هكذا، ثمّ تنفخ فيها، فتصير أضخم، وتنفخ فيها مرّة أخرى، فتُصبح أضخم؛ وهكذا، إلى أن تصير ضخمة جدًّا، فتنفجر فجأة. إنّ العديد من التأبينات يوجد فيها خطر الانفجار، فعلينا أن نكون حذرين! لأنّ التأبين والتعظيم ـ وبكلّ صراحة ـ معناه النفخ، كما أنّ المرحوم العلاّمة لم تجر على لسانه كلمة التأبين والتكريم، ولو لمرّة واحدة، وفي مقابل ذلك، كم هي جميلة كلمة الترحيم، وكذلك مجلس طلب المغفرة ومجلس الترحيم وطلب الرحمة! فعليك أن تنظر إلى المسائل التي يُواجهها الآن ذلك المسكين في القبر؛ وبدلاً من أن تُفكّر في نفسك، عليك أن نُفكّر فيه هو؛ لأنّك تريد من خلال هذه الأمور أن تُعظّم نفسك أنت؛ وأمّا هو، فقد دُفن تحت التراب، ولا يُسمع له أيّ صوت؛ وعليه، فإنّ ذلك التأبين والتعظيم والتكريم هو تعظيم وتكريم لنفسك أنت، لا لذلك الميّت!

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

4
  • فتجدهم يقولون في مجالس التأبين هذه: من هو الخطيب الذي ينبغي علينا استدعاؤه؟ علينا استدعاء الخطيب الذي يقوم بالنفخ في هذا البالون، ويضع الألقاب تلو الألقاب؛ فتجد ذلك الميّت يرتجف جسده في القبر، بينما يعمل الخطيب من فوق المنبر على رفعه أكثر فأكثر؛ فيقول له: «يا عزيزي، أنا لست رفيعًا إلى هذه الدرجة، حتّى تسعى أنت لرفعي بهذا النحو؛ فأنا هنا خاوي الوفاض، وأقدّم حساب أعمالي واحدًا واحدًا»؛ في حين أنّ ذلك الخطيب ينفخ وينفخ، ويتحدّث عن قدرته ومكنته وغناه؛ هذا إذا كان من أهل هذه الأمور؛ وأمّا إذا كان مثلنا نحن، فإنّه يتحدّث عن أمور أخرى جذّابة وممتعة! فيقول: «لقد كان بهذا النحو، وذلك النحو».. هلاّ أتيت، وتحدّثت عن مقدار أدائه لصلاة الليل! وعن درجة إخلاصه في العمل! وعن حجم مساعدته للفقراء! وعن مقدار نظره لله تعالى في شؤونه! وكم عمل برواية عنوان البصريّ طيلة حياته! فهل نسمع مثل هذا الكلام؟ لا، بل مجرّد النفخ! فهذا الذي يعنيه التأبين والتعظيم.

  • فإذا أردنا استدعاء أحد الخطباء، فمن هو الخطيب الذي نحرص على استدعائه؟ فإذا قمنا باستدعاء فلان، فإنّه سيتكلّم بالحقّ، وهذا لن ينفعنا في شيء؛ وبالتالي، لن يتمكّن من أن يُؤدّي للمجلس حقّه! فعلينا أن نستدعي خطيبًا ينسجم معنا، وحينما يأتي، يضرب في الصميم! فتجد أحدهم، حينما يُريد استدعاء خطيب، تُطرح أمامه عدّة موارد، ويقول مع نفسه: «هذا سيعتلي المنبر، ويقول الحقّ؛ ولهذا، لن ينفعنا، ولن نجني أيّة فائدة من المجلس، ولن يكون هذا المجلس مجلس تعظيم؛ وأمّا إذا أتى ذاك، فإنّ الأمر سيكون مختلفًا، وسيقوم بما ينبغي، ويعمل على رعاية شؤون المجلس، ويسوق الأمور وفق ما نريده نحن؛ فهذا الذي ينفعنا»؛ فيرفع سمّاعة الهاتف، ويقول له: «نريد أيّها السيّد أن نستدعيك للمجيء إلى المكان الفلاني»، فيقول ذاك: «في نهاية المطاف، الحساب حساب، والحسابات الجيّدة تصنع أصدقاء جيّدين! ولكلّ شيء مكانه الخاصّ»، فيسعى للرفع من المبلغ، إلى أن يحصل بينهما توافق! فيأخذ إكراميّته، ويُؤدّي للتأبين حقّه على أحسن وجه! فهذا هو عمل الشيطان! وحينما ينتهي من عمله، يجلس جانبًا، ويبدأ بالتصفيق، ويقول: «أنعم به وأكرم، لقد حقّقت هدفي، ونلت مبتغاي!»؛ وخلاصة القول، علينا الاستعاذة بالله تعالى؛ لأنّ الموضوع خطير جدًّا، والمسألة دقيقة وحسّاسة، ونحن على علم بها؛ وإلاّ، لما كنّا مسؤولين عنها، ومكلّفين بها، بل إنّنا مطّلعون عليها جيّدًا.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

5
  • تنزّل الروح الإنسانيّة من مقام الذات الإلهيّة

  • فهذا هو الجانب السلبيّ من الموضوع، والبعد السلبيّ في خلق الشيطان؛ لكن، أ فهل إنّ الله تعالى عاطل عن العمل، حتّى يأتي، ويخلق موجودًا يكون عمله الدؤوب هو التدمير، وهدم الاستعدادت، والقضاء على القابليّات؟! إنّ فعل الله منزّه عن العبث واللغو واللهو، بل فعله تعالى عين المصلحة، وعين الحقّ والواقع.

  • هذا، وقد بينّا في الجلسة السابقة أنّ الهدف من خلق الإنسان هو بلوغ تلك الدرجة المنشودة، والوصول إلى مقام الخلافة الإلهيّة؛ والله تعالى واجد في مرتبة ذاته لكافّة أوصاف الكمال، ولوازم النعوت الجماليّة والجلاليّة؛ أي أنّ الذات الإلهيّة المتعالية أصل الخير والوجود، كما أنّ ما يترشّح من هذه الذات يقوم بأجمعه على أساس هذه الخيريّة وهذا الصلاح والحُسن؛ لكن، بالنظر إلى جامعيّة الصفات الإلهيّة، فإنّ الآثار الصادرة من الله تعالى تتوفّر على مراتب متعدّدة، حيث نُشاهد في هذا العالم بعينه وجود جمادات، وحيوانات، ونباتات، وموجودات لطيفة، وموجودات كثيفة، ويوجد فيه إنس وجنّ وملائكة، كما أنّ هناك عالم عقول وعالم أرواح؛ وجميعها عبارة عن تجلّيات مختلفة للباري تعالى. وتُساهم الصفات التي تتّصف بها الذات في تشكّل الأشياء الخارجيّة وصياغتها وترتّبها، وذلك باعتبار الدرجة والمرتبة التي تحتلّها هذه الصفات؛ أي: حينما يخلق الله تعالى موجودًا من الموجودات، فإنّه يُفيض عليه خصائصه وآثاره الوجوديّة بما يتناسب مع مستواه الاستعداديّ ودرجته الماهويّة؛ ولهذا، فإنّ الاختلاف المشهود في العالم يرجع بأسره إلى هذه المسألة.

  • فالقابليّات الوجوديّة التي تتوفّر عليها الأشياء الخارجيّة مختلفة؛ فنجد أنّ هناك جمادًا، وهناك نباتًا؛ أي أنّ هذا النبات يمتلك الجماديّة بعينها، علاوةً على النموّ والتكاثر؛ وكذلك أيضًا إذا نظرتم إلى موجود آخر، كالحيوان، حيث تجدونه يتوفّر على الخصائص نفسها، مع زيادة؛ وهكذا، إلى أن نصل إلى درجة الملائكة، حيث يكون العقل التامّ والصلاح الكامل والحُسن المطلق هو الحاكم على هذه المرتبة؛ والتي لا يوجد فيها أيّ استعداد، بل هناك فعليّة محضة؛ فهذا العالم هو عالم الملائكة. وفي مقام أعلى من الملائكة، يوجد موجودٌ خلقه الله تعالى، تكون مرتبتُه أرقى، وفعليّتُه عين فعليّة الذات الإلهيّة؛ أي أنّه عبارة عن موجود صاغ اللهُ تعالى وجودَه بجميع صفاته وخصائصه الذاتيّة، لكن بشكل محدود.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

6
  • ومن هنا، فإنّ هذا الوجود ـ الذي هو عبارة عن وجود متنزّل لله تعالى ـ قد تحقّق في هذا العالم باسم الإنسان؛ فالروح التي ترشّحت من هذا الوجود تنزّلت من الذات الإلهيّة، واستقرّت في قالب اسمه الجسم؛ ولا يخفى أنّ قولنا باستقرارها في هذا القالب هو قول مجازيّ، وإلاّ، فإنّ القالب مسخّر من قبل الروح، لا أنّ الروح ...؛ لأنّ المجرّد لا يُمكنه قبول الوعاء المادّي؛ فهذا الوعاء والظرف المتمثّل في المادّة يقع تحت تسخير الروح والنفس، وهو تسخير فعليّ وفاعليّ، بينما يكون البدن قابلاً. فهذه الروح التي صدرت من الله تعالى عبارةٌ عن موجود مجمل يُراد منه إظهار آثار الله تعالى في الخارج، وإبرازها بنحو كلّي؛ لكن، لكي يصل هذا الموجود المجمل إلى هذه المرتبة من الفعليّة، عليه اجتياز دورة، وقطع مرحلة، وسلوك طريق معيّن، حتّى يخرج من مرتبة الإجمال التي تتمثّل في مرتبة الذات، ومرتبة الهوهويّة، والتي لا يُمكن الإشارة إليها، أو الحديث عنها، أو التفكّر فيها، بحيث يكون فكر الإنسان في مقابلها ألكن؛ لأنّ الفكر عبارة بحدّ ذاته عن ظاهرة تقع ما دون الذات؛ وبالتالي، أنّى أن يكون لظاهرة تقع ما دون الذات الإلهيّة إحاطةٌ وإشرافٌ عِلميّان بكنه هذه الذات؟! وبناءً عليه، بوسعنا أن نمتلك مجرّد تصوّرات مبهمة عن هذه المرتبة.

  • وحينئذ، فإنّ مرتبة الذات المتمثّلة في مرتبة الهوهويّة قد تنزّلت، وتعلّقت بهذا القالب والجسم على شكل نفس مجملة ومبهمة، حيث يقول الباري عزّ وجلّ: {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ}۱؛ فما دام آدم ملقىً على الأرض على شكل طين ...، فلنفرض أنّ نبيّ الله آدم عليه السلام هو أحد الموتى الموجودين في المشرحة، فإنّ الملائكة لا يجوز لها أن تسجد له؛ لأنّه مجرّد بدن؛ فهي لم تسجد للجسد، وعلينا أن نلتفت إلى هذه المسألة الدقيقة، حتّى إذا وصلنا إلى الحديث عن الشيطان، فإنّنا سنكتشف الخطأ الذي ارتكبه هنا. فإذا ذهبنا الآن في هذه الساعة من يوم الجمعة إلى مستودع الأموات الواقع في هذه المقبرة، فإنّنا سنراهم قد أحضروا مجموعة من الجثث، وكلّها تتعلّق بأفراد الإنسان والبشر؛ وفي هذه الحالة، لنفرض أنّهم وضعوا عشرة منها في مقابل بعضها، فإنّ خطاب {اسْجُدُوا لِآدَمَ‌} لا يتعلّق بها لأنّها مجرّد جثث؛ وهل توجد علاقة بين هذه الجثث، وبين آدم عليه السلام؟ وحتّى لو صففت ألفًا من هذه الجثث إلى جنب بعضها، فإنّ خطاب {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ‌} لن يتعلّق بها؛ لأنّها بأجمعها مجرّد لحم وعظم وشعر، والخروف يتوفّر بدوره على هذه الأمور؛ غاية الأمر أنّ وزنه يبلغ ثلاثين كيلوغرامًا، بينما يبلغ وزن ذاك مائة وثلاثين كيلوغرامًا، ويتوفّر هذا على شكل معيّن، في حين أنّ ذاك يتوفّر على شكل آخر؛ وهذا له أربعة قوائم، بينما ذاك له رجلان؛ وأمّا المسألة والقضيّة، فواحدة من دون أن يوجد فيها أيّ اختلاف.

