102

فلسفة خلق الشيطان

1873
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةحقيقة الدنيا والشيطان

التاريخ 1425/03/25

جلسات المجموعة(6 جلسة)

التوضيح

في هذه المحاضرة الشريفة التي عقدها سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه لإكمال البحث عن فقرة «فَإذَا أَكْرَمَ اللَهُ الْعَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ هَانَ عَلَيهِ الدُّنْيا، وَإبْلِيسُ، وَالْخَلْقُ ...»، تحدّث بدايةً عن بعض المسائل المرتبطة بالتقليد فيما يخصّ عِظم المسؤوليّة والالتزام تجاه دين الناس، وكذلك الشروط التي ينبغي توفّرها في المقلَّد، وضرورة تعرّف المقلِّد على أفكار المقلَّد وشؤونه المعنويّة ومستواه الإيمانيّ والتقوائيّ، لينتقل للحديث عن العمل الرئيسيّ للشيطان المتمثّل في الوسوسة، وبيان الهدف من هذه الوسوسة، ومن هم الذين يخضعون لها، والطريقة المثلى لمواجهتها؛ وذلك في ضمن استعراضه رضوان الله تعالى عليه لبعض القصص والنماذج لهذه المسألة المهمّة.
/۲۲
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

فلسفة خلق الشيطان

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • فلسفة خلق الشيطان 

  •  

  • شرح حديث عنوان البصريّ، المحاضرة ۱۰٢

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

فلسفة خلق الشيطان

2
  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد 

  • وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام: «فَإذَا أَکْرَمَ اللَه الْعَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلاثَةِ، هَانَ‌ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَإبْلِيسُ وَالْخَلْقُ».

  • إذا وفّق الله تعالى أحدًا، وتحقّقت فيه هذه الأمور، سيهون عليه كلٌّ من الدنيا وإبليس والشيطان والخلق، ولن يعود له أيّ اهتمام بهذه المسائل الناتجة عن تلك الأمور الثلاثة؛ أي الدنيا والشيطان والخلق؛ لكن، ما هو الاسم الذي ينبغي علينا وضعه لهؤلاء الخلق؟ أفضل اسم هو: الحيارى، حيث كان المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه يقرأ كثيرًا هذا البيت الشعريّ لمولانا [جلال الدين الرومي]: 

  • خلق را تقلیدشان بر باد داد***ای دو صد لعنت بر این تقلید باد
  • [يقول: لقد جعلَ التقليدُ الناسَ في مهبّ الرياح، فألف لعنةٍ على هذا التقليد].

  • ضرورة تعرّف المقلِّد على أفكار المقلَّد وشؤونه المعنويّة ومستواه الإيمانيّ والتقوائيّ

  • فنرى الجميع يُقلّدون؛ مع أنّ المراد من التقليد هنا هو التقليد في المسائل الاعتباريّة، وإغلاق الأعين والآذان، وسيطرة الإحساسات، وتعطيل القوى العقليّة، حيث نرى وجود هذا التقليد في جميع الموارد، بما فيها المسائل الشرعيّة؛ ففيما يخصّ هذه المسائل، يُسأل الآن مثلاً: «يا سيّدي، بأيّ نحو ينبغي علينا أن نُقلّد؟»، فيُقال: «توجد العديد من الرسائل العمليّة في هذا العصر، وكتب الفقهاء متوفّرة ولله الحمد، وإذا أدلى إثنان من أهل الخبرة بشهادتهم [على أعلميّة أحدهم]، فذلك يكفي!»؛ وبحقّ، إذا سُئل الناس عن المراجع الذين يُقلّدونهم: «كم مرّة التقيت بمرجعك؟ وكم مرّة تحدّثت معه؟ وكم مرّة جلست وقمت معه؟»، فإنّهم سيقولون: «ما هذا الكلام أيّها السيّد؟ لا يحتاج الأمر للقائه، ولا للجلوس معه، ولا للحديث معه؛ فرسالته العمليّة موجودة في المحلاّت، وهذا يكفي».

  • وإن سُئل أحدهم: «هل لديك معرفة بمرجعك؟ وهل أنت مطّلع على مسائله الروحيّة والنفسيّة؟ وهل لديك علم بآرائه؟»، فإنّه سيُجيب: «لا يحتاج التقليد إلى هذه الأمور أيّها السيّد».

  • لكن، ذات يوم، كنت في محضر المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ رضوان الله تعالى عليه، حيث كان يعقد مجالس في يوم الخميس، وتُشارك فيها ثلّة خاصّة، وتُطرح فيها مسائل علميّة مختلفة، وكنت أحيانًا أتوفّق للحضور فيها؛ وفي أحد الأيّام، وفي خضمّ البحث عن مسألة فلسفيّة معيّنة، طُرق الباب فجأة، فدخل أحد الشباب، وجلس هناك؛ وما إن سنحت له الفرصة للحديث، حتّى قال: «لقد جئتُ يا سيّدي من طهران إلى قمّ، للتقصّي والبحث والحديث عن مسألة التقليد (وترجع هذه الحادثة إلى زمان قديم جدًّا حيث كنت أبلغ آنذاك تسعة عشرة أو عشرين سنة تقريبًا)، وأرشدوني إلى منزلك (منزل العلاّمة الطباطبائيّ)، فأريد الآن أن أسألك عن هذه المسألة». فبدأ [العلاّمة الطباطبائيّ] بالحديث عن أنّ التقليد له شروط؛ فينبغي أن تكون للمقلِّد معرفة بالمقلَّد، ويتردّد عليه، ويطّلع على أحواله عن قُرب، ويكون مُلمًّا بآرائه، ويُعيّن أفرادًا متعدّدين من أجل التقصّي والسؤال عنه، ويلتقي بهم، حتّى يتعرّف بنحو كامل على صفاته الشخصيّة، وأفكاره، ودرجة قرب مبادئه من المبادئ الشرعيّة، ويطّلع على شؤونه المعنويّة ومستواه الإيمانيّ والتقوائيّ. وحينما أشار المرحوم العلاّمة إلى هذه المسائل، قال ذلك الشابّ الذي كان من الشباب العاديّين: «طبقًا لما ذكرتم، يتعيّن على الإنسان التحقيق لمدّة سنتين حتّى يتمكّن من بلوغ هذا الأمر»؛ فقال المرحوم العلاّمة بكلّ هدوء: «هل يستحقّ الأمر ذلك أم لا يستحقّ؟»؛ انظروا، يا له من كلام حكيم! وكم يتضمّن من مسائل دقيقة! هل يستحقّ الأمر ذلك أم لا يستحقّ؟ وبحقّ، هل تُطرح مسألة التقليد في مجتمعنا الآن بهذا النحو؟ فنجد الإنسان يتحدّث في الليل مع شخصين، وفي الغد، يذهب لشراء رسالة عمليّة من الشارع؛ هذا فقط، حيث يقتصر تحقيقُه على ليلة واحدة وحسب؛ مع أنّه كان نائمًا في أثناء ذلك! أي أنّ البعض يستغرق الأمر معه نصف ساعة؛ في حين أنّ البعض الآخر لا يُحمّل نفسه عناء حتّى هذه النصف ساعة!

فلسفة خلق الشيطان

3
  • حينما كان المرحوم العلاّمة يقول إنّ التقليد من القلادة، فإنّ ذلك يعني وضع القلادة في العنق، وإلقاء الزمام في يد الغير؛ فعندما يُقلّد أحد شخصًا آخر، فإنّ المراد من ذلك: لقد فوّضت إليك ديني ومالي ونفسي وعرضي؛ فهذا هو معنى التقليد. فترانا ما إن نحسّ بألم يسير في الرأس، حتّى نظلّ نبحث طيلة أسبوع، إلى أن نعثر على أفضل طبيب، ونذهب عنده؛ وإن شعرنا بقليل من الألم في البطن، فإنّنا لا نُصغي إلى أيّ أحد مهما قال؛ ومع ذلك، تجد البعض يُريد [تسليم] دينه [لأيٍّ كان]؛ وفي هذه الحالة، هل أدركنا كم صارت المبادئ مختلفة؟ وكم أضحى فهم القواعد واستيعابها منحطًّا؟ فيكفي أن يأتي شخصان، ويقولا: «فلان أعلم»، وينتهي الأمر! على الإنسان أن يودع دينه وماله ونفسه وعرضه لشخص يكون مستأمنًا من قبل الله تعالى، حتّى إذا جاء يوم القيامة، يكون هذا الشخص مسؤولاً عن كافّة القضايا التي تحصل له طيلة حياته.

  • عظم المسؤوليّة والالتزام تجاه دين الناس

  • قبل عدّة سنوات، حصلت مسألة معيّنة، وقد ذكرتها لأحبّةٍ كانوا قد جاؤوا من طهران، وتذكّرتها الآن، فارتأيت أن أقصّ على الرفقاء هذه المسألة التي حدثت للمرحوم العلاّمة، لتتّضح مدى صعوبة تحمّل المسؤوليّة والالتزام تجاه دين الناس، وسنتطرّق إلى هذا البحث عند الوصول إلى الفقرة التي يقول فيها الإمام عليه السلام: «فِرَّ مِنَ الْفُتْيَا فَرارَکَ مِنَ الْأَسد»؛۱ أي اهرب من الفتيا كما تهرب من الأسد المفترس؛ كأن تذهب إلى حديقة الحيوان مثلاً ـ وقد حدث ذلك فعلاً ـ ، فيُفتح باب القفص، ويخرج منه أسد؛ فحينئذ، ما هي الحالة التي ستشعر بها؟ فكّروا في الأمر قليلاً! هذا، مع أنّني أقول هنا للأحبّة والفضلاء ولأعزّائي إنّ هذه المسألة تجري بعموميّتها وملاكها في بقيّة الأمور أيضًا، بل حتّى إذا نقّحنا ملاك هذه المسألة ومناطها، فإنّ بوسع كلّ واحد الشعور بها في نطاق مسؤوليّته الشخصيّة. فافرضوا الآن أنّ باب ذلك السياج والقفص قد فُتح فجأة، وخرج منه أسد، فما هي الحالة التي ستشعرون بها؟ يقول الإمام عليه السلام: حينما تُريد إفتاء الناس، استشعر هذه الحالة في نفسك؛ أي: فرّ من الفتوى مثلما تفعل عندما يُفتح باب حديقة الحيوان، فيخرج منها أسد، حيث ستتحيّن أيّة فرصة للفرار؛ فإذا وجدت شجرة أو عمودًا، ستسعى لتسلّقهما، وسترغب في الطيران أو الإلقاء بنفسك في الماء، أو الاختباء تحت الأرض؛ وهذا أمر واضح؛ لأنّك ترى أسدًا يأتي:

    1. يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديث عنوان البصريّ: «وَاهْرُبْ مِنَ الْفُتْيَا هَرَبَكَ مِنَ الاْسَدِ».