    1. سورة الحجر، الآية ٢٩.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

7
  • السرّ في سجود الملائكة لآدم عليه السلام وأفضليّته بالنسبة إليها

  • فما دام آدم على صورة الطين والتراب، فإنّ شأنه هو شأن الجثث الموضوعة في المقبرة، فلا يكون الخطاب متعلّقًا بها؛ لكن، حينما قال الله تعالى: {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}؛ فحينما بدأت تلك الجثّة بالحركة، ففي ذلك الحين {فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ}؛ لكن، أ فلا يتحرّك الخروف هو أيضًا؟! أ فلا تتحرّك قطعان الخرفان أيضًا؟! فلماذا [لم تسجد] الملائكة لها، مع أنّ لحمها ولحم الإنسان واحد، ودمهما واحد؛ وصحيح أنّ هناك عددًا من الفوارق بينهما في بعض الخلايا وأعضاء البدن وفي ثلّة من الخصائص، إلاّ أنّهما مع ذلك متّحدان؛ فالدم دم، ولو أنّ فصيلة هذا تختلف عن فصيلة ذاك؛ لكن، أ لا يختلف أفراد الإنسان أيضًا في فصيلة الدم، بحيث إذا تلقّى أحدهم دمًا من فصائل الدم المغايرة، فإنّه سيموت في الحين؛ ولهذا، ينبغي أن تكون فصائل الدم متوافقة؟ فهذا الأمر ليس هو الذي يُشكّل الفارق. وحينما بدأ جسد آدم بالحركة، فما هي الظاهرة التي حدثت، حتّى تعلّق خطاب السجود بالملائكة؟ هذه الظاهرة عبارة عن الروح الإلهيّة؛ إذ لو كانت الظاهرة التي حصلت تُشبه الملائكة، هل كان هؤلاء سيؤمرون بالسجود؟ لا! لماذا؟ لأنّها ستكون شبيهة لهم، وبالتالي، لن يكونوا بحاجة هنا إلى السجود.

  • هل حدث من قبل أن أجريتم معاملة حصل فيها البائع والمشتري على نفع مساو؟ كأن تُعطي مثلاً ألف تومان، وتحصل في مقابلها على سلعة تُساوي ألف تومان بالضبط؛ أجل، قد تشتري سلعة تساوي ألف ومائة تومان، لكنّك تشتريها بألف تومان، حتّى تربح منها مائة تومان؛ وأمّا أن تشتري سلعة بنفس القيمة التي تُساويها في السوق، فإنّ هذا عمل لا يُقدم عليه أيّ عاقل؛ إذ لم تحصل هنا على أيّ ربح، بل حصلتَ على نفس المبلغ الذي دفعته؛ وهو عمل لا يُقدم عليه أيّ عاقل.

  • فإذا كان من المفروض أن تسجد الملائكةُ لموجود يُناظرها في الدرجة والبنية الوجوديّتين، ويُماثلها في الصفات والملكات، فإنّ ذلك لن يكون باعثًا على السجود، بل إنّ هذا السجود سيكون عبثًا ولغوًا؛ هذا، إذا كان مماثلاً لها، وأمّا إذا كان أوضع منها، فالأمر أوضح؛ وعليه، ما هو الشيء الموجود هنا الذي دفع الملائكة للسجود؟ هو عبارة عن حقيقة أدركها الشيطان، ولم تُدركها الملائكة.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

8
  • ذات يوم، كنت في محضر المرحوم السيّد الحدّاد، وذلك في السفر الذي تشرّفت فيه بالزيارة برفقة المرحوم العلاّمة؛ إذ كنت أبلغ آنذاك السابعة عشرة من العمر، فدار الكلام في إحدى الليالي عن كيفيّة خلق الشيطان؛ وفي تلك الليلة، باح لنا بسرّ لم أسمع به إلى ذلك الحين، حيث قال: لقد كانت من عادة السلاطين والملوك السابقين أنّهم حينما كانوا يشعرون في أواخر حياتهم باقتراب أوان موتهم ...، فقد كانوا يملكون رقاب الجميع، وكانت خزائن البلاد بأيديهم، وكان بوسعهم القيام بأيّ تلاعب، من دون أن يجرأ أحد على مساءلتهم أو محاسبتهم؛ فقد وصل هؤلاء الملوك إلى مقام الألوهيّة والربوبيّة! هل تعلمون لماذا؟ لأنّ الله تعالى يقول: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‌}۱؛ أي: لا يُمكن لأيّ أحد أن يُسائل الله تعالى يوم القيامة، بينما سيُساءل جميع الناس. فبوسع الإنسان أن يُكرّم بمقام الربوبيّة ويرتقي إليه، بحيث لا تُمكن مساءلته عن أيّ عمل يقوم به!! ولا يخفى أنّ هذا أيضًا مقام من المقامات!!

  • لقد كانت خزانة الدولة وجميع أوضاع البلاد بيد هؤلاء الملوك؛ كالذهب والمجوهرات وأمثال ذلك؛ فكان أحدهم يستدعي مهندسًا معماريًّا، ويأمره ببناء مخزن في مكان خارج المدينة، لكي يضع فيها تلك المجوهرات، فيكون بمثابة كنز لا يطّلع عليه أيّ أحد؛ فكان تعيس الحظّ ذاك يأتي، ويغترّ بمنح السلطان ووعوده الواهية، ويذهب برفقة البنّائين والخدّام والعمّال لتشييد بناء معيّن، وحينما يُنجزون عملهم بشكل كامل، كانوا يعمدون في منتصف الليل وبنحو بالغ السرّية إلى نقل جميع الخزينة إلى هناك، ثمّ يختمون عليها بالشمع! وبعد ذلك، كان يأتون بذلك المعماريّ وكافّة العمّال إلى القصر، ويقتلونهم جميعًا.

  • فهذا سرّ، ولا ينبغي أن يطّلع عليه أيّ أحد؛ فلو جاء ذلك المعماريّ، وباح به إلى زوجته، أو قام أولئك العمّال بإطلاع بقيّة الناس عليه، فإنّ كافّة تلك المجهودات ستذهب أدراج الرياح؛ وقد كان أولئك المساكين غافلين عن المصائب التي ستحلّ بهم جرّاء تلك المواهب المـَلَكيّة! فكانوا ينخدعون بها، ويُزهقون أرواحهم بسبب ذلك؛ ولهذا، لم يكن لأيّ أحد في العالم اطّلاع على هذه المسألة؛ ووحده الملك الذي يكون عالمـًا بالموضع الذي أخفى فيه ذلك السرّ.

    1. سورة الأنبياء، الآية ٢٢.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

9
  • ولا يخفى أنّهم يقومون الآن بالعمل ذاته! فإذا أرادوا أن يُنجزوا عملاً معيّنًا، أو يُعدموا إنسانًا من دون أن يعلم بذلك أيّ أحد، فإنّهم يلجؤون إلى قتله، ثمّ يُعدمون بعد ذلك قاتله؛ فهكذا سمعت، ولا أعلم هل هذا صحيح أم لا؛ لكن، مبدئيًّا، ينبغي أن يكون الأمر بهذا النحو، لكيلا يبقى بعد ذلك أيّ أثر أو بصمة لهذا العمل! فأولئك [الملوك] كانوا يلجؤون للفعل ذاته.

  • اطّلاع الشيطان على سرّ سجود الملائكة لآدم عليه السلام وتوعّده بإلجام ذريّته

  • كان المرحوم السيّد الحدّاد يقول: حينما وضع الله تعالى حقيقته الوجوديّة في آدم، كان الشيطان يتفرّج على ذلك؛ فلا تظنّوا أنّ الشيطان مجرّد موجود عاديّ! لقد اطّلع الشيطان على السرّ الذي أودعه الله تعالى في آدم، وأدرك أنّ هذا المخلوق يختلف عن بقيّة المخلوقات، وفهم أمرًا لم تفهمه الملائكة؛ وهنا تكمن حقيقة المسألة، حيث قال له الله تعالى: بما أنّك استوعبت هذا الأمر، فعليك أن تأتي [وتسجد]؛ لأنّك اطّلعت على هذا السرّ.

  • التفت الشيطان إلى الله تعالى، وقال له: سوف أحتفظ بهذا السرّ، ولن أبوح به لأيّ أحد، بل سأحتفظ به لنفسي؛ فقال له الله تعالى: حسن جدًّا، بما أنّ الأمر بهذا النحو، فإنّني لن أفعل لك أيّ شيء.

  • وهنا، بدلاً عن أن يلجأ الشيطان للاستفادة من هذه الفرصة لإبراز مرتبة عبوديّته، ويرى نفسه صغيرًا أمام العظمة الإلهيّة، فإنّه بدأ فجأة في استخدام شيطنته وتفعيلها، وقال: «ماذا؟ ما الذي حصل؟ لماذا لم تضع فيّ أنا هذا السرّ؟»؛ ومن هنا بدأت المسألة: {قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}؛ هل تظنّ أنّك ستُفضّل عليّ هذا؟ وبحقّ، على الإنسان أن يستعيذ بالله تعالى! {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‌ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً}۱؛ فإذا أمهلتني إلى يوم القيامة، فإنّ جميع ذريّة هذا الذي وضعت فيه ذلك السرّ ...، حيث ترون البعض يقولون في كتبهم: «لقد توفّي فلان، ومنح سرّه لأحدهم»، وغير ذلك من الخزعبلات والترّهات، أو يقولون: «لقد ارتحل فلان عن هذا العالم، ووهب سرّه لابنه، أو لجاره، أو لزوجته»، وأمثال ذلك! في حين أنّهم لم يستوعبوا حقيقة الأمر، وخلطوا بين هذا السرّ، وبين ذلك السرّ. {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ}؛ فإذا أخرّتني إلى يوم القيامة {لَأَحْتَنِكَنَّ}؛ أي سألجم جميع ذريّة هذا؛ فحينما يضعون لجامًا للفرس، فإنّه يُصبح تحت سيطرة الراكب الذي يُحرّكه كيفما يشاء، بخلاف الفرس والدابّة التي تُركب هكذا [من دون لجام]، فإنّها تمشي في الطريق الذي يحلو لها؛ ولهذا، لكي يتمكّنوا من سياقتها، فإنّهم يضعون في فمها لجامًا، ليقدروا على جرّها إلى هذه الناحية، وسوقها إلى تلك الناحية، وسحبها من هذه الجهة إلى تلك. يقول الشيطان: أنا بدوري سأضع لجامًا لبني آدم، وأسوقهم حيث أشاء، وأجرّهم يمينًا ويسارًا، {إِلَّا قَلِيلاً}؛ أي: اللهمّ إلاً ثلّة قليلة.

    1. سورة الإسراء، الآية ٦٢.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

10
  • ويوجد هنا كلام كثير بخصوص المراد من هذه الثلّة القليلة، ومن يكونون، لكن، يكفي أن أقول للرفقاء إنّ مراد الشيطان منهم الذين وصلوا إلى مقام المخلَصين؛ ولهذا، فإنّه يقول: سألجم حتّى أصحاب اليمين الذين سيدخلون الجنّة؛ لأنّ للجنّة درجات تبدأ من الدرجة الدنيا، وتنتهي بالدرجة العليا؛ فمن هم الذين لا أستطيع لجمهم؟ الذين وصلوا إلى مقام المخلَصين وحسب، حيث نجده يُقسم في القرآن الكريم: {قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}؛۱ ومن هنا، يتّضح أنّ المراد من {إِلَّا قَلِيلاً} هم المخلَصون؛ فهؤلاء فقط هم الذين لا يُوضع اللجام على أفواههم. 