فلسفة خلق الشيطان

4
  • دو بدین چنگ ودو بدان چنگال***یك به دندان كه شیر غرّان را
  • [یقول: فمسك إثنين بهذا المخلب، وإثنين بذلك البرثن، وواحدًا بأسنانه مثل الأسد المزمجر]

  • ففي هذه الحالة، يكون الأمر واضحًا! فما هو الشعور الذي أحسّ به الإمام الصادق عليه السلام في هذه المسألة، حتّى يبيّنها بهذا النحو؟ سأعرض لكم نموذجًا صغيرًا عن ذلك، وأستبعد كثيرًا ألاّ يُثير هذا النموذج تعجّب كلّ واحد منكم، ولا تقولوا: أ فمن الممكن حصول هذا الأمر؟! فحينما كان المرحوم العلاّمة يقول: «عليكم أن تعلموا أيّ شخص تُقلدون، وتتعرّفوا عليه»، فإنّ ذلك ليس من باب المزاح، بل إنّ الحياة والكمال يتوقّفان على هذا الأمر؛ في حين جلسنا نحن في بيوتنا، وبدأنا نقول: «اذهب يا سيّد، وقلّد فلانًا! فما هي المشكلة في ذلك؟ اذهب وقلّده! اذهب إلى هنا! اذهب إلى هناك!»؛ وسوف أذكر في هذا المجال حكايتين: الأولى هي هذه، وتوجد حكاية أخرى تذكّرتها الآن.

  • فذات يوم، ذهبنا لأداء صلاة الجمعة في المصلّى الواقع خارج مشهد، حيث كان المرحوم العلاّمة يحضر صلاة الجمعة، ما دامت ظروفه الصحّية تسمح بذلك، ولم يكن له ظرف خاصّ أو مانع محدّد؛ فكنت أذهب برفقته، وأحيانًا أذهب لوحدي؛ وفي تلك الأيّام، كان الفصل صيفًا، والجوّ حارًّا جدًّا، وكانت السيّارة مصفوفة في مكان بعيد، بحيث توجّب علينا قطع مسافة كبيرة من هناك إلى محلّ إقامة الصلاة؛ فشعرت أنّ العرق كان يتصبّب منه بشدّة، وكان يمشي بهذا النحو من التعب والإنهاك؛ كما أنّ أحواله لم تكن على ما يُرام؛ فذهبنا، وأدّينا الصلاة؛ هذا، بغضّ النظر عمّا حصل قبل خطبة الجمعة، حيث جاء أحدهم، وبدأ يطرح بعض المسائل؛ ويا لها من مسائل! ويا لها من فيوضات! وبعد انتهاء الصلاة، كان الجوّ حارًّا جدًّا؛ وبسبب كثرة الحشود، علقنا في الطريق؛ وفي هذه الأثناء، وقعت عينيه على أحد الأشخاص كان قد فقد رجليه خلال حرب العراق مع إيران؛ وهي الحرب التي استغرقت ثمان سنوات، وفرضها ـ حقيقةً ـ الاستكبار والكفر العالميّين علينا؛ فكانت رجلاه مبتورتين، ويمتطي درّاجة ناريّة صغيرة ذات راكبين، حيث كانت زوجته تركب معه أيضًا؛ فعلقا بدورهما وسط تلك الجموع مثلنا؛ غاية الأمر أنّنا كنّا واقفين، بينما كان هذان المسكينان عالقين، وفي وضعيّة سيّئة جدًّا، وقد أصيب ذلك الرجل بالدوار، وزوجته قلقة عليه جدًّا، وتسعى لتهويته بالمروحة؛ لأنّ الهواء كان حارًّا جدًّا، إلى درجة أنّنا أُنهكنا أيضًا؛ وفجأة، رأيت أنّ عيني المرحوم العلاّمة وقعت على ذلك الشخص الذي كان يُعاني من تلك الأمور؛ فلم تمرّ دقيقة واحدة أو دقيقتان، حتّى رأيته يبكي؛ وأيّ بكاء كان! وفي ذلك الحين التفتّ إلى حقيقة الأمر، وما هي المسائل التي جاءت على باله، وما هي الأفكار التي خطرت على ذهنه حينما رأى ذلك المسكين بتلك الأوضاع، بحيث لم يعُد قادرًا على الوقوف على قدميه؛ إذ حصل له انقلاب عجيب، إلى درجة أنّني لم أتجرّأ على أن أقول له ولو كلمة واحدة؛ فذهبنا إلى السيّارة بهذا النحو، ورجعنا إلى البيت؛ وقد بقي منطويًا على نفسه بذلك النحو، وألغيت جلسة عصر الجمعة أيضًا؛ يعني: أنّ هذا المشهد كان صعبًا ومريرًا بالنسبة إليه، إلى درجة أنّه لم يتمكّن في العصر من حضور الجلسة التي كان من المفروض أن يُشارك فيها، ووصل مستوى الضغط عنده إلى تسعة عشر وواحد وعشرين درجة؛ إذ حينما قست ضغطه في الليل، كان قد وصل إلى ستّة عشر على إحدى وعشرين أو إثنتي وعشرين درجة؛ لكنّني لم أخبره بذلك، واكتفيت بالقول: «إنّ مستوى الضغط عندك مرتفع قليلاً»؛ وهو بدوره لم يسألني.

فلسفة خلق الشيطان

5
  • ذات يوم، ذهبت برفقته لزيارة أحد الأسراء كان قد رجع من العراق، وكان صهرًا من أصهاري؛ فبدأ ذلك الأسير بحكاية المسائل التي حصلت له، وكان من الواضح أنّ حاله لم يكن على ما يُرام، حيث لم يكن [يقدر] على الكلام؛ ومن ضمن العبارات التي ذكرها أن قال: لو أنّهم ذهبوا بنا إلى إسرائيل، لما عذّبونا هناك كما عذّبونا هنا [في العراق]! حينما نطق بهذا الكلام، رأيت أنّ الأوضاع قد صارت جيّدة!! وأنّ المرحوم العلاّمة قد غاب، ثمّ غاب، وأطرق برأسه إلى الأسفل، وتغيّر لونه، واحمّر وجهه، وانتفخت أوداجه، وشرع في البكاء؛ وفي نهاية المطاف، رجعنا [إلى المنزل]، فأصيب في ذلك اليوم بالحمّى، ولم يكن يتحدّث مع أيّ أحد لمدّة يومين؛ وأعتقد أنّ الأحبّة يعرفون ما الذي أريد قوله؛ ولهذا، عليهم أن يكون يقظين.

  • فهذا ما يرتبط بتلك المسألة، وأمّا بالنسبة للمسألة التي أريد الحديث عنها، فهي كالآتي: فقد تقّرر حصول أمر معيّن، وعقد ارتباط [بين رجل وامرأة]، غير أنّ الواسطة التي تدخّلت في هذا الارتباط [الزواج] تجاوزت الحدود قليلاً في سعيها لتحقيق هذا الأمر؛ هذا، مع أنّها لم تقم بشيء [سيّء جدًّا]، إلاّ أنّها تحدّثت ببعض الكلام الزائد، وأنّه إذا لم يتحقّق هذا الارتباط ...؛ وهذا لا يعني أنّ تلك المرأة العفيفة لم تكن لها رغبة به [بذلك الزواج]، بل لعلّها كانت ترغب فيه كثيرًا؛ غاية الأمر أنّ درجة شعور الإنسان بالمسؤوليّة عند بيانه للمسائل تفرق كثيرًا؛ وهذا هو المهمّ. أ فهل ينبغي أن تتمّ الأمور بأيّ نحو كان، أم لا؟ وهل يستحقّ الأمر أن يُبدي الإنسان تجاهه كلّ هذه التضحية والاهتمام؟ فهذه مسألة مهمّة، وهذه أمور لا تعود إلينا نحن؛ مع أنّ جميع الرفقاء يتحمّلون المسؤوليّة في ذلك.. كلٌّ بحسبه؛ وصحيح أنّ بعض هذه الأمور يختصّ بطائفة، وبعضها يخاصّ بطائفة أخرى؛ لكن، بشكل عامّ، قد تحصل هذه المسألة لكلّ واحد منّا في حياته.

  • فبسبب ذلك الحثّ والتشجيع الذي قامت به [تلك الواسطة]، عانت تلك المرأة العفيفة من بعض الآلام، ووقعت تحت نوع من الضغط؛ وهو ضغط إذا أردنا أن نتحدّث عنه، فإنّنا نقول: إنّها تعرّضت للأذى مرّة واحدة أو مرّتين؛ فهذا غاية ما تعرّضت له؛ وهي قضيّة أثارت تعجّبي أنا أيضًا؛ وهنا، إذا أردت أن أفصح لكم عن الأمر أكثر، فإنّني أقول: إنّها تعرّضت لضرب يسير مرّة واحدة أو مرّتين، هذا وحسب، حيث سعت تلك الواسطة لأن تستغلّ قليلاً مكانة المرحوم العلاّمة وشخصيّته، لأجل مزيد من الترغيب والتشجيع على ذلك الأمر؛ فتعرّضت تلك المرأة للضرب مرّة واحدة أو مرّتين، حيث لم يكن والداها وعائلتها راضين عن ذلك، فوقعت تحت الضغوط؛ وفي الأخير، لم تتحقّق تلك المسألة.