  • لكن، ما هو تكليفنا في هذه الحالة؟ يقول الله تعالى: لا ضير في ذلك؛ ففي نهاية المطاف، يبقى أنّه بشر، والبشر معرّض للخطأ؛ ولهذا، على الإنسان أن يلجأ شيئًا فشيئًا للمراقبة، فيرفع تدريجيًّا ذلك اللجام عن فمه، إلى أن يتسنّى له الخروج من مرتبة النفس، وغلق النوافذ التي يتسلّل من خلالها الشيطان؛ وفي ذلك الحين، سيشرع هذا الشيطان في التغنّي بأشعار العزاء، ويقطع رجاءه من الإنسان إلى الأبد؛ لكن، ما دمنا لم نصل بعد إلى هذه المرتبة أيّها الرفقاء، فإنّ هذه الآية ستشملنا؛ وحينئذ، فإنّنا أعلم بحالنا؛ لأنّه قال ذلك بنفسه، كما أنّ ذلك مذكور في القرآن الكريم، لا أنّني جئت به من عندي.

  • فالله تعالى يقول: إن كان الأمر بهذا النحو، {قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا}؛٢ فاخرج من هنا، وستكون جهنّم هي جزاءك وجزاء من اتّبعك؛ وبعد ذلك، نجد أنّ الله تعالى يدلّه على الطريق: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ...}؛٣ أي: أَثِر قلوبهم تجاه الدنيا، وأزعجها بواسطة ندائك وصوتك ومناجاتك ووسوستك؛ لأنّ {وَاسْتَفْزِزْ} تعني أزعج وزلزل الثبات الذي ينبغي أن يكون للإنسان في مقابلي، ورباطة الجأش التي عليه أن يُبديها تجاه الحقّ، بحيث يغضّ الطرف عن جميع ما سواه، وابدأ في تليين ذلك الاستحكام {بِصَوْتِكَ}؛ فاذهب، واهمس لهم بذلك في آذانهم؛ لكن، ما هو ذلك الصوت؟ فلنترك الحديث عن ذلك الآن!

    1. سورة ص، الآيتان ۸٢ و۸٣.
    2. سورة الإسراء، الآية ٦٣.
    3. سورة الإسراء، الآية ٦٤.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

11
  • نماذج من طرق إغواء الشيطان للإنسان

  • {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}؛ فقم بهذا العمل بكلّ ما أوتيت من قوّة، واستعن بالجنود الفرسان، والجنود المشاة؛ إذ المراد من {خَيْلِكَ} الجنود الفرسان، و{رَجِلِكَ} الجنود المشاة؛ أي: أقدم على ذلك بجميع ما أوتيت من قوّة؛ لأنّ البعض يكونون أقوياء، فلا يُمكنك استفزازهم بواسطة المشاة، بل عليك الاستعانة بالفرسان؛ وبعضهم لا ينفع معهم جيش من المشاة، فعليك أن تذهب إليهم بجيش من المدرّعات؛ لأنّهم شيّدوا قلاعًا متينة، فلا يُمكن مواجهتم وتدميرهم بالآلات والوسائل العاديّة، ولا يتسنّى استفزازهم وتليينهم وترطيب قلوبهم تجاه الدنيا بواسطة ذلك، بل عليك محاربتهم بالاستعانة بمجموعة من المعدّات.

  • وما هي هذه المعدّات؟ إنّها عبارة عن وسوسة الخنّاسين، وتلك الأمور التي تُرغّب الإنسان في الدنيا؛ فالمعدّات التي تُستخدم ضدّكم أنتم لا تتمثّل في كأس الخمر والشراب المسكر؛ لأنّها عديمة الجدوى هنا، كما أنّ الشيطان لا يأتي عندكم متسلّحًا بالسرقة وأمثال ذلك؛ لأنّها لا تُفيده في شيء؛ فإذن، ما هو الأمر الذي يتسلّحه به الشيطان أمامكم؟ إنّه يتقدّم إلى الأمام بظرافة وعمق أكثر؛ [فيدفعك لكي تقول:] «أنا الذي وقعت محطّ التوفيق الإلهيّ! أنا الذي أحظى بهذه المكانة! أنا الذي يُحسب لي حساب مختلف عن حساب الآخرين! انظروا إلى المكان الذي ذهب إليه الآخرون، وانظروا إلى المكان الذي أتيت إليه أنا!»؛ فالشيطان يأتي بهذه المعدّات، ومن الواضح أنّ المسائل العادية لا يكون لها أيّ مفعول تجاه الذين تجاوزوا هذه المراحل، بل هي مخصّصة للناس العاديّين.

  • ويقول الله تعالى بعد ذلك: {شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ}؛۱ ولا يخفى عدم وجود حديث هنا عن النساء، بينما نجد الكلام يدور حول الأموال والأولاد؛ ومع ذلك، بوسعنا أن نخلطهما معًا؛ إذ لا يوجد فرق هنا بين الرجل والمرأة، كما أنّه لدينا رواية بهذا المضمون. فتعال، وشاركهم في الأموال والأولاد، وكن جليسًا لهم؛ فإذا كان أحدهم جالسًا في الغرفة مع زوجته وأولاده، فتعال أنت أيضًا، وشاركهم، واجلس معهم، وكن الجليس الرابع، أو الخامس، حيث إنّ الله تعالى هو الذي يتحدّث بهذا الكلام، ويقول للشيطان: تعال، وأنجز هذه الأعمال، فأنا الذي أعلّمك ذلك بنفسي.

    1. سورة الإسراء، الآية ٦٤.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

12
  • {وَعِدْهُمْ}؛ عده أنّه إذا قام بالعمل الكذائيّ، فإنّه سيصل إلى المقام الفلانيّ، وإذا أنجز المهمّة الكذائيّة، فإنّه سيحصل على المقدار الفلانيّ من الأموال، وإذا ارتكب هذه الكذبة، فإنّه سيجني المنافع العلاّنية، وإذا اجترح هذا البهتان، فإنّه سيحصل في مقابل ذلك على هذه المسائل، وإذا هتك حرمة فلان، فإنّه ستصير له اليد الطولى؛ فيقوم بمنحه وعودًا كاذبة؛ نظير وعود عمر بن سعد؛ أ فلمن تكن تلك الوعود كاذبة؟! حيث بعث إليه ابن زياد رسالة يعده فيها بحكم الريّ في مقابل ماذا؟ في مقابل قتل ابن رسول الله؛ فهذا هو الوعد الذي وعده به؛ لكن، حينما جاء عنده ليفي له بوعده، قال له: متى وعدتك؟ وعن أيّة رسالة تتحدّث؟ قال له: هذه؛ فأخذها ومزّقها، ثمّ قال له: ماذا تريد منّي الآن؟ وانتهى الأمر؛ فلم يسمح له بالذهاب إلى الريّ كحدّ أقلّ، مع أنّه قتل الإمام عليه السلام، ولم يدعه يقضي هناك ولو شهرين، حتّى لا يُصاب بعقدة، ويكون بوسعه الحكم ولو لمدّة قصيرة؛ فلم ينجح في ذلك ولو لثانية واحدة؛ فهذا الذي يُقال عنه: {وَعِدْهُمْ}.

  • بعد ذلك، يقول الله تعالى: صحيح أنّني أقول {وَعِدْهُمْ}، لكن، اعلم أيّها الإنسان {وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُورًا}۱؛ فجميع وعوده خداع، وهراء، ولا أصل لها، ولا حقيقة لها، ولا جذور لها؛ فهو يعدك أن تجني المنافع الكذائيّة، لكن، ما إن تصل إليها، حتّى يأتي حضرة عزرائيل مباشرةً لقبض روحك، ويقول لك: «تفضّل معنا»؛ وهو يعدك أنّك إذا قمت بهذا العمل ...، لكنّك لا تعلم بأنّ بلاءً سماويًّا قد يقضي عليك، ولا يدع هذا الماء أن يعبر من حنجرتك كحدّ أقلّ.

  • قبل فترة وجيزة، حصلت حادثة معيّنة، وكنت على علم بها، حيث توفّي شخص من الأشخاص، فجاء أحدهم، ولجأ إلى بعض الأعمال للاستيلاء على الإرث الذي كان ينبغي أن يصل إلى أحد الأطفال، وقد كان طفلاً لا ملجأ له، لكنّه كان هو الوارث الحقيقيّ؛ فجاء ذلك الفرد، وقام بمعيّة ثلّة من الأصدقاء والأشخاص بالسطو على ذلك الإرث، وكان إرثًا ضخمًا يعود إلى شخص يقطن خارج إيران، وتوفّي هناك. لم يمرّ أسبوع واحد على هذه القضيّة، وإذا بذلك الفرد يُصاب بسكة قلبيّة، ويموت في الطائرة التي كان يستقلّها في سفره إلى الخارج؛ انظروا، فهذا الذي يُقال له: {وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُورًا}؛ فالآن، عليك الرحيل إلى ذلك العالم، ويا ليتك كنت تنعّمت قليلاً بذلك الإرث؛ ولا كلام لنا عن هذه المسألة؛ إذ لا يقتصر الأمر على أنّ ذلك الماء لم يعبر حتّى من حنجرتك، بل إنّهم ينتظرونك هناك، لتتفضّل عندهم، ويُقدّمون لك الخدمة لفترة من الزمان! فهذا هو مصير ذلك الوعد؛ والله تعالى بذاته يقول: أنا الذي قلت للشيطان: عدهم، لكنّني أقول لكم أيضًا: لا تنخدعوا بهذه الوعود؛ فهذه في مقابل تلك!

    1. سورة الإسراء، الآية ٦٤.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

13
  • وصول الإنسان الفعليّ إلى مقام أعلى من الملائكة رهينٌ باختياره

  • فهذا النظام الذي وضعه الله تعالى للإنسان ينبغي إيصاله عن طريق الاختيار إلى مرحلة الفعليّة وقطف الثمار؛ وأمّا إذا لم يكن هناك اختيار، فسيكون شأنه شأن الحديد والخشب والحائط؛ ومن هنا، إذا أراد هذا الإنسان أن يصل إلى ذلك المقام الذي يكون فيه مسجودًا للملائكة، فإنّ عليه سلوك هذا الطريق عن اختيار؛ لكن، إذا كان طريقه ذا اتّجاه واحد، فلن يكون للاختيار حينئذ أيّ معنى، وإن كان لطريقه مسار وحيد، وكانت تأتي على باله المسائل الحسنة فقط، دون الأمور السيّئة، وتحضر لديه الأوامر الإلهيّة فقط، دون النوازع المخالفة لهذه الأوامر، فما الذي سيعنيه الاختيار في هذه الحالة؟ هل تتوقّعون من هذا الحديد أن يتكلّم؟ وهل تتوقّعون من هذا الحائط أن يتحرّك؟ لا، لماذا؟ لأنّ طبيعة هذا الحائط هي السكون، وليس له أكثر من طريق واحد، وهو الاستقامة والاستواء؛ وإذا أردتموه أن يتحرّك، فعليكم أن تنهالوا عليه بالمطرقة، وتهدّموه؛ فهذا الحائط لا ينتقل من هنا إلى مكان آخر؛ كما أنّ هذا الحديد لا يلجأ أبدًا للحديث والكلام؛ فهو يتوفّر على طريق واحد؛ لأنّه جامد، وهو يمتلك مسارًا واحدًا لا أكثر؛ والملائكة أيضًا لها طريق واحد، باعتبار الدرجة التي توقّفت فيها.

  • لكن، إذا أراد الإنسان بلوغ ذلك المقام، والتفوّق على الملائكة، فعليه أن يقوم بعمل يفوقها؛ حيث يتمثّل هذا العمل في الاختيار الذي يُفعّله، مع وجود الأبعاد التي تجذبه إلى الجهة المقابلة للأوامر الإلهيّة؛ وعليه، حينما يريد الحركة، فإنّ عليه أن يتخلّى عن تلك الأمور الواحد تلو الآخر، ويتخلّص من تلك التعلّقات، ويكشح النظر عن تلك الجاذبيّات، حتّى يتمكّن من رفع نفسه درجة واحدة إلى الأعلى، ويرفعها، ويرفعها، إلى أن يبلغ بتلك الحقيقة المجملة والمبهمة التي صدرت من الذات الإلهيّة إلى مقام التفصيل، ومرتبة الرقيّ والفعليّة والفاعليّة؛ وحينئذ، يصير إنسانًا كاملاً.

  • دور الشيطان في تفعيل الاختيار الإنسانيّ

  • لكن، للوصول إلى هذا المقام، ألا نحتاج إلى شيطان؟ ينبغي أن يكون هناك شيطان، ويجب أن توجد الجاذبيّات في مقابل الإنسان، وينبغي أن تكون هناك خصائص يُمكنها توجيه ذهن الإنسان نحوها، ونحو عالم الدنيا، لكي يسعى الإنسان تخليص نفسه منها؛ وهذا هو معنى السلوك. وعليه، هل التفتّم الآن إلى حقيقة السلوك؟ فالسلوك يعني الوقوف أمام تيّارين ومحورين مختلفين: محور يدعو إلى الحقّ، حيث تظهر هذه الدعوة للإنسان من قِبل الملائكة، وتأتي إليه من جهة الأنبياء، ويصل إليه هذا التحذير دائمًا من أولياء الله تعالى؛ والمحور الآخر هو دعوة من قِبل الشيطان وجنوده.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

14
  • ومن هنا، لا ينبغي على أيّ أحد أن يقول: «لقد خدعنا الشيطان، ولم يكن لدينا في هذا الأمر أيّ اختيار»؛ لأنّ العمل الذي يُؤدّيه الشيطان لا يصل أبدًا إلى مستوى التدخّل والتصرّف فينا؛ واعلموا أيّها الرفقاء أنّ الشيطان لا يتصرّف فينا، بل نحن الذين نتصرّف في أنفسنا. فمن الذي يُحدث الوسوسة؟ إنّه الشيطان، ولا شكّ في ذلك بتاتًا؛ فلماذا حينما نُصلّي، لا ننسب ذلك إلى الله تعالى، بل ننسبه إلى أنفسنا، لكن، عندما نرتكب معصية، فإنّنا نقول: «أعتذر يا سيّدي، فقد خدعنا الشيطان»؛ فلماذا تذكر هنا اسم الشيطان من الأساس؟! فلأنّك تريد التملّص من المسؤوليّة، فإنّك تقول: «إنّه الشيطان»، في حين كان عليك القول: «إنّه أنا». ولماذا حينما تُصلّي، لا تقول: «يا سيّدي، لقد دفعني الله تعالى للقيام بالصلاة»؛ وحينما تصوم، لا تقول: «لقد كان الباري تعالى هو السبب في أدائي الصيام»؛ وحينما تحجّ، لا تقول: «الله تعالى هو الذي بعثني على فعل الحجّ»؟ بل الأكثر من ذلك أنّك تمنّ عليه تعالى، وتقول له: «لقد تركت زوجتي وأولادي، وأتيت إلى الحجّ»؛ فلماذا لا تقول ذلك؟ لكن، حينما يصل الدور إلى ... تقول: «أعتذر يا سيّدي، فما الذي بوسعي فعله، لقد خدعني الشيطان، فارتكبت معصية»؛ فلماذا تضع اسم الشيطان في الواجهة؟ فأيّ عمل قام به الشيطان؟ لقد قام بنفس العمل الذي قامت به الملائكة، ولم يكن له أيّ ذنب في ذلك؛ فأيّة علاقة للشيطان بهذا الأمر، وأيّ عمل قام به هنا؟ لو أنّه أمسك بخناقنا، وأجبرنا على أداء ذلك الفعل، لحق لنا آنذاك الاعتراض.

  • إنّ العمل الذي يُؤدّيه الشيطان يُماثل العمل الذي تقوم به الملائكة؛ غاية الأمر أنّ الملائكة توسوس له في اتّجاه عالم النور والمعنويّة والقرب إلى الله تعالى، وفي اتّجاه عالم التجرّد والانبساط والبهجة والبهاء، بينما يوسوس له الشيطان في اتّجاه عالم الغرور الكثرات والدنيا والظلمات والشهوات والملذّات والأهواء النفسيّة؛ وعليه، فإنّهما يقومان معًا بالعمل ذاته، لكنّ شكل هذا العمل مختلف؛ فلا الملائكة يجعلون الإنسان تحت الطاعة والإجبار للوفود على ذلك العالم، ولا الشيطان يُمسك بخناقه، ويضطرّه لتلك الأعمال؛ وإلاّ، لو كانت الملائكة هي التي تقوم بأفعالنا، لما استحققنا عليها المدح، ولو كان الشيطان هو الذي يُؤدّيها، لما استحققنا عليها العقاب، ولما توجّه إلينا التكليف؛ فكلاهما يقوم بالعمل ذاته. ومن هنا، لا ينبغي علينا أن نُلقي على عاتق الشيطان ـ الذي يتوجّب علينا لعنه ـ أمرًا زائدًا على ما ذكره الله تعالى من دون دليل؛ لا يا عزيزي! فكلّ ذلك راجع إلى تقصيرنا نحن؛ كما أنّه لا يتوجّب علينا أبدًا أيضًا أن نجعل للملائكة والنفوس المجرّدة وموجودات عالم الأرواح أمرًا زائدًا على ما تقوم به تجاهنا.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

15
  • ولهذا، فإنّ الأصل والأساس في التربية والسلوك إلى الله تعالى يتمثّل في الاختيار؛ فمتى ما كان هناك اختيار، كان هناك سلوك، ومتى ما فُقد الاختيار، فُقد أيضًا السلوك.

  • لقد كان المرحوم العلاّمة يقول مرارًا وتكرارًا: إنّ الأمراض والابتلاءات التي يقسمها الله تعالى للناس هي لأجل التخفيف من ثقل ذنوبهم، لكنّها لا تُساهم في كمالهم ورقيّهم؛ وأمّا الذي يُساهم في ذلك، فهو العمل الاختياريّ؛ فالمرض أمر غير اختياريّ، وحينما يأتي فيروس، ويتسلّل إلى أبداننا، فإنّ ذلك يكون عن غير اختيار منّا، وعندما يرد ميكروب إلى جسد الإنسان، فإنّ ذلك يكون عن غير اختيار؛ أجل، يبقى أنّ التحمّل والصبر الذي يُبديه الإنسان تجاه ذلك يعمل على تلطيفه وتطهيره؛ غير أنّ التطهير مختلف عن الرقيّ؛ فالطفل أيضًا طاهر جدًّا ومعصوم، والولد ذو الخمس أو الستّ سنوات معصوم وطاهر جدًّا، لكنّه هل تكامل؟ لا، لم يتكامل بعدُ، بل إنّه يقبع في نفس الدرجة؛ فهل بوسعكم العثور على من هو أطهر من الرضيع الذي خرج للتوّ إلى هذا العالم؟ فهو معصوم، ويعيش في عالم الفناء، ولا يُدرك أيّ شيء؛ فهل يوجد من هو أطهر منه؟ لكن، هل يتوفّر على كمال؟ لا، فهو لم يتكامل بعدُ، ولا زال يقبع في نفس المرتبة؛ وهذا لا توجد فيه أيّة فائدة، ولا تظهر منه أيّة ثمرة؛ فذلك الأمر الذي يحصل عن طريق العمل الاختياريّ هو الذي يُساهم في كمال الإنسان ورقيّه، وإلاّ، لبقي هذا الإنسان متوقّفًا في نفس مرتبته؛ أجل، قد يكون من أصحاب اليمين، ويستقرّ في مرتبة معيّنة؛ وأمّا ذلك التجرّد الذي يُخلّصه من التعلّقات ويوجّهه نحو القرب، فلا يحصل إلاّ من خلال التكليف والاختيار.

  • وعليه، هل تبيّن لنا الآن من يكون الشيطان؟ الشيطان هو ظاهرة خلقها الله تعالى لكي يصل السالك إلى مقام القرب، لكن، من خلال أيّ طريق؟ عن طريق العكس؛ فهو لا يقول لك: تعال إلى الله، بل يقول لك: تعال، وارتكب هذه المعصية؛ ولا يقول لك: تعال لكي تُصلّي، واحرص على إخلاص النية، بل يقول لك العكس.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

16
  • «گفت: ادب از كه آموختى؟ گفت: از بى ادبان***هرچه او بى‌ادبى كرد من خلافش را كردم»۱.
  • [قيل له: ممّن تعلّمت الأدب؟ قال: من غير المؤدّب؛ فكلّما قام بفعل مغاير للأدب قمت أنا بعكسه].

  • عمل الشيطان يُضاهي عمل الأستاذ في إظهار الأمور المكنونة في نفس الإنسان

  • ومسألة الشيطان هي بهذا النحو؛ فهو يقول لك: «قم بالعمل الفلاني»، فما إن يأمرك بالقيام بهذا العمل، حتّى يدقّ ناقوس الخطر، فعليك هنا أن تنتبه؛ لأنّها لحظة اتّخاذ القرار. فما هو العمل الذي يقوم به الشيطان؟ إنّه يقوم بنفس العمل الذي يُؤدّيه أستاذ الأخلاق ومربّي النفوس، وأنا لا أريد أن أمزح هنا أيّها الرفقاء!

  • فما الذي يفعله أستاذ الأخلاق؟ يأتي إلى تلك المواضع المكنونة في أذهاننا وأنفسنا وزوايا قلوبنا، والمختفية عن أنظارنا، ويُبرزها لنا، ثمّ يقول: عليك العمل وفقًا لذلك. وما الذي يفعله الشيطان أيضًا؟ إنّه يأتي في تلك المواقف التي يضع الله تعالى فيها الإنسان، ويضع أمامه تلك الزوايا والخصائص المختفية في نفسه، فيضع أمام أنظارنا حبّ الدنيا، ويقول: «انظر إليها كم هي جميلة»، ويُحضر أمامنا مسألة عبادة الشخصيّة، ويقول: «إنّ ألف شخص يمدحونك الآن، فإذا تحدّثت بتلك الطريقة، فلن تجني أيّة فائدة؛ فتعال، وتحدّث بهذه الطريقة!»؛ فيعمل على إبراز هذا الأمر له، ويقول: «انظر إليهم الآن كيف يُمجّدونك، وانظر كيف تتحدّث بطريقة جميلة، وانظر من هم الأشخاص الذين يستمعون إليك، وانظر الآن إلى المكانة التي صرت تحظى بها! فإذا أردت أن تتحدّث في كلامك عن فلان، فإنّ هذا الكلام لن يُسجّل باسمك أنت وحدك! لأنّ الناس سيقولون عنه: إنّه تحدّث أيضًا بمثل هذه الكلمات؛ ولهذا، لا ينبغي أن تذكر اسمه في محاضرتك»؛ فيأتي الشيطان إلى تلك الأمور المختفية في طيّات النفس والمخزّنة هناك، ويعمل بكلّ روعة على إخراجها الواحدة تلو الآخرى، وإبرازها للإنسان، وتكبيرها، ونفخها؛ لكنّها بأجمعها مجرّد ريح! وهكذا، إلى أن يحصل للإنسان انفجار، ففي ذلك الحين فقط، يبدأ الشيطان بالتصفيق، ويقول: «أنعم به وأكرم، الآن فقط أدّيت مهمّتي على أحسن وجه!».