فلسفة خلق الشيطان

6
  • ذات يوم، تشرّفت تلك المرأة العفيفة بزيارة مشهد، وجاءت عند المرحوم العلاّمة، فسألها عن الحادثة التي وقعت، فقالت له المسكينة بكلّ حياء وخجل: «لم أوفّق لهذه المسألة، ولم أتمكّن من نيل هذه السعادة، وأمثال ذلك؛ وقد تعاملت مع هذه القضايا التي حصلت بنظرة سلوكيّة، ووفقًا لمشيئة الله تعالى، ومن اللازم أن يتحقّق الأمر بهذا النحو ...»؛ وهنا، أقف عاجزًا عن أن أبيّن للرفقاء الحالة التي حدثت له؛ لكنّني أكتفي بالقول: لمجرّد أنّه جرى استغلال شخصيّته ومكانته لعقد ذلك الارتباط، وبسبب هذا الاستغلال، تعرّضت تلك المرأة للضرب والتأديب مرّتين أو مرّة واحدة ـ وأظنّها كذلك ـ من قبل أوليائها، فإنّ الله تعالى وحده العالم بما حصل! فقد انتابه غضب شديد إلى درجة خِلنا معها أنّ السماء وقعت حقيقةً على الأرض! حيث دخل من الغرفة الخارجيّة إلى الغرفة الداخليّة، وبأيّ لحن من الكلام تحدّث مع والدتنا! سأفعل كذا، وأفعل كذا، وسأعرف كيف أتصرّف، وأنا لن أجيز لأيّ أحد القيام بهكذا أعمال خاطئة، وكذا وكذا وكذا؛ ألا يخجلون من أنفسهم؟! وفي تلك الليلة، أصيب بانزلاق غضروفيّ؛ ويا له من انزلاق! حيث كانت العبارة التي ذكرها هي: «يا لها من ليلة مرّت عليّ البارحة يا فلان!»؛ إذ حينما أتيت في صباح الغد ـ لأنّني كنت أجيء إلى المنزل في النهار ـ ، رأيته مستلقيًا على الفراش؛ فقلت له: «ما الذي حصل؟»، قال: «لقد أصبت بانزلاق غضروفيّ»؛ وكانت عبارته كالآتي: «استيقظت في منتصف الليل من أجل تجديد الوضوء، فبقيت أصارع لمدّة ساعة ونصف من دون أن أنجح! لقد ظللت أكافح لمدّة ساعة ونصف من أجل الوقوف، غير أنّني لم أستطع!»؛ لكنّنا لم نتمكّن من معرفة سبب ذلك؛ وعند حلول العصر، رأيت أنّ أحد الأصدقاء من الأطبّاء قد أتى، وهو الدكتور بيرجندي حفظه الله تعالى من الأصدقاء في مشهد؛ فكان يسهر على معالجة المرحوم العلاّمة، إلى أن تحسّنت صحّته قليلاً، حيث بقي في المستشفى طيلة أسبوعين، مع ما رافق ذلك من تحمّل للألم وأمثال ذلك.

  • ذات يوم، سألته: «هل لذلك المرض الذي ألمّ بك طابع عصبيّ أم عضويّ». فقال: «لا، له طابع عصبيّ»؛ فقلت: «ماذا حصل؟»، ثمّ قلت له بنفسي: «أ لم يكن ذلك بسبب تلك المسألة؟»، فضحك، وقال: «أجل! كان بسبب تلك المسألة، لكن، عليك أن تكتم الأمر». فلم أنبس في ذلك الحين ببنت شفة، لكنّني أفصحت الآن عنها؛ هل التفتّم؟ هل يُمكنكم أن تعثروا الآن على أحد في العالم يشعر بالمسؤوليّة بهذا النحو؟ وإلى هذه الدرجة؟ أنا لا أعرف أيّ أحد هكذا! حيث نجده [يتفاعل بتلك الطريقة] لمجرّد أنّ أحدهم استغلّه في مسألة واحدة؛ وهذا يرفع من مستوى مسؤوليّتنا؛ إذ اقتصر الأمر على أنّ امرأة مسكينة تعرّضت للضرب مرّة واحدة من قبل أبيها، فبدأ يقول: «على أيّ أساس يُراد إلصاق هذه المسألة بي؟ ولماذا ينبغي نسبة هذا الأمر إليّ؟ ولماذا يُراد إساءة استغلال مكانتي في هذه المسألة؟»، مع أنّ الأمر لم يكن فيه إساءة استغلال؛ لأنّ الهدف منه كان هو إيجاد ارتباط [بين شخصين]؛ وأنا الذي أقول هنا: إساءة استغلال؛ فلماذا ينبغي أن يكون الأمر بهذا النحو؟ لماذا لا تُعطى للإنسان الحريّة التامّة والاختيار العقلانيّ الكامل؟ ولماذا ينبغي وضعه في حصار إعلاميّ، لكي تأتي تلك المنغّصات و... .

فلسفة خلق الشيطان

7
  • لزوم كون المقلَّد مأمونًا على الدين والدنيا

  • يا عزيزي! لقد كان ذلك مجرّد ضربة واحدة! فقس ذلك على بقيّة الموارد الأخرى الأهمّ؛ وحينئذ: عليك، أن تتّبع الشخص الذي يتّصف بالأمانة، ويكون مستأمنًا من قبل الله تعالى على الدين؛ مثلما ورد في كلام الإمام عليه السلام في ذلك الزمان بخصوص زكريّا بن آدم المدفون في قمّ: «إنّه مأمونٌ على الدين والدنيا»؛ فإذا أودعتَه دينَك، فلن يخون الأمانة، ولن يُحدّثك بكلام مجانب للصواب، ولن يُخبرك بحكم خاطيء لأجل مصلحته، ويقول: «الظروف الحالية تقتضي أن نتحدّث بهذا النحو»! لا، بل سيُبيّن الحقّ، ولو كان في ضرره.

  • خلق را تقلیدشان بر باد داد***ای دو صد لعنت بر این تقلید باد
  • [يقول: لقد جعلَ التقليدُ الناسَ في مهبّ الرياح، فألف لعنةٍ على هذا التقليد].

  • فمن هو الذي يتعيّن تقليده؟ ذاك الذي يكون أمينًا على الدين والدنيا؛ فهكذا هي مسألة التقليد؛ وأمّا بالنسبة لما يقوله المعاصرون: «لا يوجد لدينا تقليد بتاتًا»، فهو هراء كلّه، وعبارة عن ترّهات؛ لأنّ العامّي ملزم بالرجوع إلى العالم؛ وعلى الذي لا يمتلك العلم أن يرجع إلى العالم؛ غاية الأمر أنّه عليه أن يعثر على عالم أمين؛ وأمّا أن نقول: «لا يوجد تقليد»، فهذا كلام تافه وباطل.

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام في هذه الفقرة: إذا وفّق الله تعالى عبدًا لهذه الأمور الثلاثة: ألاّ يُدبّر شؤونه، حيث ينبغي أن يكون الرفقاء مطّلعين على هذه الأمور، ويجب عليهم تذكيري بها إذا نسيتها؛ فالأمر الأوّل هو ألاّ يُدبّر العبد شؤونه، والثاني أن يعدّ كافّة أمواله مملوكة لله تعالى، والثالث.. ماذا؟ أحسنت! يختصّ باشتغاله، حيث غاب عن بالي هذا الأمر؛ فينبغي أن يكون اشتغاله بالأوامر والنواهي الإلهيّة. فإذا وفّق الله تعالى أحدًا لهذه الأمور الثلاثة: هان عليه الدنيا؛ فتصير الدنيا هيّنة وسهلة بالنسبة إليه، ولا يعُد يغتمّ لها، فلتذهب الريح بهذه الدنيا، أو ليحلّ زلزال، أو لتقع الدنيا في مهبّ الريح، وليكن ما يكون! وهكذا أيضًا بالنسبة لإبليس.. هذه الشخصيّة المميّزة التي لم يخلق الله تعالى لها نظير في عالم البشريّة، مع أنّه لا يتوفّر على جهة بشريّة؛ ولهذا؛ فإنّ المراد هنا صفاته المميّزة؛ والأمر الثالث هم الخلق والناس، فلا يعُد ارتباطه بالناس صعبًا، بل سيضعهم في مكانتهم الخاصّة.

فلسفة خلق الشيطان

8
  • الوسوسة العمل الرئيسيّ للشيطان

  • وأمّا المسألة التي أريد الحديث عنها اليوم، فتتمثّل في: إلى أيّ مدى ينبغي أن نأخذ الشيطان بالحسبان؟ وإلى أيّ حدّ يجب علينا أن نجعل هذه القوّة الشيطانيّة التي تدعو الإنسان إلى طريق معارض للرشد والصلاح محلّ اعتبار؟ وكم يتعيّن علينا أن نُفكّر فيه؟ وإلى أيّ مدى يلزمنا أن نجعل له مساحةً في أجوائنا وحساباتنا؟ فإذا سألنا كلّ واحد، فإنّ الجميع سيقول: يا سيّدي، إنّ الشيطان عبارة عن قوّة ومخلوق جاء ذكره حتّى في القرآن: {يٰا بَنِي آدَمَ لاٰ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطٰانُ كَمٰا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمٰا لِبٰاسَهُمٰا لِيُرِيَهُمٰا سَوْآتِهِمٰا .. }؛۱ أي: يا بني آدم، لا يلقينّ بكم الشيطان في الفتنة والضلال والابتلاء؛ مثلما أوقع أباكم آدم وأمّكم حوّاء في هذا الابتلاء، وأخرجهما من الجنّة؛ حينما وسوس لهما: {فَوَسْوَسَ لَهُماَ الشَّيطانُ}، حيث يُراد من الوسوسة في هذا الآية تهيئة المقدّمات وإخطار نوع من الأفكار في الذهن بشكل مكرّر، والحركة في اتّجاه مخالف للحقيقة.

  • ألا تقولون: لقد أصبت بالوسواس وشعرت بالإغراء؟ فمن باب المثال، قد يكون الطعام الفلانيّ سيّئًا بالنسبة للإنسان ومضرًّا له، لكن، حينما ينتابه الجوع، ويوضع أمامه هذه الطعام، فإنّ يبدأ في القول: لقد أصبت بالوسواس وشعرت بالإغراء! فما المراد هنا من هذا الوسواس والإغراء؟ يعني أنّ ذلك الجوع سينضمّ إلى الطبع ورائحة الطعام وجودته، فتتعاون كلّ هذه الأمور لكي تُزيح عن نظر الإنسان تدريجيًّا تلك الحقيقة الواقعيّة والمستترة وتلك المصلحة، وتُحلّ محلّها تلك المفاتن المجازيّة؛ فهذا الذي يُقال عنه وسوسة وإغراء، حيث يبدأ الإنسان بالشعور بالرغبة: ما شاء الله! يا لها من رائحة! فما إن تُلامس رائحة [طيّبة] مشامّه، حتّى تنساق نفسه قليلاً إلى تلك الجهة؛ فهذا الذي يُقال له وسوسة.

  • ثمّ ينظر، فيرى: ما شاء الله! يا له من طعام! فتأتيه وسوسة وإغراء آخر؛ ثمّ يأتي على باله فجأة أنّ هذا الطعام مضرّ له، وأنّ الطبيب منعه من تناوله، فيقول: «إن أكلت منه مرّة واحدة، فلن أموت، ولن يحصل أيّ شيء، فلأتناول منه قليلاً، ولو لقمة واحدة! فمراد الطبيب ألاّ أملأ منه بطني، بينما أنا لن أتناول منه إلاّ ملعقة واحدة!»؛ فهذا الذي يُقال له وسوسة، وحلول عوامل الجذب الزائفة محل المبادئ والقضايا المنطقيّة في الذهن.

    1. سورة الأعراف، الآية ٢۷.