    1.  *** كتاب روضة الورد (كلستان)، سعدي الشيرازي، الباب الثاني في أخلاق الدراويش.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

17
  • وما هو العمل الذي يُؤدّيه الأستاذ؟ وأيّ فعل يقوم به؟ إنّه يبيّن لنا المسائل الكلّية، ليبقى تطبيقها علينا، حيث كان المرحوم العلاّمة يقول مرارًا وتكرارًا: «نحن نبيّن الكلّيات، وتطبيقها ...»؛ أ فهل يكون الأستاذ برفقة الإنسان في كلّ مكان؟! أ فهل يكون الأستاذ موجودًا مع الإنسان في بيته؟! أ فهل يكون الأستاذ موجودًا مع الإنسان أثناء عمله، أو تدريسه، أو فحصه للمرضى؟! فالأستاذ يبيّن مسائل كلّية، كأن يقول: «كلّ ما ترتضيه لنفسك وأولادك، ارتضه للآخرين»؛ فهذه مسألة كلّية، أو يقول: «قف دائمًا إلى جانب الحقّ، ولو كان ذلك [سيحرمك] من تحقيق الرغائب». وقد قرأت في مكان ما أنّ أحد أساتذة الأخلاق الذين قضوا نحبهم كان يتحدّث في إحدى الجلسات عن الرغائب، ففسّرها بالرغبة، بينما الرغائب جمع رغيبة؛ أي أنّ منافعها كبيرة وخارجة عن حدّ التصوّر؛ في حين أنّه كان يُفسّرها بالرغبة؛ بمعنى أنّ [ليلة الرغائب] هي الليلة التي تكون فيها الرغبة كبيرة للتوجّه إلى الله تعالى.. أنعم به وأكرم! وهل أنت مضطرّ يا عزيزي للكلام! من قال ذلك؟ اذهب واجلس في بيتك! كما تجد البعض أيضًا يُفسّر {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ}۱ بالإلحاق، بينما تعني {الْحَاقَّةُ} التي تدكّ، وأمّا الإلحاق، فهو الوصل؛ وماذا أقول؟ ثمّ يأتي ويقول عن نفسه إنّه مفسّر قرآن!

  • فالأستاذ يقول: «تعال، وفسّر هذه الأمور، فأنا أتحدّث عن مسائل كلّية، وأضع بين يديك المعيار والميزان، وأبيّن لك الكلّيات، وعليك أنت أن تُطبّقها الواحدة تلو الأخرى»؛ فإذا سعيت للوقوف إلى جانب الحقّ، فإنّ الشيطان يأتي، ويجعل هذا الحقّ باهتًا لديك، ويقول: «قم بهذا العمل الآن، ثمّ تب منه غدًا، وإلاّ، لمن جعل الله تعالى التوبة؟ فأي إشكال في ذلك؟»؛ فهو لا يقول لك: «إذا ارتكبت هذا الذنب، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: «من قارف ذنبًا فارقهُ عقلٌ لم يعد إليه أبدًا»٢»، أي أنّ الذي يرتكب ذنبًا يفقد جزءًا من عقله وثروته الوجوديّة، بحيث لا يعود له ذلك الجزء إلى آخر عمره؛ فالشيطان لا يُطلع الإنسان على هذا الأمر؛ ومن الذي يُطلعه عليه؟ إنّه الرسول الأكرم؛ فهو صلّى الله عليه وآله وسلّم يضع هذا الأمر بين يديه، كما أنّ الشيطان يضع ذلك الأمر بين يديه، ويقول له: «لا بأس، تب بعد ذلك، فلمن جعل الله تعالى التوبة؟ ألم يقل بنفسه: {هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}٣؟ لكن، إذا قمت بهذا العمل، فإنّك ستحظى بمنزلة أكبر عند الناس، ويضحى كلامك مقبولاً أكثر، فلا تأت على ذكر اسم فلان؛ لأنّك إذا فعلت ذلك، وأتيت على ذكر اسمه في خطبتك، فإنّ الناس سيقلّ اهتمامهم بتلك الشخصيّة التي تعقد لها مجلس التأبين والتعظيم، وسينسبون كافّة أعماله إلى ذاك»؛ فيقول مع نفسه: «يا للعجب، لقد أنفقنا كلّ هذه الأموال، وبذلنا كلّ هذه الجهود لتأبينه وتعظيمه، لكنّه سيُصبح [لو ذكرت اسم فلان في خطبتي] صغيرًا، وبالتالي، ستذهب كلّ تلك التأبينات أدراج الرياح! وسنخسر كلّ تلك النفقات، ودعوتنا للناس والشخصيّات للمشاركة في المجلس؛ لأنّهم سيقولون: إنّ كلّ ما حصل عليه يعود إلى فلان؛ ولهذا، علينا أن نعقد مجلس التأبين والتعظيم له!»؛ وهنا، يبدأ في تبديل لحن كلامه شيئًا فشيئًا، ويعمل على تغيير التنسيق بين عباراته؛ إذ حينما نُخضع الصورة للمونتاج والتركيب، فإنّها تظهر على خلاف الحقّ؛ ومن الذي قام بهذا العمل؟ إنّه الشيطان العظيم! بينما ماذا فعل الأستاذ؟ قال: عليك قول الحقّ والسلام!

    1. سورة الحاقّة، الآيتان ۱ و٢.
    2. علم اليقين، ج ۱، ص ٢۷۱.
    3. سورة البقرة، الآية ٣۷.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

18
  • أجل، إنّ قول الحقّ يستتبع أيضًا تلك الأمور، ولا تعتقد [أنّ المسألة سهلة]؛ لكن، اعلم أيّها البائس المسكين أنّ امتناعك عن قول الحقّ سيُفقدك نفسك وثروتك الوجوديّة؛ فما الذي حصلت عليه في مقابل ذلك؟ كلمتان من المدح فقط! لكنّ كلّ ذلك المدح والثناء لن ينفعك غدًا، ولو بمقدار رأس إبرة، وأحلف بالله تعالى، وأقسم بجدّي، إن أتيتم يوم القيامة، ورأيتم أنّ هذا الثناء ينفع، ولو بمثقال ذرّة واحدة، فتعالوا، وأمسكوا بخناقي! [يقول الله تعالى:] إنّ هذه الثروة التي منحتك إيّاها هي السبب في أمري الملائكة بالسجود لك أيّها البائس، لكنّك خسرتها فداءً لذلك المدح والثناء، وفقدت تلك الحقيقة في مقابل ألاّ يتحدّث الناس خلف ظهرك، فضيّعتَ مقام الخلافة الإلهيّة، ونزّلت نفسك إلى مستوى بهيمة!

  • يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «كالبهيمة المربوطة هَمّها علفها»۱؛ فشأن هؤلاء الناس شأن الدابّة والحيوان الذي ربطوه في الزريبة، ولا ينظر إلاّ إلى التبن والبرسيم الموضوع أمامه؛ فهؤلاء الناس مثل البهيمة المربوطة، والحمار الذي ربطوه بـ ...، فلا هدف له إلاّ أن يأكل وحسب، ثمّ يأتي وقت جديد [للأكل]، وهكذا، إلى أن ...؛ لكنّك تفقد الآن مقام الخلافة الإلهيّة! فهذا هو العمل الذي يقوم به الأستاذ.

  • تأثير الأستاذ متوقّف على اختيار الإنسان وعمله

  • أ فهل تعتقدون أنّ الأستاذ يأتي، ويرفعكم من مرتبة، ثمّ يضعكم في مرتبة أخرى هكذا؟! فلنبق نعيش هذه الأحلام الساذجة؛ لأنّ هذه المسألة لم ولن تحصل أبدًا! فإذا اعتقد أحد أنّ الأستاذ يأتي، ويرفع الإنسان، ويضعه في منزلة أخرى، فإنّه يعيش في الأحلام؛ لأنّ العمل الذي يقوم به الأستاذ يُماثل بالضبط العمل الذي تُؤدّيه الملائكة، غاية الأمر أنّنا لا نرى الملائكة، ونرى الأستاذ؛ فهو لا يقوم بأيّ فعل آخر، وإلاّ، لما كان قد أتى بعمل ذي بال.

  • يبعث إليّ العديد من الأفراد برسائل يقولون فيها: «يا سيّدي، ما هو الذكر الذي أعطاه المرحوم القاضي لفلان من الناس، بحيث حينما كان يقوله، كانت عيناه تُرخَيان إلى الأسفل، فلا ينظر إلى غير المحرم؟»، فأقول لهم: إذا قمتم بهذا الفعل، فلن تكونوا أتيتم بشيء ذي بال، والمرحوم القاضي لم يُعط هذا الذكر لشخص سالك، بل جاءه أحدهم من النجف، وقال له: «يا سيّدي، إنّ عينيّ تقع على غير المحارم»، فقال له: «تفضّل، اعمل بهذا»؛ لكن، إذا قمنا نحن بهذا العمل، فلن نكون أتينا بشيء ذي بال؛ لأنّ الذكر هو الذي يكون قد أنجز ذلك الفعل؛ وإلاّ، فما هو العمل الذي قمنا به نحن هنا؟ وأيّ جهد بذلناه في هذا المقام؟ إنّنا بذلك لن نكون قد تكاملنا، ولو بمقدار رأس إبرة؛ فإذا مارسنا هذا الذكر إلى آخر حياتنا، وتمكّنا من غضّ النظر عن غير المحارم، فإنّنا لن نختلف أبدًا إلى نهاية عمرنا عن حالتنا الأولى؛ فالأمر الذي يحظى بالأهمّية هو أنّك حينما تكون في المكتب أو محلّ العمل أو الشارع، وترى أمامك وجهًا جميلاً، فإنّك تُطرق برأسك إلى الأسفل؛ فهذا هو الأمر المهمّ؛ وإلاّ، لو غضّ الإنسان نظره بشكل لا إراديّ، لكان من الأولى أن يكون أعمى؛ إذ ما الفرق بين الأمرين؟ فيُغلقون للإنسان جفون عينيه من الصباح حينما يخرح من بيته؛ ولا أعلم هل بوسع الأطبّاء فعل ذلك أم لا؟ فيضعون لاصقًا على جفونه لكي تُغلق، ثمّ يُزيحونه حينما يرجع إلى البيت! فهل يكون هذا سلوكًا؟! فهذا ما يفعله الذكر؛ أي أنّ الذكر الذي أشار إليه المرحوم القاضي يقوم بنفس مهمّة اللاصق ولا يقوم بأيّ عمل آخر؛ كما أنّ المرحوم القاضي لم يمنح هذا الذكر لأحد تلامذته، بل أعطاه لشخص أجنبيّ؛ لأنّ تلامذته ينبغي لهم الخضوع للتربية، بينما ذلك الأجنبيّ لم تكن له همّة عالية، ولم يكن له ذلك الاستعداد والعزم المطلوب؛ ولهذا، قال له: «قم بهذا العمل».

    1. نهج البلاغة، الخطبة ٤٥.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

19
  • فالمراد من كلام العظماء حينما كانوا يقولون: «على الإنسان أن يجعل نفسَه في حصن» هو أن يكون الإنسان في حالة تسليم مطلق أمام ولاية أستاذه وطاعته، لكن باختياره؛ فلا ينبغي علينا الخطأ في فهم هذه المسألة؛ فالذي يكون مسلِّمًا يكون داخلاً تحت ولاية إمام الزمان عليه السلام، فيأخذ الإمام بيده؛ والتسليم هنا يعني أن يعرض هذا التسليم على الإمام في كلّ لحظة؛ ففي هذه اللحظة يكون له تسليم، وفي الساعة اللاحقة يكون له تسليم؛ لا أن يأتي إلى هنا، ويُسجّل اسمه في الدفتر، ويقول عن نفسه إنّه سالك، ثمّ يرحل؛ لا يا عزيزي، فهذه مجرّد خيالات واهية! إذ ينبغي أن يكون للإنسان تسليم في كلّ ثانية؛ فالساعة الآن هي الحادية عشرة والربع ـ وقد انتهى الوقت، وعلى الرفقاء أن يُنبّهوني إذا أحسّوا بالتعب ـ، فعلى الإنسان أن يكون له تسليم الآن، وفي الساعة الآتية؛ فإذا تمّ الأمر بهذا النحو، ففي ذلك الحين فقط سيقول الإمام عليه السلام: «فَإنّا غَيرُ مُهملين لمراعاتكم»؛ فوظيفة إمام الزمان تتمثّل في أن يُرخي بظلال ولايته على كافّة أرجاء وجود النفوس التي دخلت تحت هذه الولاية؛ فهذه هي حقيقة هداية الأستاذ، لا أن يأتي الإنسان فقط، ويُسجّل اسمه، ويختمه، ثمّ يذهب، لا يا عزيزي، فهذا الكلام لا يصحّ!

  • فطريق الله تعالى ينبغي أن يكون عن اختيار، ومصحوبًا بالعمل؛ يقول الإمام عليه السلام: إنّ الذي يُفوّض أموره لله تعالى «ولَا يدَبِّرَ العَبدُ لِنَفسِه تَدبِيرًا»، ولا يُخطّط بنفسه لنفسه، بل يأخذ البرامج والمخطّطات من الله تعالى، ويُطبّقها على حياته، «هَانَ عَلَيهِ الدُّنيا وإبليسُ والخَلقُ».

  • كيفيّة صيرورة الإنسان عون الشيطان بل عينه

  • والعجيب هنا أنّه حينما يتّجه الإنسان إلى أحد القطبين، فإنّه سيضحى ـ بسبب اشتراكه من ناحية ملكوتيّة مع هذا الاتّجاه والقطب ـ منتميًا إليه ومنمحيًا وفانيًا فيه؛ والعكس صحيح؛ فإذا وضع نفسه تحت سيطرة وهيمنة الملائكة، فإنّه سيصير من الملائكة، حيث ستأتي ولايتها، وتضمّه، فيضحى ملكًا، بل وأعلى من ذلك؛ لكن، إن قام بوضع نفسه في دائرة قطب الشيطان، فإنّ تلك الهيمنة والشيطنة الحاكمة على الشيطان وجنوده ستأتي، وتضمّه، فيُصبح منتميًا إلى ناديهم؛ إذ سيقولون له: «تعال لتنضمّ إلينا»، فيذهب عندهم، ويصير منهم، فتأتي تلك الولاية، وتُفنيه فيها؛ أي أنّها تأتي، وتقلب روح ذلك الإنسان، وتصهره فيها مثل روح الشيطان، ليضحى من أولياء الشيطان وأولياء الطاغوت؛ مع أنّه في البداية لم يكن بهذا النحو، بل كان قلبه صافيًا وطاهرًا، وكان له ميل نحو الحقّ، غير أنّه ذهب مرّة واحدة في اتّجاه الشيطان، ثمّ بدأ يلوم نفسه، ويدعو عليها بالويل والثبور، ويقول: «يا ليتني لم أقم بالعمل الكذائيّ»؛ لكن، جاءه إغراء آخر، فضمّته مرّة ثانية ولايةُ الشيطان قليلاً، وهكذا في المرّة الثالثة، فبدأت تضمّه شيئًا فشيئًا، إلى أن ...

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

20
  • يحكي المرحوم العلاّمة عن المرحوم الشيخ الأنصاريّ أنّه قال: كان هناك أحد الأشخاص حصل له اطّلاع على بعض الأمور والعلوم، وكان يقوم ببعض التصرّفات [الخارقة]، فالتقيت به ذات يوم في ساحة همدان، فقلت له: «أقلع عن هذه الأعمال»، حيث كان يقوم ببعض الأعمال المخالفة للشريعة، ويرتكب بعض الأفعال المشينة والشنيعة، فقال لي: «هل يُمكن لرحمة الله تعالى أن تشملني مع كلّ ما قمت به؟!»، فقلت له: «تب إلى الله تعالى، فرحمة الله تعالى واسعة، وستشملك»، فذهب، ولم أره لمدّة طويلة؛ وحينما التقيت به بعد مرور سنتين أو ثلاث سنوات، رأيت أنّ الشيطان استحوذ على كافّة وجوده، ولم تعد له أيّة قابليّة [للتغيير]، فالتفتّ إليه، وقلت: «أنت لم تُقلع عن تلك الأعمال، إلى أن وصل بك الحال إلى هنا!»، قال: «أنا لم أعد قادرًا على ذلك». فكان من جملة الأعمال التي يقوم بها هو زنا المحصنات، بحيث صار ذلك عادةً له!

  • هل انتبهتم إلى أين يُمكن أن تؤول الأمور! فهو في البداية لم يكن بهذا النحو، لكن، من خلال تلك الأفعال التي كان يرتكبها، وتلك الأمور غير العاديّة التي كان يقوم بها، وتلك التصرّفات والتدخّلات التي كان يعمد إليها ...؛ فمن الذي منحه إيّاها؟ إنّه الشيطان الذي وهبه إيّاها، وقال له: «لقد وضعت هذه الحربة تحت أمرك، ومنحتك هذه الأداة»، فيأتي تدريجيًّا، ويُصبح شيئًا فشيئًا عين الشيطان.

  • عليكم أن تقرؤوا هذه السورة على الدوام: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسوِسُ في صدور الناسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}۱؛ فمن هم الذين يُوسوسون في صدور الناس؟ إنّهم طائفتان: الأولى الجنّ، والثانية الناس؛ وهم الناس الذين صاروا شياطين، فترى أحدهم يجلس إلى جانب الإنسان، ويبدأ في الوسوسة إليه؛ وحينئذ، لا تعتقد أنّ هذا الذي يجلس جنبك، والذي بعث إليك ببطاقة دعوة هو إنسان، بل هو شيطان، فقد صار شيطانًا!

  • ولهذا، كان المرحوم العلاّمة يقول: عليكم أن تحذروا من ذلك الزمان وذلك الموقف الذي تصيرون فيه من أعوان الشيطان، فتُساعدون الشيطان والظلمة، وتُعينون الظالم الذي يصعد على أكتافكم لتحقيق مطامعه، ويستخدم سكوتكم وأعمالكم لكي ...؛ فتكونون أعوانًا، ثمّ تصيرون بعد ذلك أعيان الظلمة، أي نفس الظلمة؛ ففي البداية، يكون عونًا، ثمّ يصير عينًا؛ وفي الأوّل مساعدًا، وبعد ذلك عينًا.. عينًا لمن؟ ففي البداية، يكون عونًا للشيطان، ثمّ يضحى بعد ذلك نفس الشيطان؛ وحينئذ، يُختم عليه، وهنا، يقول الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى‌ قُلُوبِهِمْ وَعَلى‌ سَمْعِهِمْ وَعَلى‌ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ...}٢؛ فيُضرب عليه بختم الباطل، ليفقد ذلك القلب جميع القابليّات والاستعدادات للهداية؛ ولهذا، على الإنسان أن يقف بحزم منذ البداية، ولا يدعه يأتي.

    1. سورة الناس، الآيات ۱ إلى ٦.
    2. سورة البقرة، الآية ۷.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

21
  • يقول المرحوم السيّد الحدّاد: كنت جالسًا، فجاءني العالم الفلانيّ من إحدى مدن إيران، وقال لي: «يا سيّدي، لديّ تلامذة، وأنا منهمك في تربية الناس، لكن، يطرح عليّ هؤلاء التلامذة بعض الأسئلة، ولا أستطيع الجواب عنها»، فقلت له: «إذا كنت لا تستطيع إجابتهم، فلماذا تتحمّل أعباءهم ومسؤليّتهم؟»؛ فوليّ الله تعالى هو الذي يقول هذا الكلام، وهو الآن يسعى لتنبيهك! فإذا لم تكن لديك الأهليّة للإجابة عنهم، لماذا تحمل على عاتقك مسؤوليّة تربيتهم؟ فحالك حال السائق الذي لا يستطيع سياقة الحافلة، لكنّه مع ذلك يُقلّ فيها خمسين مسافرًا! ففي هذه الحالة، سيهوي بهم في أسفل الوادي! فشأنك شأن السائق الذي يُقلّ خمسين مسافرًا، من دون أن يكون له اطّلاع على السياقة أو الطرق. فسعى [السيّد الحدّاد] لتحذيره، فوافق على كلامه، وطأطأ برأسه إلى الأسفل؛ لكنّه ذهب، وأكمل طريقه! انظروا، فالشياطين تجلس إلى جانب حتّى السيّد الحدّاد، والشيطان موجود في كلّ مكان، حيث يأتي، ويُصبح شريكًا للإنسان: {وشارِكهُمْ}، فتعال، وشاركه، ورافقه، حيث نجده يقول له: «لا تعتزل هؤلاء، فهذا ليس عملاً جيّدًا؛ لأنّ «يد الله مع الجماعة»،۱ وعلى الإنسان مراعاة الجماعة والاتّحاد والاجتماع! «خواهى نشوى رسوا هم رنگ جماعت شو»٢»؛ فهو يأتي عنده، ويقول له هذا الكلام، وهو مطّلع على هذه الأمور بشكل جيّد!

  • الدخول في طريق الأولياء مسبوق بالعلم والاختيار

  • فهذا السيّد الحدّاد بنفسه يقول لك: «احذر، فأنت تسعى لهداية هؤلاء، وتُريد أن تحمل على عاتقك أعباءهم، مع أنّك غير قادر على ذلك؛ فعليك أن تعيَ هذا الأمر!» حسنًا، ضع هذه الأحمال على الأرض، ثمّ قال له: «ضع الأعباء على عاتق من يتحمّلها، فتعال، وضعها على عاتقي، وانظر هل سأستطيع حملها أم لا؛ فإذا تلكّأتُ في ذلك، فتعال حينئذ، واعترض عليّ»، حيث كان السيّد الحدّاد صريحًا جدًّا، ولا يُوارب أيّ أحد، حيث قال له: «ألق حملك على عاتقي، فإن لم أتحمّل، وبدأت أتلكّأ، فاعترض عليّ، وأمّا إذا لم أتلكّأ، فإنّك ستتمكّن من المشي في طريقك»؛ وهو لم يكن بمزح مع أيّ أحد؛ لأنّ الحقّ لا مزاح فيه!

    1. نهج الفصاحة، ص ٤٥.
    2. مثل فارسيّ معناه: إذا أردت تجنّب الفضيحة، عليك أن تصطبغ بنفس صبغة الجماعة.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

22
  • ففي المجلّد الثاني من كتاب أسرار الملكوت الذي أنا في صدد تأليفه، ويدور حول شرح حديث عنوان البصريّ، حينما وصلت إلى مسألة تشخیص الأستاذ، وصفاته، وخصائص طريقه، ذكرت أنّه: عندما كان المرحوم العلاّمة يقول للناس ـ مهما كانت مكانتهم ـ تعالوا عند السيّد الحدّاد، فإنّه لم يكن يمزح، حيث قال ذلك لأحد أحبّائه المتواجدين هنا، كما قال أيضًا للمرحوم آية الله مطهّري رحمة الله تعالى عليه: «قم أيّها السيّد، واذهب عنده، وتحدّث معه، واختبره»؛ فهؤلاء العظماء لم يكونوا جهلة، بل كانوا أفاضل، ودرسوا جيّدًا، ودرّسوا أيضًا، وكانوا مطّلعين على الأمور، ولم يكن أيّ أحد قادرًا على خداعهم أو الاحتيال عليهم، أو الضحك على ذقونهم بواسطة الكلام المعسول والعبارات المنمّقة، بل كانوا سيكشفونه؛ فهؤلاء كانوا بهذا النحو؛ فإذا كان [المرحوم العلاّمة] يقول لك الآن بكلّ صلابة وثبات: «اذهب عنده، واختبره، ثمّ اقبل منه بعد ذلك [أو لا تقبل]»، فما هو الأمر المكنون من وارء هذا الكلام؟ وبأيّة قدرة وقوّة يُفصح لك عنه؟