فلسفة خلق الشيطان

9
  • {فَوَسْوَسَ لَهُماَ الشَّيطانُ}؛ فجاء الشيطان، وبدأ يوسوس، ويوسوس، ويقول: لقد بقيت كلّ هذه المدّة في الجنّة، أ فلم تُصب بالتعب والملل؟ فأنت في نهاية المطاف قد جُلتها طولاً وعرضًا، ورأيت ما فيها: أشجار، وفواكه، وحور عين، وغلمان، و...؛ غير أنّ الإنسان يرغب في التنوّع، وهناك بعض الأمكنة التي خلقها الله تعالى [ولم ترها بعدُ]، حيث خلق عالم الدنيا وعالم الأرض الترابيّة الذي يتميّز بالخصائص الكذائيّة، ويتسنّى لك فيه أن تأكل ما تشاء، وتفعل ما تريد، من دون أن تكون تحت مراقبة أيّ أحد بعد ذلك، بل ستكون الأمور بين يديك أنت؛ فبدأ يُحدّثه بهذه المسائل، ويُهيء أرضيّة الضعف المساهمة في ارتكاب المخالفة، وينمّيها.

  • فلماذا لا يذهب الشيطان عند الملائكة، ويوسوس لهم؟ هل جاء على بالكم إلى حدّ الآن، أن يأتي الشيطان عند جبرائيل! ما شاء الله! ما الخبر؟!

  • وهنا أريد أن أحكي لكم قصّة، وهي ليست مهمّة جدًّا، لكن، لا ضير في ذكرها من باب المزاح؛ فذات يوم، ذهبت لزيارة أحد الأحبّة، وكانت له زوجة؛ ومع أنّ هذه المسكينة كانت من أهل صلاة الليل و...، إلاّ أنّها أصيبت بمرض، وكانت تُبدي نوعًا من الشكوى والاعتراض على الله تعالى، لكن بمقدار قليل جدًّا! وبما أنّ أحوالها لم تكن على ما يُرام، ووصف لها الطبيب دواء للتقليل من الألم والمعاناة التي كانت تُقاسيها، فإنّها كانت تتحدّث بكلمات حلوة، حيث قام زوجها لأداء الصلاة، فقالت له: «لا تُصلِّ يا عزيزي! فلأجل من تُصلّي؟ فهو بهذا النحو، سيُدلّل نفسه؛ وحينئذ، سيزيد من ألمنا أكثر فأكثر! فلا تُتعب نفسك من دون طائل! فهو بهذا الشكل، سيُدلّل نفسه؛ وحينئذ، سيزيد من ألمنا أكثر فأكثر! فلا داعي لأن تُصلّي، بل أبدِ له عدم اهتمامك قليلاً، وستنحلّ الأمور!»؛ لقد كانت أحوالها جيّدة، وكنّا بدورنا نضحك من هذه الأمور.

  • لماذا يوسوس الشيطان للإنسان ولا يوسوس للملائكة؟

  • فلماذا لا يذهب الشيطان عند الملائكة؟ ولماذا لا يقترب من جبرائيل؟ لأنّها لا تمتلك تلك الأرضيّة، ولأنّها وصلت إلى مرتبة الفعليّة العقليّة، لكن بحسب مستواها، فسُلبت عنها أرضيّة ارتكاب المعصية؛ ولهذا، إذا ذهب عند جبرائيل ألف مرّة، فلن يُصغيَ له أبدًا؛ ومن هنا، فإنّه يقول: «لماذا أتعب نفسي معه من دون طائل؟! عليّ الذهاب عند الأفراد الذين يُصغون ولله الحمد إليّ، ويُعطون قيمة لكلامي، ويُثمّنونه، ولا يطرحونه أرضًا»؛ ولهذا، فإنّه لا يذهب عند الملائكة؛ وحينئذ، ماذا يفعل سماحة الشيطان؟ يأتي عندي وعندك {فَوَسْوَسَ لَهُماَ الشَّيطانُ}؛ قم وتعال، تعال إلى هذه الدنيا، وانظر ما الخبر! تعال، وانظر إلى المسائل التي تحصل فيها والأوضاع التي تسودها! فهذا يريد الاستيلاء على البلد الفلاني، وذاك يريد السيطرة على البلاد العلاّنية، والآخر يرغب في فعل كذا؛ تعال، فهناك الجنّة موطن السكون والهدوء، بينما يحتاج الإنسان إلى الحركة، والخروج من المنزل، والإقدام على الأعمال في الخارج؛ فما معنى الجلوس في مكان واحد؟! لأنّ الإنسان يرغب في التنوّع وإبراز الوجود؛ فهذه هي المسائل اللازمة لحياته.

فلسفة خلق الشيطان

10
  • وخلاصة القول أنّ هذه العوامل أتت، وسيطرت، وتغلّبت على إحساسات حضرة آدم وحضرة حوّاء، وهيمنت على عقلي أبوينا العظيمين، فاتّبعا الشيطان الذي قال لهما: «قوما، وتعالا لكي أحدّثكما بشيء، وتعالا لكي أصطحبكما إلى مكان جميل، فتأكلا من القمح المبثوث هنا، والذي نهى الله تعالى عن أكله»؛ هذا، ويُراد من القمح هنا التوجّه إلى عالم الطبع والتعلّقات والكثرات الأنفسيّة والآفاقيّة الذي يُبرز ذاته للإنسان ويحجبه عن الكمال والرقيّ. وفي نهاية المطاف، جاءا، وأكلا منه، فقال لهما الله تعالى: هل وضعتما كلامي جانبًا؟ أ فلم أقل لكما لا تأكلا منه؟ إذا كان الأمر كذلك، فاذهبا إلى هذه الدنيا، وأنتما أعلم بحالكما؛ فإلى هذا الحين، كنتما هنا، وكان كلّ شيء متوفّرًا لكما، لكنّكما لم تعرفا قدر ذلك؛ فاذهبا الآن إلى هناك. ولا يخفى أنّ هذه المسألة مكتنفة بالعديد من الأسرار والمصالح، لكن لا يوجد مجال الآن للحديث عنها.

  • وعلى أيّ تقدير، فقد قام الشيطان بذلك العمل؛ لماذا؟ {لِيُرِيَهُمٰا سَوْآتِهِمٰا}؛ أي: لكي يُبرز لآدم وحوّاء المواضع القبيحة والمخالفة للقرب التي توجد في وجوديهما، حيث نجد البعض يقولون عند القيام بكلّ عمل [قبيح]: «نحن لسنا مقصّرين في ذلك يا سيّدي؛ لأنّ الشيطان هو الذي يخدعنا، ويوسوس لنا؛ فنرجو منك العذر لأنّ الشيطان خدعنا»؛ لا، لماذا تريدون منّي قبول عذركم؟ فليس الشيطان هو الذي يخدع، بل لماذا تلقون بذلك على عهدة الشيطان؟ بل أنت الذي خدعت نفسك! وهذا نظير البعض الذين يُلقون بمسؤوليّة التقصير على الحظّ، فتراهم يقومون بكلّ ما يحلو لهم، ثمّ يقولون: «إنّ ذلك من باب الحظّ يا سيّدي، ولا أعلم لماذا لا يُحالفني الحظّ أنا أيضًا»! ما معنى الحظّ؟! وما المراد من هذا الكلام؟! أ وتمتلكون القدرة والاختيار أم لا؟ لكن، لكي تتملّصوا من المسؤوليّة، فإنّكم تضعون الحظّ المسكين في الأمام؛ لا، فلا يوجد هنا أيّ حظّ. وهل تُلقي بمسؤوليّة المعصية في عنق الشيطان لكي تُبرّر أفعالك؟ فمن يكون هذا الشيطان؟ إنّه مجرّد موجود يأتي، ويُزيّن لك، هذا وحسب، ولا يقوم بأيّ فعل آخر.

فلسفة خلق الشيطان

11
  • تخلّي الشيطان عن الإنسان وتبرّؤه منه يوم القيامة

  • {وَقٰالَ اَلشَّيْطٰانُ لَمّٰا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللّٰهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}؛۱ فهذا ما سيقوله الشيطان حينما ينتهي الأمر، وتصل كافّة الاستعدادات إلى مرحلة الفعليّة، ولا يكون بوسعها بلوغ أيّة فعليّة أخرى. {إِنَّ اَللّٰهَ وَعَدَكُمْ}؛ فالله تعالى وعدكم، وكان وعده حقًّا، حيث نجد الشيطان يُفصح هناك عن هذا الأمر، ولا يكذب؛ ففي يوم القيامة، يعترف الشيطان، ويقول: لقد وعدكم الله تعالى وعد الحقّ، فتعالوا وانظروا: هذه الجنّة، وهذه النار؛ أ كان ذلك حقًّا، أم لا؟! {وَنٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحٰابَ اَلنّٰارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنٰا مٰا وَعَدَنٰا رَبُّنٰا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مٰا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا}؛٢ وفي يوم القيامة، سيُنادي أصحاب الجنّة أصحاب جهنّم: إنّنا وجدنا ما وعدنا ربّنا، فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم؟ فقولوا في هذه الدنيا: «إنّ هذه الكلمات أكل عليها الدهر وشرب، وهذا العصر هو عصر التكنولوجيا، بينما ذلك الكلام يختصّ بالزمن القديم، والأمور تبدّلت اليوم، والزمان تغيّر»؛ حسن جدًّا، قولوا ما تشاؤون، فلا يحقّ لأيّ أحد ...؛ لكن، هل تظنّون أنّ هذا الكلام سيزيدكم فخرًا؟! وقد سمعت هذه الأيّام أنّ الإحجام عن أداء الصلاة صار بحدّ ذاته فخرًا في بعض المنتديات وهنا وهناك، كما صار يُنظر إلى التديّن كنوع من الذلّة والخنوع! فأصبحت الأوضاع بهذا النحو، وصار الذي يُصلّي مفتقرًا للعزّة! ويُقال: «نحن لن نُؤدّي الصلاة بعد الآن! ولن نلق أيّ بال لهذا الكلام!»؛ حسنًا، لا تفعل! ومن الآن إلى مائة سنة، لا تفعل! فلن يُكلّمكم أيّ أحد، ولن يُدافع عنكم أيّ واحد؛ وأنا بدوري لن أقوم بذلك؛ فلا تُصلّ، ولا تتبجّح علينا بهذا الأمر؛ لأنّنا أعلم بأفعالنا وبطريقنا، واذهب إلى الآخرين، وتبجّح عليهم! لكن، عندما سيأتي الغد، ستعلم حينئذ: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مٰا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا}؛ وفي ذلك الحين، سيُقال لك: هل أدركت الآن أنّ ما قاله الله تعالى حقّ؟ وهل انتبهت إلى ذلك الآن؟ وسيأتي الشيطان، ويقول الأمر ذاته أيضًا: {إِنَّ اَللّٰهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ}؛ فالله تعالى وعدكم بوعد الحقّ، {وَوَعَدْتُكُمْ}؛ وأنا أيضًا وعدتكم؛ {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}، لكنّني أخلفت وعدي، حيث أتيت عندك، وقلت: إنّ سعادتك تتمثّل في التخليّ عن الدين والمذهب والله، وفي التمسّك بالدنيا، والقبول بالمسؤوليّات الدنيويّة، والدوس على كافّة الحقوق للوصول إلى المكانة المنشودة، وممارسة الظلم بأيّ نحو كان؛ فمن قال [إنّ تلك الأمور حقّ]؟! وهل ذهب أحد إلى ذلك العالم، وجاءنا بأخباره؟! إنّ هذا الكلام قد عفا عنه الزمان، وسعادتك تكمن في التمسّك بالدنيا ...؛ فقلنا كلّ هذا الكلام؛ وإذا بصاحبنا قد مات! يا للعجب! يا للعجب! لقد ارتحل فجأة، وانتهت المسألة! وهذا عجيب جدًّا!

    1. سورة إبراهيم، الآية ٢٢.
    2. سورة الأعراف، الآية ٤٤.

فلسفة خلق الشيطان

12
  • إنّ مسألة الموت عجيبة جدًّا، فقبل يومين أو ثلاثة أيّام، كنت في المدرسة الفيضيّة راجعًا من الدرس، وكانت هناك لوحة إعلانيّة، وإذا بعيني تقع فجأة على صورة لرجل التقيت به هذه السنة في عرفات، حيث كان هذا المسكين من أهل العلم، ومن السادة، رحمة الله تعالى عليه، وكان سنّه قريبًا من سنّي، فرأيت مكتوبًا ويا للعجب: مرور أربعين يوم على وفاة السيّد فلان؛ فتعجّبت من ذلك؛ لأنّ صحّته كانت جيّدة، بل كان أصحّ منّي، وأكثر حيويّة ونشاطًا، كما كان من طلبة العلم؛ لكن، فجأة، وإذا به! يا للعجب، كيف حصل ذلك؟! لا، إنّ المصلحة تقتضي ...؛ فحينما يأتي عزرائيل، يأتي الشيطان، ويشرع في الضحك؛ فالشيطان موجود أيضًا إلى جانب عزرائيل، حيث لدينا في الروايات أنّه يأتي، ويضحك على الإنسان، ويقول له: «أ رأيت؟ ففي نهاية المطاف، وصلت إلى هدفي ومبتغاي، وسأستودعك الآن هذا [أي عزرائيل]، فالوداع وفي أمان الله تعالى، لأنّني أريد الذهاب عند شخص آخر»؛ هذا، مع أنّ ذلك لا يُمثّل إلاّ بداية الحكاية؛ وفي ذلك الحين، يبدأ في ... .

  • لقد أخبرنا المرحوم العلاّمة أنّ المرحوم السيّد جمال الدين الكلبايكاني كان يقول له: «حينما أذهب إلى وادي السلام لزيارة أهل القبور، أرى أحيانًا بعض شيوخ العشائر العربيّة يخرجون من القبور، والنار تشتعل فيهم من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم، وهم يذهبون يمينًا ويسارًا، ويصرخون: نقسم عليك بالله، إلاّ أنجدتنا!»؛ فهم مطّلعون على الذين يأتون للمقبرة، ويعلمون عن طريق صورهم البرزخيّة أنّ السيّد جمال الدين الكلبايكاني قد أتى في تلك اللحظة، ويُدركون أيّ عظيم أتى؛ ولهذا، فإنّهم يتوجّهون إليه؛ فكان يقول: «لقد كانوا يجيئون عندي، فأغضب منهم؛ لأنّني كنت أريد الجلوس هناك لمدّة نصف ساعة، فلا يدعونني وشأني، فأقول لهم: أيّها الأنذال! (بهذه العبارة! ارحلوا من هنا أيّها الأنذال؛ فمهما حذّرناكم في هذه الدنيا، كنتم تسخرون منّا، ومهما قلنا لكم: «لا تُشعلوا في أنفسكم نارًا أكثر، وتحرّزوا عن الظلم، ولا تُمارسوا التعسّف والعدوان إلى هذه الدرجة، وترتكبوا المعاصي إلى هذا الحدّ»، كنتم تلجؤون للاستهزاء بنا، والقول: «إنّ هذا كلام المشايخ! ولقد اخترعوا هذه الكلمات ليتسنّى لهم خداعنا أنا وأنت!»؛ وحينما أتيتُ إلى للجلوس نصف ساعة، أتيتم عندي تطلبون المساعدة! وكان يقول: «كنت أطردهم جميعًا؛ وحينما آتي إلى هناك مرّة أخرى، أقول: إلهي، لا تسمح لهم؛ لكنّهم كانوا يأتون أحيانًا».

فلسفة خلق الشيطان

13
  • فيأتي الشيطان، ويقول: {وَوَعَدْتُكُمْ}، ويشرع حينئذ في الضحك، ويقول: {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}؛ لكن، لماذا أخلفتكم؟ لأنّني أتيت في الأساس لأجل إضلالكم؛ مع أنّ الذي يرغب في إضلال الإنسان لا يُخبره عن مصالحه، والذي يسعى لإيقاعه في الانحراف لا يكشف له عن نقاط ضعفه، بل يُحاول أن يُزيّن له تلك المسائل التي تُخرجه عن المسار الصحيح؛ ولهذا، لن يكون وعد الشيطان صادقًا أبدًا.. {فَأَخْلَفْتُكُمْ}؛ أي أنّني وعدتك، لكنّني أخلفت وعدي، وأنت تعلم بذلك؛ {وَمٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي...}؛۱ فأنا لم أُمسك بخناقكم، وإلاّ، لكنتم عبارة عن موجودات مفتقرة للإرادة والاختيار، ولَحَقَّ لكم الاعتراض هنا؛ لكنّني لم أفعل ذلك، {إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ}؛ فأنا دعوتكم، {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}؛ وأنتم استجبتم لدعوتي، {فَلا تَلُومُوني وَلوُموُا أَنْفُسَكُمْ إِنّي كَفَرْتُ بِما أشْرَكْتُمُونِ مِن ...}؛ فيأتي، وينأى بنفسه عن تلك الأمور وبكلّ بساطة، ويقول: «إنّني كفرت بكلّ ما قلت لكم، وتنصّلت عنه بأجمعه، وأنا أعترف الآن أنّ الله تعالى حقّ، والرسول حقّ، والإمام حقّ، وإمام الزمان حقّ، والقرآن حقّ، والأحكام الإلهيّة حقّ؛ ومع أنّني أتيت بعد وفاة الرسول بأولئك الخلفاء، وخدعتكم جميعًا بهم، إلاّ أنّني أقول الآن: إنّهم على باطل بأجمعهم، والحقّ مع الأئمّة الإثني عشر والمعصومين الأربعة عشر فقط، وإنّ الحقّ يتمثّل في الأحكام الواقعيّة، والحقّ يكمن في الصدق والصفاء والصراحة والعدالة والأخلاق والإنفاق والإيثار؛ وأمّا بالنسبة لما قلته سابقًا، فإنّني أتراجع عنه الآن؛ ففي ذلك الحين، بَلَيتُكُم بفلان، لكنّني أقول الآن إنّه على باطل، وسأذهب بنفسي، وأجلس بجانبه؛ وفي ذلك الحين، قلت لكم فلان [على حقّ]، لكنّني أقول لكم الآن: الحقّ مع عليّ، وسأذهب الآن بنفسي عند أولئك الذين كنت أزيّنهم لكم في الدنيا؛ فقد تخلّيت عن كلّ تلك الأمور». 

  • الهدف من دعوة الشيطان ووسوته الكشفُ عن نقاط الضعف في الإنسان

  • وأمّا المسألة المهمّة هنا، فهي أنّ الله تعالى يقول: إنّ الشيطان لا يمتلك أيّة سيطرة أو هيمنة عليكم.. {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطٰانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمٰا سُلْطٰانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَاَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}؛٢ فسلطانه يجري على الذين سلكوا هذا الطريق، وخضعوا لولايته، ورضخوا لحكمه؛ فهؤلاء هم الذين يتسلّط عليهم الشيطان، وليس على المؤمنين؛ إذ ليس له سلطان على هؤلاء؛ إذن، ما هو العمل الذي يُنجزه في هذا العالم؟ يدعو وحسب؛ ولماذا يقوم بذلك؟ وهنا، نريد أن نلج للمسائل الدقيقة في البحث؛ فما هو الهدف من وراء تسلّط الشيطان ودعوته؟ الهدف من ذلك تسليط الضوء على نقاط الضعف التي يُعاني منها الإنسان من ناحية أخلاقيّة، وفي طريق بلوغه للفعليّات وتنمية الاستعدادات، حتّى يسعى لمعالجتها؛ فهذا هو الهدف من مجيء الشيطان، ونحن لا نعلم بالمسائل التي تحدث في باطننا؛ ومن هذه اللحظة، ستبدأ نظرة الرفقاء للشيطان تتغيّر تدريجيًّا؛ فإلى هذا الحين، كنّا نشتمه بكلّ أنواع الشتم، ونقول له ما نشاء؛ لكنّه سيقول لنا: ما هذا يا عزيزي؟! إنّ الإنصاف أيضًا جيّد! فأعطني حقّي أنا أيضًا! لا أن يكون كلّه ...؛ وهنا، سنقول له: لا، سنشتمك، وفي الوقت ذاته، سنعترف بتلك الأعمال والمهامّ والفوائد التي أجراها الله تعالى على يديك في النظام التربويّ.

    1. سورة إبراهيم، الآية ٢٢.
    2. سورة النحل، الآيتان ٩٩ و۱۰۰.