  • ففي هذه الحالة، لو أنّ المرحوم مطهّري مثلاً ذهب عند السيّد الحدّاد، وتحدّث معه بخصوص بعض الإشكالات والمسائل الفلسفيّة والعرفانيّة، فتلكّأ السيّد الحدّاد، وعجز عن الكلام، فأيّ جواب سيُمكن للمرحوم العلاّمة تقديمه إليه؟! سيقول له المرحوم مطهّري حينئذ: «اذهب أيّها السيّد لحال سبيلك، ودعني أذهب لحال سبيلي، فما معنى: بعد عشر سنوات؟!!»؛ فهذا ما يدّعيه الجميع، حيث نجد كلّ مدرسة وكلّ درويش وكلّ مدّع يقول الشيء ذاته: «تعال أيّها السيّد، وسلّم نفسك، وسوف تر [نتيجة ذلك] بعد عشرين سنة»! متى؟ فأنا سأموت بعد سنتين، فما معنى: سترى [النتيجة] بعد عشرين سنة؟! أو يقولون: «تعال أيّها السيّد، وسلّم أمورك، أو اذهب وطهّر قلبك، لأنّه غير طاهر»، حسنًا، بيّن لي كيف أطهّره، هل أغسله بالصابون؟ أو بمسحوق الغسيل؟ فكيف يُمكنني تطهيره؟ أخبرني عن طريقة ذلك! فأخبرني عن الطريق الذي سلكته أنت، حتّى أستفيد منه أنا أيضًا؛ لأنّني أريد بدوري بلوغ النعم الإلهيّة؛ لكنّك تجد هؤلاء يُلقون الكلام على عواهنه، ويتحدّثون بأيّ كلام و ... ، وهكذا؛ فالأمر بهذا النحو في كلّ مكان.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

23
  • وأمّا هنا، فلا مجال لمثل هذا الكلام، بل تعال، وانظر، ثمّ اختر؛ فإذا حصل لديك اطّلاع، واخترت العكس، فإنّك ستُساءل غدًا، وإذا لم يحصل لديك اطّلاع، واخترت، فسيُقال لك غدًا: لماذا اخترت؟ فهذا هو الطريق، وهذا هو السبيل؛ فعليك أوّلاً أن تنظر، وتُشخّص الحقّ، ثمّ بعد ذلك، أنت أعلم بشأنك؛ لكن، ما دمت لم تُشخّص الحقّ، فلن يكون هناك أيّ فارق من هذه الناحية بين هذا المكان والأمكنة الأخرى؛ فالعصا التي سنُضرب بها يوم القيامة إذا ذهبنا إلى أماكن أخرى هي بنفسها التي سنُضرب بها إذا جئنا إلى هنا، وسلّمنا بشكل أعمى، ومن خلال الخضوع للأهواء والشائعات والدعايات، ومن دون تدبّر وتعقّل؛ فهذه هي حقيقة المسألة، ولا يوجد هنا أيّ مزاح في الأمر.

  • قال المرحوم العلاّمة: «اذهب، واختبره بنفسك»؛ فيذهب [المرحوم مطهّري]، ويختبره، ثمّ يأتي، ويقول: «إنّ هذا السيّد يبعث الحياة»،۱ حيث رأى كلّ واحد منهما الآخر، وتحدّثا معًا؛ أفلم أره أنا أيضًا، ورأيت أبي، ورأيت البقيّة؟! وهل تعتقدون أنّني هكذا ...، فأنا لم أكن مسلِّمًا، وأعترف الآن أنّني لم أكن مسلّمًا، ولم يروا منّي إلاّ الأذى، وما الذي بوسعه القول هنا؟! غير أنّني لا أريد أن أذكر عبارات قد تُسبّب الإزعاج للرفقاء! لكنّني في نهاية المطاف اطّلعت [على حقيقته]، ولا يُمكنني أن أنكر الأمر الذي اطّلعت عليه، كما أنّني أيّها الرفقاء اطّلعت على الجميع، وعلى كافّة الناس في جميع المستويات.

  • يقول: 

  • نيست بر لوح دلم جز الف قامت يار***چه كنم حرف دگر ياد نداد استادم‌٢
  • [ومعناه: لا يوجد في لوح قلبي إلّا ألف قامة الحبيب‌ *** وماذا أفعل إن لم يكن أستاذي قد علّمني غير ذلك؟]

  • فعلى الإنسان أن يكون ذا اختيار، وإلاّ، سيؤول مصيره إلى هذا الأمر؛ ففي ذلك الحين، لم تضع حملكَ على عاتق الحمّال، واتّبعت ذلك المنهج؛ فنتج عن ذلك أنّ مصير حياتك آل إلى هذه النهاية، وطريقك انتهى إلى هذا المصير؛ لكن، لماذا [يحصل ذلك]؟! فهم الآن يسألونك عن سبب تصدّيك لهداية الناس، وعن جمعك للتلامذة، ويقولون: ما الذي قمت به أنت؟ فما هو دخلك في ذلك، ومن الذي أمرك بالتصدّي للهداية؟ ومن الذي طلب منك جمع كلّ هؤلاء المريدين حولك؟ ومن الذي أراد منك أن تجمع لفسك كلّ هؤلاء التلامذة؟ ومن قال إنّه عليك قيادتهم بنحوٍ يجعلهم يعتقدون بعدم وجود أيّ أحد غيرك؟ فهل أبقيت لهم المجال مفتوحًا؟ أم أنّك كنت حريصًا كلّ الحرص على عدم قيامهم بأيّة خطوة خارج هذا المكان، وعدم ذهابهم إلى أيّ مكان آخر؟ فمن أيّ شيء كنت تخاف؟ هل كنت تخاف من أن يتركوك؟ وتخشى أن يتخلّوا عنك؟ فما هي حقيقة كلّ ذلك؟ {وَما يَعِدُهُمُ}؛ أي: إذا ذهب هذا إلى هناك، فإنّه سيتركك! لا، أيّها السيّد، عليك ألاّ تذهب إلى مسجد آخر؛ إذ كلّ ما تُريده موجود هنا، وستحصل عليه هنا! فإذا أراد الذهاب إلى هناك، فإنّه يبدأ في بيان جميع النقائص التي يُعاني منها ذلك المكان، وكافّة ما يرد على خياله، حتّى يصدّه عنه؛ بينما كان عليه أن يسمح له بالذهاب إلى ذلك المجلس، والحضور في ذلك المكان، والاطّلاع على جميع المسائل، واستيعاب كافّة الأمور، لكي يقبل بعقله واختياره ما يشاء؛ فما هو دخلي أنا في هذا الأمر؟ بل وما دخل الآخرين في ذلك؟ فعلى كلّ واحد أن يمشي في الطريق والمسار [الذي اختاره].

    1. الروح المجرّد، ص ۱۷۱.
    2.  *** ديوان حافظ، الغزل رقم ٣۱۸.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

24
  • فهنا، أتى الشيطان، وأفسد كلّ شيء، حيث قال: {أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}؛ أي: يا إلهي، هل بلغ بك الأمر أن تُكرّم هذا الشيء الذي صنعته من التراب؟! ومن هنا، فإنّ الآية القرآنيّة تكشف عن سرّ؛ وما هو هذا السرّ أيّها الرفقاء؟ إنّه ذلك الأمر الذي تحدّث عنه السيّد الحدّاد؛ فالقرآن لا يُفصح عن أيّ شيء، سوى قوله: {أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}؛ أي: هل صار الأمرُ الآن بهذا النحو؟ أجبني! لأنّ {أَ رَأَيْتَكَ} تعني: أجبني؛ فهو يُخاطب الله تعالى بهذا الكلام؛ ومعناه: أجبني! هل فضّلت عليّ هذا الذي صنعته من التراب؟ وهل وضعت سرّك فيه؟ بما أنّ الأمر صار بهذا النحو، فإنّني سأنهض بدوري؛ لأنّني لست موجودًا عاديًّا، بل أنا موجود منحته قدرة واستعدادًا وسعة وجوديّة؛ ولهذا، سأسعى لإغواء الجميع وإضلالهم {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ}؛ فيقول الله تعالى له: فليكن ذلك! سأؤخّرك، بل إنّني أنا الذي أريد هذا الأمر من الأساس؛ ولو أنّك لم تطلب ذلك، لأخرّتك بنفسي؛ {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‌ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ}؛ أي أنّني سألجم جميع ذريّته، ولن يبقى منهم في قعر الإناء بعد الغربلة، إلاّ بعد الأفراد؛ وهم المخلَصون؛ وأمّا بقيّة الأفراد، فكلٌّ في مرتبته الخاصّة.

  • خصائص الشيطان وجنوده

  • وفي هذه الحالة، هل اطّلع الرفقاء على خصائص الشيطان وجنوده؟ لأنّنا نريد هنا الانتهاء من هذا البحث. وعليه، فإنّ النتائج التي نستخلصها من بحثنا عن الشيطان هي:

  • أوّلاً: أنّ الله تعالى لم يخلق الشيطان عبثًا، بل إنّ خلقه خاضع للمصلحة.

  • ثانيًا: أنّ الشيطان ليست له أيّة ولاية علينا؛ شأنه في ذلك شأن الملائكة.

  • ثالثًا: أنّ الشيطان لا يقودنا إلى جهنّم بالقوّة والإكراه، بل إنّنا نسلك طريقه، ونتّبعه، ونتوجّه إليه باختيارنا.

  • رابعًا: رغم أنّ لخلق الشيطان ووسوسته جانبًا سلبيًّا، إلاّ أنّه يتوفّر على جانب إيجابيّ يتمثّل في وصولنا [عن طريق ذلك] إلى كمالنا؛ فلو لم يكن الشيطان موجودًا، لما وصلنا إلى هذا الكمال، ولبقينا في مستوى الملائكة؛ وحينئذ، لماذا سيخلق الله تعالى الإنسان، والملائكة موجودة؟! فإذا كانت الملائكة موجودة، فما الهدف الذي سيكون من خلق الإنسان؟ ومن هنا، إذا كان الله تعالى قد خلق الإنسان، فإنّ الهدف من ذلك هو إيصاله إلى مرتبة أعلى من الملائكة؛ لكن، لكي يبلغ هذه المرتبة، عليه أن يُعمل اختياره؛ ولكي يُعمل هذا الاختيار، ينبغي أن توجد عوامل الجذب المعارضة أيضًا؛ ولهذا، فإنّ وجود الشيطان هو في صالحنا، لا بضررنا؛ فهذه نقطة إيجابيّة أيضًا تُحسب له من هذه الناحية.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

25
  • والمسألة الأخرى أنّ نفوس بني آدم والجنّ ستتحوّل عند وقوعها تحت سيطرة الشيطان وهيمنته إلى شياطين؛ أي أنّ هذا الإنسان سيتحوّل إلى شيطان؛ وهي الحالة التي يقول عنها الإمام الصادق عليه السلام: «هَانَ عَلَيهِ الدُّنيَا وإبليسُ والخَلق»؛ وعليه، ما هو المراد من الخلق هنا؟ إنّهم أولئك الذين صاروا شياطين، وأضحوا في نفس مستواهم ودرجتهم.

  • فالعبد الذي يُخضع نفسه لمشيئة الله تعالى ويُسلّمه أموره ستضحى الدنيا سهلة بالنسبة إليه، ولن يعود الشيطان قادرًا على خداعه مهما قال له: «أيّها السيّد، لا تحضر هذا المجلس لأنّ اسمك غير موضوع عليه»؛ ومن جهة أخرى، قد يأمره بالمشاركة في المجلس الكذائيّ.

  • ـ لكنّه مجلس معصية، فكيف أشارك فيه؟ 

  • ـ عليك أن تحضر الآن؛ إذ يتواجد فيه هؤلاء الأفراد، فعليك أن تأتي، وتجلس معهم، لكي يرفعوا اسمك أيضًا؛ وإذا لم توقّع أسفل هذه العريضة، فإنّ هذه القضيّة لن تُسجّل باسمك.

  • فينظر الإنسان، فيرى أنّ هذه العريضة تدعو إلى الإثم، وأنّ المشاركة في ذلك المجلس معصية؛ لكن، من ناحية أخرى، هناك مجموعة من عوامل الجذب، حيث يٌقال له: «أيّها السيّد، لقد أتى الناس، والجميع ينتظرون قدومك!»؛ غير أنّه يرى أنّ المشاركة في هذا المجلس معصية، وهو مجلس غير إلهيّ، ويفتقر إلى النور، ولا يُذكر فيه اسم الله تعالى؛ لكن، من ناحية أخرى، هناك الشيطان الذي يوسوس، ويوسوس، ويوسوس، إلى أن يقول ذلك الإنسان: «فلأذهب الآن!»، فيذهب مرّة واحدة، وثانية، فينتهي أمره.