فلسفة خلق الشيطان

14
  • فما هو العمل الذي يُنجزه الشيطان؟ إنّ عمله يتمثّل في أن يأتي عند الإنسان الذي تنشأ أفعاله من صفاته وتنشأ صفاته من ملكاته، ويُزيّن له المسائل المنحرفة والأمور المعارضة لمصلحته الواقعيّة، والمعاكسة لطريق الله تعالى وأوليائه، لتتّضح خلال ذلك نقاط الضعف التي يُعاني منها في هذا المجال؛ وعليه، هل يكون الشيطان سيّئًا أم جيّدًا؟ لا، نحن لا نقول إنّه جيّد، لكنّ المصلحة التي جعلها الله تعالى ... ؛ وقد قيل: «إذا شاء الله تعالى، فإنّ العدوّ يصير سببًا لحصول الخير». فما هي المصلحة في خلق الله تعالى للشيطان وجعله يتسلّط على نفوس بني آدم، والتي نريد أن نتعرّف عليها هنا؟ لا شكّ في أنّنا عبارة عن مجموعة من القابليّات والاستعدادات المتضادّة: استعدادات للحركة والكمال، واستعدادات للهبوط والانحطاط في عالم الدنيا والكثرات؛ وهي مسألة واضحة للجميع. فالله تعالى جعل فينا ثلّة من القابليّات؛ كقابليّة الشعور بالشفقة مثلاً، بحيث إذا رأيتم أطفالاً يرشقون حيوانًا بالحجارة، فإنّكم ستذهبون إليهم، وتمنعونهم من ذلك؛ فما هي هذه القابليّة المكنونة فيكم؟ إنّها قابليّة الشعور بالشفقة: «لماذا ترشقونه بالحجارة؟ هذا مجرّد حيوان! دعوه وشأنه!»؛ فتخلّصونه من أيدي الأطفال؛ أ فهل إنّ كلاًّ من الشعور بالشفقة، والرأفة، والعطف، والعدل، والتوق نحو العدالة، وحسّ الإنسانيّة، وإحقاق الحقّ، والوعي، والبراءة من الظلم موجود، أم لا؟ وهكذا بالنسبة لبقيّة القابليّات التي أودعها الله تعالى في الإنسان؛ كحسّ الجمال؛ أ فهل هناك من يكره الجمال؟ وهل هناك من يشمئزّ من الرائحة الطيّبة؟ وهل يوجد من يمقت النظافة؟

  • فكلّ هذه الإحساسات والقابليّات الفطريّة التي جعلها الله تعالى ما هي إلاّ وجودات نازلة لقابليّة كلّية تتمثّل في الصفات والأسماء الإلهيّة؛ وجميع هذه القابليّات والاستعدادات المناسبة والملكات والصفات والغرائز تتناغم مع المصلحة العامّة للعالم، بحيث يكون النظام التربويّ متطابقًا مع النظام الأصلح والأحسن والأرجح؛ ولهذا، فإنّ دعوة الأنبياء والأئمّة والأولياء تتعلّق بهذه القابليّات والمصالح التي أودعها الله تعالى في وجودنا جميعًا.

  • فنجد أنّ عمر بن سعد يبكي يوم عاشوراء رغم كلّ الأمور التي قام بها؛ وهذا يدلّ على أنّ قابليّاته لم تنعدم تمامًا؛ فهو يُدرك أنّه يرتكب ظلمًا في حقّ ابن النبيّ، ويبكي، لكنّه في الوقت ذاته يقول: «أجهزوا على الحسين»؛ فهو يقوم بذلك العمل، لكنّه يُصدر هذا الأمر أيضًا؛ فلاحظوا أنّ قابليّته لم تنعدم تمامًا، وهو يعلم [بخطئه]. وحتّى يزيد لم تنعدم فيه تلك القابليّة، بل يعلم [بخطئه]؛ وحينما يرجع إلى نفسه، ويختلي بها، ولا يعيش حالة الغرور التي يشعر بها حينما يكون جالسًا على عرش السلطان، بل يذهب إلى الغرفة، فإنّه يُلاحظ أنّ الأسرى موجودين هنا، وأنّ الإمام السجّاد كان اليوم بالنحو الفلانيّ، وأنّ حكاية السيّدة زينب كانت بالشكل العلاّني، ويُطالع في نفسه هذه الأحداث، ففي هذه الحالة، ما هو الشعور الذي سيُخالجه؟ فنفس يزيد هذا الذي قتل الإمام الحسين، ونفس يزيد هذا المجرم، هل سينتابه الشعور بالندم أم لا؟ سينتابه قطعًا، ومن دون أيّ شكّ؛ وذلك لأنّ الله تعالى وضع فيه تلك القابليّة.

فلسفة خلق الشيطان

15
  • لكن، حينما سيأتي غدًا، سيرفع ذلك يداه لأجله، ويضرب الثاني برجله لأجله، ويرفع الثالث الرمح لأجله، ويُسلّم هذا عليه، ويرفع ذاك صوته بالصلوات، ويقول: «لقد جاء الخليفة، لقد أتى أمير المؤمنين، لقد قدِم يزيد»، فتبدأ تلك القابليّة بالانمحاء شيئًا فشيئًا، وتحلّ مكانها قابليّات أخرى؛ وما هي هذه القابليّات؟ إنّها القابليّات التي يأتي الشيطان، و{فَوَسْوَسَ لَهُماَ الشَّيطانُ}، حيث يحلّ من الناحية الأخرى الشعور بالاستعلاء، والتسلّط، وإرضاء الرغبات النفسيّة، وحبّ السيطرة على الناس، والمحبوبيّة، والحصول على الشعبيّة بين الناس، وجذب اهتمامهم، حيث تدور كافّة هذه الأمور حول محور حبّ النفس؛ فالأصل والأساس في المسألة يعتمد على حبّ النفس، وحبّ آثارها ولوازمها في كلتا الجهتين: أي هذه الجهة وتلك. وهكذا أيضًا فيما يخصّ الشعور بأنّه على الجميع أن يُبدي له الاحترام، بحيث إذا دخل إلى مكان معيّن، ولم يقم لأجله رجلان، فإنّه يقول: «يا للعجب! ما الذي حصل؟ لماذا لم يقوما لأجلي؟»، وأمّا إذا قام الجميع لأجله، فإنّه يقول: «ما شاء الله، أنعم به وأكرم، انظر إلى الاحترام الذي أبدوه تجاهي! انظر كم يحترمونني! لقد قام الجميع من مكانهم».

  • لقد طلبت من الرفقاء مرارًا وتكرارًا ألاّ يقوموا من مكانهم، إذا دخلت عليهم، لكنّهم لا يُريدون على ما يبدو تحقيق رغبتي هذه.

  • فترى الإنسان حينما يريد الذهاب إلى مكان خاصّ، يسعى لأن يجلب اهتمام الجميع وتوجّههم؛ فإذا ذهب إلى أحد الأمكنة، ورأى أنّ الناس هناك يتحدّثون مع بعضهم، فإنّه يقول: «يا للعجب! إنّهم لا يكترثون بي أبدًا، في حين أنّه على الجميع الاهتمام بي»؛ فما حقيقة ذلك؟ وما هو سبب هذا الشعور والإحساس؟ إنّ هذا الإحساس يقع في مقابل الإحساس بالحقائق والإحساسات العقلانيّة والإحساسات الروحانيّة والربّانية؛ وهذا الإحساس مكنون فينا بأجمعنا، ولا يستطيع أيّ أحد الادّعاء خلاف ذلك، ولا يُمكن لأيّ واحد أن يرى نفسه منزّهًا ومبرّءًا عن هذا الأمر؛ لا، بل هو موجود في الجميع، غاية الأمر أنّه يشتدّ ويضعف، وبوسعكم أن تختبروا أنفسكم، وتمتحنوها في مختلف الظروف، لتروا مقدار رسوخ هذه المسائل والحقائق في وجودكم. فلأجل المسير نحو الله تعالى، والخروج من عالم المادّة، والانجذاب للأفق النورانيّ للحقائق، يجب أن تضمحّل في وجود الإنسان القابليّاتُ المعارضة لهذا المسير، ويصل هذا الإنسان إلى مرتبة تجفّ فيها تلك القابليّات بنحو تامّ ومن الجذور، ولا تبقى في وجوده أيّة قابليّة من هذه القابليّات، شأنه في ذلك شأن الملائكة؛ فما لم يصل الإنسان إلى هذه المرتبة، فإنّ القابليّات المعارضة والاستعدادات للانحراف ستظهر للإنسان بصورة خاصّة في كلّ زمان، وكلّ لحظة من لحظات عمره.

فلسفة خلق الشيطان

16
  • جاء أحدهم عند المرحوم العلاّمة، وأحضر معه أحد الأشخاص، وهو يدّعي أنّه من الأولياء! وقد كان رجلاً مسنًّا لا يقدر حتّى على إمساك العصا بيده؛ فجاء عند المرحوم العلاّمة الذي كان جالسًا، فما إن جلس، حتّى بدأ بالكلام، وإسداء النصائح للسيّد العلاّمة؛ فكان أوّل ما ابتدأ به كلامه أن قال: «أشكر الله تعالى على أن اقتلع من وجودي القابليّة للمعصية والذنب»!، فقال له المرحوم العلاّمة: «هذا هو أكبر ذنب ترتكبه»، فألقمه حجرًا! فيا أيّها الشيخ، أنت لا تستطيع إمساك العصا بيدك، ثمّ تأتي وتتحدّث عن قابليّة المعصية! فأنت لا تقدر على المحافظة على نفسك، فكيف ستتسنّى لك المحافظة على غيرك؟! حسنًا، من الواضح أنّه حينما يأتي الإنسان في هذه الأوضاع، ويريد أن ...؛ وفي هذه الحالة، نجد هذا السيّد الذي تفوّه بتلك العبارة، يبدأ بالحديث عن بعض الترّهات؛ ومن بينها قوله إنّ الأئمّة عليهم السلام لا تعرضهم النجاسة الحدثيّة أبدًا! أي أنّهم لا يحتاجون إلى الوضوء، وأنّ قيامهم بالوضوء هو لأجل تعليم الآخرين! فقال له المرحوم العلاّمة: من أين اختلقت هذه الأباطيل؟ لا! فهم يُحدثون مثلنا، ويحتاجون أيضًا إلى الطهارة والوضوء.

  • انظروا إلى درجة غباوته وفقدانه للوعي! فحينما كان الرسول يستيقظ من النوم في منتصف الليل، أ لم يكن يتوضّأ ويؤدّي صلاة الليل؟! فهذا الذي يُقال عنه: عامّي؛ فإذا صارت الأمور بأيدي العوامّ، فهذا هو المصير الذي ستؤول إليه، حيث نراه يقول: «إنّ الإمام والرسول لا يحتاجان للوضوء، وأداؤهما للوضوء هو لأجلنا نحن»! أ فهل تريد بفعلك هذا أن ترفع من مقام الإمام؟ وقد كان هذا السيّد بعينه يُقيم مجالس للتوسّل والعزاء ولطم الصدور، وبتلك الطريقة التي حدّثتكم عنها آنفًا، حيث كان صراخهم يصل إلى مفترق الطرق الواقع في تلك الناحية البعيدة؛ وفي هذه الحالة، تحدث بعض الظروف، ويُلغى المجلس الذي كان يعقده، فكان سيُصاب بسكتة قلبيّة؛ أجل.. هو بنفسه! انظروا، فهو يدّعي أنّه لا يتوفّر على قابليّة المعصية، لكنّ حياته بأجمعها تعتمد على أن يعقد هذا المجلس، ولا يُلغى؛ حسنًا، إن عُقد، فبها ونعمت، وإن لم يعقد، فلا ضير في ذلك؛ فإن لم يُعقد هذا المجلس في ليلة واحدة، وإن لم يُقم في ليلة الجمعة مجلس للتوسّل، فإنّ السماء لن تقع على الأرض؛ وإن لم يُعقد في ليلة واحدة مجلس عزاء ومجلس للطم الصدور، فلن يحصل شيء ذي بال، ولن يقع زلزال؛ هبه لم يُعقد، فلماذا تُصاب أنت بسكتة قلبيّة؟ فإذن، صار واضحًا أنّ كافّة هذه المجالس تعقدها لأجل نفسك، وأنّها بأجمعها عبارة عن أرضيّات أوجدَتها في هذا الزمان مسألةُ حبّ النفس واجتذاب الأفكار والنفس نحو الذات.