  • وهذا بالضبط مثل شخص يُعاني من مرض قلبيّ، فيأمره الطبيب بالراحة المطلقة؛ لكن، يأتي أحد، ويقول له: 

  • ـ أيّها السيّد، لقد عقدنا مجلسًا، فتعال للمشاركة فيه؛ فهذا ـ مثلاً ـ حفل عرس، وأنت كبير العائلة، فإذا لم تحضر، سيصير كذا.

  • ـ حسنًا أيّها السيّد، أقيموا الحفل من دوني.

  • ـ لا، هذا غير ممكن؛ لأنّ زينة الحفل لا تتمّ إلاّ بحضوركم؛ وإذا لم تُشاركوا فيه، فلن يحظى بأيّة أهمّية.

  • فمهما قال لهم: إنّني أعاني من مرض قلبيّ، [فإنّهم لا يعتنون بكلامه]، إلى أن يقوم من مكانه في الأخير، ويأتي، ويجلس، فيُصاب بسكتة قلبيّة، ويموت.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

26
  • وعليه، فإنّ هؤلاء يريدون موتنا، لا حياتنا، والشيطان يُريد موتنا، وهؤلاء الناس يسعون إلى موتنا الأبديّ؛ وأمّا هذا الموت، فإنّ الإنسان سيُلاقيه غدًا، غاية الأمر أنّ كلّ واحد سيموت بطريقة معيّنة؛ فهؤلاء الناس يُريدون موتنا، وهذه الدنيا تُريد موتنا، وهذه المفاتن والتعلّقات تُريد بأجمعها موتنا؛ فعلينا أن نعلم بهذا الأمر؛ ومن هنا، تقول الآية الكريمة: {مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ}۱؛ أي: جنود الشيطان من الجنّة والناس، حيث تقوم الجنّ بالوسوسة في الباطن، ويأتي الناس، ويوسوسون في الظاهر؛ فيتعاضد كلّ من الظاهر والباطن من أجل القضاء علينا.

  • لزوم عدم التساهل مع وساوس الشيطان منذ اللحظة الأولى

  • وعليه، منذ هذه اللحظة، متى ما جاء أحد، وبدأ يتحدّث معنا، لكي يوسوس لنا، فإنّه علينا أن ندقّ ناقوس الخطر، ونعلم أنّ الشيطان قد أتى؛ فما إن يُدعى الإنسان، ويُبعث إليه ببطاقة دعوة: «تعال أيّها السيّد إلى هنا وإلى هناك»، ويعلم أنّ الحضور في ذلك المكان معصية، وأنّ هذا المجلس غير إلهيّ، فإنّه عليه أن يعرف أنّ هذه الدعوة مرسلة من قبل الشيطان؛ فتجد تلك البطاقة جميلة ومكتوبة بخطّ أنيق؛ لأنّ الشيطان هو صاحب الدعوة، فيضعها في ظرف جميل، ويأتي بها إلى هناك.

  • بعث إليّ أحدهم برسالة استخدم فيها ـ والعياذ بالله تعالى ـ ألقابًا أخجل من ذكرها، فكتبت له في الجواب: إذا استخدمت مرّة أخرى لقبًا واحدًا من هذه الألقاب، فإنّني سأمزّق رسالتك من دون أن أقرأها، وألقي بها في سطل القمامة! فعليك أن تقول: حضرة السيّد المحترم، أو حضرة السيّد الطهراني، والسلام! فما هي حقيقة هذه الرسالة؟ إنّه الشيطان الذي بعثها؛ فمع أنّ فيها برنامجًا عمليًّا، وبيانًا لحكم شرعيّ، لكن، من هو المرسِل؟ فعليك أن تحذر؛ لأنّ الشيطان قد أتى؛ 

  • ـ لقد سُررتَ بهذا الأمر، فانظر إلى الألقاب التي منحوك إيّاها، فهي رفيعة جدًّا!

  • ـ لا، فأنا لست أهلاً لذلك، وماذا عليّ أن أقول، فأنا لا أستحقّ هذه الأمور، لكن ...

  • ـ لماذا تكذب؟ فأنت أهل لها جدًّا! ومن قال إنّك لا تستحقّها؟ أ فهل تتظاهر بكسر النفس؟ وهل أدركنا الآن مقدار الفاصلة بين الحقّ والباطل؟ فإذا كنتَ تُمدح بالباطل، لماذا تكتفي بالقول: «أنا لست أهلاً لذلك»؟ ولماذا لا تُلقم ذاك حجرًا في فمه؟ ولماذا تكذب وتقول: «أنا لا أستحقّ ذلك»؟ بل تستحقّه كثيرًا! فلماذا تكذب؟ فالجواب بالقول: «أنا لست أهلاً لذلك، وهذه الأمور لا تليق بي أنا»، وأمثال ذلك ...؛ فما هي حقيقة هذه الكلمات أيّها السيّد؟ فقبل أن تقول: «أنا لست أهلاً لذلك»، فإنّ الشيطان يكون قد عشّش في جميع أرجاء وجودك؛ كما أنّ الذي ينطق بهذه العبارة هو الشيطان، ولست أنت، فلا يلتبس عليك الأمر؛ فهو الذي يقول: «أنا لست أهلاً لذلك»، وهو الذي يُبرز التواضع، ويتظاهر بكسر النفس؛ وانتبهوا أيّها الرفقاء، فإنّ هذه المسائل التي أذكرها لكم من أسرار السلوك! فالشيطان هو الذي يُبرز التواضع على لسانك؛ في حين أنّ هذا ليس تواضعًا، بل شرك وكفر؛ وهو الذي يعتذر على لسانك.

    1. سورة الناس، الآية ٦.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

27
  • قال لي أحدهم: بعثوا إليّ رسالة من أحد الأمكنة، وكتبوا فيها: «اللهمّ كن لوليّك فلان ـ وذكروا الاسم ـ في هذه ...»؛ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله! ثمّ قال لي بعد ذلك وهو يضحك: «لكنّني قلت لهم: لا، أنا لست أهلاً لذلك، وأمثال هذه الكلمات»؛ يا للعجب! اللهمّ ... نعوذ بالله تعالى، إلى أين نذهب؟! وفي أيّ اتّجاه نسير؟! فهذا المسكين لا يعلم أنّه سقط على الأرض على وجهه، وأنّ الشيطان هو الذي يقول الآن «أنا لست أهلاً لذلك»، حيث قال: لقد ذكرت لهم في الجواب: «لا، أنا لست أهلاً لذلك»؛ في حين أنّ الشيطان هو الذي يُجيبهم بذلك، وهو الذي يسعى لإبراز التواضع! 

  • إنّ رجل الحقّ هو والدنا الذي حينما أتاه أحدهم، وأراد أن يُقبّل رجله، ضربه بالعصا على ظهره، إلى درجة أنّنا قلنا: لقد قسمه إلى نصفين! هل تُريد تقبيل رجلي؟ هل تريد أن تتلاعب بي؟ وهنا، نجد أنّ هذا العمل ليس من الشيطان، بل منه هو، ثمّ قال له بصوت مرتفع: «قم، واغرب عن وجهي! قم، واغرب عن وجهي!».

  • كنت في ساحة حرم السيّدة المعصومة سلام الله عليها، فرأيت بعينيّ أحد أقطاب الدراويش يأتي، وخلفه بعض الأفراد، لكن بفاصلة متر واحد؛ وفجأة، جاء رجلان من الناحية الأخرى، وما إن وصلا إليه، حتّى سقطا على الأرض في حالة سجود، وبدآ يُقبّلان رجله؛ بينما كان ذلك العظيم واقفًا هكذا، بنحو منظّم ومرتّب جدًّا، إلى أن أدّيا مراسم السلوك ـ بل الدلوك وليس السلوك! ـ بنحو تامّ وبأحسن وجه؛ وبعدما أخذا منه الإذن، أمرهما بالذهاب، والالتحاق بأولئك الأربعة [الذين كانوا خلفه]، فصاروا ستّة! {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}۱؛ أي أنّه سيأتي هو وجميع حاشيته، ويُلقي بالجميع على رؤوسهم في جهنّم؛ فما هذه حقيقة كلّ ذلك؟ فذلك خداع واحتيال، وهذا حقّ؛ هل انتبهتم؟

  • فعند مواجهة الحقّ، لا ينبغي علينا الهزل! فما إن نميل، حتّى يُوجّه [الشيطان] ضربته إلينا، وما إن تخطر علينا بعض الأفكار، حتّى يُوجّه ضربتنا إلينا؛ فتجد ذاك يدّعي أيضًا الهداية والإرشاد؛ لكن، نستعيذ بالله تعالى من هكذا إرشاد! ولا أعلم ما هو الاسم الذي يُمكننا أن نطلقه عليه! فحتّى هو يتصدّى للإرشاد، لكنّ ذاك [أي المرحوم العلاّمة] هو الذي يكون رجل الحقّ. ولديّ العديد من هذه القصص المنقولة عن الوالد، كما أنّه في جعبتي مجموعة من الحكايات بخصوص هذه الموارد التي تدلّ على ...؛ ففي نهاية المطاف، بوسع الإنسان أن يستوعب حقيقة هذه الأمور،؛ ودع الكلام عنّي أنا، بل حتّى الذين لم يكن لهم ارتباط به [أي بالمرحوم العلاّمة] كانوا يُدركون ذلك؛ فهذا هو الطريق.

    1. سورة هود، الآية ٩۸.

الأبعاد الإيجابيّة في خلق الشيطان

28
  • لقد أحسست بالتعب؛ ومهما تحمّلت، حتّى يقول الرفقاء بأنفسهم: «لقد تعبنا»، فإنّ ذلك لم يحصل؛ لأنّ همّتهم ولله الحمد عالية، وشوقهم كبير، ونفوسهم مستعدّة، لكنّ النقص منّي أنا؛ فماذا بوسعي أن أفعله إذا كانت قابليّتي محدودة؟! ولعلّه بقي علينا إنهاء مقدار قليل من البحث، فنتركه للجلسة اللاحقة إن شاء الله تعالى.

  • نرجو من العليّ القدير أن يُعرّفنا على تكاليفنا، ويُرشدنا إلى سلوك الطريق كما سلكه العظماء، فننتبه إلى هذه المسألة التي كان يُنبّه إليها دائمًا الأولياء، حيث كان المرحوم العلاّمة يقول: «قبل أن نُفكّر في مسائل أخرى ...». لقد كنت أريد الحديث في نهاية كلامي عن هذا الموضوع، إلاّ أنّ طاقتي قد نفذت؛ ولهذا، سأسعى على نحو الإشارة إلى بيان كلام المرحوم العلاّمة الذي وضّح فيه معنى عبارة: «علينا أن نستسهل أمر الشيطان».

  • كان المرحوم العلاّمة يقول: احرصوا قبل أن يأتي الشيطان عندكم أن تأخذوا أنفسكم بعين الاعتبار؛ فهذا هو المهمّ؛ فقبل أن يأتي الشيطان، ويسعى للوسوسة إلينا، علينا أن نعلم ما هي المكانة التي سنحصل عليها في هذه الأثناء؛ ففي هذه الحالة، ستفقد تلك الوسوسة مفعولها؛ لا أن ننسى أنفسنا، ونأخذ وسوسته بعين الاعتبار، فنغفل عن أنفسنا، فتأتي كلماته حينئذ، وتؤثّر فينا. فقبل أن تأتي هذه الكلمات، علينا أن نُفكّر قليلاً في أنفسنا، ونقول: ماذا ستصير أنت في خضمّ هذه الأحداث؟ وإلى ماذا ستؤول سعادتك في هذه الأثناء؟ وإلى أيّ شيء سيؤول مصيرك هنا؟ فحينما تقوم بذلك، فحتّى لو جاءت تلك الكلمات، فإنّها ستكون باهتة، وستفقد لونها وجاذبيّتها.

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.

  •