فلسفة خلق الشيطان

17
  • نموذج من واقعة كربلاء على صراع جنود الشيطان والرحمان في نفس الإنسان

  • ولعلّه لم يكن يمتلك في سنّ العشرين مثلاً هكذا الحالة، كما أنّ هذه الأرضيّة كانت في ذلك الوقت بشكل، وصارت الآن بهذا الشكل، وستصير في وقت آخر بشكل مختلف؛ فالعمل الذي يقوم به الشيطان يتمثّل في توجيه أفراد الإنسان إلى نقاط الضعف المكنونة في وجودهم، وذلك من خلال الوساوس التي يُلقيها إليهم؛ وحينئذ، هل يجب علينا الاتّعاظ بهذه الوساوس، أو الانخداع بها؟ فحينما جاء [عمر بن سعد] عند سيّد الشهداء، وكان عليه السلام يسعى لهدايته إلى الطريق المستقيم، قال له الإمام: أعطني دليلاً منطقيًّا، وضعه أمامي، وسأُقدّم لك رأسي [لتقطعه]؛ فهذا هو لسان الإمام الحسين! تعال، وأخبرني عن السبب الذي يدفعك لقتلي، وسأقدّم لك رأسي؛ فلماذا تريد قتلي؟ هل بسبب معارضتي ليزيد؟ أ لم يكن مقرّرًا ألا يأتي يزيد بعد معاوية؟ وكان من المفروض أن تنتقل الإمامة إلى أخي الإمام الحسن أو إليّ، أ لم يكن مقرّرًا حصول ذلك؟ أ لم يُوقّع بنفسه على ذلك؟ حسنًا، لقد طأطأ برأسه إلى الأسفل، ولم يردّ؛ لأنّه لم يكن يمتلك أيّ جواب. فقد كان الإمام الحسين يتحدّث معه بكلام منطقيّ، وهو عليه السلام لم يكن يسعى إلى إظهار نفسه بمظهر المظلوم؛ كأن يقول: أنا ابن رسول الله، وأنا فلان، وأنا مظلوم؛ لا، لا شيء من ذلك، بل قال له: تعال إلى هنا، فقد وهبك الله تعالى عقلاً، وإلاّ، فبأيّ شيء تختلف عن ذلك الحمار الذي يدبّ على الأرض! لقد منحك الله تعالى عقلاً، فتعال، واحسب الأمور: إثنان زائد إثنان تساوي أربعة؛ فلماذا أتيت إلى هنا؟ دع الحديث عنّي أنا، إذ لا يفرق بالنسبة إليّ أنّني كنت أتوفّر هنا على مليون جنديّ، أو أنّ جميع أصحابي الذين بقوا على قيد الحياة قد رحلوا؛ فها أنا ذا أقف أمامك بكلّ وضوح، وأقول لك الكلام ذاته: «لماذا أتيتَ إلى هنا؟»؛ فما عساه أن يقول؟ وبماذا يُمكنه أن يُجيب؟ قال له: «إذا لم أُقدم على هذا العمل (وانظروا بالله عليكم!)، فإنّ ابن زياد سيُصادر بستاني بالكوفة»! انظروا! وانتبهوا! فما هذا؟ إنّها الوسوسة، حيث تأتي أرضيّة حبّ الدنيا والرغبة في التعلّق، في مقابل أرضيّة الرشد والتكامل، فتوضع هاتان الأرضيّتان إلى جانب بعضهما؛ فينظر إلى كلام الإمام الحسين، ويقول: إنّه كلام صائب، فلأيّ شيء تُريد أن تقتل إنسانًا؟ ولأجل ماذا؟ فلنفرض أنّني لست ابن النبيّ من الأساس، بل أنا مجرّد رجل يمشي لحاله في الصحراء، فقبضتم عليّ، وجئتم بي إلى هنا؛ فلا أنا هو ابن النبيّ، ولا أنا إمام، ولا أنا أيّ شيء؛ فلأجل ماذا؟ فالإنسان لا يحقّ له أن يقتل نملة، فلأيّ شيء تُريدون قتل إنسان؟ وما هو الأمر الذي يدفعكم إلى ذلك؟

فلسفة خلق الشيطان

18
  • يقول له الإمام: «إن صادروا أموالك، فإنّني سأهبك بستانًا من بساتيني التي أملكها بالمدينة»؛ انظروا، فالشيطان أتى وأبرز تلك الأرضيّة، لكنّ الإمام الحسين أتى بدوره، وأبرز هذه الأرضيّة؛ فإذا كانت المسألة تخضع للحسابات، فإنّني أقول لك: صحيح، أنت لك تعلّق بالدنيا، لكن، لا ينبغي لتعلّقك هذا أن يصدّك [عن الحقّ]؛ فلا كلام لنا هنا عن أنّك متعلّق بالدنيا، وإلاّ، لما تفوّهت بذلك الكلام؛ ولهذا، من الواضح أنّ لديك تعلّق بالدنيا، لكن، لا ينبغي لهذا التعلّق أن يقف أمام المنطق؛ لأنّني أتحدّث معك بطريقة منطقيّة، حيث منحتك ذلك البستان، فصرنا متساويين، بل سأمنحك بستانًا أفضل؛ فنحن بأجمعنا نعرف الإمام الحسين، وأحواله واضحة بالنسبة إلينا؛ إذ كان يأتي عنده أحدهم، ويطلب منه عشرة دنانير، فيهبه الإمام عليه السلام ألف دينار؛ فهكذا كان الإمام الحسين، وهكذا كانت أحواله؛ فقام عليه السلام بتعويضه عن ذلك المال، وسحب منه ذلك المبرّر.

  • وفي هذه الحالة، يأتي بمبرّر أقوى، ويضعه أمام الحسين، فتبرز أرضيّة أخرى؛ وما هي هذه الأرضيّة؟ إنّها الرئاسة، فيقول له: «إذا لم أقدم على هذا الفعل، سيُسلب منّي حكم الريّ»! إنّه الحكم! وهو من الأمور الدسمة، والتي يصل زيتها إلى مخّ الإنسان! حيث بعث له ابن زياد برسالة يُخبرها فيها بأنّ المرور من الكوفة، والتوجّه إلى الريّ مشروط بإحضار رأس الحسين بن عليّ؛ وحينئذ، ما عسى الإمام الحسين أن يقول له؟ وبحقّ، ما الذي بوسعه أن يقول له؟ هنا، يقول له عليه السلام: أرجو ألاّ يصل قمح الريّ إلى فمك، ولا يتجاوز حلقك، أ فهل تريد أن تقتل إنسانًا بريئًا؟ ولا أقول هنا إنّه ابن رسول الله، فهل ترغب في إعدام إنسان بريء من أجل الوصول إلى السلطان؟ ولكي تتربّع على أريكة الحكم، هل يجب إعدام هذا البريء؟ (يقول: فليكن ذلك أيّها السيّد، وليُعدم مئات الآلاف فداءً لنا، حتّى نصل إلى الحكم)؛ أرجو ألاّ تأكل أبدًا من قمح الريّ.

  • انظروا إلى ما الذي يفعله هنا عمر بن سعد؛ فهو يمتلك عقلاً ووعيًا، وهو يرى أنّ هذه الأرضيّة المكنونة في وجوده بدأت تظهر وتبرز الآن، وعليه أن يقضي عليها فورًا، لكن، من الذي يدفعه للقيام بهذا العمل؟ إنّه الشيطان الذي يقوم بهذا الفعل، فيأتي هنا، ويستعرض أمامه نقاط الضعف المكنونة في وجوده.. {لِيُريَهما}: انظر، فأنت لديك أرضيّة وقابليّة حبّ الدنيا، ولديك أرضيّة وقابليّة حبّ الرئاسة، ولديك قابليّة حبّ البقاء، ولديك قابليّة حبّ الاستمتاع بأيّة طريقة، وتجاوز الحدود، والتعدّي على الحقوق؛ وإلاّ لبقيت جالسًا في بيتك، وعشت حياتك؛ إذ لو بقيت جالسًا في الكوفة بتلك الأوضاع الخاصّة، أو ذهبت إلى المدينة إذا لم تكن قادرًا على المجيء إلى الكوفة بسبب ابن زياد، فإنّ نفس النهار والليل سيمضيان عليك؛ لأنّك ستكون قاعدًا في بيتك، ولن يسقط السقف على رأسك؛ وفي هذه الحالة، ما هو الفارق بين أن تجلس في منزلك، وبين أن تجلس على أريكة الحكم؟ وكم كيلوغرامًا سينضاف إليك؟ لن يوجد أيّ فارق؛ لأنّ الليل ذاته سيمضي عليك، والنهار ذاته سيمضي عليك، وستتناول نفس الخبز والأرز والطعام، وستمشي في نفس الطريق.

فلسفة خلق الشيطان

19
  • أهمّية تعرّف الإنسان على أرضيّات نفوذ الشيطان إلى نفسه 

  • فأيّ فارق سيوجد هنا؟ فيأتي الشيطان، ويقول: «انظر، فأنت تُعاني من هذه الفوارق، وعليك أن تُصغي إلى كلام الإمام الحسين، وأنا أسعى الآن لخداعك»؛ فهذه الانكشافات التي تحصل لعمر بن سعد، وتحصل لنا جميعًا في كلّ لحظة عند مواجهة الواقع ومعارضته، هي بأجمعها عبارة عن أرضيّات وقابليّات يُظهرها الشيطان لنا، ويقول لنا: «إنّك تُعاني من هذه المسائل، وعليك معالجتها»! فهل التفتّم الآن؟ وعليه، لقد أصبح الشيطان معلّم أخلاق! فإن لم تحدث لعمر بن سعد تلك الأرضيّة، كيف كان سيتسنّى له أن يعرف أنّه يُعاني من حبّ الرئاسة؟ ولو لم تنكشف لنا تلك الأرضيّات حينما نرتكب المعاصي، كيف سيُمكننا أن نسعى لمعالجتها؟ فعندما نُقدّم لأحدهم وعدًا، ثمّ نرى أنفسنا حين حلول وقت الوفاء به ...

  • وهذا أمر عجيب! فحينما نريد أن نستقرض مالاً من أحدهم، تجدنا نخرج من البيت قبل أذان الصبح، ونذهب أحيانًا إلى المدينة الكذائيّة، بل قد نضطرّ للسفر مئات الفراسخ من أجل استلام المال؛ لكن، عندما يحين وقت أداء القرض، تمرّ عدّة سنوات [من دون أن نُرجعه]؛ فتأتي هذه الأرضيّة، وتُبرز نقاط الضعف التي تُعاني منها؛ وحينئذ، عليك أن تواجهها، وتُصحّحها، وتلقمها حجرًا، وتعمل على خلافها. فحينما تريد الذهاب لقضاء حاجتك الشخصيّة، فإنّك تذهب بسرعة؛ لكن، عندما يطرق أحدهم بابك من أجل قضاء حاجته، فإنّك لا ترغب في فتح الباب، وتسعى لتأخير الأمر، وتتنصّل من المسؤوليّة؛ فعليك أن تنظر هنا إلى الأرضيّة والقابليّة التي تُعاني منها، وتسعى لمواجهتها. وهكذا أيضًا حينما يريد أحدهم استشارتك بخصوص مصلحة لا تعود إليك، فإنّك تخبره بما يُطابق الواقع في رأيك؛ لكن، عندما تكون هذه المصلحة في ضدّك، وتريد أن تجيبه، فإنّك تلجأ للتورية، وتُشير عليه بطريقة يعود فيها النفع إليك وإلى أمورك الشخصيّة؛ وهنا، حينما تُريد أن تتحدّث بمثل هذا الكلام، عليك أن ترجع إلى نفسك، وتتعرّف على الأرضيّة والقابليّة الموجودة فيك، وتواجهها، وتقول: يا للعجب! ما هي الأرضيّات التي نشأ منها هذا العمل الذي أقوم به الآن؟ وما هي الصفات التي صدر منها؟ وما هي الغرائز التي ينبع منها؟ فعلى الإنسان أن يكون منتبهًا في تلك اللحظة.

فلسفة خلق الشيطان

20
  • ولهذا، كان المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليه يقول: «إنّ الشيطان لا يعتريه الخوف أبدًا، وعلى الإنسان أن يجلس إلى جانب قلبه، وما إن يسعى الشيطان للتسلّل إليه، حتّى يضربه بالخنجر، ويقضي عليه»؛ فهو كان يهدف من كلامه إلى القول ...؛ أي أنّ سرّ الجواب عن الإشكالات التي كانت تُطرح أحيانًا على كلامه هذا يرجع إلى أنّ الشيطان عبارة عن وسيلة لظهور وبروز نقاط الضعف المكنونة فينا؛ ولو أنّ الشيطان لم يكن موجودًا، لظللنا نُعاني من نقاط الضعف هذه إلى يوم القيامة، ولما تمكّنا من التقدّم خطوة واحدة. فالإنسان لا يستطيع أن ينام في الليل، ثمّ يستيقظ في الصباح، وقد وُضع على رأسه تاج الولاية، وأوصل إلى مقام «لي مع الله»؛ لا، هذا غير صحيح! فحينما تنام في الليل، فإنّهم لا يهتمّون لحالك إلى أن يحلّ الصباح؛ فهناك يبدؤون بالاهتمام بشؤونك؛ إذ ما إن نستيقظ في الصباح من النوم، حتّى يبدأ شغلنا مع الله تعالى والملائكة، فيسألوننا: لماذا نطقت بذلك الكلام؟ لماذا فعلت كذا؟ لماذا أقدمت على ذلك العمل؟ لماذا تقوم بهذا العمل؟ فتأتي هذه المسائل الواحدة تلو الآخرى، وتبدأ الأرضيّات ...

  • فتجد الرفقاء والأحبّة والأشخاص من هنا وهناك يبعثون لي بالرسائل، ويقولون لي: «لماذا يا سيّدي تناتبنا حالة الغضب؟»؛ لا معنى لهذا السؤال، فأنت تمتلك الأرضيّة والقابليّة لذلك، ولا ينبغي عليك أن تغضب! ويسألون أيضًا: «لماذا يخدعنا الشيطان؟»؛ لا، لا وجود للخداع هنا؛ فما إن يرغب في خداعك، حتّى ... {اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا...}؛۱ فالآية القرآنيّة تقول: حينما يريد طائف من الشيطان أن يأتي، فما إن يسعى للعثور على نافذة للتسلّل منها، ويجد تلك الأرضيّة لكي يدخل عبرها، حتّى يرى أنّه لا يستطيع، فينهزم، فيدخل عبر أحد الطرق، فيرى بأنّه لا يقدر؛ وهكذا، إلى أن يجد فجأة طريقًا آخر للدخول، فتجد ذلك الإنسان يقول: «سأرتكب هذه المعصية، وألجأ إلى هذه الكذبة، وألقي هذا البهتان»؛ في حين أنّه في البداية كان يقول: «يا للعجب، إنّ البهتان حرام، ولا يُمكنني اقترافه!»، فيجيء الشيطان، ويبدأ يطوف به، ويقول: «ألق هذا البهتان، وستتقدّم إلى الأمام يا عزيزي، ولا ضير في ذلك»، لكنّه لا ينجح، ثمّ يقول له: «ارتكب هذه المعصية»، وبعد ذلك، يلتفت فجأة إلى انفتاح أرضيّة أخرى: «حسنًا، إذا لم أقدم على هذا العمل، فكيف لي تحقيق توقّعات زوجتي وأولادي؟»؛ لاحظوا، فقد جاء الشيطان عبر أرضيّة الزوجة والأولاد؛ ثمّ يبدأ بالتفكير في نفسه، ويقول: «هل يعني ذلك أن أسترزق من المال الحرام، وأنفقه على زوجتي وأولادي؟ هل يُمكن لذلك أن يحصل؟ هل يجوز أن أرتكب هذه المعصية؟»؛ فيبدأ بتقليب الأمور في نفسه؛ ثمّ يتخلّى عن هذه المسألة أيضًا، ويقول: «لا، لقد بقيت إلى الآن صامدًا، وعليّ أن أفعل الشيء ذاته بالنسبة لهذه المسألة»، فيتقدّم إلى الأمام، فيأتي الشيطان، ويقول له: «حسنًا، إذا لم تُقدم على هذا الفعل، ستفقد مكانتك، ومن الممكن أن يأتي فلان، ويُمسك بزمام الأمر، ولن يأتي عندك حينئذ أيّ أحد في المستقبل»؛ فنجد الشيطان يطوف ويطوف، إلى أن يتمكّن من طرح الإنسان أرضًا في أحد المواضع؛ فنراه يُقدم على ذلك الفعل.

    1. سورة الأعراف، الآية ٢۰۱.

فلسفة خلق الشيطان

21
  • الطريقة المثلى لمواجهة وساوس الشيطان

  • كان المرحوم العلاّمة يقول: على الإنسان أن يلجأ منذ البداية (بالنسبة للذين يقدرون على ذلك) إلى الإعراض عن الأمر، وعدم التفكير فيه بتاتًا؛ فالذي يريد التصرّف بشكل أقوى وأحزم، عليه أن يُباغت الشيطان بهجوم مضادّ، ويقول له: «أنا الذي أريد أن أقوم بهذا الفعل؛ فما عساك أن تقول؟ فلتقل كلّ ما يحلو لك، فأنا سأظلّ بهذا النحو إلى يوم القيامة»؛ أي أن يعقد الإنسان العزم مرّة واحدة؛ وهذا الذي يُقال له: التوكّل على الله تعالى والإيمان به؛ فغاية ما يُمكن حصوله هو الموت، ولا يوجد لون أقتم من اللون الأسود؛۱ فأقصى ما يُمكن حدوثه هو الموت، وأنا أريد أساسًا أن أموت!! وهنا، سيُنزع منه السلاح، ولن يبقى له أيّ شيء.

  • ـ أدّ هذا العمل، وقم الآن بهذه المسألة، وأنجز هذا الأمر؛

  • ـ إذا لم أقم به، ما الذي سيحصل؟

  • ـ سيذهب خصمك إلى هناك، ويشغل ذلك المنصب بدلاً عنك؛

  • ـ لكنّني لا أستطيع ارتكاب المعصية؛

  • ـ في هذه الحالة، لن يهتمّ بك أيّ أحد!

  • فيأتي، ويأتي، ويأتي، لكنّ الآية تقول: {اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا...}؛ فيتذكّرون وينتبهون، ويستحضرون فجأة ﴿قُلْ اللـه ثُمَّ ذَرْهُم﴾؛ فحينما تقول ذلك، بوسعك أن تُعرض عن الجميع. 

  • لقد انقضى الوقت، ولم نتمكّن من إنهاء البحث؛ إذ لا زالت هناك بعض المسائل المتعلّقة بهذا الموضوع، ونرجو من الله أن يُوّفقنا لإكمالها في الجلسة اللاحقة إن شاء تعالى؛ فالمهمّة التي ألقاها الله تعالى في عهدة الشيطان هي أن يعمل من خلال وسوسته بالمعاصي وإبرازه للذنوب وتضخيمها على تنبيه الإنسان إلى نقاط الضعف المكنونة في وجوده، لكي يقضي عليها، فيصل بذلك إلى الكمال؛ فكأنّه يقول له: «إنّك تعاني من نقاط الضعف هذه»؛ فالبعض يقبل، والبعض الآخر ينخدع؛ لكن هل تعداد المخدوعين أكثر أم أقلّ؟ أكثر.. {وَكَثيرٌ مِنْهُمْ}، ولدينا آية قرآنيّة تقول: {وَإِنْ تُطِعْ اَكْثَرَ مَنْ فِي الْأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبيلِ اللَه}.

  • نرجو من الله تعالى أن يُنبّهنا إلى عيوبنا ونقائصنا ومواضع الخلل فينا، وإلى الموارد التي قد تسدّ طريقنا للوصول إليه، وأن يوفّقنا للفهم والإدراك والعمل، ويُهيّء لنا طريق العلاج بواسطة التوكّل على مواهبه؛ إذ لا يوجد من يقدر على فعل أيّ شيء لنا سوى التوكّل؛ وسنُشير في الجلسة اللاحقة إذا وفّقنا الباري تعالى إلى أنّه: 

    1. كناية عن بلوغ البلاء أقصى درجاته. المترجم

فلسفة خلق الشيطان

22
  • تكیه بر تقوا ودانش در طریقت كافری است***راه رو گر صد هنر دارد توكّل بایدش
  • [يقول: الاعتماد على التقوى والعلم في الطريق إلى الله كفر، فعلى السالك أن يلزم التوكّل على الله وإن كان يُتقن مائة فنٍّ وصنعة].

  • أجل، يجب على السالك التوكّل على الله وإن كان يُتقن مائة فنٍّ وصنعة؛ فمن دون التوكّل على الله، والاستعانة به تعالى، سنظلّ عاجزين، ولن يوصلنا الطريق إلى أيّ مكان؛ فندعو الله تعالى بواسطة الاستمداد من فيوضات مقام الولاية.. مولانا الحجّة بن الحسن العسكريّ ارواحنا لتراب مقدمه الفداء أن يُثبّتنا على طريقه.

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد